Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore قضية التعبير بجدل القضايا المنطقية على حقيقة الوجود - القسم الرابع - ابو يعرب المرزوقي

قضية التعبير بجدل القضايا المنطقية على حقيقة الوجود - القسم الرابع - ابو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2017-04-23 07:02:25

Description: بهذه الفصول الثلاثة أعددنا أرضية البحث الغائي: الإبداع الذي يحقق الوصل بين القطبين الله والإنسان من خلال آيات الوسيطين الطبيعية والتاريخ.
سبق فبينا دور العلم الزائف ما بعد التاريخ الكلامي وما بعد الطبيعة الفلسفي في نفي الفرق اعتبارا للإنسان بوعي أو بغير وعي مقياس كل شيء.
وحتى تكتمل الصورة لا بد أن يوجد نفي آخر للفرق في المستوى الأول أي تعبير جمالي وتعبير وجودي ينفيان الفرق فيجعلان الإنسان مقياسا لكل شيء.
والقول بالمطابقة بين التعبير الجمالي والوجدان وبين التعبير الجلالي والوجود ينتج عن الغاء الفرق بينهما فيحول دون الوعي بالأفق اللامتناهي.
فيتضاعف المستوى الأول بنسخة مشوهة منه تسد أفق اللامتناهي بنفي الفرق فلا يكون الوجدان والوجود متعاليين على تجاوز المتناهي إلى الوعي اللامتناهي.

Search

Read the Text Version

‫الأسماء والبيان‬



‫‪1‬‬ ‫المقدمة ‪1‬‬ ‫الابداعان الجمالي والجلالي وتحدي البروز بالشذوذ ‪2‬‬ ‫الديني والفلسفي في مسألة الإبداع الجمالي والجلالي ‪4‬‬ ‫التهديم النسقي للأخلاق في مجال الفنون العربية الحالية ‪5‬‬ ‫مقاصد المعيارين الديني والفلسفي ‪7‬‬ ‫فساد معاني الإنسانية وعلاقته بالإبداعين الوجداني والوجودي ‪8‬‬ ‫خاتمة ‪9‬‬



‫بهذه الفصول الثلاثة أعددنا أرضية البحث الغائي‪ :‬الإبداع الذي يحقق الوصل بين‬ ‫القطبين الله والإنسان من خلال آيات الوسيطين الطبيعية والتاريخ‪.‬‬‫سبق فبينا دور العلم الزائف ما بعد التاريخ الكلامي وما بعد الطبيعة الفلسفي في نفي‬ ‫الفرق اعتبارا للإنسان بوعي أو بغير وعي مقياس كل شيء‪.‬‬‫وحتى تكتمل الصورة لا بد أن يوجد نفي آخر للفرق في المستوى الأول أي تعبير جمالي‬ ‫وتعبير وجودي ينفيان الفرق فيجعلان الإنسان مقياسا لكل شيء‪.‬‬‫والقول بالمطابقة بين التعبير الجمالي والوجدان وبين التعبير الجلالي والوجود ينتج عن‬ ‫الغاء الفرق بينهما فيحول دون الوعي بالأفق اللامتناهي‪.‬‬‫فيتضاعف المستوى الأول بنسخة مشوهة منه تسد أفق اللامتناهي بنفي الفرق فلا يكون‬ ‫الوجدان والوجود متعاليين على تجاوز المتناهي إلى الوعي اللامتناهي‪.‬‬‫كما يمكن أن ينفى الفرق في المستوى الثاني بوهم علم مطابق للوجود فينتج عنه إبداع‬ ‫نظري وعملي ينفي الفرق ويلغى اللامتناهي الوجودي‪.‬‬ ‫وبذلك يوجد منزلتان للإبداع‪:‬‬ ‫‪-1‬مصدر الوعي الديني الموجب بالفرق (وجود الجميل والجليل)‬ ‫‪-2‬مصدر الوعي الديني السالب بالفرق (وجود الدميم والعقيم)‬‫وهذان الوجهان السالبان هما علة فقه سد الذرائع الديني والفلسفي (أفلاطون) إزاء‬ ‫الذوقين الوجداني والوجودي اللذين يهددان المستوى الثاني‪.‬‬‫سأخصص الفصل الرابع للمستوى الأول أي للإبداعين الجمالي والجلالي وضديديهما في‬ ‫الحضارة الإنسانية عامة وفي حضارة الإسلام خاصة ودورهما وأثر سد الذرائع‪.‬‬ ‫‪91‬‬

‫ما الذي يجعل التعبير الجمالي والتعبير الوجودي في جل المجتمعات الحديثة وفي حضارتنا‬ ‫ينحطان غالبا إلى ما أطلقت عليه مفهوم \"الوجود الإدماني\"؟‬‫والوجود الإدماني كما سبق أن عرفته هو محاولة طلب الهروب من سجن ما يسمى \"واقعا\"‬ ‫إلى الافتراضي بما يقبل التسمية بالهروب من \"الواقع\"؟‬‫وفي هذا الهروب نوعان من الابتعاد عن إشكالية العبارة عن الوجدان والوجود إلى عبارة‬ ‫على أدنى مما فيهما هروبا من خلب الحسيات إلى ذهول المخدرات؟‬‫كان الفن مقصورا على غير المسلمين تقريبا وكان جل المشاركين فيه وجل الأدباء من‬ ‫الهامشيين وبذلك يفسر ابن خلدون ابتعاد العلية عن الشعر مثلا‪.‬‬‫وكان تصوف الطرق وخاصة الزوايا والجماعات الممارسة للطرقيات يغلب عليهم تجاوز‬ ‫الأخلاق العامة وخاصة في الجنسيات والاختلاط وحتى المثليات‪.‬‬‫والفنانون والمتصوفة يغلب عليهم الشذوذ قياسا إلى الأخلاق العامة كالحال فيما يجري في‬ ‫اوساط الفن بدرجات مختلفة من الابتذال ودرجات التحضر‪.‬‬‫ونحن لا نتكلم على ما ينتج عن درجات الشذوذ الناتج عن الخصاصة وليس عن تجاوز‬ ‫الحدود والقيود المعتادة في الجماعة لموقف فكري وشبه فلسفي‪.‬‬‫وهذا التجاوز ليس المقصود في التعبير الجمالي والوجودي في ذاتهما بل هو متعلق باعتراف‬ ‫ضمني بالفشل فيهما تعويضا بشذوذ هادف إلى تحدي البروز‪.‬‬‫ويبقى الأمر مع ذلك متعلقا بتعبير ذي صلة بالقصور التعبيري الذي ينتج عن الفرق بين‬ ‫الوجدان والعبارة الجمالية وبين الوجود والعبارة الخلقية‪.‬‬‫وتحدي البروز بالشذوذ من العلامات التي نجدها في أوساط الفنانين والأدباء وفيه شيء‬ ‫من الثورة على القيم السائدة ضد ممثلي القيم الدينية والعقلية‪.‬‬‫ولعل أبرز هذه التيارات الجماعات الاحتجاجية في المجال السياسي والقيمي بتعبيرات‬ ‫جمالية ووجودية (نموذج العيش خارج الإطار الاجتماعي السائد)‪.‬‬ ‫‪92‬‬

‫وقد يخرج من هذا الشذوذ تحول قيمي كبير في الثقافات التي تغلبت فيها الحرية على فقه‬ ‫سد الذرائع قاتل التعبير الوجداني والوجودي للدفاع عن السائد‪.‬‬‫فهذا الشذوذ كان يمكن أن يكون شذوذا ضمن الإبداعين لا أن يصبح هم الغالب عليهما‬ ‫حتى كادا يقتصران عليه فكاد الإبداع المحقق لهذه الوظيفة ينعدم‪.‬‬‫وهذا الانحطاط الذوقي الوجداني (الإبداع الجمالي) والوجودي (الإبداع الوجودي)‬ ‫رمزه الابداع \"الواقعي\" الذي يصف الموجود فيجعله مثال المنشود‪.‬‬‫لنفهم عقم هذين التعبيرين المنحطين فلنقسهما على العلم‪ :‬من يعلم معنى العلم يعلم أن‬ ‫البحث لو بقي آلاف السنين يصف الواقع فلن ينتج علما أبدا‪.‬‬‫وكذلك الشأن بالنسبة للجمالي وللجلالي إذا اقتصر الإبداع على طلبهما بوصف ما يتصوره‬ ‫واقعا فلا يمكن أبدا أن يبدع تعبيرا جماليا أو جلاليا‪.‬‬‫فالعلم النظري والعملي يبدع ما لا يحاكي ما يظن واقعا بل يبدع حقيقة واقعهما الطبيعي‬‫والتاريخي والتعبير الجمالي والوجودي يبدع عبارة ما ورائهما (اي الطبيعة والتاريخ)\"‪:‬‬ ‫إنهما إبداع الما بعد عامة‪.‬‬‫فلماذا جماعة \"الإبداع\" الوجداني الوجودي تعيش البؤس النفسي والوجودي مهما علا‬ ‫شأنها حتى في حالة فناني هوليوود رغم الهرج والمرج الصبياني؟‬‫فالهرج والمرج الصبياني لا يعبر عن سعادة أو وعي بالفرق يجعل الابداع توسيعا للآفاق‬ ‫الوجدانية والوجودية بل هو يفرض الهرب للمخدرات والعيش البئيس‪.‬‬‫وقد يوجد بعض الحالات الاستثنائية بينهم‪-‬واعتبر الرياضيين من هذه الجماعة‪-‬سعداء‬ ‫خارج مستنقع تجاوز الحدود والقيود إلى أسفل لا إلى أعلى‪.‬‬‫لكن الغالب هو مستنقع الآفاق البديلة من توسيع إدراك الإنسان للوجدان والوجود فيكون‬ ‫الإبداع الجمالي والإبداع الجلالي مسهما في التجاوز إلى اعلى‪.‬‬‫واعتبر غلبة التجاوز إلى أسفل على التجاوز إلى اعلى في الإبداعين علتها فقه سد الذرائع‬ ‫الذي لا يفهم أصحابه أن ذلك هو بدوره من علامات الفرقين‪.‬‬ ‫‪93‬‬

‫وهنا لا بد من فهم حكم الدين (القرآن مثلا) وحكم الفلسفة (أفلاطون مثلا) وحدودهما‬ ‫بتحديد دوافعهما سعيا لجعل التربية والحكم محققين غرضيهما‪.‬‬‫ولنبدأ فنشير بأن كلا الحكمين الديني والفلسفي في مسألة الإبداع الجمالي والجلالي ليس‬ ‫مطلقا بل هو يستثني ما يلائم السياسي أي التربية والحكم‪.‬‬‫والسياسي تربية (الأخلاق) وحكما (القانون) في حكمهما لا يريد أن يخضع ما به يتجاوز‬ ‫الخلقي القانوني إلى السياسي بل يقصر الحد منه بمعيار واحد‪.‬‬‫وهذا المعيار يتعلق بشرط يحول دون إفساد ما في الإبداعين من توسيع لآفاق الوعي بالفرق‬ ‫في المسألة الوجدانية والوجودية‪ :‬وكلاهما يتكلم على الشعر‪.‬‬‫وكلامهما على الشعر ليس للحصر فالقصد الإبداع في مجال الذوق الوجداني (الجماليات)‬ ‫والوجودي (الجلاليات) والغزالي يعتبر الموسيقى جامعة بينهما‪.‬‬‫وسأبدأ بموقف أفلاطون فهو صريح التعليل لموقفه من الشعر‪ :‬لا حاجة للتأويل‪ .‬ولتعليله‬ ‫مستويان‪ :‬تأثير الفن الهابط وتوظيفه في التربية السفسطائية‪.‬‬‫أما موقف القرآن يحتاج للتأويل لأن تعليله يحيل إلى قيمة قرآنية هي التطابق بين القول‬ ‫والفعل‪ :‬قيمة دلالتها الخلقية والقانونية عسيرة التحديد‪.‬‬‫لكن هذا التأويل عسير التحديد استعمل ما يفيد أن القصد لا يختلف عن القصد‬ ‫الأفلاطوني‪ :‬فالكلام على نوع من يؤثر فيه الشعر المذموم بين الدلالة‪.‬‬‫وإذن ففي الحالتين احتكام إلى المجال السياسي (التربية الخلقية والحكم القانوني) للتمييز‬ ‫بين نوعين من الإبداع في المجالين الوجداني والوجودي‪.‬‬‫والنتيجة هي الإبداع الوجداني(الجمالي)والوجودي (الجلالي)لا يرفضان لذاتهما‬ ‫وبإطلاق بل يرفض منهما ما يعارض الخلقي والقانوني في المجال السياسي‪.‬‬‫وكلا الموقفين الديني والفلسفي يتعلق بما بين الإبداعين والمتعاليات (صورة الآلهة عند‬ ‫أفلاطون) ومقومات الذات أو معاني الإنسانية بلغة ابن خلدون‪.‬‬ ‫‪94‬‬

‫بلغة المعادلة الوجودية الموقف الديني والفلسفي (مثال الإسلام وأفلاطون) كل الأمر تعلق‬ ‫بالقطبين‪ :‬دور الإبداع في تصور الله وفي تصوير الإنسان‪.‬‬‫وبلغتنا الحديثة كل المشكل في الإبداع الرمزي (الجمالي والجلالي) هو دوره في تحديد‬ ‫الآفاق الروحية وأثر ذلك في تكوين الإنسان متساميا أو متدانيا‪.‬‬‫الإبداع الرمزي ببعديه الجمالي والجلالي هو الذي يصور الإنسان من الداخل فيوجد فيه‬ ‫معاني الإنسانية أو يعدمها بما يبدعه من آفاق تسمو به أو تدنو‪.‬‬‫ولو حاولت وصف التأثير المدمر للسينما المصرية على الأخلاق العربية كلها وعلى صورة‬ ‫المرأة ودور المال بدعوى وصف الواقع لقضيت بقية حياتي فيه‪.‬‬‫لا يمكن أن يكون التهديم النسقي لكل ما يرتفع بالإنسان فيما يسمونه إبداعا عربيا حاليا‬ ‫مجرد صدفة بل هو خطة جهنمية للقضاء على المعاني الإنسانية‪.‬‬‫وأول تهديم قد لا يوليه الكثير أهمية هو محاولة جعل العامية المصرية بديلا من العربية‬ ‫ولو تم ذلك لكان إصابة منزلة العرب في العالم في مقتل‪.‬‬‫وثانية النكبات اعتبار أخلاق الأغنياء الجدد والبرجوازية الزائفة ونمط حياتها وخدمها‬ ‫من أنصاف المثقفين مثلا عليا يروج لها السينما فتصبح نماذج‪.‬‬‫وفي الجملة كل فن \"واقعي\" يعتبر وصف أدنى الموجود ابداعا لا علاقة له بالوجدان ولا‬ ‫بالوجود بل بقشورهما في الوعي الغفل للعاطلين والحشاشين‪.‬‬‫وبصورة عامة فلو عدنا لعلاقة الحواس بالحوادس فإن هؤلاء \"المبدعين\" المزيفين مؤرخين‬ ‫بلداء لما يراه البصر فاقد البصيرة من ذوق الوجدان والوجود‪.‬‬‫ولهذه العلة لن تجد من بين المبدعين العرب من يمكن قيسه بكبار الموسيقيين أو بكبار‬ ‫الروائيين أو بكبار الشعراء لأن النسخ تبقى نسخا وليست أصولا‪.‬‬‫والساحة ملآى بأدعياء الإبداع لكنها سوق \"روبافيكيا\" وليست سوق إبداع‪ :‬فالمبدعون قلة‬ ‫قليلة في كل عصر ومصر لا كذباب الحانات العربية والمواخير‪.‬‬ ‫‪95‬‬

‫ومثلهم الصحافيون والخبراء العرب‪ :‬فأكثر من تسع وتسعين في المائة منهم جواسيس‬ ‫ودجالون للأنظمة العميلة وسادتهم الذين نصبوهم على المحميات التي تسمى دولا‪.‬‬‫والمثال ليس تحكميا‪ :‬فمن وظيفته أن يشهد على الواقع لا يصفه بل هو شاهد زور‪ .‬ومن‬ ‫وظيفته تجاوز الواقع لا يتجاوزه بل يجعل أفسد ما فيه نموذجا‪.‬‬‫كلهم شهود زور‪ :‬الصحافي شاهد زور على الأحداث لخدمة المستبدين والفاسدين في المحل‬ ‫والإقليم والعالم و\"المبدع\" شاهد زور على المثل بما يزعمه واقعا‪.‬‬‫أما تصويف الدين في اللحظة الراهنة فإنه أصبح أداة لخدمة نفس الأجندة‪ :‬إفساد الوعي‬ ‫بالوجدان والوجود وعي شباب الأمة لئلا يستأنف ثورتي الإسلام‪.‬‬ ‫وليس في ذلك مؤامرة بل هو نتيجة لظاهرتين طبيعيتين‪:‬‬ ‫‪-1‬الانحطاط الذاتي لنخب التأصيل المزيف‪.‬‬ ‫‪-2‬الانحطاط المستورد من الغرب لنخب التحديث المزيف‪.‬‬ ‫فكلتا النخبتين ذات ذهنية وثنية‪:‬‬ ‫‪-1‬وثنت \"واقعا\" ماضينا واعتبرته تمام التعبير عن الوجدان والوجود‪.‬‬ ‫‪-2‬وثنت \"واقعا\" ماضي الغرب بنفس المعنى الساذج‪.‬‬‫ولما كانت كلتا النخبتين قد ردت المثال إلى الواقع جهلا بهما كليهما في الحضارتين فإن‬ ‫المشترك بين الحضارتين قد زال ولم يبق إلا مطلق التنافي‪.‬‬‫وبذلك أصبح \"الإبداع\" الزائف مجرد \"جدل كلامي\" أهم أغراضهما حرب النخبتين‬ ‫احداهما على الاخرى ولا علاقة لهما بالإبداع الوجداني والوجودي أصلا‪.‬‬‫ولعل أفسد ذوق على الأطلاق هو مسرحيات ذلك الأخرق وأفلامه رغم أنه يعتبر نجما في‬ ‫\"الذمار\" الشعبي والإضحاك الغبي عندما يهاجم كاريكاتور المجاهد‪.‬‬‫لما يتحول ما يسمى بالإبداع إلى أداة إيديولوجية فإنه يفقد مدلول التعبير الوجداني‬ ‫والتأويل الوجودي ويبقى مجرد كاريكاتور منهما‪ :‬الأدب الواقعي‪.‬‬‫والفرق بين الوجدان ومحاولات التعبير عنه وبين الوجود ومحاولات تأويله يمكن رده‬ ‫لمفهوم فلسفي وديني في آن‪ :‬الشيء غير آيته والظاهر غير ظهوره‪.‬‬ ‫‪96‬‬

‫وهذه الغيرية لغز‪ :‬فالشيء لا يرد لآيته والظاهر لا يرد لظهوره ومع ذلك فلا نعلم بما‬ ‫يختلف الشيء عن آيته والظاهر عن ظهوره فكلاهما لا يقال‪.‬‬‫والإبداع هو محاولة قول ما لا يقال في حين أن الآية والظهور يقالان بيسر ومن ثم فالإبداع‬ ‫الذي يقتصر على يسير القول اسهال صحفي وليس إبداعا‪.‬‬‫وهنا نكتشف القصد من المعيار الديني (مثال القرآن) والمعيار الفلسفي (مثال أفلاطون)‪:‬‬ ‫الصدق بمعيار التطابق بين الأقوال والأفعال‪.‬‬ ‫والصدق نوعان‪:‬‬ ‫‪ -1‬فالنوع المنطقي للصدق هو موضوعية الحكم‪.‬‬ ‫‪ -2‬والنوع الخلقي للصدق هو ذاتية الحكم‪.‬‬ ‫وعكس الأول الكذب الوجودي وعكس الثاني الكذب الوجداني‪.‬‬ ‫ذلك المعيار‪.‬‬‫القرآن قدم معيار الصدق الخلقي رفضا للكذب الوجداني وأفلاطون قدم معيار الصدق‬ ‫المنطقي رفضا للكذب الوجودي‪ .‬وكلاهما يستنتج ما أخره مما قدمه‪.‬‬‫فمن يرفض الكذب الوجداني لن يقبل الكذب الوجودي إلا إذا كان بغير قصد بعد تحر‪.‬‬ ‫ومن يرفض الكذب الوجودي لن يقبل الكذب الوجداني إلا بنفس الشرط‪.‬‬‫والفرق بين الموقفين الفلسفي والديني غير جوهري إنه علاقة تقديم وتأخير بين‬ ‫الأكسيولوجي بالابستمولوجي‪ .‬وحكمهما يجمع على التلازم بينهما‪.‬‬‫فالدين يقدم الصدق الوجداني على الوجودي لان الحكم على السرائر في العمل يتعلق‬ ‫بالنية ولا يتعلق بالنتيجة لكنه يشترط بذل الجهد في الوجودي‪.‬‬‫والفلسفة تقدم الصدق الوجودي على الوجداني لأن الحكم في ظواهر النظر يتعلق بصلة‬ ‫النتيجة بالمقدمة مع اشتراط الجهد في الوجدان بقدر الإمكان‪.‬‬‫فالفرق في التقديم والتأخير وليس في طبيعة الإدراكين الوجداني والوجودي أو في طبيعة‬ ‫الفرقين لاختلاف المجال المقدم‪ :‬العمل دينيا والنظر فلسفيا‪.‬‬ ‫‪97‬‬

‫فالغاوي قرآنيا هو من لا يطلب الصدق في الوجدان والسفسطائي في الجمهورية هو من لا‬ ‫يطلب الصدق في الوجود‪.‬‬ ‫الغاوي قرآنيا سفسطائي أفلاطونيا‪.‬‬‫والقرآن الكريم يعرفهم في الآية السابعة من آل عمران بمرضى القلوب ومبتغي الفتنة‬ ‫للحسم التأويلي في المتشابه بمعنى أنهم يتوهمون إزالة الفرقين‪.‬‬‫وأهم فرق يزيلونه ادعاء علم ما لا يعلم وشرطه أن يدعوا التأله بعلم الغيب وتأويل‬ ‫المتشابه مدعين أن رسوخهم يمكنهم من علم الغيب بأدلجة الإبداع‪.‬‬ ‫فيخلطون بين العلم والدجل وبين الإبداع والكذب الوجداني والوجودي‪.‬‬ ‫تلك هي علة الموقف الأفلاطوني‪.‬‬ ‫والقرآن من الشعر لم يصبح رمزا للإبداع الزائف‪.‬‬‫لذلك فلا ينبغي الخلط بين الحكم الديني والحكم الفلسفي في تحديد الذوقين الوجداني‬ ‫والوجودي وقيم الإبداعين الجمالي والجلالي مع حكم سد الذرائع‪.‬‬‫وخلافا لما يظن فإن هذا الحكم هو الذي جعل الابداعين ينحطان بالتدريج لأن منع الإبداع‬ ‫الجمالي عامة خوفا مما ينتج عن شكله الأدنى يقتل الأسمى‪.‬‬‫فيصبح الإبداع الأسمى متروكا ويتغول الأسافل كما قال ابن خلدون عن الشعر الذي صار‬ ‫أداة تكد فتجنبه العلية وبقي من أدوات السفلة إلى اليوم‪.‬‬‫فالتعبير عن أحوال النفوس الحقيرة من المتكدين محليا او دوليا لأن النجومية لم تعد‬ ‫بالإبداع بل بإيديولوجية الحرب على معاني الإنسانية والحرية‪.‬‬‫وابن خلدون كان مدركا لذلك عميق الإدراك‪ :‬فهو لا يجعل نظرية الذوق الأدبي آخر‬ ‫فصول باب المقدمة السادس والأخير بالصد‪ :‬علاقة بمعاني الإنسانية‪.‬‬‫فالمقدمة وضع لها ابن خلدون عنوانا مؤلفا من قسمين يحققان مقابلتين ذاتي دلالة فلسفية‬ ‫مغفول عنها بسبب سطحية قراءاته التي أشاعها نجوم الساحة‪.‬‬ ‫‪98‬‬

‫وعندما يفهم القارئ هذه الإحالات إلى ابن تيمية وابن خلدون وقبلهما الغزالي سيفهم‬ ‫علة اعتباري إياهم مؤسسي فلسفة قطعت مع القديمة والوسيطة‪.‬‬‫وهي فلسفة مآخية للدين الذي قطعت قراءتهم له مع ما تقدم من فكر كلامي وفقهي وصوفي‬ ‫كان كله غير واع بالفرقين في الذوقين الوجداني والوجودي‪.‬‬‫وعدم الوعي بالفرقين في الذوقين هو القول بالمطابقة في نظرية القيمة (الأكسيولوجيا)‬ ‫ونظرية المعرفة (الابستمولوجيا)‪ :‬والوعي بهما يبين استحالتها‪.‬‬ ‫فالعنوان هو \"علم العمران البشري والاجتماع الإنساني\"‪.‬‬ ‫مقابلتان‪:‬‬ ‫‪-1‬بين عمران واجتماع‪.‬‬ ‫‪ -2‬متلازمة معها بين بشري وإنساني‪ :‬مستويا الوجود والوجدان‪.‬‬‫وفساد معاني الإنسانية الذي يلغي القدرة على الإبداع الوجداني والوجودي يتعلق بفساد‬ ‫التربية والحكم الذي يقلب الوعي القيمي والمعرفي إلى الضد‪.‬‬‫لن يبقى الإنسان حرا وسيدا بل يصبح عبدا للخوف والحاجة فيعوض الكذب الوجداني‬ ‫الصدق الذاتي ويعوض الكذب الوجودي الصدق الموضوعي ويزيف كل شيء‪.‬‬‫ذلك هو المعنى الذي قصده ابن خلدون بفساد معاني الإنسانية بسبب التربية والحكم‬ ‫العنيفين والعلة هي الإبداع الزائف الذي يجعل \"الواقع\" مثالا‪.‬‬ ‫والعلة‪:‬‬ ‫‪-1‬إفساد الإبداع الوجداني كما وصف ابن خلدون علة انحطاط الشعر إلى تكد‬ ‫‪-2‬افساد الإبداع الوجودي كما وصف علة انحطاط الزهد إلى تصوف‬‫ابن خلدون ‪-‬وقبله ابن تيمية والغزالي‪-‬أدرك مكمن الداء فوصف الدواء‪ :‬الانحطاط‬ ‫نتيجة للتفاعل بين فساد التربية وفساد الحكم وتزييف الابداعين‪.‬‬‫نختم الآن الكلام على فساد الابداعين الوجداني والوجودي لنمر في الفصل الموالي‬ ‫للإبداعين النظري والعملي أي من الأكسيولوجيا إلى الابستمولوجيا‪.‬‬ ‫‪99‬‬

5

‫‪02 01‬‬ ‫‪01‬‬ ‫‪02‬‬‫تصميم الأسماء والبيان – المدير التنفيذي‪ :‬محمد مراس المرزوقي‬