Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore إعادة البناء لشروط الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف – أبو يعرب المرزوقي

إعادة البناء لشروط الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف – أبو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2018-02-27 14:32:32

Description: إعادة البناء لشروط الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف – أبو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫والمفهومي لمسارها الاجتماعي والحضاري لأن الإنسان في علاقته بعالمه الطبيعي والتاريخي‬ ‫مستوى حدثه مرفوق دائما بمستوى حديثه عنه‪.‬‬‫وتلك هي علة تعقيد العلوم الإنسانية الأبلغ من تعقيد العلوم الطبيعية‪ :‬فمستوى الترميز‬‫أو الاسترماز هو الذي يضاعف مجرى الظاهرات الإنسانية لأن الأحداث مصحوبة بما يعبر‬‫به الوعي عليها من أحاديث هي الإطار الرؤيوي دينيا وفلسفيا وإيديولوجيا فيهما معا ما‬ ‫يجعل \"الواقع\" مفهوما لا يكاد يدرك‪.‬‬‫وفي الحقيقة فما يفعل في الاحداث ليس الحاضر بل الماضي والمستقبل بخلاف من يتوهم من‬‫يتصورون أن الحاضر له وجود غير كونه ملتقى ما مضى وما هو آت حتى في الطبيعة‪.‬‬‫فـ\"البوتونسيال\" أو الذي بالقوة يفعل فعل \"الريال\" أو الذي بالفعل والإنسان يفعل فيه‬ ‫المتوقع والمتذكر أكثر من الحاضر‪.‬‬‫لذلك فالظاهرات الاجتماعية الحاضرة هي في الحقيقة ملتقى ماضي المجتمع ومستقبله لأن‬‫حاضره لحظة سيالة ليس لها قرار وخاصة في المجتمعات الحديثة التي ترهن المستقبل لتحل‬‫مشكلات الحاضر والمستقبل الذي ترهنه هو دائما المنتظر باعتبار الموجود الذي يضمن رهن‬ ‫المستقبل وخاصة في الاقتصاد‪.‬‬‫والاجتماع وثيق الارتباط بالاقتصاد ليس بمعناه المادي فحسب بل بمعناه الرمزي لأنه‬‫للثروة دورين بالإضافة إلى سد الحاجات‪ :‬الأول هو أنه سلطة في كل سلطة سواء كانت‬‫سياسية او معرفية والثاني هو كونه محدد سلم المنازل في أي جماعة لأنه رمز القدرة‬ ‫الفعلية‪ .‬تلك هي محركات الإنسان‪.‬‬‫وحتى دور السلطة الروحية المتعالية التي تنسب إلى الله فهي تعير بهذه المعايير إذ هو‬‫أساسا يعتبر سلطة على الأرزاق والمنازل خاصة في الدنيا وفي الآخرة مباشرة بالنسبة إلى‬‫الإنسان العادي وبتوسط الوسطاء الروحيين الذين يوهمون العامة بأن لهم قدرة على‬ ‫التوسط وتبليغ صوتهم لصاحب الدورين‪.‬‬‫ولذلك فما يعيني من المؤسسات والكيانات الاجتماعية هو هذه الفاعلية للماضي والمستقبل‬‫في الحاضر لحظة بلحظة في توالي حقب التاريخ الذي أريد فهم انقلابه من تاريخ أمة‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪98‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫مبدعة ومبادرة حتى إن هيجل اعتبر ذلك من أهم مميزات الحضارة الإسلامية بالمقارنة مع‬ ‫الحضارة الهندية مثلا وما الذي كسحها‪.‬‬‫ما الذي آل بالمسلمين عامة والعرب غاية بالإخلاد إلى سبات عجيب جعلهم بالتدريج ينتقلون‬‫من قادة العالم إلى توابع أقزامه فتصبح السياسة التي هي إدارة علاج العلاقتين العمودية‬‫مع الطبيعة والأفقي مع التاريخ خارج أيديهم فيحكمهم ويربيهم أهماج العالم والحاميات‬ ‫التي كانت مرتزقة لدى حكامهم‪.‬‬‫وكان يمكن ألا أبالي بالأمر لو كان ماضيا مضى وانتهى لكنه ما يزال قائما بل هو يزداد‬‫وخاصة عند ذوي الثورة الخام الذين يكتفون بالعيش عيش الانعام سواء كانوا من مشرق‬‫العرب أو من مغربهم‪ .‬ومن ليس له ثروة خام تذكر يبيع المناخ والشواطئ ويقبل بأن يحول‬ ‫ثقافته إلى ثقافة خدمات للغرائز‪.‬‬‫والأعجب من ذلك كله هو سلطان الحاضر الذي لم يسبقه ماض كان يعد له باعتباره‬‫المستقبل بل هو حاضر لحظي ليس له ماض أعد له فيكون الفعل فيه مجرد رد فعل للآزف‬‫من الحاجات وتلك هي حياة البهائم الذين لا يرون من الزمان إلى حاضره وينسون أن‬ ‫الحاضر لا معنى له إلا بطرفيه‪.‬‬‫ولا أعني أن المسلمين والعرب ليس لهم ماض وليس لهم مستقبل لكن ماضيهم لم يعد محركا‬‫إلا لقلة من الشباب ليس لهم دراية بمحركه والمستقبل لا يعني أحدا لأن من بيدهم الحل‬‫والعقد دون شرعية مستقبلهم لا علاقة بالجماعة إذ هم أولا دمى في يد حماتهم‬ ‫ومشروعاتهم حيزوها خارج الاوطان في الغرب‪.‬‬‫ولينظر القاري الكريم فيقارن العرب بمن يستعمر أوطانهم وحتى بمن هم ذراعا من‬‫يستعمرهم‪ :‬فإيران وإسرائيل مباشرة وروسيا وأمريكا بصورة غير مباشرة كلهم أربعتهم‬‫ممتلئون بفاعلية ماضيهم ومستقبلهم وحاضرهم هو العمل لكي تكون مشروعات المستقبل‬ ‫محققة لمفقودات الماضي‪.‬‬‫كلاهما يريد استرداد امبراطورية يعتبرون الإسلام عامة والعرب خاصة هم من أفقدهم‬‫إياها وهم في الحاضر يحققون فعلا هذه الأهداف فيكون حاضرهم لحظات عمل ذي‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪99‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫استراتيجية تصل الماضي المفقود بالمستقبل المنشود والعرب قعود كأنهم أعجاز نخل خاوية‪.‬‬ ‫ذلك هو همي من الكلام في المؤسسات الاجتماعية‪.‬‬‫بعبارة وجيزة ثورة الاسلام التي حررت الإنسان من الوساطة الروحية والوصاية السياسية‬‫تبناها الغرب وكل شعوب العالم لكنهم أوجدوا بدائل تؤدي وظائفها المدنية بحق بعد أن‬‫حرروها من الوساطة الروحية والوصاية السياسية وتلك هي المؤسسات التي اعتبر الأمة قد‬ ‫فشلت في تأسيسها لتعالج العلاقتين‪.‬‬‫لكن المسلمين عملوا العكس تماما أعني السنة لأن الشيعة لم يلغوهما‪ .‬لكن السنة ألغتهما‬‫بالاسم وعوضتهما بما هو أدهى وامر أعني وساطة أمر واقع يتنافى مع إلغائها الواجب‬‫ووصاية أمر واقع يتنافى مع إلغائها لواجب فصاروا يؤسسون بالإسلام ما يتنافى مع جوهره‪:‬‬ ‫تحريف علوم الملة وأعمالها‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪100‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫ونصل إلى غاية الكلام في المؤسسات والكيانات الاجتماعية‪ :‬في غياب البديل الفاعل أو‬‫الناظم للفعل الاجتماعي بين السياسي والتربوي لا يبقى إلا رد الفعل لكيان عديم العمود‬‫الفقري أو المؤسساتي البديلين من الوساطة الروحية والوصاية السياسة اللتين ألغاهما‬ ‫الإسلام‪.‬‬‫ففي غياب البديلين من الكنسية والحكم بالحق الإلهي المبقيين على وظيفتيهما المدنية‬‫دون وظيفتيهما السلطويتين ينكص المجتمع إلى ما دونهما أو إلى فوضى الفعل الفردي غير‬‫الخاضع لمؤسسات تؤطره ولا يبقى إلى رد الفعل البدائي للفرد ككائن عضوي أو للجماعة‬ ‫\"كهورد\" أو كحركات همجية كالمغولية‪.‬‬‫وما ترتد إليه هو التنظيمات البدائية التي من جنس الطوائف والقبائل والمافيات وكلها‬‫يحركها انعدام المشروع الواعي الذي يعالج العلاقتين بوصفه علاجا ذا استراتيجية يحددها‬‫السعي القصدي لتدارك مفقود الماضي بمنشود المستقبل لملء الحاضر بنظام فعل غائي واع‬ ‫بمراحل الوصل بين البداية والغاية‪.‬‬‫وهذا هو فعلا ما حصل منذ الحروب الاهلية التي تلت الفتنة الكبرى إلى اليوم في بلاد‬‫العرب‪ .‬فحتى الاحزاب ومنظمات المجتمع المدني التي تأسست في بعض بلاد العرب فهي‬‫أقرب إلى عقلية الطوائف والفرق الكلامية والقبائل والمافيات منها إلى تنظيمات المجتمع‬ ‫التي عوضت الوساطة والوصاية في الحداثة‪.‬‬‫وليس من شك في أنها حتى في المجتمعات الحديثة لا تفقد الصفة بالمؤسسات والتكوينات‬‫البدائية التي من هذا الجنس لكنها تتحرر منها بقدر كبير بفضل مؤسسات رديفة أهمها‬‫حرية النقد والإعلام الحر وحقوق الفرد وحرياته الاساسية كحرية الضمير وحرية‬ ‫التعبير وحماية كيانه بالدستور والفصل بين السلط‪.‬‬‫وهذه هي التي تحرر المؤسسات والكيانات الاجتماعية مما كانت تتمتع به الوساطة‬‫والوصاية من شبه قدسية تحول دون الفرد والوقوف منها موقف الناقد المحمي من جبروتها‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪101‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫فالمسلم منذ ذلك الحين والعربي على وجه الخصوص يعاني من طغيانين‪ :‬طغيان المتغلب‬ ‫سياسيا وطغيان مضفي الشرعية عليه روحيا‪.‬‬‫ورمز الطغيان هو مفهوم \"أولي الامر\" ليس بمعناها القرآني كما هو في الواجب بل بمعناه‬‫كأمر واقع أعني أمراء التغلب وعلماء التشريع للتغلب بدل أمراء المؤمنين الذي هم خدم‬‫للمؤمنين وعلماء المؤمنين الذين هم معلمون ولا سلطان لهم على إرادة المؤمنين لأن الامر‬ ‫هو أمر الجماعة (الشورى ‪.)38‬‬‫والطغيان الاجتماعي ألف مرة اشد من الطغيان السياسي ذلك أنه يصبح مستبطنا في‬‫روح الفرد فيصبح يراه جزءا من الدين وهو في الحقيقة نقيض الدين لأنه نقيض‬‫الحريتين الروحية والسياسية اللتين هما جوهر ثورة القرآن أعني الغاء الوساطة الروحية‬ ‫والوصاية السياسة لتحرير الفرد والجماعة‪.‬‬‫ما أتكلم عليه يبدو ألغازا ربما لأن العبارة عنه فيها ما يشير إلى خفايا غفلنا عنها طيلة‬‫الأربعة عشر قرنا من حالة الطواري التي عشناها بعد الفتنة الكبرى وحروبها الاهلية‬‫التي لم تتوقف إلى الآن خاصة وقد أحيتها حركتان هما حركة الخمينية وحركة القاعدة‬ ‫بوصفهما أداتي تهديم ذاتي بيد الاستعمار‪.‬‬‫والأدهى أن حركة الخمينية لأن لها قيادات محنكة جعلت حركة القاعدة مجرد دمية‬‫بيدها تحقق بها كل ما تريده من أفعال لتشويه السنة بيد السنة نفسها وقد تعين ذلك‬‫التعين الامثل في حركة داعش‪ .‬فهذه الحركة في الظاهر تفعل ما تفعل باسم السنة لكنها‬ ‫في الحقيقة هي التي تقضي على فاعليتها‪.‬‬‫وطبعا لو لم يكن ذلك مما يحتاج إليه الامريكان والروس وإسرائيل خاصة لما سمح به ولما‬‫أمدوا في عمره وينوون تمديده ثلاثة عقود حتى يقضوا نهائيها على ما يتصورون عودته‬‫كافية لإخراجهم من الإقليم الذي سيستعيد دوره العالمي‪ :‬القضاء على الشعبين الذي أنشأ‬ ‫دولة الإسلام والذي حماها في الغاية‪.‬‬‫الحرب كلها والإرهاب السني المزعوم المحقق لغايات الإرهاب الشيعي والصهيوني الفعليين‬‫هو الأداة التي وجدت ما يلائم استراتيجية روسيا وأمريكا لتهديم ما يمكن أن يحققه العرب‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪102‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫والأتراك أي الشعب الذي أنشأ دولة الإسلام والشعب الذي حماها في الغاية إلى نهاية‬ ‫الحرب العالمية الأولى قدر مستطاعه‪.‬‬‫فلا يوجد نظام عربي واحد يدعي الحكم باسم السنة ليست قياداته الفعلية ‪-‬لا أتكلم‬‫على الكمبارس في كراسي الحكم‪-‬مستشارين انجليز أو أمريكان أو فرنسيين وجلهم صهاينة‬‫إن ليس بالعرق والدين فبالولاء واللادين‪ .‬ويكفي تاريخ ما عينته انجلترا من حكام عرب‬ ‫وحتى من جامعة عربية‪.‬‬‫قيادات الشيعة وملاليهم فرس وقيادات العرب ومستشاريهم صهاينة‪ .‬ولذلك فالمشروعان‬‫المسيطران على الاقليم هما مشروعا استعادة امبراطورية فارس باسم آل البيت أي ضد ما‬‫كان ينبغي أن يكون مشروع آل البيت لأن الإسلام كان قائده جدهم وامبراطورية آل‬ ‫صهيون ضد ما يزعمه من يحكم باسم الإسلام‪.‬‬‫ولهذه الظاهرة علاقة مباشرة بالمؤسسات الاجتماعية‪ :‬فالاستسلام الشعبي لما يجري ليس‬‫له من تعليل غير ما عليه المؤسسات البديلة الكسيحة من مؤسستي تنظيم السلطتين الروحية‬‫والسياسية في القاعدة الاجتماعية وفقدانهما دور المحرك الفعلي للجماعة والمجتمع‪:‬‬ ‫فالسيسي غير ممكن من دون وساطتهم ووصايتهم‪.‬‬‫وقس عليه كل بلاد العرب‪ .‬ذلك أن العنف المادي مهما كان فاعلا فهو لا يفعل إلا لأن‬‫العنف الرمزي مهد له الطريق‪ .‬ولذلك اعتبر ابن خلدون الأمم تفسد فيها معاني‬‫الإنسانية بالعنف الرمزي في التربية الذي يجعل العنف المادي في الحكم مؤثرا بصورة يؤدي‬ ‫اجتماعهما إلى الأمة \"العالة\" أمة العيال‪.‬‬‫ولا بد هنا من الاتيان بنص ابن خلدون مؤسس ثورة الربيع بحق‪\" :‬ومن كان مرباه بالعسف‬ ‫والقهر من المتعلمين والمماليك أو الخدم‪:‬‬ ‫‪ .1‬سطا به القهر وضيق على النفس في انبساطها‬ ‫‪ .2‬وذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل‬‫‪ .3‬وعمل على الكذب والخبث وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفا من انبساط‬ ‫الأيدي بالقهر عليه‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪103‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪ .4‬وعلمه المكر والخديعة لذلك وصارت هذه عادة وخلقا‬‫‪ .5‬وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمدن وهي الحمية‬‫والمدافعة عن نفسه ومنزله وصار عيالا على غيره بل وكسلت النفس على اكتساب الفضائل‬ ‫والخلق الجميل فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها فارتكس وعاد أسفل سافلين‪.‬‬‫وهكذا وقع لكل أمة حصلت في قبضة القهر ونال منها العسف واعتبره في كل من يملك‬‫أمره عليه ولا تكون الملكة الكافلة له رفيقة به‪ .‬وتجد ذلك فيهم استقراء‪ .‬وانظره في‬‫اليهود وما حصل بذلك فيهم من خلق السوء حتى إنهم يوصفون في كل افق وعصر بالخرج‬ ‫ومعناه (‪ )..‬التخابث والكيد\" (المقدمة ‪.)6.40‬‬‫لا أعتقد أنه يوجد عربي صادق يقرأ هذا النص ولا يعتبره وصفا أمينا لوضعنا الحالي‬‫بل لوضعنا منذ الفتنة الكبرى إلى اليوم‪ .‬ولا أعتقد أنه يمكن لأحد صادق بحق ألا يجد‬‫فيه ما عليه ثار شباب الأمة بجنسيه سعيا للخروج من حالة الطوارئ التي فرضت علينا منذ‬ ‫ذلك الحين‪.‬‬‫فالثورة العربية الحالية هي فجر الاستئناف‪ :‬كل المؤسسات الاجتماعية التي خربت‬‫الإنسان روحيا وماديا وجعلت اعز امة تصبح أذل الأمم انهارت ولن يستطيع الغبيان اللذان‬‫يقودان الثورة المضادة ويمولان قرود الجيوش المهزومة القبائل المهضومة مواصلة قهر‬ ‫الشعوب المظلومة‪ :‬الثورة لن تهزم‪.‬‬‫رمزية تونس اليوم هي ابن خلدون والشابي الأول رمزها الفكري والفلسفي والثاني‬‫رمزها الجمالي والشعري وشبابها بجنسيه يشبه شباب النشأة الأولى‪ .‬ولا يحتاج لرسالة‬‫جديدة فهي موجودة‪ .‬واعتبر نفسي جنديا في السعي لبيان أنها موجودة فإعادة قراءتها‬ ‫الفلسفية تحيي فاعليتها التاريخية‪.‬‬‫صحيح أني بخلاف الصديق حسن حنفي ومنذ ‪ 2000‬كنت أدعو إلى تقديم النظر على‬‫العمل‪ .‬ذلك أن العمل الذي ليس على علم خبط عشواء وليس عملا هو رمي في عماية‪.‬‬‫وما يسمون بالمجاهدين حتى الصادق منهم واستثني أمراء الحرب منهم يرمون في عماية‬ ‫لعدم فهم الغاية وتحقيق شروط البداية‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪104‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫ذلك ما أسعى إليه والله ولي التوفيق‪ .‬ولم يبق في هذه المحاولة إلا جزؤها الخامس‬‫والاخير حول مؤسسات التربية التي ترسي قواعد مشروع الاستئناف الذي ينبغي أن يكون‬‫من حجم النشأة الأولى وهو استئناف اسلامي لا بد فيه من حلف صريح بين شعب النشأة‬ ‫الاولى وشعب الحماية الاخيرة قبله‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪105‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪ -‬القسم الخامس ‪-‬‬‫أشرع الآن في الجزء الخامس والاخير من كلامي على شروط الاستئناف أو إعادة بناء‬‫شروط تحقيق الاستعمار في الارض بقيم الاستخلاف‪ .‬وقد تكلمت في الجزء الرابع في‬‫المؤسسات الاجتماعية الوسيطة بين السياسية والتربوية وآن أوان الكلام في المؤسسات‬ ‫التربوية موضوع البحث الاخير‪.‬‬‫وكنت قد وعدت أن اتكلم في المؤسسات الاجتماعية بالاعتماد على نظام مقومات كيان‬‫الإنسان المستعمر في الارض والمستخلف بمنظور قرآني وهو منظور يظن فلسفيا فحسب أعني‬‫أن الإنسان في علاقة بعالمين طبيعي منه قيامه العضوي وتاريخي أو رمزي منه قيامه الروحي‬ ‫والفكري‪ :‬العلاقتان العمودية والأفقية‪.‬‬‫لكني عند التنفيذ اقتصرت على غاية هذه المقومات التي تنتهي بها قائمتها أو مصفوفتها‬‫أعني الوجود أو الرؤى الوجودية التي هي توجد في الجماعات البشرية بشكلين رغم وحدة‬‫المطلوب لولا التحريف الذي يطرأ على هذا أو ذاك منهما أو عليهما معا فيصبحان متعاديين‬ ‫لكأن الفصل بين العالم وما ورائه ممكن‪.‬‬‫وإذن فقد اغفلت بقية المقومات التي عند عرضها بترتيب معكوس هي بعد الوجود الحياة‬‫ثم القدرة ثم العلم ثم الإرادة وهي في آن مقومات كيان الفرد ومقومات بنية الجماعة إذا‬‫اعتبرنا هذه المقومات هي عين ما به تتحقق شروط الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف‬ ‫أو بدونها كتقسيم عمل شبه طبيعي‪.‬‬‫ومعنى ذلك أنه لا توجد جماعة في التاريخ يمكن أن تخلو ممن يقومون بتمثيل إرادتها‬‫(السياسة) ومعرفتا النظرية والعملية (العلم) وقدراتها المادية (الانتاج المادي أو‬‫الاقتصاد) وحياتها (الذوق في شكل الفنون خاصة) والوجود (الرؤى العامة للعالم سواء‬ ‫بالشكلين الديني والفلسفي)‪ :‬إنها أصناف نخبها‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪106‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫ولم يكن ذلك لأن الجزء الخامس تجاوز الحجم الذي خططت له فحسب بل لئلا اضطر‬‫لتكرار كلامي بسبب أهمية هذه المقومات في مسألة المؤسسات التربوية كما سنرى ولأنها في‬‫الحقيقة مقومة للأجزاء الخمسة وكان ينبغي أن أترك الكلام على هذا التقويم للجزء‬ ‫الاخير من الخطة‪ :‬خطة الفكر ليست ثابتة دائما‪.‬‬‫فالمحاولة من البداية إلى النهاية ليست عرضا لمعرفة سابقة ودروسا لتعليمها بل هي‬‫محاولة تنكشف لصاحبها بالتدريج لأن الموضوع ليس مطروقا وله غايتان‪ :‬نظرية هدفها‬‫إعادة تأويل منعرجات تاريخ الأمة الروحي ليس بمنهج تاريخي يستعرض الوقائع بل بمنهج‬ ‫بنيوي يكشف تشابك فاعليتها المادية والرمزية‪.‬‬‫وقد يكون أهم مناط لإبراز هده الفاعلية هو مفهوم الزمان التاريخي وكون الحاضر فيه‬‫ليس إلا بؤرة التفاعل بين الماضي والمستقبل في مستوى الأحداث بمعنى أن ما لم يبق موجودا‬‫ولم يصبح موجودا هو الموجود الاقوى في تاريخ الإنسانية لأنه في مستوى الأحاديث يتحول‬ ‫إلى فاعلية التذكر وفاعلية التوقع‪.‬‬‫وفاعلية التذكر وفاعلية التوقع هما ما يميز الإنسان عن كل ما عداه من الكائنات الحية‪:‬‬‫فهما مقوما الاسترماز وفرعا فاعليته التي يجعل الموجود يفعل بما فيه من المفقود ويجعل‬‫المنشود يفعل بما يدركه من المفقود في الموجود فتكون فاعلية التاريخ هي عين استراتيجية‬ ‫الأمة الحية السياسية والتربوية‪.‬‬‫فيتبين أن الهدف الثاني عملي وهو الجواب عن السؤال التالي الذي هو معلن في عنوان‬‫المحاولة بأجزائها الخمسة‪ :‬كيف نحقق شروط الاستئناف أو شروط الاستعمار في الأرض‬‫بقيم الاستخلاف أو كيف نعالج العلاقتين العمودية مع الطبيعة والأفقية مع التاريخ‬ ‫لتستعيد الأمة دورها لكوني في نظام العالم‪.‬‬‫لكن ما أزعمه هو أن الرسالة الخاتمة أو التذكير الأخير هذا هو مضمونها‪ :‬إنها‬‫استراتيجية تحقيق الاخوة الإنسانية (النساء ‪ )1‬بمعيار وحيد هو المساواة أمام القانون‬‫التفاضل عند أحكم الحاكمين بتقواه (الحجرات ‪ )13‬بدستور سياسي للحكم والتربية التي‬ ‫تمكن من علاج العلاقتين بقيم ما ورائهما‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪107‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫فيكون التذكير الاخير أو الرسالة بيان بالتلازم الصلتين بين الإنسان ومثاله الأعلى‬‫(الله) في سياسة العالم الطبيعي (مستعمرا في الارض) والتاريخي (مستخلفا فيها) في شكل‬‫اختبار دائم لأهلية الاستخلاف والعبادة هي التلازم بين هذين المستويين من الوجود‬ ‫الإنساني‪ :‬مستعمر ومستخلف في الأرض‪.‬‬‫وطبعا فالجمع بين العلاج الفلسفي لإشكالية بناء المؤسسات التي تحقق الاستئناف‬‫والتأسيس الديني للمشروع في آن هو الذي قد لا يعجب أصحاب الكاريكاتورين لأنهم‬‫يفصلون بين دوافع الفعل التاريخي التي هي روحية دائما سواء كانت بالإيجاب أو بالسلب‬ ‫(الإيمان بالاستخلاف او الكفر به) والعلم أداتها‪.‬‬‫ذلك أني بينت أن الدوافع لا منبع لها غير الذوق الذي يعود في الغاية إلى الذوق‬‫الغذائي والجنسي في منطلقه ثم يرتقي ليصبح ذوق كل تعيناته الرمزية التي تصحبهما أو‬‫تحققهما لطالبهما في الجماعة التي ينتسب إليها والعلم في كل هذه الحالات هو ثمرة البحث‬ ‫عنهما في المستويين الفعلي والرمزي‪.‬‬‫وفي مصفوفتنا المقومة للوجود الإنساني الدوافع تعود كلها للحياة أو الذوق وهي تحصل‬‫في رؤية وجودية دينية أولا لأنها عامة لكل البشر سواء كانوا علماء او حتى أميين ثم‬‫فلسفية عندما تصبح قادرة على صوغها بترميز قادر على جعلها قابلة للتعليم والنقل بين‬ ‫البشر فتتراكم كمنظومة خبرة إنسانية‪.‬‬‫وهذه الدوافع النابعة من الذوق الحيوي بمعنييه العضوي المباشر (الغذاء والجنس)‬‫والرمزي غير المباشر كل ما يعبر عنهما أو يوصل إليهما من وسائل وطرق تترجم إلى إرادة‬‫إما مباشرة منهما أو من التعبير الرمزي عنهما أو عما يوصل إليهما تحتاج إلى علم وخبرة‬ ‫وإلى قدرة وثروة‪ .‬تلك هي المعادلة‪.‬‬‫وتلك هي شروط الاستئناف التي علينا استردادها بعد أن فقدناها بسبب ما أصاب معان‬‫الإنسانية عندنا من فساد وهي غاية كل نظام تربية هدفه تكوين الأجيال الخالفة لتجاوز‬‫الأجيال السالفة تجويدا لما حققته وتداركا لما أغفلته إذا اعتبرنا المنظومة التربوية مخبر‬ ‫المستقبل في الجماعة‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪108‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫ولا بد هنا من التذكير بطبيعة هذه العلاقة بين السالف والخالف‪ .‬فهذان المفهومان قلبا‬‫كما قلب الدستوران السياسي حكما وتربية والمعرفة مطلوبا ومنهجا‪ .‬فالسالف في العربية‬‫يعني المتقدم ليس في الزمان فحسب بل وكذلك في تحقيق مهمتي الإنسان أي الاستعمار في‬ ‫الارض والاستخلاف فيها‪ :‬ريادة‪.‬‬‫ولما كان كل جيل سالف قد كان خالفا فمعنى ذلك أن ريادته هي كونه سالف الخالف المقبل‬‫فيكون خالفا لما سبقه وسالفا لمن يليه ومن ثم فهو ينطبق عليه ما ينطبق على مفهوم التربية‪:‬‬‫أي إنه مجهود عمل من سبقه ومتدارك لما غفل عنه حتى يكون دائما رائدا‪ :‬فما يقلد منه‬ ‫هو فعل الريادة لما مفعولها‪.‬‬‫فتكون السنة هي ريادة السن وليست تقليد المسنون‪ .‬وهذا هو القلب الذي نتج عن قلب‬‫الدستور السياسي حكما وتربية والدستور المعرفي علما ومنهجا فأصبحت الأمة لا تكون روادا‬‫بل ببغاوات يحفظون المسنون وليس لهم قدرة السن‪ .‬فلا يتم تجويد الحاصل ولا تدارك‬ ‫الفاشل فيتركم الفشل والقعود الدائم‪.‬‬‫وقد يظن الكثير أن ذلك لا ينطبق إلا على علوم الملة بمعنى أن هذه النظرة كانت‬‫مقصورة على المعرفة الدينية وهذا خطأ فادح علته أكاذيب كاريكاتور الحداثة‪ .‬فأكبر‬‫فلاسفة العرب من حيث العلاقة بالعلم هو الفارابي بعد الكندي‪ :‬إنه يقول في الحروف العلم‬ ‫تم مع أرسطو ولم يبق إلا أن يتعلم ويعلم‪.‬‬‫وإذن فهذا القلب والذهنية المقلوبة لم يكن خاصية يتفرد بها علماء الدين بل هي خاصية‬‫عامة في ثقافة نجدها حتى عند أفلاطون الذي يعتبر الزمان التاريخي محكوما بما يمكن أن‬‫نسميه أن الزمان التاريخي مثل الزمان البايولوجي له أعمار تنتهي بأرذل العمر وهو إذن‬ ‫متنازل وليس متصاعدا‪.‬‬‫وحتى ابن خلدون فهو متأثر بهذه الفكرة وهي أن الكائنات الحضارية مثل الكائنات‬‫العضوية مآلها الفساد وأن ذلك شبه حتمية تاريخية جنيسة للحتمية البايولوجية‪ .‬وهو غير‬‫صحيح حتى في البايولوجيا عندما نفصل بين الفرد الحي والنوع‪ .‬فتوالي الأجيال العضوي‬ ‫لا يخضع لهذا القانون ناهيك عن الحضارة‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪109‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫وطبعا فسأجد من يلجأ إلى اعتبار كلامي هذا فيه تكذيب لما ينسب إلى الرسول في‬‫مفاضلته بين الاجيال فضلا عما حصل فعلا بعد حصول الفتنة والانقلابين السياسي‬‫والمعرفي‪ .‬لكن ذلك ليس فيه تكذيب بل فيه وصف للتجربة الأولى لحال الامة وهو إن صح‬ ‫التعبير جزء من التحذير من عدم العمل بالتذكير‪.‬‬‫فكما بينت في محاولة سابقة بعض الخبر هو إنشاء‪ :‬فعندما يخبر الرسول بما سيحصل ففي‬‫خبره إنشاء بمعنى أن ذلك سيكون كذلك إذا لم تعملوا بالتذكير الاخير‪ .‬هو خبر شرطي‪.‬‬‫وبهذا المعنى ينبغي أن يفهم كل حديث صحيح لأن الرسول منزه عن الكذب ومن ثم فخبره‬ ‫فيه شرط‪ :‬يكون كذا إن خالفتم التذكير الأخير‪.‬‬‫فيكون مكذب الرسول ليس كلامي بل من غفلوا عن الشرط‪ .‬ومعنى ذلك أن الفتنة‬‫الكبرى ما كانت لتحصل رغم أن الرسول أخبر بحصولها لو عمل المسلمون بما جاء في التذكير‬‫الاخير‪ .‬وإذن فكل خبر أخبر به الرسول معناه أنه خبر مشروط بسلوك المسلمين الذي‬ ‫أوصى به القرآن‪.‬‬‫فلا يكون معيار تصحيح الحديث المطابقة بين القرآن والحديث بل المطابقة بين العمل‬‫بالقرآن واخبار الحديث‪ .‬إذا عمل المسلمون بالقرآن حققوا الشرط الذي يجعل حديث‬‫الرسول تحذيرا ضميره سيكون كذا إذا لم تعملوا بما أوصاكم به القرآن الكريم من شروط‬ ‫الاستعمار والاستخلاف‪.‬‬‫لا شك عندي أن الكثير من أصحاب كاريكاتور التأصيل قد يذهب إلى اعتباري بهذا قد‬‫مرقت‪ .‬وقد سبقهم إلى ذلك المرحوم البوطي عندم حاورته في مسألة أزمة أصول الفقه‪.‬‬‫عدم قدرته على فهم ما عرضته لاعتقاده أن أصول الفقه يكفي فيه معرفة قوانين‬ ‫العربية‪ .‬ومنها المقابلة الفجة بين الخبر والإنشاء‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪110‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫ولا يدري من يكفرني بما قلت عن التلازم بين الخبر والإنشاء الشرطي في حديث الرسول‬‫بأنه يكذب الرسول فيتوهم أنه يعلم غيب المستقبل‪ .‬ما يعلمه الرسول كمجتهد هو ما يعلمه‬‫أي مجتهد‪ :‬يعلم العلاقة الشرطية بين الشرط والمشروط‪ .‬فكل ما يخبر به عن المستقبل‬ ‫يضمر‪ :‬سيحصل كذا إذا فعلتم أو لم تفعلوا كذا‪.‬‬‫ما يمكن أن يكفرني به كاريكاتور التأصيل هو تسليمي بأن الرسول لا يعلم الغيب عامة‬‫وغيب المستقبل خاصة‪ .‬ولا يدري أنه يحمل الرسول نتائج هذا الكذب عليه فيصبح حديثه‬‫جله عرضة للتكذيب من قبل كاريكاتور التحديث‪ .‬المسؤول عن الحرب على الحديث هو‬ ‫نسيان الشرط وانتظار المشروط كأنه قضاء وقدر‪.‬‬‫والشرط في كل حديث الرسول هو العمل بما جاء في التذكير الاخير أو الرسالة الخاتمة‪.‬‬‫وما جاء فيها هو ما حصل قلبه رأسا على عقب بسبب الفتنة الكبرى وما تلاها من حروب‬‫أهلية أدت إلى حالة الطوارئ التي حكمت القوانين الاستئنافية فعطلت الدستور السياسي‬ ‫حكما وتربية والدستور المعرفي علما ومنهجا‪.‬‬‫وهذا الكلام يصح على علاقة كل ناصح بمنصوح‪ :‬فلو قال أب لابنه رأى فيه شيئا من‬‫الابتعاد عن تطبيق قواعد السياقة مثلا سيقع لك كذا مضمرا إذا لم تصلح علاقتك بقوانين‬‫السياقة فإنه لم يخبره بما سيقع بل أخبره بشرط تجنبه‪ .‬ومن لم يفهم ذلك فهو جاهل بفن‬ ‫العربية وبفن الكلام الشرطي على المستقبل‪.‬‬‫وهذا من المبادئ الاساسية في التربية‪ :‬بل إن وجود الكلام على الماضي في إعداد أجيال‬‫المستقبل هدفه هو الاعتبار بما فيه من هذه العلاقة بين الشرط والمشروط في الفعل الحر‪.‬‬‫فنحن نتكلم بالشرطية الممتنعة على الماضي فنقول لو تجنب فلان كذا لما حصل له كذا ونعلم‬ ‫أن السيف قد سبق العذل‪.‬‬‫ولو كان التاريخ ‪-‬الفعل الحر إلى حد‪ -‬مثل الطبيعة لامتنع أن نتكلم على الماضي‬‫بالشرطية الممتنعة‪ :‬لو تجنب فلان كذا لما حصل له كذا أو لو عمل فلان كذا لتحقق له كذا‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪111‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫هذا مستحيل في الكلام على الماضي حتى في الفعل الحر لكن الكلام عليه يدل على أن الفعل‬ ‫حر‪ :‬جوهر المطلوب في التكوين للمستقبل‪.‬‬‫والأهم أن ذلك يصح حتى على الطبيعة‪ :‬فحرية الإنسان المشروط بالعلم تجعله قادرا‬‫على التدخل في مجراها بتغيير الشروط للحصول على المشروط الذي يريده إذا علم قوانين‬‫فعلها رغم أن فعلها ضروري‪ .‬لكن الضروري في فعلها هو العلاقة بين الشرط والمشروط‬ ‫وليس المشروط بمفرده‪ :‬ذلك سر قوة العلم‪.‬‬‫وذلك هو معنى قولي إن العلم أداة الإرادة أي إن حرية الفعل الإنساني لا تعني إلغاء‬‫قوانين الطبيعة الضرورية وسنن التاريخ التي لا تتبدل ولا تتحول بل هي تعني أن العلم‬‫بالعلاقة بين الشرط والمشروط وبين العلة والمعلول تمكن من تغيير النتيجة في المعلول بتغيير‬ ‫الشرط او العلة‪ :‬اساس التعمير‪.‬‬‫فيكون الاستعمار في الأرض مشروطا بالعلم بالعلاقة بين الشرط والمشروط وبين العلة‬‫والمعلول وهو جوهر علوم الطبيعة وعلوم الإنسان بمعنى أن الله جهز الإنسان بأدوات‬‫تحقيق الاستعمار في الارض والأمة لما انحطت قتلت هذه الاجهزة ومن ثم فكلامي على‬ ‫العلوم الزائفة قصده قتلها لهذا التجهيز‪.‬‬‫وقد بين ابن خلدون أن فساد معاني الإنسانية يعني يؤول إلى فساد مقومات الإنسان‬‫السوي أعني إرادته وعلمه وقدرته وحياته ورؤيته للوجود كما بينت وطبق نفس الامر في‬‫التربية وفي الحكم أي في بعدي السياسة كما يعرفها القرآن والفلسفة (افلاطون وارسطو)‪.‬‬ ‫فالسياسة تشمل التربية والاخلاق حتما‪.‬‬‫وكل من يخرف عن الأخلاق خارج السياسة ‪-‬ولا أعني بالسياسة التخابث في الفعل الآزف‬‫الذي يوجد في كل علم عاجل حتى في الأخلاق والفقه‪-‬لا يفقه أيا منهما فهي استراتيجية‬‫تكوين الإنسان ليحمي نفسه ويرعاها كعضو في جماعة تعالج العلاقتين العمودية والافقية‬ ‫أي ما به يعمر الإنسان الارض بقيم ما‪.‬‬‫الاخلاق ليست احكاما ذهنية على الأفعال والاقوال والاشياء بل هي قيم متعينة في أفعال‬‫هي بالجوهر علاقات بالذات وبالغير حول رهانات التبادل والتواصل بين البشر‪ .‬ومن‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪112‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫يتصورها ممكنة بمعزل عن الغير لا يفهم أن الفرد لا قيام له كفرد إلى بوصفه عضوا في‬ ‫جماعة على الاقل العلاقة بين الجنسين‪.‬‬‫وغالبا ما يكون المتكلمون على الاخلاق بمعزل عن السياسة بمعنى فن التعامل مع الغير‬‫وهو ليس مقصورا على العلاقة السلطوية هم في الغالب مصابون بكراهية عميقة للغير‬‫وحساسية مرضية في التعامل والتواصل وهو مرض الانطواء الناتج عن عدم الثقة في‬ ‫الذات‪ .‬إنه التوحد المستفيد من الجماعة دون خدمتها‪.‬‬‫مشكلة هذا الفهم العقيم هو تصور السياسة مقصورة على ما له صلة بالحكم والسلطة‪.‬‬‫وهم الابتعاد عن السياسة سوء فهم لمعنى السياسة‪ :‬مجرد الوجود الإنساني سياسي بمعنى‬‫أنه عمل ضمن مشروع شامل لحياته سواء كان ذا صلة مباشرة بالسلطة فعلا أو بصورة غير‬ ‫مباشرة انفعالا‪.‬‬‫فالقول إن من يقتل نفسا بحق حق أو يحييها بحق فكأنما يقتل الناس جميعا أو يحييهم‬‫جميعا يعبر عن هذه العلاقة التي تمثلها السياسة بمعناها الذي هو جوهر الوجود الإنساني‬‫بما فيه من خلقي موجب او سالب بما فيه من المقومات الخمسة الإرادة والعلم والقدرة‬ ‫والحياة والوجود‪ :‬الكل مسؤول‪.‬‬‫وعندي أن كل دعوة لتجنب هذه المسؤولية الجماعية في رعاية الشأن العام من علامات‬‫الانحطاط الذي آلت إليه حال الامة‪ .‬ففضلا عن كون ذلك لا يجنب المرء عواقب ما يحصل‬‫حتى لو دس نفسه في مغارة فإنه دليل تفكك أواصر العمل الذي لا يكون أبدا فرديا حتى‬ ‫في حالة التوحد‪ :‬كل أدوات الفرد جماعية‪.‬‬‫فلا بد للمتوحد من اللغة ومن التراث الرمزي والمادي ومن العناية بذاته غذاء ودواء‬‫وكل ذلك يصبح عند المتوحد كذبا على النفس فضلا عن كونه \"عدم\" اخلاق لأنه دليل‬‫استفادة بجهد الآخرين من دون مقابل‪ .‬لذلك فالنظام الديموقراطي أكثر اخلاقية من أي‬ ‫نظام لأنه يلزم الجميع بدوره في الخيارات الكبرى‪.‬‬‫وأخيرا فالمتوحد دكتاتور عاجز‪ .‬كان يتمنى أن يكون الواحد الحاكم بأمره‪ .‬فشله يجعله‬‫يدعي أنه صار غنيا عن الجماعة فيتوحد‪ .‬لكنه في الحقيقة لا قيام له إلا بما ينتظره من‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪113‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫اعجاب بهذا الموقف الذي يترجم على أنه عزوف عن الدنيا وهو في الحقيقة ليس عزوفا‬ ‫بل سوء فهم لتوالج العالمين‪.‬‬‫فلا فرق عندي بين من يتصور الاستخلاف ممكنا من دون الاستعمار في الارض وهو الموقف‬‫الديني التوحدي أو الخلقي التوحدي وهو مناف تمام المنافاة للرسالة الخاتمة أو التذكير‬‫الاخير وبين من يعكس فيتصور الاستعمار في الارض كافيا ومغنيا عن القيم الاستخلافية‬ ‫التي تضفي عليه معناه الروحي‪.‬‬‫وكلامي على هذا التوالج ليس منطلقه الإيمان بالإسلام وحده بل ما رأيت فيلسوفا كبيرا‬‫في تاريخ الفلسفة بعصوره الاربعة‪ :‬اليوناني والعربي واللاتيني والحديث خلت فلسفته من‬‫هذا الجمع بين الطبيعة والتاريخ وما ورائهما الذي يضفي عليهما معنى ويمكن الإنسان من‬ ‫السكن فيهما‪.‬‬‫وقد يعجب الكثير من المؤمنين أني لا أستثني حتى ماركس ونيتشة من هذا الحكم‪ .‬لكن‬‫ماركس يجعل الماوراء الذي يضفي المعنى محايثا للتاريخ السياسي والاجتماعي ونيتشه‬‫يجعله محايثا للفن وللحياة‪ .‬ومعنى ذلك أن العالمين متلازمان دائما حتى بالنسبة إلى من لا‬ ‫يؤمن بالأديان‪ :‬الدنيا تضيق بالإنسان‪.‬‬‫وتوكيدي على هذا التلازم مدخلا لما سأقوله عن المؤسسات التربوية هدفه التحرر من‬‫الكاريكاتورين الناتجين عن وهم التضاد بين الديني في كل دين (الإسلام الذي يصف نفسه‬‫بكونه الدين عند الله) والفلسفي في كل فلسفة (طلب الحقيقة لذاتها) حتى نستأنف‬ ‫باسترداد ما بفقدانه فسدت معاني الإنسانية‪.‬‬‫أطلت التمهيد للكلام في مؤسسات التربية المشروطة في إعادة البناء للاستئناف أعني‬‫استئناف دور الأمة في استعمار الارض بقيم الاستخلاف حتى تستعيد دورها في نظام العالم‬‫الذي نراه يتشكل والأهم فيه أنه قلب العالم ومنطلق الرسالة يتشكل على حسابها وخاصة‬ ‫حساب اغلبيتها السنية عربا وأتراكا‪.‬‬‫وكان لا بد من توضيح العلاقة بالانقلابين الدستوريين السياسي حكما وتربية والمعرفي‬‫علما ومنهجا والأول ينظم العلاقة الافقية بالإنسان والتاريخ خاصة والثاني ينظم العلاقة‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪114‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫العمودية بالعالم والطبيعة خاصة والتداخل بين الامرين يجعل كلا الدستورين ذا دور‬ ‫فيهما بتقديم وتأخير وبأقدار مختلفة‪.‬‬‫وكان لا بد في ذلك من تحرير الدستورين من الانقلابين ومن حالة الطواري والقوانين‬‫الاستثنائية التي تحول دون السياسة والمعرفة وأداء دورهما في علاج معضلات العلاقة‬‫العمودية بالطبيعة والعلاقة الافقية بالتاريخ تحريرهما من دروشة الدراويش للإسلام‬ ‫وفصل الاستخلاف عن الاستعمار في الارض‪.‬‬‫كل التخلف والانحطاط مصدره هذه الدروشات التي جعلت الامة عزلاء عاجزة عن‬‫حماية نفسها داخليا وخارجيا والسقوط في حروب أهلية لا نهاية لها أدت إلى تفتيت‬‫الجغرافيا شرط القدرة المادية وتشتيت التاريخ شرط القدرة الروحية وقلب كل قيم‬ ‫المرجعية فصار فهم الرسالة الخاتمة بعكس قيمها‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪115‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫مؤسسات التربية نوعان‪:‬‬‫‪ .1‬مؤسسات التربية النظامية وهي نظام التعليم في المؤسسات الخاصة بالتعليم‬‫والتكوين في شروط الاستعمار في الارض بقيم الاستخلاف أو بدونها وهي جزء من المجتمع‬ ‫مثلها مثل أي مؤسسات مختصة في أداء دور جزئي في حياة الجماعة‪.‬‬ ‫‪ .2‬والمجتمع ككل بما فيه من مساوق ومتوالي‪.‬‬‫وهذا النوع الثاني من مؤسسات التربية لا نظامي أي إنه يفعل بوصفه المناخ العام الذي‬‫يعيش فيه كل جيل ويتشرب ما فيه من حاضره وماضيه ومستقبله بمستوياته الحدثية‬‫والحديثية أو الفعلية والرمزية كمناخ جمعي حي بل كحامل لكل التراث الإنساني المتفاعل‬ ‫في حضارته بمقتضى دورها ومنزلتها فيه‪.‬‬‫مثال ذلك أن أي شاب مسلم وهو خارج المدرسة يتشرب كل التراث الإنساني مثل مقولات‬‫الفلسفة اليونانية والاديان التي يتكلم عليها القرآن والممارسات التي ورثتها حضارة‬‫الإسلام من حضارات كل الشعوب التي أسلمت أو التي كان في علاقة مع المسلمين سلمية كانت‬ ‫هذه العلاقة أو حربية‪.‬‬‫وهذا المناخ المزيج يتزايد ولا يتناقص كلما ضاقت الدنيا بساكنيها للتكاثر أولا ولتقدم‬‫وسائل الاتصال والتواصل في المكان وفي الزمان (بتقدم وسائل المحافظة على التراث) ومن‬‫ثم فالجماعة بمجرد وجودها تمثل الركن الاول للتربية اللانظامية بوصفها \"محل\" كل‬ ‫أصناف المؤسسات دون حاجة لملامستها‪.‬‬‫وهذا المناخ العام يتعين فيما يمكن أن نسميه الأخلاق الموضوعية ‪-‬الاثيقا الأعم من‬‫المورال‪-‬والتي هي المحدد الحقيقي لشخصية الافراد في الجماعة لأن فساد معاني الإنسانية‬‫الذي يتكلم عليه ابن خلدون ليس مقصورا على ما يحصل في التربية النظامية فهي صورة‬ ‫مصغرة من نظام التربية غير النظامي هذا‪.‬‬‫ففي مناخ اجتماعي يسيطر عليه النفاق والكذب والغش والخداع والكسل واللامبالاة‬‫بالشأن العام لا يمكن أن تكون أفرادا لهم أخلاق سامية يمكن أن يعتبروا مواطنين يعملون‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪116‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫بما توصي به سورة العسر‪ :‬أن يؤمن بشيء وأن يعمل صالحا وأن يتواصى بالحق وأن‬ ‫يتواصى بالصبر‪ :‬افعال تعكس الامر والنهي في الأقوال‪.‬‬‫وهذا هو معنى فساد معاني الإنسانية‪ .‬لا يمكن أن تعزل المدرسة عن هذا المناخ إلا في‬‫الأقوال‪ .‬لكن الشاب يميز بين الاقوال والافعال من الأسرة فصاعدا‪ .‬ولهذه العلة فالتربية‬‫حتى النظامية مرتهنة بالأخلاق الموضوعية العامة التي هي أصل كل تربية غير نظامية‬ ‫تحدد نوع التلقي للتربية النظامية‪.‬‬‫وقد ينتج عن هذا الوصف شيء من التشاؤم واليأس من الإصلاح لأننا نقع في الدور‬‫والتسلسل‪ :‬بماذا سنبدأ‪ .‬والمشكل ليس خاصا بنا‪ .‬فالمعلوم أن افلاطون حيرته هذه المعضلة‬‫فاضطر إلى الحل الأقصى والأشد هو جعل شرط اليتوبيا فعليا فقال لا بد من نهاية الموجود‬ ‫لتحقيق المنشود خارجه الجماعة‪.‬‬‫فجعل التربية النظامية تجري خارج الجماعة التي تكون قد انتهت أو قد أفنيت أو قد‬‫عزل عنها الجيل الذي يريد تكوينه من دون تأثير التربية التي تجري في مناخ يسيطر‬‫عليه‪-‬فساد معاني الإنسانية بمعنى مقابل لمعناه عند ابن خلدون‪-‬هو مجتمع الاخلاق‬ ‫السوفسطائية أو سلطان القوة والقانون الطبيعي‪.‬‬‫ويمكن اعتبار القضية الأفلاطونية في المضمار (المقابلة سقراط والقانون الخلقي ‪-‬‬‫كاليكلاس والقانون الطبيعي) أو بلغة رمزية دينية الإسلام ودين العجل‪ .‬لكننا في هذه‬‫المحاولة نتجنب اليتوبيا الرمزية والفعلية ونبحث عن شروط قطع التسلسل ورفض الدور‬ ‫من خلال استراتيجية سياسية للاستئناف‪.‬‬‫وليس الحل سرا أو إبداعا شخصيا‪ :‬فالتجربة المحمدية مبنية على أساسين يحرراننا من‬‫المعضلة الافلاطونية‪ :‬مهما تردت الإنسانية فهي لا تعدم بعض من يكون واعيا بهذا التردي‬‫ومن ثم فخلافا لما يعبر عنه تشاؤم ابن خلدون من أن فساد معاني الإنساني مؤذن بأكثر‬ ‫من خراب العمران‪ :‬فناء حضارة أصحابه‪.‬‬‫وهذا المبدأ هو مضمون سورة العصر فمن خلق في أحسن تقويم ثم رد أسفل سافلين يصبح‬‫في الخسر‪ .‬لكن الاستثناء منه بالوعي به وبما يتفرع عنه من علاج مربع هو الإيمان والعمل‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪117‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر يقطع التسلسل ويحرر من الدور فنعلم من أين‬ ‫تكون البداية‪.‬‬‫وهذا هو المبدأ الثاني‪ :‬فالديني في الأديان أو الدين عند الله أو الرسالة الخاتمة أو‬‫التذكير الاخير وكلها مترادفات وتعني الدين الفطري يجعل البداية تكون دائما بتربية‬‫الشباب حيث ما تزال الفطرة أميل إلى مثال المنشود منها إلى الخضوع إلى الأمر الواقع‬ ‫الموجود عند عبيد القعود‪.‬‬‫وتلك هي سياسة الرسول الخاتم‪ :‬ربى شبابا من الجنسين كانوا جنود النشأة الأولى‪.‬‬‫المطلوب تربية شباب من الجنسين لتحقيق الاستئناف‪ .‬لكن بين النشأة الأولى والاستئناف‬‫مرت قرونا من تكوينية معكوسة نكصت عن شروط الاستعمار في الارض والاستخلاف فيها‬ ‫بما وصفنا من الانقلابين‪.‬‬‫وأخطر ما في الظرفية الحالية هو أن متزعمي العلاج هما الكاريكاتوران الداعي إلى‬‫التأصيل بتكرار الماضي الاهلي ولا يدري أنه ليس فيه من قيم الاسلام إلى الاسم والداعي‬‫إلى التحديث بتكرار تجربة الاستعمار الغربي ولا يدري انها ليس فيها من قيم الحداثة إلا‬ ‫الاسم‪ :‬حرب الكاريكاتورين‪.‬‬‫وتلك علة بياننا ما حصل من فساد لمعاني الإنسانية في وضعية الانفعال عند المسلمين وما‬‫حصل من فساد لمعاني الإنسانية في وضعية الفعل عند الغربيين‪ :‬الأولون ظنوا أن‬‫الاستخلاف ممكن من دون الاستعمار في الارض والثانون ظنوا أن الاستعمار في الأرض‬ ‫الممكن من دون الاستخلاف مغن عنه‪.‬‬‫فمن ظن الاستخلاف ممكنا من دون الاستعمار لم يحصل على أي منهما لأنه صار تابعا لمن‬‫اكتفي بالاستعمار في الارض فجعله عبدا له لأن من خلا من شروط الاستعمار أصبح عالة‬‫على من حققها ولم يبق له إلا الكلام على القيم لكن أفعاله كلها متنافية مع أدناها فضلا‬ ‫عن اسماها‪ :‬المسلم فاقد للكثافة القيمية‪.‬‬‫فلا معنى لمن لم يملك الدنيا أن يدعي التخلي عنها ويسمي ذلك تساميا دينيا‪ .‬فهذا كذب‬‫مضاعف‪ :‬هو يتخلى عما لا يملك فلا يسمى ذلك زهدا في الدنيا بل عجز عن التمكن من‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪118‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫شروط ملكيتها والتعالي عنها بعد ذلك دليل تقديم الأسمى على الادنى‪ .‬فيصبح عبدا لمن‬ ‫ساد الدنيا حتى ولم تخلى عن الآخرة‪.‬‬‫وهو ما يعنيه ابن خلدون بالعالة‪ .‬وقد ذكر أن صيرورة من فسدت فيه معاني الإنسانية‬‫عالة بمعيين‪ :‬فقدان كل سعي للفضائل والعجز عن الدفاع عن ذاته وأهله وماله‪ .‬وما رأيت‬‫أحدا أجاد وصف وضع الامة لكأنه بيننا اليوم مثل ابن خلدون في وصفه للعلاقة بين معاني‬ ‫الإنسانية وبعدي الحرية‪ :‬الاخلاق والقوة‪.‬‬‫فليس لفاقد القوة أخلاق إيجابية بل هو مضطر للنفاق والتذلل والتبعية والاحتماء‬‫بالأقوياء فيصبح كلامه على عبادة الله كذبا صراحا‪ :‬هو يعبد حاكم الارض وينافق في‬‫دعوى عبادة حاكم الحاكمين‪ .‬لذلك فعندي أن المسلمين جلهم ليس لهم علاقة أصلا بالقرآن‬ ‫وخاصة علماؤهم من خدم سلطانا عبدا لسيد يحميه‪.‬‬‫وهذه حال كل \"طراطير\" العرب والمسلمين‪ :‬كلهم يخدمون حاميا لأنظمتهم واستبدادهم‬‫وفسادهم ومن ثم فكل عالم يخدم هؤلاء هو في الحقيقة خادم لأعداء الامة والإسلام‪ .‬وما‬‫يصح على جل علماء الدين يصح على الغالبية الساحقة ممن يدعون الحداثة‪ :‬فهم يعبدون‬ ‫أوثان لخلطهم بين العقل والتخريف الإيديولوجي‪.‬‬‫ولحسن الحظ فإن الشعوب بمعزل عن هذه المعارك بين الكاريكاتورين والشباب بجنسيه‬‫فهم اللعبة وإلا لما ثار‪ .‬وعلاجي للمشكل لا يعني أني اعتبر الوظيفية من جنس وضعية‬‫أفلاطون أو حتى ابن خلدون بل إني متفائل وكل ما أسعى إليه هو جعل العلاج ذا أسس‬ ‫واعية بنفسها ذات أصول فكرية نسقية‪.‬‬‫ذلك أن الاستئناف في تاريخ امة عظيمة مثل الأمة الإسلامية لا يمكن أن يكون مجرد فزة‬‫بدوية بل لا بد له من اساس مستمد من مرجعيته خاصة وهي بخلاف أوهام الكاريكاتورين‬‫لا تقابل بين الديني من حيث هو ديني متخلص من تحريفه والفلسفي من حيث هو فلسفي‬ ‫متخلص من تحريفه‪.‬‬‫فأما تخلص الاسلام من تحريف الديني فهو موضع أكثر من نصف القرآن الذي هو نقد‬‫وتفكيك لتحريف الديني وعلاقة ذلك بالحلف الصريح بين مؤسسة الوساطة الروحية‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪119‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫ومؤسسة الوصاية السياسية (آل عمران) هذا سلبا أو إيجابا إذ يبين أن الحقيقة فيما يحيل‬ ‫عليه نصه (فصلت ‪ )53‬وليس فيه‪.‬‬‫وهو يحذر من سر كل تحريف يدعي العلم فيزيف المعرفة (آل عمران ‪ )7‬لأنه ينتج عن‬‫مرض في قلب المقبل عليه وابتغاء الفتنة بمعنى البحث عن سلطان عن طريق علم مزعوم‬‫يكون المآل فيه إلى الحروب الأهلية التي يعلمها الجميع بين الطوائف حتى إنها صارت‬ ‫أحزاب متقاتلة لا تحصى ولا تعد‪.‬‬‫وأما تحرير الفلسفة من تحريفها فهو أهم ما حصل في الفلسفة النقدية العربية وفي‬‫الفلسفة الغربية الحديثة عندما تم التخلص من وهم نظرية المعرفة المطابقة التي تجعل‬‫الإنسان مقياس الوجود‪ .‬فالتمييز بين العلم المحيط الممتنع على الإنسان والعلم النسبي‬ ‫الوحيد الممكن هو أكبر ثورة فلسفية حديثة‪.‬‬‫وهذه الثورة حررت الفلسفة من دعاوى العقل المغني عما يتجاوزه ليس بتقديم علم‬‫يكون مدركا للغيب فهذا منفي حتى على مبلغي الوحي بل ببيان هذا الحد الذي يجعل‬‫المعرفة الإنسانية ثمرة \"التواصي بالحق\" والعمل الإنساني على علم ثمرة \"التواصي بالصبر\"‬ ‫وهما مشروطان بالإيمان والعمل الصالح‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪120‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫ويصح على الاستئناف ما قاله نيتشة على دلالة التاريخ ( ‪Unzeitgemässe‬‬‫‪ )Bertrchtungen‬مع ما بينته من تحفظ على مثله بإضافة الوسيطين بين اولاها وثانيتها‬‫ثم بين ثانيتها وثالثتها‪ .‬فالتاريخ المعلمي والتاريخ المتحفي والتاريخ النقدي ثلاثتها‬ ‫ضرورية في كل استئناف بشرط الوسيطين‪.‬‬‫فالمعلمية هي قيام الروح في الجماعة وهي آثار وتراث وشخصيات ورموز لكنها تموت إذا‬‫لم يوجد ما يحول دونها والتحول إلى متحفية‪ .‬فالمتاحف مثل المقابر هي حفظ الآثار التي‬‫لم يعد لها من الحياة إلا الذكريات‪ .‬فقدت التحريك المشدود إلى المستقبل‪ .‬وهذا هو دور‬ ‫حرية إبداع المعالم اللامتناهية‪.‬‬‫وهذا هو الفرق بينه وبين النقد الذي يقاس على توالي الاجيال الحية بحيث إن الجيل‬‫السالف يدفن من الجيل الخالف ولا يبقى حيا فيه ومحييا له لأن المعلمية ليست معلمية إلا‬‫بقدر ما تمثل معيار القدرة الإبداعية ليس النهائي بل الدال على أن الممكن يبقى دائما‬ ‫ممكنا فلا يحصر في الماضي‪ :‬فاعلية الرموز‪.‬‬‫وإذن فالمتحفية ليست نوعا من التاريخ بل نوع من جموده ومن ثم فهي تنتج عن عدم‬‫الوسيط بين المعلمية والمتحفية والوسيط ليس النقد الهدام الذي يقيسه نيتشه على لامبالاة‬‫الحياة أو الفنان الذي يبدع بمعزل عن الخير والشر بل هو فعل التربية الذي يجعل المعالم‬ ‫تواصل الحياة فلا يكون التاريخ مقبرة‪.‬‬‫وهنا يأتي الوسيط الثاني بين المتحفي والنقدي‪ .‬فالنقدي ليس للمتحفي بل لما يجعله ذا‬‫دلالة مقابرية‪ .‬إنه علاقة بالمعلمي رعاية له وتقريبا من ذوق الشباب بجنسيه حتى يبقي‬‫فيه على الحي فإن المثلث يصبح بالوسطين عين حياة الحضارة التي تحيا بالوساطتين‬ ‫المعبرتين عن فاعلية الفكر الاسترمازية‪.‬‬‫الاحتذاء النقدي هو عين ما عرفت به مفهوم السن بديلا من مفهوم السنة‪ .‬فما يتعلمه‬‫الخالف من السالف ليصبح سالفا هو بدروه لخالف يليه هو أن حفظ الماضي ليس القصد منه‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪121‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫المسنون بل القدرة على السن‪ :‬فأبطال الامة مثلا قد لا تكون بطولاتهم مثلا عليا للمستقبل‬ ‫لكن فعل البطولة في حد ذاته هو المعلم‪.‬‬‫بقي فصلان في هذا الجزء سأخصص الحالي لأشكال المؤسسات التربوية والموالي لمضمونات‬‫التربية وبذلك أكون قد فرغت من المحاولة كلها بأقسامها الخمسة ولكل منها خمسة فصول‬‫فتكون مؤلفة من خمس وعشرين فصلا لبناء شروط الاستعمار في الارض والاستخلاف فيها‬ ‫تداركا لما فقدناه من علاج العلاقتين‪.‬‬‫وسؤال المؤسسات إذا وضع بالالتفات إلى الماضي فجوابه ينبغي أن يحفظ المعلمي فيما‬‫حقته تجربة الامة وأن يحرره المحتفي من المقبرية فيكون في آن جامعا بين المحافظة‬‫والتجاوز‪ .‬والقصد من الجمع جعل المؤسسات التربوية ما نتصور عليه المستقبل الذي يحفظ‬ ‫ويتجاوز بمنطق علاقة المنشود بالموجود‪.‬‬‫وأهم مشكل في المؤسسات التعليمية هو تمويلها وتحقيق أفضل الشروط لجعلها نسخة‬‫مصغرة من المجتمع المنشود في كل ما تحتاج الجماعة لسد الحاجات المادية والروحية بحيث‬‫يكون نظام التربية صانعا لمن سيصنع كل أدوات علاج العلاقتين العمودية والأفقية بصنفي‬ ‫الاداة الشارطة للنظر وللعمل ولغاياتهما‪.‬‬‫ولما كانت هذه الحاجات التي على نظام التربية سدها لا تعالج قضية داخلية فحسب بل‬‫هي بالجوهر في تناسب مع حال الحاجات في العالم وكانت هده مردودة إلى شروط الحماية‬‫وشروط الرعاية الذاتيتين بوصفهما شرطي الحرية للفرد والسيادة للجماعة فإن نظام‬ ‫التربية يصبح من أغلى الأمور كلفة‪.‬‬‫وقد ورثنا نظامين في سد هذه الكلفة‪ :‬نظام تمويل الأوقاف ونظام تمويل الدولة ولم‬‫نصل إلى نظام تمويل المستفيد من ثمرات البحث العلمي أعني الشركات والمؤسسات‬‫الاقتصادية التي تستعمل براءات الاختراع في منتجاتها التي هي بضاعة أو خدمات تمثل‬ ‫أهم مصدر لربحها فتمول البحث وتتسابق فيه‪.‬‬‫وهذا يعني أن التربية لم تصبح بعد مسألة اقتصادية وما تزال عندنا وكأنها مسألة محو‬‫امية وليست تكوينا لكفاءات انتاجية إما للثروة المادية أو للثروة الرمزية ما يجعل المشكل‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪122‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫الجوهري غائبا عن الاذهان وهو التالي‪ :‬هل الدول العربية التي هي محميات لها القدرة‬ ‫على تمويل بحث علمي بمنطق عصرنا؟‬‫لم يعد البحث العلمي الأساسي عملية ورقة وقلم بل هو يتطلب تجهيزات تقنية غير ممكن‬‫لحجم معين من الثروة والسوق التي تمكن من استرجاع كلفة البحث العلمي المنتج لتموين‬‫المتعلمين بالمادة العملية الإبداعية ولذلك فهو من أهم علل تكون المجموعات الكبرى‪.‬‬ ‫ومحركاه هما الحماية والرعاية‪.‬‬‫صحيح أن البحث العلمي الأساسي هدفه المعرفة للمعرفة بصورة عامة لكنه في الحقيقة‬‫مدفوع فعلا وفي الغاية بضرورات الدفاع وضرورات الاقتصاد‪ .‬وفي ذلك حتى لو فرضنا‬‫تونس قد وضعت كل منتجها الخام في خدمة العلم فإن ذلك لا يكفي لبحث قابل لمنافسة حتى‬ ‫الهند فضلا عن امريكا‪.‬‬‫وبذلك تصبح مؤسسات التربية في مجتمعاتنا في الحقيقة مؤدية لعكس الغرض منها‪ :‬فهي‬‫تكون الكسالى والعاطلين وأنصاف المثقفين والإيدلوجيين ولا تكون قوى عقلية تقنية لعلاج‬‫لعلاقتين بالطبيعة وبالتاريخ لأن المجتمعات التابعة والقزمية لا نصيب لها في علاجهما بل‬ ‫بسبب التبعية والحجم‪.‬‬‫فيصبح نظام التربية والتعليم حائلا دون الانتاجين المادي والرمزي بدلا من أن يكون‬‫\"مصنعا\" لأصحابهما الذين يصنعوهما فيكون المجتمع صانعا للإنسان الصانع والإنسان يكون‬‫إنسانا بقدر ما يكون صانعا لأن صنعه لما به يحقق العلاقتين هو صنع لذاته التي هي ثمرة‬ ‫العلاقتين عضويا وروحيا‪.‬‬‫ولا شك أنه يمكن لنظام تربية متخلف ان يبرز فيه بعض الموهوبين‪ .‬لكنهم سرعان ما‬‫تنطفئ فيهم الموهبة إن لم يرحمهم الله بالهجرة إلى بلاد فيها شروط البحث العلمي المادية‬‫والخلقية‪ .‬ذلك أن مجتمعاتنا لا يكفي ما تعانيه من عوائق مادية فإن العوائق الخلقية تقتل‬ ‫كل إمكانية لبروز الموهوبين‪.‬‬‫ومن ثم تجتمع المعوقات الثلاث بأصنافها اللامتناهية‪ :‬المعوقات السياسية والمعوقات‬‫الاجتماعية والمعوقات التربوية النظامية التي هي كلها خاضعة لمنطق المحسوبية واستبعاد‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪123‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫الكفاءات وترقية كل القابلين لما وصفت خاصة في المعيقات الاجتماعية التي تتمثل في فساد‬ ‫معاني الإنسانية‪ :‬أدواء للعلاج‪.‬‬‫والعلاج الأول والأساسي والذي لا شيء يمكن أن يتحقق من دونه هو مشكلة الحجم‪:‬‬‫فعندما تدعي كل قبيلة عربية أنها دولة والكل يعلم أنها محمية فلا أمل لتحقيق شروط‬‫نظام تربوي يمكن أن يبدع ما به تعالج الجماعة العلاقتين علاجا يوفر لها شرط الحرية‬ ‫والسيادة‪ :‬الحماية والرعاية الذاتيتين‪.‬‬‫ستبقى كل الدول العربية وبصورة أدق المحميات العربية بلادا تستورد ما تأكل وتبيع ما‬‫ورثت عن الأجداد ثرواتها الطبيعية وعندما تنضب ستبيع الارض ثم العرض ونحن نرى‬‫ذلك قد بدأ ولست بحاجة لرفع السبابة فأشير إلى ما يفهمه الجميع‪ .‬ما بقينا على هذا‬ ‫النحو فنحن إلى انقراض‪.‬‬‫وسأفترض أن هذا الشرط قد تحقق فأصبح لنا الحجم الكافي للبحث المحقق لشروط‬‫الحماية والرعاية سيكون الشرط الثاني أن تصبح العربية لغة كل العلوم والشرط الثالث‬‫أن تصبح المنظومة التربية وثيقة الصلة الفوقية والتحتية بعلاج العلاقتين‪ :‬العلوم الأساسية‬ ‫للعلاج النظري والتطبيقية للعملي‪.‬‬‫والعلاج النظري هو علاج الاسترماز أو مجال البحوث الأساسية وهي باهظة الكلفة إذ‬‫منها البحث في أسرار الطبيعة والتاريخ وفي غزو الفضاء وفي انتاج شروط الدفاع وشروط‬‫الرعاية (المنتجات الاقتصادية التي تتجاوز مجرد جني ما تنتجه الطبيعة‪ .‬وهذا هو‬ ‫مستقبل القوة في العالم‪ :‬الغذاء والدواء‪.‬‬‫والعلاج العلمي هو كل المهن التي تحتاج إليها الجماعة لسد حاجاتها أولا وللتجارة في‬‫العالم شرطا في التبادل الذي يمكن من سدا بالحاجات بما ينتجه الغير مقابل ما تنجه‬‫الجماعة‪ .‬وهذا شرط التوازن في علاقات التبادل لأن العرب لا ينتجون شيئا يمكن أن‬ ‫يبادلوه غيرهم عدا الخامات‪.‬‬‫وآخر كلامي على المؤسسات هو أسلوب تسيير المؤسسات التربوية ودور الأطراف المتدخلة‬‫فيها‪ :‬ففي القلب المتعلم والمعلم وعلى الطرفين أهل المتعلم المحتاج لإنتاج التعليم (رجال‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪124‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫الأعمال إن وجدوا والدولة إن كانت دولة ذات مشروعات تحتاج للعلم) والموحد لهذا المربع‬ ‫هو سلطة شرعية تخطط للمستقبل‪.‬‬‫فإذا تم تسيير المؤسسة التربوية ديموقراطيا وكان للمتعلم والمعلم فيها حرية التصرف في‬‫إدارتها باعتباره معمل بحث علمي وعملي وباعتبارهما مسؤولين على كل ما يتعلق بها وخاصة‬‫نظامها ونظافتها وامنها واخلاق التعامل فيه ورفعت يد السلطة السياسية عليها أمكن الكلام‬ ‫على نظام تربية حقيقي‪.‬‬ ‫وشرط ذلك هو أن تصبح المؤسسة التربوية بمستوياتها الخمسة‬ ‫‪( .1‬ما قبل الابتدائي‬ ‫‪ .2‬الابتدائي‬ ‫‪ .3‬الثانوي‬ ‫‪ .4‬الجماعي‬‫‪ .5‬وأخيرا ما بعد الجامعي أو التكوين المستمر) نظاما مستقلا عن تسلط السياسي‬‫والنقابي فإنها سيتوالى إدبارها إلى مجرد محو امية لا دور له يذكر في الإنتاج العلمي‬ ‫والاقتصادي‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪125‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫بعد كلامنا على الشكل حان الآن أوان الكلام على المضامين‪ .‬وبه نختم المحاولة كلها إذ‬‫هذه هي غاية الفصل الاخير من الجزء الأخير‪ .‬وللكلام في المضامين إذا كان لعلاج‬‫العلاقتين نجد خاصية كونية تدرجت إليها الإنسانية حتى صارت الآن شبه كونية لوحدة‬ ‫أهدافهما بالنسبة إلى الإنسان كإنسان‪.‬‬‫لا شك أن للتربية غايات مختلفة عند النظر إلى مستويات النضوج الحضاري المختلف بين‬‫الجماعات وما يترتب عليه من تحديد للأوليات المناسبة لظروفها لكنها تمر في الغالب بنفس‬‫الظرفيات بحسب مراحل النضوج الحضاري بمستوييه المادي والرمزي رغم اختلاف‬ ‫الأساليب الثقافية الخصوصية‪.‬‬ ‫فللتربية مقومان‪:‬‬‫‪ .1‬يتعلق بالتربية التي الخاصة باكتشاف كيان الإنسان البدني والروحي أي الذوقي‬‫والفكري وتنميتهما وهي لا تختلف إلا بمقتضى مسألة النضوج الحضاري والعلم بطبيعة‬ ‫الحاجات البدنية والروحية‪.‬‬‫‪ .2‬تأهيل الإنسان إلى حياة سوية وإلى وظائفه في تقسيم عمل الجماعة بحسب ميوله‬ ‫وقدراته‪.‬‬‫وغالبا ما يكون الاختلاف بين الامرين بحسب الجماعات ناتجا إما عن ايديولوجيا‬‫الخصوصية فتصبح الانظمة التربوية تتمايز بمقادير المضامين وتراتبها لكن المضامين تتجه‬‫إلى الوحدة فيهما معا بقدر تقدم العلم بعلم الحياة علم النفس والتأهيل او التنشئة‬ ‫الاجتماعية للإنسان وهي كلها كونية في الجملة‪.‬‬‫ولكن على أرضية هذا الكلية في التكوين البدني والنفسي والتنشئة الاجتماعية لكيان‬‫الفرد ولأعداده لدور في نظام توزيع العمل في الجماعة وكلاهما يقتربان من الوحدة‬‫وخاصة بعد تحقق شبه الوحدة في الحاجات وفي سوقها العالمية تتحدد خطط التمكين مما به‬ ‫تتم السيطرة على المضامين المختصة‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪126‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫وهي حسب رأيي تعود إلى ما يمكن أن نسميه العلوم المساعدة لكل ما عداها من العلوم‬ ‫أو علوم الآلة باللغة التقليدية في ثقافتنا‪ :‬وهي‪:‬‬ ‫‪ .1‬اللسان (أو الالسن)‬‫‪ .2‬والتاريخ أو ما به ترتب الموضوعات المعرفية كتكوينيات منتظمة بحسب توال‬ ‫منتظم‬ ‫‪ .3‬المنطق‬ ‫‪ .4‬الرياضيات‬ ‫‪ .5‬نظرية المعرفة أو الإدراك العلمي‬‫وفي الحقيقة يبدو الكلام على الإدراك العلمي او نظرية المعرفة وكأنه أمر فلسفي شديد‬‫التعقيد وهو غاية وليس بداية‪ .‬لكنه في الحقيقة هو موجود ضمنا في الاربعة المتقدمة عليه‬‫لأنها ليست ممكنة من دونه بل هي سره كونها مشروطة فيما عداها من العلوم‪ :‬أربعتها‬ ‫أنظمة تلق وبث معرفي شرطها رؤية لهما‪.‬‬‫ويمكن القول إنها بالنسبة إلى الفكر مثل نظام الحركة المنتظمة التي بها يسيطر الإنسان‬‫على ذاته وعلى ما تتعامل معه ذاته من أشياء العالم الخارجي بالنسبة إلى أعضاء البدن‪.‬‬‫إنها أعضاء الفكر التي يتعامل بها مع رموز أشياء العالم المسترمزة أو المصوغة باللسان‬ ‫والتاريخ والمنطق والرياضيات معرفيا‪.‬‬‫ومثلما أن البدن لا يستطيع الحركة في العالم المادي من دون أن يربى على الحركة‬‫المنتظمة في عالم الأشياء وأن يكون له خارطة للمكان والزمان فإن الفكر لا يستطع الحركة‬‫في العالم الرمزي من دون أن يربى على الحركة المنتظمة في عالم الرموز وغالبا ما يكون‬ ‫العالم الثاني شرط العالم الأول‪.‬‬‫ورغم أنه لا أحد يجهل أن للبدن قوانينه وأحكامه الخاصة لكن الإنسان له خاصية‬‫استمداد سلطانه الفعلي على البدن من الإرادة والفكر ما كان سليما ‪-‬طبعا في حالة المرض‬‫يختلف الامر‪-‬وذلك بفضل التمرين والتدريب والتعويد لأن الانضباط البدني هو ثمرة‬ ‫التربية ومنها آداب السلطان على أفعال البدن‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪127‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫فالبدن هو نفسه جزء من التعبير بل هو بحركاته وردود افعال جزء مقوم من لغة‬‫التواصل ومن ثم فالتحكم فيه وفي أدوات التواصل والترجمة الرمزية للمعرفة بالعالم‬‫المحيط أو العلوم المساعدة هي البداية المضطرة لكل تربية في كل حضارة ومن أشهر‬ ‫الأنظمة التربوية فيها أساليب حضارات الشرق الاقصى‪.‬‬‫فيكون الهم الاول هو التناغم بين البدن والروح وهو المرحلة الاولى من كل تربية وليس‬‫مشروطا فيها أن يكون المضمون مادة تحفظ بل روح وموقف من الأشياء تتعلم من هذه‬‫الفنون التي تشحذ الفكر والبدن وتحقق التناغم بنيهما ليصبح الإنسان سيدا إلى \"تجهيزه‬ ‫الفني\" للتعامل مع الأشياء ورموزها ومع غيره‪.‬‬‫وخلال التمكن من هذه الفنون الخمسة ومعها التمكن من التحكم في فعل البدن ورد فعله‬‫يحصل تصنيف أول للمواهب والميول عند الأطفال لأن هذه العملية هي جوهر المرحلة‬‫الابتدائية وما قبلها‪ .‬ثم تبدأ مرحلة المراقبة للمواهب والميول حتى يتم التوجيه بحسب‬ ‫المؤهلات في مقومات الذات وبها يكون التصنيف‪.‬‬‫ومرحلة المراقبة هذه المعدة للتوجيه تدوم ثلاث سنوات يتلقى فيها الجميع تكوينا في‬‫المقومات الخمسة أي في تنمية الإرادة (وهي لانتخاب القيادات عامة) وفي تكوين العلم‬‫(وهي لانتخاب المبدعين في المعرفة) وفي تكوين القدرة (وهي لانتخاب المبدعين في القدرة‬‫المادية الاقتصاد)‪ ..‬ثم في تكوين الحياة (وهي لانتخاب الذواقين في الإبداع الجمالي بكل‬‫اصنافه) ثم في تكوين الرؤى الوجودية (وهي لانتخاب أصحاب القدرة على صوغ الرؤى‬‫الوجودي الدينية والفلسفية)‪ .‬وهي القسم الاول من المرحلة الثانوية تنتهي بالتوجيه في‬ ‫واحد من هذه المواهب والمؤهلات بكل اختصاصاتها‪.‬‬‫فتكون المرحلة الثانوية مؤلفة من جزئين (ما قبل الثانوي والثانوي) مثل الابتدائية‬‫مؤلفة من جزئين (ما قبل الابتدائي والابتدائي)‪ :‬والثانوي هو للتخلص المعد للدراسات‬‫الجامعية التي هي بحث علمي من البداية بمعنى أن الطالب يدخل للجامعة في اختصاص‬ ‫تابع لأحد المجالات الخمسة المذكورة‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪128‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫وهي كثيرة‪ :‬فلو أخذنا مثلا مجال العلم لكانت الاختصاصات بحسب أحد العلوم الطبيعية‬‫أو الإنسانية التي هي معلومة في تصنيف العلوم وتكاملها لأنها كلها مثلا لا بد فيها من العلوم‬‫المساعدة لها‪ .‬والتعليم فيها جميعا ليس همه كم المضمون بل روح العلاج التي تمكنه من‬ ‫حيازة كمه في تعلمه الذاتي‪.‬‬‫وهذا يعني أن المؤسسة التربوية ينبغي ان تكون مجهزة بالمخابر والمكتبات والمتاحف‬‫الطبيعية للنبات والحيوان والتاريخية للإنسان والحضارات بحيث تكون مقومات العالمين‬‫الطبيعي والتاريخي بين يدي المتعلم الذي هو باحث مثل معلمه فتكون طريقة التعليم ليست‬ ‫تلقينية بل حوارية في النظرية والخبرة‪.‬‬‫كما أن المؤسسة التربوية ينبغي أن تكون لها مجالس وسلط وكأنها دويلة صغيرة وفيها‬‫يتعلم الطلبة إدارتها بالطريقة الديموقراطية وتداول السلطة في إدارتها وفيها كل شروط‬‫الحياة وخاصة الملاعب والمساجد وكل الممارسات الفنية والجمالية التي تجعل الجيل يتخرج‬ ‫وهو مواطن تام التهيئة ليؤدي وظائفه‪.‬‬‫وهذه الوظائف يجمعها مبدأ الإنسان السوي من أي جنس كان بمعنى أنه كائن اجتماعي‬‫حاصل على شروط المشاركة في النظام الاقتصادي والاجتماعي والسياسي بعد أن تكون في‬‫دور معين اختاره بنفسه للانضواء في الجماعة بوصفه مشاركا فيها كامل الحقوق والواجبات‪.‬‬ ‫بذلك نعد جيل المستقبل لمواصلة البناء‪.‬‬‫وينبغي ألا يكون الوقت المخصص للعمل الذهني معادلا للوقت المخصص للعمل اليدوي‬‫وكلاهما لا يتجاوز خمس ساعات اليوم لأن الأقسام الاربعة الاخرى تتعلق بعمل الطالب‬‫الشخصي فيكون الخمسان لتكوينه وبالباقي لاهتماماته الخاصة غير الدراسية خمسان للنوم‬ ‫وخمس للراحة والأمور الخاصة‪.‬‬‫وينبغي أن يكون الأسبوع الدراسي مؤلفا من خمسة أيام لأن يوما يكون لمن يمارس‬‫العبادات والحياة الدينية يوم الجمعة لأن الغالبية مسلمة ويوم في وسط الأسبوع لقضاء‬‫الشؤون الخاصة والراحة الأسبوعية فيكون العمل السبت والاحد والاثنين ثم الراحة يوم‬ ‫الثلاثاء والعمل يوم الأربعاء والخميس‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪129‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫وليس في ذلك تكلف بل هو شرط الانضباط والديسيبلين‪ :‬فنظام التعليم نوع من الخدمة‬‫العسكرية رغم أنها ذات تسيير ديموقراطي بخلاف الخدمة العسكرية‪ .‬هي تعمل‬‫بالانضباط العسكري للوصل بين البدني والذهني من أجل تحقيق التناغم ومن هنا يكون‬ ‫دور الرياضة مهما ولا بد أيضا من تعلم فنون الدفاع‪.‬‬‫ولا تقتصر فنون الدفاع على نوعه الرياضي كما في مدارس الشرق الاقصى القديمة بل‬‫لا بد من أن يكون في خلال الدراسة التكوين العسكري للجنسين لأن من شروط حرية‬‫الشعوب أن يكون الشعب كله قادر على حماية الجماعة وهو معنى الجهاد فرض عين في حالة‬ ‫الدفاع‪ .‬والدفاع ممارسة على علم‪.‬‬‫وما من أمة بقيت حرة بحق من دون أن تكون كلها مشاركة في الاجتهاد (التواصي بالحق)‬‫ومشاركة في الجهاد (التواصي بالصبر) وبذلك تكون قد أعدت للإيمان بما تؤمن به وللعمل‬‫الصالح فتحقق الوعي بشروط عدم الوقوع في الخسر أو عدم فساد معاني الإنسانية فيها‬ ‫فتستأنف دورها الكوني‪.‬‬ ‫انتهى‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪130‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪131‬‬ ‫الأسماء والبيان‬