Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore إعادة البناء لشروط الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف – أبو يعرب المرزوقي

إعادة البناء لشروط الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف – أبو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2018-02-27 14:32:32

Description: إعادة البناء لشروط الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف – أبو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫فالتحليلي لا يفهم من دون التأويلي حتى في العلوم الطبيعية والتأويلي لا بد له كذلك من‬ ‫التحليلي إلى عند أغبياء حداثيي العرب‪.‬‬‫والحصيلة التي تفزعني هي أن علماء السنة الذين يظنون أنفسهم يدافعون عن الدين‬‫هو أكثر الناس تهشيشا للدين لأنهم ينزعون الأسلحة الوحيدة التي تحمي أي معرفة أعني‬‫العلوم المساعدة لأنهم يخلطون بين استعمال الجهلة لها وحقيقتها‪ .‬ما حصل رد فعل على‬ ‫الباطنية يتكرر رد فعل على العلمانية‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪48‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫والآن وقد فرغت من بيان أثر الفتنتين على الإسلام أو السنة وموقف رد الفعل‬‫والانكماش الذي يغلق الانفتاح القرآني على كل جهد انساني لتحقيق شروط الاستعمار في‬‫الارض والاستخلاف فيها علما وعملا على علم والاكتفاء بتشويه المرجعية ومطالبتها بعكس‬ ‫حقيقتها فلنبدأ في الكلام على العلوم المساعدة‪.‬‬‫فإذا كان القرآن يعرف الإنسان بمهمتيه اللتين هما عين كيانه ‪-‬الاستعمار في الأرض‬‫لامتحان اهليته للاستخلاف‪-‬وكان الله قد جهزه بما يحقق به هذين الدورين فكيف لأمة أن‬‫تنجح إذا هي كما قال ابن خلدون قتلتهما في أبنائها منذ نعومة أظافرهم في تربيتهم ثم في‬ ‫حكمهم كهولا وشيوخا بتحريف المرجعية؟‬‫ولما كنت المرجعية تصف نفسها بكونها التذكير الأخير والرسالة الخاتمة فلا يد أن يتحقق‬ ‫فيها شرطان‪:‬‬ ‫‪ .1‬فالأخير ينبغي ألا يبقي لما بعد ممكن ومن ثم فينبغي أن يكون الأتم في جنسه‪.‬‬‫‪ .2‬والخاتم إذا لم يكن خاتما للحياة وكانت الحياة دائمة التطور فلا بد أن يتضمن‬ ‫شروط هذا التطور مقوما لمضمون رسالته‪.‬‬‫لذلك فلا بد أن يكون هم الرسالة منصبا على العلاقة بين المرسل (الله) والمرسل إليه‬‫(الإنسان) وأن تكون هذه العلاقة المباشرة هي عين التلازم بين الذاتين الحريتين‬‫المستخلفة والمستخلفة وأن يكون كل منهم يفهم لغة الثاني‪ :‬والمشكل‪ :‬كيف يمكن للإنسان‬ ‫أن يفهم لغة الله إن سلمنا بأن الله يفعل‪.‬‬‫وهنا أريد أن أضع فرضيتي الاساسية في تحديد مفهوم المتشابه‪ :‬من يقرأ القرآن يفهم‬‫قصده في كلامه على ذاته بأنه كله متشابه‪ .‬ومن ثم فلا بد من فهم العلاقة بين كله متشابه‬‫وبعضه متشابه‪ .‬دلالة العلاقة بين التشابهين هي المحيرة لذي العقل فضلا عن الباحثين‬ ‫عن \"البوز\" من دجالي الحداثيين‪.‬‬‫ولا أريد أن أعلق على أحد ممن يتكلمون في الدين في تلفزات تونس ومصر وبدأ يلحق‬‫بهم بعض المغفلين ممن يسمون أنفسهم ليبراليين وعلمانيين في المعقل الاخير للمحافظة‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪49‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫على بعض \"الثوابت\" في ثقافة المسلمين حتى وإن غلب عليها الفلكلور أكثر من القيم السامية‬ ‫التي يعرف بها الإسلام‪.‬‬‫وكثير ما يقال عن الحماقة أنها لا علاج لها‪ .‬لكني اعتقد أن الأمر لا يتعلق بالحماقة بل‬‫بعمى البصيرة‪ .‬فلو كانت الأديان كلها متماثلة لكانت مراحل المعرفة الإنسانية كلها متماثلة‪.‬‬‫ألسنا نميز في المعرفة الإنسانية كاسترماز لموضوعاتها بين ما هو علمي وما هو ليس بعلمي‬ ‫بمعايير شبه اجتماعية؟‬‫إني أزعم افتراضا واعتقادا أن أهم خاصية في القرآن الكريم أنه النص الديني الوحيد‬‫على حد علمي وقد درست الكثير من النصوص الدينية الوحيد الذي يميز بين الاديان‬‫التاريخية والديني فيها من حيث هو ديني ويعتبره واحدا لكل البشرية فيحرره من‬ ‫العرقيات والثقافيات والتاريخيات ويعتبره فطريا‪.‬‬‫كما أنه لا يكتفي بذلك بل يعتبر أن تعدد الأديان بسبب ما تختلف به بعضها عن البعض‬‫من شروط التسابق في الخيرات للوصول إلى الديني فيها محررا مما يحول دون الإنسان‬‫وفهم منزلته الوجودية التي هي عين الديني والوعي الإنساني بهذا الديني في الأديان‬ ‫أعني ما في كيانه من العلاقتين المقومتين‪.‬‬‫ثم هو قد أمد الإنسان بمعايير امتحان آخر تذكير‪ :‬لم يفرضه عليه بل قدمه له وقال‬‫له إذا أنت أردت أن تتبين حقيقتي فانظر فيما سيريكه الله من آياته في الآفاق وفي نفسك‪.‬‬ ‫لم يقل له خذ وصدق واقفل فاك‪ .‬ما هذا؟‬‫هل يمكن لمن له إرادة وعلم وقدرة وحياة ووجود كلها مطلقة ثم يضع رسالة للامتحان؟‬‫تلك هي معجزة القرآن الكريم‪ .‬ليس القرآن مدونة علمية في أي من علوم الملة بل هو‬‫تذكير بما يترتب على هذه الصفات من سلوك يحقق شروط الاستعمار في الارض بقيم‬‫الاستخلاف إذا استعمل الإنسان ما جهز به من أدوات فعل أهمها العلم والعمل على علم في‬ ‫العلاقة بالعالم وفي العلاقة بين الناس‪.‬‬‫وذلك يعني امرين‪ :‬الأول هو التذكير الميثاق أو شهادة الإنسان على نفسه في علاقته‬‫المباشرة بربه (الأعراف ‪ )173-172‬وفي علاقته غير المباشرة بتوسط الطبيعة والتاريخ‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪50‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫(الآفاق) وبتوسط \"أنفسهم\" بمعنى ذواتهم (لا بمعنى موضوع علم النفس) أي كيانهم الذي‬ ‫هو في آن عضوي وروحي (وعي العضوي بذاته)‪.‬‬‫والأهم في الروحي ليس مجرد وعي العضوي بذاته وهو معنى قولي \"أنا\" بل الوعي بما‬‫يحيط به وبما ورائه أي بالآفاق الطبيعية والتاريخية وما ورائهما مما يجعلهما ما هما ويجعل‬‫علاقتهما بالإنسان هي ما هي بحيث إن الإنسان من دونهما لا يمكن لمقومي كيانه أن يتحققا‬ ‫وخاصة ما يتطلب علمه وعمله على علم‪.‬‬‫بهذا المعنى فالقرآن يضع نفسه تحت الاختبار العلمي دون أن يكون علميا بل هو شرط‬‫كل علم‪ :‬فهو لا يعطيك مضمونا علميا بل يعطيك الموقف العلمي الذي يجعلك بنفسك تصل‬‫إلى المضمون العلمي الذي من دون لن تكون سيدا لا على نفسك ولا على محيطك ولا خاصة‬ ‫على تجاوزهما فيحررك من كل سلطان لا ينبع منك‪.‬‬‫يعتبرك مسؤولا كفرد وحرا من الوسيط (علاقة مباشرة بربك) ومن كل وصي (علاقة‬‫مباشرة بأمرك) ويذهب إلى حد اعتبارك حرا في أن تؤمن به أو تكفر ويعتبر حرية‬‫ضميرك رهن تبينك بنفسك للرشد من الغي وليس ذلك في مجال العقائد فحسب بل وكذلك‬ ‫في مجال تبين حقيقة الرسالة باختبار المباشر بغير المباشر‪.‬‬‫لكن العلاقة المباشرة فرضية والعلاقة غير المباشرة امتحان تجريبي لهذه الفرضية ولا‬‫تصبح الفرضية مقبولة عن قناعة إلا إذا أيدتها التجربة‪ .‬ولهذه العلة كان الرسول الخاتم‬‫كلما عاجزه أحد ممن تعودوا على الأديان السابقة وخاصة على الإسرائيليات رد بأن‬ ‫المعجزات للتخويف وليس لإقناع الأحرار‪.‬‬‫ما أسميه إعادة البناء لشروط الاستئناف (الاستعمار في الارض والاستخلاف الذي توقف‬‫بسبب القوانين الاستثنائية في المعرفة والسياسة) لا يتوجه إلا إلى من تحرر من هذه‬‫المعيقات التي جعلت الأمة تنكمش فتصبح عقيما لا تبدع هذه والشروط ولما يبدعها غيرها‬ ‫يزعم دجالوها أنها موجودة في النص‪.‬‬‫ولا يدرون ضرر ذلك‪ .‬فهو أولا كذب على القرآن وهو ثانيا قبول بعدم القيام بالجهد‬‫الذي طلبه القرآن نفسه أمرا والبقاء في التخريف الذي نهى عن بدلا من شحذ الأذهان‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪51‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫لإبداع ما به يتقوم وجود الإنسان بدلا من كسل المستهلكين الذين سماهم ابن خلدون عالة‬ ‫على غيرهم لفساد معاني الإنسانية فيهم‪.‬‬‫والآن فلأخصص كلمات وجيزة لما كان يمكن أن يكون ل َم ل ْم تصب الأمة في مقتل بحكم‬‫توظيف اعدائها لما هو شرط البقاء ليكون مجرد أداة يحاربونها به وبدلا من تعلمه اعتبره‬‫هو بدوه عدوا فقلوه ولم يهتموا به بل اعتبروه هو نفسه عدوا للدين‪ :‬الفلسفة وعلومها‪.‬‬ ‫والأعداء في الفتنتين لم يتجاوزوا أدلجتها‪.‬‬‫فأقصى ما أنتجته الفتنة الكبرى هو الباطنية وتخريفات اخوان الصفا ودحل الملالي‪.‬‬‫وأقصى ما انتجته إيديولوجيا الفتنة الصغرى هو الحداثوية القشرية وتخريفات أدعياء‬‫النقد الديني بدل التمكن الحقيقي من العلوم المساعدة أو العلوم الأداة‪ :‬فليذكر لي أحد‬ ‫اسم عربي واحد أبدع شيئا يعتد به فيها‪.‬‬‫لما اقرأ من يدعون نقد الأديان من العرب مشارقة ومغاربة‪-‬وجلهم من دارسي الآداب‬‫العربية‪-‬لا يتجاوز التقريب الجمهوري الذي غالب ما يرجع إليه من مراجع ومصادر ليس‬‫فيه لصاحب النقد غير ذكر الإسلام ولست واثقا من أنه فعلا قرا المصدر فضلا عن أن‬ ‫يكون قد فهمه‪.‬‬‫فأول علم مساعد هو علوم اللسان‪ .‬وهي أهم علم آلة في فهم النصوص الدينية‪ .‬ألم تكن‬‫الأمة متعددة الأقوام واللغات؟ فلم لم نجد دراسات مقارنة بين اللغات التي هي شرط فهم‬‫أن نحو أي لغة ليس علما بل هو مجرد فن لتعليم تلك اللغة وأن العلم يبدأ عندما ندرس‬ ‫اللساني بما هو لساني؟‬‫والعلم المساعد الثاني هو التاريخ‪ .‬والحمد لله فالخطوة الاولى كانت لعلامتنا ابن‬‫خلدون‪ .‬ولهذه العلة أكثر من الإشارة اليه ولا يعني ذلك أني أعتبر كلامه قولا فصلا‪.‬‬‫فلا أحد من البشر قوله فاصل‪ .‬وإنما أعني انه طلب شروط نقد علم التاريخ من حيث هو‬ ‫تاريخ ولم يكتف بتدوين تاريخ بعينه‪.‬‬‫وثالث العلوم المساعدة هو الرياضيات‪ .‬وهنا لا بد من إشارة مضاعفة‪ .‬فأولا كل من‬‫درس فلاسفة العرب يجد أنه بعد الكندي والفارابي لا يوجد فيلسوف عربي واحد له الزاد‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪52‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫الرياضي المحترم بحيث إن منحنى العلم في الفنون الفلسفية بعدهما كان متنازلا وليس‬ ‫متصاعدا‪ .‬الكندي أفضلهم وبعده الفارابي‪.‬‬‫ولذلك فالعلماء في الرياضيات لم يكونوا من الفلاسفة بل كانوا صنف ثالث بين علماء‬‫الدين والفلاسفة وهم فعلا قد أبلوا البلاء الحسن‪ .‬وعندي أن من يمكن أن يعتبر قد تجاوز‬‫الرياضيات التقنيات إلى محاولة التفكير فيها وفهم آليات عملها الاسترمازية هو حفيد ابن‬ ‫قرة في كتابه عن التحليل الرياضي‪.‬‬‫ومشكلي ليس ما حققه المسلمون في العلوم بل كون هذا التحقيق عصاميا أولا ولم يدخل‬‫في المنظومة التعليمية العامة التي كانت أشبه بما كانت عليه جامعاتنا في لحظة هجوم‬‫الاستعمار علينا وهو أمر لم يغفله ابن خلدون عندما قارن بين العدوتين الشمالية‬ ‫والجنوبية للأبيض المتوسط في عصره‪.‬‬‫وأختم هذه المحاولة بالمسألتين الاخيرتين‪ :‬المنطق وأصل كل العلوم المساعدة أو نظرية‬‫المعرفة والابستمولوجيا في علاقتها بالأنطولوجيا (نظرية المعرفة في علاقتها بنظرية‬‫الوجود)‪ .‬وهنا أجدني مضطرا لنفس الجناية التي أحاكم عليها من بعض \"المفكرين\" ممن‬ ‫ابن تيمية سلوك من ليسوا أكثر منهم بلادة‪.‬‬‫قرأت مرة لأحد المغاربة تحول إلى بوق ملالي ‪-‬رأيته مرة في دمشق بزي الملالي يتذلل‬‫لأسياده‪-‬حاول بيان ثقافته المنطقية متوهما أني اهتم كثيرا بالاعتراضات على شروط‬‫التصور والتصديق والحد إلخ‪ ...‬مما لا يخلو منه كلام سابق على ابن تيمية‪ .‬لو كان هذا‬ ‫هو المشكل لكن كل غبي مثله فيلسوفا‪.‬‬‫لم يكن مشكل ابن تيمية شروط التصور ولا التصديق ولا الحد ولا البرهان ما كان الأمر‬‫متعلقا بالمقدرات الذهنية‪ .‬مشكله هو ما وراء المنطق ليكون علما مساعدا يمكن من‬‫\"استرماز\" الوجود الخارجي‪ .‬مشكلة هل التحليلات الأواخر وليس التحليلات الأوائل ومن‬ ‫ثم فهو نظرية المعرفة وأنطولوجيا المنطق‪.‬‬‫ولهذه العلة اعتبره الوحيد الذي تجاوز فلسفة النظر اليونانية كلها بمحرد أن تساءل‬‫عن هذه العلاقة بين انطولوجيا المنطقي ونظرية المعرفة ومن أنهى خرافة المطابقة‪ .‬وهو‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪53‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫بهذا المعنى مؤسس فلسفة حديثة في النظر تأسيس ابن خلدون فلسفة حديثة في العمل‪.‬‬ ‫وقد حاولت بيان ذلك في غير موضع‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪54‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪ -‬القسم الثالث ‪-‬‬ ‫أنهينا المجموعة الثانية وبقيت ثلاث‪:‬‬ ‫‪ .1‬مجموعة ثالثة في المؤسسات السياسية‪.‬‬ ‫‪ .2‬ومجموعة رابعة في المؤسسات التربوية لتكون المجموعة الأخيرة‪.‬‬‫‪ .3‬في المؤسسات الاجتماعية وهي حصيلة ذلك كله واصله في آن‪ .‬ذكرت بها حتى يعلم‬ ‫القارئ إلى أين نحن ذاهبون في إعادة البناء للاستئناف‪.‬‬‫وهدا الترتيب ليس غفلا ولا عفويا بل هو مقصود‪ :‬فالمؤسسات السياسية هي التي‬‫اعتبرناها أصل الداء في الفتنتين الكبرى التي أحياها من صارع الإسلام دائما بحلف صريح‬‫مع الأعداء والفتنة الصغرى التي يراد زرعها بنفس الحلف بينهم وبين من يحقق التخريب‬ ‫الداخلي في الإسلام من المنتسبين إليه‪.‬‬‫وإذن ففيها نجد نتائج ما سبق أن درسناه في المجموعتين السابقتين وهي التي ينتج عنها‬‫بما فيها مما تقدم عليها ما سنحاول وصفه من ادواء المجموعتين الأخيرتين وبذلك ننهي‬‫هذه المحاولة في إعادة البناء آملين ألا يكون ما حاولناه سابقا في الكلام على علوم الملة مجرد‬ ‫كلام بلا ثمرة فعلية‪.‬‬‫ما أنوي عرضه ليس تاريخا للمؤسسات السياسية بل هو استرماز بنيوي يفهمنا الحدود‬‫البسيطة التي بتواليفها تكونت بنية الصراعات السياسية في الحضارة الإسلامية‪ .‬وهي‬‫طبعا‪-‬كما هو موقفي ليست خاصة بالإسلام بل هي بنية كونية لا تخلو منها حضارة‪-‬افترضها‬ ‫لبناء نموذج نظري للتحليل شبه البنيوي‪.‬‬‫سبق أن بينت أن الإسلام من حيث تعريفه لنفسه بكونه رسالة التذكير الأخير والرسالة‬‫الخاتمة فهو بالضرورة سيكون متضمنا للكافي والشافي من التذكير مما هو حاصل عند‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪55‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫الإنسان بمقتضى تعريف الرسالة له والتعليل الصريح لما يعلل الختم بمعنى أن طبيعة المهمة‬ ‫والتجهيز المانع من الاعتذار عن الفشل‪.‬‬‫وهي إذن رسالة واصلة بين عالمين أحدهما محيط بالثاني يتقدم عليه ويتأخر عنه‬‫ويراقبه بين البداية والغاية وبون زماني بالنسبة إلى العالم المحاط ولا زماني بالنسبة إلى‬‫العالم المحيط الذي هو سرمدي ما يجعل الرسالة وصلابين الزماني واللازماني ومن ثم فهي‬ ‫رسالة بالضرورة متشابهة الاسترماز كله‪.‬‬‫وقد أشرت سريعا في آخر فصول المجموعة الثانية إلى العلاقة بين نوعي التشابه في‬‫القرآن البعضي والكلي‪ .‬فالقرآن يميز في القرآن ما هو محكم وما هو متشابه لكنه يصف‬‫القرآن كله بأنه متشابه‪ .‬وهذه ثنائية محيرة لولا هذا الوصل بين العالمين‪ :‬فالتشابه الكلي‬ ‫يتعلق بإسترماز المحيط بالمحاط‪.‬‬‫كل كلام الله في الرسالة ترجمة للعالم المحيط برموز من العالم المحاط أو بما يوحي‬‫للإنسان بتشابه وتشبيه لولا احتراز ليس كمثله شيء (الله) واحتراز لا عين رأت ولا أذن‬‫سمعت ولا خطر على بال بشر (الحياة الاخرى)‪ .‬ولو لم يكن في كيان الإنسان ثنائية‬ ‫القطبين أو علاقة الذاتين لاستحال التراسل‪.‬‬‫قد يعجب القارئ من استعمالي 'تراسل\" للظن بأن الله يرسل رسائل للإنسان والإنسان لا‬‫يرسل رسائل إلى الله‪ .‬وهذا غير صحيح‪ .‬الله أيضا يتلقى رسائل من الإنسان بل ومن كل‬‫إنسان سواء كان مؤمنا أو غير مؤمن‪ .‬ولذلك فهو سميع‪ .‬الدعاء رسالة الفعل رسالة القصد‬ ‫في الفعل راسلة النوايا‪ :‬عليم بالسرائر‪.‬‬‫وفي الحقيقة فكل الموجودات متراسلة لان ما فيها من شروط قيامها متوالجة وعلى هذا‬‫الأساس نفيت خرافة المنطق الجدلي‪ :‬فشرط هذه الخرافة أن يكون الشيء متنافي الكيان‬‫في ذاته سراع بين موجب وسالب وكأنه منفصل عما عداه من الموجودات فضلا عن الصراع‬ ‫بين كائنين سيد وعبد مثلا‪ :‬الوجود أوتار متناغمة‪.‬‬‫ولا بد هنا من أن أذكر حقيقة تمر في غفلة منا جميعا‪ :‬فمن خاصيات البعد الروحي من‬‫الإنسان إذا كان حيا وفاعلا أنه يكون بالمرصاد لما لم قد يطرا عليه من جديد في إنصاته‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪56‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫للوجود فيجعل ما حصل له سابقا ضمن ما يصبح عادة فيتولاه البدن عملا شبه لاواعي وهو‬ ‫العادة‪ :‬علة السهو في فعل العادة الآلي‪.‬‬‫ومن هذا الباب كثرة السهو في الصلوات وفي كل الافعال التي تتكرر حتى تصبح عادة‬‫فتصبح وكأن الإنسان ليس حاضرا في عمله المعتاد‪ .‬وقد عاب القرآن هذه الظاهرة لأنها‬‫شديدة التأثير في تنويم الروح عند الإنسان (عن صلاتهم ساهون تعني كذلك فيها عند‬ ‫القيام بها وليس في عدم القيام بها)‪.‬‬‫ولما كانت الصلاة مراسلة من الإنسان مع ربه فإنها تفقد طابعها بهذا المعنى‪ .‬لكن البدن‬‫نفسه متراسل مع العالم كله فهو لا يتنفس إلا لأنه في العالم وقس عليه كل شروط بقائه‬‫التي تجعل العالم وكأنه صدر أم حنون يرضع كل الموجودات التي فيه بكل شروط قيامها‬ ‫ولا يمكن أن يكون ذلك عملا بلا غائية‪.‬‬‫وهذه الغائية بعضها يتحقق بقانون الطبائع وهو قانون الضرورة وبعضها يتحقق بقانون‬‫الشرائع وهو قانون الحرية أي إن الإنسان هو الذي يدير شأنه الروحي والمادي بسلوكه‬‫الذي هو سياسة ذاته من حيث سياسة علاقته بالعالم (العلاقة العمودية) وعلاقته بالبشر‬ ‫(العلاقة الافقية) وهذا مفهوم السياسة‪.‬‬‫وواضح أن علاقة الإنسان بالعالم السياسية لا تكون من دون علم قوانين الطبيعة وأن‬‫علاقته بالآخرين من جنسه السياسية لا تكون من دون علم بسنن التاريخ‪ :‬علم الضرورة‬‫وعلم الحرية شرطان في قيام الإنسان وكلاهما ثمرة سياسة العلاقة العمودية والعلاقة‬ ‫الافقية وهما متشارطتان حتما‪.‬‬‫فالفرد الإنساني لا يمكنه كفرد أن يقوم من دون الجماعة للحماية والرعاية ومن هنا‬‫جاءت ضرورة التنظيم السياسي للعلاقات في الجماعة (التاريخ) وتقدمها على التنظيم‬‫السياسي للعلاقات بينها وبين الطبيعة (الطبيعة)‪ .‬وهذا التنظيم لا يكون إلا عملا على‬ ‫علم وإلا فهو يؤدي إلى كوارث في العلاقتين‪.‬‬‫وبهذين المعنيين يعلل ابن خلدون الدولة التي هي نظام المؤسسات السياسية التي تقوم‬‫على تنظيم هاتين العلاقتين الافقية بين الناس في جماعتها وبين جماعتها والجماعات‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪57‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫الأخرى في المعمورة ثم بينها وبين الطبيعة مصدر حياة الجميع‪ :‬من هنا الخلافات بين البشر‬ ‫حول القضية السياسية وما يؤسسها عقديا‪.‬‬‫فكيف تكونت الخلافات التي أدت إلى الفتنة الكبرى والتي ترتبت عليها في الفكر‬‫السياسي الإسلامي حتى نفهم علل وصولها إلى ما سميناه تعطيل الدستور وحالة الطواري‬‫التي دامت أربعة عشر قرنا ونيفا وصارت كل المؤسسات السياسة الإسلامية اسمية لا حقيقة‬ ‫لمسماها وأصيبت السنة بالفصام كلاهما غير فعلها؟‬‫والفرق بين بين الشيعة السنة‪ .‬فالشيعة لم تعطل الدستور بل ألغته نهائيا لأنها أعادت‬‫الوساطة الروحية (الكنسية) والحق الإلهي في الحكم (الوصية)‪ .‬لكن السنة عطلته ولم‬‫تلغه في الأقوال لكنه في الأفعال أبقته معطلا تماما وأصبح للامة وسطاء (فقهاء ومتصوفة)‬ ‫وأوصياء بالتغلب وليس بالحق الإلهي‪.‬‬‫والتفسير السني كان مبدا الضرورات تبيح المحظورات أي إن ضرورة تجنب الفوضى‬‫وتقديم دفع الضرر على تحقيق المنفعة هي التي بررت حالة الطوارئ لمدة أربعة عشر قرنا‬‫حيث صار التغلب الذي أريد به منع الفوضى أساس كل فوضى لأن الحاكم الموجود يستعمل‬ ‫البطش للبقاء والذي يريد أخذ منه يبطش أكثر منه‪.‬‬‫فتصبح الامة في حرب أهلة دائمة وهو ما حصل في كل تاريخنا منذ الفتنة الكبرى‪ :‬حكم‬‫بالأحكام الاستثنائية وبقاء الدستور حبرا على ورق وهو مصوغ صياغة لا بأس بها في‬‫مصنفات الأحكام السلطانية ولو طبق لكان بداية جيدة جدة لتحقيق أهم شروط الدستور‬ ‫كما حددها القرآن في الشورى ‪ 38‬وفي النساء ‪.58‬‬‫وبذلك يتبين أن الرسالة التي هي التذكير الاخير تتضمن كذلك المشروع الذي يحقق‬‫الحرية الروحية (لا وساطة) والسياسي (لا وصاية)‪ .‬مدار الخلاف الاول قسم الامة إلى‬‫سنة وشيعة‪ .‬إما تنفي الوساطة والوصاية أو العودة إلى الوساطة الكنسية ووصاية الحق‬ ‫الإلهي في الانظمة حررنا منها‪.‬‬‫وهذا الانقسام الأول بدأ جنينيا قبل أن يدفن الرسول الخاتم ثم تطور إلى أن آل إلى‬‫الفتنة الكبرى‪ .‬وكانت الحروب التي تلتها بعضها عنيف جرى في القتال والثاني لطيف جرى‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪58‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫في الجدال‪ :‬الخروج في ساحة القتال كان على الإمام علي والخروج في الجدال كان على‬ ‫الحسن البصري‪.‬‬‫فصارت الرؤى السياسية للنظام الذي يدعى أنه نظام الإسلام صارت أربعة‪ :‬ما صار مذهبا‬‫شيعيا والتسنن ما صار مذهبا سنيا وكلاهما يدعي تمثيل الفهم الاصح للإسلام ثم خوارج‬‫على التشيع في ساحة القتال وخوارج على التسنن في ساحة الجدال‪ .‬مذهب الوصية الخاصة‬ ‫بآل البيت مذهب الاختيار من قريش‪.‬‬‫والخوارج على المذهب التشيع يعممون الوصية على العباد الصالحين ولا يقصرونه على‬‫آل البيت والخوارج المذهب السني يعممون الاختيار على العقلاء من المؤمنين‪ .‬وإذن فقد‬‫أصبح لحكم الجماعة أربع رؤى كلها تدعي تمثيل رؤية الإسلام فتكون رؤية الإسلام التي‬ ‫لم تكتشف بعد هي الأصل والباقي تأويلات‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪59‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫لكن الصراع السياسي الذي خرب المؤسسات لم يقتصر على هذه الفروع الاربعة التي‬‫تدعي تمثيل فهمها للإسلام وكل منها يستثني الباقي ويمرقه من الملة بل إن بقاء عادات‬‫الجاهلية وصمود بيزنطة في كل جاهليات الشعوب التي فتحت أرضها ودخلت للإسلام كل‬ ‫ذلك كان له تأثير على هامش هذا المربع وأصله‪.‬‬‫وحفظا للتناظر بين العوامل التي يدعي اصحابها أنها هي القراءة الصحيحة للإسلام‬‫والعوامل التي سأسميها عوامل خارجية يتعرف الجميع أنها لا تمت إلى الإسلام بصلة وليكن‬‫أصلها أثر جاهليات متقدمة على الإسلام عند الشعوب التي أصبحت إسلامية وتسترت بأحد‬ ‫هذه الخيارات الاربعة الأصلية‪.‬‬‫وهذه الخيارات المتنكرة في الاربعة الاول بنفس الذريعة التي تتذرع بها هذه الخيارات‬‫يمكن ردها إلى مربع كذلك وأضلعه هي جاهليات الاقليم وأهمها العربية والتركية‬‫والأمازيغية والسودانية (بمعنى سودان افريقيا كلهم وليس السودان العربي الحالي) ثم‬ ‫الصليبية ثم المغول‪ .‬التنكر حصل بعد اسلامهم‪.‬‬‫لكن اسلامهم وتكوين دويلات والبعض صار امبراطوريات في المشرق وفي المغرب وحتى في‬‫الهند وافريقيا ما دون الصحراء كل هؤلاء بقي لتقاليدهم دور في الممارسات السياسية التي‬‫هي شديدة البدائية ولعل ازدهار التصوف فيها علته هذه العلاقة بين ميل الأنظمة‬ ‫البدائية للسحر والخرافة وعبادة الأوثان‪.‬‬‫وأختم بعنصر خامس كان ولا يزال يعتبر منافسا للإسلام ورؤاه بما فيها السياسية أعني‬‫الفكر اليوناني الذي نقل إلى العربية والذي كانت مدرسة اخوان الصفاء وجل الفلاسفة‬‫في الاسلام يعتبرون رؤى أفلاطون (أرسطو لم تكن فلسفته السياسية معروفة بما يكفي لأن‬ ‫السياسة والدساتير لم يترجما إلى العربية)‪.‬‬‫عشرة عناصر لم يخرج عنها الفكر السياسي الذي كان يصاحب الفوضى التي آل إليها‬‫وضع الامبراطورية الإسلامية‪ :‬الأربعة التي تنسب إلى فاعلية داخلية للمشروع ذاته مع‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪60‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫المشروع ثم أربعة خارجية مما تقدم عليه وسيطرت على بعض داره (ولا يمكن أن الداخلية‬ ‫هي بدورها متأثرة ببقايا الخارجية) ثم الفلسفة‪.‬‬‫والثمانية الفرعية توجد إذن بين قطبين هما مشروع مرجعية الإسلام قرآنا وسنة‬‫ومرجعية الفلسفة علم سياسة وممارسة‪ .‬وكل ما في الثمانية الداخلية والخارجية بالقياس‬‫إلى المرجعية الإسلامية فيها من الأصلين ومن أصول مجهولة تعود إلى التفاعل بين الإسلام‬ ‫وما بقي من تراث الشعوب التي اعتنقته‪.‬‬‫هي إذن شبكة متوالجة شديدة التعقيد ولا يمكن علاجها من دون تجريد يبسط الشبكة‬‫دون أن يخل بما هو اساسي فيها والحل هو أن الخارجية كما أسلفت تتدثر بأحد المذاهب‬‫الاربعة التي الداخلية حتى تجد لها شرعية في المرجعية التي يدعي الكل تمثيلها لأن الجميع‬ ‫هدفهم الاستحواذ على دار الإسلام كلها‪.‬‬‫والدليل هو أن كل الباطنيات والثورات على الخلافة كانت تنوي تأسيس خلافة أو إمامة‬‫أو دولة خارجية أو وهذا قليل دليل اعتزالية فشل فيها المأمون بفضل صمود احمد بن‬‫حنبل وإلا لكانت للمعتزلة دولة‪ .‬لكنهم سرعان ما أصبحوا في خدمة التشيع‪ .‬وهذه من‬ ‫المفارقات التي تنفي عنهم العقلانية بإطلاق‪.‬‬‫فلا يمكن لذي عقل سليم أن يعتقد في ‪ 1‬في المليون من أكاذيب التشيع والباطنية والتصوف‬‫خاصة إذا كان بحق يقول بأن مرجعيته هي القرآن‪ .‬يمكن أن أفهم يهوديا أو مسيحيا يقبل‬‫خرافات التشيع‪ .‬لكن أن يقبل الوساطة والوصاية مسلم قرأ القرآن فهذا لا يمكن أن يكون‬ ‫صاحبه عقلانيا إلا بالمعنى الاعتزالي‪.‬‬‫ولعل أهم حصيلة لهذا العالم العجيب للفكر الباطني والشيعي والصوفي من الاغراق في‬‫الخيال الجامع الذي يجعل الطبائع والشرائع عديمة القوانين والسنن فلم يبق معنى للعلم‬‫ولا للعمل على علم وفي المقابل عالم أغرب للفكر السني الذي تحصر فصار فاقدا لأي ذرة‬ ‫من الخيال وتوهم القشور واقعا‪.‬‬‫وأكاد أبالغ فأقول انقسم عالم المسلمين إلى عالم الظاهر المطلق الذي هو صحراء بلا‬‫روح عدى توهم الخبرة والغفلة عن المعرفة وعالم الباطن المطلق الذي هو مرجل وحل‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪61‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫يغلي بلا توقف بلا عمود فقري عدا التخريف حول معجزات آل البيت وكراماتهم التي‬ ‫صارت من جنس عالم آلهة الميثولوجيا الاغريقية‪.‬‬‫وليس لكلا الوجهين الظاهر والباطن أدن قبضة على شروط القيام التي هي ما يبدعه‬‫العقل الإنساني من استرماز علمي وذوقي يساعد على علاج معضلات العلاقة العمودية بين‬‫الإنسان والطبيعة والعلاقة الافقية بين البشر ولم يبق في الوجود الطبيعي والتاريخي إلى‬ ‫أوهام ما يظن ما بعدا لهما عديم التحديد‪.‬‬‫وحول هذين القطبين الشيعي والسني أحدهما غلب دوره على المعارضة الدائم والثاني‬‫على الحكم الدائم أقصد أن التشيع والتسنن كان ما به تتم المعارضة في الغالب والحكم في‬‫الغالب لكن كلا الحزبين يسيطر عليه في سلوكه الفعلي روح الفريق الذي خرج عليه من‬ ‫حيث طرق العلاج العقيم‪.‬‬‫فعقم العنف المادي سيطر على فنيات المعارضة التي هي الإرهاب لعل ذروته هي‬‫الحشاشين وعقم اللطف الرمزي سيطر على فنيات الحكم التي هي النفاق ولعل ذروته ما‬‫صار يسمى المدخلية أو فقهاء السلاطين الذين لم يتجاوز العقل عندهم التحيل على‬ ‫الأحكام البينة التي تحدد طبيعة الحكم وأسلوبه‪.‬‬‫وصار كل من يحاول التحرر من النفاق بالتطبيق الصارم لأخلاق المعرفة في الاجتهاد‬‫ولأخلاق المسلم الذي من فروضه العينية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالقلب واللسان‬‫يسمى خارجيا فقتلت المعارضة السلمية ولم يبق فيها مجال إلا لأصحاب الإرهاب الفعلي‬ ‫الذي تبناه الحشاشون‪.‬‬‫وبذلك أصبح الخروج والاعتزال على هامش التاريخ حتى وإن أحدثوا بعض الهرج في‬‫أطراف الدولة وكون بعض الخوارج دويلات أصبحت وديعة واقتربت من التسنن في الكثير‬‫من سلوكاتها ومن الاعتزال في الكثير من افكارها ربما لأن ممارسة الحكم تضفي عليهما شيئا‬ ‫من البراغماتية‪.‬‬‫ولما أصبح للشيعة دولة وخاصة منذ نشأة الدولة الصفوية ‪-‬بفضل نفس مليشيات الجبل‬‫أو بقايا الدولة الفاطمية أصبح الصراع ليس بين من يمثل المعارضة والحكم بل بين حكمين‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪62‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫يتنازعان أرض الإسلام منذئذ إلى الآن‪ .‬لكن انفراط عقد الخلافة ترك الحبل على‬ ‫الغارب في أرض السنة وصارت اليد الطولى للعملاء‪.‬‬‫وهؤلاء العملاء صنفان‪ :‬مليشيات الدولة الشيعية في الأرض السنية قبل الاستعمار‬‫الأوروبي وبعد تكونه مليشيات الاستعمار الذين استوردوا الفتنة الصغرى أو الدولة‬‫الوطنية ذات التوجه العلماني والتي مثلتها كل الانظمة التي تدير الاستعمار غير المباشر‪:‬‬ ‫فاجتمعت الفتنتان الكبرى والصغرى‪.‬‬‫وهذه هي الخريطة السياسية لدار الإسلام حاليا‪ .‬وواضح أن نفس الدور الذي يكلف‬‫به الغزاة نكوص بعض من يدعون الإسلام إلى ما قبله هو العامل الاساسي في هذه المعادلة‪.‬‬‫ولا يظنن أحد أني اقصد التشيع وحده‪ .‬فكل الانظمة العربية القبلية والعسكرية كلها لم‬ ‫تعد تعتبر الإسلام أساس شرعيتها السياسية‪.‬‬‫ومن المفارقات أن الأنظمة العربية القبلية التي تدعي هذه الشرعية هي في الحقيقة كلها‬‫بلا استثناء \"مبدعات\" انجليزية وشرعيتها هي الحماية الانجليزية التي أصبحت امريكية‬‫بعد أن سقطت الامبراطورية البريطانية‪ .‬وكل الأنظمة العسكرية التي تدعي القومية‬ ‫العربية خاصة طائفية من الفتنتين‪.‬‬‫لذلك فجميعها بحثت عن شرعية متقدمة على الإسلام بحيث إنها تحاول أن تجمع بين‬‫تفتيت الجغرافيا الذي فرضه الاستعمار (سايكس بيكو) وتشتيت التاريخ فصارت البعثي‬‫العراقي يستمد كل كيانه الرمزي مما قبل الإسلام مفاخرا بتاريخ ما بين النهرين ومثله‬ ‫البعثي السوري فينيقيا والمصري فرعونيا‪.‬‬‫واليوم أصبحت الانظمة القبلية العربية نفسها تبحث عن جذور ما قبل إسلامية لتحلق‬‫بالأنظمة العسكرية في غسل اليد من التاريخ الواحد حتى تعلل الجغرافيا المفتتة‪ .‬وما‬‫حربهم على ثورة الشباب بجنسيه (ألح على كلمة بجنسيه لأن المرأة استعادت دورها‬ ‫السياسي في الميدان دورها الذي تعلمناه من الصدر)‪.‬‬‫ذلك أن هذه الثورة وإن لم يكن الشعب قد بادر إليها بوصفه مسلما عاد إليه الطموح‬‫التاريخي فإن دعوتها إلى الفاعلية الشعبية بمنطق الديموقراطية جعل الغالبية التي كانت‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪63‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫صامتة تنطق‪ .‬فكان ما يسمى بالإسلام السياسي صاحب الدور الأول والقاعدة الجارفة في‬ ‫مقاومة الادواء للخروج من حالة الطوارئ‪.‬‬‫وقد دخل المعادلة عامل ثابت يمثل الفتنة الصغرى أو قاعدة للفتنة الصغرى (إسرائيل)‬‫نظير قاعدة احياء الفتنة الكبرى (إيران) فصيغت المعادلة العربية والإقليمية على أنها‬‫مؤلفة من ذراعين عاميتين لأهل الإقليم الذي غالبيته عربية بالاسم لأنه لم يعد أحد منهم‬ ‫يعرف نفسه بالعروبة ولا بالإسلام‪.‬‬‫ودون ان أنفي أن لهذين الذراعين اجندات خاصة بهما لا ينكرها إلا معاند لأنهما ليسا‬‫ذراعين فحسب بل لهما طموح استعادة امبراطورية سابقة عن الاسلام ساسانية وتلمودية‬‫فإن دورهما الوظيفي هو الغالب حاليا في ما يحدث في الاقليم رغم أن لتنافسهما علاقة‬ ‫بأجندتهما الذاتية‪.‬‬‫وليس هذا الذي يعنيني‪ .‬ما يهمني هو طبيعة ما يزعمه عرب العسكر من حلف مع إيران‬‫ضد اسرائيل وما يزعمه عرب القبائل من حلف ما إسرائيل ضد إيران وما تتوزع عليه‬‫النخب من خدمة لهؤلاء أو لأولئك كله كذب في كذب لأن ما يتحالفون جميعا ضده هو عودة‬ ‫الشعوب للفاعلية السياسية‪.‬‬‫وليس بالصدفة أن كانت هذه العودة رمزها البلدان اللذان جربا الفتنة الصغرى طيلة‬‫عقود وتبين أنها لم تفلح في القضاء على لب الحصانة الروحية لهذه الأمة‪ :‬تركيا وتونس‪.‬‬‫فهما البلدان المسلمان الوحيدان اللذان علما بالتجربة ما تغني الفتنة الصغرى ورمزها‬ ‫أتاتورك وبورقيبة‪.‬‬‫ومن حسن حظ لب الحصانة أو ما يتهم بالإسلام السياسي أنه أصبح رمز النجاح في الجمع‬‫بين قيم الإسلام الكونية وقيم الحداثة الكونية وتجاوز الكاريكاتورين كاريكاتور التأصيل‬‫وكاريكاتور التحديث ليستأنف دور الجماعة الحية التي لم تعد تعتبر الإسلام هو تراث‬ ‫عصره المنحط بل إبداع نشأته الاولى‪.‬‬‫وهذا هو لب اللحظة الاستراتيجي‪ .‬حاولت بنظرة خاطفة وشاملة تحديد تكوينيتها ولم‬‫أطل الكلام على مراحل الوصول إلى هذا الوعي التاريخي لدى شباب الأمة بجنسيه ودلالة‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪64‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫البدء من تونس وتركيا وتركيز الاعداء جميعا على ما يتوقعونه من هذا الاستئناف من‬ ‫لحظة ظنهم القضاء على سر حيويته‪ :‬الإسلام‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪65‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫ماذا يعني اجتماع الفتنتين الكبرى والصغرى في الإقليم وتمثيل ذراعي الاستعمار‬‫الأمريكي والروسي لهذين الفتنتين حربا على محاولة استئناف الشعوب الإسلامية في‬‫الإقليم وما يتبعه من أرض الإسلام لكونه قلب دار الإسلام تلك هي القضية الاستراتيجية‬ ‫الأساسية في سياستنا الحالية وثورة الشباب‪.‬‬‫وما كنت لأستعيد التكوينية التي آلت إلى هذه الوضعية الاستراتيجية في سياسة دولة‬‫الإسلام منذ النشأة إلى الآن وإن بصورة اجمالية وسريعة لو لم يكن لهذه التكوينية دورا‬‫أساسيا فيما يجري حاليا‪ .‬فليس بالصدفة أن يكون التركيز في النهاية هو على محاولة شل‬ ‫دور العرب والاتراك خاصة‪.‬‬‫فما يعني من ينافس الإسلام في الإقليم من أجواره هو من شعبه كان له معه صدام تاريخي‬‫مرير حتى وإن استفاد منه في عودته إلى التاريخ الفاعل‪ :‬الغرب الحديث هو حصيلة‬‫استئنافه لتاريخ حي بفضل الصدام مع المسلمين بداية مع قيادته العربية وغاية مع قيادته‬ ‫التركية‪ .‬وكلاهما كان داميا وشاملا‪.‬‬‫وطبعا لست غافلا على أن التاريخ لا يحركه مجرد الثأر بل إن لمن يمثل الغرب حاليا‬‫أعني روسيا وأمريكا مصالح جوهرية في الإقليم يمكن ردها إلى خمسة أنواع اثنان بسبب‬‫جغرافيته واثنان بسبب تاريخه والأخيرة بسبب ما يمكن أن يولد فيه ذلك من طموح‬ ‫التاريخ اثبت فاعليته في الماضي‪.‬‬‫فالأمم ذات الدور التاريخي الكوني ‪-‬وهي قلة في التاريخ‪-‬لا يمكن ألا تتنافس على هذا‬‫الدور بأسبابه‪ .‬وأسبابه هي ما ذكرت‪ :‬فالجغرافيا تعطي السببين الأولين أي الثروة في‬‫الاقليم وطرق الوصول إليها فيه وفيما ورائه من الأقاليم الأخرى‪ .‬والتاريخ يعطي السببين‬‫الثانيين أي التراث بوظيفتيه فالتاريخ يعطي السببين الثانيين أعني التراث المؤسس للدور‬‫والممكن من وسائله والاول تراث روحي والثاني تراث علمي وعملي‪ .‬والمعلوم أن الاقليم‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪66‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫الإسلامي يحوز على كلا التراثين الكونيين منذ ما ينيف على ثمانية آلاف سنة من عمر‬ ‫البشرية أي القديم والوسيط وجزء كبير من الحديث روحيه وعلميه وتقنيه‪.‬‬‫وليس بالصدفة أن اختار الغرب ذراعيه الممثلين لإحياء الفتنة الكبرى ولاستنبات الفتنة‬‫الصغرى ممن يعللون عودتهم بتراثه الروحي وأن يكون قد زرع مفهوم الدولة القومية‬‫التي هي أول سلاح كان هدفه أن يعمل في حضارة الإسلام ما عمله في حضارة المسيحية‬ ‫أعني الحد من دور الوحدة الروحية للجماعة‪.‬‬‫اختبار التشيع ليس جديدا واستعادة دولة داود ليس مشروعا جديدا فأول من فكر فيه‬‫حلا للإطاحة بالخلافة العثمانية كان أحد كبار العباقرة الألمان في العلوم وفي التاريخ وفي‬‫السياسة وفي الدين أقصد لايبنتز الذي وضع خطة غزو مصر وتكوين إسرائيل لأسقاط‬ ‫الخلافة التي كانت على أبوات فينانا‪.‬‬‫وأول من حاول تحقيق المشروع هو نابليون الذي جعله أغبياء التحديث صاحب مشروع‬‫التحديث المصري أعين ما لم يكن يريده ولعل مشروعه هو ما يحققه السيسي حاليا أعني‬‫عنيف اغبياء حداثة أعشار المثقفين من جنس القمني والمغتاظ من صلاح الدين الايوبي‬ ‫لأنه أسفط دولة الباطنية في مصر‪.‬‬‫وهذه الحقائق التاريخية يجهلها أعشار المثقفين ويتجاهلها من يعلمها لأنها تغير الرؤية‬‫وتفتح البصيرة لفهم الوضعية الاستراتيجية في السياسات الإقليمية التي تشاجنت فيها‬‫خيوط اللعبة المحلية والقومية والاقليمية والدولية والهدف منها جميعا حل مشكل واحد‪:‬‬ ‫كيف نحول دون عودة العرب والأتراك؟‬‫وحتى من يعلمها فإنه لا يمكنه أن يتصدى لها باستراتيجية فاعلة لا تقتصر على رد الفعل‬‫من كان بعقل بدائي من جنس حكام العرب ونخبهم وقد يكون الأتراك تقدموا علينا كثيرا‬‫في فهم هذه الخطط المعقدة بعد ما يقرب من تسعة عقود من مخالطة الأوروبيين ولعل‬ ‫المخالطة سبقت منذ الحلف بينهم والألمان‪.‬‬‫وليس لي من طريقة أخرى أفسر بها أن يكون المخطط الأول للإرهاب هم الإيرانيون‬‫والإسرائيليون والمتهم الوحيد به هم العرب الذين يتصورون أنفسهم أبطالا وهم فيه مجرد‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪67‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫أدوات لتشويه العرب والإسلام السني بالذات‪ :‬والرمز الاول والاخير لهذا الغباء العربي‬ ‫هو داعش‪ .‬فهي أساسا ثمرة الغباء السني‪.‬‬‫وأي جماعة انحرفت علومها كما انحرفت علوم السنة إلى حد البلاهة لا يمكن أن ينتظر‬‫أقل مما حصل بيد دراويش ما يسمونه بالعلوم الشرعية التي لا علاقة لها بالشرع أصلا بل‬‫هي علوم الثرثرة التي لا دور لها لا في تنظيم الحياة الدنيا ولا في تحقيق شروط السعادة‬ ‫في الحياة الأخرى‪.‬‬‫فلو كانت العبادة مقصورة على العبادات وحفظ المتون التي تعقدها حتى تعطي للكهنوت‬ ‫دورا لما عرف الله الإنسان بكونه مستعمرا في الأرض وخليفة فيها‪.‬‬ ‫فالاستعمار في الارض له شرطان‪:‬‬ ‫‪ .1‬العلم بقوانين الطبيعة‬ ‫‪ .2‬والعلم بسنن التاريخ‪.‬‬ ‫والاستخلاف له شرطان‪:‬‬ ‫‪ .1‬أخلاق التعامل معهما‬ ‫‪ .2‬والعبادات‪.‬‬‫أما تحويل الأمة إلى ببغاوات يسيرها شرطة عبادات بالعصي فهذا لا علاقة له لا بالدين‬‫ولا بالدنيا بل بسلطان كهنوتي جاهل لأمة من العبيد‪ .‬فلا الامة تكونت لتكون افرادها‬‫مجتهدين فرض عين ولا لتكون أفرادها مجاهدين فرض عين بل صار أمراء الكلام وأمراء‬ ‫السيف طغاة يقودون الصم البكم والعمي‪.‬‬‫ومتوهم من يتصور من يدعون الحداثة يختلفون عن ذلك في شيء‪ .‬فهم أيضا يعاملون‬‫الشعوب نفس المعاملة‪ .‬ما يظنه الاول إسلاما في نسبته إلى الإسلام هو عين ما يظنه الثاني‬‫حداثة في بسبته إلى الحداثة‪ .‬قشور يؤمن بها كاريكاتور الإسلام وكاريكاتور الحداثة‬ ‫ويفرضونها بالعنف على الشعوب التي استعبدوها‪.‬‬‫وإذ يستعبدون الشعوب فلا يعني ذلك أنهم سادة بل هم عبيد لمن يستعبدهم وينصبهم‬‫حيث هم ليكونوا محرد رعاة لمن صيروهم نعاجا يحلبها العدو ويحلب ارضهم وينتهك عرضهم‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪68‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫بما علل به ابن خلدون \"فساد معاني الإنسانية\" والتحول إلى أمة مستسلمة للطغاة في‬ ‫التربية والحكم‪ :‬ذلك ما ثار عليه الشباب بجنسيه‪.‬‬‫ولهذه العلة بدأت هذه المحاولة بمراجعة علوم الملة ‪-‬واقصد علوم السنة بطرفيها‬‫الأشعري والحنبلي‪-‬التي انحرفت من البداية لأنها تمثل طوارئ المعرفة المناظرة لطوارئ‬‫السياسة وكلتاهما سيطرتا على سلوك الامة النظري والعملي العلمي والسياسي فأفسدت‬ ‫التربية والحكم ومعاني الإنسانية (ابن خلدون)‪.‬‬‫و\"معاني الإنسانية\" ليست مفهوما محردا بل هي شروط الاستعمار في الارض والاستخلاف‬‫فيها أو مقومات كيان الإنسان كما يعرفه القرآن ويجهزه ليحقق هذه المهمة المزدوجة من‬‫خلال حل معضلات العلاقة العمودية بالطبيعية لسد الحاجات المادية والأفقية بالتاريخ‬ ‫لسد الحاجات الروحية‪.‬‬‫وسد الحاجات المادية هو موضوع العمران وسد الحاجات الروحية هو موضوع الاجتماع‬‫بلغة ابن خلدون وهما مجموعين يمثلان موضوع البحث في تكوينية العمران البشري‬‫والاجتماع الإنساني والأول أداة والثاني غاية والأول يغلب عليه العمل المادي والثاني‬ ‫العمل الرمزي‪ :‬هو غاية الاسترماز والعالم الفكري‪.‬‬‫وقد وصف ابن خلدون المستوى الاول أو العمران البشري بكونه التنازل (المشاركة في‬‫المنزل أو العيش معا في وطن الجماعة) لسد الحاجات بالتعاون والتبادل والتعاوض ووصف‬‫الثاني أو الاجتماع الإنساني بكونه التنازل للأنس بالعشير‪ .‬وهو معنى الاول أداة والثاني‬ ‫غاية‪ :‬ما أجمل الأنس بالعشير‪.‬‬‫وما أجمل الجمع التقابلي بين البشري وصفا للعمران والإنساني وصفا للاجتماع‪ .‬أربعة‬‫مفهومات الأولان يناظران الاستعمار في الارض والثانيان يناظران الاستخلاف فيها‪.‬‬‫العمران البشري نظير الاستعمار في الارض والاجتماع الإنساني نظير الاستخلاف‪ .‬ومن‬ ‫يقرأ القرآن يفهم أن المقدمة تفسير فلسفي له‪.‬‬‫لكنه ليس تفسيرا لنصه بل تطبيق حرفي لفصلت ‪ 53‬أي إن ابن خلدون بحث عما اراه‬‫الله في الآفاق (الطبيعة والتاريخ) وفي الانفس (مقومات ذات الإنسان العضوية‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪69‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫والروحية) فتبينت له حقيقة القرآن فيهما ومن ثم فبداية البناء لم تنتظرنا بل هي غاية‬ ‫المدرسة النقدية العربية (ضميمة المثالية الالمانية)‪.‬‬‫وما كان لهذا التطبيق لأمر فصلت ‪ 53‬ينجح لو لم يسبقه تطبيق نهي آل عمران ‪ :7‬فهو‬‫بين في فصل الكلام والفلسفة من الباب السادس استحالة علم ما وراء الطبيعة وما وراء‬‫التاريخ ورفض نظرية المعرفة المطابقة لأن الوجود لا يرد إلى الإدراك ولأن المعرفة‬ ‫الإنسانية ليست محيطة ومقصورة على الشاهد‪.‬‬‫وهذا الفهم الخلدوني هو في آن المدخل المفيد لمن يريد أن يفهم البعد السياسي من‬‫الإسلام بوصفه تذكيرا بوظائفها المناسبة لمهمتي الإنسان اللتين هما في آن مقومي وجوده‪:‬‬‫السياسة تربية ويتبعها العلم وحكم ويتبعها الاخلاق وكلاهما مستحيلان من دون الاسترماز‬ ‫الذي يمكن الإنسان من التعالي‪.‬‬‫والتعالي شرط لعدم الوقوع في مستنقع مجرى الأحداث والوقائع ليكون الإنسان حرا في‬‫تقييمها‪ :‬الاسترماز شرط التعالي الذي هو شرط الحرية التي هي شرط التقييم الذي هو‬‫شرط الاختيار على علم الذي هو شرط المسؤولية التي هي شرط اختبار أهلية الاستخلاف‬ ‫التي هي شرط الجزاء إيجابا وسلبا‪.‬‬‫ولا معنى لكلامنا في المؤسسات السياسية إلا باعتبارها ما به يضمن الإنسان فردا وجماعة‬‫هذه الشروط التي يمكن بفضلها حماية مقومات الإنسان بوصفه رئيسا بالطبع (ابن‬‫خلدون) أي ذا إرادة حرة وعقل مستنير وقدرة مدركة لقيم الأشياء وحياة تذوق الأنس‬ ‫بالعشير وفنونه ورؤية للذات بوصفها حرة وكريمة‪.‬‬‫تلك هي نظرية الإسلام في السياسة أي في التربية من دون وسطاء روحيين (كنسية) وفي‬‫الحكم من دون أوصياء (الحكم بالحق الإلهي أي السلطة الروحية أو بالحق الطبيعي أي‬‫السلطة المادية) وهذه هي الثورة الإسلامية في تنظيم حياة الإنسان الدنيوية بوصفها‬ ‫تحقيقا لشروط حريته وكرامته كخليفة‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪70‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫والنظرية السياسية التي تحرر الإنسان من الوساطة والوصاية خطيرة جدا على أصحابها‬‫إذا لم تكن مصحوبة بالبديل من الوساطة والوصاية اللتين تحولان دون الفوضى الروحية‬‫والفوضى السياسية في أي جماعة لم يرتق فيها الفرد والجماعة إلى مسؤولية المستعمر‬ ‫والمستخلف بوصفه رئيسا بالطبع (ابن خلدون)‪.‬‬‫فمن اليسير جدا أن يصبح مجتمع فاقدا للسلطة الروحية (وصاية نخبة دينية) والسلطة‬‫السياسية (وصاية سياسية) المستقرتين إلى فوضى الجاهلية كما حدث في تاريخ الامة‬‫مباشرة بعد أن صار التاريخ كله حربا أهلية داخلية وعجزا شبه تام على رد حاسم على‬ ‫الغزو الخارجي من الشرق والغرب طيلة التاريخ‪.‬‬‫وليس عندي طريقة أخرى لتفسير سرعة انفراط عقد السياسية الإسلامية التي باشرها‬‫الصدر والعودة إلى ما ينافيها باستعمال ما كان موجودا في الأرض التي فتحها المسلمون من‬‫تقاليد سياسية عطلت الدستور وإعادة الكنسية علنا في التشيع وخفية في التسنن مع ما أشرت‬ ‫إليه من جاهليات في الأرض المفتوحة‪.‬‬‫وإذن فما سميته القوانين الاستثنائية وحالة الطواري بعد الفتنة الكبرى جمعت بين‬‫التقاليد السياسية التي كانت في الاقليم والتي كان الإسلام ثورة عليها جمعت بينها في‬‫الانظمة الحاكمة والتربية التابعة لهم والجاهليات في كل الهمجيات التي جاءت من الداخل‬ ‫أو الغزوات التي جاءت من الخارج‪.‬‬‫فكان الوضع التاريخي كله حائلا دون الخروج من حالة الطوارئ بعد الفتنة الكبرى‬‫وازدادت هذه الحالة بسبب الفتنة الصغرى‪ .‬والحصيلة هي التفتت القديم (قبل‬‫الاستعمار) والتفتت الحديث (بعد الاستعمار) والزلزال الدائم بسبب تنافي ذلك مع فلسفة‬ ‫الإسلام السياسية التي ما تزال فاعلة في ضمير الامة‪.‬‬‫ويمكن القول إن الفلسفة السياسية المحركة للامة لأنها محركة لما في ضميرها من صورة‬‫الخلافة الراشدة رغم طابعها الغائم وغير المحدد إلا في قيم وأحاديث هي بالطبع غير‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪71‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫الاحداث قد حققت معجزة‪ :‬كيف صمدت إلى اليوم رغم أن التاريخ كله كان مناقضا لها‬ ‫وإن وحد فيه بعض الرموز البطولية لهذه المثالية‪.‬‬‫وهذه الظاهرة العجيبة هي التي اعتبرها معجزة القرآن السياسية‪ .‬فنفس المعجزة التي‬‫وحدت العرب وهم قوم لو اجتمع الجن والأنس لتوحيدهم لاستحال ذلك عليهم هي نفسها‬‫التي ما تزال محركة للمسلمين لها ولأعدائها عليها منذ النشأة الأولى وخاصة بعد الطموح‬ ‫للاستئناف في هذا العصر الحالي‪.‬‬‫إنها سانحة مناسبة لشرح دور ما سميته بالاسترماز أو بنقل الوجود من أحداثه العينية‬‫إلى أحاديثه المتعالية عليها لتضاعف مجرى التاريخ في أحداثه وفي أحاديثه سواء تعلق‬‫بالماضي تضاعفه بدوام الحديث المحرك للحدث أو في المستقبل بدوام الحدث المحرك‬ ‫للحديث فيكون الحاضر السائل في غليان أبدي‪.‬‬‫ولا بد أن أقر هنا بأن قرون الطوارئ الأربعة عشر رغم ما سببته من تخلف وانحطاط‬‫يذكر لها ويشكر أن منظومة الحكم ومنظومة التربية أبقت على الحديث المثالي حول‬‫الحدث المتدني فأبقت على حياة الطموح الدوني في ضمائر المسلمين حتى وإن كان هذا‬ ‫الطموح مجرد إيمان في القلب لم يشفع بعمل يحققه‪.‬‬‫وذلك هو ما اعتبره معجزة القرآن الذي حافظ على عزة المسلمين في وجدانهم حتى وإن‬‫فقدوها في وجودهم‪ .‬ومعنى ذلك أن كلمة ابن خلدون \"الإنسان رئيس بالطبع\" تمثل حقيقة‬‫هذه الظاهرة التي لولاها لامتنع أن نتخيل أمة المسلمين تفلت مما حل بأمة الهنود الحمر‬ ‫بسبب ما حاق بها من مكر أعدائها الشديد‪.‬‬‫والدليل أن نسبة ذلك إلى معجزة قرآنية لا يكفي فيه قولي بل ما يثبته هو تركيز‬‫الأعداء وعملائهم حربهم الرمزية على القرآن وعلى محمد لأنهم أدركوا أن هذين‬‫الرمزين النصي والشخصي يمثلان سرا عجيبا في ضمائر الامة لعله هو خط الدفاع الاخير‬ ‫على شروط الاستئناف التي أتكلم عليها‪.‬‬‫فمن قرأ القرآن وتدبره ومن قرأ سيرة الرسول وتمعنها لا يمكن ألا يكون طموحه أن‬‫تكون الارض كلها مصلاه والعالم كله عالم الاخوة الاسلامية وأن يقبل بغير العز والرئاسة‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪72‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫بالطبع للإنسان من حيث هو إنسان كما يعرفه القرآن بوصفه مستعمرا في الارض ومستخلفا‬ ‫فحرا ومكرما عند رب الجميع‪.‬‬‫لا يمكن لمسلم أن يقبل بالعبودية لغير الله‪ .‬تلك هي معضلة أعداء الإسلام مع المسلمين‪.‬‬‫واليوم المسلمون لم يعودوا مقتصرين على ذلك وكأنه مجرد عقيقة بل صاروا يرونه‬‫إمكانية فعلية ما جعل الاعداء يتصورونهم بديلا ممكنا ممن أطاحوا به من أعدائهم‬ ‫معتبرين استراتيجيتهم ضد السوفيات ناجعة ضدنا‪.‬‬‫وقد بينت سخف هذا التحليل في تعليقي على تقرير رند كوربوريشن لسنة ‪ 2007‬ردا‬‫على اطلاعي عليه من قبل أحد الأصدقاء من الكويت‪ .‬الخلط بين ايديولوجيا نخبة قليلة‬‫وعقدية شعوب عديدها أكثر من خمس البشرية دليل حمق استراتيجي‪ .‬فحتى لو غيروا‬ ‫عقدية بعض العملاء من العرب فالمفعول سيكون عكسيا‪.‬‬ ‫وذلك لعلتين‪:‬‬‫‪ .1‬فما فشل فيه الغرب لما كان متفردا بكل أسلحة الفعل السياسي العنيفة واللطيفة‬ ‫لن ينجح فيه بعد أن صار السلاحان في متناول أي شعب‪.‬‬‫‪ .2‬وكل من يستعملوه في هذه المهمة يفقد مباشرة كل تأثير وخاصة في حالة انتخاب‬ ‫هؤلاء العملاء من الأغبياء كمراهقي الثورة المضادة والسيسي وأمثاله‪.‬‬‫وأقصد بالسلاح اللطيف أدوات التواصل عامة‪ .‬فهذه يمكن بيسر ألغاء مفعولها العدواني‬‫بها‪ :‬ليس من العسير على الامة أن تكون \"جيشا\" من المقاومين بهذا السلاح في الحرب‬‫اللطيفة (يسمونها الناعمة) والشباب بجنسيه لا تنقصه الخبرة ولا خاصة الحماسة للقيام‬ ‫بهذا الجهاد الذي هو فرض عين لأنه دفاعي‪.‬‬‫ما أقصده بالسلاح العنيف أي الغزو العسكري فهو لم يعد ممكنا لأن كلفته الاقتصادية‬‫تجعل الاضعف أقوى‪ :‬فإذا كان قتل المقاوم الواحد يكف مليار على امريكا فقتل الغازي‬‫الواحد لا تتجاوز كلفته عشر دولار أي ثمن خرطوشة واحدة من قناص‪ .‬هربوا من العراق‬ ‫وافغانستان وسيهربون من كل دار الإسلام‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪73‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫وإذا لم يفعل الامريكان فسيسقطون لأن الصين تتفرج على غبائهم وتهتم ببناء قوة‬‫المستقبل التي ستزيحها لأنها تعادي من كان يمكن أن يكونوا حلفاء لها في معركة النظام‬‫العالمي الجديد ظنا أنها يمكن أن تحتل أرضهم وممراتهم لتخنق الصين‪ .‬احتلال دار الإسلام‬ ‫مستحيل وأمريكا ستنهار إن واصلت ذلك‪.‬‬‫ما يحيرني ليس حرب الأعداء على الإسلام بل حرب المسلمين فيما بينهم وتناسيهم شروط‬‫السيادة التي هم أول من يقضي عليها عندما تصبح كل قبيلة تدعي انها دولة وهي في‬‫الحقيقة محمية للأعداء وقاعدة ضد الاستئناف‪ :‬الشرط الضروري والكافي هو حجم‬ ‫الأحياز الخمسة التي هي المقوم الاول لسياسة القرآن‪.‬‬‫دار الإسلام عامة ولكن قلب دار الإسلام‪-‬ويمكن اعتبارها جامعة بين ما يسمى بالوطن‬‫العربي وتركيا‪-‬هي الحد الأدنى للحجم الكافي لما يناسب النظام العالمي الحالي والمقبل‬‫لتحقيق شرطي السيادة أعني الحماية والرعاية الذاتيتين للجماعة‪ .‬وهو يتحدد بالأحياز‬ ‫الخمسة التي هي القصد الفعلي للأنفال ‪.60‬‬‫فالأنفال ‪ 60‬تتلكم على القوة عامة والقوة العسكرية خاصة برمز رباط الخيل‪ .‬والقوة‬‫عامة هي ما سميته شروط علاج العلاقتين العمودية مع الطبيعة والأفقية بين البشر‪.‬‬‫والاولى هي مصدر الثروة المادية والثانية هي مصدر الثروة الروحية لأي جماعة‪.‬‬ ‫وكلاهما يضيعه تفتت الأحياز‪.‬‬‫وما يضيعه تفتت الأحياز يسترده توحيدها من جديد وهدا هو الهدف الاستراتيجي‬‫الذي ينبغي العمل عليه لأنه شرط الشروط‪ :‬فوحدة الجغرافيا تمدنا بالحجم الكافي لإنتاج‬‫شروط الانتاج المادي أي البحث العلمي والتطبيق التقني المتمعن بالحكم الحالي لأي دولة‬ ‫عربية أو تركية مهما كان حكمها صالحا‪.‬‬‫ولولا ذلك ما اضطرت ألمانيا وفرنسا العدوتين التاريخيتين أن تقلبا صفحة الماضي وأن‬‫تشرعا في توحيد أوروبا‪ :‬أدركوا أن دولهم على عظمتها بالقياس إلى المحميات العربية‬‫وحتى الدولة التركية أدركوا أن حجمهم لم يعد كافيا لتحقيق شروط السيادة حياة ورعاية‬ ‫وقدرة على التنافس مع العماليق‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪74‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫ومن دون الحجم التاريخي لأي جماعة لا يمكن في عصرنا خاصة أن تنافس اميرة بتاريخ‬‫لم يكد يخرج من البداوة الحضارات التي تضرب بعروقها في مراحل التاريخ منذ ما قبله‬‫التي وحدها الإسلام بتوحيد شعوب الشرق والغرب الإسلاميين وفرط فيه أغبياء المتبنين‬ ‫للدولة القومية التي هي محمية غربية‪.‬‬‫ولأن الأعداء يعلمون أن الامم تستمد عظمتها من حجم احيازها أعني جغرافيتها‬‫وثروتها المادية وتاريخيها وتراثها الروحي والعلمي ومرجعيتها التي تقاس بمقدار كونيتها‬‫فيفتتون جغرافيتنا ليحولوا دون شروط الانتاج المادي والعلمي والتقني ويشتتون تاريخنا‬ ‫ليحولوا دون شروط الانتاج الرمزي والحضاري‪.‬‬‫ومن هنا تركيزهم على ضرب المرجعية الروحية الموحدة للجغرافيا والثروة والتاريخ‬‫والتراث في الحضارة الإسلامية أعني القرآن الكريم والرسالة الخاتمة‪ .‬لكن الشباب‬‫بجنسيه فهم الخطة وهو يتصدى لها بعمل على علم ولم يبق إلا أن تتحد الثورة حتى تنتصر‬ ‫على الثورة المضادة ذراع الاعداء ضد الاستئناف‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪75‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫الفصل الأخير من الكلام على المؤسسات السياسية أخصصه لأصل كل العلل التي تفسر‬‫الفشل السياسي في كل بلاد العرب‪ :‬امتناع شروط الطموح الذي يمكن يجعل الشباب بجنسيه‬‫ينخرط في مشروع من البداية محكوم عليه بالفشل‪ .‬فلا يمكن لمن كانت نشأة تاريخه كونيه‬ ‫أن يقبل بقيام تابع لأي إنسان آخر‪.‬‬‫وما لم يفهمه الاغبياء المتعجبون من الفشل تلو الفشل في المحميات العربية هو أنهم‬‫ينفخون في \"مزود\" كله ثقوب‪ .‬لم يعد الشباب غافلا لا عن منطق العصر ولا عن منطق‬‫تاريخ امته كله‪ .‬فمنطق تاريخ امته بدأ بالدور العالمي ومنطق العصر أن السيادة شرط‬ ‫المواطنة الحرة لها شرطان يقتضيان الحجم‪.‬‬‫فلا مواطنة من دون دولة سيدة ولا دولة سيدة من دون شرطين‪ :‬القدرة على حماية‬‫الذات وعلى رعايتها‪ .‬وهذان الشرطان ممتنعان على بلد يعيش بالصدقات ويحتمي‬‫بالأعداء‪ .‬والشباب بجنسيه يعلم ذلك علم اليقين‪ .‬وما يراه من كرنفال السياسة‪-‬رئيس‬ ‫دولة ورئيس حكومة ووزراء إلخ‪ ..‬من المسكاراد‪-‬قناع للتبعية‪.‬‬‫لا يوجد شاب من الاقليم‪-‬دون تمييز بين القوميات في شعوب الاقليم متحد الثقافة‬‫والمصير في ملتقى القارات الثلاث والتسمية بالإقليم أفضل من التسمية بالإثنية‪-‬يقبل بعدم‬‫المشروع الطموح لمستقبل غير تابع للمستعمر يمكنه من استعادة كرامته وحريته والتعامل‬ ‫الندي مع الضفة الشمالية من المتوسط‪.‬‬‫لكن أجيال الذل الذين اختارهم الاستعمار لينوبوه في مستعمراته بعد انسحابه الشكلي‬‫هم الذي يريدون مواصلة الوضع السابق وتعميق التبعية الثقافية والاقتصادية والسياسة‬‫ورهن الاوطان مقابل بقائهم في وهم السلطان الذي يمكنهم من استعباد الشعوب وسلب‬ ‫حقوقهم في الحرية والكرامة وأفشال ثورتهم‪.‬‬‫وما يصح على المغرب من المغرب إلى ليبيا يصح على المشرق منها الى العراق‪ :‬كل بلادنا‬‫خاضعة لسياسة اليوم بيومه لا مشروع لها إلا بقاء خدم الاستعمار غير المباشر بوصفهم‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪76‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫حماة الحدود الحديدية التي وضعها يجعل التنمية الاقتصادية والعلمية مستحيلة فيضمن‬ ‫بقاءنا تابعين إلى يوم الدين‪.‬‬‫فالأجداد الذين بدأوا المقاومة متحدين وبشروا بوحدة بلاد المغرب الإسلامي عمل‬‫الاستعمار كل ما يستطيع لإبعادهم وترك من اخترقهم به حتى يحققوا له ما عجز عنه طيلة‬‫استعماره المباشر من قتل فرض لغته وتفتيت اللحمة الثقافية وخلق العداوات بين الاجوار‬ ‫ومنع كل تغيير ينبع من الشعب‪.‬‬‫وما حصل في المغرب حصل في المجموعات الأربع الباقية وآخرتها الخليج الذي دبت فيه‬‫الفتنة فصار الجميع يتودد لصاحب الفتنة بينهم كل يريد إرضاءه بما يقدمه له من خدمات‬‫تغيض جاره وأخاه وتزيد الضغينة بينهم تماما كما يحدث في المغرب‪ .‬والأمر بدأ‬ ‫بالاصطفاف مع قطبي العالم الماضي‪.‬‬‫بدأ الاقتتال بين البعثين ثم بين الناصرية والبعثية ثم بين القذافية وكل الاجوار فصار‬‫كل حاكم بأمره من طراطير العرب مجرد ذراع فوضى في بقية الأقطار ما ينفقه في تأجيج‬‫العداوات بين العرب كان يمكن أن يضاهي مشروع مارشال الذي اخرج أوروبا من نكبة‬ ‫الحرب الثانية حتى وصلنا إلى الثورة المضادة‪.‬‬‫ففتتوا العراق وسوريا واليمن وليبيا ومصر في الطريق ويسعون إلى تفتيت تونس وبعدها‬‫الجزائر التي بلغ بها الجمود مبلغا صرت أخشى من انفجارها الذي لا قدر لو حصل لكان‬‫نكبة على المغرب كله‪ .‬وما بين الأقطار المنتسبة إلى الجامعة ليسوا إلا ورثة عاقين لمن ورثوا‬ ‫عنه هذا الوطن الكبير‪.‬‬‫وفي خلال هذا التناحر الداخلي فقد العرب كل صديق لأنه إن وجد سرعان ما يعجز عن‬‫تحديد سياسية معهم مادام كل ما يفعله مع زيد يغضب عمرو والكل يهدد ببعض المليمات‬‫التي يبقيها فساده من بين زيت الحجر وبعر البقر‪ .‬هل هؤلاء أحفاد من أسس دولة الإسلام‬ ‫الكونية؟ صدق المتنبي‪.‬‬‫فأنت إما أمام شيوخ خرفون بلغوا أرذل العمر أو أغرار لا خبرة لهم ولا ثقافة والاول‬‫منهما همه أن ينهي حياته بلا مشاكل والثاني يبدأها بما يمليه عليه طموح الأغرار الذين‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪77‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫يتصورون سدة الحكم لعبة فتكون الامة بين يأس العجزة عضويا والعجزة عقليا وتكون‬ ‫الأمة بين أجيال كسيحة وأجيال فضيحة‪.‬‬‫ففي تونس مثلا آل الثورة إلى مآل صارت بداية ما يسمى بالانتقال الديموقراطي من‬‫جنس نهاية ما يسمى بالعهد البورقيبي‪ .‬لا شيء يمكن أن يسمى دولة بل سياقة يومية لا‬‫تتجاوز أرنبة أنف السائق الذي يتعلم الحجامة في رؤوس اليتامى‪ .‬وما يسمونه دولة يلتهم‬ ‫جل ثروة الجماعة في الخلاعة والرقاعة‪.‬‬‫ففي شعب ثار ثلث طاقته العاملة عاطل عن العمل صراحة والثلث الثاني عاطل خفية‬‫لأنه زائد عن الحاجة في الإدارة وفي الشركات الوطنية والرعاية الاجتماعية لا يمكن‬‫الكلام على سياسة أصلا‪ :‬إنها عملية تفقير نسقية للجماعة التي صار نصف اقتصادها خارج‬ ‫سلطان من \"اختارتهم\" لرعاية شأنها‪.‬‬‫واستبعد أن يكون وضع بلاد العرب الاخرى أفضل حال وخاصة تلك التي كانت في بحبوحة‬‫فائض المداخيل من بيع الطاقة‪ .‬فأزمة أسعارها ونضوبها القريب قد يظهر ما عليه من‬‫وضع أسوأ لأن ما أكاد أجزم صحته مما قرأته هو أن بعض بلاد الخليج بطالة شبابها المتعلم‬ ‫تقرب من ‪ 40‬في المائة ناهيك عن غيره‪.‬‬‫ونفس الامر يمكن أن يقال عن البلاد المغربية ذات الثروة البترولية‪ .‬لذلك فمن الواجب‬‫القلق على المستقبل الذي ينتظر اقليمنا إذا لم نتدارك الامر فنعالجه بصورة تحقق شروط‬‫السيادة بجعل العمل المبدع والمنتج يصبح ممكنا عندما نوفر الحجم الضروري جغرافيا‬ ‫وتاريخيا على الأقل مثل اوروبا‪.‬‬‫والآن فلو سألت أي شاب أو شابه عما يتمنى في علاقات البلاد العربية لكان جوابه يبدو‬‫مجرد حلم بمماثلة ما تحقق للشباب الأوروبي من حرية التنقل في كامل الوطن الكبير دون‬‫عوائق‪ .‬لكنه هذا الأمر ليس ابدا مجرد محاكاة لما يحدث في أوروبا وإن كان فيه شيء منه‬ ‫لكنه حنين إلى ماض عاشه أجدادنا حقا‪.‬‬‫الحدود الحديدية لم تكن موجودة حتى في عهد الاستعمار المباشر‪ .‬إنها من النتائج‬‫الحزينة لما يسمى بالدولة الوطنية التي جعلت كل قطعة مجزوءة من الوطن تسمي نفسها‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪78‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫دولة ويستبد بها عملاء لا معنى للوطن عندهم إلى كونه حديقة لمافيتهم يفعلون بها وبأهلها‬ ‫ما يرضيهم ويرضي من نصبهم غفراء فيها‪.‬‬‫ولهذه العلة فالثورة أثبتت أن شعوب الاقليم ذات مصير واحد‪ .‬عطسة تونس أصابت‬‫الجميع بالإنفلونزا الثورية لأن مطالب الأمة واحدة وهي تريد الخروج من الاستثناء عالميا‬‫منذ الحداثة ومن حالة الطوارئ إسلاميا منذ الفتنة الكبرى التي قتلت حداثنا السياسية‬ ‫بتعطيل دستور الجمهورية الديموقراطية‪.‬‬‫فالنظام السياسي كما حدده القرآن صراحة في الآية ‪ 38‬من الشورى طبيعته جمهورية‬‫وأسلوبه ديموقراطي لكأنه كتب باللاتينية واليونانية‪ :‬أمر الجماعة=جمهورية (راس‬‫بوبليكا لاتينيا) شروى بين الجماعة= ديموقراطية (ديمو‪-‬قراطيا يونانيا) فكيون النظام‬ ‫جمهورية ديموقراطية ومشكله الإنفاق من الرزق‪.‬‬‫والإنفاق من الرزق يجمع بين العلاقتين العمودية مع الطبيعة أي الانتاج الاقتصادي‬‫للثروة (الرزق) والعلاقة الافقية بين الناس أي الإنفاق في وجوهه الاجتماعية التي‬‫يحددها القرآن في البقرة ‪.177‬والتحرر من الاستغلال المباشر للنص بتبين حقيقته من خلال‬ ‫الآفاق والانفس هو شرط علاج العلاقتين‪.‬‬‫فيكون الحل في بناء المؤسسات السياسية التي تجعل الأمر أمر الجماعة (جمهورية) وتجعل‬‫أسلوب إدارته شروى الجماعة (ديموقراطية) وتجعل الرزق ثمرة العلاقة العمودية‬‫بالطبيعة في خدمة الجماعة وصلا بين الاقتصادي والاجتماعي فيكون الحل جوهر ما يطلبه‬ ‫الإنسان الحر والكريم دينيا وفلسفيا‪.‬‬‫وهذه المؤسسات رغم ما فيها عدم التحديد الدقيق سعى إليها فكر الامة متدرجا ويمكن‬‫اعتبار آخر اشكالها في الاحكام السلطانية قريبا جدا من التنظيم الجمهوري الديموقراطي‬‫في شكله الجنيني حتى في اوروبا‪ :‬ففه هيئة انتخابية وفيه شروط الترشح وفيه التصويت‬ ‫بالمبايعة حتى وإن حرفت لأنها تفرض‪.‬‬‫لكن الديموقراطية الغربية هي بدورها تدرجت فمن انتخاب الاغنياء فحسب إلى انتخاب‬‫الرجال فحسب إلى الانتخاب العام أخيرا مرت مراحل مديدة‪ .‬ونفس الأمر كان ينبغي أن‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪79‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫يتحقق في تطور المؤسسات السياسية الإسلامية لو لم يفسد نظام التعليم ونظام الحكم بما‬ ‫وصفنا من العلل‪.‬‬‫لذلك فينبغي أن ننظر في المؤسسات التي كان لها الدور الكبير في توطيد هذا الفساد‬‫الناتج عن الاستبداد السياسي وأن نتخلص من الاحكام العامة التي تجعلنا وكأننا خارجون‬‫عن سنن التاريخ‪ .‬ما حصل يقبل التفسير بما قدمته‪ :‬حالة الطوارئ وكثرة الحروب الاهلية‬ ‫أدت إلى تعطيل الدستور‪ .‬فلنستأنف‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪80‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪ -‬القسم الرابع ‪-‬‬‫أشرع الآن في علاج المسألة الثانية بعد السياسة ومؤسساتها‪ .‬وسبق فاعتبرت المؤسسات‬‫الاجتماعية هي الاخيرة مقدما عليها مسألة المؤسسات التربية وعلي أن أشرح علة ذلك‬‫ولماذا أنا مضطر للعدول عنه‪ .‬صحيح أن المؤسسات الاجتماعية هي الشاملة لكل مؤسسات‬ ‫اي جماعة وهي أصلها المؤسسات جميعا‪.‬‬‫وهي كذلك من حيث المستوى الأول من وجود الجماعة كأحداث فعلية في الوجود الخارجي‬‫الذي يشمل كل الظاهرات الإنسانية التي تنتج عن العلاقتين بين الإنسان والطبيعة وبين‬‫الإنسان والإنسان أي إنها جملة الظاهرات التي يتألف منها وجود الجماعة طبائع وشرائع‬ ‫إنها تفاعلات الطبيعة والثقافة كأحداث‪.‬‬‫وهي إذن ما يمكن أن نعتبره موضوع المؤسسات السياسية والتي تجمع بين الحكم والتربية‬‫والتي هي عودة الإنسان على هذه الأحداث لفهمها ورعايتها بإدارتها وتنظيمها تنظيما‬‫أقرب ما يكون إلى العمل على علم ومن ثم فلكأن الظاهرات الاجتماعية بذلك المعنى هي‬ ‫بدن الجماعة والسياسة عبارة وعيها‪.‬‬‫وهذه العودة على الذات ليست خارج الظاهرات الاجتماعية بل هي واحدة منها كظاهرة‬‫اجتماعية وتقبل الدرس الاجتماعي مثل أي بقية الظاهرات الاجتماعية التي سأتكلم عليها‬‫الآن والتي اضطررت لتقديمها على المؤسسات التربوية لما سأشرح الآن وكان يمكن تأخير‬ ‫السياسية لو طبقت ما ساشرج‪.‬‬‫في الحقيقة اكتشاف علم الاجتماع بالمعنى التام للكلمة ‪-‬ابن خلدون اكتشف ما هو أهم‬‫وقد بينت ذلك‪-‬في القرن التاسع عشر كان بالأساس لعلل سياسية‪ :‬كان الهدف البحث عن‬‫شروط الخروج من نتائج الثورة السياسية والتقنية التي حدثت في فرنسا خاصة وفي أوروبا‬ ‫وتحقيق شروط الاستقرار‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪81‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫كانت محاولات لعلاج هذين الظاهرتين الاجتماعيتين الناتجتين عن الثورتين السياسية‬‫والتقنية انتهت على محاولة بناء علم تحت اسم الفيزياء الاجتماعية لتحديد قوانينها في‬‫حالتي الثبات (ستاتيك) والحركة (ديناميك) لكأن المجتمع جهاز آلي يخضع لقوانين‬ ‫الميكانيكا وهو قياس استلهامي لا غير‪.‬‬‫وبدأت العقبات الإيديولوجية ‪-‬الماركسية‪ -‬والابتسمولوجية في الفلسفة الألمانية الجدية‬‫التي حاول أصحابها تأسيس العلوم الإنسانية عامة دون اختزال الإنسان في رده إلى الآلية‬‫الميكانيكية سواء بالمعنى الكونتي أو بالمعنى الماركسي وتم التمييز الدقيق بين علوم الطبيعة‬ ‫وعلوم الروح بلغة فلسفتهم‪.‬‬‫وجوهر المسألة هو أن علم الاجتماع أساس العلوم الإنسانية كلها يتميز بالمفارقة العجيبة‬‫التي يتحد فيها ذات العلم وموضوع العلم في آن‪ :‬ظاهرة اجتماعية‪-‬العلم‪-‬تجعل من نظام‬‫الظاهرات الاجتماعية ‪-‬المجتمع‪-‬موضوع دراسة علمية فيكون الجزء عائدا على الكل‬ ‫ليفسره بما فيه من عوامل تعليل لكونه ما هو‪.‬‬‫ولو كان كل ما يجري في حياة البشر عملا على علم لكان ينبغي أن يقدم علم الاجتماع‬‫على كل عمل فتكون المؤسسات السياسة والتربية مبنية على ما يتوصل إليه هذا العلم من‬‫شروط تحقيق ما يجعل الإنسان على أفضل حال‪ .‬لكن الرياح لا تجري بما تشتهي سفن‬ ‫المنطق‪ .‬فالشرطان ممتنعان‪.‬‬‫أولا لا يوجد علم اجتماعي حاسم مثل علوم الطبيعة وثانيا العمل لا ينتظر النظر‪:‬‬‫فالنظر غير ملزم بوقت بل هو بحث لامتناه قد لا يصل إلى نتيجة والعمل فعل عاجل يكتفي‬‫بما لديه من علم ويبادر لأن ما يتطلبه العمل لا ينتظر كما أسلفت وخاصة السياسة التي‬ ‫هي حرب دائمة حتى وهي باردة‪.‬‬‫وهذه الصفات في السياسة كحكم وليس كتربية تصح عليها في علاقات مواطنيها في الداخل‬‫وفي علاقات الجماعة مع الجماعات الأخرى المنافسة لها على مصادر الرزق والمنزلة التاريخية‬‫أعني على حيازة الأحياز الخمسة‪ :‬الجغرافيا وثمرتها والتاريخ وثمرته والمرجعية أو الرؤية‬ ‫الموحدة لها‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪82‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫وإذن فعلة اضطراري لتقديم السياسي على الاجتماعي وتأخير التربوي عليه هي نفس‬‫العلة بوجهيها‪ :‬ففي السياسي العاجل متقدم دائما لأن العمل السياسي لا ينتظر إلا بقدر ما‬‫توفر له من إعداد النظر السابق وهو دور التربية إن كانت قد أعدت القيمين على السياسي‬ ‫وفي التربوي الآجل متقدم دائما‪.‬‬‫عاجل العمل في السياسة والاقتصاد والحرب وكل ما هو فعل مباشر يستعمل ما لديه من‬‫اعداد واستعداد نظري سابق لما يقبل التوقع ويضطر أن يتصرف كـ\"بريكولور\" بالموجود‬‫للتصدي لمجرى الأحداث التي لا تنتظر بطء النظر حتى يصل إلى النتيجة العلمية الحاسمة‬ ‫إن وجدت‪.‬‬‫قائد الحرب وصاحب المؤسسة الاقتصادية ورجل الدولة لا يمكنه أن يتصرف كالعالم الذي‬‫ليس عنده ما يدعوه للرد السريع لأنه يعمل وكأنه خارج الزمان وأزوف الفعل أو رد الفعل‬‫في الوضعيات العينية المحددة‪ .‬وقد وقع سجال بين الصديق حسن حنفي أمده الله بالصحة‬ ‫والعافية وبيني حول المسألة‪.‬‬‫وكان هو يتكلم على تقدم العمل على النظر فحاولت أن أبين أن ذلك يصح بشرط أن‬‫يكون النظر قد تقدم‪ .‬طبعا هذا أسلوب مفارقي استعملته للمزاح معه وكان ذلك ذات ليلة‬‫في لندن سنة ‪ .2000‬فالعمل متقدم كغاية لكنه لا يكون غاية إلا إذا كان عملا على علم ولا‬ ‫علم إلا والنظر متقدم فيه على التطبيق‪.‬‬‫وبهذا يختلف جنرال عن آخر في قيادة الحروب ورئيس مؤسسة اقتصادية عن آخر في‬‫قيادة التنافس وسياسي عن آخر في قيادة شعب‪ .‬وطبعا فمن لم يعمل بهذه القاعدة يكون‬‫مثل جنرالاتنا ورجال اعمالنا وسياسيينا لا يعرفون إلا رد الفعل الآني والهزائم المتكررة‬ ‫الناتجة عن العمل على غير علم بشروط العمل‪.‬‬ ‫هل هذا استطراد؟‬‫كلا‪ .‬ذلك أن التربية هي المقابل التام للسياسة‪ .‬فهي الفن الذي يعد الأجيال الخالفة‬‫لتدارك ما فات الأجيال السالفة‪ .‬وما فات الأجيال السالفة متعين في الحال الاجتماعية‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪83‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫للجماعة ومن ثم فعلم الاجتماع هو الوسيط بين منطق فعل الحكم ومنطق فعل التربية أي‬ ‫إنه هو لب العلاقة بينهما‪.‬‬‫ومعنى ذلك أن فعل التربية لتكوين الأجيال الخالفة مشروط بمشروع منطلقه العلم بحال‬‫الامة في علاج علاقتيها العمودية بالعالم (الطبيعة) والأفقية بالإنسان (التاريخ) لتحديد‬‫ما أنجزت وما فشلت في إنجازه ليكون مضمون التكوين تجويد المنجز وتدارك الفشل ولا‬ ‫يكون ذلك في الحالتين إلا بالتجاوز‪.‬‬‫وهذا هو بالذات ما اعتبره فشل التربية في حضارتنا وهو نظري فشل السياسة‪ .‬ولما‬‫حملت علوم الأمة المسؤولية لم أفعل ذلك تجنيا على أصحابها‪ .‬فالمسألة تعود إلى ما وصفت‬‫من حالة الطوارئ والقوانين الاستثنائية التي طبقت في الحكم والتربية‪ .‬ويهمني الآن‬ ‫التربية‪ :‬جعل المرجعية مدونة علوم مباشرة‪.‬‬‫فلا خلاف أننا كلنا نؤمن بأن المرجعية صالحة لكل زمان ومكان‪ .‬لا يهم إن كان ذلك صحيحا‬‫أو غير صحيح فموضوعنا ليس هذا بل توهم ما يستخرج منها من تأويلات من جنسها فيظن‬‫وكأنه مثلها صالح لكل زمان ومكان وينتج عن ذلك أن التعليم يتمثل في حفظ المتون وكل‬ ‫تجاوز يبدع صاحبه‪.‬‬‫والنتيجة مضاعفة‪ :‬أولا عدم احترام ما أمرت به المرجعية التي لم تجعل ذاتها مدونة‬‫علوم بل وجهت إلى حيث ينبغي البعث عن العلوم إيجابا (فصلت ‪ )53‬وسلبا (آل عمران ‪)7‬‬‫لكن ما حصل هو العكس تماما في الإيجاب والسلب وثانيا أصبح التجاوز مقصورا على‬ ‫التحشية اللفظية التي تكدس الثرثرة لا غير‪.‬‬‫وبذلك فقد العلم فاعليته لأنه لا يعالج العلاقة العمودية مع الطبيعة التي صرنا فيها‬‫أميين بإطلاق ولا يعالج العلاقة الأفقية إلا بخطاب الوعظ والإرشاد وهو كلام لا أثر له‬‫حتى في لحظة التفوه به والدليل أن خطب الجمعة صارت من أضحوكات الجميع بمن فيها‬ ‫أكثر الناس تقوى وإيمان‪.‬‬‫لم يبق من التربية أدنى جزء لأنها تحولت إلى عملية ترويض خرافي هم معلميه هو‬‫توطيد السلطة الروحية ‪-‬عبارة لحم العلماء سام من أرذل ما ساد في هذه الرؤية العقيمة‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪84‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫في الحقيقة السام هو خطابهم‪-‬وليس علاج معضلات الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف‬ ‫وشروطهما العلمية والخلقية‪.‬‬‫والغائب في ذلك كله هو الوسيط بين السياسي والتربوي أو شرط شروط العمل على علم‬‫بحال الجماعة من حيث علاقتها العمودية بالطبيعة وعلاقتها الأفقية بالتاريخ وهو جوهر‬‫البحث الاجتماعي الذي نالني شرف تكليفي بتدريس منهجيته للطلبة في أول سنتين من‬ ‫التحاقي بجامعة تونس الاولى‪.‬‬‫وأختم هذا الفصل الأول من الجزء الثالث من محاولي في إعادة بناء شروط الاستئناف‬‫بشرح ما قلته عما أنسبه إلى ابن خلدون واعتبره أهم مما بدأ به كونت وعلم الاجتماع‬‫الفرنسي‪ :‬يكفي أن تقابل تصوره بتصور من يتكلمون على علم الاجتماع العربي‪ .‬صار العلم‬ ‫يسمى بخصوصية موضوعه بخلاف رأي ابن خلدون‪.‬‬‫هو سماه \"علم العمران البشري و(علم) الاجتماع الإنساني\" ولم ينسبه إلى جماعة‬‫بعينها‪ .‬وعندما أقول الفرنسي أعني أن واضعيه فرنسيين وليس العلم‪ .‬وعندما أقول‬‫الألماني أعني واضعيه وليس موضوعه‪ .‬ما يتميز به ابن خلدون يشبه الألماني أكثر من‬ ‫الفرنسي‪ :‬لأنه وصله بما يتميز به الإنسان عامة‪.‬‬‫وذلك هو منطلق التأسيس الفلسفي لعلم الاجتماع الألماني من خلال التمييز بين علوم‬‫الطبيعة ‪ Naturwissenschaft‬وعلوم الإنسان أو علوم الروح ‪.Geisteswissenschaft‬‬‫وعندما يدخل أهم مؤسس لعلم الاجتماع الألماني البعد الديني في تحولات الرؤى‬ ‫الاقتصادية مثلا فذلك ما أقصده بالأهم عند ابن خلدون‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪85‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫عللت عزمي على تقديم المؤسسات الاجتماعية على المؤسسات التربوية ولأمر الآن إلى‬‫المقصود بالمؤسسات الاجتماعية التي ينبغي أن نعيد بناءها حتى يتسنى لنا تحقيق شروط‬‫الاستئناف الذي يخلص الامة من حالة الطوارئ والقوانين الاستثنائية والعودة إلى‬ ‫الدستورين المتعلقين بوجهي السياسة حكما وتربية‪.‬‬‫والآن تبدأ مشكلة المشاكل‪ :‬كيف نحدد المؤسسات الاجتماعية والظاهرات الاجتماعية‬‫التي تعنى بها يمكن وصفها بكونها لا تكاد تتناهي فعلاقة البشر العمودية بالطبيعة‬‫وعلاقتهم بالتاريخ وفعل الاولى في الثانية والثانية في الاولى وما يوحد بينها جميعا أو‬ ‫مفهوم الإنسان واسترمازه غير قابلة للحصر‪.‬‬‫وها نحن نلامس ما اعتبرت ابن خلدون قد فاق به الجميع رغم دعاة فهمه بعصره حصرا‬‫لكأن محاولات فهم الفلسفة اليونانية ما بعد سقراط وما قبله يصح عليها توالي الفهوم فلا‬‫تعتبر اندفانا في الماضي كما يوصف كل من يحاول معاملة تراثنا الفلسفي بالمثل واكتشاف‬ ‫ما قد يكون غاب عن أذهان قرائه السابقين‪.‬‬‫فليراجع أي باحث صادق الباب الاول من المقدمة‪ .‬وسيكتشف أن المعادلة الخلدونية ليس‬‫البداوة والحضارة والعصبية كما يتوهم الكثير بل هي العلاقة بين الطبيعي والرمزي أو‬‫الثقافي من حيث هو عودة على ذاته لعلاج العلاقتين العمودية والافقية عودة مشدودة‬ ‫بالخوف من المستقبل الناتج عن معضلاتهما‪.‬‬‫أما البداوة والحضارة فهما مرحلتان في علاج هذه المعضلات بمقتضى ما يفرضه ما يسميه‬‫ابن خلدون \"نحلة العيش\" ولا علاقة لها بنمط الإنتاج وعلاقات الإنتاج بالمعنى الماركسي‬‫عند من يبحثون عن السبق الخلدوني حتى يصبح لابن خلدون منزلة عندهم بالقياس إلى‬ ‫ما صار معيار تحديد المنازل في الفكر‪.‬‬‫صحيح أن بين الامرين وجه شبه‪ .‬لكن الفرق الجوهري هو صلتهما بالمشكل الأساسي الذي‬‫هو ما وصفت والذي يجعل الاسترماز هو الأساس في كل ما هو اجتماعي وإنساني‪ :‬والاسترماز‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪86‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫هو أداة العلاج المتنوع لهذه العلاقة بين الطبيعي والتاريخي في حياة الإنسان الذي يصبح‬ ‫كيانه مرجعية التأويل كله‪.‬‬‫المبدأ الموحد لما يبدو لا متناهيا من الاجتماعي هوما يسميه الفلاسفة الانثروبولوجيا‬‫الفلسفية (=نظرية الإنسان) التي تجمع بين العلاقتين العمودية (العلاقة بالطبيعة)‬‫والأفقية (العلاقة بالتاريخ) أو الطبيعي والرمزي من كيان الإنسان أو الطبيعي والروحي‬ ‫من كيان الإنسان في علاقة بالعالم وبما ورائه‪.‬‬‫وبهذا المعنى يصبح قلب الرحى في المقدمة نظرية الإنسان وعليها تبنى أرشيتاكتونيك‬‫فروع علم الاجتماع أو ما بفضله يمكن حصر المسائل المقومة لعلم العمران البشري (العلاقة‬‫العمودية خاصة) والاجتماع الإنساني (العلاقة الافقية خاصة) وخاصة تعني أن كل‬ ‫موضوع العلم يرى كله من هذه أو من تلك دون رد‪.‬‬‫\"دون رد\" تعني ‪ Without reduction‬لأن الماركسية هي رد إلى أثر الاول في الثاني وما‬‫يرد به عليها هو رد الأول إلى أثر الثاني فيه‪ .‬وكلاهما غير صحيح لأن اعتبار الأول‬‫والثاني منطلق منظور للكل هو المقصود بالعلاقتين‪ :‬بمعنى أن العمران والاجتماع لا‬ ‫ينفصلان إلا كمنظارين لموضوع علم الاجتماع‪.‬‬‫والمنظوران يمثلان وجهين من كيان الإنسان في الانثروبولوجيا الخلدونية والفلسفية‬‫عامة‪ .‬ومعنى ذلك أن الأول يمثل كيانه الفعلي والثاني كيانه الرمزي أو الاول يمثل كيانه‬‫الأداتي والثاني كيانه الغائي‪ :‬وصف ابن خلدون العمران بكونه لسد الحاجات المادية‬ ‫والثاني لسد الحاجات الروحية (الأنس)‪.‬‬‫وانطلاقا من هذا التعريف يمكن القول إن ابن خلدون قد وصف أول خطة لحصر المسائل‬‫التي يمكن أن تعتبر مجال البحث الاجتماعي بعد تحديد جوهر الإشكال الانثروبولوجي في‬‫الباب الأول أي العلاقتين العمودية (العلاقة بالطبيعة والجغرافيا) والأفقية (بالزمان‬ ‫والتاريخ)‪ :‬الخوف من المستقبل‪.‬‬‫البال الأول من المقدمة ينطبق على الأبواب الخمسة الباقية ويؤطرها ويليه علاج هذه‬‫الاشكالية بحسب فروعها‪ .‬ففي الثاني العمران البدوي ونحل العيش فيه والثالث الدولة‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪87‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫والرابع المدينة والخامس الاقتصاد والأخير العلاج الرمزي لكل ما تقدم أو العلوم والتربية‬ ‫واللسان والفنون‪ :‬منظومة ذات اتجاهين‪.‬‬‫والاتجاهان يلتقيان في الباب الرابع‪ .‬ولما كان الاول يشملها جميعا فإن قراءة البقية‬‫بالانطلاق منه يجعلنا نبدأ من الثاني إلى الرابع ثم نعود من السادس إلى الربع فنجد‬‫المنظورين اللذين تكلمت عليهما‪ .‬فمن ‪ 2‬إلى ‪ 4‬نلاحظ تناقص دور الطبيعي وتزايد دور‬ ‫الثقافي والعكس من ‪ 6‬إلى ‪.4‬‬‫والمدينة هي نقطة التوازن بين الاتجاهين وفيها كل نحل العيش في مركزها تغلب نحلة‬‫العيش الحضرية وفي محيطها نحلة العيش البدوية بحيث إن كل مدينة فيها كل التكوينية‬‫العمرانية والاجتماعية وهي ملخص جغرافي تاريخي لكل حضارة‪ .‬وهو ما يمكن من‬ ‫الانطلاق إلى اعادة بناء المؤسسات الاجتماعية‪.‬‬‫وأول ملاحظة أبدأ بها هي سخافة كل المعادين للإسلام من العرب وخاصة ممن هم بقايا‬‫الصليبيين والباطنيين أو من يوصفون بعرب الشمال الذين وصل الغباء ببعضهم إلى اعتبار‬‫الإسلام دين البداوة‪ :‬ونسوا أنه تأسس في حاضرة سماها بالذات \"مدينة\" بمعنيي الكلمة‬ ‫الفلسفيين‪.‬‬‫فأما المعنى الاول فهو ما منه اشتق فلاسفة العرب اسم علم السياسة تماما كالحال في‬‫اليونانية واللاتينية‪ :‬فالسياسة هي علم المدنية بمعنى الإنسان الذي اجتمع وتجاوز‬‫الاجتماع البدائي إلى الاجتماع العائد على ذاته ليكون صاحب تنظيمها بعمل على علم وهو‬ ‫معنى السياسة حكما وتربية‪.‬‬‫وأما المعنى الثاني فهو في آن موضوع هذا المعنى الاول وفي نفس الوقت غايته القصوى‬‫أي المدنية التي يؤكد عليها القرآن ويقابلها بالبداوة المنافية للمدنية كما يصف بذلك من‬‫يسميهم الاعراب وهم غير العرب وهم من يذمهم ابن خلدون حتى وإن استعمل كلمة عرب‬ ‫بمعناها في استعماله‪ :‬من ليسوا مدنيين‪.‬‬‫فالعرب في المقدمة يفيد أمرين‪ :‬معنى انثروبولوجي عام ينطلق كل رعاة الإبل من كل‬‫الشعوب وهم العائشون في الصحاري بسبب رعاية الإبل وذكر منهم عدة شعوب وسماهم‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪88‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫عربا‪ .‬ومعنى عرقي خاص بالعرب وهم من يتكلم عليهم عندما يؤرخ للحضارات والدول‬ ‫فيقابل بينهم وبين الفرس والبربر مثلا‪.‬‬‫لكن الحاقدين على العرب كعرق يعتبرون يخلطون بين الدلالتين فيعتبرون كلامه من‬‫جنس شهد شاهد من اهلها وهذا دليل جهل وتحامل‪ .‬ذلك أن مؤسس الحضارة الإسلامية‬‫هم العرب وفي كل العلوم العقلية والنقلية بخلاف شهادة اخرى لابن خلدون يساء تأويلها‬ ‫خلطا بين الكم والكيف‪.‬‬‫صحيح أنه كميا كان العلماء من غير العرب‪ .‬لكن كيفيا كان المؤسسون خاصة عربا‪ .‬ولن‬‫أتكلم على الرسول فهو مبلغ وليس صاحب العلم الذي بلغه‪ .‬ولن أتكلم على العلوم النقلية‬‫أو علوم الملة كأصول الفقه واصول الدين وعلوم اللسان فهذه مفروغ من عروبة مؤسسيها‪.‬‬ ‫ولا فائدة من ذكر الأسماء‪.‬‬‫فلأذكر علوم العقل‪ .‬ففي الفلسفة أولهم الكندي‪ .‬وفي الرياضيات اولهم وأكبرهم ابن‬‫قرة الجد والحفيد‪ .‬وما عداهما منبن عليهما‪ .‬لذلك فكفى تقويلا لابن خلدون ما لم‬‫يقصده‪ .‬هو تكلم على الكم ولم يتكلم على الكيف‪ .‬ولأعد على ما هو وسط بين النقلي‬ ‫والعقلي‪ .‬فمؤسس علوم اللسان على الرياضيات الخليل‪.‬‬‫فقد بنى معجمها على رياضيات التواليف والتقاليب مطبقا إياها على الحروف وبنى‬‫قوانين شعرها على نفس التواليف ولكن ليس للأصواب بل لمدد الحركات بصرف النظر عن‬‫الأصوات وهو فرع من الموسيقى أو من علم توزيع الزمان‪ .‬وما اتصور قوما بدوا يمكن أن‬ ‫يفعلوا ذلك‪.‬‬‫ولو كانوا قد فعلوه لأنهم كانوا تحت الاستعمار الفارسي لكان ذلك قد حدث قبل الإسلام‪.‬‬‫ولم ينتظر قرنا نيفا ليحصل‪ .‬ثم الفرس نفسهم لا أعلم لهم فلاسفة قبل ابن سينا والغزالي‬‫وهؤلاء لا فرسية لهم وإلا لكانوا وجدوا قبل الإسلام‪ .‬فلكأن احدا نسب علماء أمريكا‬ ‫الحاليين إلى أصولهم السابقة‪.‬‬‫والدليل الدامغ والحاسم‪ :‬لو كانت الحضارة العربية الاسلامية ترد إلى تأثير من تقدم‬‫عليها ‪-‬ولا أنفي وجود هذا التأثير بل ردها إليه‪ -‬لكان لما استطاعت الحضارة العربية‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪89‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫الإسلامية تصبح الطابع العام لكل من انتسب إليها ممن تقدم عليها في الحضارة‪ :‬فلسفة‬ ‫ودينا ولغة وأدبا وحتى بحورا شعرية‪.‬‬‫قد لا يرى القارئ المتسرع علاقة هذا الذي يبدو استطرادا بالغرض من البحث أعين‬‫بإعادة بناء شرو ط الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف‪ .‬لكن العلاقة متينة وهي شديدة‬‫العمق‪ :‬ينبغي للاستئناف أن يكون أولا وقبل كل شيء مبادرة شعب النشأة الأولى‪ .‬والشرط‬ ‫أن يستعيد ثقته بنفسه‪.‬‬‫فالعرب اليوم يعاملون باحتقار من الكثير من الشعوب ليس لأنهم يستأهلون ذلك حتى‬‫وإن كان وضعهم قد يبرره بل لأنهم أصيبوا في مقتل من أبناء جلدتهم الذين هم بقايا‬‫الصليبية وبقايا الباطنية وكل من توخى محاولة التميز باحتقار العرب والرسالة وشرط‬ ‫الاستئناف الكوني‪ :‬العرب أولا والأتراك ثانيا‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪90‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫استعادة هذه الثقة بالنفس شرط ضروري غير كاف‪ .‬واعتقد أن تركيا استعادتها وأعادت‬‫الثقة لشعبها بهويته لكن العرب ما زالوا بعيدين عن هذه الغاية وهو ما سيكون مادة لبحثي‬‫الآن‪ .‬فما الذي جعل قلب الإسلام ومنبع النشأة الأولى ينكص إلى تكوينات اجتماعية‬ ‫بدائية أخرجته تقريبا من التاريخ؟‬‫فبعد الدولة الأموية في المشرق ثم خاصة بعد الدولة الأموية في الأندلس لم يبق للعرب‬‫دور يذكر في تاريخ الإسلام ولولا ولاء شعوب إسلامية غير عربية لكانت دولة الإسلام قد‬‫انقرضت بانقراض دور العرب الذي بدأ بعيد هارون الرشيد في المشرق وبعد سقوط‬ ‫الأمويين في الاندلس‪.‬‬‫والحمد لله أن الشعوب التي تداولت على دولة الإسلام ‪-‬الموحدة سياسيا أو الموحدة‬‫ثقافيا على الاقل‪ -‬لم تقض على وحدة اللسان الشامل للثقافة العلمية فلسفية كانت أو‬‫دينية وإلا لما لكانت ثقافة الإسلام قد انفرط عقدها مع ضمور دور العرب فيها بتبني هوية‬ ‫عربية لجل القيادات تبركا ساعد على ذلك‪.‬‬‫لكن دور الوحدة الثقافية ضمر بالتدريج ولم يبق منه إلا البعد الديني أولا لأن العلوم‬‫ذات الصلة بعلوم الطبيعة وأدواتها وحتى بعلوم التاريخ وأدواتها صارت أثرا بعد عين‬‫وثانيا لأن الهنود والفرس والاتراك عادوا بالتدريج إلى لغاتهم لكنهم لم يضيفوا أمرا‬ ‫يذكر بعد انفراط عقد الوحدة اللسانية‪.‬‬‫فالمبدعات العلمية بغير اللغة العربية في الثقافة الإسلامية لا قبلها ولا بعدها لا يعتد بها‬‫وليس فيها ما يمكن أن يضاهي ما تحقق لما أصبحت العربية لسانا رسمية لكل المبدعين‬‫المسلمين أيا كانت اثنيتهم‪ .‬لذلك فالكلام عن المؤسسات والكيانات الاجتماعية مداره حول‬ ‫نكوص الابداع والاجتماع‪.‬‬ ‫والآن ما المقصود بالمؤسسات والكيانات الاجتماعية التي تعنينا في هذا البحث؟‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪91‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫في فصل سابق تكلمت على أمر كثيرا ما يقع إغفاله‪ :‬فعندما قلت إن الإسلام ألغى الوساطة‬‫الروحية (الكنسية) والوصاية السياسية (الحكم بالحق الإلهي) وأن ذلك حرر الفرد‬ ‫والجماعة لكنه ترك فراغا كبيرا يحتاج إلى بدائل‪.‬‬‫ذلك أن الحرية الاولى أو العلاقة المباشرة بين المؤمن وربه تركت فراغا اجتماعيا لكيان‬‫كان يؤدي الكثير من الوظائف التي نسميها اليوم وظائف المجتمع الاهلي مثل التربية‬‫والصحة والانتاج المعرفي وكل ما يتعلق بالمستوى الثاني من الوجود الاجتماعي أي‬ ‫الاسترماز‪.‬‬‫وهي مهمة تكفل بها تدريجيا ما نسميه بالأوقاف أعني بنوع من تكفل المجتمع الأهلي‬‫بتمويله وتنظيمه ورعايته وكان يمكن أن يكون ذك بديلا يحقق وظيفة مؤسسة الوساطة‬‫دون أن يكون وسيطا بين المؤمن وربه ما يعني أن ما كان مقصودا من إلغاء الكنسية ليس‬ ‫وظائفها المدنية بل وساطتها الروحية‪.‬‬‫كما أن الغاء وصاية الحكم بالحق الإلهي لتحقيق الحرية السياسية للفرد والجماعة في‬‫الإسلام (وهو باق في التشيع) كان من المفروض أن يعوضه نظام الانتخاب وسيلة لتحقيق‬‫البديل وهو نظام عسير التحقيق وشديد التدرج حتى في اوروبا الحديثة فنشأ منه مسخ‬ ‫هو البيعة المفروضة بعد تشريع التغلب‪.‬‬‫وكان من المفروض ان ينتج عن هذين النوعين من البدائل عن الوساطة والوصاية كل‬‫المؤسسات الاجتماعية التابعة للسياسي والتربوي وبين بعدي الحكم نجد المؤسسات‬‫الاجتماعية التي لها صلة بالاقتصاد (مثل النقابات المهنية والتجمعات المهنية) وبالرعاية‬ ‫الاجتماعية (مثل الصحة والعوز)‪.‬‬‫ويجمع بين كل هذه الكيانات الاجتماعية البديلة من الوساطة والوصاية ما يوحدها فيعلل‬‫كونها الوصل الدائم بين السياسي والتربوي مثل الوسائط الحادة من الصدام والاحتكاك‬‫بين مكونات المجتمع حتى يكون الوجود الجمعي سلميا ما أمكنت السلمية وأعني وسائل تحقيق‬ ‫ما يسميه ابن خلدون الانس بالعشير‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪92‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫وهو نوع من المؤسسات الاجتماعية التي هي ليست سياسة وليست تربوية وليست تضامينة‬‫وليست نقابية ولا مهنية لكنها أهم من ذلك كله وتتعلق بمجال عام يشغل فراغات بين كل‬‫ما سبق وهو علة كل ما سبق وسماه ابن خلدون الانس بالعشير أو الذوق والاخلاق العامة‪:‬‬ ‫تنظيم الحياة المشتركة في السراء والضراء‪.‬‬‫ويمكن اعتبار هذا المجال هو جوهر ما يملأ الفضاء العام والخاص في أي جماعة وهو ما‬‫يضفي على الحياة مسحة الجمال والجلال وفيه تبرز حقائق أي مجتمع الدفينة لأنه هو‬‫غاية كل ما سبق الكلام عليه في الجماعة ومن دونه لا تكون الجماعة بحق جماعة إنسانية‪.‬‬ ‫وقد سماه ابن خلدون التنازل للأنس بالعشير‪.‬‬‫ومن اهم ظاهرات اليوم الالعاب والرياضة والحفلات الجماعية والمظاهرات وكل أشكال‬‫التعبير بما فيها أشكال التعبير الديني والمساجد والمقابر والأعراس والمهرجانات والمعارض‬‫إلخ‪ ....‬وكلها قابلة للتوظيف في الانشطة الاقتصادية والسياسية والتربوية ولكنها مطلوبة‬ ‫لذاتها وهي الاجتماعي المطلق‪.‬‬‫وكلها ينطبق عليها مفهوم الظاهرة الاجتماعية الكلية لمارسال موس ( ‪Phénomène‬‬‫‪ )social total‬لتضمنه كل أبعاد الوجود الإنساني ولتمثيله للإنسان من حيث إنسان‬‫اجتماعي بالجوهر‪ .‬وهذه آخره المؤسسات التي أريد أن أفهم ضمورها السابق الدال على‬ ‫ضمور الحياة والإبداع في حضارتنا‪.‬‬‫ولما كانت كل الظاهرات الاجتماعية موضوع للدرس الاجتماعي فإنها كما أسلفنا شبه‬‫لامتناهية فمثلا دراسة الظاهرة السياسية اجتماعيا لو أخذنا كل عنصر من مقومات الدولة‬‫الخمسة (المرجعية والقوى السياسية والدستور والهيئة الحاكمة‪-‬المعارضة ووظائف الدولة‬ ‫العشرة لصارت شبه لامتناهية‪.‬‬‫ولكل منها دور في تهاوي الجهاز الاسترمازي الذي تستعمله الجماعة لعلاج علاقتيها‬‫العمودية والافقية حتى تكون جماعة حامية وراعية لذاتها وهو ما علينا إعادة بنائه في‬‫السياسة والتربية وما بينهما من الظاهرات التي حاولت حصرها في هذه المحاولة‪ .‬وكل‬ ‫واحدة منها شبه لامتناهية‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪93‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫ولا عجب في الامر فالظاهرات الاجتماعية أشد تعقيدا من بعدي الكيان الإنساني‬‫وتفاعلاتهما أعني من الطبيعي والتاريخي أو من المادي والرمزي في كيان الإنسان فردا‬‫وجماعة وخاصة عندما ننظر في الصيرورة والسيرورة التي تجري بها الظاهرات وتفاعلاتها‬ ‫لتحدد الحال الاجتماعية في لحظة ما‪.‬‬‫فلو أردت دراسة الحوافز والمثيرات التي جعلت شباب الأمة بجنسيه الآن يصبح عامل‬‫التحريك الأول للفاعلية الاجتماعية رغم أن ذلك ليس من عادات مجتمعاتنا التي خمدت‬‫فيها جذوة الحياة وأصبحت تسير على دبيب شيوخها وعجائزها لوجدت في ذلك بصيص أمل‬ ‫للاستئناف‪.‬‬‫ذلك أن الامة في نشأتها الأولى لم يكن محركها الشيوخ بل شباب من الجنسين أحاطوا‬‫بالرسول وآمنوا بالرسالة فكانوا قيادات حققت معجزات لا يوجد من لا يعجب من تحققها‬‫في امة كانت على هامش التاريخ في ذلك العصر أكثر مما هي الآن‪ .‬ومن المثير أن قادة‬ ‫الفتح كان بعضهم في سن المثالية (دون العشرين)‪.‬‬‫ولهذه العلة فأول شرط للاستئناف أن يحرم على من تجاوز سن الرسول عند ارتقائه‬‫للرفيق الأعلى تحمل أي مسؤولية مباشرة في إدارة شؤون الامة مستقبلا‪ .‬قد يقبل مستشارا‬‫لمن يتحمل هذه المسؤولية من الشباب بجنسية من الذين أعادوا للامة أمل الاستئناف‬ ‫فتجاوزوا خرافة التعارض بين الإسلام والحداثة‪.‬‬‫وسنرى في كلامنا على التربية كيف يمكن أن يصبح بوصع نظام الأمة التعليمي معدا لمن‬‫يجمع بين شروط المسؤولية الخمسة‪ :‬قوة الإرادة وقوة العقل وقوة القدرة وقوة الحياة‬‫(الذوق) وقوة الرؤية أعني ما كان يمثله شباب الامة بجنسيه من طاقة مبدعة قادت النشأة‬ ‫الأولى لتقود الاستئناف‪.‬‬‫وأن يكون كل نوع من النخب غلبت عليها إحدى هذه الصفات بقيادة من كان الأبرز في‬‫تلك الصفة حتى تصبح النخب بأصنافها الخمسة تتحرك بأفضل ما هو ممكن لأن ما ينتظر‬‫الأمة وما على شبابها تداركه هو ما تخدل في ذمتها مما يجب تداركه لأنه مركون أربعة عشر‬ ‫قرنا من الاستثناء التاريخي الفاعل‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪94‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫وإذا بدأ شبابنا بجنسيه وكأنه فاقد للأفق والانطلاق فلأنه لم يجد مشروعا يلهب فيه‬‫الطموح للفاعلية الكونية ولأن نظامه السياسي والتربوي والاجتماعي بينهما وما وراءه من‬‫صلة بما يشد وجوده إلى منشوده قد فقد القدرة على الإيحاء الإبداعي والتحريك الخلاق‬ ‫لفرط سوء استعماله بعلوم زائفة‪.‬‬‫وتلك هي علة البدء بالكلام على فساد علوم الملة التي هي العلة الاولى والأساسية لتعطل‬‫كل الفعاليات التي تعالج قضايا العلاقتين العمودية بين الإنسان والطبيعة والافقية بين‬‫الانسان والتاريخ مع جعلنا غرباء في الطبيعة البكماء لأننا لم نتعلم لسانها وتابعين في‬ ‫التاريخ الذي كدنا نخرج منه‪.‬‬‫وكل ما أحاوله من شرح لما حصل حتى نصبح ما أصبحنا هو الجواب عن هذه الأسئلة‬‫المحيرة للشباب بجنسيه والتي شلت حركته فجعلته مترددا بين نوعين من الانتحار باسم فهم‬‫رديء للحياة الدنيا (الهجرة بالارتماء في البحر) أو باسم فهم أردأ للآخرة (التحول إلى‬ ‫أدوات لمجرمين شوهوا أسمى قيم الإسلام)‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪95‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫تيسيرا للكلام في المؤسسات والكيانات الاجتماعية العامة حتى لا أقع في اللامتناهي لتجليات‬‫الاجتماعي وتعثراته التي أفسر به تردي حضارتنا وبلوغها غاية الانحطاط الذي يتمثل‬‫تأثيره في عدم كفاية قرنين لتجاوز الكبوة سأختار المقومات الخمسة لنظرية الإنسان أصل‬ ‫كل ما هو اجتماعي كوني‪.‬‬‫لست غافلا عن كون علم الاجتماع الحديث يهتم بالعيني أكثر من اهتمامه بالكوني وربما‬‫بالخصوصي أكثر من اهتمامه بالكلي وبالدراسات الميدانية أكثر من اهتمامه بالمشترك‬‫الإنساني لكن همي ليس اجتماعيا بالفهم البراجماتي والمعتمد على الاستطلاعات‬ ‫والإحصائيات بل بعلاج العلاقتين اجتماعيا‪.‬‬‫وقد أكثرت من الإشارة إلى العلاقتين العمودية بالطبيعة والأفقية بالتاريخ أو بالمؤسسات‬‫الاجتماعية التي تعتمد عليها السياسة حكما وتربية للتحقيق التوازنات الممكنة من الوجود‬‫السلمي في مؤسسات يغلب عليها الممارسة العرفية أكثر من المؤسسات الشكلية في العمل‬ ‫والتعامل أو التبادل والتواصل‪.‬‬‫فالاجتماعي هو الارضية التي يجري فيها السياسي والتربوي في التعامل مع هذين العلاقتين‬‫العمودية والافقية اللتين تمثلان مدار كل ما هو علاقات اجتماعية‪ :‬فالناس يتبادلون ما‬‫ينتج عنهما ويتواصلون حول ما يتعلق بهما وبما ينتج عنهم في علاقات التنازع بين البشر في‬ ‫الجماعة أو بين الجماعات‪.‬‬‫وخياري هو التالي‪ :‬مقومات الإنسان من حيث هو مستعمر في الارض بقيم الاستخلاف أو‬‫بدونها خمسة هي الإرادة وكليها السياسي والخلقي والعلم وكليها الإدراك والمعرفة‬‫والقدرة وكليها الثروة والمنزلة والحياة وكليها الذوق والفنون والوجود وكليه الرؤى‬ ‫الدينية والفلسفية‪ .‬فلندرس ما حل بهذه الوجوه‪.‬‬‫ولندرس بالترتيب المعكوس فنبدأ بآخرها ونعود إلى أولها في مستويين كسلوك فردي‬‫وكسلوك جمعي وما بين السلوكين من تفاعل ومن تأثر وتأثير في السياسي والتربوي لنفهم‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪96‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫المعنى الخلدوني لفساد معاني الإنسانية الذي يفسر به ليس انحطاط الأمم فسحب بل‬ ‫وكذلك زوالها البطيء من التاريخ‪.‬‬‫وهذا لا يتنافى مع الدراسات العينية ودراسة الحالات المونوغرافية والاحصائية‬‫والاستطلاعية لكني كلامي على الماضي وتطور المؤسسات الاجتماعية ودون أن أنفي إمكانية‬‫ذلك من خلال الكثير من الوثائق التي تعد ثقافتنا ثرية فيها كثيرا حتى إن لها معاجم‬ ‫خاصة بها ولها فنون تأليف تشملها‪.‬‬‫فمؤلفات الطبقات ومعاجم الحرف وخاصة دفاتر شهود العدول تمكن من علم اجتماع تاريخي‬‫مفيد‪ .‬لكن ذلك كله ليس مطلوبي بل كما فعلت في كلامي على السياسة سأكتفي باستخراج‬‫بنية عامة تشرح كيف الذبول المتدرج للمؤسسات والكيانات الاجتماعية التي كان لها التأثير‬ ‫في الخمول العام للإبداع الحضاري‪.‬‬‫فوصف الظاهرات الاجتماعية وتشخيص أحوالها ليس مرتبطا بالمباشر والحي منها بل يمكن‬‫أيضا وصف ماضيها وتشخيصه من خلال الوثائق التي رصدت مجراها لما كانت في شبه بث‬‫حي إما في كلام أصحابها عليها أو في آثارها التي كانت مدار جدالهم وخاصة صراعاتهم‬ ‫الفئوية والطبقية والطائفية إلخ‪...‬‬‫وفي هذا المضمار اعتبر دراسة الذهنيات وتحولاتها البطيئة من حيث التراكم الكمي‬‫والفجئية من حيث الطفرات الكيفية جزءا لا يتجزأ مما يمكن تسميته علم الاجتماع‬‫التاريخي حتى لا يقتصر على الاجتماع على دراسة ما يعاصره الباحث من احداث اجتماعية‬ ‫حية خلال مجراها وليس بعده أو حتى قبله‪.‬‬‫نعم \"أو حتى قبله\" ذلك أن توقع مآل المسارات الاجتماعية بالإسقاط على التطور المتوقع‬‫يمكن اعتباره علم اجتماع الاحداث المقبلة بوصفها مآلات الأحداث الحالية إذ لا فرق بين‬‫اعتبار المآلات الحالية حصيلة لحالات ماضية كان توقعها ومقارنة هذا التوقع بما صار حاصلا‬ ‫واعتبار المقبل افقا لحصوله‪.‬‬‫وهذه مقدمة للبدء في دراسة الرؤى الدينية والفلسفية بوصفهما ظاهرتين اجتماعيتين‬‫تحددان آفاق الصيرورة الاجتماعية والحضارية لكل جماعة أو هي الإطار التصوري‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪97‬‬ ‫الأسماء والبيان‬