Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore ابن تيمية وقطعه مع الفلسفتين القديمة والوسيطة - أبو يعرب المرزوقي

ابن تيمية وقطعه مع الفلسفتين القديمة والوسيطة - أبو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2019-07-29 18:33:25

Description: ابن تيمية وقطعه مع الفلسفتين القديمة والوسيطة - أبو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪re nils frahm‬‬ ‫ابن تيمية‬ ‫وقطعه مع الفلسفتين القديمة‬ ‫والوسيطة‬ ‫الأسماء والبيان‬



‫المحتويات ‪1‬‬ ‫‪ -‬الفصل الأول ‪1 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثاني ‪8 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثالث ‪16 -‬‬ ‫تمهيد‪16 :‬‬ ‫‪ -‬الفصل الرابع ‪25 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الخامس ‪31 -‬‬

‫‪--‬‬ ‫مثلما قدمت ابن خلدون بصورة تتجاوز عمله إلى ما هو حامل به أعني الخلدونية المحدثة‬ ‫سأشرع في تقديم ابن تيمية بصورة تتجاوز عمله إلى ما هو حامل به أعني التيمية المحدثة‪.‬‬ ‫ومثلما أن الأولى قطعت مع الفلسفة العملية اليونانية وما بعدها والموروثة عنها قديما‬ ‫ووسيطا فإن الثانية هي قطعت مع الفلسفة النظرية السابقتين قديما ووسيطا‪.‬‬ ‫وفي الحقيقة فإن المنطلق في الحالتين واحد‪.‬‬ ‫إنه الفلسفة في الشكل الذي عرفته حضارتنا والحضارة الغربية الوسيطة أعني المزيج بين‬ ‫افلاطون وأرسطو بشكل أفلوطيني محدث ولكن في خليط غلب عليه خاصة المعلوم من فلسفة‬ ‫أرسطو وشروحها اليونانية التي وصلت إلينا لأن المعلوم من فلسفة أفلاطون غالبا ما سيطر‬ ‫عليه الميل إلى أبعاد غنوصية كما في فكر السهروردي أو حتى في ما يبدو رياضيا فيثاغوريا‬ ‫كما في رسائل إخوان الصفا‪.‬‬ ‫ولا بد من تمهيد يبين موطن النقد الذي مكن من التجاوز وسأكتفي بابن تيمية في هذه‬ ‫المحاولة‪ .‬وسأدخل تغييرا مفيدا على نظام العلوم الأرسطي لتجاوز ثغرة فيه علتها أنه لم‬ ‫يحدد موقعا فيها للمنطق رغم أنه هو صائغه شكله الأول صوغا نسقيا وجعله تأسيسه الجدلي‬ ‫كان الموضوع الثاني لكتاب ما بعد الطبيعة الذي أسس فيه علم الموجود من حيث موجود على‬ ‫نموذج الطبيعة وأسس مبادئ العقل الثلاثة الشهيرة أي مبدأ الهوية وعدم التناقض‬ ‫والثالث المرفوع‪ .‬التغيير هو تحديد موضعه في النظام‪.‬‬ ‫فنظام العلوم الأرسطية أو تصنيفه للعلوم يكتفي بذكر ستة ولا يذكر من بينها علم المنطق‬ ‫الذي لا يعتبره علما بل مدخل للعلوم بكل أصنافها وحتى للفنون التي لم تصل إلى درجة‬ ‫العلم النظري مثل الخطابة والشعر والجدل والسفسطة‪ .‬فكلها لابد لها من شيء من‬ ‫الحاجة إلى المنطق مثلها مثل العلوم بحق أي النظرية والعملية‪.‬‬ ‫فمن دون التعديل الذي أنوي القيام به في تصنيف أرسطو للعلوم الرئيسية الستة أي‬ ‫الثلاثة النظرية والثلاثة العملية‪-‬وهو التصنيف الذي ظل قائما إلى بداية العصور‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪1‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الحديثة في الغرب أو ما يماثلها لكنه لم يلتفت إليه أحد عندنا أعني عند ابن خلدون وابن‬ ‫تيمية بعد محاولة النقد عند الغزالي‪-‬لا يمكنني بيان ثورة ابن تيمية الفلسفية‪.‬‬ ‫وحتى العلوم الستة فالثابت منها بصورة صريحة ومكررة في ما بعد الطبيعة ثلاثة هي‬ ‫العلوم النظرية التي هي الطبيعيات والرياضيات والإلهيات أو ما بعد الطبيعة‪ .‬وقياسا‬ ‫عليها ترد أحيانا العلوم العملية بتصنيف مماثل لها دون ثبات واضح فيها‪ .‬وهي كذلك‬ ‫ثلاثة مناظرة لها وكل الأمر يتطلق بهذا التناظر‪ .‬وهذه العلوم العملية إذا أقدمت فرضيا‬ ‫على عرضها بصورة مناظرة للعلوم النظرية فإنها تكون كالتالي‪:‬‬ ‫‪ .1‬فنظير الطبيعيات فيها هو الاقتصاديات وكانت مقصورة على الاقتصاد المنزلي جزءا‬ ‫من ا لسياسة رغم كلامه على اقتصاد الدولة بل وله فيه كتاب يبدو أنه منحول عليه‪ .‬يليه‬ ‫نظيرا للرياضيات الأخلاقيات‪.‬‬ ‫‪ .2‬والنظير الثاني للأوسط في النظريات أي للرياضيات هو الأخلاقيات فهي الوسطى بين‬ ‫الاقتصاديات والسياسيات‪ .‬وسنرى الدور الذي تؤديه في العمليات وتناظره مع الرياضيات‬ ‫في النظريات‪.‬‬ ‫‪ .3‬ثم النظير الثالث هو نظير الإلهيات أو ما بعد الطبيعية (الإلهيات ليست مصطلحا‬ ‫عربيا بل هو أرسطي وأهم مقالات الميتافزيقا أي الثانية عشرة مخصصة لإثبات وجود‬ ‫المحرك الأول أو الإله العقل عنده) هو السياسيات‪ .‬فتكون السياسة علم رئيس في ا لعميات‬ ‫مثل الميتافيزيقا في السياسيات‪ .‬ولم يكن ذلك أمرا مفروغا منه لأن عالج منزلة السياسي‬ ‫في أخلاق نيقوماخوس بوصفه منافسا لما بعد الطبيعة في منزلة العلم الرئيس إذ تساءل عن‬ ‫العلم الرئيس ‪-‬الارشيتاكتونيك‪ -‬هل هو الميتافيزيقا أم السياسة‪ .‬وبعد تردد قرر أن يعطي‬ ‫هذه المنزلة للميتافيزيا تقديما للنظر على العمل في رئاسة العلوم كلها‪.‬‬ ‫ومناط بحثي هو بيان أن العلم الرئيس الذي انسب اكتشافه لابن تيمية غيرهما وأنه فوق‬ ‫ما بعد الطبيعة والسياسة وأصلهما‪ .‬وهذا العلم الرئيس هو الذي يسد الثغرة في نظام‬ ‫العلوم الأرسطي ويمكن من تجاوزه وبالانطلاق منه يمكن فهم ثورة ابن تيمية لم يكن‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪2‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫موجودا رغم أن بعضا منه كان موجودا وهو المنطق ببعديه في شكلهما الذي صاغه أرسطو‬ ‫وعمل به الفكر إلى حدود ثورة ابن تيمية‪:‬‬ ‫‪ .1‬المنطق الذي يعمل على الرموز كمتغيرات دون تعيين لطبائع الموضوعات التي تتكلم‬ ‫عليها الرموز بشكل المتغيرات (التحليلات الأوائل)‬ ‫‪ .2‬المنطق الذي يطبق هذه البنى المجردة على موضوعات معينة (التحليلات الأواخر الذي‬ ‫يدرس البرهان والحد)‪.‬‬ ‫وهذه التسمية أرسطية‪.‬‬ ‫فالأول هو التحليلات الأوائل والثاني هو التحليلات الأواخر‪ .‬لكن المشكل الذي يعنى به‬ ‫ابن تيمية وكان أرسطو يعتبره أمرا مفروغا منه هو المشكل الذي يدرس علاقة نوعي‬ ‫التحليلات أحدهما بالآخر واستخرج أصل العلم المطلوب والذي يؤدي إلى تجاوز المشائية‪.‬‬ ‫إنه علم طبيعة علاقة الرمز بالمرموز بين المتواصلين في العلم‪ .‬وهي إشكالية تجمع بين نظرية‬ ‫الترميز ونظرية المعرفة‪.‬‬ ‫لم يكن بالوسع تصنيف هذا النوع الجديد من البحث الفلسفي‪ .‬وهو ما يمكن أن نعتبره‬ ‫علم الوسميات أو علم السيميوتكس التي تتعلق بنظرية الترميز وما تستند إليه من علاقة‬ ‫بين النظام الرمزي والنظام الوجودي إن صح التعبير ونظام التواصل بين المرمزين وهو‬ ‫مجال المنطق يعتبر أحد أبعاده أو أحد اشكاله ويمكن اعتبار الرياضيات أحد أشكاله وأي‬ ‫نظام ترميز أحد أشكاله‪.‬‬ ‫والأهم من ذلك هو تضمنه اللسانيات‪ .‬ومن ثم فأهم إرهاصات ثورة ابن تيمية لسانية‪.‬‬ ‫ومنها رفضه المقابلة الكلامية الأدبية وحتى الفلسفية (أرسطو كتاب الشعر) \"حقيقة‪-‬مجاز\"‬ ‫ليس بالمنظور الذي يرد ذلك لموقفه من التأويل في علم الكلام بالمجاز بل لأنه لا يعتبر‬ ‫العلاقة بين الدال والمدلول ذات صلة بالحقيقة ولا بالمجاز بل هي مواضعة بين المتواصلين لا‬ ‫غير‪ .‬فيكون بذلك قد اكتشف العلاقة المخمسة للترميز‪ :‬بين الدال والمتواصلين والمدلول‬ ‫وضمن نظام الدال وضمن نظام المدلول وضمن نظام المتواصلين‪ .‬ومعنى ذلك أن الأنظمة‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪3‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الثلاثة بتناظرها تحدث العلاقة بين الدال والتواصل والمدلول‪ .‬والأصل هو علاقة الدال‬ ‫بالمدلول بتوسط المتواصلين‪.‬‬ ‫والأهم من هذه الأهمية هو أنه رد المعاني التي كان أرسطو يتصورها حقائق موضوعية‬ ‫مقومة للأشياء ومنها تشتق صورة الأشياء أو ماهيتها التي تنعكس على الذهن وهي مادة‬ ‫المعرفة العلمية يعتبرها ابن تيمية هي بدورها رموزا من جنس الرموز الملفوظة لسانا‬ ‫والمكتوبة رسما ولا علاقة لها بمقومات الشيء الذي تشير إليه إشارة تواضعية كذلك‪.‬‬ ‫وهو يشبه دورها بدور الحدود التي ترسم للفصل بين الأشياء في المكان ‪-‬وهنا في كل نظام‬ ‫من الأنظمة الثلاثة المتناظرة‪-‬كالتي ترسم حدود قطع الأرض في الجغرافيا أو في الزراعة‬ ‫فتكون مفيدة بما تحدثه من تناظر بين نظام الرموز ونظام المرموزات لدى متواصلين معينين‬ ‫في جماعة معينة بالنسبة إلى اللغات الطبيعية وفي اختصاص معين بالنسبة إلى اللغات‬ ‫الاصطناعية‪ .‬وقد يكون التواصل في لغة طبيعية خاصة بجماعة أو في لغة صناعية خاصة‬ ‫باختصاص معين بتجاوز فروق اللغات الطبيعية‪.‬‬ ‫فتكون الإفادة ليست بتناظر الرمز الواحد مع المرموز الواحد بل بتناظر المنازل في النظام‬ ‫الرمزي مع المنازل في النظام المرموز تناظرا يتحدد بالانعكاس على نظام التواصل في جماعة‬ ‫معينة إذا كان الكلام لغة طبيعية أو لجماعة اختصاص تتجاوز فيه اللغة الصناعية‬ ‫الاختلافات بين اللغات الطبيعية مثل لغة الرياضيات في العلوم والتقنيات‪.‬‬ ‫ومن الطبيعي ألا يُفهم كلام ابن تيمية هذا في عصره وأن يظن تخريفا لأن الفلسفة‬ ‫السائدة كانت تعتبر العقل مرآة صقيلة تعكس مقومات الموضوع الذي هو شفاف إلى العقل‬ ‫في علاقة مباشرة بين الوجود يليها الترميز وليس هو هي بحدود المواضعات في الجماعة‪.‬‬ ‫ومن ثم فهم يقولون بنظرية المطابقة بين العلم والموضوع المعلوم إذا توفرت شروط التحرر‬ ‫من أخطاء الحواس وأخطاء الاستدلال العقلي‪.‬‬ ‫لكن ابن تيمية يفرض ذلك جملة وتفصيلا‪ :‬العقل ليس مرآة عاكسة والوجود ليس شيئا‬ ‫شفافا ولا وجود لمطابقة بين العلم ومقومات الموضوع المعلوم‪ .‬كل ما يوجد هو معاني يقدرها‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪4‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الذهن حدود تحيل إلى ما يعتبره مؤثرا في إدراكه في حدود ما يستطيع إدراكه من أعراض‬ ‫الشيء دون تمييز بين نوعيها إلا فرضيا‬ ‫كانت نظرية الوجود الأرسطية تميز بين ثلاثة عناصر في الشيء‪:‬‬ ‫‪ .1‬ماهيته‬ ‫‪ .2‬أعراضه الذاتية‬ ‫‪ .3‬أعراضه العامة‪.‬‬ ‫والأولى لا برهان عليها بل هي حدسية والأخير لا يعلم لأنه لا متناهي‪ .‬فيبقى موضوع‬ ‫العلم الأعراض الذاتية التي هي ما يترتب على الماهية أو الهوية‪ .‬والبرهان لا يكون إلا‬ ‫على هذه العلاقة‪.‬‬ ‫ابن تيمية يرفض التمييز بين نوعي الأعراض ويرفض أن تكون الماهية معلومة علما‬ ‫يقينيا وهي من ثم حد مؤقت دائما إذ يمكن تغييرها بحسب تقدم المعرفة وتبقى دائما رموزا‬ ‫تشير إلى الشيء إشارة الحدود إلى قطعة الأرض وليست مؤلفة من مقومات الشيء أي‬ ‫من الجواهر الثانوي بمعنى الجنس والفرق النوعي‪.‬‬ ‫وإذن فالعلم بالأشياء الموجودة في الخارج أي التي هي موضوع التجربة في صيرورة دائمة‬ ‫وكل شيء فيه قابل للتغير بحسب تقدم الإدراك الذي يعدل تحديد المواضع في النظام‬ ‫الرامز والنظام المرموز للجماعة المتواصلة إما باللغة الطبيعية أو باللغة الصناعية وهي كلها‬ ‫رموز تشير للشيء وليست مقوماته‪.‬‬ ‫ولذلك فهو يرفض نظرية المعرفة القائلة بالمطابقة بين العلم وموضوعه‪ .‬والفرق بين‬ ‫العلم وموضوعه لا يمكن أن يزول لأن الوجود ليس شفافا والعقل ليس مرآة عاكسة ثم إن‬ ‫الوجود ليس كله شاهدا بل فيه غيب لا يمكن أن يزول وأن يعلم ومن ثم فلا وجود لعلم‬ ‫محيط‪ .‬فهل معنى ذلك لا وجود لعلم كلي ويقيني؟‬ ‫لا ونعم‪ .‬فابن تيمية ينفي أن يوجد علم برهاني وكلي عندما يتعلق الامر بالموجودات‬ ‫الحقيقية التي لها قيام ذاتي في العالم الخارجي الذي نحاول معرفته‪ .‬لكنه يوجد علم‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪5‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫برهاني وكلي عندما يتعلق الامر بما يسميه المقدرات الذهنية التي من جنس المنطق‬ ‫والرياضيات لأنها تصنع العلم وموضوعه التقديري‪.‬‬ ‫فلكأن الأمر يتعلق بلعبة رمزية خالصة ليس مرموزها موجودا قائما بذاته في الوجود‬ ‫المحسوس بل مرموزها تحدثه هي بالمواضعات الرمزية والتعريف التقديرية التي تستعمل‬ ‫المتغيرات بدلا من المضامين الوجودية المحددة‪ .‬وحينها يمكن كما يقول للعقل المحض أن‬ ‫يعمل ويعلم ما يعمل بالمواضعة الرمزية‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪6‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪7‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ثورة ابن تيمية لا يمكن أن نسميها باصطلاح الفلسفة القديمة والوسيطة بسبب المنزلة‬ ‫التي يوليها إلى مفهوم المقدرات الذهنية التي هي وحدها قابلة لأن تكون موضوع \"علم‬ ‫برهاني ونظر محظ وكلي\" وما ترتب عليه من اعتبار كل معرفة موضوعها ليس من هذا‬ ‫الجنس لا تتوفر فيها هذه الصفات‪ :‬ليست برهانية ولا محضة ولا كلية‪.‬‬ ‫وقبل أن نفهم تعليله فلنسأل‪ :‬ما الأمر في العلوم العملية وهل ينطبق هذا الكلام على‬ ‫المعرفة الدينية بمعنى هل هي أيضا تنقسم إلى ما ينتسب إلى المقدرات الذهنية وإلى‬ ‫الحقائق التي ليست من جنسها بمعنى الحقائق التي تخضع لعلاقتها بموضوع ليس من‬ ‫المقدرات الذهنية فيجعلها ليست برهانية ولا محضة ولا كلية؟‬ ‫ذلك أن ابن تيمية تكلم بصورة عامة ولم ينظر إلى الفرق بين العلوم النظرية والعلوم‬ ‫العملية وإلى الفرق بين العلوم المنضوية تحت مظلة الدين والعلوم الفلسفية‪.‬‬ ‫فهل ما يقوله يصدق علـى المسكوت عنهما في كلامه على علم المقدرات الذهنية وعلاقتها‬ ‫بعلم ما ليس من جنسها؟‬ ‫هنا فحسب تدخلت لسد ثغرة في نظام العلوم الأرسطي لفهم ثورة ابن تيمية‪ .‬وذلك‬ ‫بالجواب عن سؤال ضمني‪ :‬هل للعلوم العملية الثلاثة بعد التقدير الذهني مثل العلوم‬ ‫النظرية الثلاثة أم ليس لها هذا البعد؟‬ ‫وضمن ذلك يدخل ضم العلوم الدينية إلى العلوم الفلسفية إن صح التعبير لمعرفة هل‬ ‫هي أيضا تخضع لهذه الثنائية علم المقدرات الذهنية وعلم الموضوعات الخارجية؟‬ ‫فيمكن عقلا أن أتخيل طبيعيات بالتقدير الذهني وطبيعيات فعلية تستند إلى الطبيعة‬ ‫المحسوسة ورياضيات بالتقدير الذهني ورياضيات على الكم والمقدار المحسوسين وإلهيات‬ ‫بالتقدير الذهني وإلهيات فعلية أو من بها وأعيشها بوجداني (وهنا يتدخل ما يتعلق بفكر‬ ‫ابن تيمية خصيصا أي على يعتبر العلم الديني مثل العلم الطبيعي لا يمكن أن يكون برهانيا‬ ‫ولا محضا ولا كليا؟)‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪8‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لكن ما يعنيني الآن مواصلة للبحث عما يكمل نظام أرسطو هو السؤال التالي‪ :‬هل يوجد‬ ‫اقتصاديات وأخلاقيات وسياسيات بالتقدير الذهني قياسا على الطبيعيات والرياضيات‬ ‫والإلهيات لو طبقنا الفصل التيمي بينهما فصلا يجعل لها مستوى التقدير الذهني ومستوى‬ ‫الوجود الفعلي؟‬ ‫ولما كان التقدير الذهني في العلوم النظرية الثلاثة يمكن اعتباره كله ابداعا لنظام رمزي‬ ‫قابل للاستعمال فيها كلها وهو من جنس الرياضيات الكلية فإن المطلوب هو الجواب عن سؤال‬ ‫واحد‪ :‬هل يوجد تقدير ذهني للعلوم العملية يكون بالنسبة إليها في نسبة الرياضيات الكلية‬ ‫إلى العلوم النظرية كلها؟ (وبصورة خاصة هل تنطبق هذه القسمة على العلوم الدينية؟)‬ ‫تلك هي الثغرة التي كان علي سدها في فلسفة أرسطو حتى تصبح ثورة ابن تيمية قابلة‬ ‫للفهم والتعليل‪ .‬وكان الجواب يقتضي قفزة مفهومية قد يعتبرها علماء الدين خروجا عن‬ ‫الملة خاصة إذا استنتجنا منها أن ما يقال عن العلوم الفلسفية ينطبق بعينه على العلوم‬ ‫الدينية التي لا يمكن استثناءها من ثورة ابن تيمية النافية للبرهانية والمحظية والكلية‬ ‫على غير المقدرات الذهنية‪.‬‬ ‫لكن حتى نفهم الجواب فهما متحررا من هذا الأفق الضيق فلننطلق من خاصية جوهرية‪:‬‬ ‫ليس لها مثيل في الشاهد ولا يفهم الشاهد بدونها‪ .‬فإذا كانت المقدرات الذهنية الرياضية‬ ‫ليس لها مثيل في عالم الشهادة ولا شيء يعمل من عالم الشهادة بقابل للفهم والتفسير من‬ ‫دونها فإن الإشكال الذي أبحث عن حل له لأسد ثغرة فكر أرسطو سدا يمكن من فهم ثورة‬ ‫ابن تيمية هو‪ :‬هل يوجد نوع ثان من المقدرات الذهنية‪-‬لن اصفها باسم خاص بها الآن‪-‬‬ ‫يؤدي هذه الوظيفة في العلوم العملية؟ وهل يمكن حينئذ أن نجد علما رئيسا فوق الجنسين‬ ‫فيكون أصلا متقدما على العلوم النظرية الثلاثة والعلوم العملية الثلاثة؟‬ ‫لماذا أحجمت عن إطلاق اسم عن هذا النوع الثاني رغم كون الصفة المميزة لهذا النوع‬ ‫مذكورة في القرآن الكريم نفسه‪ .‬فكل ما يقال عن الله واليوم الآخر والقيم الروحية‬ ‫والروح كلها من جنس \"ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على بال بشر\"‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪9‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وهي إذن ليست من الشاهد ولا مثيل لها فيه ولكن لا يمكن العمل الشاهد من دونها‬ ‫فتكون من جنس المقدرات الذهنية التي تكلم عليها ابن تيمية في دحضه لليقين في معرفة‬ ‫الشاهد لأنه لا شيء يمكن أن يكون برهانيا ومحضا وكليا خارج المقدرات الذهنية‪.‬‬ ‫ولو استسغنا هذا المثال فاعتبرنا المثل الأفلاطونية مقدرات ذهنية ضرورية لفهم الوجود‬ ‫الذي يقاس عليها باعتباره الموجودات نسخا منها دونها كمالا ما يجعلها لا يمكن أن يكون‬ ‫علمها برهانيا ولا محضا ولا كليا لقلنا إن المقدرات الذهنية تشبه علاقة المثل حيث الكمال‬ ‫قسنا عليها النسخ التي تشبه الوجود الخارجي في النقص مثل علاقة الأشكال في تصورها‬ ‫الهندسي بأي شكل نرسمه مهما كان تاما لمجرد تعينه المادي‪.‬‬ ‫لا أستطيع أن أقول إن الأديان هي النوع الثاني من المقدرات الذهنية لأن أصحاب الفكر‬ ‫الضيق سيتهمونني بالتشكيك في وجودها لكأن من يتكلم على الرياضيات العالية يشكك في‬ ‫وجودها موضوعاتها لمجرد تسمية علمها تقديرا ذهنيا لظنه أن الوجود مقصور على الوجود‬ ‫الشاهد والمحسوس مع التوكيد على أن الوجود الشاهد مستحيل العلم من دونها ومثله للعمل‬ ‫في حالتنا‪ .‬ويعسر أن أفهم من لا يفهم استحالة أن يكون ما هو ضروري لوجود الشاهد أكثر‬ ‫كثافة وجودية منه‪.‬‬ ‫وتجنبا لهذا الإشكال الذي كان ينبغي ألا يقع لو كان رجال الدين يفهمون القصد من‬ ‫التقدير الذهني بالمعنى التيمي مطبقا على الرياضيات في مجال العلوم النظرية إذا نقلناه‬ ‫لما يؤدي نفس الوظيفة في العلوم العملية فكرت في تسمية هذا النوع الثاني من التقدير‬ ‫الذهني بالأدبي أي إبداع قصص عملي مثالي يمكن على الأقل من حيث الشكل والوظيفة‬ ‫اعتبار الأديان جنسا عاليا منه‪.‬‬ ‫ولست غافلا عن كون ذلك لا يزيل التهمة لأن أصحاب النوايا السيئة سيقولون إذن أنت‬ ‫تعتبر الأديان تقديرات ذهنية مثل الروايات والقصص ولا تعتقد في وجودها الفعلي‪ .‬ولا‬ ‫أستطيع أن أقنعهم بأن موقفهم هذا يعني أنهم يتوهمون الوجود الفعلي هو الوجود‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪10‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫المحسوس‪ .‬وهذا يشبه كثيرا موقف أولئك الذين كانوا يتصورون أن رياضيات اقليدس هي‬ ‫الوحيدة الممكنة ولم يفيقوا إلا بعد ابداع غيرها‪.‬‬ ‫وكلها \"ذات\" وجود أكثر حقيقة من وجود العالم المحسوس الذي يعتبره العامة \"واقعا\"‪.‬‬ ‫ولا يوجد ملحد ليس من العامة حتى أولئك الذين يزعمون بناء إلحادهم على العلم بل‬ ‫وخاصة هؤلاء لأنهم عامة يدعون العلم المستحيل‪ :‬فلا يوجد علم محيط بوجود فعلي مطلق‬ ‫يمكن أن تبنى عليه معرفة علمية مطلقة لا في الفلسفة ولا في الدين‪.‬‬ ‫ولا بد هنا من اشارة سريعة سأعود إليها وهي أن العقائد تنقسم إلى نوعين متناظرين‬ ‫بالتسالب وكلاهما مضاعف المستوى أعني مستوى عادة العامة ومستوى من يحاول تجاوز‬ ‫العامة بعلم زائف يصبح عاميا بل وأحمق بمجرد أن يتصور الحصول على علم محيط يمكن‬ ‫أن يحسم في الأمر إيجابا أو سلبا‪:‬‬ ‫‪ .1‬أولها العقيدة المؤسسة على إيمان العجائز أي على العادة التي لا يفكر صاحبها في‬ ‫الحاجة إلى اثبات ما تعود عليه دينيا يبدو له حقيقة مطلقة لا يتطرق إليها أدنى شك‪.‬‬ ‫‪ .2‬ولها نظير سلبي يتأسس على إلحاد العجائز أي العادة التي لا يفكر صاحبها في‬ ‫الحاجة إلى إثبات ما تعود عليه لا دينيا يبدو له حقيقة مطلقة لا يتطرق إليها أدنى شك‪.‬‬ ‫‪ .3‬والثالث هو التشكيك في الاول ومحاولة أثبات الإيمان بالعلم المزعوم أي علم‬ ‫الكلام الموجب وهو إيمان الحمقى‪.‬‬ ‫‪ .4‬والرابع هو التشكيك في الثاني ومحاولة إثبات الإلحاد بالعلم المزعوم علم الكلام‬ ‫السالب وهو إلحاد الحمقى‪.‬‬ ‫‪ .5‬وأصل ذلك كله هو أن الإنسان كيانه عينه هو هذا التنازع بين المواقف الاربعة‬ ‫التي لا يخلو منها وعي صاحبه ذو وجدان حي يتلظى بالحيرة الوجودية الدائمة‪.‬‬ ‫ولما كان نوعا الفكر عندنا أو من سميتهم بالكاريكاتورين التأصيلي والتحديثي يعتبران‬ ‫العالم المحسوس هو الواقع وهو الوجود الفعلي الوحيد فإن اقناعهم بأن هذا النوع الثاني‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪11‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫من المقدرات الذهنية قد يكون أكثر \"واقعية\" من التاريخ أمر مستحيل وقد يعتبرون من‬ ‫هو على هذا الرأي مجنونا‪.‬‬ ‫أضع إذن على الأقل على سبيل الفرض أنه يوجد نوعان من التقدير الذهني الرياضي‬ ‫للعلوم النظرية والأدبي للعلوم العملية‪:‬‬ ‫‪ .1‬والأول شرط علوم الطبيعية والطبيعة وما ورائها وهو يتعلق بالضرورة‬ ‫الشرطية‪.‬‬ ‫‪ .2‬والثاني شرط العلوم الإنسانية والتاريخ وما ورائه وهو يتعلق بالحرية الشرطية‪.‬‬ ‫والشرطية هنا هي شرط المثال لفهم المثيل الذي هو عين ماثلة من المثال ينقصها ما في المثال‬ ‫من كمال‪ .‬ولعل أفلاطون اقترب من الفكرة‪ .‬لكن ما حال دونه والوصول إليها عائقان‬ ‫لغياب نظرية الرمز التي مكنت ابن تمية من تجاوزه وتجاوز أرسطو في آن‪.‬‬ ‫والمعلوم أن اقتراب افلاطون مما نطلبه يعتمد على الحل التالي‪:‬‬ ‫‪ .1‬تصور المثيل عينة مشاركة فعليا في المثال أي إن المثيل نسخة من المثال الذي يحل‬ ‫في مثيله في عالم الشهادة‪.‬‬ ‫‪ .2‬واعتبار المثال جنسا أعلى من الجنس الرياضي الذي جعله وسيطا بينه وبين المثيل‬ ‫أي بين المثال المتعالي والطبيعي المتداني‪.‬‬ ‫لكن لو أدرك أفلاطون ما أدركه ابن تيمية فاعتبر المعاني المثالية‪-‬المثل‪ -‬ليست مقومات‬ ‫الأشياء والموضوعات المعلومة بل هي رموز تشير إليها دون أن تكون من مقومة لها أو من‬ ‫طبيعتها أو حتى مدركة لحقيقة طبيعتها لكان هو الذي حقق ثورة ابن تيمية قبله‪.‬‬ ‫لكنه لم يفعل وهذا هو سر تسميتي عمل ابن تيمية ثورة وسر عجز حداثيي العرب فهم‬ ‫نسبتي هذه الثورة إليه‪ .‬فالمعاني الكلية ليست عند ابن تيمية مقومة للأشياء سواء‬ ‫اعتبرناها مفارقة كما في الرؤية الافلاطونية أو محايثة كما في الرؤية الأرسطية‪.‬‬ ‫ونفي أن تكون المعاني الكلية مقومة سواء كانت مفارقة (أفلاطون) أو محايثة (أرسطو)‬ ‫واعتبارها مجرد رموز مثلها مثل الفاظ اللغة ورسوم الكتابة تلك هي الثورة التيمية ولا‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪12‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫علاقة لها بالرد على المنطقيين التي تلقفها باعة الروبافياكيا للكلام عليه في حين أنه لم‬ ‫يأت بجديد في نقد المنطق كفن استدلال ولم يعترض على أرسطو في شيء ذي بال في ما‬ ‫يتعلق بالتحليلات الأوائل‪.‬‬ ‫والآن حان الوقت لإيراد الشاهدين الأهمين اللذين يبرزان هذه الفكرة الثورية‬ ‫واللذين لهما من الوضوح والصراحة ما يستحيل أن يشكك أحد في ما يمكن أن يستمد منها‬ ‫من دلالة على القطع النهائي مع الفلسفة القديمة والوسيطة كلها‪ .‬وتعليلها يتعلق بأمرين‬ ‫هما بعدا ثورته‪:‬‬ ‫‪ .1‬الأول هو الثورة المفهومية في تحديد المعاني الكلية وجعلها هي بدورها رموزا مثل‬ ‫الفاظ اللغة ورسوم الكتابة وليست مقومة لموضوع المعرفة‪.‬‬ ‫‪ .2‬والثاني هو الثورة الابستمولوجية الفاصلة بين علم المقدرات الذهنية وعلم‬ ‫الموجودات القائمة خارجها واستحالة أن يكون علم هذه مطابقا لها مثل علم تلك‪.‬‬ ‫وهذان هما بعدا الثورة اللذين اعتبرهما بندي شهادة وفاة الفلسفة القديمة‬ ‫والوسيطة‪ .‬ولنبدأ بإيراد النص المعلل لشرط إمكان الثورة ‪-‬وهو من درء التعارض وليس‬ ‫من الرد على المنطقيين بخلاف ما يظن الذين يعتقدون ثورته تتعلق بنقد المنطق حتى وإن‬ ‫كان هذا النقد المناسبة التي استعملت فيه ثمراتها‪-‬رغم أن الوعي بهذه الوظيفة ظل‬ ‫غامضا‪:‬‬ ‫\"وبسبب الغلط فيه (في طبيعة وجود الكلي=المقدر الذهني) ضل طوائف من الناس حتى‬ ‫في وجود الرب تعالى وجعلوه وجودا مطلقا إما بشرط الإطلاق (أفلاطون وشيعته) وإما‬ ‫بغير شرط الإطلاق (أرسطو وشيعته)‪ .‬وكلاهما يمتنع وجوده في الخارج‪ .‬والمتفلسفة منهم‬ ‫من يقول‪ :‬يوجد المطلق بشرط الإطلاق في الخارج كما يذكر عن شيعة أفلاطون القائلين‬ ‫بالمثل الأفلاطونية‪ .‬ومنهم من يزعم وجود المطلقات في الخارج مقارنة للمعينات وأن الكلي‬ ‫المطلق جزء من المعين الجزئي كما يذكر عمن يذكر عنه من أتباع أرسطو صاحب المنطق‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪13‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وكلا القولين خطأ صريح فإنا نعلم بالحس وضرورة العقل أن الخارج ليس فيه (إلا) شيء‬ ‫معين مختص لا شركة فيه أصلا\"(درء التعارض)‪.‬‬ ‫وطبعا فالدافع لهذا النقاش كلامي لأنه دائر مع الرازي حول رد المنقول إلى المعقول‬ ‫بالتأويل عند التعارض‪ .‬لذلك يقول‪:‬‬ ‫\"وأمثال ذلك من اغاليطهم التـي تقود من اتبعها إلى الخطأ في الإلهيات حتى يعتقد في‬ ‫الموجود الواجب أنه وجود مطلق بشرط الإطلاق كما قاله طائفة من الملاحدة أو بشرط‬ ‫سلب الأمور الثبوتية كلها كما قاله ابن سينا وأمثاله\" (‪ \" )...‬مع العلم بصريح العقل أن‬ ‫المطلق بشرط الإطلاق أو بشرط سلب الأمور الثبوتية يمتنع وجوده في الخارج فيكون‬ ‫الواجب الوجود ممتنع الوجود\"(نفسه)‪.‬‬ ‫ويترتب على رفض الوجود الفعلي للمعاني الكلية مفارقة كانت أو محايثة واعتبارها‬ ‫مقدرات ذهنية ونفي أن تكون من مقومات ما يشير إليه القول العلمي في موضوعه مشكل‬ ‫أساسي ولا يمكن أن فهم وألا نعجب من لغز هذا الشيء الذي يعتبر ضروريا للعلم دون أن‬ ‫يكون ذا قيام في موضوعه إما على نحو المفارقة الأفلاطونية أو على نحو المحايثة الأرسطية‪.‬‬ ‫ذلك ما اعتبرته ثورة وكان على فهمه‪ .‬فما هي هذه الثورة؟‬ ‫قبل الجواب لا بد من البدء بالسلب‪ :‬ما الذي يترتب على هذا القول بالنسبة إلى الرؤية‬ ‫الوجودية في الفلسفة التي ينقدها ابن تيمية فيسقط نهائيا وتتحرر منه نظرية المعرفة‪:‬‬ ‫يقول ابن تيمية‪\" :‬ومن علم هذا (ما بدانا بذكره) علم كثيرا مما دخل في المنطق من‬ ‫الخطأ في كلامهم في الكليات والجزئيات مثل الكليات الخمس الجنس والفصل والنوع‬ ‫والخاصة والعرض العام وما ذكروه من الفرق بين الذاتيات واللوازم للماهية وما ادعوه‬ ‫من تركيب الأنواع من الذاتيات المشتركة المميزة التي يسمونها الجنس والفصل وتسمية‬ ‫هذه الصفات اجزاء الماهية ودعواهم أن هذه الصفات التي يسمونها أجزاء تسبق الموصوف‬ ‫في الوجود الذهني والخارجي جميعا واثباتهم في الأعيان الموجودة في الخارج حقيقة عقلية‬ ‫مغايرة للشيء المعين الموجود\"(نفسه)‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪14‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فمن له دراية بالفلسفة القديمة والوسيطة يدرك أن ابن تيمية لم يبق شيئا منها بهذه‬ ‫الإشارات‪ .‬فمن دون هذه الأمور التي نفاها كلها لا يمكن تصور شيء من مما يسمى علوما‬ ‫عقلية في عصره ممكنا‪ .‬لكنه مع ذلك نفاها كلها واعتبرها أخطاء لا توصل إلى العلم بل‬ ‫تحول دونه‪ .‬تلك هي شهادة وفاة الفلسفة القديمة والوسطية شهادتها التي مثلتها ثورة‬ ‫ابن تيمية‪.‬‬ ‫والآن‪ :‬من يكتب شهادة وفاة الفلسفة القديمة والوسيطة لا بد أن يقدم البديل أي‬ ‫شهادة ميلاد الفلسفة البديل أو على الأقل التصريح باللاأدرية المطلقة‪ .‬وابن تيمية لم‬ ‫يكتف بتسجيل وفاة هذه الفلسفة بل قدم البديل وكتب ميلاده كذلك لأنه تجاوز نقد‬ ‫الغزالي الذي كان يهدف باعترافه إلى التشكيك في الفلسفة ممثلة بالفارابي وابن سينا‬ ‫تجاوزه فقدم انطولوجيا وابستمولوجيا بديلتين هما بعدا ثورته وهما ما به يمكن أن نجد‬ ‫الوصل الممكن بين علوم النظر وعلوم العمل والأصل الواحد للفلسفي والديني عامة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪15‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫يقتضي الوصل بين ثقافة النخب العربية الحداثية الحالية والنخب العربية التي كانت‬ ‫تمثل نظراءهم في الماضي‪ -‬إذا اعتبرنا إدخال الفلسفة اليونانية القديمة في الثقافة‬ ‫الإسلامية حينها أشبه بإدخال الفلسفة الغربية الحديثة فيها‪ -‬ولفهم علل موقفهم الحالي‬ ‫من وصفي عمل ابن تيمية ثورة بسبب قطعه مع الفلسفة القديمة‪ :‬العلة هي أنهم لم‬ ‫يدركوا بعد أن ما قطع معه في القديمة هو ما عادوا إليه فيا لحديث اتباعا لهيجل وماركس‬ ‫أي‪:‬‬ ‫‪ .1‬القول بنظرية المعرفة والقيمة المطابقتين بافتراض العلم الإنساني محيطا‪.‬‬ ‫‪ .2‬القول بوحدة العالم وأن الحقيقي فيه هو ما يتجلى من الطبيعي والتاريخي فيهما‪.‬‬ ‫فنسبة هيجل إلى ماركس هي عينها نسبة أفلاطون إلى أرسطو بخصوص هذين الرؤيتين‪.‬‬ ‫ومن ثم فجل المثقفين العرب الحاليين يمثل ماركس في الرؤية الفلسفية وجودا ومعرفة‬ ‫وقيمة لهم ما مثل أرسطو لجل المثقفين المسلمين في القرون الوسطى‪.‬‬ ‫لكن يوجد فرق جوهري هو تجلي ما حاولت أفلاطون وأرسطو التخلص منه وعاد إليه‬ ‫هيجل وماركس‪:‬‬ ‫‪ .1‬العلاقة بالدين‪ :‬كانت الفلسفة في حالتي أفلاطون وأرسطو تحاول وضع دين بديل‬ ‫متأسس على المبادئ الفلسفية على النحو الذي فهمه الفارابي أو ما يسميه الملة الفلسفية في‬ ‫مقابل الملل أي الاديان التي تعتمد على الوحي عندنا وعلى ما كان أفلاطون وأرسطو‬ ‫يسميانه حماية الشعراء وخيالهم في الفلسفة العملية‪ .‬وبهذه الرؤية فهم كل فلاسفة‬ ‫العصر الوسيط عندنا الاديان المنزلة‪ .‬لكن هيجل اعتبر العلم الفلسفي المطلق ليس هو‬ ‫شيئا آخر غير عقائد الدين المسيحي إذا فهمت على حقيقتها‪.‬‬ ‫‪ .2‬العلاقة بالعلم‪ :‬كان العلم يعتبر فرعا من فروع تطبيقات الفلسفة الأولى عند‬ ‫أفلاطون وأرسطو وكان الفلاسفة قبل كل شيء وبعد كل شيء علماء‪ .‬وهو ما كان يتوهمه‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪16‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فلاسفتنا في القرون الوسطى‪ .‬لكن اليوم بات الأمر مستحيلا حتى لو أدعى ماركس أن المادية‬ ‫الجدلية علم‪.‬‬ ‫وفي الحالتين صارت الفلسفة إما إديولوجيا دينوية أو إيديولوجيا علموية‪ .‬وفي الحالة‬ ‫الهيجلية فإنها تصبح بالضرورة إما تجربة وجدانية صوفية أو عكسها أي إما إيمان صوفي أو‬ ‫إلحاد مادي‪ .‬وفي الماركسية فإنها تصبح بالضرورة إما تجربة سياسية أو عكسها أي إما التزام‬ ‫سياسي أو ثورة سياسية‪.‬‬ ‫وحتى نخرج من هذين التصورين صار من الواجب أن نطلب الممكن للإنسان مما يمكن من‬ ‫التحرر من هذين الرؤيتين المضاعفتين والمتكاملتين دون دعوى المبدأين اللذين تتأسس‬ ‫عليهما نظرية المعرفة والقيمة المطابقة ونظرية العالم الواحد الذي هو العالم الطبيعي‬ ‫والتاريخي دون أن يكون ذلك شيئا آخر غير الاقتصار على الممكن للاجتهاد المعرفي والقيمي‬ ‫الإنساني‪.‬‬ ‫كتابة رسم الوفاة بالنسبة إلى الفلسفة القديمة والوسيطة كاد يتحول إلى جريمة لأن‬ ‫قراءه لم يروا إلا شهادة الوفاة ولم ينتبهوا لشهادة ميلاد البديل‪ .‬واعتقد أن ذلك حصل‬ ‫لكل مبادرات التحرر من تحريف الفكرين الفلسفي والديني في تاريخنا الحضاري‪ .‬لكأن‬ ‫الجماعة صارت لا تعنى إلا بشهادات الوفيات ولا تلتفت إلى البديل‪.‬‬ ‫وما يعنيني اليوم هو البديل الذي قدمه ابن تيمية بعد إلغاء كل ما ذكرت في الفصل‬ ‫السابق‪ .‬وهي كلها تقبل الرد إلى مسألة واحدة‪ :‬ما البديل من هذه الأمور كلها بوصفها‬ ‫مردودة إلى نظرية العلاقة بين المعاني الكلية والموجودات الفردية القائمة بذاتها موضوعا‬ ‫للعلم في الفلسفة القديمة والوسيطة؟‬ ‫ينبغي التنبيه إلى أن أرسطو نفسه يؤمن بأنه لا وجود إلا للأفراد ولا علم إلا للكليات‪.‬‬ ‫وحله بخلاف الحل الأفلاطوني اعتبار الكليات معان وجودية متعينة في الأفراد فوهي‬ ‫صورتها أو عبارة جوهرها في حين أن افلاطون يعتبرها معان وجودية مفارقة للأفراد التي‬ ‫تحاكيها بالمشاركة في الصورة التي هي الوجود الكلي للمثل‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪17‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫المشكل هو أن ابن تيمية ينفى الحلين الأفلاطوني والأرسطي‪ :‬المعاني الكلية لا حقيقة‬ ‫لها من جنس الموجودات المشار إليها خارج نظام الرموز سواء تصورنا هذه المعاني الكلية‬ ‫مفارقة أو محايثة‪ .‬وهو ما يقتضي تغيير طبيعتها‪ :‬كانت في الفلسفة القديمة والوسيطة‬ ‫مقومات وجودية للأشياء الفردية سواء حايثتها أو فارقتها وهي من ثم ثوابت ففقدت عنده‬ ‫هذه المنزلة الوجودية لتصبح مجرد رموز للكلام على الأشياء وهي غير مقومة لها ومن ثم‬ ‫فهي متغيرة لأنها من ادوات العبارة عن الأشياء وليس من مقوماتها‪.‬‬ ‫ولنورد الشاهد حتى لا يدعي علينا أحد أننا نقول الرجل ما لم يقل‪:‬‬ ‫\"ولكن المعاني الكلية المطلقة في الذهن كالألفاظ المطلقة والعامة في اللسان وكالخط الدال‬ ‫على تلك الألفاظ‪:‬‬ ‫‪ .1‬فالخط يطابق اللفظ‪.‬‬ ‫‪ .2‬واللفظ يطابق المعنى‪.‬‬ ‫ولما كانت المطابقة في الحالتين السابقتين هي مطابقة إحالة الرمز إلى الشيء فينبغي أن‬ ‫نستنتج أن المعنى يطابق الشيء مطابقة الرمز إلى الشيء المشار إليه به لا غير‪.‬‬ ‫فكل من الثلاثة يتناول الأعيان الموجودة في الخارج ويشملها ويعمها لا أن في الخارج هذا‬ ‫وهذا فإن هذا لا يقوله من يتصور ما يقول‪ :‬وإنما يقوله من اشتبهت عليه الأمور الذهنية‬ ‫بالأمور الخارجية أو من قلد بعض من قال ذلك من الغالطين فيه\" (نفسه)‪.‬‬ ‫لذلك ختم ابن تيمية قوله بأن مطابقة المعاني الكلية للأشياء من جنس مطابقة الكتابة‬ ‫للألفاظ ومطابقة الألفاظ للمعاني‪ .‬فتكون المعاني الكلية رموزا مثلها مثل ألفاظ اللغة‬ ‫ورسوم الكتابة وهي تحيل إلى الأشياء إحالة الرمز إلى ما يرمز إليه عند مستعمليه‪.‬‬ ‫انتقلنا من فلسفة العلاقة بين الابستمولوجي (نظرية المعرفة) والأنطولوجي (نظرية‬ ‫الوجود) القديمة والوسيطة إلى فلسفة العلاقة بين الرمزي والمرموزي في فلسفة لم تتحدد‬ ‫بعد معالمها وهي ما صار يسمى لاحقا وخاصة في نهايات القرن التاسع عشر وبداية القرن‬ ‫العشرين بفلسفة الترميز أو السيميوتكس‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪18‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ويمكن أن نسمي السيميوتكس الوسميات في اللسان العربي لأن الرمز هو الوسم الدال‬ ‫مثل وسم الحيوان للدلالة على ملكيته بعلامة يختارها مالكه لتمييز ملكيته عن ملكية غيره‬ ‫وغالبا ما تكون بكي الحيوان في مكان ما من بدنه والعلامة هي من صنع المالك وليست صفة‬ ‫ذاتية للحيوان الموسوم‪ .‬والكي لا علاقة له بالحيوان ولا بالمالك ولا بالملكية بل هي علامة‬ ‫دالة على علاقة بين ثلاثة أشياء‪ :‬التواصل في الجماعة حول الملكية وحول علاماتها المسقطة‬ ‫على الأشياء‪.‬‬ ‫وسنرى أن هذه العلاقة هي في الحقيقة بين خمسة أشياء‪:‬‬ ‫‪ .1‬أصل لهذه العلاقة بين الرمز والمرموز والرامز وهو نظام التواصل في الجماعة‬ ‫‪ .2‬نظام الرموز‬ ‫‪ .3‬نظام الأشياء التي يرمز إليها به‪.‬‬ ‫‪ .4‬علاقة نظام الرموز بنظام الأشياء‬ ‫‪ .5‬علاقة نظام الرموز بنظام التواصل‪.‬‬ ‫فيكون نظام التواصل شبه مرآة ذات سطحين أحدهما ملتف إلى نظام الرموز والثاني‬ ‫إلى نظام الأشياء المرموز إليها‪ .‬والمحدد الحقيقي هو في هذه الحالة نظام هذه المرآة ذات‬ ‫السطحين التي تتوسط بين النظامين الآخرين توسطا يجعل كلا منهما ذا صلة بنظام المرآة‬ ‫العاكسة‪.‬‬ ‫وهو ما يعني أن المعاني الكلية التي كانت تعتبر في الفلسفة القديمة والوسيطة صفات‬ ‫مقومة للشيء أصبحت رموزا من إبداع الجماعة عامة (اللغة الطبيعية) وجماعة العلماء‬ ‫خاصة (اللغة الصناعية) لكأنها المعاني تخترع كما تخترع الرموز لأنها رمز غير مقوم للشيء‬ ‫بل معبر عن هذه العلاقة المخمسة للكلام على الأشياء وتوصيفها خلال البحث عن قوانين‬ ‫علاقاتها وتفاعلاتها‪ .‬ولما كانت أدوات \"تعبير\" فإنها ليست ثوابت بل هي متغيرة بحسب‬ ‫حاجة مضاعفة‪ .‬ولهذه العلة فابن تيمية يكثر استعمال كلمة ترجمة سواء في نفس اللغة أو‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪19‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫بين اللغات أو بين اللغات والأشياء خلال التواصل في الجماعة عامة أو في جماعة المختصين‬ ‫في كل اختصاص‪ .‬ومن هنا نظريته بأن دلالة الألفاظ لا يمكن أن تستمد من غير الاستعمال‪.‬‬ ‫ومن ثم كذلك فالمعاني إضافية إما لحاجة التواصل بين المتواصلين أو لحاجة الغاية من‬ ‫البحث العلمي في موضوع التواصل‪ .‬وتلك هي أبعاد الرمز الثلاثة في رؤية بورس وهي في‬ ‫الحقيقة خمسة كما بينت بمعنى أنها ليست علاقة بين المعنى والشيء بل علاقة بين رمز‬ ‫ومرموز ورامز في جماعة متواصلة به‪ .‬وحينها يصبح العلم بالأساس لغة من اللغات وليس‬ ‫شيئا آخر‪.‬‬ ‫لكن هذه اللغة لا تكون علمية إلا بما تحدثه من تناظر بين نظامها ونظام الموضوع الذي‬ ‫تفترضه أو تقدره هو بدوره تقدير ذهني تحتكم فيه إلى التعامل معه بالتجربة لتحديد‬ ‫ما تعتبره ذا دلالة علمية بحسب مجال العلم مشروطة دائما بكونها مؤقتة لأنها إضافية‬ ‫للنظامين وكلاهما متغير بصورة دائمة‪ .‬ذلك أن التجربة المتغيرة لا يمكن أن تبقي على‬ ‫معنى المطابقة الوجودية بين المعنى الكلي والشيء إذ يمكن أن يصبح المعنى الكلي الذي‬ ‫عرفناه به لاغيا لمجرد اكتشاف أنه لا يعبر عن شيء حقيقي فيه بل عن تصورنا المؤقت‬ ‫دائما‪.‬‬ ‫وتتجلى هذه الخاصية التي تشبه السيلان الأبدي في الرمز والمرموز والجماعة التواصلية‬ ‫بتلك الرموز على تلك المرموزات عندما ننظر في حالة خاصة هي حالة يكون فيها الرمز‬ ‫والمرموز كلاهما من نفس الطبيعة أي كلاهما رمز فيكون أحد الرمزين كلاما على الرمز‬ ‫الثاني بوصفه علمه كما بعد لغة للغة‪.‬‬ ‫فالنحو العربي مثلا كلام عربي موضوعه الكلام العربي‪ .‬وكلاهما رمز أحدهما رامز‬ ‫والثاني مرموز عند نفس الجماعة المتواصلة بهما‪ .‬فلما أقول زيد ضرب عمروا وأسمي‬ ‫الأول فاعل والأخير مفعول به والأوسط فعل الأول في الثاني فأنا استعمل اللغة العربية‬ ‫للكلام على اللغة العربية بما لا يمثل مقوما من مقوماتها بل وصفا بعلامات اخترها النحاة‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪20‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وأسقطوها على اللغة العربية متصورين أن فرضياتهم حول مقوماتها مطابقة لمقوماتها‬ ‫وليست مطابقة لنظام ترميز اختاروه للتعبير عن تصوراتهم في تواصلهم حولها‪.‬‬ ‫فلا معنى لاعتبار \"كلمة زيد\" فاعل إلا لاستعارة الفعل من الإنسان زيد ونسبتها إلى‬ ‫الكلمة التي ترمز إليه أي اسمه \"زيد\"‪ .‬ولا معنى لاعتبار \"كلمة عمروا\" مفعولا به إلا بنفس‬ ‫الاستعارة‪ .‬ولا علاقة لكلمة ضرب بفعل الضرب إلا بنفس الاستعارة‪ .‬ولا معنى لمقارنة‬ ‫المعنيين والمقابلة بين حقيقي ومجازي لأن زيد حتى على الإنسان زيد مواضعة ولا تعبر عن‬ ‫حقيقته وهي من ثم لا تختلف عما سميناه استعارة‪ :‬يمكن القول إنهما كلتاهما استعارة‪.‬‬ ‫لكن حينها لا معنى لمجاز لا يقابل حقيقة للتضايف بينهم‪ .‬ولذلك تخلى عنهما ابن تيمية‬ ‫وعوضهما بالاستعمال‪ .‬وبذلك انتهت خرافة التأويل بالمقابلة بين الحقيقة والمجاز لتوهم‬ ‫المتكلمين والفلاسفة أن العلم يقول الحقيقة وأن ما يخالفه به الدين ينبغي أن يرد اليه‬ ‫التأويل عودة من المجاز إلى الحقيقة‪.‬‬ ‫أسقطت \"صفات\" تنسب إلى الاشخاص زيد وعمر وإلى الافعال على الكلمات الثلاثة وكأن‬ ‫الأولى فاعل والأخيرة مفعول به والوسطى فعل مع وهم أن الصفات حقيقة في زيد وعمر‬ ‫والفعل ومجاز في ما بعد اللغة التي سمت الكلمات بهذه الأسماء‪ .‬وهي كلها معاني ذهنية‪.‬‬ ‫ولو لم تكن العربية ثابتة بثبات نص القرآن وبتثبيت العرب لها في الفصحى حتى لا تنفصل‬ ‫عن القرآن لأصبحت كل قواعد النحو خاطئة ولا تعبر عن حقيقة في اللغة العربية التي‬ ‫تكون قد تطورت كما تتطور كل اللغات الحية‪ .‬وإذن فالمعاني ليست مقومات الأشياء بل هي‬ ‫في الحقيقة مواضعات نثبتها بها لحين ونغيرها عند الحاجة بل إني اجزم أن القرآن نفسه‬ ‫لما نقرأه الآن فإننا لا نفهمه بالعربية التي نزل بها بل بما بقي منها في العربية التي نستعملها‬ ‫حاليا حتى لو لم نكن واعين بهذا التغير الذي هو تغير بطيء ولامتناهي الصغر فلا ننتبه‬ ‫إليه‪.‬‬ ‫وهذه الحقيقة تصدق على كل العلوم صدقها على كل اللغات وكل الانظمة الرمزية حتى‬ ‫وإن توهم الكثير أن المعاني الكلية حقائق موضوعية وليست مبدعات إنسانية لقول ما‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪21‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫يدركونه من الأشياء بصورة متطورة بحسب تتطور وسائل الإدراك التي لم تعد الحواس‬ ‫وحدها كما كان ذلك سائدا في الفلسفة القديمة والوسيطة رغم استعمالهم وسائل الرصد‬ ‫الفلكي‪ .‬ولعل بعض الأمثلة البسيطة كافية في علوم الفلسفة القديمة والوسيطة وكيف‬ ‫تجاوزها العلم ولما ينتهي التطور‪:‬‬ ‫‪ .1‬فالعناصر كانت خمسة فصارت حوالي مائتين‪.‬‬ ‫‪ .2‬والذرة كانت تعتبر بسيطة وآخر جرم من حيث الحجم‪.‬‬ ‫‪ .3‬والعدد المنطق الطبيعي والكسري صار جزءا ضئيلا من العدد والهندسات تعددت‬ ‫إلخ‪ ...‬من تغير المعاني الكلية‪.‬‬ ‫ولذلك ميز ابن تيمية بين نوعين من العلم مختلفين تمام الاختلاف ما يعني أنه كان مدركا‬ ‫لأبعاد ثورته‪:‬‬ ‫\"فالعلوم الأولية البديهية العقلية المحضة ليست إلا في المقدرات الذهنية كالعدد والمقدار‬ ‫لا في الأمور الخارجية الموجودة\"‪.‬‬ ‫فكيف يؤسس ابن تيمية هذه الفصل الحاسم بمعايير ابستمولوجية بينة؟‬ ‫إليكم الحجة ‪-‬وهذا غريب‪-‬المبنية على أحد شروط المنطق الأرسطي والاستنتاج الدال‬ ‫على الوعي بالثورة‪:‬‬ ‫‪(\" .1‬مقدمة أولى) فإذا كانت مواد القياس البرهاني لا يدرك بعامتها إلى أمور‬ ‫معينة ليست كلية (وهي (ما يدركه الحس الباطن والظاهر والتواتر والتجربة والحدس)‪.‬‬ ‫‪( .2‬مقدمة ثانية) (وإذا كان) الذي يدرك الكليات البديهية الأولية إنما يدرك‬ ‫أمورا مقدرة ذهنية لم يكن في مبادئ البرهان ومقدماته المذكورة ما يعلم به قضية كلية‬ ‫عامة للأمور الموجود في الخارج‪.‬‬ ‫‪( .3‬مقدمة ثالثة) (وإذا كان) القياس لا يفيد العلم إلا بواسطة قضية كلية‬ ‫(النتيجة)‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪22‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .4‬النتيجة‪ :‬فامتنع حينئذ أن يكون في ما ذكروه من صورة القياس (التحليلات‬ ‫الأوائل) ومادته (التحليلات الأواخر) حصول علم يقيني‪ .‬وهذا بين لمن تأمله\"‪.‬‬ ‫ثم يأتي الدليل على الوعي بالثورة \"وهذا بين لمن تأمله وبتحريره وجودة تصوره تنفتح‬ ‫علوم عظيمة ومعارف‪ .‬وسنبين إن شاء الله من أي وجه وقع عليهم اللبس\" (الرد على‬ ‫المنطقيين)‪.‬‬ ‫كان واعيا بثورته‪ .‬وهذا الوعي الحاد بشروط البرهان لم يعه ابن رشد وحتى الجابري‬ ‫لم يعه بعد قرون بين الثاني عشر والعشرين‪ .‬كان يتوهم أن البرهان ممكنا خارج‬ ‫التقديرات الذهنية أي إما في الرياضيات بأصنافها أو في الفرضي الاستنتاجي إذا طبق في‬ ‫علم من جنس العلوم الطبيعية‪ .‬وهذا برهان صوري ويختلف عن معناه الأرسطي الذي لا‬ ‫بد فيه من أن تكون المقدرات من الذاتيات الكلية أي من المعاني الكلية المقومة للشيء أو‬ ‫من أعراضه الذاتية‪ .‬وكلاهما من الميتافيزيقا وليس من المنطق‪ .‬فمن لم يقبل بهما أو‬ ‫يؤسس على غيرهما لا يمكن أن يسمي البناء عليهما برهانا إلا إذا كان لا يفهم معناه في‬ ‫الأرسطية‪.‬‬ ‫فعندما يكون المقدم فرضيا يبقى التالي من جنسه أي حقيقة \"علمية\" مؤقتة لأنه من‬ ‫الشرطية المتصلة التي قد تكذب بكذب ما يترتب عليها أي التالي لأن نقيض التالي يؤدي‬ ‫إلى نقيض المقدم في الشرطية المتصلة وهو يعتبر في العقلانية النقدية امتحان التكذيب‬ ‫شرط العلمية‪ .‬والبرهان بالمعنى الأرسطي ليس شرطيا بل هو حملي أي إنه لا ينطلق من‬ ‫مقدم فرضي وإلا لكان جدليا بل من \"حقائق\" ذاتية للموضوع‪ .‬وهو ما ينفيه ابن تيمية‪.‬‬ ‫وحجة ابن تيمية هنا عميقة وقليل من يدرك مداها‪ .‬فالمعلوم أن كل أشكال المنطق‬ ‫الأرسطي استدل عليها أرسطو بردها إلى الشكل الأول أي إلى الكلية الموجبة التي بالرد‬ ‫إليها يتم اثبات بقية الأشكال في المنطق الارسطي‪ .‬ولا شيء أيسر من اسقاط الكلية الموجبة‬ ‫إذ يكفي استثناء واحد لتسقط‪ .‬لذلك ابن تيمية يعتبر هذا الشرط مستحيل التحقيق عند‬ ‫الكلام على الخارج أولا لأننا لسنا واثقين من ان الاستقراء تام في موضوع ليس من صنعنا‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪23‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وثانيا لأن تعويض نقص الاستقراء يقع بالمصادرة على المطلوب‪ :‬فلا يمكنني أن أقول كل‬ ‫إنسان مائت لأثبت مائتية سقراط لأن قولها يعني أن بعد قد اعتبرت سقراط مائتا وإلا لما‬ ‫أمكن لي أن اسور القضية التي وضعتها مقدمة كبرى بالسور الكلي‪.‬‬ ‫فأكون بذلك قد صادرت على المطلوب فيها‪ .‬لا يمكن أن أقول كل إنسان مائت إذا لم يكن‬ ‫بعد قد سلمت أن سقراط مائت لأنه إنسان‪ .‬ومن ثم فالنتيجة مسلمة في المقدمة‪ .‬وبهذا‬ ‫المعنى فالمنطق الأرسطي لا ينطبق على الخارج ما لم نفترض أن الخارج خاضع لقواعد‬ ‫المنطق الأرسطي‪..‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪24‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫مشكل ابن تيمية ليس مع المنطق الأرسطي بل مع أمر أعمق وهو الطريقة التي ظنوه بها‬ ‫قابلا لأن يقول الوجود الخارجي أي العلاقة بين نظرية المعرفة ونظرية الوجود التي انبنت‬ ‫على \"واقعية\" المعاني الكلية المشروطة بكون الفكر الإنسان مرآة عاكسة والعقل الإنساني‬ ‫مقياس معرفي للوجود والعدم‪.‬‬ ‫وإليك كيف يعبر ابن تيمية عن ذلك بصورة صريحة لا تحتاج إلى التعليق وهو تعبير‬ ‫ينطلق مما صار يعتبر سبة للفكر الديني توهما بأنه ناتج عن الجهل وهو في الحقيقة الدرجة‬ ‫الأعلى من فهم طبيعة المشكل‪:‬‬ ‫\"وهذا الكفر المتناقض (ما يؤدي إلى نفي وجود الواجب) وأمثاله هو سبب ما اشتهر بين‬ ‫المسلمين أن المنطق يجر إلى الزندقة‪ .‬وقد يطعن في هذا من لم يفهم حقيقة المنطق وحقيقة‬ ‫لوازمه ويظن أنه في نفسه لا يستلزم صحة الإسلام ولا فساده ولا ثبوت حق ولا انتفاؤه‬ ‫وإنما هو آلة تعصم مراعاتها عن الخطأ في النظر‪ .‬وليس الأمر كذلك بل كثير مما ذكروه‬ ‫في المنطق يستلزم السفسطة في العقليات= والقرمطة في السمعيات\" (درء التعارض)‪.‬‬ ‫وهنا نجد مصدر الحاجة إلى المقدرات الذهنية العملية (الأخلاقيات شرط الآداب نموذجا‬ ‫للتاريخيات) التي وضعتها قياسا على المقدرات الذهنية النظرية (الرياضيات شرط العلوم‬ ‫نموذجا للطبيعيات) أعني جمع ابن تيمية بين السفسطة في العقليات والقرمطة في‬ ‫السمعيات‪.‬‬ ‫ولو اقتصر ابن تيمية على القرمطة في السمعيات لاعتبر منطلقا من دوافع دينية دفاعية‬ ‫ولشكك الكثير في فلسفية كلامه‪ .‬لكنه قدم المجال الذي يدعيه خصومه أعني أنه ينظر‬ ‫إلى المسألة انطلاقا من العقليات نفسها قبل النظر فيها انطلاقا منه السمعيات‪ .‬وهو بخلاف‬ ‫الغزالي لا يكتفي بمستوى الرد الجدلي بل هو يضع نظرية ثورية بديلة‪.‬‬ ‫وهذه النظرية البديلة تقابل النظرية المبدل منها تمام المقابلة‪ .‬فهذه تقول بنظرية في‬ ‫المعرفة المطابقة لأن المعاني الكلية فيها مقومة للشيء المعلوم‪ .‬وتلك تنفي المطابقة وتعتبر‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪25‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫المعاني الكلية مجرد رموز لبيان قصد المتكلم بما يختاره من صفات محدودة من صفات لا‬ ‫محدودة‪:‬‬ ‫\" وأما سائر الصفات المشتركة (بين الأشياء) فقد لا يمكن الإحاطة بها ولا ريب أنه كلما‬ ‫الإنسان بها أعلم كان بالموصوف أعلم وأنه ما من تصور وفوقه تصور أكمل منه‪ .‬ونحن لا‬ ‫سبيل إلى أن نعلم شيئا من كل وجه‪ )...( .‬فلو علمنا لوازم الشيء إلى آخرها لزم أن‬ ‫نعلم كل شيء‪ .‬وهذا ممتنع على البشر‪ .‬فإن الله سبحانه وتعالى هو الذي يعلم الأشياء‬ ‫على ما هي عليه من غير احتمال زيادة‪ .‬وأما نحن فما من شيء نعلمه إلا ويخفى علينا من‬ ‫أموره ولوازمه ما لا نعمله\" (درء التعارض)‪ .‬ومعنى ذلك‪ -‬حتى من دون الكلام على‬ ‫الغيب‪ -‬فإن عالم الشهادة لا يمكن الإحاطة بأي شيء يمكن القول إننا نعلمه على ما هو‬ ‫عليه حقا‪ :‬وهذا هو البديل في نظرية المعرفة أنه القول بعدم المطابقة بالنسبة إلى علم‬ ‫الإنسان حتى وإن كان ضميره القول بها بالنسبة إلى العلم المحيط وهو مقصور على الله‬ ‫خالق الموجودات وآمرها‪.‬‬ ‫ولا يعني هذا الكلام ما قد يخلط بالتمييز الكنطي بين الظاهرات والحقائق في ذاتها‪.‬‬ ‫فالعلم الإنساني رغم نسبيته وعدم مطابقته يبقى معبرا بحق عما يناسب المدارك الإنسانية‬ ‫وليس هو مجرد ظاهر (شاين) ‪-‬وخاصة في دلالته التي يحبذها من يفضل الطبعة الأولى‬ ‫من نقد العقل الخالص مثل صاحب العالم من حيث هو تصور وإرادة‪-‬لأن ظهوره للإنسان‬ ‫وإدراك الإنسان له كلاهما وجود فعلي وليس مجرد مظاهر من الوجود دون أن يكون‬ ‫محيطا‪.‬‬ ‫لم يعد بالوسع بعد هذه الثورة القول \"علم الشيء على ما هو عليه\" كلما تعلق الامر بعلم‬ ‫الإنسان فلسفيا كان أو دينيا ‪-‬الرسول لا يعلم الغيب ولا يدعي العلم المحيط لا بالشاهد‬ ‫ولا بالغيب‪ .‬فهذه العبارة لا تناسب إلا العلم المحيط وهو لله وحده بل القول هو \"علم‬ ‫الشيء على ما ما ندركه بـمداركنا المحدودة\"‪ .‬وهو إذن اجتهاد مؤقت ودائم المراجعة‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪26‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫والتطور بتطور قدرات مداركنا دون حد معلوم مسبقا في عقيدتنا قبل أن يصبح \"البصر‬ ‫حديدا\"‪.‬‬ ‫ماذا يمكن الآن اضافته لنظام العلوم الأرسطي ‪-‬تصنيف العلوم‪-‬ليصبح ذا معقولية‬ ‫تجعلنا نفهم ما حصل للانتقال من المعاني التي تظن مقومة للأشياء سواء بالطريقة‬ ‫الأفلاطونية (تقويم مشاركة المتداني في المثال المتعالي) أو بالطريقة الأرسطية (تقويم‬ ‫الصورة المحايثة للأشياء) فتكون المعاني واقعية‪.‬‬ ‫وتكون نظرية المعرفة قائلة بالمطابقة بين العلم وموضوعه لأن العقل يعكس \"الواقع\"‬ ‫عكسا مطابقا و\"الواقع\" شفاف لكأن للإنسان شرطي الإحاطة فنقول \"العلم بالشيء على ما‬ ‫هو عليه\"‪ .‬لكن البديل التيمي ينفي‪:‬‬ ‫‪ .1‬أن يكون العقل مرآة صقيلة عاكسة‪.‬‬ ‫‪ .2‬وأن يكون الواقع شفافا‪.‬‬ ‫‪ .3‬وأن نستطيع ادعاء معرفة الشيء على ما هو عليه‪.‬‬ ‫فإذا لم يكن العقل مرآة عاكسة ولم يكن الوجود شفافا للعقل بحيث لا نستطيع أن نقول‬ ‫\"علم الشيء على ما هو عليه\" وكان مع ذلك علمنا ليس علما بظاهر من الوجود بل بحقيقة‬ ‫مناسبة للإنسان وتجهيزه المدرك لما يتجلى منه له في حدود تقدم مداركه التي تتطور بتطور‬ ‫الإدراك وادواته وقدرة العبارة عنه فإن الثورة التيمية ثورة فلسفية أعمق حتى من ثورة‬ ‫كنط الذي تخلى عن القول بنظرية المعرفة المطابقة‪ .‬ومن نبه إلى أن المعرفة العلمية تبقى‬ ‫معرفة حقيقية بوجود حقيقي وليست \"شاين\" هو ابن خلدون في فصل الكلام من المقدمة‬ ‫عندما شكك في الإحاطة دون التشكيك في العلمية التي لا تشترطها‪.‬‬ ‫صار مدار النظرية الجديدة في المعرفة تحديد طبيعة المعاني الكلية التي نعبر بها عما‬ ‫ندركه مما ننسبه إلى الأشياء من صفات وخصائص‪ .‬كانت في الرؤية القديمة والوسيطة‬ ‫مقومات الشيء الذي ندركه فصارت رموزا مثل الألفاظ اللسانية ومثل الرسوم الكتابية‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪27‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫للعبارة عما ندركه وصارت من صنعنا أو اختيارنا وهي مواضعات ضمنية في اللغات الطبيعية‬ ‫لكنها مواضعات قصدية وصريحة في اللغات الصناعية التي تستعملها الاختصاصات العلمية‪..‬‬ ‫وقد عبر ابن تيمية عن ذلك بالقول إن المعاني الكلية \"تقديرات ذهنية\" أي إنها فعل‬ ‫وليست انفعالا‪ .‬العقل لا يعكس مقومات موجودة في الشيء خارجه بل هو يقدر معاني يعبر‬ ‫بها عن الشيء الموجود في الخارج تعبيرا يحقق التواصل في الجماعة من خلال التناظر بين‬ ‫ثلاثة أنظمة‪:‬‬ ‫• نظام التواصل ذاته في الجماعة‬ ‫• نظام \"إبداع\" الرموز التواصلية فيها‬ ‫• نظام \"اسقاطه\" على \"الوجود الخارجي\" بمقتضى رؤية يحددها نظام التواصل‬ ‫والنظامان الثانيان لكل منهما نظام ابداعي واسقاطي ذو علاقة بالنظام الأول وذلك هو‬ ‫شرط التواصل العمودي بين المتواصلين وأفقي بينهم وبين ما يعاملون معه من الوجود‬ ‫الخارجي بما في ذلك ذواتهم الفردية والجماعية‪.‬‬ ‫ومن ثم فالإنسان لا ينفعل بمعنى كلي بل هو يبدعه ويسقطه على المجهول الذي يصبح‬ ‫معلوما بمعنى كلي‪ .‬وهذا المعنى ليس ثابتا في الشيء بل هو متغير بتغير محاولات الإنسان‬ ‫في الوصول إلى فاعلية اكبر في التعامل التواصلي بهذه المعنيين‪ .‬وتغيير المعاني الكلية إضافي‬ ‫مرتين في رؤية ابن تيمية‪:‬‬ ‫‪ .1‬إما إلى المخاطب بها بحسب القصد من الخطاب وبالقياس إلى مدى فهم المخاطب‬ ‫وتكونه المعرفي (للتعليم مثلا)‪.‬‬ ‫‪ .2‬أو إلى المطلوب في المسألة المعرفية التي يعالجها الفكر ومن ثم فما كان يعتبر‬ ‫أوليات بإطلاق لم يعد إلا المفروضات لعلاج المسألة المطروحة للبحث‪.‬‬ ‫والآن ماذا يترتب على مسدس أرسطو في تصنيف العلوم وعن استثناء المنطق منه؟ أي‬ ‫ثلاثي العلوم النظرية‪-‬الطبيعيات والرياضيات والإلهيات‪-‬وثلاثي العلوم العملية ‪-‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪28‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الاقتصاديات والأخلاقيات والسياسيات؟ ينبغي أن يصبح التصنيف مسبعا بإضافة شيء‬ ‫يعتبر المنطق أحد عناصره وهو فاعلية التقدير الذهني أو \"ابداع المعاني الكلية الرامزة\"‬ ‫رمزا لا يختلف الرمز في الكتابة واللغة‪.‬‬ ‫وابداع المعاني الكلية الرامزة منها الألسن الطبيعية ومنها الكتابة وعليهما قاس ابن‬ ‫تيمية المعاني الكلية التي هي تقدير ذهني وهي اللسان العلمي الصناعي لقول الاشياء‬ ‫تعريفا ووصفا دون أن تكون تلك المعاني مقومات ثابتة للأشياء لأنها متغيرة بتغير إدراكها‬ ‫إذ كل تصور وراءه تصور أفضل وأدق‪ .‬وحتى يفهم القارئ قصد ابن تيمية بـ\"التصور\" لا‬ ‫بد ألا يفهمه بالمعنى العامي بل بالمعنى الاصطلاحي في عصره مع عدم إعطائه مدى وجوديا‬ ‫وحصره في الوظيفة الرمزية‪ .‬فالتصور يفيد أمرين‪:‬‬ ‫‪ .1‬المعاني الكلية التي يعرف بها شيء من الأشياء وهو مفهومه‪.‬‬ ‫‪ .2‬والأشياء التي يشار إليها بتلك المعاني إشارة تعريف جامع مانع وهي ما صدقه‪.‬‬ ‫وهنا الجدة‪ .‬فالمفهوم لا يشير إلى مقومات الأشياء التي تتألف منها العناصر التي تنتمي‬ ‫للمجموعة الممثلة للماصدق بل هو يشير إلى المعاني الكلية المقدرة ذهنيا بوصفها رامزة إلى‬ ‫عناصر هذه \"المجموعة الماصدق\" كما ترمز الأسماء في اللسان الطبيعي لما تسميه‪ .‬ومن هنا‬ ‫تصبح الفكرة المضمرة في كلام ابن تيمية هي ما يشير إليه القرآن في تميز آدم من القدرة‬ ‫على التسمية‪.‬‬ ‫فإذا حافظنا على مسدس أرسطو في تصنيف العلوم ووضعنا على قمته هذا البعد الجديد‬ ‫بعد القدرة على التسمية أو \"إبداع\" المعاني الكلية التي هي مقدرات ذهنية للعبارة التي‬ ‫تتألف منها هذه العلوم وحافظنا على التناظر بين الثالوثين النظري والعملي حصلت لنا‬ ‫معادلة عجيبة كان يمكن أن تعتبر ثورة حقا لو فهم البديل‪ .‬ذلك أن المعاني الكلية التي‬ ‫هي مقدرات ذهنية تصبح سبعة أنواع‪:‬‬ ‫‪ .1‬جنس هو أصل الأنواع الستة التي تتفرع عنه‪.‬‬ ‫‪ .2‬ثلاثة أنواع في النظر هي الطبيعيات والرياضيات والإلهيات‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪29‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .3‬ثلاثة أنواع في العمل هي الاقتصاديات والاخلاقيات والسياسيات‪.‬‬ ‫ففي النظر نجد المعاني الكلية في الإلهيات والرياضيات والطبيعيات وفي العمل نجد‬ ‫المعاني الكلية في السياسيات والأخلاقيات والاقتصاديات والأصل سيبين التناظر بينها ثم بين‬ ‫كل واحد منها وما يقابله بنفس الترتيب في الثلاثتين النظرية والعلمية‪ .‬وهي رموز لقول‬ ‫متطور لما ندركه من الأشياء‪.‬‬ ‫وهذا المسبع عجيب وغريب رغم أنه لم يستعمل بل ولم يتكشف إذ حتى ابن تيمية لم‬ ‫يشر إليه ولم يستعمله‪ .‬فلو اعتبرنا الإلهيات كما كان يراها أرسطو تأسيسا لنظرية العلم‬ ‫(ومبادئ العقل أو منطق النظر) ولنظرية الطبيعة (مقوماتها الكلية) لكانت السياسة‬ ‫تأسيسا لنظرية العمل (مبادئ الإرادة أو منطق العمل) ولنظرية التاريخ (مقوماته‬ ‫الكلية)‪.‬‬ ‫وهذا التأسيس في العلم الرئيس أو الأرشيتاكتونك بينه أرسطو بخصوص النظر لكنه لم‬ ‫يبينه بخصوص العمل لكنه كان ضمنيا لعدم التمييز الصريح بين الضرورة الشرطية في‬ ‫الاول والحرية الشرطية في الثاني ومن ثم اعتقاد منطق النظر صالح في منطق العمل لكنه‬ ‫ليس صالحا‪ .‬فمبادئ الإرادة غير مبادئ العقل‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪30‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وقد عكس ابن تيمية نظريات أرسطو كلها بعكسه نظرية المعرفة والقيمة من المطابقة إلى‬ ‫اللامطابقة لأنه يميز بين‪:‬‬ ‫‪ .1‬علم الله المحيط الذي يمكن أن يكون مطابقا للموضوع (وهذا عقد إذ لا دليل لنا عنه‬ ‫وهو أصل كل إيمان بالـديني من حيث هو ديني سواء كان طبيعيا عفويا أو عقليا أو منزلا‬ ‫يستدل بالخوار أو منزلا لا يستدل إلا بالنظامين الطبيعي والخلقي وتفاعلهما في الإنسان)‪.‬‬ ‫‪ .2‬وعلم الإنسان غير المحيط الذي لا يمكن أن يكون مطابقا معرفيا وقيما للأشياء ودليله‬ ‫هو اكتشاف أخطاء علومنا وتجاوزها والشعور الدائم كما قال ابن تيمية بأن كل تصور يمكن‬ ‫أن يكون وراءه تصور أدق وأكمل إلى غاية ممتنعة علينا هي الإحاطة ومعناها أن لوازم‬ ‫كل لوازم أي شيء هي كل الوجود‪.‬‬ ‫والأهم من ذلك هو أن الرؤية التيمية يترتب عليها أن العلاقة بين العقل والإرادة مقابلة‬ ‫تماما للرؤية المشائية خاصة والفلسفة القديمة عامة‪ .‬فأرسطو تردد في تحديد العلم الرئيس‬ ‫بين الميتافيزيقا والسياسة وفضل في الأخير تلك على هذه بمعنى أنه اعتبر الإرادة تابعة‬ ‫للعقل تبعية السياسيات للإلهيات والاخلاقيات للرياضيات والاقتصاديات للطبيعيات‪ .‬وظل‬ ‫ذلك كذلك إلى ثورة ابن تيمية‪.‬‬ ‫العكس عند ابن تيمية يعني أنه يرى أن العلم الإلهي ليس عمل عقل بالمعنى اليوناني بل‬ ‫هو عمل إرادة قادرة على كل شيء فلا يكون الخلق مضطرا بل هو حر حتى لو سلمنا بأن ما‬ ‫نعلمه منه مطابق له ومن ثم فهو ليس واجبا بل يبقى ممكنا حتى وهو موجود لأن الحصول‬ ‫لا يفيد الوجوب‪.‬‬ ‫‪ .1‬فتكون الإلهيات سياسيات إلهية‪.‬‬ ‫‪ .2‬والرياضيات أخلاقيات إلهية‪.‬‬ ‫‪ .3‬والطبيعيات اقتصاديات إلهية‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪31‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وذلك لأن كل شيء هو آيات إلهية أو رموز مبدعة لها من جنس كن‪ .‬ولذلك فهي تسمى‬ ‫في القرآن كلمات إلهية‪ .‬وعلى منوالها الرؤى الإنسانية دون أن تكون محيطة مثلها وذلك‬ ‫في الإلهيات وفي الرياضيات وفي الطبيعيات وفي السياسيات وفي الاخلاقيات وفي‬ ‫الاقتصاديات‪ .‬ونحن لا نعلمها إلا بالتقدير الذهني الذي يقصده ابن تيمية فنفترض‬ ‫تقديرا ذهنيا لعلم تلك بالذي أضفته لاستكمال التيمية المحدثة‪.‬‬ ‫وطبعا فنحن في ذلك لا نغفل الفارق الكيفي‪-‬من يغفله يسميه ابن خلدون متالها‪ -‬بين‬ ‫إرادتنا وإرادة الله وبين علمنا وعلم الله وبين قدرتنا وقدرة الله وبين حياتنا وحياة الله‬ ‫وبين وجودنا ووجود الله‪.‬‬ ‫لكن هذا الإدراك يجعل ما ننسبه إلى أنفسنا وإن لم يكن من جنس ما ننسبه إلى الله فهو‬ ‫مع ذلك يعمل على منواله مع خضوعه لشرطين يميزان أفعال الله عن افعال المخلوقات‬ ‫كلها‪ .‬فأفعال الله فوق الضرورة الشرطية في الخلق وفوق الحرية الشرطية في الأمر‪ :‬هو‬ ‫فعال لما يريد وكل ما يريده يفعله على النحو الذي يفعله به دون خضوع لأي شرط‪ .‬لكن‬ ‫كل المخلوقات أفعالها مشروطة‪ .‬فالطبيعة خاضعة للضرورة الشرطية والتاريخ للحرية‬ ‫الشرطية والإنسان لهما معا ولتفاعلهما مع التسلمي بما ورائها من الفاعلية اللامشروط‬ ‫للخالق والآمر‪ .‬وذلك هو الديني في كل دين‪ .‬وهو معنى الإسلام أي التسليم لإرادة الله‪.‬‬ ‫وطبعا يمكن ألا يسلم الإنسان بذلك‪ .‬وهو جوهر الإلحاد الذي لو كان صاحبه صادقا‬ ‫لاعتبر كل ما يوجد وليد الصدف ليس في الحاصل فحسب بل في ما يمكن أن يحصل في‬ ‫المستقبل ولاستحال عليه أن يخطط لأفعاله المقبلة‪ .‬ومن يتوقف عن فهم الموجود وتوقع‬ ‫المنشود وجوده ممتنع بل هو العدم الذي يؤدي إما إلى العدمية الروحية أي الحياة الفاقدة‬ ‫لكل مشروع أو الحياة العضوية التي لا بد أن تكون الانتحار‪.‬‬ ‫وبذلك تتحدد المنزلة الوجودية التي تسمى خلافة الإنسان من حيث هو إنسان‪ .‬فهي‬ ‫إرادة وعلم وقدرة وحياة ووجود يتميز بها الإنسان ويتميز بكونه يدرك أن فوق إرادته‬ ‫وعلمه وقدرته وحياته ووجوده إرادة وقدرة وعلم وحياة ووجود يتميز بها الله‪ .‬والإنسان‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪32‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫يدرك شيئا آخر هو بيت القصيد‪ :‬صفاتنا هذه سلطان لنا على العالمين الطبيعي والتاريخي‬ ‫قابل لأن يكون بمقتضى ما نستطيع إدراكه مما نعتبره سلطانا علينا أو بما يخالفه‪ .‬وما‬ ‫يخالفه هو ما يدعي صاحبه أن إرادته وعلمه وقدرته وحياته ووجوده مطلقة فيتأله بالمعنى‬ ‫الخلدوني للكلمة عندما يطبقه على‪:‬‬ ‫‪ .1‬الحاكم المستبد الذي يريد التفرد بالمجد والسلطة السياسية‪.‬‬ ‫‪ .2‬العالم الذي يدعي ملك الحقيقة والتفرد بالسطلة العلمية‪.‬‬ ‫‪ .3‬الداهية الذي يدعي قدرة مطلقة على الرأي في السياسة‬ ‫‪ .4‬الشاعر الذي يعتقد أنه فريد نوعه في الإبداع الشعري‪.‬‬ ‫‪ .5‬وأخيرا المتصوف الذي يزعم الكشف وعلم الغيب والتصرف في الأكوان‪.‬‬ ‫لكن الإنسان أعطي سلطانا على العالم بالتكليف بالاستعمار (تعمير الأرض) والاستخلاف‬ ‫(بقيم الاستخلاف) وهو سلطان على الطبيعة (التعمير لسد حاجات الإنسان العضوية)‬ ‫وسلطان على التاريخ (التربية والحكم لتنظيم الحياة) يجعلنا حائزين على أداتين هما‬ ‫الرياضيات للتعمير والأخلاقيات للاستخلاف‪ .‬والطبيعيات والاقتصاديات تابعتان لهما‪.‬‬ ‫وأحمد الله أن التسلسل المنطقي للعلاج أوصلنا إلى لب الإشكالية‪ :‬دور الرياضيات في‬ ‫النظر وموضوعاته يناظره دور الأخلاقيات في العمل وموضوعاته‪ .‬فتكون نسبة الاخلاقيات‬ ‫إلى السياسة فوقها والاقتصاد تحتها هي عين نسبة الرياضيات إلى ما بعد الطبيعة فوقها‬ ‫والطبيعة تحتها‪ .‬وحينئذ نفهم علة ما ينبغي أن يكون عليه الترتيب التيمي لو ذهب ابن‬ ‫تيمية إلى غاية فكره أي أن يكون بعكس الترتيب الأرسطي‪ :‬تقديم الغاية على الوسيلة‬ ‫يقتضي عند الإنسان أن يعكس العلاقة بين العلم والإرادة عند الله وعند الإنسان‪ .‬وهما‬ ‫متطابقان عند الله لكونه قادرا على كل شيء ولكون علمه محيطا‪ .‬لكن الإنسان لو انتظر‬ ‫العلم التام ليعمل لامتنع عليه أن يعمل لأنه لا يوجد علم إنساني تام والعلم يحصل بفضل‬ ‫العمل كنشاط قدرة الإنسان سواء كان على الرموز وهو جوهر النظر أو علة ما ترمز إليه‬ ‫وهو جوهر العمل بالمعنى المتعارف من حيث هو تطبيق للنظر‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪33‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وهذا يصح على الله صحته على الإنسان‪ .‬فالله يخلق ويأمر أو يقضي ويقدر وكلاهما‬ ‫بمعنى كلي لغوي هو \"كن\" رامز لفعل وليس لانفعال‪ .‬وقياسا عليه دون تأليه الإنسان كل‬ ‫شيء يقع بنفس النحو‪ :‬الإنسان يريد شيئا ثم يفكر في شروط تحقيقه‪ .‬وهذه المراحل‬ ‫واحدة عند الله بخلاف ما هي عليه عند الإنسان إذ هو على كل شيء قدير‪.‬‬ ‫فيكون التقدير الذهني الرياضي خلقا إنسانـيا لعوالم مجردة يمكن اعتبارها شروط‬ ‫الوجود المادي أو للضرورة الشرطية أيا كانت‪ .‬ويكون التقدير الذهني الذي أضفته‬ ‫لنظرية ابن تيمية قياسا على مفهوم التقدير الذهني الأول أمرا انسانيا لقيم مجردة يمكن‬ ‫اعتبارها شروط الوجود الروحي أو للحرية الشرطية أيا كانت‪ .‬وهي قدرة نسبية للخلق‬ ‫والأمر عند المستخلف‪ .‬وبهذا المعنى فالنفخ من روح الله هو تجهيز الإنسان بهذين‬ ‫القدرتين اللتين تعودان إلى إبداع المعاني الكلية بالتقدير الذهني أدوات رمزية للنظر‬ ‫والعقد في العبارة عن الطبائع والضرورة الشرطية وللعمل والشرع في العبارة على الشرائع‬ ‫والحرية الشرطية‪ :‬وذلك هو سر كونه مستعمرا في الأرض ومستخلفا فيها ولما كانت علة‬ ‫خلقه هي عبادة ربه فتعمير الأرض بقيم الاستخلاف هو العبادة‪ .‬وذلك ما خفي على علماء‬ ‫الإسلام الذين عكسوا ما أمرهم به القرآن‪ :‬تركوا ما أمرت به فصلت ‪ 53‬فصار وكأنه نهي‬ ‫وجعلوا نهي آل عمران ‪ 7‬أمرا فلم يتبعوا إلى عكسه بتوهم الرسوخ في العلم قدرة على جعل‬ ‫تأويلهم للمتشابه قابلا للعطف على تأويل الله وهو التأله الذي قصده ابن خلدون‪.‬‬ ‫وهذا الفهم هو الذي يبرر ما جعلني اعتبر نظرية ابن تيمية في المعاني الكلية النظرية‬ ‫بوصفها مقدرات ذهنية رامزة مثلها مثل اللغة والكتابة في مجال النظر والعقد دون أن تكون‬ ‫مقومة لموضوعات العلم النظري بحاجة إلى رديف هو المعاني الكلية العملية بوصفها مقدرات‬ ‫ذهنية رامزة في مجال العمل والشرع دون أن تكون مقومة‪.‬‬ ‫ذلك أنه لولا هذه الإضافة لاستحال أولا أن ندرك مدى ثورة ابن تيمية الفلسفية في‬ ‫النظر والعقد وأعماقها التي تصلها بثورة ابن خلدون الفلسفية في العمل والشرع وقابليتها‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪34‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لاستكمال منظومة العلوم القديمة بعلم رئيس أعلى منها جميعا والتحرر من نظرية المطابقة‬ ‫في المعرفة وفي القيمة‪.‬‬ ‫فكان مشروع ابن تيمية في إصلاح المجتمع والتربية بثورة في نظرية المعرفة وكان مشروع‬ ‫ابن خلدون إصلاح الدولة والحكم بثورة في نظرية القيمة‪ .‬ومسعاي لاستكمال عملهما‬ ‫بالتيمية المحدثة والخلدونية المحدثة غايته استخراج هذه الضمنيات التي لم تصغ في‬ ‫منظومة نظرية ولم تغير الرؤى في فلسفة الدين وفلسفة التاريخ الرؤية التي هي جوهر‬ ‫ثورة الرجلين‪.‬‬ ‫ولهذه العلة وصلت دائما في بحوثي المتعلقة بمشروع ا لتيمية والخلدونية المحدثتين بين‬ ‫الرجلين والثورتين رغم علمي بأن ابن خلدون لم يستعمل فكر ابن تيمية بل لعله يجهل‬ ‫كتاباته كلها رغم أن ذلك مستبعد جدا لأن كلا الرجلين عاشا في مصر مدة معتبرة ولأن ابن‬ ‫خلدون زار الشام ولا يمكن الا يكون سمع بالرجل وأعماله‪ .‬أما اتصال ابن تيمية بفكر‬ ‫المغاربية فبين‪.‬‬ ‫فهو الوحيد على حد علمي من المشرق في ذلك العصر كان مطلعا تام الاطلاع على أعمال‬ ‫ابن رشد اذ استعمل بعضها وعلق بخط يده على بعضها ولعله كتب الرد على المنطقيين بسبب‬ ‫لقائه مع بعض تلامذة ابن رشد لأنه كتبه بمناسبة نقاش دار في الإسكندرية مع معجبين‬ ‫بأرسطو وهو تعريف وصفي للرشديين‪.‬‬ ‫وما يحيرني حقا هو النتيجة المعكوسة‪ .‬فرغم أن ثورة ابن خلدون على المشائية لم تكن‬ ‫بوضوح ثروة ابن تيمية إلا أنه هو الذي تجاوز الفلسفة العملية اليونانية بإنجاز فعلي يتعلق‬ ‫بالبديل في حين أن ابن تيمية الذي كانت قطيعته مع المشائية صريحة لم ينجز شيئا يذكر‬ ‫من البديل المترتب على ثورته‪.‬‬ ‫ومعنى ذلك أن صاحب الحسم الصريح والصارم في القطع مع الفلسفة النظرية المشائية‬ ‫لم ينتج عملا بديلا مؤسسا على قطيعته العميقة والتي وضعت أسس نظرية في المعرفة‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪35‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫مطلقة الجدة والثورية في حين أن من كان حسمه لينا مع المشائية أنجز بديلا لما كتب‬ ‫المقدمة‪ .‬كنت أنتظر عملا بوزن المقدمة في النظر‪.‬‬ ‫ومع ذلك فما زلت مقتنعا أن ثورة أبن تيمية في فلسفة النظر والعقد اهم وأبعد غورا من‬ ‫ثورة ابن خلدون في فلسفة العمل والشرع ليس لأن النظر والعقد مقدمان على العمل‬ ‫والشرع فلسفيا لأن كلا منهما يتضمن الغاية والوسيلة وغاية الأول أهم من غاية الثاني‬ ‫وهو من عجائب هذه العلاقة‪.‬‬ ‫فالنظر والعقد مؤلف من النظر أداة والعقد غاية في المعرفة الفلسفة والدينية في آن‪:‬‬ ‫فنحن ننظر لنصل إلى حقيقة نعتقد أنها حقيقة سواء كان النظر فلسفيا أو دينيا فيكون‬ ‫النظر أداة والعقد غاية في الحالتين‪ .‬والعمل والشرع كذلك العمل أداة والشرع غاية لأن‬ ‫العمل من دون قانون نفي للغاية الخلقية‪.‬‬ ‫لكن العمل هو الغاية والنظر هو الأداة إذا قارنهما من دون رديفيهما أي العقد والشرع‪.‬‬ ‫وكذلك العقد هو الغاية والشرع هو الأداة إذا قارناهما من دون رديفيهما‪ .‬وهذا التمازج‬ ‫بين الزوجين النظر والعقد والعمل والشرع هو لب الإشكال في الثورة الفلسفية التي جمعت‬ ‫بين الرجلين من دون تواصل بينهما‪ .‬وأختم بملاحظات سريعة حول الوضع الراهن‪:‬‬ ‫‪ .1‬هل كلام مثل الذي أعرضه هنا يمكن أن يفهم أولا ويمكن أن يؤثر ثانيا إذا كان الفكر‬ ‫في المدرستين التقليدية أي ا لمدرسة التي تدعي التأصيل والعصرية أو المدرسة التي تدعي‬ ‫التحديث والتقدمية لا يتجاوز الإيديولوجيا والنفع المباشر؟‬ ‫‪ .2‬أليس هؤلاء تحكمهم السوق الثقافية بقانون \"طلب\" العرض والطلب فأكون كمن يحكم‬ ‫على نفسه بأن ينتج ما لا نفاق له في هذه السوق؟ والمعلوم أن هذه السوق العربية الحالية‬ ‫من خوارق العادات‪ .‬فالمدرسة التأصيلية أو التقليدية كانت تهتم بابن تيمية مالت إلى بديل‬ ‫العلمنة بتوريد الراقصات وليس بالفكر الحديث ومن ثم فهي تستثني الفكر وليس فكر ابن‬ ‫تيمية وحده‪ .‬والمدرسة التحديثية كانت تهمتم بابن خلدون لكنها تبحث فيه عما تعتبره‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪36‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫نموذج الفكر في ما يشبهه فكره في الغرب ثم صارت تلهث وراء الموضات بأسلوب ما بعد‬ ‫الحداثة يستثني ما بحثنا فيه‪.‬‬ ‫ولو كان الاستثناءان مبنيين على دراية بما قدمه الرجلان لما أشرت إلى الأمر‪ .‬وما يحيرني‬ ‫حقا ليس سوق التقليديين لأن هؤلاء بمقتضى التكوين والتقاليد لا ينتظر منه خيرا في أي‬ ‫مجال علمي نظريا كان أو عمليا بل سوق الحداثيين الذين يزعمون تمثيل الريادة‬ ‫الفكرية‪ .‬فهم مثل القدامى من حيث التوجه ودونهم من حيث الامكانات الفكرية على‬ ‫الأقل إلى حد الآن وخاصة بعد تبنيهم نكوص المدرسة الهيجلية الماركسية إلى القول بما‬ ‫يشبه ما كانت تقول به المدرسة الافلاطونية والأرسطية‪ :‬وهم التطابق بين العقل والواقع‪.‬‬ ‫ولذلك لا تعجب إذا رأيت ميلهم إلى تفضيل الفكر المشائي وخاصة ابن رشد وإلى المعتزلة‬ ‫وخاصة في وهم العقلانية والحرية‪ .‬وكل ذلك دليل على تقديم الإيديولوجيا على العلم‬ ‫لأن نكوص هيجل إلى القول بالمطابقة أو الوهم بأن \"الواقع\" عقلي \"والعقل\" واقعي من‬ ‫الأفكار الساذجة التي تصل بين العصرين‪.‬‬ ‫وقد كنت دائما أعجب من كلام الجابري رحمه الله على الفكر البرهاني عند ابن رشد في‬ ‫مجال البرهان فيه مستحيل من دون التسليم بأساسه في الرؤية الأرسطية أعني على الأقل‬ ‫أمرين لم يعد أحد يقول بهما في الفلسفة حتى هيجل وماركس‪ :‬ثبات الهويات والمقومات‬ ‫الذاتية للأشياء التي تؤخذ منها المقدمات‪.‬‬ ‫فالبرهان يعني أن المقدمات تنطلق من المقومات الذاتية للأشياء وخاصة من الماهية المؤلفة‬ ‫من الجنس والفرق النوعي (بالمعنى الهيلومورفي الأرسطي في علاقة الصورة بالمادة) لإثبات‬ ‫الأعراض الذاتية‪ .‬ولا يوجد علم يتكلم على هذه الأشياء بل المقدمات فرضية والنتائج‬ ‫مثلها حتى لو أيدتها التجربة‪.‬‬ ‫لكني لا أهتم بالسوق الثقافية كثيرا فلست تاجرا يبيع بضاعة‪ .‬إنما أنا باحث عن الحقيقة‬ ‫وهدفي إنصاف الرجل رغم كون الانشغال به كان تهمة منذ أن بدأت ‪-‬سنة ‪- 1979‬وازدادت‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪37‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫التهمة لما وسم الرجل بكونه قائد \"الإرهابيين\" الروحي والفكري وخاصة بعد أن صار حكام‬ ‫العرب جلهم من الحمقى يحاربون مراجعهم‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪38‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪39‬‬ ‫الأسماء والبيان‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook