أبو يعرب المرزوقي re nils frahm ابن تيمية وقطعه مع الفلسفتين القديمة والوسيطة الأسماء والبيان
المحتويات 1 -الفصل الأول 1 - -الفصل الثاني 8 - -الفصل الثالث 16 - تمهيد16 : -الفصل الرابع 25 - -الفصل الخامس 31 -
-- مثلما قدمت ابن خلدون بصورة تتجاوز عمله إلى ما هو حامل به أعني الخلدونية المحدثة سأشرع في تقديم ابن تيمية بصورة تتجاوز عمله إلى ما هو حامل به أعني التيمية المحدثة. ومثلما أن الأولى قطعت مع الفلسفة العملية اليونانية وما بعدها والموروثة عنها قديما ووسيطا فإن الثانية هي قطعت مع الفلسفة النظرية السابقتين قديما ووسيطا. وفي الحقيقة فإن المنطلق في الحالتين واحد. إنه الفلسفة في الشكل الذي عرفته حضارتنا والحضارة الغربية الوسيطة أعني المزيج بين افلاطون وأرسطو بشكل أفلوطيني محدث ولكن في خليط غلب عليه خاصة المعلوم من فلسفة أرسطو وشروحها اليونانية التي وصلت إلينا لأن المعلوم من فلسفة أفلاطون غالبا ما سيطر عليه الميل إلى أبعاد غنوصية كما في فكر السهروردي أو حتى في ما يبدو رياضيا فيثاغوريا كما في رسائل إخوان الصفا. ولا بد من تمهيد يبين موطن النقد الذي مكن من التجاوز وسأكتفي بابن تيمية في هذه المحاولة .وسأدخل تغييرا مفيدا على نظام العلوم الأرسطي لتجاوز ثغرة فيه علتها أنه لم يحدد موقعا فيها للمنطق رغم أنه هو صائغه شكله الأول صوغا نسقيا وجعله تأسيسه الجدلي كان الموضوع الثاني لكتاب ما بعد الطبيعة الذي أسس فيه علم الموجود من حيث موجود على نموذج الطبيعة وأسس مبادئ العقل الثلاثة الشهيرة أي مبدأ الهوية وعدم التناقض والثالث المرفوع .التغيير هو تحديد موضعه في النظام. فنظام العلوم الأرسطية أو تصنيفه للعلوم يكتفي بذكر ستة ولا يذكر من بينها علم المنطق الذي لا يعتبره علما بل مدخل للعلوم بكل أصنافها وحتى للفنون التي لم تصل إلى درجة العلم النظري مثل الخطابة والشعر والجدل والسفسطة .فكلها لابد لها من شيء من الحاجة إلى المنطق مثلها مثل العلوم بحق أي النظرية والعملية. فمن دون التعديل الذي أنوي القيام به في تصنيف أرسطو للعلوم الرئيسية الستة أي الثلاثة النظرية والثلاثة العملية-وهو التصنيف الذي ظل قائما إلى بداية العصور أبو يعرب المرزوقي 1 الأسماء والبيان
-- الحديثة في الغرب أو ما يماثلها لكنه لم يلتفت إليه أحد عندنا أعني عند ابن خلدون وابن تيمية بعد محاولة النقد عند الغزالي-لا يمكنني بيان ثورة ابن تيمية الفلسفية. وحتى العلوم الستة فالثابت منها بصورة صريحة ومكررة في ما بعد الطبيعة ثلاثة هي العلوم النظرية التي هي الطبيعيات والرياضيات والإلهيات أو ما بعد الطبيعة .وقياسا عليها ترد أحيانا العلوم العملية بتصنيف مماثل لها دون ثبات واضح فيها .وهي كذلك ثلاثة مناظرة لها وكل الأمر يتطلق بهذا التناظر .وهذه العلوم العملية إذا أقدمت فرضيا على عرضها بصورة مناظرة للعلوم النظرية فإنها تكون كالتالي: .1فنظير الطبيعيات فيها هو الاقتصاديات وكانت مقصورة على الاقتصاد المنزلي جزءا من ا لسياسة رغم كلامه على اقتصاد الدولة بل وله فيه كتاب يبدو أنه منحول عليه .يليه نظيرا للرياضيات الأخلاقيات. .2والنظير الثاني للأوسط في النظريات أي للرياضيات هو الأخلاقيات فهي الوسطى بين الاقتصاديات والسياسيات .وسنرى الدور الذي تؤديه في العمليات وتناظره مع الرياضيات في النظريات. .3ثم النظير الثالث هو نظير الإلهيات أو ما بعد الطبيعية (الإلهيات ليست مصطلحا عربيا بل هو أرسطي وأهم مقالات الميتافزيقا أي الثانية عشرة مخصصة لإثبات وجود المحرك الأول أو الإله العقل عنده) هو السياسيات .فتكون السياسة علم رئيس في ا لعميات مثل الميتافيزيقا في السياسيات .ولم يكن ذلك أمرا مفروغا منه لأن عالج منزلة السياسي في أخلاق نيقوماخوس بوصفه منافسا لما بعد الطبيعة في منزلة العلم الرئيس إذ تساءل عن العلم الرئيس -الارشيتاكتونيك -هل هو الميتافيزيقا أم السياسة .وبعد تردد قرر أن يعطي هذه المنزلة للميتافيزيا تقديما للنظر على العمل في رئاسة العلوم كلها. ومناط بحثي هو بيان أن العلم الرئيس الذي انسب اكتشافه لابن تيمية غيرهما وأنه فوق ما بعد الطبيعة والسياسة وأصلهما .وهذا العلم الرئيس هو الذي يسد الثغرة في نظام العلوم الأرسطي ويمكن من تجاوزه وبالانطلاق منه يمكن فهم ثورة ابن تيمية لم يكن أبو يعرب المرزوقي 2 الأسماء والبيان
-- موجودا رغم أن بعضا منه كان موجودا وهو المنطق ببعديه في شكلهما الذي صاغه أرسطو وعمل به الفكر إلى حدود ثورة ابن تيمية: .1المنطق الذي يعمل على الرموز كمتغيرات دون تعيين لطبائع الموضوعات التي تتكلم عليها الرموز بشكل المتغيرات (التحليلات الأوائل) .2المنطق الذي يطبق هذه البنى المجردة على موضوعات معينة (التحليلات الأواخر الذي يدرس البرهان والحد). وهذه التسمية أرسطية. فالأول هو التحليلات الأوائل والثاني هو التحليلات الأواخر .لكن المشكل الذي يعنى به ابن تيمية وكان أرسطو يعتبره أمرا مفروغا منه هو المشكل الذي يدرس علاقة نوعي التحليلات أحدهما بالآخر واستخرج أصل العلم المطلوب والذي يؤدي إلى تجاوز المشائية. إنه علم طبيعة علاقة الرمز بالمرموز بين المتواصلين في العلم .وهي إشكالية تجمع بين نظرية الترميز ونظرية المعرفة. لم يكن بالوسع تصنيف هذا النوع الجديد من البحث الفلسفي .وهو ما يمكن أن نعتبره علم الوسميات أو علم السيميوتكس التي تتعلق بنظرية الترميز وما تستند إليه من علاقة بين النظام الرمزي والنظام الوجودي إن صح التعبير ونظام التواصل بين المرمزين وهو مجال المنطق يعتبر أحد أبعاده أو أحد اشكاله ويمكن اعتبار الرياضيات أحد أشكاله وأي نظام ترميز أحد أشكاله. والأهم من ذلك هو تضمنه اللسانيات .ومن ثم فأهم إرهاصات ثورة ابن تيمية لسانية. ومنها رفضه المقابلة الكلامية الأدبية وحتى الفلسفية (أرسطو كتاب الشعر) \"حقيقة-مجاز\" ليس بالمنظور الذي يرد ذلك لموقفه من التأويل في علم الكلام بالمجاز بل لأنه لا يعتبر العلاقة بين الدال والمدلول ذات صلة بالحقيقة ولا بالمجاز بل هي مواضعة بين المتواصلين لا غير .فيكون بذلك قد اكتشف العلاقة المخمسة للترميز :بين الدال والمتواصلين والمدلول وضمن نظام الدال وضمن نظام المدلول وضمن نظام المتواصلين .ومعنى ذلك أن الأنظمة أبو يعرب المرزوقي 3 الأسماء والبيان
-- الثلاثة بتناظرها تحدث العلاقة بين الدال والتواصل والمدلول .والأصل هو علاقة الدال بالمدلول بتوسط المتواصلين. والأهم من هذه الأهمية هو أنه رد المعاني التي كان أرسطو يتصورها حقائق موضوعية مقومة للأشياء ومنها تشتق صورة الأشياء أو ماهيتها التي تنعكس على الذهن وهي مادة المعرفة العلمية يعتبرها ابن تيمية هي بدورها رموزا من جنس الرموز الملفوظة لسانا والمكتوبة رسما ولا علاقة لها بمقومات الشيء الذي تشير إليه إشارة تواضعية كذلك. وهو يشبه دورها بدور الحدود التي ترسم للفصل بين الأشياء في المكان -وهنا في كل نظام من الأنظمة الثلاثة المتناظرة-كالتي ترسم حدود قطع الأرض في الجغرافيا أو في الزراعة فتكون مفيدة بما تحدثه من تناظر بين نظام الرموز ونظام المرموزات لدى متواصلين معينين في جماعة معينة بالنسبة إلى اللغات الطبيعية وفي اختصاص معين بالنسبة إلى اللغات الاصطناعية .وقد يكون التواصل في لغة طبيعية خاصة بجماعة أو في لغة صناعية خاصة باختصاص معين بتجاوز فروق اللغات الطبيعية. فتكون الإفادة ليست بتناظر الرمز الواحد مع المرموز الواحد بل بتناظر المنازل في النظام الرمزي مع المنازل في النظام المرموز تناظرا يتحدد بالانعكاس على نظام التواصل في جماعة معينة إذا كان الكلام لغة طبيعية أو لجماعة اختصاص تتجاوز فيه اللغة الصناعية الاختلافات بين اللغات الطبيعية مثل لغة الرياضيات في العلوم والتقنيات. ومن الطبيعي ألا يُفهم كلام ابن تيمية هذا في عصره وأن يظن تخريفا لأن الفلسفة السائدة كانت تعتبر العقل مرآة صقيلة تعكس مقومات الموضوع الذي هو شفاف إلى العقل في علاقة مباشرة بين الوجود يليها الترميز وليس هو هي بحدود المواضعات في الجماعة. ومن ثم فهم يقولون بنظرية المطابقة بين العلم والموضوع المعلوم إذا توفرت شروط التحرر من أخطاء الحواس وأخطاء الاستدلال العقلي. لكن ابن تيمية يفرض ذلك جملة وتفصيلا :العقل ليس مرآة عاكسة والوجود ليس شيئا شفافا ولا وجود لمطابقة بين العلم ومقومات الموضوع المعلوم .كل ما يوجد هو معاني يقدرها أبو يعرب المرزوقي 4 الأسماء والبيان
-- الذهن حدود تحيل إلى ما يعتبره مؤثرا في إدراكه في حدود ما يستطيع إدراكه من أعراض الشيء دون تمييز بين نوعيها إلا فرضيا كانت نظرية الوجود الأرسطية تميز بين ثلاثة عناصر في الشيء: .1ماهيته .2أعراضه الذاتية .3أعراضه العامة. والأولى لا برهان عليها بل هي حدسية والأخير لا يعلم لأنه لا متناهي .فيبقى موضوع العلم الأعراض الذاتية التي هي ما يترتب على الماهية أو الهوية .والبرهان لا يكون إلا على هذه العلاقة. ابن تيمية يرفض التمييز بين نوعي الأعراض ويرفض أن تكون الماهية معلومة علما يقينيا وهي من ثم حد مؤقت دائما إذ يمكن تغييرها بحسب تقدم المعرفة وتبقى دائما رموزا تشير إلى الشيء إشارة الحدود إلى قطعة الأرض وليست مؤلفة من مقومات الشيء أي من الجواهر الثانوي بمعنى الجنس والفرق النوعي. وإذن فالعلم بالأشياء الموجودة في الخارج أي التي هي موضوع التجربة في صيرورة دائمة وكل شيء فيه قابل للتغير بحسب تقدم الإدراك الذي يعدل تحديد المواضع في النظام الرامز والنظام المرموز للجماعة المتواصلة إما باللغة الطبيعية أو باللغة الصناعية وهي كلها رموز تشير للشيء وليست مقوماته. ولذلك فهو يرفض نظرية المعرفة القائلة بالمطابقة بين العلم وموضوعه .والفرق بين العلم وموضوعه لا يمكن أن يزول لأن الوجود ليس شفافا والعقل ليس مرآة عاكسة ثم إن الوجود ليس كله شاهدا بل فيه غيب لا يمكن أن يزول وأن يعلم ومن ثم فلا وجود لعلم محيط .فهل معنى ذلك لا وجود لعلم كلي ويقيني؟ لا ونعم .فابن تيمية ينفي أن يوجد علم برهاني وكلي عندما يتعلق الامر بالموجودات الحقيقية التي لها قيام ذاتي في العالم الخارجي الذي نحاول معرفته .لكنه يوجد علم أبو يعرب المرزوقي 5 الأسماء والبيان
-- برهاني وكلي عندما يتعلق الامر بما يسميه المقدرات الذهنية التي من جنس المنطق والرياضيات لأنها تصنع العلم وموضوعه التقديري. فلكأن الأمر يتعلق بلعبة رمزية خالصة ليس مرموزها موجودا قائما بذاته في الوجود المحسوس بل مرموزها تحدثه هي بالمواضعات الرمزية والتعريف التقديرية التي تستعمل المتغيرات بدلا من المضامين الوجودية المحددة .وحينها يمكن كما يقول للعقل المحض أن يعمل ويعلم ما يعمل بالمواضعة الرمزية. أبو يعرب المرزوقي 6 الأسماء والبيان
-- أبو يعرب المرزوقي 7 الأسماء والبيان
-- ثورة ابن تيمية لا يمكن أن نسميها باصطلاح الفلسفة القديمة والوسيطة بسبب المنزلة التي يوليها إلى مفهوم المقدرات الذهنية التي هي وحدها قابلة لأن تكون موضوع \"علم برهاني ونظر محظ وكلي\" وما ترتب عليه من اعتبار كل معرفة موضوعها ليس من هذا الجنس لا تتوفر فيها هذه الصفات :ليست برهانية ولا محضة ولا كلية. وقبل أن نفهم تعليله فلنسأل :ما الأمر في العلوم العملية وهل ينطبق هذا الكلام على المعرفة الدينية بمعنى هل هي أيضا تنقسم إلى ما ينتسب إلى المقدرات الذهنية وإلى الحقائق التي ليست من جنسها بمعنى الحقائق التي تخضع لعلاقتها بموضوع ليس من المقدرات الذهنية فيجعلها ليست برهانية ولا محضة ولا كلية؟ ذلك أن ابن تيمية تكلم بصورة عامة ولم ينظر إلى الفرق بين العلوم النظرية والعلوم العملية وإلى الفرق بين العلوم المنضوية تحت مظلة الدين والعلوم الفلسفية. فهل ما يقوله يصدق علـى المسكوت عنهما في كلامه على علم المقدرات الذهنية وعلاقتها بعلم ما ليس من جنسها؟ هنا فحسب تدخلت لسد ثغرة في نظام العلوم الأرسطي لفهم ثورة ابن تيمية .وذلك بالجواب عن سؤال ضمني :هل للعلوم العملية الثلاثة بعد التقدير الذهني مثل العلوم النظرية الثلاثة أم ليس لها هذا البعد؟ وضمن ذلك يدخل ضم العلوم الدينية إلى العلوم الفلسفية إن صح التعبير لمعرفة هل هي أيضا تخضع لهذه الثنائية علم المقدرات الذهنية وعلم الموضوعات الخارجية؟ فيمكن عقلا أن أتخيل طبيعيات بالتقدير الذهني وطبيعيات فعلية تستند إلى الطبيعة المحسوسة ورياضيات بالتقدير الذهني ورياضيات على الكم والمقدار المحسوسين وإلهيات بالتقدير الذهني وإلهيات فعلية أو من بها وأعيشها بوجداني (وهنا يتدخل ما يتعلق بفكر ابن تيمية خصيصا أي على يعتبر العلم الديني مثل العلم الطبيعي لا يمكن أن يكون برهانيا ولا محضا ولا كليا؟). أبو يعرب المرزوقي 8 الأسماء والبيان
-- لكن ما يعنيني الآن مواصلة للبحث عما يكمل نظام أرسطو هو السؤال التالي :هل يوجد اقتصاديات وأخلاقيات وسياسيات بالتقدير الذهني قياسا على الطبيعيات والرياضيات والإلهيات لو طبقنا الفصل التيمي بينهما فصلا يجعل لها مستوى التقدير الذهني ومستوى الوجود الفعلي؟ ولما كان التقدير الذهني في العلوم النظرية الثلاثة يمكن اعتباره كله ابداعا لنظام رمزي قابل للاستعمال فيها كلها وهو من جنس الرياضيات الكلية فإن المطلوب هو الجواب عن سؤال واحد :هل يوجد تقدير ذهني للعلوم العملية يكون بالنسبة إليها في نسبة الرياضيات الكلية إلى العلوم النظرية كلها؟ (وبصورة خاصة هل تنطبق هذه القسمة على العلوم الدينية؟) تلك هي الثغرة التي كان علي سدها في فلسفة أرسطو حتى تصبح ثورة ابن تيمية قابلة للفهم والتعليل .وكان الجواب يقتضي قفزة مفهومية قد يعتبرها علماء الدين خروجا عن الملة خاصة إذا استنتجنا منها أن ما يقال عن العلوم الفلسفية ينطبق بعينه على العلوم الدينية التي لا يمكن استثناءها من ثورة ابن تيمية النافية للبرهانية والمحظية والكلية على غير المقدرات الذهنية. لكن حتى نفهم الجواب فهما متحررا من هذا الأفق الضيق فلننطلق من خاصية جوهرية: ليس لها مثيل في الشاهد ولا يفهم الشاهد بدونها .فإذا كانت المقدرات الذهنية الرياضية ليس لها مثيل في عالم الشهادة ولا شيء يعمل من عالم الشهادة بقابل للفهم والتفسير من دونها فإن الإشكال الذي أبحث عن حل له لأسد ثغرة فكر أرسطو سدا يمكن من فهم ثورة ابن تيمية هو :هل يوجد نوع ثان من المقدرات الذهنية-لن اصفها باسم خاص بها الآن- يؤدي هذه الوظيفة في العلوم العملية؟ وهل يمكن حينئذ أن نجد علما رئيسا فوق الجنسين فيكون أصلا متقدما على العلوم النظرية الثلاثة والعلوم العملية الثلاثة؟ لماذا أحجمت عن إطلاق اسم عن هذا النوع الثاني رغم كون الصفة المميزة لهذا النوع مذكورة في القرآن الكريم نفسه .فكل ما يقال عن الله واليوم الآخر والقيم الروحية والروح كلها من جنس \"ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على بال بشر\". أبو يعرب المرزوقي 9 الأسماء والبيان
-- وهي إذن ليست من الشاهد ولا مثيل لها فيه ولكن لا يمكن العمل الشاهد من دونها فتكون من جنس المقدرات الذهنية التي تكلم عليها ابن تيمية في دحضه لليقين في معرفة الشاهد لأنه لا شيء يمكن أن يكون برهانيا ومحضا وكليا خارج المقدرات الذهنية. ولو استسغنا هذا المثال فاعتبرنا المثل الأفلاطونية مقدرات ذهنية ضرورية لفهم الوجود الذي يقاس عليها باعتباره الموجودات نسخا منها دونها كمالا ما يجعلها لا يمكن أن يكون علمها برهانيا ولا محضا ولا كليا لقلنا إن المقدرات الذهنية تشبه علاقة المثل حيث الكمال قسنا عليها النسخ التي تشبه الوجود الخارجي في النقص مثل علاقة الأشكال في تصورها الهندسي بأي شكل نرسمه مهما كان تاما لمجرد تعينه المادي. لا أستطيع أن أقول إن الأديان هي النوع الثاني من المقدرات الذهنية لأن أصحاب الفكر الضيق سيتهمونني بالتشكيك في وجودها لكأن من يتكلم على الرياضيات العالية يشكك في وجودها موضوعاتها لمجرد تسمية علمها تقديرا ذهنيا لظنه أن الوجود مقصور على الوجود الشاهد والمحسوس مع التوكيد على أن الوجود الشاهد مستحيل العلم من دونها ومثله للعمل في حالتنا .ويعسر أن أفهم من لا يفهم استحالة أن يكون ما هو ضروري لوجود الشاهد أكثر كثافة وجودية منه. وتجنبا لهذا الإشكال الذي كان ينبغي ألا يقع لو كان رجال الدين يفهمون القصد من التقدير الذهني بالمعنى التيمي مطبقا على الرياضيات في مجال العلوم النظرية إذا نقلناه لما يؤدي نفس الوظيفة في العلوم العملية فكرت في تسمية هذا النوع الثاني من التقدير الذهني بالأدبي أي إبداع قصص عملي مثالي يمكن على الأقل من حيث الشكل والوظيفة اعتبار الأديان جنسا عاليا منه. ولست غافلا عن كون ذلك لا يزيل التهمة لأن أصحاب النوايا السيئة سيقولون إذن أنت تعتبر الأديان تقديرات ذهنية مثل الروايات والقصص ولا تعتقد في وجودها الفعلي .ولا أستطيع أن أقنعهم بأن موقفهم هذا يعني أنهم يتوهمون الوجود الفعلي هو الوجود أبو يعرب المرزوقي 10 الأسماء والبيان
-- المحسوس .وهذا يشبه كثيرا موقف أولئك الذين كانوا يتصورون أن رياضيات اقليدس هي الوحيدة الممكنة ولم يفيقوا إلا بعد ابداع غيرها. وكلها \"ذات\" وجود أكثر حقيقة من وجود العالم المحسوس الذي يعتبره العامة \"واقعا\". ولا يوجد ملحد ليس من العامة حتى أولئك الذين يزعمون بناء إلحادهم على العلم بل وخاصة هؤلاء لأنهم عامة يدعون العلم المستحيل :فلا يوجد علم محيط بوجود فعلي مطلق يمكن أن تبنى عليه معرفة علمية مطلقة لا في الفلسفة ولا في الدين. ولا بد هنا من اشارة سريعة سأعود إليها وهي أن العقائد تنقسم إلى نوعين متناظرين بالتسالب وكلاهما مضاعف المستوى أعني مستوى عادة العامة ومستوى من يحاول تجاوز العامة بعلم زائف يصبح عاميا بل وأحمق بمجرد أن يتصور الحصول على علم محيط يمكن أن يحسم في الأمر إيجابا أو سلبا: .1أولها العقيدة المؤسسة على إيمان العجائز أي على العادة التي لا يفكر صاحبها في الحاجة إلى اثبات ما تعود عليه دينيا يبدو له حقيقة مطلقة لا يتطرق إليها أدنى شك. .2ولها نظير سلبي يتأسس على إلحاد العجائز أي العادة التي لا يفكر صاحبها في الحاجة إلى إثبات ما تعود عليه لا دينيا يبدو له حقيقة مطلقة لا يتطرق إليها أدنى شك. .3والثالث هو التشكيك في الاول ومحاولة أثبات الإيمان بالعلم المزعوم أي علم الكلام الموجب وهو إيمان الحمقى. .4والرابع هو التشكيك في الثاني ومحاولة إثبات الإلحاد بالعلم المزعوم علم الكلام السالب وهو إلحاد الحمقى. .5وأصل ذلك كله هو أن الإنسان كيانه عينه هو هذا التنازع بين المواقف الاربعة التي لا يخلو منها وعي صاحبه ذو وجدان حي يتلظى بالحيرة الوجودية الدائمة. ولما كان نوعا الفكر عندنا أو من سميتهم بالكاريكاتورين التأصيلي والتحديثي يعتبران العالم المحسوس هو الواقع وهو الوجود الفعلي الوحيد فإن اقناعهم بأن هذا النوع الثاني أبو يعرب المرزوقي 11 الأسماء والبيان
-- من المقدرات الذهنية قد يكون أكثر \"واقعية\" من التاريخ أمر مستحيل وقد يعتبرون من هو على هذا الرأي مجنونا. أضع إذن على الأقل على سبيل الفرض أنه يوجد نوعان من التقدير الذهني الرياضي للعلوم النظرية والأدبي للعلوم العملية: .1والأول شرط علوم الطبيعية والطبيعة وما ورائها وهو يتعلق بالضرورة الشرطية. .2والثاني شرط العلوم الإنسانية والتاريخ وما ورائه وهو يتعلق بالحرية الشرطية. والشرطية هنا هي شرط المثال لفهم المثيل الذي هو عين ماثلة من المثال ينقصها ما في المثال من كمال .ولعل أفلاطون اقترب من الفكرة .لكن ما حال دونه والوصول إليها عائقان لغياب نظرية الرمز التي مكنت ابن تمية من تجاوزه وتجاوز أرسطو في آن. والمعلوم أن اقتراب افلاطون مما نطلبه يعتمد على الحل التالي: .1تصور المثيل عينة مشاركة فعليا في المثال أي إن المثيل نسخة من المثال الذي يحل في مثيله في عالم الشهادة. .2واعتبار المثال جنسا أعلى من الجنس الرياضي الذي جعله وسيطا بينه وبين المثيل أي بين المثال المتعالي والطبيعي المتداني. لكن لو أدرك أفلاطون ما أدركه ابن تيمية فاعتبر المعاني المثالية-المثل -ليست مقومات الأشياء والموضوعات المعلومة بل هي رموز تشير إليها دون أن تكون من مقومة لها أو من طبيعتها أو حتى مدركة لحقيقة طبيعتها لكان هو الذي حقق ثورة ابن تيمية قبله. لكنه لم يفعل وهذا هو سر تسميتي عمل ابن تيمية ثورة وسر عجز حداثيي العرب فهم نسبتي هذه الثورة إليه .فالمعاني الكلية ليست عند ابن تيمية مقومة للأشياء سواء اعتبرناها مفارقة كما في الرؤية الافلاطونية أو محايثة كما في الرؤية الأرسطية. ونفي أن تكون المعاني الكلية مقومة سواء كانت مفارقة (أفلاطون) أو محايثة (أرسطو) واعتبارها مجرد رموز مثلها مثل الفاظ اللغة ورسوم الكتابة تلك هي الثورة التيمية ولا أبو يعرب المرزوقي 12 الأسماء والبيان
-- علاقة لها بالرد على المنطقيين التي تلقفها باعة الروبافياكيا للكلام عليه في حين أنه لم يأت بجديد في نقد المنطق كفن استدلال ولم يعترض على أرسطو في شيء ذي بال في ما يتعلق بالتحليلات الأوائل. والآن حان الوقت لإيراد الشاهدين الأهمين اللذين يبرزان هذه الفكرة الثورية واللذين لهما من الوضوح والصراحة ما يستحيل أن يشكك أحد في ما يمكن أن يستمد منها من دلالة على القطع النهائي مع الفلسفة القديمة والوسيطة كلها .وتعليلها يتعلق بأمرين هما بعدا ثورته: .1الأول هو الثورة المفهومية في تحديد المعاني الكلية وجعلها هي بدورها رموزا مثل الفاظ اللغة ورسوم الكتابة وليست مقومة لموضوع المعرفة. .2والثاني هو الثورة الابستمولوجية الفاصلة بين علم المقدرات الذهنية وعلم الموجودات القائمة خارجها واستحالة أن يكون علم هذه مطابقا لها مثل علم تلك. وهذان هما بعدا الثورة اللذين اعتبرهما بندي شهادة وفاة الفلسفة القديمة والوسيطة .ولنبدأ بإيراد النص المعلل لشرط إمكان الثورة -وهو من درء التعارض وليس من الرد على المنطقيين بخلاف ما يظن الذين يعتقدون ثورته تتعلق بنقد المنطق حتى وإن كان هذا النقد المناسبة التي استعملت فيه ثمراتها-رغم أن الوعي بهذه الوظيفة ظل غامضا: \"وبسبب الغلط فيه (في طبيعة وجود الكلي=المقدر الذهني) ضل طوائف من الناس حتى في وجود الرب تعالى وجعلوه وجودا مطلقا إما بشرط الإطلاق (أفلاطون وشيعته) وإما بغير شرط الإطلاق (أرسطو وشيعته) .وكلاهما يمتنع وجوده في الخارج .والمتفلسفة منهم من يقول :يوجد المطلق بشرط الإطلاق في الخارج كما يذكر عن شيعة أفلاطون القائلين بالمثل الأفلاطونية .ومنهم من يزعم وجود المطلقات في الخارج مقارنة للمعينات وأن الكلي المطلق جزء من المعين الجزئي كما يذكر عمن يذكر عنه من أتباع أرسطو صاحب المنطق. أبو يعرب المرزوقي 13 الأسماء والبيان
-- وكلا القولين خطأ صريح فإنا نعلم بالحس وضرورة العقل أن الخارج ليس فيه (إلا) شيء معين مختص لا شركة فيه أصلا\"(درء التعارض). وطبعا فالدافع لهذا النقاش كلامي لأنه دائر مع الرازي حول رد المنقول إلى المعقول بالتأويل عند التعارض .لذلك يقول: \"وأمثال ذلك من اغاليطهم التـي تقود من اتبعها إلى الخطأ في الإلهيات حتى يعتقد في الموجود الواجب أنه وجود مطلق بشرط الإطلاق كما قاله طائفة من الملاحدة أو بشرط سلب الأمور الثبوتية كلها كما قاله ابن سينا وأمثاله\" ( \" )...مع العلم بصريح العقل أن المطلق بشرط الإطلاق أو بشرط سلب الأمور الثبوتية يمتنع وجوده في الخارج فيكون الواجب الوجود ممتنع الوجود\"(نفسه). ويترتب على رفض الوجود الفعلي للمعاني الكلية مفارقة كانت أو محايثة واعتبارها مقدرات ذهنية ونفي أن تكون من مقومات ما يشير إليه القول العلمي في موضوعه مشكل أساسي ولا يمكن أن فهم وألا نعجب من لغز هذا الشيء الذي يعتبر ضروريا للعلم دون أن يكون ذا قيام في موضوعه إما على نحو المفارقة الأفلاطونية أو على نحو المحايثة الأرسطية. ذلك ما اعتبرته ثورة وكان على فهمه .فما هي هذه الثورة؟ قبل الجواب لا بد من البدء بالسلب :ما الذي يترتب على هذا القول بالنسبة إلى الرؤية الوجودية في الفلسفة التي ينقدها ابن تيمية فيسقط نهائيا وتتحرر منه نظرية المعرفة: يقول ابن تيمية\" :ومن علم هذا (ما بدانا بذكره) علم كثيرا مما دخل في المنطق من الخطأ في كلامهم في الكليات والجزئيات مثل الكليات الخمس الجنس والفصل والنوع والخاصة والعرض العام وما ذكروه من الفرق بين الذاتيات واللوازم للماهية وما ادعوه من تركيب الأنواع من الذاتيات المشتركة المميزة التي يسمونها الجنس والفصل وتسمية هذه الصفات اجزاء الماهية ودعواهم أن هذه الصفات التي يسمونها أجزاء تسبق الموصوف في الوجود الذهني والخارجي جميعا واثباتهم في الأعيان الموجودة في الخارج حقيقة عقلية مغايرة للشيء المعين الموجود\"(نفسه). أبو يعرب المرزوقي 14 الأسماء والبيان
-- فمن له دراية بالفلسفة القديمة والوسيطة يدرك أن ابن تيمية لم يبق شيئا منها بهذه الإشارات .فمن دون هذه الأمور التي نفاها كلها لا يمكن تصور شيء من مما يسمى علوما عقلية في عصره ممكنا .لكنه مع ذلك نفاها كلها واعتبرها أخطاء لا توصل إلى العلم بل تحول دونه .تلك هي شهادة وفاة الفلسفة القديمة والوسطية شهادتها التي مثلتها ثورة ابن تيمية. والآن :من يكتب شهادة وفاة الفلسفة القديمة والوسيطة لا بد أن يقدم البديل أي شهادة ميلاد الفلسفة البديل أو على الأقل التصريح باللاأدرية المطلقة .وابن تيمية لم يكتف بتسجيل وفاة هذه الفلسفة بل قدم البديل وكتب ميلاده كذلك لأنه تجاوز نقد الغزالي الذي كان يهدف باعترافه إلى التشكيك في الفلسفة ممثلة بالفارابي وابن سينا تجاوزه فقدم انطولوجيا وابستمولوجيا بديلتين هما بعدا ثورته وهما ما به يمكن أن نجد الوصل الممكن بين علوم النظر وعلوم العمل والأصل الواحد للفلسفي والديني عامة. أبو يعرب المرزوقي 15 الأسماء والبيان
-- يقتضي الوصل بين ثقافة النخب العربية الحداثية الحالية والنخب العربية التي كانت تمثل نظراءهم في الماضي -إذا اعتبرنا إدخال الفلسفة اليونانية القديمة في الثقافة الإسلامية حينها أشبه بإدخال الفلسفة الغربية الحديثة فيها -ولفهم علل موقفهم الحالي من وصفي عمل ابن تيمية ثورة بسبب قطعه مع الفلسفة القديمة :العلة هي أنهم لم يدركوا بعد أن ما قطع معه في القديمة هو ما عادوا إليه فيا لحديث اتباعا لهيجل وماركس أي: .1القول بنظرية المعرفة والقيمة المطابقتين بافتراض العلم الإنساني محيطا. .2القول بوحدة العالم وأن الحقيقي فيه هو ما يتجلى من الطبيعي والتاريخي فيهما. فنسبة هيجل إلى ماركس هي عينها نسبة أفلاطون إلى أرسطو بخصوص هذين الرؤيتين. ومن ثم فجل المثقفين العرب الحاليين يمثل ماركس في الرؤية الفلسفية وجودا ومعرفة وقيمة لهم ما مثل أرسطو لجل المثقفين المسلمين في القرون الوسطى. لكن يوجد فرق جوهري هو تجلي ما حاولت أفلاطون وأرسطو التخلص منه وعاد إليه هيجل وماركس: .1العلاقة بالدين :كانت الفلسفة في حالتي أفلاطون وأرسطو تحاول وضع دين بديل متأسس على المبادئ الفلسفية على النحو الذي فهمه الفارابي أو ما يسميه الملة الفلسفية في مقابل الملل أي الاديان التي تعتمد على الوحي عندنا وعلى ما كان أفلاطون وأرسطو يسميانه حماية الشعراء وخيالهم في الفلسفة العملية .وبهذه الرؤية فهم كل فلاسفة العصر الوسيط عندنا الاديان المنزلة .لكن هيجل اعتبر العلم الفلسفي المطلق ليس هو شيئا آخر غير عقائد الدين المسيحي إذا فهمت على حقيقتها. .2العلاقة بالعلم :كان العلم يعتبر فرعا من فروع تطبيقات الفلسفة الأولى عند أفلاطون وأرسطو وكان الفلاسفة قبل كل شيء وبعد كل شيء علماء .وهو ما كان يتوهمه أبو يعرب المرزوقي 16 الأسماء والبيان
-- فلاسفتنا في القرون الوسطى .لكن اليوم بات الأمر مستحيلا حتى لو أدعى ماركس أن المادية الجدلية علم. وفي الحالتين صارت الفلسفة إما إديولوجيا دينوية أو إيديولوجيا علموية .وفي الحالة الهيجلية فإنها تصبح بالضرورة إما تجربة وجدانية صوفية أو عكسها أي إما إيمان صوفي أو إلحاد مادي .وفي الماركسية فإنها تصبح بالضرورة إما تجربة سياسية أو عكسها أي إما التزام سياسي أو ثورة سياسية. وحتى نخرج من هذين التصورين صار من الواجب أن نطلب الممكن للإنسان مما يمكن من التحرر من هذين الرؤيتين المضاعفتين والمتكاملتين دون دعوى المبدأين اللذين تتأسس عليهما نظرية المعرفة والقيمة المطابقة ونظرية العالم الواحد الذي هو العالم الطبيعي والتاريخي دون أن يكون ذلك شيئا آخر غير الاقتصار على الممكن للاجتهاد المعرفي والقيمي الإنساني. كتابة رسم الوفاة بالنسبة إلى الفلسفة القديمة والوسيطة كاد يتحول إلى جريمة لأن قراءه لم يروا إلا شهادة الوفاة ولم ينتبهوا لشهادة ميلاد البديل .واعتقد أن ذلك حصل لكل مبادرات التحرر من تحريف الفكرين الفلسفي والديني في تاريخنا الحضاري .لكأن الجماعة صارت لا تعنى إلا بشهادات الوفيات ولا تلتفت إلى البديل. وما يعنيني اليوم هو البديل الذي قدمه ابن تيمية بعد إلغاء كل ما ذكرت في الفصل السابق .وهي كلها تقبل الرد إلى مسألة واحدة :ما البديل من هذه الأمور كلها بوصفها مردودة إلى نظرية العلاقة بين المعاني الكلية والموجودات الفردية القائمة بذاتها موضوعا للعلم في الفلسفة القديمة والوسيطة؟ ينبغي التنبيه إلى أن أرسطو نفسه يؤمن بأنه لا وجود إلا للأفراد ولا علم إلا للكليات. وحله بخلاف الحل الأفلاطوني اعتبار الكليات معان وجودية متعينة في الأفراد فوهي صورتها أو عبارة جوهرها في حين أن افلاطون يعتبرها معان وجودية مفارقة للأفراد التي تحاكيها بالمشاركة في الصورة التي هي الوجود الكلي للمثل. أبو يعرب المرزوقي 17 الأسماء والبيان
-- المشكل هو أن ابن تيمية ينفى الحلين الأفلاطوني والأرسطي :المعاني الكلية لا حقيقة لها من جنس الموجودات المشار إليها خارج نظام الرموز سواء تصورنا هذه المعاني الكلية مفارقة أو محايثة .وهو ما يقتضي تغيير طبيعتها :كانت في الفلسفة القديمة والوسيطة مقومات وجودية للأشياء الفردية سواء حايثتها أو فارقتها وهي من ثم ثوابت ففقدت عنده هذه المنزلة الوجودية لتصبح مجرد رموز للكلام على الأشياء وهي غير مقومة لها ومن ثم فهي متغيرة لأنها من ادوات العبارة عن الأشياء وليس من مقوماتها. ولنورد الشاهد حتى لا يدعي علينا أحد أننا نقول الرجل ما لم يقل: \"ولكن المعاني الكلية المطلقة في الذهن كالألفاظ المطلقة والعامة في اللسان وكالخط الدال على تلك الألفاظ: .1فالخط يطابق اللفظ. .2واللفظ يطابق المعنى. ولما كانت المطابقة في الحالتين السابقتين هي مطابقة إحالة الرمز إلى الشيء فينبغي أن نستنتج أن المعنى يطابق الشيء مطابقة الرمز إلى الشيء المشار إليه به لا غير. فكل من الثلاثة يتناول الأعيان الموجودة في الخارج ويشملها ويعمها لا أن في الخارج هذا وهذا فإن هذا لا يقوله من يتصور ما يقول :وإنما يقوله من اشتبهت عليه الأمور الذهنية بالأمور الخارجية أو من قلد بعض من قال ذلك من الغالطين فيه\" (نفسه). لذلك ختم ابن تيمية قوله بأن مطابقة المعاني الكلية للأشياء من جنس مطابقة الكتابة للألفاظ ومطابقة الألفاظ للمعاني .فتكون المعاني الكلية رموزا مثلها مثل ألفاظ اللغة ورسوم الكتابة وهي تحيل إلى الأشياء إحالة الرمز إلى ما يرمز إليه عند مستعمليه. انتقلنا من فلسفة العلاقة بين الابستمولوجي (نظرية المعرفة) والأنطولوجي (نظرية الوجود) القديمة والوسيطة إلى فلسفة العلاقة بين الرمزي والمرموزي في فلسفة لم تتحدد بعد معالمها وهي ما صار يسمى لاحقا وخاصة في نهايات القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين بفلسفة الترميز أو السيميوتكس. أبو يعرب المرزوقي 18 الأسماء والبيان
-- ويمكن أن نسمي السيميوتكس الوسميات في اللسان العربي لأن الرمز هو الوسم الدال مثل وسم الحيوان للدلالة على ملكيته بعلامة يختارها مالكه لتمييز ملكيته عن ملكية غيره وغالبا ما تكون بكي الحيوان في مكان ما من بدنه والعلامة هي من صنع المالك وليست صفة ذاتية للحيوان الموسوم .والكي لا علاقة له بالحيوان ولا بالمالك ولا بالملكية بل هي علامة دالة على علاقة بين ثلاثة أشياء :التواصل في الجماعة حول الملكية وحول علاماتها المسقطة على الأشياء. وسنرى أن هذه العلاقة هي في الحقيقة بين خمسة أشياء: .1أصل لهذه العلاقة بين الرمز والمرموز والرامز وهو نظام التواصل في الجماعة .2نظام الرموز .3نظام الأشياء التي يرمز إليها به. .4علاقة نظام الرموز بنظام الأشياء .5علاقة نظام الرموز بنظام التواصل. فيكون نظام التواصل شبه مرآة ذات سطحين أحدهما ملتف إلى نظام الرموز والثاني إلى نظام الأشياء المرموز إليها .والمحدد الحقيقي هو في هذه الحالة نظام هذه المرآة ذات السطحين التي تتوسط بين النظامين الآخرين توسطا يجعل كلا منهما ذا صلة بنظام المرآة العاكسة. وهو ما يعني أن المعاني الكلية التي كانت تعتبر في الفلسفة القديمة والوسيطة صفات مقومة للشيء أصبحت رموزا من إبداع الجماعة عامة (اللغة الطبيعية) وجماعة العلماء خاصة (اللغة الصناعية) لكأنها المعاني تخترع كما تخترع الرموز لأنها رمز غير مقوم للشيء بل معبر عن هذه العلاقة المخمسة للكلام على الأشياء وتوصيفها خلال البحث عن قوانين علاقاتها وتفاعلاتها .ولما كانت أدوات \"تعبير\" فإنها ليست ثوابت بل هي متغيرة بحسب حاجة مضاعفة .ولهذه العلة فابن تيمية يكثر استعمال كلمة ترجمة سواء في نفس اللغة أو أبو يعرب المرزوقي 19 الأسماء والبيان
-- بين اللغات أو بين اللغات والأشياء خلال التواصل في الجماعة عامة أو في جماعة المختصين في كل اختصاص .ومن هنا نظريته بأن دلالة الألفاظ لا يمكن أن تستمد من غير الاستعمال. ومن ثم كذلك فالمعاني إضافية إما لحاجة التواصل بين المتواصلين أو لحاجة الغاية من البحث العلمي في موضوع التواصل .وتلك هي أبعاد الرمز الثلاثة في رؤية بورس وهي في الحقيقة خمسة كما بينت بمعنى أنها ليست علاقة بين المعنى والشيء بل علاقة بين رمز ومرموز ورامز في جماعة متواصلة به .وحينها يصبح العلم بالأساس لغة من اللغات وليس شيئا آخر. لكن هذه اللغة لا تكون علمية إلا بما تحدثه من تناظر بين نظامها ونظام الموضوع الذي تفترضه أو تقدره هو بدوره تقدير ذهني تحتكم فيه إلى التعامل معه بالتجربة لتحديد ما تعتبره ذا دلالة علمية بحسب مجال العلم مشروطة دائما بكونها مؤقتة لأنها إضافية للنظامين وكلاهما متغير بصورة دائمة .ذلك أن التجربة المتغيرة لا يمكن أن تبقي على معنى المطابقة الوجودية بين المعنى الكلي والشيء إذ يمكن أن يصبح المعنى الكلي الذي عرفناه به لاغيا لمجرد اكتشاف أنه لا يعبر عن شيء حقيقي فيه بل عن تصورنا المؤقت دائما. وتتجلى هذه الخاصية التي تشبه السيلان الأبدي في الرمز والمرموز والجماعة التواصلية بتلك الرموز على تلك المرموزات عندما ننظر في حالة خاصة هي حالة يكون فيها الرمز والمرموز كلاهما من نفس الطبيعة أي كلاهما رمز فيكون أحد الرمزين كلاما على الرمز الثاني بوصفه علمه كما بعد لغة للغة. فالنحو العربي مثلا كلام عربي موضوعه الكلام العربي .وكلاهما رمز أحدهما رامز والثاني مرموز عند نفس الجماعة المتواصلة بهما .فلما أقول زيد ضرب عمروا وأسمي الأول فاعل والأخير مفعول به والأوسط فعل الأول في الثاني فأنا استعمل اللغة العربية للكلام على اللغة العربية بما لا يمثل مقوما من مقوماتها بل وصفا بعلامات اخترها النحاة أبو يعرب المرزوقي 20 الأسماء والبيان
-- وأسقطوها على اللغة العربية متصورين أن فرضياتهم حول مقوماتها مطابقة لمقوماتها وليست مطابقة لنظام ترميز اختاروه للتعبير عن تصوراتهم في تواصلهم حولها. فلا معنى لاعتبار \"كلمة زيد\" فاعل إلا لاستعارة الفعل من الإنسان زيد ونسبتها إلى الكلمة التي ترمز إليه أي اسمه \"زيد\" .ولا معنى لاعتبار \"كلمة عمروا\" مفعولا به إلا بنفس الاستعارة .ولا علاقة لكلمة ضرب بفعل الضرب إلا بنفس الاستعارة .ولا معنى لمقارنة المعنيين والمقابلة بين حقيقي ومجازي لأن زيد حتى على الإنسان زيد مواضعة ولا تعبر عن حقيقته وهي من ثم لا تختلف عما سميناه استعارة :يمكن القول إنهما كلتاهما استعارة. لكن حينها لا معنى لمجاز لا يقابل حقيقة للتضايف بينهم .ولذلك تخلى عنهما ابن تيمية وعوضهما بالاستعمال .وبذلك انتهت خرافة التأويل بالمقابلة بين الحقيقة والمجاز لتوهم المتكلمين والفلاسفة أن العلم يقول الحقيقة وأن ما يخالفه به الدين ينبغي أن يرد اليه التأويل عودة من المجاز إلى الحقيقة. أسقطت \"صفات\" تنسب إلى الاشخاص زيد وعمر وإلى الافعال على الكلمات الثلاثة وكأن الأولى فاعل والأخيرة مفعول به والوسطى فعل مع وهم أن الصفات حقيقة في زيد وعمر والفعل ومجاز في ما بعد اللغة التي سمت الكلمات بهذه الأسماء .وهي كلها معاني ذهنية. ولو لم تكن العربية ثابتة بثبات نص القرآن وبتثبيت العرب لها في الفصحى حتى لا تنفصل عن القرآن لأصبحت كل قواعد النحو خاطئة ولا تعبر عن حقيقة في اللغة العربية التي تكون قد تطورت كما تتطور كل اللغات الحية .وإذن فالمعاني ليست مقومات الأشياء بل هي في الحقيقة مواضعات نثبتها بها لحين ونغيرها عند الحاجة بل إني اجزم أن القرآن نفسه لما نقرأه الآن فإننا لا نفهمه بالعربية التي نزل بها بل بما بقي منها في العربية التي نستعملها حاليا حتى لو لم نكن واعين بهذا التغير الذي هو تغير بطيء ولامتناهي الصغر فلا ننتبه إليه. وهذه الحقيقة تصدق على كل العلوم صدقها على كل اللغات وكل الانظمة الرمزية حتى وإن توهم الكثير أن المعاني الكلية حقائق موضوعية وليست مبدعات إنسانية لقول ما أبو يعرب المرزوقي 21 الأسماء والبيان
-- يدركونه من الأشياء بصورة متطورة بحسب تتطور وسائل الإدراك التي لم تعد الحواس وحدها كما كان ذلك سائدا في الفلسفة القديمة والوسيطة رغم استعمالهم وسائل الرصد الفلكي .ولعل بعض الأمثلة البسيطة كافية في علوم الفلسفة القديمة والوسيطة وكيف تجاوزها العلم ولما ينتهي التطور: .1فالعناصر كانت خمسة فصارت حوالي مائتين. .2والذرة كانت تعتبر بسيطة وآخر جرم من حيث الحجم. .3والعدد المنطق الطبيعي والكسري صار جزءا ضئيلا من العدد والهندسات تعددت إلخ ...من تغير المعاني الكلية. ولذلك ميز ابن تيمية بين نوعين من العلم مختلفين تمام الاختلاف ما يعني أنه كان مدركا لأبعاد ثورته: \"فالعلوم الأولية البديهية العقلية المحضة ليست إلا في المقدرات الذهنية كالعدد والمقدار لا في الأمور الخارجية الموجودة\". فكيف يؤسس ابن تيمية هذه الفصل الحاسم بمعايير ابستمولوجية بينة؟ إليكم الحجة -وهذا غريب-المبنية على أحد شروط المنطق الأرسطي والاستنتاج الدال على الوعي بالثورة: (\" .1مقدمة أولى) فإذا كانت مواد القياس البرهاني لا يدرك بعامتها إلى أمور معينة ليست كلية (وهي (ما يدركه الحس الباطن والظاهر والتواتر والتجربة والحدس). ( .2مقدمة ثانية) (وإذا كان) الذي يدرك الكليات البديهية الأولية إنما يدرك أمورا مقدرة ذهنية لم يكن في مبادئ البرهان ومقدماته المذكورة ما يعلم به قضية كلية عامة للأمور الموجود في الخارج. ( .3مقدمة ثالثة) (وإذا كان) القياس لا يفيد العلم إلا بواسطة قضية كلية (النتيجة) أبو يعرب المرزوقي 22 الأسماء والبيان
-- .4النتيجة :فامتنع حينئذ أن يكون في ما ذكروه من صورة القياس (التحليلات الأوائل) ومادته (التحليلات الأواخر) حصول علم يقيني .وهذا بين لمن تأمله\". ثم يأتي الدليل على الوعي بالثورة \"وهذا بين لمن تأمله وبتحريره وجودة تصوره تنفتح علوم عظيمة ومعارف .وسنبين إن شاء الله من أي وجه وقع عليهم اللبس\" (الرد على المنطقيين). كان واعيا بثورته .وهذا الوعي الحاد بشروط البرهان لم يعه ابن رشد وحتى الجابري لم يعه بعد قرون بين الثاني عشر والعشرين .كان يتوهم أن البرهان ممكنا خارج التقديرات الذهنية أي إما في الرياضيات بأصنافها أو في الفرضي الاستنتاجي إذا طبق في علم من جنس العلوم الطبيعية .وهذا برهان صوري ويختلف عن معناه الأرسطي الذي لا بد فيه من أن تكون المقدرات من الذاتيات الكلية أي من المعاني الكلية المقومة للشيء أو من أعراضه الذاتية .وكلاهما من الميتافيزيقا وليس من المنطق .فمن لم يقبل بهما أو يؤسس على غيرهما لا يمكن أن يسمي البناء عليهما برهانا إلا إذا كان لا يفهم معناه في الأرسطية. فعندما يكون المقدم فرضيا يبقى التالي من جنسه أي حقيقة \"علمية\" مؤقتة لأنه من الشرطية المتصلة التي قد تكذب بكذب ما يترتب عليها أي التالي لأن نقيض التالي يؤدي إلى نقيض المقدم في الشرطية المتصلة وهو يعتبر في العقلانية النقدية امتحان التكذيب شرط العلمية .والبرهان بالمعنى الأرسطي ليس شرطيا بل هو حملي أي إنه لا ينطلق من مقدم فرضي وإلا لكان جدليا بل من \"حقائق\" ذاتية للموضوع .وهو ما ينفيه ابن تيمية. وحجة ابن تيمية هنا عميقة وقليل من يدرك مداها .فالمعلوم أن كل أشكال المنطق الأرسطي استدل عليها أرسطو بردها إلى الشكل الأول أي إلى الكلية الموجبة التي بالرد إليها يتم اثبات بقية الأشكال في المنطق الارسطي .ولا شيء أيسر من اسقاط الكلية الموجبة إذ يكفي استثناء واحد لتسقط .لذلك ابن تيمية يعتبر هذا الشرط مستحيل التحقيق عند الكلام على الخارج أولا لأننا لسنا واثقين من ان الاستقراء تام في موضوع ليس من صنعنا أبو يعرب المرزوقي 23 الأسماء والبيان
-- وثانيا لأن تعويض نقص الاستقراء يقع بالمصادرة على المطلوب :فلا يمكنني أن أقول كل إنسان مائت لأثبت مائتية سقراط لأن قولها يعني أن بعد قد اعتبرت سقراط مائتا وإلا لما أمكن لي أن اسور القضية التي وضعتها مقدمة كبرى بالسور الكلي. فأكون بذلك قد صادرت على المطلوب فيها .لا يمكن أن أقول كل إنسان مائت إذا لم يكن بعد قد سلمت أن سقراط مائت لأنه إنسان .ومن ثم فالنتيجة مسلمة في المقدمة .وبهذا المعنى فالمنطق الأرسطي لا ينطبق على الخارج ما لم نفترض أن الخارج خاضع لقواعد المنطق الأرسطي.. أبو يعرب المرزوقي 24 الأسماء والبيان
-- مشكل ابن تيمية ليس مع المنطق الأرسطي بل مع أمر أعمق وهو الطريقة التي ظنوه بها قابلا لأن يقول الوجود الخارجي أي العلاقة بين نظرية المعرفة ونظرية الوجود التي انبنت على \"واقعية\" المعاني الكلية المشروطة بكون الفكر الإنسان مرآة عاكسة والعقل الإنساني مقياس معرفي للوجود والعدم. وإليك كيف يعبر ابن تيمية عن ذلك بصورة صريحة لا تحتاج إلى التعليق وهو تعبير ينطلق مما صار يعتبر سبة للفكر الديني توهما بأنه ناتج عن الجهل وهو في الحقيقة الدرجة الأعلى من فهم طبيعة المشكل: \"وهذا الكفر المتناقض (ما يؤدي إلى نفي وجود الواجب) وأمثاله هو سبب ما اشتهر بين المسلمين أن المنطق يجر إلى الزندقة .وقد يطعن في هذا من لم يفهم حقيقة المنطق وحقيقة لوازمه ويظن أنه في نفسه لا يستلزم صحة الإسلام ولا فساده ولا ثبوت حق ولا انتفاؤه وإنما هو آلة تعصم مراعاتها عن الخطأ في النظر .وليس الأمر كذلك بل كثير مما ذكروه في المنطق يستلزم السفسطة في العقليات= والقرمطة في السمعيات\" (درء التعارض). وهنا نجد مصدر الحاجة إلى المقدرات الذهنية العملية (الأخلاقيات شرط الآداب نموذجا للتاريخيات) التي وضعتها قياسا على المقدرات الذهنية النظرية (الرياضيات شرط العلوم نموذجا للطبيعيات) أعني جمع ابن تيمية بين السفسطة في العقليات والقرمطة في السمعيات. ولو اقتصر ابن تيمية على القرمطة في السمعيات لاعتبر منطلقا من دوافع دينية دفاعية ولشكك الكثير في فلسفية كلامه .لكنه قدم المجال الذي يدعيه خصومه أعني أنه ينظر إلى المسألة انطلاقا من العقليات نفسها قبل النظر فيها انطلاقا منه السمعيات .وهو بخلاف الغزالي لا يكتفي بمستوى الرد الجدلي بل هو يضع نظرية ثورية بديلة. وهذه النظرية البديلة تقابل النظرية المبدل منها تمام المقابلة .فهذه تقول بنظرية في المعرفة المطابقة لأن المعاني الكلية فيها مقومة للشيء المعلوم .وتلك تنفي المطابقة وتعتبر أبو يعرب المرزوقي 25 الأسماء والبيان
-- المعاني الكلية مجرد رموز لبيان قصد المتكلم بما يختاره من صفات محدودة من صفات لا محدودة: \" وأما سائر الصفات المشتركة (بين الأشياء) فقد لا يمكن الإحاطة بها ولا ريب أنه كلما الإنسان بها أعلم كان بالموصوف أعلم وأنه ما من تصور وفوقه تصور أكمل منه .ونحن لا سبيل إلى أن نعلم شيئا من كل وجه )...( .فلو علمنا لوازم الشيء إلى آخرها لزم أن نعلم كل شيء .وهذا ممتنع على البشر .فإن الله سبحانه وتعالى هو الذي يعلم الأشياء على ما هي عليه من غير احتمال زيادة .وأما نحن فما من شيء نعلمه إلا ويخفى علينا من أموره ولوازمه ما لا نعمله\" (درء التعارض) .ومعنى ذلك -حتى من دون الكلام على الغيب -فإن عالم الشهادة لا يمكن الإحاطة بأي شيء يمكن القول إننا نعلمه على ما هو عليه حقا :وهذا هو البديل في نظرية المعرفة أنه القول بعدم المطابقة بالنسبة إلى علم الإنسان حتى وإن كان ضميره القول بها بالنسبة إلى العلم المحيط وهو مقصور على الله خالق الموجودات وآمرها. ولا يعني هذا الكلام ما قد يخلط بالتمييز الكنطي بين الظاهرات والحقائق في ذاتها. فالعلم الإنساني رغم نسبيته وعدم مطابقته يبقى معبرا بحق عما يناسب المدارك الإنسانية وليس هو مجرد ظاهر (شاين) -وخاصة في دلالته التي يحبذها من يفضل الطبعة الأولى من نقد العقل الخالص مثل صاحب العالم من حيث هو تصور وإرادة-لأن ظهوره للإنسان وإدراك الإنسان له كلاهما وجود فعلي وليس مجرد مظاهر من الوجود دون أن يكون محيطا. لم يعد بالوسع بعد هذه الثورة القول \"علم الشيء على ما هو عليه\" كلما تعلق الامر بعلم الإنسان فلسفيا كان أو دينيا -الرسول لا يعلم الغيب ولا يدعي العلم المحيط لا بالشاهد ولا بالغيب .فهذه العبارة لا تناسب إلا العلم المحيط وهو لله وحده بل القول هو \"علم الشيء على ما ما ندركه بـمداركنا المحدودة\" .وهو إذن اجتهاد مؤقت ودائم المراجعة أبو يعرب المرزوقي 26 الأسماء والبيان
-- والتطور بتطور قدرات مداركنا دون حد معلوم مسبقا في عقيدتنا قبل أن يصبح \"البصر حديدا\". ماذا يمكن الآن اضافته لنظام العلوم الأرسطي -تصنيف العلوم-ليصبح ذا معقولية تجعلنا نفهم ما حصل للانتقال من المعاني التي تظن مقومة للأشياء سواء بالطريقة الأفلاطونية (تقويم مشاركة المتداني في المثال المتعالي) أو بالطريقة الأرسطية (تقويم الصورة المحايثة للأشياء) فتكون المعاني واقعية. وتكون نظرية المعرفة قائلة بالمطابقة بين العلم وموضوعه لأن العقل يعكس \"الواقع\" عكسا مطابقا و\"الواقع\" شفاف لكأن للإنسان شرطي الإحاطة فنقول \"العلم بالشيء على ما هو عليه\" .لكن البديل التيمي ينفي: .1أن يكون العقل مرآة صقيلة عاكسة. .2وأن يكون الواقع شفافا. .3وأن نستطيع ادعاء معرفة الشيء على ما هو عليه. فإذا لم يكن العقل مرآة عاكسة ولم يكن الوجود شفافا للعقل بحيث لا نستطيع أن نقول \"علم الشيء على ما هو عليه\" وكان مع ذلك علمنا ليس علما بظاهر من الوجود بل بحقيقة مناسبة للإنسان وتجهيزه المدرك لما يتجلى منه له في حدود تقدم مداركه التي تتطور بتطور الإدراك وادواته وقدرة العبارة عنه فإن الثورة التيمية ثورة فلسفية أعمق حتى من ثورة كنط الذي تخلى عن القول بنظرية المعرفة المطابقة .ومن نبه إلى أن المعرفة العلمية تبقى معرفة حقيقية بوجود حقيقي وليست \"شاين\" هو ابن خلدون في فصل الكلام من المقدمة عندما شكك في الإحاطة دون التشكيك في العلمية التي لا تشترطها. صار مدار النظرية الجديدة في المعرفة تحديد طبيعة المعاني الكلية التي نعبر بها عما ندركه مما ننسبه إلى الأشياء من صفات وخصائص .كانت في الرؤية القديمة والوسيطة مقومات الشيء الذي ندركه فصارت رموزا مثل الألفاظ اللسانية ومثل الرسوم الكتابية أبو يعرب المرزوقي 27 الأسماء والبيان
-- للعبارة عما ندركه وصارت من صنعنا أو اختيارنا وهي مواضعات ضمنية في اللغات الطبيعية لكنها مواضعات قصدية وصريحة في اللغات الصناعية التي تستعملها الاختصاصات العلمية.. وقد عبر ابن تيمية عن ذلك بالقول إن المعاني الكلية \"تقديرات ذهنية\" أي إنها فعل وليست انفعالا .العقل لا يعكس مقومات موجودة في الشيء خارجه بل هو يقدر معاني يعبر بها عن الشيء الموجود في الخارج تعبيرا يحقق التواصل في الجماعة من خلال التناظر بين ثلاثة أنظمة: • نظام التواصل ذاته في الجماعة • نظام \"إبداع\" الرموز التواصلية فيها • نظام \"اسقاطه\" على \"الوجود الخارجي\" بمقتضى رؤية يحددها نظام التواصل والنظامان الثانيان لكل منهما نظام ابداعي واسقاطي ذو علاقة بالنظام الأول وذلك هو شرط التواصل العمودي بين المتواصلين وأفقي بينهم وبين ما يعاملون معه من الوجود الخارجي بما في ذلك ذواتهم الفردية والجماعية. ومن ثم فالإنسان لا ينفعل بمعنى كلي بل هو يبدعه ويسقطه على المجهول الذي يصبح معلوما بمعنى كلي .وهذا المعنى ليس ثابتا في الشيء بل هو متغير بتغير محاولات الإنسان في الوصول إلى فاعلية اكبر في التعامل التواصلي بهذه المعنيين .وتغيير المعاني الكلية إضافي مرتين في رؤية ابن تيمية: .1إما إلى المخاطب بها بحسب القصد من الخطاب وبالقياس إلى مدى فهم المخاطب وتكونه المعرفي (للتعليم مثلا). .2أو إلى المطلوب في المسألة المعرفية التي يعالجها الفكر ومن ثم فما كان يعتبر أوليات بإطلاق لم يعد إلا المفروضات لعلاج المسألة المطروحة للبحث. والآن ماذا يترتب على مسدس أرسطو في تصنيف العلوم وعن استثناء المنطق منه؟ أي ثلاثي العلوم النظرية-الطبيعيات والرياضيات والإلهيات-وثلاثي العلوم العملية - أبو يعرب المرزوقي 28 الأسماء والبيان
-- الاقتصاديات والأخلاقيات والسياسيات؟ ينبغي أن يصبح التصنيف مسبعا بإضافة شيء يعتبر المنطق أحد عناصره وهو فاعلية التقدير الذهني أو \"ابداع المعاني الكلية الرامزة\" رمزا لا يختلف الرمز في الكتابة واللغة. وابداع المعاني الكلية الرامزة منها الألسن الطبيعية ومنها الكتابة وعليهما قاس ابن تيمية المعاني الكلية التي هي تقدير ذهني وهي اللسان العلمي الصناعي لقول الاشياء تعريفا ووصفا دون أن تكون تلك المعاني مقومات ثابتة للأشياء لأنها متغيرة بتغير إدراكها إذ كل تصور وراءه تصور أفضل وأدق .وحتى يفهم القارئ قصد ابن تيمية بـ\"التصور\" لا بد ألا يفهمه بالمعنى العامي بل بالمعنى الاصطلاحي في عصره مع عدم إعطائه مدى وجوديا وحصره في الوظيفة الرمزية .فالتصور يفيد أمرين: .1المعاني الكلية التي يعرف بها شيء من الأشياء وهو مفهومه. .2والأشياء التي يشار إليها بتلك المعاني إشارة تعريف جامع مانع وهي ما صدقه. وهنا الجدة .فالمفهوم لا يشير إلى مقومات الأشياء التي تتألف منها العناصر التي تنتمي للمجموعة الممثلة للماصدق بل هو يشير إلى المعاني الكلية المقدرة ذهنيا بوصفها رامزة إلى عناصر هذه \"المجموعة الماصدق\" كما ترمز الأسماء في اللسان الطبيعي لما تسميه .ومن هنا تصبح الفكرة المضمرة في كلام ابن تيمية هي ما يشير إليه القرآن في تميز آدم من القدرة على التسمية. فإذا حافظنا على مسدس أرسطو في تصنيف العلوم ووضعنا على قمته هذا البعد الجديد بعد القدرة على التسمية أو \"إبداع\" المعاني الكلية التي هي مقدرات ذهنية للعبارة التي تتألف منها هذه العلوم وحافظنا على التناظر بين الثالوثين النظري والعملي حصلت لنا معادلة عجيبة كان يمكن أن تعتبر ثورة حقا لو فهم البديل .ذلك أن المعاني الكلية التي هي مقدرات ذهنية تصبح سبعة أنواع: .1جنس هو أصل الأنواع الستة التي تتفرع عنه. .2ثلاثة أنواع في النظر هي الطبيعيات والرياضيات والإلهيات. أبو يعرب المرزوقي 29 الأسماء والبيان
-- .3ثلاثة أنواع في العمل هي الاقتصاديات والاخلاقيات والسياسيات. ففي النظر نجد المعاني الكلية في الإلهيات والرياضيات والطبيعيات وفي العمل نجد المعاني الكلية في السياسيات والأخلاقيات والاقتصاديات والأصل سيبين التناظر بينها ثم بين كل واحد منها وما يقابله بنفس الترتيب في الثلاثتين النظرية والعلمية .وهي رموز لقول متطور لما ندركه من الأشياء. وهذا المسبع عجيب وغريب رغم أنه لم يستعمل بل ولم يتكشف إذ حتى ابن تيمية لم يشر إليه ولم يستعمله .فلو اعتبرنا الإلهيات كما كان يراها أرسطو تأسيسا لنظرية العلم (ومبادئ العقل أو منطق النظر) ولنظرية الطبيعة (مقوماتها الكلية) لكانت السياسة تأسيسا لنظرية العمل (مبادئ الإرادة أو منطق العمل) ولنظرية التاريخ (مقوماته الكلية). وهذا التأسيس في العلم الرئيس أو الأرشيتاكتونك بينه أرسطو بخصوص النظر لكنه لم يبينه بخصوص العمل لكنه كان ضمنيا لعدم التمييز الصريح بين الضرورة الشرطية في الاول والحرية الشرطية في الثاني ومن ثم اعتقاد منطق النظر صالح في منطق العمل لكنه ليس صالحا .فمبادئ الإرادة غير مبادئ العقل. أبو يعرب المرزوقي 30 الأسماء والبيان
-- وقد عكس ابن تيمية نظريات أرسطو كلها بعكسه نظرية المعرفة والقيمة من المطابقة إلى اللامطابقة لأنه يميز بين: .1علم الله المحيط الذي يمكن أن يكون مطابقا للموضوع (وهذا عقد إذ لا دليل لنا عنه وهو أصل كل إيمان بالـديني من حيث هو ديني سواء كان طبيعيا عفويا أو عقليا أو منزلا يستدل بالخوار أو منزلا لا يستدل إلا بالنظامين الطبيعي والخلقي وتفاعلهما في الإنسان). .2وعلم الإنسان غير المحيط الذي لا يمكن أن يكون مطابقا معرفيا وقيما للأشياء ودليله هو اكتشاف أخطاء علومنا وتجاوزها والشعور الدائم كما قال ابن تيمية بأن كل تصور يمكن أن يكون وراءه تصور أدق وأكمل إلى غاية ممتنعة علينا هي الإحاطة ومعناها أن لوازم كل لوازم أي شيء هي كل الوجود. والأهم من ذلك هو أن الرؤية التيمية يترتب عليها أن العلاقة بين العقل والإرادة مقابلة تماما للرؤية المشائية خاصة والفلسفة القديمة عامة .فأرسطو تردد في تحديد العلم الرئيس بين الميتافيزيقا والسياسة وفضل في الأخير تلك على هذه بمعنى أنه اعتبر الإرادة تابعة للعقل تبعية السياسيات للإلهيات والاخلاقيات للرياضيات والاقتصاديات للطبيعيات .وظل ذلك كذلك إلى ثورة ابن تيمية. العكس عند ابن تيمية يعني أنه يرى أن العلم الإلهي ليس عمل عقل بالمعنى اليوناني بل هو عمل إرادة قادرة على كل شيء فلا يكون الخلق مضطرا بل هو حر حتى لو سلمنا بأن ما نعلمه منه مطابق له ومن ثم فهو ليس واجبا بل يبقى ممكنا حتى وهو موجود لأن الحصول لا يفيد الوجوب. .1فتكون الإلهيات سياسيات إلهية. .2والرياضيات أخلاقيات إلهية. .3والطبيعيات اقتصاديات إلهية. أبو يعرب المرزوقي 31 الأسماء والبيان
-- وذلك لأن كل شيء هو آيات إلهية أو رموز مبدعة لها من جنس كن .ولذلك فهي تسمى في القرآن كلمات إلهية .وعلى منوالها الرؤى الإنسانية دون أن تكون محيطة مثلها وذلك في الإلهيات وفي الرياضيات وفي الطبيعيات وفي السياسيات وفي الاخلاقيات وفي الاقتصاديات .ونحن لا نعلمها إلا بالتقدير الذهني الذي يقصده ابن تيمية فنفترض تقديرا ذهنيا لعلم تلك بالذي أضفته لاستكمال التيمية المحدثة. وطبعا فنحن في ذلك لا نغفل الفارق الكيفي-من يغفله يسميه ابن خلدون متالها -بين إرادتنا وإرادة الله وبين علمنا وعلم الله وبين قدرتنا وقدرة الله وبين حياتنا وحياة الله وبين وجودنا ووجود الله. لكن هذا الإدراك يجعل ما ننسبه إلى أنفسنا وإن لم يكن من جنس ما ننسبه إلى الله فهو مع ذلك يعمل على منواله مع خضوعه لشرطين يميزان أفعال الله عن افعال المخلوقات كلها .فأفعال الله فوق الضرورة الشرطية في الخلق وفوق الحرية الشرطية في الأمر :هو فعال لما يريد وكل ما يريده يفعله على النحو الذي يفعله به دون خضوع لأي شرط .لكن كل المخلوقات أفعالها مشروطة .فالطبيعة خاضعة للضرورة الشرطية والتاريخ للحرية الشرطية والإنسان لهما معا ولتفاعلهما مع التسلمي بما ورائها من الفاعلية اللامشروط للخالق والآمر .وذلك هو الديني في كل دين .وهو معنى الإسلام أي التسليم لإرادة الله. وطبعا يمكن ألا يسلم الإنسان بذلك .وهو جوهر الإلحاد الذي لو كان صاحبه صادقا لاعتبر كل ما يوجد وليد الصدف ليس في الحاصل فحسب بل في ما يمكن أن يحصل في المستقبل ولاستحال عليه أن يخطط لأفعاله المقبلة .ومن يتوقف عن فهم الموجود وتوقع المنشود وجوده ممتنع بل هو العدم الذي يؤدي إما إلى العدمية الروحية أي الحياة الفاقدة لكل مشروع أو الحياة العضوية التي لا بد أن تكون الانتحار. وبذلك تتحدد المنزلة الوجودية التي تسمى خلافة الإنسان من حيث هو إنسان .فهي إرادة وعلم وقدرة وحياة ووجود يتميز بها الإنسان ويتميز بكونه يدرك أن فوق إرادته وعلمه وقدرته وحياته ووجوده إرادة وقدرة وعلم وحياة ووجود يتميز بها الله .والإنسان أبو يعرب المرزوقي 32 الأسماء والبيان
-- يدرك شيئا آخر هو بيت القصيد :صفاتنا هذه سلطان لنا على العالمين الطبيعي والتاريخي قابل لأن يكون بمقتضى ما نستطيع إدراكه مما نعتبره سلطانا علينا أو بما يخالفه .وما يخالفه هو ما يدعي صاحبه أن إرادته وعلمه وقدرته وحياته ووجوده مطلقة فيتأله بالمعنى الخلدوني للكلمة عندما يطبقه على: .1الحاكم المستبد الذي يريد التفرد بالمجد والسلطة السياسية. .2العالم الذي يدعي ملك الحقيقة والتفرد بالسطلة العلمية. .3الداهية الذي يدعي قدرة مطلقة على الرأي في السياسة .4الشاعر الذي يعتقد أنه فريد نوعه في الإبداع الشعري. .5وأخيرا المتصوف الذي يزعم الكشف وعلم الغيب والتصرف في الأكوان. لكن الإنسان أعطي سلطانا على العالم بالتكليف بالاستعمار (تعمير الأرض) والاستخلاف (بقيم الاستخلاف) وهو سلطان على الطبيعة (التعمير لسد حاجات الإنسان العضوية) وسلطان على التاريخ (التربية والحكم لتنظيم الحياة) يجعلنا حائزين على أداتين هما الرياضيات للتعمير والأخلاقيات للاستخلاف .والطبيعيات والاقتصاديات تابعتان لهما. وأحمد الله أن التسلسل المنطقي للعلاج أوصلنا إلى لب الإشكالية :دور الرياضيات في النظر وموضوعاته يناظره دور الأخلاقيات في العمل وموضوعاته .فتكون نسبة الاخلاقيات إلى السياسة فوقها والاقتصاد تحتها هي عين نسبة الرياضيات إلى ما بعد الطبيعة فوقها والطبيعة تحتها .وحينئذ نفهم علة ما ينبغي أن يكون عليه الترتيب التيمي لو ذهب ابن تيمية إلى غاية فكره أي أن يكون بعكس الترتيب الأرسطي :تقديم الغاية على الوسيلة يقتضي عند الإنسان أن يعكس العلاقة بين العلم والإرادة عند الله وعند الإنسان .وهما متطابقان عند الله لكونه قادرا على كل شيء ولكون علمه محيطا .لكن الإنسان لو انتظر العلم التام ليعمل لامتنع عليه أن يعمل لأنه لا يوجد علم إنساني تام والعلم يحصل بفضل العمل كنشاط قدرة الإنسان سواء كان على الرموز وهو جوهر النظر أو علة ما ترمز إليه وهو جوهر العمل بالمعنى المتعارف من حيث هو تطبيق للنظر. أبو يعرب المرزوقي 33 الأسماء والبيان
-- وهذا يصح على الله صحته على الإنسان .فالله يخلق ويأمر أو يقضي ويقدر وكلاهما بمعنى كلي لغوي هو \"كن\" رامز لفعل وليس لانفعال .وقياسا عليه دون تأليه الإنسان كل شيء يقع بنفس النحو :الإنسان يريد شيئا ثم يفكر في شروط تحقيقه .وهذه المراحل واحدة عند الله بخلاف ما هي عليه عند الإنسان إذ هو على كل شيء قدير. فيكون التقدير الذهني الرياضي خلقا إنسانـيا لعوالم مجردة يمكن اعتبارها شروط الوجود المادي أو للضرورة الشرطية أيا كانت .ويكون التقدير الذهني الذي أضفته لنظرية ابن تيمية قياسا على مفهوم التقدير الذهني الأول أمرا انسانيا لقيم مجردة يمكن اعتبارها شروط الوجود الروحي أو للحرية الشرطية أيا كانت .وهي قدرة نسبية للخلق والأمر عند المستخلف .وبهذا المعنى فالنفخ من روح الله هو تجهيز الإنسان بهذين القدرتين اللتين تعودان إلى إبداع المعاني الكلية بالتقدير الذهني أدوات رمزية للنظر والعقد في العبارة عن الطبائع والضرورة الشرطية وللعمل والشرع في العبارة على الشرائع والحرية الشرطية :وذلك هو سر كونه مستعمرا في الأرض ومستخلفا فيها ولما كانت علة خلقه هي عبادة ربه فتعمير الأرض بقيم الاستخلاف هو العبادة .وذلك ما خفي على علماء الإسلام الذين عكسوا ما أمرهم به القرآن :تركوا ما أمرت به فصلت 53فصار وكأنه نهي وجعلوا نهي آل عمران 7أمرا فلم يتبعوا إلى عكسه بتوهم الرسوخ في العلم قدرة على جعل تأويلهم للمتشابه قابلا للعطف على تأويل الله وهو التأله الذي قصده ابن خلدون. وهذا الفهم هو الذي يبرر ما جعلني اعتبر نظرية ابن تيمية في المعاني الكلية النظرية بوصفها مقدرات ذهنية رامزة مثلها مثل اللغة والكتابة في مجال النظر والعقد دون أن تكون مقومة لموضوعات العلم النظري بحاجة إلى رديف هو المعاني الكلية العملية بوصفها مقدرات ذهنية رامزة في مجال العمل والشرع دون أن تكون مقومة. ذلك أنه لولا هذه الإضافة لاستحال أولا أن ندرك مدى ثورة ابن تيمية الفلسفية في النظر والعقد وأعماقها التي تصلها بثورة ابن خلدون الفلسفية في العمل والشرع وقابليتها أبو يعرب المرزوقي 34 الأسماء والبيان
-- لاستكمال منظومة العلوم القديمة بعلم رئيس أعلى منها جميعا والتحرر من نظرية المطابقة في المعرفة وفي القيمة. فكان مشروع ابن تيمية في إصلاح المجتمع والتربية بثورة في نظرية المعرفة وكان مشروع ابن خلدون إصلاح الدولة والحكم بثورة في نظرية القيمة .ومسعاي لاستكمال عملهما بالتيمية المحدثة والخلدونية المحدثة غايته استخراج هذه الضمنيات التي لم تصغ في منظومة نظرية ولم تغير الرؤى في فلسفة الدين وفلسفة التاريخ الرؤية التي هي جوهر ثورة الرجلين. ولهذه العلة وصلت دائما في بحوثي المتعلقة بمشروع ا لتيمية والخلدونية المحدثتين بين الرجلين والثورتين رغم علمي بأن ابن خلدون لم يستعمل فكر ابن تيمية بل لعله يجهل كتاباته كلها رغم أن ذلك مستبعد جدا لأن كلا الرجلين عاشا في مصر مدة معتبرة ولأن ابن خلدون زار الشام ولا يمكن الا يكون سمع بالرجل وأعماله .أما اتصال ابن تيمية بفكر المغاربية فبين. فهو الوحيد على حد علمي من المشرق في ذلك العصر كان مطلعا تام الاطلاع على أعمال ابن رشد اذ استعمل بعضها وعلق بخط يده على بعضها ولعله كتب الرد على المنطقيين بسبب لقائه مع بعض تلامذة ابن رشد لأنه كتبه بمناسبة نقاش دار في الإسكندرية مع معجبين بأرسطو وهو تعريف وصفي للرشديين. وما يحيرني حقا هو النتيجة المعكوسة .فرغم أن ثورة ابن خلدون على المشائية لم تكن بوضوح ثروة ابن تيمية إلا أنه هو الذي تجاوز الفلسفة العملية اليونانية بإنجاز فعلي يتعلق بالبديل في حين أن ابن تيمية الذي كانت قطيعته مع المشائية صريحة لم ينجز شيئا يذكر من البديل المترتب على ثورته. ومعنى ذلك أن صاحب الحسم الصريح والصارم في القطع مع الفلسفة النظرية المشائية لم ينتج عملا بديلا مؤسسا على قطيعته العميقة والتي وضعت أسس نظرية في المعرفة أبو يعرب المرزوقي 35 الأسماء والبيان
-- مطلقة الجدة والثورية في حين أن من كان حسمه لينا مع المشائية أنجز بديلا لما كتب المقدمة .كنت أنتظر عملا بوزن المقدمة في النظر. ومع ذلك فما زلت مقتنعا أن ثورة أبن تيمية في فلسفة النظر والعقد اهم وأبعد غورا من ثورة ابن خلدون في فلسفة العمل والشرع ليس لأن النظر والعقد مقدمان على العمل والشرع فلسفيا لأن كلا منهما يتضمن الغاية والوسيلة وغاية الأول أهم من غاية الثاني وهو من عجائب هذه العلاقة. فالنظر والعقد مؤلف من النظر أداة والعقد غاية في المعرفة الفلسفة والدينية في آن: فنحن ننظر لنصل إلى حقيقة نعتقد أنها حقيقة سواء كان النظر فلسفيا أو دينيا فيكون النظر أداة والعقد غاية في الحالتين .والعمل والشرع كذلك العمل أداة والشرع غاية لأن العمل من دون قانون نفي للغاية الخلقية. لكن العمل هو الغاية والنظر هو الأداة إذا قارنهما من دون رديفيهما أي العقد والشرع. وكذلك العقد هو الغاية والشرع هو الأداة إذا قارناهما من دون رديفيهما .وهذا التمازج بين الزوجين النظر والعقد والعمل والشرع هو لب الإشكال في الثورة الفلسفية التي جمعت بين الرجلين من دون تواصل بينهما .وأختم بملاحظات سريعة حول الوضع الراهن: .1هل كلام مثل الذي أعرضه هنا يمكن أن يفهم أولا ويمكن أن يؤثر ثانيا إذا كان الفكر في المدرستين التقليدية أي ا لمدرسة التي تدعي التأصيل والعصرية أو المدرسة التي تدعي التحديث والتقدمية لا يتجاوز الإيديولوجيا والنفع المباشر؟ .2أليس هؤلاء تحكمهم السوق الثقافية بقانون \"طلب\" العرض والطلب فأكون كمن يحكم على نفسه بأن ينتج ما لا نفاق له في هذه السوق؟ والمعلوم أن هذه السوق العربية الحالية من خوارق العادات .فالمدرسة التأصيلية أو التقليدية كانت تهتم بابن تيمية مالت إلى بديل العلمنة بتوريد الراقصات وليس بالفكر الحديث ومن ثم فهي تستثني الفكر وليس فكر ابن تيمية وحده .والمدرسة التحديثية كانت تهمتم بابن خلدون لكنها تبحث فيه عما تعتبره أبو يعرب المرزوقي 36 الأسماء والبيان
-- نموذج الفكر في ما يشبهه فكره في الغرب ثم صارت تلهث وراء الموضات بأسلوب ما بعد الحداثة يستثني ما بحثنا فيه. ولو كان الاستثناءان مبنيين على دراية بما قدمه الرجلان لما أشرت إلى الأمر .وما يحيرني حقا ليس سوق التقليديين لأن هؤلاء بمقتضى التكوين والتقاليد لا ينتظر منه خيرا في أي مجال علمي نظريا كان أو عمليا بل سوق الحداثيين الذين يزعمون تمثيل الريادة الفكرية .فهم مثل القدامى من حيث التوجه ودونهم من حيث الامكانات الفكرية على الأقل إلى حد الآن وخاصة بعد تبنيهم نكوص المدرسة الهيجلية الماركسية إلى القول بما يشبه ما كانت تقول به المدرسة الافلاطونية والأرسطية :وهم التطابق بين العقل والواقع. ولذلك لا تعجب إذا رأيت ميلهم إلى تفضيل الفكر المشائي وخاصة ابن رشد وإلى المعتزلة وخاصة في وهم العقلانية والحرية .وكل ذلك دليل على تقديم الإيديولوجيا على العلم لأن نكوص هيجل إلى القول بالمطابقة أو الوهم بأن \"الواقع\" عقلي \"والعقل\" واقعي من الأفكار الساذجة التي تصل بين العصرين. وقد كنت دائما أعجب من كلام الجابري رحمه الله على الفكر البرهاني عند ابن رشد في مجال البرهان فيه مستحيل من دون التسليم بأساسه في الرؤية الأرسطية أعني على الأقل أمرين لم يعد أحد يقول بهما في الفلسفة حتى هيجل وماركس :ثبات الهويات والمقومات الذاتية للأشياء التي تؤخذ منها المقدمات. فالبرهان يعني أن المقدمات تنطلق من المقومات الذاتية للأشياء وخاصة من الماهية المؤلفة من الجنس والفرق النوعي (بالمعنى الهيلومورفي الأرسطي في علاقة الصورة بالمادة) لإثبات الأعراض الذاتية .ولا يوجد علم يتكلم على هذه الأشياء بل المقدمات فرضية والنتائج مثلها حتى لو أيدتها التجربة. لكني لا أهتم بالسوق الثقافية كثيرا فلست تاجرا يبيع بضاعة .إنما أنا باحث عن الحقيقة وهدفي إنصاف الرجل رغم كون الانشغال به كان تهمة منذ أن بدأت -سنة - 1979وازدادت أبو يعرب المرزوقي 37 الأسماء والبيان
-- التهمة لما وسم الرجل بكونه قائد \"الإرهابيين\" الروحي والفكري وخاصة بعد أن صار حكام العرب جلهم من الحمقى يحاربون مراجعهم. أبو يعرب المرزوقي 38 الأسماء والبيان
-- أبو يعرب المرزوقي 39 الأسماء والبيان
Search
Read the Text Version
- 1 - 42
Pages: