مــاهي؟
ماهي؟
توصلنا في السلسة السابقة ،التي عالجنا فيها الكاريكاتورين التأصيلي والتحديثي ،إلىنتيجتين يعسر أن يصدقها من تربوا في المناخ الذي حدده صراعهما ،وقد ييسر على كلاالكاريكاتورين اتهام المحاولات ،التي من هذا الجنس ،إلى ضديده ،إذ بينا أنه نديده فيجمود سلفي يبني المستقبل بإعادة الماضي ،فصاحب الكاريكاتور الحداثي ينسبها إلىكاريكاتور التأصيل ،كأن يعتبرها من جنس اسلامية المعرفة ،أو الأعجاز العلمي ،والثاني، إلى علمنة للإسلام متنكرة.لكن الثابت ،ألا أحد من الصفين الكاريكاتوريين يراجع نفسه فيعود إلى القرآن ويسائله بصدق ،ليرى كيف يعرف نفسه والإسلام ،لأنه نص ذاتي الانعكاس.وذاتية الانعكاس يعرف بها القرآن ذاته ودوره ،بوصفه استراتيجية مضاعفة بأسلوبين متكاملين :نقدية لمسار التجربة الروحية ،وبنائية للبديل الخاتم.وهو ميتاتشريع ولا يشرع للنوازل ،إلا على سبيل التمثيل لتشريع التشريع ،وأنه ميتامعرفة ولا يعرف الأشياء إلا على سبيل التمثيل لمعرفة المعرفة.وقد استنتجنا من ذلك أنه الديني في كل دين ،لأنه يحدد الواحد في الأديان بوصفها مسارالتجربة الروحية للإنسانية ،وهذا الديني هو الأخلاق والقانون ،أي مقومي الغايات التييهدف إليها الاستعمار في الارض والاستخلاف فيها ،بوصفهما مهمتي الإنسان في الدنيا استعدادا لما وراءها أو الحياة الأبدية.كما أنه يحدد مقومي الأدوات التي تحقق تلك الغايات ،أي النظر والعمل الممكنين من الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف ،وذلك هو الفلسفي في الفلسفة.فالفلسفي في كل فلسفة هو معيار العقلي المدرك لحدوده ثمرة للديني في كل دين ،الذي هو معيار الروحي المدرك لحدوده :والمعادلة الوجودية هي وحدتهما. 61
وبالمصطلح القرآني ،فهذان المفهومان ،الديني في كل دين والفلسفي في كل فلسفة ،يتحدان في مفهوم الاجتهاد والجهاد اللذين هما روحيان وعقليان في آن.ذلك أن كيان الإنسان مؤلف من هذين البعدين :مستعمر في الأرض ،مكرم بالحرية الروحية ،ومستخلف فيها مكرم بالحرية السياسية :الرشد الروحي والعقلي.وبالوصل المنطقي بين هذه العناصر ،نجد مقومات المعادلة الوجودية :قطبان الله والإنسان، وبينهما الطبيعة والتاريخ ،والوصل هو اجتهاد الإنسان وجهاده.والاجتهاد والجهاد بالنظر والعمل في الطبيعة والتاريخ ،تلق للآيات فيهما بوصفهما آيات الآفاق والأنفس تحيل إلى ما ورائهما صلة مباشرة بين القطبين.والعلاقة بين القطبين هي حضور الغيب في الشهادة ،حضورا في الوجدان والوجود لا يقال، لكنه مصدر الإبداع الجمالي والجلالي والنظري والعملي :الحضارة.والحضارة بهذا المعنى ،هي التعمير الذي يمكن أن يكون بقيم الاستخلاف ،فيكون مطابقا لحقيقة الإنسان وفطرته ،ويمكن ألا يكون بها فيؤدي إلى هلاكه.وإذا كانت الحضارة قابلة لأن تكون استعمارا في الأرض دون استخلاف ،فإنها لا يمكن أن تكون استخلافا دون استعمار في الأرض ،وكلاهما علة الانحطاط. وبهذا المعنى ،فالعولمة تشمل انحطاطين :انحطاط المستع ِمر وانحطاط المستع َمر. -الاستخلاف دون شرطه الإنساني -الاستعمار دون غايته الإنسانيةالعولمة ليست وحدة الإنسانية الحرة ،بل هي المضطرة بقانون التاريخ الطبيعي ،أعني المقابل تمام المقابلة ،لوحدتها الحرة بقانون القانون القرآني.والوحدة بالقانون الطبيعي ،ليست خالية من الاخلاق ،بل يغلب عليها أخلاق سلطان الطبيعي من الإنسان ،وقد انفصل منه ما نتج عنه الرد إلى أسفل سافلين.لكنه لا يخلو ممن يحاول الخروج منه لوعي بالتقويم الأحسن ،لأن الإنسانية مهما تردت، لا تصبح بإطلاق خاضعة للقانون الطبيعي :فطرة التعديل الذاتي. 62
ذلك أن الوعي الإنساني ،كما أسلفت ،بنيته هي عين المعادلة الوجودية :حتى وإن ذهل الإنسان عن قطبيها ،فغرق في وسيطيها الطبيعة والتاريخ ،شأن العولمة.وثورة المسلمين ،التي هي بداية الاستئناف ،والتي تمثل حاليا الصمود الحقيقي أمام هذا الذهول ،يمكنها أن تكون جرس إنذار وأفقا جديدا لعودة الوعي.لذلك اعتبرت الإسلام فرصة الإنسانية لإخراجها من مآزق العولمة ،دون أن يكون في صراع مع قيم الحداثة ،بل هو سيحررها من انحطاطها الاستعماري.وإذا كان للإسلام مشكلة في هذا الدور ،الذي يرى الجميع أن التاريخ الحالي يفرضه على الإنسانية ،على الأقل أحد الحلول الممكنة فهي حال المسلمين.وهذه المشكلة التي هي حال المسلمين ،هي سيطرة نوعي الكاريكاتور اللذين خصصت لهماعدة محاولات .وللكاريكاتور وجهان يحددان معركة التحديث والتأصيل ،لكني أريد أنأكون منصفا لهما كليهما :فلا يمكن أن تكون المعركة صدفة ،بل لا بد أن تكون ضرورية في وضعيات تلي الانحطاط ،فتطبع بدايات الاستئناف.فليس من اليسير أن يكون الاستئناف مباشرة بالإبداع ،وهو لمجرد كونه استئنافا ،فيه شيء من العودة إلى ماض ما يزال حيا ينبض ،وهو الدافع إلى الاستئناف.والأعجب من ذلك أنه ،حتى في حالة النشأة التي لم يسبقها ماض يدفع لها ،يكون أصحابهافي حالة مماثلة ،لأنهم يبدعون ماضيا أسطوريا يؤدي هذه الوظيفة ،أو قد يستعيرونهبإبداع نسب ليس لهم ،حتى يوجدوا هذا الماضي الذي يبررون به جدارتهم بمشروعهم، إذ هو كان ممكنا للأجداد ،ومن ثم فهو ممكن للأحفاد.وغالبا ما يكون بالمقابل مع الجماعة التي ينافسونها ،حتى يتحرروا من هيمنتها الفعلية: ولنا مثالان غربيان ،أحدهما أبدع اسطورة ،والثاني استعارها.فاليونان-أفلاطون خاصة-أبدعوا اسطورة حضارة يونانية متقدمة على المصرية والبابلية ليتحرروا من حقيقة ،هي أنهم كانوا يحاكونهما في بناء حضارتهم.والأوروبيون استعاروا حضارة من الشرق ،كذلك حتى يتحرروا من الحضارة الشرقية التي كانوا متأثرين بها فعليا ،ويريدون التحرر من أثرها بالعارية. 63
والعارية التي احتمى بها الأوروبيون في القرون الوسطى ،إزاء هيمنة الحضارة الإسلامية، مضاعفة :فهم ادعوا أن حضارتهم يونانية ويهودية ومسيحية.أعني الحضارة الفلسفية العلمية ،والحضارة الدينية الروحية ،وكلتاهما شرقيتان أو على الأقل ذاتا أصل شرقي ،فأرسطو مثلا لا يعتبر اليونان أوروبيين.أما اليهودية والمسيحية فلا حاجة لشاهد على شرقيتهما .ثم إن من سيطر على ما يسمى أوروبا ،بعد سقوط روما ،هم أهماج الجرمان من شمال الشمال.والاعتداد بالأوننة والتهود والتنصر والعرقية ،ليس لها من دلالة إلا دلالة عقد النقص الحضاري ،الذي يجعل الشعوب تبدع أو تستعير ماضيا ليس لها. وفي مقابل ذلك ،كيف أصل القرآن الإسلام والمسلمين؟والتأصيل القرآني تأصيل حقيقي ،وليس كاريكاتوريا بإبداع اسطورة ،أو باستعارة أصل ليس له ليؤسس عرقية ،بل هو بالعكس يتحرر من العرقيات والمذهبيات.واحد الشعوب وواحد الأديان هو الإنسان .وبنية وعيه هي عين المعادلة الوجودية ،التي بها يتحدد الوجود الإنسان بنسبيه :الدنيوي والمتعالي عليه.وبهذا المعنى فواحد الإنسان ،ككائن حي ذي وجدان هو روحه ،وككائن منعكس على نفسه هو عقله ،لذلك كان القرآن في آن الروحي دينيا والعقلي فلسفيا. لغز ألغاز الإسلام وسر أسراره ،هو ما سميته فرادة القرآن ،فلا نظير له. ما زلت أتساءل :هل هو متن ديني أم متن فلسفي؟ ما جنسه (بمعنى الجنس الأدبي)؟لذلك فهذه مقدمة لمحاولة موضوعها ما القرآن .وسأختمها بدحض خرافة القرآنيين. فعندما أتكلم على القرآن ،لا أقصي الحديث فهو إما تعليمه ،أو تطبيقه.وبهذا المعنى ،فالحديث جزء لا يتجزأ من المدونة الإسلامية ،التي أصلها القرآن وتعليمها أو تطبيقها الحديث والسنة الفعلية .ولا أحتاج لغيرهما معيارا. 64
ذلك أني اميز بين الحديث والسنة ،اللذين يعيران بأصلهما ،وبين مواقف المتعلمين منهم في حجاجهم خلال جدلهم المذهبي في العقائد أو في الشرائع.فإذا حصل وضع في الحديث أو في السنن الفعلية ،فهذا مصدرها ،وهو جنيس استشهاد الطلبة بآراء الشراح ،ولو بالكذب عليهم بدل المرجع بمعيار المصدر.والحجة التي ينبغي أن تسكت كل القرآنيين ،واغلبهم سخفاء :رفض الحديث بحجة تنزيه القرآن مما يعيبونه على الشريعة ،يقتضي رفض نصف القرآن :المدني.ودعوى تنزيه القرآن من الشريعة لمعارضتها ما يعتبرونه حداثة تشريعية ،فيه جهل بالتشريع عامة ،وبتشريع التشريع خاصة ،مما لا يغنيني عن الرد.قد لا يستسيغ الكثر عبارة \"الجنس الأدبي\" مطبقة على القرآن .لكن المفهوم يستعمل على كل نص ،ولو سلبا ،باستثناء القرآن من النثر والشعر (طه حسين).والقصد ب\"الجنس الأدبي\" في هذه الحالة ،لا يقتصر على الأسلوب ،وإلا لكان القول إن القرآن فيه شيء من الأسلوبين المعتادين في الإبداع العربي.لكنه كذلك لا يعني نسبة النص إلى مبدع إنساني محدد ،إذ يمكن أن نتكلم على نصوص ليس لها مبدع معين ننسبه إليه ،ككل الآداب الشعبية والأساطير.والمهم أن مفهوم الجنس لا يستثني النصوص التي نجهل مصدرها ،أو ينسبها المؤمنون إلى الوحي ،وهذا يكفينا حاليا لأننا لا نريد أن نفرض إيماننا على أحد.ذلك أني سأتعامل مع القرآن كنص ،واضعا بين قوسين مسألة الإيمان أو عدم الإيمان بمصدره الإلهي :هدفي أن أحدد قصد القرآن بوصف نفسه بانه معجز.وأذكر مرة أني سمعت أستاذ النقد الأدبي ،في حديث يدور بينه وبين بعض طلبته حولرأي القاضي عبد الجبار في الإعجاز ،بنبرة ساخرة من مفهوم الأعجاز ،وقد ادعى أنالإعجاز ،إن سلمنا بوجوده ،لا يعلم ،وإن علم لم يبق اعجازا .تبدو الحجة منطقية .لكنها لا تصح حتى في الإبداع الإنساني :فمن شروطه الفرادة.ذلك أنه لا يتكرر ،وكل تكرار لا يكون إبداعا ،بل نسخة من إبداع ،ومن ثم ،فسواء آمنا بمصدر الوحي أو لم نؤمن ،فإن المطلوب هو بيان الفرادة المطلقة. 65
وبصورة أكثر دقة ،فإن خرافة المعري بأن نصوصه لو عملت قرونا مثل القرآن لكانت مثله، سخافة ،فهبنا سلمنا بإمكان المماثلة ،فهي شبه النسخة بالأصل. فكل إبداع-حتى النظريات العلمية -يكون فريد نوعه ولا يمكن أن يتكرر. إذا اكتشفنا لاحقا سبقا منسيا ،فإن فرادة اللاحق تجعلها ليست نسخة من السابق.ولا نعلم أصلا سابقا عن القرآن يعتبر القرآن نسخة منه ،ولا أعتقد أنه يمكن أن توجد نسخة يمكن أن تصل مماثلتها إلى حد عدم التمييز بينها وبينه. فما مجال الاعجاز؟ ليس علميا ولا أسلوبيا.إنه تضمنه لما وراء أصل الإبداع عامة ،وفروعه الأربعة خاصة ،أعني المعادلة الوجودية بصوغين ديني وفلسفي.وهو يتضمن ذلك بوعي صريح هو جوهر عودته لنفسه حتى يعرفها ،ويعرف طريقةالوصول إلى حقيقته باعتبارها ما يرينا الله في الآفاق والانفس (فصلت ،)53وبوصفهاتتجلى في آيات الآفاق هي آيات الطبيعة والتاريخ ،وبوصفها تتجلى في آيات الأنفس تعني أن المعادلة الوجودية هي عين بنية الوعي الإنساني. 66
02 01 01 02تصميم الأسماء والبيان – المدير التنفيذي :محمد مراس المرزوقي
Search
Read the Text Version
- 1 - 12
Pages: