أبو يعرب المرزوقي - الأسماء والبيان
لما كتب ابن خلدون نصه هذا الذي انطلقنا منه في كلامنا على تنشئة الأجيال ،لم يغفل عن ملاحظةذات أهمية تاريخية في مصير المسلمين والعالم كله .فقد لاحظ أفول الحركة العلمية وعموم الفوضىالسياسية في بلاد المسلمين وضمور العمران .وقابل بين ذلك كله ما يجري في \"العدوة الأخرى\" قاصدا أوروبا.كان ابن خلدون واعيا بالتقابل بين ضفتي المتوسط ،على الأقل في البلاد التي زارها مغربها ومشرقها، ومدركا خطر عقم التنشئة كما بينا في الفصل السابق.فوعيه بالفرق بين الضفتين في شروط الاستعمار في الأرض ،علمنا فساد حقيقة الإنسان فلسفيا ودينيا وحالنا فهّمنا القصد بفساد معاني الإنسانية لدينا.وعندما تكون حقيقة الإنسان بمدلولها الفلسفي والديني قد فسدت ،ترد الجماعة الى \"أسفل سافلين\" لأن العنف والعسف يكون في آن علة ومعلولا لهذا التردي.وهذا التردي الذي أفسد معاني الإنسانية وأهمها الإبداع النظري والعمل على علم لتحقيق شروط الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف ،يجعل الجماعة عالة.كل هذه المسائل أطنبنا في الكلام عليها .لذلك فهذا الفصل لا يتعلق بها بسلوك النخب العربيةالخمس لمنع تجاوزها بتحقيق شروط الاستئناف الحقيقي .وسأنطلق من الاحداث الجارية في الإقليمالذي يعود إليه دور القاطرة في نهوض المسلمين كلهم .لأن دولة وحدتهم بناها العرب وحافظ عليها الأتراك. 51
فأنا أعتقد أن أهم معجزات الإسلام بعد القرآن ،هي تحقيق شرط دوره التاريخي أعني وحدة الأمة لحماية البيضة ورعايتها والتي فقدناها ومعها العزة. لكن كاريكاتور النخب العربية التأصيلي والتحديثي ماذا يفعل؟ بدلا من السعي لاستعادة هذا الشرط تراهم يلومون تركيا على ما يتهمونها بالسعي إليه.لست واثقا من أن تركيا تسعى لهذا الهدف النبيل ،ولا يهمني ذلك لأني واثق من أنها بمفردها لا تستطيعه ولا العرب كذلك ،بل لا بد من الجمع بينهما.فمن دون تكامل الشعب المؤسس والشعب المحافظ على دولة الأمة ،لا يمكن في عصر العماليق تحقيق استئناف بحجم النشأة الاولى لتزاحم الأعداء علينا.ففي اللحظة التي يسعى فيها الغرب إلى تجاوز مجرة التبانة في غزو الفضاء ،ما يزال العرب بعقلية قبائل الجاهلية يتنافسون لترضية الأعداء بخدمتهم له.وبدلا من فهم خطر سعي ذراعي الاستعمار في الإقليم لمحوهم ومحو تركيا شرطا في استعادة امبراطوريتين متقدمتين على الإسلام ،يتسابقون لإرضائهما.أهؤلاء بقي لهم شيء من الرجولة والكرامة؟ أم هم عادوا إلى ما كانوا عليه في الجاهلية التي كان الخروج منها كما أسلفت من أهم معجزات الإسلام؟والله إنه لأمر يفقأ المرارة ويكمد القلب ويفسد على من له بعض حس وكرامة طعم الطمأنينة على أمة لها ما لها من الشروط المادية والروحية للسيادة.فما نسميه بالوطن العربي (وفيه من أقوام الإسلام الأخرى من هم ليسوا أقل فضل في تاريخ الامة) من أثرى أقاليم الأمة ماديا وله كل رموزها الروحية.لكني مع عروبتي الثقافية وحتى الإثنية ،لا أنفي أن العرب هم اليوم اقل المسلمين اعتزازا بالإسلام بسبب صنفي الكاريكاتور المسيطر على نخبها الـخمسة.فساستها أكثر نوعهم استبدادا وفسادا .وعلماؤها أكثر نوعهم كسلا وعقما .واقتصاديوها من جنس ساستها .وفنانوها من جنس علمائها .وأصحاب الرؤى هامانيون. 52
وطبيعي أن يكون أصحاب الرؤى هامانيين لكن من دون علم هامان إذا كان الساسة فرعونيين من دون سيادة الفراعنة :هرر تحاكي انتفاخا صولة الأسد.أكره عبارات :صاحب الجلالة والسمو والسيادة في غياب الجلال والسمو والسيادة وأمقت \"الدال\"التي امتلأت بها الصحف وهي داء عقم وليست دال علم .فأولئك في قممهم وهؤلاء في ندواتهم دليلعلى أن ابن خلدون لم يكتب المقدمة ابداعا علميا فحسب ،بل احتجاجا تاريخيا على فساد معاني الإنسانية كذلك.وحتى كلمة كاريكاتور ليست أمينة :فالكاريكاتور له وجه شبه مع الحقيقة التي يكرترها .أما هم فلا شبه لهم مع الحقائق التي يكرترونها لتدنيها دونه.فأي معنى لوقوف قزم يدعي الانتساب إلى أعظم أمة موقف عبد ذليل أمام أي أمة غربية ،ظنا أن حمل نفس الاسم -وزير دفاع مثلا-يعني نفس الحقيقة؟هب أنه يملك الكثير من آبار البترول ويشتري الكثير من العتاد العسكري ،هل يجعله ذلك ذا سيادة وهو مجرد وال في محمية تحارب ذاتها من أجل كرسي؟كيف ألوم ناتن ياهو أو قائد الحشد الشعبي ،فضلا عن قيادات الدول العظمى ،إذا أهانهم واعتبرهم مجرد بيادق يحركها لما يريد ،فيعيدهم إلى الجاهلية؟اي فرد لا يمرضه مثل هذا الوضع ،لا أعتبره منتسبا إلى الإنسانية فضلا عن أشرف انتساب لها، أي الإنسانية المسلمة التي أفقدوها شروط خيرتها وشرفها.أعلم أن أدعياء التفلسف ممن هم عندي ،أجهل خلق الله بالفلسفة وبعظائها القدامى (افلاطون وأرسطو) والمدثين (هيجل وهيدجر) يعتبرون موقفي غير فلسفي.وأعلم خاصة أن أكثر الناس طائفية ،بل وخالقيها ،يعتبرون موقفي طائفيا لأني ارى أن الإسلام من دون غالبيته السنية مهدد بالتحريف الباطني والقرمطي.فمن له الحد الأدنى من العلم بأدبيات أفلاطون وأرسطو قديما وهيجل وهيدجر حديثا ،لا يجهل دور العزة الحضارية في فكرهم وخدمتهم لها بكل استطاعتهم. 53
لكن مضغ القشور يجعل من يتهجأ ممضوغات الفلسفة والحداثة ،يدعي علي بكونه أدرى بما يترتب على الموقف الفلسفي من القيام الحضاري شرطا في الإبداع.لذلك كتبت ذات مرة أن الفلسفة لا تبدع من دون مشروع حضاري فيه تعريف مستقل لكيان الإنسان بشروط حريته وغائيته كما يبين نص ابن خلدون السابق.لم يكتف بالأنثروبولوجيا الفلسفية (نظرية الإنسان) بل جذرها في الانثروبولوجيا الإسلامية (نظرية الاستخلاف) للوصل بين الإنسانية والمنزلة الروحية.وهذا ما أسعى لجعل الشباب وخاصة بعد ثورة الحرية والكرامة واستعادة مفهوم القضاء والقدر التحريري يدركونه ليس بوصف رؤيتي بل رؤية عمالقة فكرنا.وعمالقة فكرنا تجاوزا مشروع الفلسفة اليونانية بوحي من فهم لمشروع فلسفة القرآن التي تحدد الإنسان بالجمع بين الاستعمار والاستخلاف في الأرض.وفلسفة القرآن بالحريتين الروحية (لا وسطان بين الإنسان وربه) والسياسية (لا سلطان بالحق الإلهي) هي التي جعلت الدنيا مطية الآخرة ثورة كونية.كم أتقزز من بعض المأفونين الذين يعتبرون سعي تركيا لاسترداد مجدها عدوانا على العرب لكأنها منعتهم من أن يكون لهم طموح الرجال بدل أكل البغال.كم أتقزز عندما أسمع شيوخ الاستبداد والفساد يصفون تركيا بوكر العهر السياحي وينسون أن أغلب نخبهم النافذة ليس لها من الحداثة إلا هذا المأرب.ينسون أن تركيا ليس لها بترول ولا غاز ،وهي مع ذلك متفوقة على أغنى بلاد العرب رغم ما لديهم منهما يذهب فتاتا لما لا أحد يدري فيم دون عمل منتج.ينسون أن أكبر تهمة لتركيا والاخوان ،أي القبول بشروط الحكم الديموقراطي هي أكبر شرف لأنها هي الترجمة الحقيقية لنظرية الإسلام في الحكم الشرعي.فلا معنى للبيعة من دون حرية .ولا معنى لولاية الأمر من دون خدمة الشعب .ولا معنى للشورى من دون سلطة القرار الشعبي .ولا معنى للكرامة من دون حرية. 54
وحياد الدولة من أهم مبادئ الإسلام .إنه أول دين في التاريخ دولته تعترف بتعدد الأديان. فالقرآن أعطى غير المسلمين حق الاحتكام لشرائعهم.لم يكتف بحرية الشعائر ،بل أيضا بحرية الشرائع التي اعتبر تعددها شرط التسابق في الخيرات (المائدة )48وأعطى للأقليات الدينية منزلة ذمة الدولة.صحيح أن عقم فقه الانحطاط حول منزلة الذمة من منزلة رفيعة إلى منزلة ذليلة ،ولمن تكن أكثر إذلالا لهم من إذلال المسلمين أنفسهم إذ صاروا عبيدا.فقه التغلب هو الدليل الرئيس لنظرية ابن خلدون في فساد معاني الإنسانية :إنه فقه يداوي بالتي هي الداء .لم يحسم شروط التداول لتجنب الفوضى.واعتبر القبول بالانقلابات التي تحكم فقه التغلب حلا لتجنب الفوضى ،فصارت الفوضى هي سبيل التداول على الحكم بالعنف :الأعنف يتغلب فيذل الجميع.ثم شيئا فشيئا صار الأمر يمكن بالعمالة للمتغلب الاستعماري أن يصبح حاكم المحميات الإسلامية ويجد فقهاء يسمونه ولي أمر وهو مفرط في الامر.ثم يراد من المرء ألا يفقد صبره أمام هذا الانحطاط النسقي الذي يزداد يوما بعد يوم حتى لم يبق عربي له إمكانية الكلام دون أن يتهم بالإرهاب.يأتونك من كل الآفاق ويحتلون أرضك وينتهكون عرضك ويستعملون العملاء من أهلك ليحقق أهدافهم في وطن جعلوه محميات .فإذا قاومت اعتبرت إرهابيا.لذلك صار المسلم المقاوم سواء بالطرق السلمية (الانتخابات الحرة عند الاخوان) أو بالطرق المشروعة في كل حركة تحرير وطني (حماس) رمز الإرهاب.وهذا التعميم لم يبدأه الاستعمار فيطبقه علينا ،بل طبقه على كل حركات المقاومة في العالم .لكن تخصيصه للمسلمين هو من فعل حكامنا ونخبهم العميلة. بهذا أختم كلامي على التنشئة بين الموجود والمنشود من خلال بيان المفقود لدى النخب بأصنافها الخمسة كما عرفه ابن خلدون في النص الذي أوردناه. 55
02 01 01 02تصميم الأسماء والبيان – المدير التنفيذي :محمد مراس المرزوقي
Search
Read the Text Version
- 1 - 12
Pages:
