-- (الشرط الثقافي والرمزي المكتسب) وكل منهما يساوي بمفرده الأبواب الأربعة المتوسطة بينهما :أبواب العمران البدوي والدولة والمدينة والعمل. إذا كان ذلك كذلك فـماذا بقي للخصوصي في الحضارات والجماعات المختلفة إذا سلمنا مع ابن خلدون أن نظام الوجود البشري واحد؟ ذلك هو موضوع التاريخ الخاص بكل جماعة .والتاريخ بهذا المعنى يدرس التعي الجزئي لمعاني العلم الكلية العلم الذي أسسه ابن خلدون .ومعنى ذلك أن نسبة علم ابن خلدون إلى التاريخ هي نسبة علم قواني الظاهرات إلى وصف مظاهرها المتنوعة. لكن تاريخ تكون أي جماعة مناظر لتاريخ تكون كل الجماعات والبشرية كلها .فإذا درسنا أبواب المقدمة من الثاني إلى السادس كان ذلك مثالا عن تكون الحضارة الإنسانية بالانتقال من مفعول التاريخ الطبيعي إلى مفعول التاريخ الحضاري :وهو في آن بيان دور الأول في الثاني .وإذا درسناها بالعودة من السادس إلى الثاني كان ذلك مثالا عن تكون الحضارة الإنسانية بالعودة من التاريخ الحضاري التاريخ الطبيعي :وهو في آن بيان دور الثاني في الأول. بعبارة مبسطة فالعلاقة هي بي الطبيعي والمكتسب أو بي الطبيعي والثقافي من الأول إلى الثاني ومن الثاني إلى الأول تفاعلا لا يتوقف .وذلك هو جوهر فلسفة التاريخ الخلدونية وهي في آن فلسفة الدين لأنها تصل ذلك كله بالأحياز والمرجعية خاصة. ويلتقي المساران في باب المقدمة الرابع باب المدن أو الحواضر التي تمثل اللقاء الصدامي والتكاملي بي الاتجاهي :فالمدينة ملتقى قانون التاريخ الطبيعي (الضرورة) وقانون التاريخ الحضاري (الحرية) .فقبل باب المدينة ( )4نجد باب الدولة ( )3وتطور الجماعة لتكون دولة التي هي قوة شرعية وذلك هو مضمون باب العمران البدوي ( .)2وبعد المدينة نجد باب العمل ( )5وتطور الممارسات العلمية إلى علوم مؤسسات معرفية وتعبيرية ذات شرعية دينية وفلسفية قوية وذلك هو موضوع باب العلوم والتربية والفنون ( :)6وكل ذلك يكون ما يمكن أن نسميه عالم الجماعة. أبو يعرب المرزوقي 47 الأسماء والبيان
-- وتعدد هذه العوالم بتعدد الجماعات يمثل بؤر متفاعلة هي القوى السياسية والحضارية التي تتقاسم مكان المعمورة وثمرته وزمان المعمورة وثمرته بحركية يبرزها الثبات الهش للجماعات والدول والتغير الدائم للحدود بينها بمقتضى ما لهذه البؤر من قوة مادية وروحية :إنه تاريخ الحروب والتعاون في آن بالتساوق وبالتوالي في الجماعات وبينها. وهشاشة الثبات والتغير الدائم للحدود بي الجماعات وفي نفس الجماعة بسبب التنافس على المكان والزمان وثمرتيهما والمرجعيات المؤولة والمعللة لذلك كله ذلك هو منطق التاريخ الخاص والعام الذي هو عي تكون الإنسانية سعيا إلى الوحدة رغم الصراعات والحروب. والمدينة هي القلب الذي يلتقي فيه المساران من التاريخ الطبيعي إلى التاريخ الحضاري ومن التاريخ الحضاري إلى التاريخ الطبيعي وبالتدريج تجعل وحدة الإنسان العالم كله مدينة واحدة :فتكون كالبركان والتنور الفائر. وهذه المدينة العالمية الواحدة لا بد وأن تكون مدينة المرحلة النهائية التي تخوض فيها البشرية معركة التاريخي النهائية :المعركة بي منطق التاريخ الطبيعي لاستعمار الإنسان في الأرض ومنطق التاريخ الخلقي لاستخلافه فيها .ونشاتنا كانت عينه منها .لكن استئنافتنا هي هي عينها. وهي معركة بي أسلوبي المرجعية الديني والفلسفي السوي والمنحرف :معركة بي تصورين دينيي وتصورين فلسفيي :تصور ديني وفلسفي منحرف يرتب البشر عنصريا وتصور ديني وفلسفي سوي يرتبهما ترتيبا متحررا من العنصرية. ولا يمكن التحرر من العنصرية دينيا وفلسفيا إذا ظل الإنسان خاضعا لمنطق التاريخ الطبيعي حول المكان وثمرته والزمان وثمرته ومرجعية المعنى والقيمة تأويلا وتعليلا منحرفا بالأسلوبي الديني والفلسفي .والتحرر منهما يعني فهم الأحياز وتوالجها وتشاجنها في ضوء يتجاوز استعمار الإنسان في الأرض بقانون التاريخ الطبيعي بإضافة جعله في خدمة الاستخلاف فيها معنى وقيمة بقانون التاريخ الخلقي. أبو يعرب المرزوقي 48 الأسماء والبيان
-- وهو القصد بالتحرر من التحريفي الديني والفلسفي .فأما التخلص من الأول فتم بفضل نظرية الأخوة البشرية (النساء )1ومعيار المساواة (الحجرات )13وهما قيمتان أضاعهما المسلمون بسبب الانحطاطي الذاتي والمستورد .وحتى يحقق الإسلام ذلك حسم قضية التعدد الديني باعتباره ليس منافيا لهذين المبدئي بل هو شرطهما لأنه شرط التسابق في الخيرات أي السعي لتحقيقهما. فدولة الإسلام مطالبة بحماية الأديان الخمسة الأخرى التي تعترف بها :اثنان منزلان (اليهودية والمسيحية) واثنان طبيعيان (الصابئية والمجوسية) والأخير هو الشرك (الحج .)17 ولا يحسم التعدد الديني بهذا المعنى إلا لأن مبدأ حرية المعتقد وتحريم الإكراه في الدين علته اشتراط الإسلام في الإيمان تي الرشد من الغي :ما يجعل الثورة الدينية هذه مشروطة بثورة فلسفية .فتبي الرشد من الغي إذا كان شرطا في الإيمان فمعناه أنه سابق وأنه يحصل بالفكر الحر أي بالفلسفة .وإذن فمسعانا لبيان وحدة الفكرين الديني والفلسفي إذا تجاوزا التحريف ليس مجرد موقف شخصي بل هو محاولة لصوغ مبدأ قرآني سبق إليه ابن خلدون صراحة. نظرية الأحياز تبي في مستويي اثني هما عي مستويي فلسفة الدين وفلسفة التاريخ. فـمـا يجري في التاريخ هو عينه ما تجعله المرجعيات الفلسفية والدينية موضوع بحثها وتأصيلها .ومسعاي هدفه تجنيب لقائنا الثاني بالفكر الإنساني الذي تطور خلال سباتنا أن تصيبه نفس العاهة التي أخرجت الفلسفة من فكرنا سابقا .فإني أراها قد عادت من جديد: حصر الفكر الفلسفي في التوظيف الإيديولوجي الهدام بسبب رداءة أدعيائه تماما كما حصل بسبب الباطنية التي وظفت الفلسفة والدين لتأسيس ما يسمى بالتعليمية. فهل لبيان هذا التناظر بي الجماعة والعالم علاقة ببيان التناظر بي الفرد الإنسان والله أو من يؤدي وظيفته في غير الإسلام؟ تناظر التناظرين ماذا يعني؟ قبل الجواب عن هذا السؤال لا بد من التذكير بأن المحاولة هدفها إزالة القطيعة بي أسلوبي التفكير أبو يعرب المرزوقي 49 الأسماء والبيان
-- الإنساني والتخلص من أكبر معوقات الإبداع وأسباب العقم الفكري :أسلوب الدين أو القص الأمثولي وأسلوب الفلسفة أو الأكمسة المثالية. فـمـا فعلته الباطنية بالفلسفة ماضيا ورد الفعل الغبي عليها عادا ثانية لدى أدعياء العلمانية سواء كانت ماركسية أو ليبرالية والرادين عليهم بالحرب على الفلسفة لظنهم أنهم يمثلون الفلسفة .وبذلك بات الفكر الفلسفي والفكر الديني مقصورين على سطحياتهم الأيديولوجية. لا ينبغي الوقوع في نفس الفخ الباطني فترفض الفلسفة ليبقى فكرنا عقيما فلا يبدع فلسفيا كما كان إذا ما استثنينا المدرسة النقدية (الغزالي وابن تيمية وابن خلدون) أو بعض التجاوز عند بعض الفلاسفة الآخرين .أو أن تتبنى فلسفة من جنس فلسفة من ترد عليهم سطيحة وإيديولوجية فيتضاعف العقم في الدين وفي الفلسفة في آن .تجنب ذلك هدف ينبغي تحقيقه فلسفيا .فتحريف الفلسفة الباطني في لقائنا الفلسفي الأول مع اليونان نعلم نتائجه. وتحريف الفلسفي العلماني الماركسي أو الليبرالي نرى نتائجه حاليا .واللقاء بي التحريفي الماضي والحاضر للفلسفة والدين في آن هو حقيقة ما يجري على ركح المسرح السياسي للحرب الأهلية العربية ببعدها العالمي .والحلف البي بي إيران وإسرائيل ومليشياتهما الباطنية والعلمانية والليبرالية والفاشية القومية يجمع بي التحريفي الديني والفلسفي حربا علينا. هذه الحرب هي حقيقة التحريف الذي أصاب تناظر التناظرين :فالتحريف يتمثل في التناظر بي علم الكلام الجديد غاية تحريف التناظر الأول والسياسة الدولية الجديدة غاية تحريف التناظر الثاني .فعلم الكلام الجديد كما بينا يعطل الذات الإلهية لتصير عدما ويعوضها بتأليه إنسان معي هو سيد العالم وأهله ممن ليسوا مثله عنصريا وحضاريا. والموقف الإيراني والإسرائيلي وسيدهم الغربي من العرب خاصة ومن المسلمي عامة هو الموقف العنصري الذي يعتبرهم جوهيم لهم بوصفهم شعبا مختارا. أبو يعرب المرزوقي 50 الأسماء والبيان
-- وهذا هو منطق سياسة العالم المعولم والمردود إلى البعد الواحد لاستعمار الإنسان في الأرض استعمارا ينفي قيم الاستخلاف بدلالتها الإسلامية .هي إذن معركة بي كونيتي سوية ومحرفة :العولمة التي تقف عند استعمار الإنسان المؤله في الارض بمنطق قانون التاريخ الطبيعي وكونية الإسلام بمنطق قانون التاريخ الخلقي .والتاريخ الخلقي لا ينفي التاريخ الطبيعي بل هو يحرره من الاقتصار على الحيواني بما يجعله إنسانيا كما وصل بها ابن خلدون بي البشري والإنساني. فقانون التاريخ الطبيعي حصرا فيه يبتر الإنسان فيفقده ما به يسمو من مجرد العمران البشري إلى الاجتماع الإنساني :والأول لسد الحاجات والثاني للأنس بالعشير (ابن خلدون) .وذلك هو مدلول الآية الثالثة عشر من الحجرات تحديدا لطبيعة اللقاء بي البشر وشرطه القيمي :التعارف مشروط بنفي التمييز العنصري والطبقي وبمعيار التقوى. ونقيض ذلك هو التناكر ونفي التقوى :فتحريف التناظر الأول بي الفرد والله يولد العنصرية أي علاقة التفاضل بغير التقوى بي الشعوب والبشر بالعنصر والطبقة. وتحريف التناظر الثاني بي الجماعة والعالم يولد استحواذ الجماعة التي حرفت التناظر الأول على العالم وثمرته وجعل باقي الجماعات عبيدا لها .والجمع بي هذين التحريفي هو جوهر العولمة التي نعيشها الآن والتي لم يبق صامدا أمامها ومحاولا التحرر من أربابها إلا نحن المسلمي :تلك هي معركتنا ومعركة الإنسانية الوجودية. وهي معركة تجري في شكل حرب أهلية إسلامية وحرب أهلية كونية في آن .فهي حرب أهلية بسبب موالاة جل الحكم ونخبهم لأصحاب التحريفي وهي كونية لأن هؤلاء يسندون أولئك .وتلك هي علة الحلف بي أصحاب الاستبداد والفساد في الداخل وأصحاب الاستضعاف والاستتباع في الخارج في سعيهم لإفشال ثورة الاستئناف الإسلامية. والحرب النفسية التي توجه ضد المسلمي يمكن ردها إلى هذه الفكرة السطحية الوحيدة وهي مركوب كل سخفاء العلمانية والليبرالية العربيتي :تصورهم المحقر من شأن طبيعة صمودنا .فهم يحاولون نفي الطابع الخلقي عن صمودنا ويعتبرونه دليل تخلف عن ركب أبو يعرب المرزوقي 51 الأسماء والبيان
-- الحضارة وليس خيارا حضاريا أفضل نسعى لاستعادة شروط فاعليته التاريخية بل هم يسمون جهاد مقاومتنا للاستبداد والفساد والاستضعاف والاستتباع بالإرهاب. كلما تابعت أدعياء الحداثة العرب وخاصة أولئك الذين يدعون نقد التراث من جنس أركون أو أبي زيد ناهيك عن ببغاواتهما كالبلهي وأمثاله في الخليج أو كالشرفي وجل تلاميذه في المغرب العربي أشعر ببالغ التقزز والاحتقار .فهم كاريكاتور الفكر الحديث المتجسد في انتفاخ أوداجهم مع جهل يقطر عفنا وعنفا إزاء الآفاق المختلفة عما في دماغهم المغسول بروبافيكيا الابتذال :يتصورون الإنسانية متحققة في أخلاق العولمة المنحرفة. كلهم دون استثناء يصدق عليهم ما يقوله ارسطو عن عدم فهم مفهوم الكلي .يتصورون كاريكاتورهم عن الحداثة الأفق الوحيد للإنسانية ويحاكمونها به .ولما أسمع مترجم أركون أو ببغاواته في تونس يتفلسفون يقشعر بدني .ولما أصبح السيسي وجوقته مصلحي للدين لم يبق كلام ولا سلام مع حثالة الأزلام. أبو يعرب المرزوقي 52 الأسماء والبيان
-- مفهوم الإنسانية وصلنا الآن إلى قلب المعادلة موضوع الفصل الخامس من التأملات-المعاني الكلية التي نشير بها إلى الإنسانية دون اعتبارها مقومة بخلاف ما يترتب على القول بالمطابقة-بعد الفرد والجماعة وقبل العالم والله .وهي معضلة المعضلات وقلب المربع للعنصرين المتناظرين اللذين درسنا في ما تقدم. ذلك أن مفهوم الإنسانية مثل رقاص الساعة يناوس بي رؤوس المربع بوصفها أقطاب جذب وطرد لا يتوقفان :تماهيا وتنافيا متناوبي مع الفرد والرب مباشرة وبي الجماعة والعالم اساسا لنفس العلاقة بي الفرد والرب ولكن بصورة غير مباشرة. وكل معضلاتها وألغازها مصدرها التماهي الجاذب والتناهي الطارد مع هذه الأقطاب الأربعة في عالمي متعالقي إيجابا أو سلبا هما الدنيا وما وراءها أو العالمي عالم الشهادة وعالم الغيب .وهذان العالمان ليسا مقصورين على التصور الديني للوجود فحتى التصور الفلسفي لم يستطع التخلص منهما حتى وإن اعتبر الثاني مجرد تعويض عن نقص الأول بعد النكوص الهيجلي الذي صار في الماركسية رؤية تعويضية كما صاغها فيورباخ. بعبارة أوجز لا يمكن للإنسانية عامة ولأي إنسان منها خاصة ألا يعتبر الدنيا سجنا فيطلب اللامتناهي وراءها مهما كان فقير الخيال والطموح الوجودي .وبهذا الاضطراب الذي لا يهدأ أريد أن أبدأ كلامي اليوم على الإنسانية عامة وعلى الإنسان المتماهي معها خاصة أعني كل القائلي بالتطابق المعرفي والقيمي الناتجي عن النكوص الهيجلي إليهما نفيا لمحاولة كنط التحرر منهما وتبنيه الماركسي .فهذا التماهي لمن يدرك معناه عي جهنم الروح في الدنيا وسر كل ما تعاني منه الإنسانية من فوضى روحية في بواطنها وسياسية في ظواهرها. فهو بداية السؤال الديني والفلسفي في كل ما نعلمه من حقب تاريخ البشرية الفكري .إنه جوهر ما يمكن أن نطلق عليه اسم الإنسانية وما عداه من ثمراته موجبها وسالبها .كل ما عداه هو الحضارة المادية والرمزية أي العمران البشري والاجتماع الإنساني في الأعيان المكانية والأعيان الرمزية وفي الأذهان ومعالم الفكر .وتلك هي حقيقة الثورة الخلدونية التي تتجاوز خرافة أبو يعرب المرزوقي 53 الأسماء والبيان
-- التماثل مع كونت أو مع ماركس .وإذن فالإنسانية ليست شيئا آخر غير ما يترتب على التحيز في المكان وثمرته وفي الزمان وثمرته بـالمرجعية التي تضفي عليهما معنى هو عي الرؤية الحضارية للجماعة من حيث إنها جميعا تعبير فعلي ورمزي على السؤالي الديني والفلسفي. جوهر الإنسانية سؤالاها الديني والفلسفي والسؤالان الديني والفلسفي هما بصورة أدق سؤالا الدين اللذين هما عينهما سؤالا الفلسفة حول الوصل والفصل بي الدنيا وما بعدها أو حول سياسة عالم الشهادة المشدود إلى سياسة عالم الغيب كما حددتهما في محاولات سابقة .فطرحهما التناظر الأول بي الفرد والله صيغ في شكل محاسبة متبادلة: • فالله يحاسب الإنسان في الآخرة وتلك هي سياسة عالم الغيب. • والإنسان يحاسب الله في الدنيا وتلك هي سياسة عالم الشهادة. ومن يقرأ القرآن ببصيرة يراه مليئا بالتلاوم الـدائم بينهما إما على أرضية إيمانية أو على أرضية إلحادية .وما من أحد صادق مع نفسه لم يعش هذا التلاوم في اشد لحظات الحياة ضيقا .صحيح أن الإيمان يقتضي ألا يحاسب المخلوق الخالق .لكن القرآن يقول عكس ذلك تماما حتى وإن لام الإنسان واعتبر الشر من عند الإنسان إذ القرآن يقول «رضي الله عنهم ورضوا عنه» وصفا للمؤمني .وحتى الأعرابي الجلف أجاب الرسول بما يفيد هذا المعنى العميق. وهذا من أهم مداخل ما يزعم عقلانية اعتزالية .فقد ظن أصحابها أن مشاركة الله في الخلق يلغي موقف الأعرابي .لكن موقفه أسلم حتى بمقتضى العقلانية عند تحليل أفعال العباد .فإذا كان الله يحمل الإنسان مسؤولية أفعاله ويصفه كما يعلم الجميع بكل العيوب فيمكن للإنسان إذا طبق مبادئ العقل أن يلوم صاحب الصنعة لا المصنوع .وتلك هي علة ثورة الأشعري عندما عبر عن ذلك بعبارة بليغة عن معلمه وزوج أمه \"وقف حمار الشيخ في العقبة\" (الجبائي الأب). أبو يعرب المرزوقي 54 الأسماء والبيان
-- ذلك أن مجرد وجود الإنسان بكل ما يوصف به من عيوب بنص القرآن نفسه يجعل رأي الملائكة فيه صائبا وخلقة غير مقبول عقلا خاصة وتبريره \"وما خلقت الجنس والإنس إلا ليعبدوني\" فإذا بالإنسان أقل شيئا عبادة لله .ثم أي حاجة للعابدين لكائن مطلق -الله -لا ينقصه شيء ولا حاجة له لغيره فضلا عن كون غيره مشوب بعيوب لا يتوقف القرآن عن ترديدها؟ وهذا من أكبر ألغاز الوجود واضطراب العقل وعلة نفيي لفائدة علم الكلام .وهو المنبع الأساسي لكل من يدعي خيار الإلحاد ولمن يبحث عن إيمان العجائز كذلك .لكني سبق أن قلت إن الإلحاد مستحيل وإنه لو كان ممكنا لكنت أول القائلي به .كل اللغز أنه ينفي ذاته .كما أن إيمان العجائز مستحيل .فالإلحاد هو في الغاية يفيد الاستنتاج الخاطئ من التنزيه المطلق .فضميره هو :إذا كان كل ما في العالم وما في الإنسانية خاصة فاقدا للمعنى فلا يمكن نسبته لرب حكيم .وهذا هو ما يمكن تسميته بنظرية العدل الإلهي المسلوبة :الثيوديسيا المقلوبة .فالعالم والذات يغلب عليهما الشر والقرآن يؤكد ذلك في وصف الإنسان .والإلحاد الذي يدعي أصحابه أنهم اختاروه من منطلق علمي من أكبر الأدلة على سخفهم وكذبهم .لكن العلم لا يوصل إلى حقيقة مطلقة والممكن منه على محدوديته أولى به أن يوصل إلى الإيمان .حتى من دون الظن أنه مطابق ومحيط. وإذا كان لا علم من غير نظام قواني ونظام في الوجود فإن وجودهما يؤدي حتما إلى الإيمان بوجود مبدئهما وهو أساس الدين والفلسفة في آن .فالقواني ليست ضرورة عمياء بل هي ناتجة عن علاقات بي غايات وأدوات وإلا لما كانت نظاما وإذن فكونها نظاما يعني أنها خيار عقل لرب حكيم .وإذن فالإلحاد مصدره نقيض ذلك أي الاعتقاد في أن العالم والذات كلاهما مناف لكل منطق \" \"Absurdوفاقد للعقل والحكمة ومليء بالشر والظلم والقهر :وتلك هي نظرية العدل المنفي .ونظرية العدل المنفي في الوجود هي في الحقيقة تنزيه للرب صاحبه لا واع به مفاده :إذا كان الله لم يخلق عالما وذاتـا خاضعي للعدل فالأفضل نفي وجوده بدلا من الإيمان به ووصفه بالعجز. أبو يعرب المرزوقي 55 الأسماء والبيان
-- علاج القطب الأول من المربع الأول ولما كان هذا التنزيه لا واعيا فهو آلية دفاع للخروج من الاضطراب الذي وصفته بكونه جهنم الحياة الدنيا .والخروج منه فلسفيا كان له شكلان في الفكر الغربي: • الأول ديكارتي مسكوت عنه. • والثاني نيتشوي صريح. والشكلان ليسا بالصدفة .فأولهما ينتهي إلى ما انتهى إليه الغزالي في المشكاة .والثاني ينتهي إلى ما انتهى إليه التلمساني في شرح مدارج السالكي .وسيعجب أصحاب الفلسفة الصحفية من أن هذا المربع-ديكارت ونيتشه والغزالي والتلسماني-تلتقي في قلب هو ابن تيمية الذي عاش جهنم الدنيا بمخرج آخر .وسأعود لمخرج ابن تيمية .لكن فلأواصل الكلام على الحلي اللذين ينتهيان إلى ديكارت ونيتشه .فديكارت قال في بداية مشروعة بنظرية الأخلاق المؤقتة. وأنه ظل عليها إلى أن مات وهي أخلاق جماعته .ولعل جبنه وتحايله لئلا يحصل له ما حصل لجاليلي في قضية دوران الأرض يفسر علل عدم بيان ما يقصده بالأخلاق غير المؤقتة .ولما ضاق ذرعا ساح كما ساح الغزالي .لكن الانطلاق من العدم أو \"التابولا رازا=اللوحة الممحوة أو البكر\" انتهى بديكارت إلى حقيقة أقنعته بعجز الشيطان الماكر :لا يستطيع أن يشككه في وجوده عي وعيه الشاك .فلكأن ديكارت أثبت بذلك أن الإلحاد مستحيل .لذلك صار ربه أساس كل فكره مثلما هو أساس كل الوجود .وذلك بالذات بسبب استحالة رضا الإنسان بالمحدود. وما انتهى إليه ديكارت ولكن مع المحافظة على الأخلاق المؤقتة أو أخلاق الجماعة التي ربي فيها يعني أن لديكارت ما يشبه الجمع بي الفقه والتصوف .أو بعبارة أوضح الجمع بي الرسم والحقيقة بالمصطلح الصوفي .في الجماعة لا بد من الرسم (الفقه) وفي الذات لابد من الحقيقة (التصوف) .وهذا ما أعنيه بمخرج الغزالي .لكن الأساس واحد في الحالتي :فـما يسميه ديكارت أساس نظامه الفكري والعالم يسميه الغزالي نور السماوات والأرض ويعتبر قلب المؤمن \"زجاجة\" مشكاته العاكسة .وهذا الحل الذي حصل مرتي بارزتي ذكرتهما واحدة غزالية والثانية أبو يعرب المرزوقي 56 الأسماء والبيان
-- ديكارتية يحصل مرات لا متناهية لأنه يمثل الحد الأول من التناظر بي الفرد والله التناظر الذي درسناه في الفصل الثالث من بحثنا. علاج القطب الثاني من المربع الأول نصل الآن إلى القطب الثاني من هذا التناظر ويمثله نيتشه والتلمساني .حيث ينتهي الإلحاد إلى عكس ما انتهى إليه عند الغزالي وديكارت :التمانع بي الفرد والرب الرب .وفي الحالتي ليس الشيطان الماكر صوتا خارجيا على الذات (فرضية جني ديكارت الخبيث) بل هو من مكر الذات التي تنتج كل الأوهام التي اقنعت الغزالي وديكارت بالأكاذيب النافعة بالاصطلاح النيتشوي والتلمساني .فـما يسميه ديكارت والغزالي حقائق هو عند نيتشه والتلمساني أكاذيب نافعة من صنع الذات التي هي إرادة قوة عمياء تبدع عالما رمزيا لا حقيقة وراءه. وابن تيمية لا يحب الغزالي ويكره التلمساني .ولو كان ديكارت ونيتشه موجودين قبله وكان على علم بهما لكان موقفه منهما نفس الموقف الذي له من الغزالي والتلمساني :عدم حب وكراهية. ومشكلي الشخصي مع نيتشه والتلمساني أنهما أكثر وقوعا في الأوهام من ديكارت والغزالي: فـمنطقيا الكلام على أوهام نافعة بديلة من الحقيقة متضايف .والتضايف يعني وجود حدي الإضافة بينهما .فلم ينفيان أحد الحدين ويبقيان على الثاني؟ في الحقيقة هما يضخان في الذات ما يسلبانه عن الرب عكس الغزالي وديكارت اللذين يضخان في الرب ما يسلبانه عن الإنسان .وهذا يعني وجوديا أن العلاقة بي الذات والرب هي العلاقة بي الفناء والبقاء والخياران هما :فتكون الذات هي الرب والرب من صنعها أو العكس. وبذلك يتبي أن المربع-ديكارت ونيتشة والغزالي والتلمساني-حقيقته كما فهمها ابن تيمية هي مرض التمانع بي الآله والمألوه أو ا لمربوب والرب مطبق على الذات والرب بالنفي المتبادل :لا نثبت أحدهما من دون نفي الثاني: • هذا هو الوجه الأول من جهنم الدنيا. أبو يعرب المرزوقي 57 الأسماء والبيان
-- • أما الوجه الثاني فيأتي من التناظر الثاني بي الجماعة العالم. وهنا نجد المشكل في الغرب بي سبينوزا وهيجل .وقبلهما نجد نفس المشكل بي ابن رشد وابن عربي .ولكن في ترتيب معكوس .ونجد في قلب المربع مرة أخرى ابن تيمية .وتلك هي علل تعظيمي لهذا الرجل واحتقاري للمتجرئي عليه من أعشار المثقفي سواء من أدعياء التأصيل أو من أدعياء التحديث إذ هما كلاهما كاريكاتور مما يدعيه. يعسر على الكثير فهم العلاقة بي رموز هذا المربع وهم رموز لا غير لأنه مثل المربع السابق يتكرر بلا توقف إذ هو عي جهنم الإنسانية في الدنيا .فأشهر ما عرف به سبينوزا هو قولته الشهيرة :إن الإنسانية ليست دولة في الدولة .وإذن فهو قد اختار في التناظر الثاني العالم والطبيعة بدل الجماعة والحضارة .ومن اطلع على فلسفة الدين الهيجلية غاية وعلى ظاهراتية الروح بداية يعلم أن خياره عكس خيار سبينوزا تماما أي إنه يقدم قطب الجماعة والحضارة على العالم والطبيعة. وليس ذلك بالصدفة .فكلاهما يقول بوحدة الوجود لكنها عند سبينوزا طبيعية مضطرة وهي عند هيجل روحية حرة-الوجود للذات قبالة الوجود في الذات وللغير .وابن رشد أرسطي .والقراءة السطحية لأرسطو تجعله قائلا بما يشبه قول سبينوزا وتجعل ابن عربي عكسه فيكون قائلا بما يشبه قول هيجل .لكن العكس أصح. ولنبدأ بابن عربي .ففي بعض رسائله يعتبر العالم عي الله .والعي ليست الباصرة بل الحصول العيني في الوجود الفعلي كأن الله هو العالم الموجود .والعالم الموجود هو تحقق العالم المعدوم أو \"الأعيان الثابتة في العدم\" بمصطلحه أي بالمعنى الفلسفي الأفلاطوني والأرسطي خاصة هي ما تكون المادة الأولى حبلى به بالقوة أي كل الموجودات .وإذن فهذه الأعيان الثابتة في العدم تناظر مفهوم القوة الأرسطي وتناظر مفهوم الأحوال عند سبنوزا .فيكون ابن عربي في الحقيقة هو القائل بما يقول به أرسطو قبله وسبينوزا بعده. وذلك ما يرجعنا إلى فهم أرسطو وفهم ابن رشد لأرسطو .والانطلاق من الثاني إلى الأول اي من شرحه لمقالة اللام وشرحه للمقالة الثالثة من النفس .ففيهما مجموعي نجد العلاقة بي عقل أبو يعرب المرزوقي 58 الأسماء والبيان
-- الإنسانية وعقل العالم أي وحدة الوجود الروحية المقابلة لوحدة الوجود المادية فيكون قوله أشبه بقول هيجل .عندنا إذن مربع من تجربتي عربية وغربية لنفس المعضلة الإنسانية الناتجة عن التناظر الثاني بي الجماعة والعالم في فهم الوجود بما هو واحد .وهي معضلة تتكرر بلا نهاية وما ذكرناه هو النماذج الابرز في تاريخ الفكرين الديني والفلسفي المعلومي أو على الأقل اللذين سيصبحان معلومي بهذه الرؤية التي هي من اجتهادي الشخصي ولا فخر. في دلالة شرحيْ مدارج السالكي وما أظنني بحاجة للتذكير بأن أهم المعضلات التي حاول ابن تيمية علاجها وتفكيكها هي هذه المعضلة بعبارتيها المعهودتي وحدة الوجود ووحدة الشهود .ولست أدري هل الأمر من الصدف الوجودية أم من العناية الربانية أن يكون اللقاء بي ممثلي المربعي اللذين درسنا قد حصل في شرحي مدارج السالكي المتواليي .فلكأن الله أراد لفكر ابن تيمية ممثلا في تلميذه ابن قيم الجوزية أن يناظر بالشرح مدارج السالكي شرح التلمساني في هذين الوجهي من المربعي. طبعا لا ينتظرن أحد مني أن أعرض جزئيات هذه المسائل الكبرى لأن المجال يتعلق بالإمساك بخيوط الإشكال وليس بعلاج تفاصيلها فكل واحد منها محيط .ولأشر إلى المغزى من الجمع بي تجربتي في كلتا الحالتي غربية وعربية في علاج نفس المعضلة الوجودية :ليس الهدف المقارنة بل بيان كونية مفهوم الإنسانية وهو رد ضمني على تخريف القائلي بالخصوصية في مسائل الدين والفلسفة المتعلقة بالمعضلات الوجودية التي هي عي كيان الإنسان. فما هو خصوصي في المعضلات الوجودية ليس جوهرها بل شكلها أي نوع الترجمان في تجارب الكيان التي أرجعتها إلى الأحياز الخمسة وتوالجها وتشاجنها .لكن الغاية أعمق من هذا المغزى .إنها بيان تفاهة فلسفة ما بعد الحداثة أي تحريف الفلسفة بعد تحريف الدين .فثقافات الإنسان متوالجة ومتشاجنة ومتنافذة .وهذا التوالج والتشاجن والتنافذ هو المفهوم القرآني العظيم في الآية الثالثة عشر من الحجرات :شعوب وقبائل للتعارف والمفاضلة في الكرامة بالتقوى لا غير. أبو يعرب المرزوقي 59 الأسماء والبيان
-- تأويل دلالة المربع الأول نعود لمربعنا الأول-ديكارت ونيتشة والغزالي والتلمساني -والحلول التي يقدمونها للإنسانية في فهم العلاقة بي قطبي التنازر الأول :الفرد-الله .ونبدأ بزوجي الفردية :فنيتشه يقدم حل الإبداع الفني لتعويض موت الرب أو قلب القيم كما يقول والتلمساني يقدم الغطس في اقيانوس الفساد المطلق لنفس العلة .ألست أبالغ عندما أقارن حل نيتشه بحل التلمساني أو الإبداع الفني بالفساد المطلق مهربي من الثقب الأسود لظن الإلحاد حلا ممكنا يرضي الإنسان؟ .1فـحل نيتشه :طوفان التوهم الفني تعبيرا إبداعيا عن إرادة القوة وترجمته التاريخية هي العنف المطلق في سياسة العالم للتحرر من إرادة الضعف العامة التي يحتقر مسيحيتها وديموقراطيتها التي هي \"مديوقراطيتها». .2وحل التلمساني :نظرية الأمواج التي تعتبر الوجود تسونامي السيلان الأبدي في العالم وفي الذات أعني الاضطراب الذي سميناه جهنم الإنسان في الدنيا. ما مهربهما؟ أليس الإبداع الفني للتعالي على إرادة الضعف بإرادة القوة تعويضا للرب المتوفى بل الاستفادة من عالم الضعف بالفساد وحلف الاستبداد عندما تصبح افعال الإنسان بمعزل عن الخير والشر في الحالتي عند نيتشة والتلمساني؟ والحصيلة هي أن الوصف الأدق لجل النخب العربية التي تدعي النيتشوية بتوهم أنها مبدعة وقوية ليست إلا تلمسانية تغرق في الفساد وتتحالف مع الاستبداد. ولست بحاجة لأن أسمي أحدا .فمن له اطلاع على شلل ما يسمى بالإبداع في الساحة العربية من هاجر منها ومن بقي يعلم علم اليقي أمانة وصفي للحال الروحية .ولعل أكبر فضل لثورة الربيع أنها فضحت كل ما أصفه هنا وأنها بينت بطبيعة انطلاقها ما أقصده بجهنم الإنسانية في الحياة الدنيا :الشرارة هي حرق الذات .وما كان البوعزيزي يحرق ذاته لو لم يكن التناظر الثاني (الجماعة والعالم) والتناظر الأول (الفرد والله) قد أديا إلى اليأس المطلق واستعجال الحساب. أبو يعرب المرزوقي 60 الأسماء والبيان
-- فمحمد البوعزيزي حرق المخلوق ليأسه من الخالق بعد عيش جهنم الدنيا متعينة في العلاقة الأولى بي الجماعة والعالم وفي العلاقة الثانية بينه وبي ربه .والانتحار الذي تضاعف بأعداد مهولة في جل البلاد العربية ليس معهودا في الحضارة الإسلامية .وهذه الظاهرة من أهم علامات الفوضى الروحية التي لها دلالة عميقة في بحثنا .لذلك فـمراوحتي بي الفلسفي والحدثي ليست مصادفة بل هي مقصودة حتى نحسم نهائيا مع المخرفي الذين يتصورون الفلسفة كلاما في الهواء لا صلة له بالأحداث ,.فالفلسفة ليست «الصليب الاحمر» ترافق آلام البشرية دون أن يكون لها منها موقف من الشرعية في حدود المقدور للإنسان في فعل التاريخ. وتلك هي دلالة الآية 110من سورة يوسف{ :حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمي} .إنها في الحقيقة ما في الأحداث من معنى وروح .فلو لم تصبح الأمة في وضع روحي مأساوي لما كانت أحداثها تصل إلى ما لا يفسر إلا بروحانية اليأس المطلق .وروحانية اليأس المطلق من علامات الانقلابات الروحية ذات الدلالة التاريخية الكونية جعلها الله آية من آيات فهم العلاقة بي فلسفة التاريخ وفلسفة الدين. فالاقتصار على فلسفة التاريخ يقف عن استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا .فنيتشة والتلمساني يدعيان ما يشبه البنوة والرسالة استيأسوا من نصر الله. لكن نيتشه هرب إلى الإبداع بدعوى إرادة القوة وفلسفة العنف على الضعف ممثلا بما يسميه أوهاما وبمعتقديها هروبا من بديل الحقيقة :العود الأبدي الذي لا يختلف في شيء عن امواج اقيانوس التلمساني الذي هرب إلى هيجان أمواج البحر -الوجود-وفلسفة اللامبالاة بعنف التاريخ الحضاري المردود إلى التاريخ الطبيعي استمتاعا بالفاني والزائل :وذلك هو جوهر الفساد وشرطه الاستبداد الروحي والسياسي .كلاهما لم يعد مؤمنا إلا بظاهرات وعيه التي يرد إليها كل ما عداها جاعلا سرديته الهذيانية عي الحقيقة ومعتبرا كل ما عداها هذيان ضعف العامة. تأويل دلالة المربع الثاني أبو يعرب المرزوقي 61 الأسماء والبيان
-- ولنذهب الآن إلى المربع الثاني-ابن رشد وابن عربي وسبينوزا وهيجل-ممثلي التناظر بي الجماعة والعالم تمثيلا يناظر بي الزوجي من الحضارتي .فقد بينا أن ابن رشد هو القابل للمقارنة بهيجل وابن عربي بسبينوزا بدليلي: • الدليل الأول هو قراءتنا لفلسفة أرسطو كما فهمها فلاسفة العرب. • والدليل الثاني هو نقد كنط رشدية هردر في فلسفته التاريخية. ما أورده من أدلة من اللطائف التي لا يمكن لمن لم \"يثني ركبتيه\" ليتعلم أن يعلمها .فتحرير الفكر الغربي من فكر ابن رشد هو نهاية السكولاستيك ولا يعني أنه أسس الحداثة الغربية إلا عند من يجهل أنها قامت على التحرر ليس من ابن رشد فحسب بل وكذلك من أرسطو نفسه .أعني تماما عكس ما يدعيه الرشديون العرب الذين يعظمون من دوره زعما أنه مؤسس العلمانية-لكأن العلمانية ليست متأخرة في الغرب على نهوضه الفعلي .فنهوض الغرب ديني وفلسفي أسس لرؤية جديدة للعالم أقرب إلى نظرة ابن سينا والغزالي منها إلى نظرة ابن باجة وابن رشد .ولعل حي ابن يقظان لابن طفيل أكبر دليل .فحي بن يقظان هو عي ما وصفناه بوحدة الفكرين الديني والفلسفي في ذروتهما كما لدى ابن سينا والغزالي ديكارت ولايبنتز بناة العصر الكلاسيكي. أخذنا نيتشه والتلمساني رمزا لليأس من الرب لثقب الإنسانية الأسود هربا من جهنم الدنيا إما بالإبداع الفني أو بالغرق في الفساد ويجمع بينهما العنف .فلنأخذ الآن رمزا للياس من الإنسان ولثقب الإنسانية الأسود هربا من جهنم الأخرى إما بالإبداع الميثولوجي أو بالغرق في الطاغوت المطلق ويجمع بينهما العنف .إنهما سبينوزا وابن عربي: فالأول يلغي الآخرة بميثولوجيا الصوغ الرياضي لمغلقات الوجود في كتاب الأخلاق وهو مشروع بي ديكارت سخفه لما طلب منه عرض أجوبته على اعتراضات مفكري عصره على التأملات. والثاني يلغيها بالطاغوت المطلق الذي يرمز إليه قوله بان حاكم الارض ظل لحاكم السماء بحجة أن الثاني لو لم يكن مريدا لذلك لمنعه ومن ثم فهو لا يميز بي الموجود والمنشود وبي المشيئتي. ويجمع بينهما الفاتاليسم :أحدهما يعتبره طبيعيا لان الطبيعة الطابعة عند سبينوزا تشبه ما تمثله إرادة الله عند ابن عربي .وابن تيمية طبعا لا يعرف سبينوزا لأنه لم يوجد بعد في عصره لكنه أبو يعرب المرزوقي 62 الأسماء والبيان
-- يعرف ابن عربي يعلم أن الثقب الأسود أو الياس من الجماعة مآله تأليه الطبيعة واعتبار الأمر الواقع أمرا واجبا ومن ثم نفي الفرق بي الموجود والمنشود في رؤية ابن عربي .وذلك هو جوهر رفضه لفكره عربي :عدم التمييز بي عالم الربوبية وعالم الألوهية أو نفي الحرية والاستسلام للضرورة أي نفي العالم الخلقي كله. الإنسانية ولعبة المربعي الإنسانية مترددة بي المربع نيتشة والتلمساني وسبينوزا وابن عربي والمربع ديكارت والغزالي وابن رشد وهيجل .وتقابل خيارات المربعي همي الأول .وذلك هو همي الأول لأنه هو عي الظرف الإنساني Predicamentاو الشرط الإنساني Conditionأعني عي وجود الإنسانية التي هي قلب المعادلة موضوع تأملاتنا هذه .لكننا رأينا أن الظرف أو الشرط الإنساني لا يتحدد إلا بالتناظرين بي الفرد والله وبي الجماعة والعالم ومن ثم فنظرية الأحياز تنفذ لبنيتها العميقة. وهذا يعيدنا لدراسة المرجعية التي هي بالنسبة إلينا نحن المسلمي القرآن الكريم وإقراء الرسول له صحابته المعاصرين له والملازمي للقرآن إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .فهل هو يعرض هذه المعادلات أمثوليا دينيا ومثاليا فلسفيا؟ ذلك هو السؤال الغاية .سنحاول علاجه فلسفيا في فصل لاحق إن شاء الله حتى نفهم معنى فصلت 53وندرك أن حقيقته ترى في الآفاق والأنفس. القلب النظري والقلب العملي أبو يعرب المرزوقي 63 الأسماء والبيان
-- ولأشر في الختام أن قلب المربعي يمثله ابن تيمية في النظر والعقد أي في نظرية المعرفة النافية للمطابقة تمثيل ابن خلدون له في العمل والشرع في نظرية القيمة النافية للمطابقة بنفس التعليل أي بعدم اتصاف علم الإنسان وعمله بالإحاطة والإطلاق .وتلك هي علة انشغالي بفكرهما عامة وبمنزلة المعاني الكلية في رسالتي للدكتورا في النظام القديم بجزئيها أي الكلي في الفلسفة جزئها النظري وإصلاح العقل في جزئها التطبيقي على رؤية ابن تيمية وابن خلدون بالمقارنة مع رؤية ارسطو في النظر والعقد ورؤية أفلاطون في العمل والشرع. فالأول عالج تحريف الفلسفة النظرية والثاني عالج تحريف الفلسفة العملية في عصرهما بداية القرن الثامن وغايته وعملهما الفلسفي مجهول شرقا وغربا .وما أحاوله ليس إلا لإنصافهما ما استطعت إلى ذلك سبيلا مثلما سعيت قبل عنايتي بفكرهما إلى إنصاف أرسطو والغزالي اللذين ظلما من قراء التراث .فقراء التراث الأرسطي من أبستمولوجي الغرب كانوا يتهمونه بمعاداة الرياضيات فبينت في رسالة الحلقة الثالثة أنه كان أفضل من أفلاطون المزعوم مفكرا رياضيا Le .statut des mathématiques dans le discours scientifique d'Aristote وقراء تراث الغزالي من حداثيي العرب ما زالوا يتهمونه بمعاداة الفلسفة فبينت أنه أول فيلسوف في حضارتنا بدأ يحدث شرخا في الميتافيزيقا بالنقد الابستمولوجي Le concept de .causalité chez Ghazali والعملان كانا باللسان الفرنسي لذلك لم يقرأهما الكثير من مفكري العرب حتى بعد ترجمتهما. فالأول هو منزلة الرياضيات في خطاب أرسطو العلمي (ما يعادل )Phdوالثاني هو مفهوم السببية عند الغزالي (ما يعادل الماجستر) .لكن الأهم من الإنصاف التاريخي للرجلي هو التمهيد لفهم الثورتي النظرية والعملية في القرن الثامن الرابع عشر لدى ابن تيمية وابن خلدون .وختاما فهذان الرجلان عندما يقرآن قراءة تليق بدورهما الثوري يعيدان النظر في ما أدى إلى تحريف الأديان والفلسفات بصورة تؤدي إلى هذين المربعي .ولا عجب في ذلك :فالقراءة في الوضعية العربية الحالية تعاني من الانحطاط الذاتي ويغلب على التأصيليي والانحطاط المستورد ويغلب على التحديثيي. أبو يعرب المرزوقي 64 الأسماء والبيان
-- وذلك ما أطلقت عليه اسم التلوث الثقافي الناتج عن الكاريكاتورين التأصيلي والتحديثي وكلاهما ينخر التراثي العربي والغربي برده إلى قشوره .فالتأصيلي يتخيل التحديثي ممثلا للتراث الغربي فيحارب هذا بدلا من ذاك .والتحديث يتصور التأصيلي ممثلا للتراث العربي فيحارب هذا بدلا من ذاك .لذلك فهما صنفان من الدونكيخوتية يحاربان نواعير الطواحي ظاني أنهم فرسان تحارب فرسان .وهذه المعركة الكاريكاتورية هي التلوث الثقافي الحالي .ورغم أنها عامة في كل البلاد العربية إلا أنها بلغت الذروة في مصر السيسي .من يسمع الشناعات التي يصحبها في الغالب أضخم الألقاب يصيبه الذهول .فما أيسر استعمال أفعل التفضيل .والرمز القاطع هو طب الكفتة لدكاترة الفيلسوف السيسي الذي يريد من الشعب المصري ألا يسمع إلا له بس :التلوث. تدارك قبل الكلام في المرجعية تجاوزت الحد المقبول في هذا الفصل ولم أعالج إلا النصف .ذلك أن أهم مسألتي يطرحهما مفهوم الإنسانية عامة ومعضلاته .لذلك فالفصل الخامس سيتواصل في جزء ثان يعادله كما إن شاء الله: فالمسألة الأولى هي مسألة التلاوم الدائم بي الفرد الإنساني والله وبي الجماعة والعالم .فهذان البعدان من معضلات الإنسانية هما مضمون كل دين وكل فلسفة ويتعينان في كيان أي فرد وأي جماعة وفي القرآن الكريم. والمسألة الثانية هي مفارقة الكلام على الإنسانية وكأنها لا تتألف إلا من الرجال وغابت المرأة تماما وهو ما ينافي حضورها في كيان أي فرد وأي جماعة وفي القرآن الكريم. أبو يعرب المرزوقي 65 الأسماء والبيان
-- تجنبا للإطالة في الفصل السادس لجأت إلى هذه الإضافة التي تشبه ضميمة حتى أواصل التأملات في قسمها قبل الأخير حول ما به نشير إلى ما نعتقده \"طبيعة\" القرآن الكريم لتكون رؤيتنا لنص القرآن رؤية نسقية تتعامل مع بنيته العميقة ونظامه الذي يبي أنه نظام ديني وفلسفي في آن رغم التقابل العلاجي فيهما .فهو ديني لأنه ينتهي إلى النظر والعقد (الكلام والعقائد) من مدخل العمل والشرع (الفقه والشرائع) بخلاف الفلسفي الذي ينتهي إلى العمل والشرع (الفلسفة العملية) من مدخل النظر والعقد (الفلسفة النظرية) .وقد كانت خاتمة الفصل السادس حول القرآن الإشارة إلى الوجهي التاليي .وغاية هذه الضميمة استكمال تحديد \"طبيعة\" النص القرآني: • الوجه الأول :تفكيك نقدي لما يترتب على التجارب الدينية السابقة المحرفة في فلسفة التاريخ. • الوجه الثاني :استراتيجية التوحيد التي هي موضوع \"الجلي في التفسير الفلسفي». أسلوب العلاج القرآني: لكن تحديد الطبيعة يقتضي كذلك تحديد أسلوب القرآن في العلاج الساعي لتحقيق هذين الوجهي بوصف الأول ملتفتا إلى الماضي بهدف تخليص سياسة عالم الشهادة مما قطع صلتها بالمثل العليا التي تمثلها سياسة عالم الغيب والثاني ملتفتا إلى المستقبل لإعادة هذه الصلة وباعتبار دور الأول في الثاني ودور الثاني في الأول ليكون القرآن بذلك كما وصفنا هو بدروه علاجا يستعمل منهجي: الأول علمي وظيفته العلاج النسقي لموضوعه ككل علم وهو المنهج المفهومي أو منهج المثل .فالعلم لا يدرس ما يسميه الحداثيون الواقع كما يظهر بل هو يدرس بينة مجردة هي علة ما يجري فيه بنظام هو سر كيانه :لذلك فمضمون العلم ليس وصف «الواقع» بل اكتشاف البنية العميقة التي تجعله يقع بنظام هو علة وقوعه كما يقع وهو إذن بنية مثالية. أبو يعرب المرزوقي 66 الأسماء والبيان
-- الثاني تعليمي وظيفته تبليغ ما يصل إليه المنهج الأول من الحقائق إلى المخاطبي وهو المنهج التمثيلي ومنه ضرب الأمثال .وعندئذ ننتقل من منهج اكتشاف البنى المجردة إلى تبليغها بأمثلة معينة .وذلك هو الفرق بي دور مبدع النظرية وبي معلمها. وهذا هو سر الخلط الذي جعل علماء الملة لا يرون من القرآن إلى القسم الثاني فصار التمثيل عي الممثل له وأصبحت علوم ا لملة كلها تعتبر الأصبع المشيرة للأعيان الممثلة وكأنها علم لكأن طالبا يخلط بي الأمثلة التي يضربها المعلم لشرح المفهومات المجردة وهذه المفهومات فتصبح الامثلة هي العلم .وإذا أخرجته منها يصبح أصم أبكم وأعمى لا يعقل. والمنهج الأول يتلقى المخاطب به رسائله العلمية بالتحليل المفهومي .والمنهج الثاني يتلقى المخاطب رسائله التعليمية بالتأويل التطبيقي .ثم إن القرآن لا يقدم مضمونا علميا جاهزا بل يقدم علاجات للمضامي من خلال تحليل عمل أجهزة الإنسان ي تمكنه من الوصول إليها ويوجهه الوجهة التي تساعده على اكتشافها لكأننا أمام منهجية تعليم التعلم لا منهجية تعليم المعلومات. فما يوجد فيه من حق ليس إذن مضامي معرفية تفصيلية بل أسس كل معرفة وخاصة توجيه المكلف إلى شرط القيام بما كلف به خلقيا (الاستخلاف في الأرض) ومعرفيا (الاستعمار في الأرض) .هو يوجه المخاطب للبحث عن الحقيقة في مجالي متواصلي: • الآفاق التي هي ما يحيط بالإنسان وهي الطبيعة والتاريخ. • والأنفس التي هي كيان الإنسان الطبيعي والتاريخي متحدين فيه. فبي أن القصد بالآفاق العالم الطبيعي أولا أو عالم الضرورة (مجال الربوبية بالمفهوم الديني) ومنه كيان الإنسان العضوي لأنه جزء من العالم الطبيعي بهذا المعنى وله نفس الأحياز كما بينا. والقصد بها ثانيا عالم الحرية (مجال الألوهية بالمفهوم الديني) ومنه كيان الإنسان الروحي لأنه جزء من العلام التاريخي. أما القصد بالأنفس فيجمع بي العالمي الطبيعي والتاريخي متحدين في كيان الإنسان وهو عالم الحرية الخلقية المتفاعلة مع الضرورة الطبيعية .فكيان الإنسان عضوي لأنه جزء من العالم الطبيعي ولكنه ذو كيان روحي كذلك لأنه جزء من العالم التاريخي أي مما تضيفه الإنسانية أبو يعرب المرزوقي 67 الأسماء والبيان
-- للعالم الطبيعي خلال استعمارها في الارض بقيم الاستخلاف عندما تكون سياسة عالم الشهادة مشدودة إلى عالم الغيب أو بدونها عندما تنقطع هذه الصلة وذلك هو جوهر التحريف بالمعنى القرآني. وبهذا المعنى فللإنسان نفس الأبعاد التي للآفاق التي هي طبيعية وتاريخية متعينة في هذه الأحياز الخمسة أي المكان والزمان وثمرة تفاعلهما المادية (الثروة) والرمزية (التراث) والمرجعية الجامعة بينها أربعتها وكل ذلك لأن الإنسان مستعمر فيها ومستخلف في الرؤية القرآنية للإنسان وتلك هي الانثروبولوجيا القرآنية. والتوجيه القرآن إلى العالمي وإلى الانفس إشاري بمعنى أنه لا يكشف حقائقهما التفصيلية بل هو يكشف ما يعرفها به بالإضافة إلى تجهيز الإنسان للتعامل مع الطبيعة ومع التاريخ خارجه ومعهما في ذاته التجهيز الذي يمكن للإنسان بفضله أن يدركها ويكتشفها قواني الآفاق وسننهما فيها وفي ذاته: .1فتوجيه القرآن للإنسان إلى الطبيعة يقتصر على الإشارة إلى فكرتي هما معنى الخلق بقدر وأصل معرفته المدارك العقلية والحسية التي تبحث عن النظام الطبيعي الذي هو عي قواني الخلق بقدر. .2والتوجيه القرآني إلى التاريخ يقتصر على الإشارة إلى فكرتي هما معنى الامر بسنن وأصل معرفته المدارك العقلية والحسية التي تبحث عن النظام السياسي الذي هو عي سنن الأمر بسنن. وإذن فالقرآن خطاب من القوة الثانية يوجه جهد الإنسان ولا يعوضه بأن يمده بثمرات ما كلف به جاهزا بل هو يوجهه إلى ما جهزه به خالقه من شروط استعماره في الأرض علميا وهو موضوع التوجيه الأول وعمليا وهو موضوع التوجيه الثاني أعي ما هو ضروري للعلاقة بالعالم الطبيعي أي الاستعمار في الأرض وما هو ضروري للعلاقة بالعالم التاريخي أي الاستخلاف فيها .وبذلك يجتمع التوجيه إلى ضرورة المعرفة وضرورة القيمة .ولما كان العالمان متفاعلي في الاتجاهي من الطبيعة أبو يعرب المرزوقي 68 الأسماء والبيان
-- إلى التاريخ ومن التاريخ إلى الطبيعة وكانت الأنفس تتضمن هذين البعدين وتفاعليهما فإن توجيه الإنسان مضاعف: .1إلى البحث العلمي وثمرته في العالم الأول (الطبيعة) وهو ما يمكنه من شروط استمداد شروط الاستعمار في الأرض. .2إلى البحث العملي وثمرته في العالم الثاني (التاريخ) وهو ما يمكنه من شروط الاستخلاف فيها. والتوجيه القرآني لا يكتفي بالتوجيه للشروط ولا بالاعتبار أي ببيان ثمرة البحث في الآفاق وفي الأنفس بل هو في آن يؤسس على ذلك كل الادلة التي يستعملها القرآن لأثبات العلاقة بي الاستعمار والاستخلاف في سياسة عالم الشهادة وما يناظرهما في سياسة عالم الغيب التي تعلل تجهيز الإنسان وتسخير العالم لقيامه بتلكما المهمتي. وبذلك فهو يتعامل مع كيانه الطبيعي مثل تعامله مع الطبيعة ويتعامل مع كيانه الروحي مثل تعامله مع التاريخ .والتشارط بي العلم والعمل هو عي التشارط بي العالمي وعي التشارط بي منزلتي الإنسان من حيث هو مستعمر في الأرض ومن حيث هو مستخلف فيها .وذلك هو مضمون الرسالة القرآنية بوصفها استراتيجية توحيد وتأطير للعلاقة بالعالمي بتوسط العلم والعمل اللذين يطلبان بالبحث العلمي والعملي في ظواهرهما لمعرفة قوانينهما. لكن الرسالة ليست ذات اتجاه واحد من الله مرسلا إلى الإنسان مرسلا إليه بل هي كذلك رد من الإنسان مرسلا إلى الله مرسلا إليه من حيث وجهي وجوده مستعمرا ومستخلفا .لذلك فالقرآن حوار دائم بي الله والإنسان دون حصر الحوار بي الله ومن اصطفاهم ليكونوا نماذج إنسانية وإلا لاستحال ختم الوحي كما يتوهم التشيع الذي يعتبره متصلا في من يسميهم الأيمة المعصومي .وما يثبت ذلك حتى مع وجود الأنبياء والرسل ظاهرة قلما اهتم بها علماء الملة وهي من العجائب فيها: كلما جاء رسول لاحظنا تدخل إنسان صالح ليس رسولا ينصح باتباعه والمثال الأقصى في ذلك الرجل الصالح الذي جعله كذب المتصوفي الخذر وهو إنسان عادي لا هو نبي ولا هو متصوف بل من جنس «وجاء رجل يسعى » في يس. أبو يعرب المرزوقي 69 الأسماء والبيان
-- وإذن فالعلاقة المباشرة بي الله والإنسان ليست مقصورة على الاصطفاء لأنها مع آدم الذي استخلفت معه الإنسانية كلها وخاصة منذ أن أخذهم الله من ظهور آبائهم واشهدهم على أنفسهم. لكن هذه العلاقة المباشرة والتي نراها في الحوار بي الله والإنسان في القرآن يقرأه البعض تبدو وكأنها علاقة بي عبد آبق (الإنسان) وسيد مستبد (الله) في حي أنها علاقة بي إرادتي حرتي إحداهما مستخلِفة والثانية مستخ َلفة. نعم يبدو الحوار في فهم البعض وكأنه علاقة عدائية بي حريتي غير متلائمتي كل منهما تحمل الآخر الشر الموجود في العالمي الطبيعي والتاريخي .ويقرأه البعض الآخر وكأنه علاقة بي متعلم عنيد ومعلم رحيم يحاول إخراج المتعلم من هذه القراءة الأولى ليمكنه من أن يكون سيدا بحق أي ليمكنه من شروط الحرية التي هي علة التكليف حتى يصير بحق عي حقيقته :الحرية هي إذن في التحرر من كل الأوثان وعبادة رب الكيان. المشترك بي الدين والفلسفة وينبغي الإشارة إلى أن كلامنا على الفلسفة اقتصر على الخطاب الفلسفي الخالص ولم نلحق به العلوم لأن هذه لم تصبح علوما إلا بفضل الاستقلال عن الوجه المتجاوز للمعلوم في الفلسفة .وما يتجاوز به الديني والفلسفي المعرفي والقيم واحد .وهو عي ما ذكرنا عندما ما ميزنا بي الوعي الإدراكي من حيث هو شرط كل علم وكل عمل ومصاحب لهما مصاحبة الشرط للمشروط وبي المعرفة والقيمة المتعلقتي بمضمون محدد يصبح علما وعملا إذا اتسق وانتقل من مجرد التلقي للمعلومات والقيم إلى صائغ لهما بصورة تجعل جزئياتهما تستنبط مما وضع العقل لهما من مبادئ قليلة هي عللها منطقيا محاكية لعللها وجوديا. لذلك فينبغي ألا يكون كلامنا على المشترك الديني والفلسفي حائلا دون فصل ما يقوله العلم والعمل في القضايا التي نعالجها هنا لأنها ليست مطلوبنا المباشر بل هي ما قد يترتب على ما أبو يعرب المرزوقي 70 الأسماء والبيان
-- نعرضه من عناصر مقومة لهذا البعد القبلي والمتقدم على المعرفة العلمية والقيم العملية لكونهما شارطي لهما. وهذا العنصر الشارط للمعرفة وللعمل هو الحل الذي انطلق منه ابن تيمية في \"الدرء\" لدحض نظرية التعارض بي النقل والعقل ردا على قانون التأويل الذي عممه الرازي تقديما لما يظنه عقلا على ما يظنه نقلا حال التعارض. ذلك أن هذه القدرة الشارطة لكل معرفة ولكل قيمة لا بد منها شرطا في المعرفة والقيمة المضمونيتي سواء كانتا نقليتي أو عقليتي .ولا معنى حينها للتعارض لأن النقل والعقل كليهما بحاجة إلى نفس القدرة المشروطة فيهما كليتهما معرفة وقيمة .ومعنى ذلك أن التعارض إن صادف فحصل لا يتعلق بهما لأنهما قدرة صورية بل بما تتوصلان إليه من مضمونات .ولما كان العقلي نفسه له مضمون نقلي معرفيا كان أو قيميا حتى في الشاهد من الوجود فالمقابلة سخيفة .لكن هذه المضمونات في الدين متجاوزة لما في الفلسفة بما تضعه من معرفة سلبية من وجهي بات أفق الدين المعرفي والقيمي وحتى الفلسفي أوسع من أفق الفلسفة التي تدعي العقلانية على الأقل قبل أن تصل إلى المرحلة النقدية: .1فالدين يضيف إلى الشاهد من الوجود بعدا غير شاهد أو غيبيا وهو ما يجعله يحد من دعاوى الشفافية المطلقة للوجود والقدرة المطلقة للعقل. .2والفلسفة لم تصل إلى هذا التمييز إلا بعد أن تجاوزت العقلانية الساذجة فتحررت من وهمي الشفافية الوجودية والقدرة العقلية المطلقة. فقد كانت العقلانية الساذجة تتصور العقل مرآة مطلقة ينعكس عليها الوجود الشاهد بإطلاق. ومن هنا القول بنظرية المعرفة التي تدرك الحقيقة المطابقة لكأن علم الإنسان علم محيط .وكان الفلاسفة يتصورون القصور المعرفي والقيمي إن حصل ناتجا عن منهج الباحث وليس بسبب الوجود المحجوب. وعدم الوصول إلى الموقف النقدي في الفكر الفلسفي هو الذي يفسر الموقف الأول الذي سميناه علاقة بي عبد آبق وسيد مستبد. أبو يعرب المرزوقي 71 الأسماء والبيان
-- وهو المنطلق لكل إلحاد بينا أنه موقف مستحيل لأنه في حقيقته-إذا كان صاحبه صادقا -شبه تحرر من هذه الصورة بنفي وجود الله وتحول العبد الآبق إلى سيد مستبد مرحلة أولى هي الغالبة على كل السذج من الملحدين الذين يم يتحرروا من الإلحاد البدائي. وجها الإشكالية وهذا كاف لأننا تكلمنا على التناظر الأول بي الفرد والله وكذلك على التناظر الثاني بي الجماعة والعالم .ومن ثم فلن نعود إلى الحوار بي الله والإنسان في القرآن وسنكتفي بالكلام على الوجهي الواردين في خاتمة الفصل السادس واللذين ذكرنا بهما في بداية هذا الاستدراك عليه: • الوجه الأول :تفكيك نقدي لما يترتب على التجارب الدينية السابقة المحرفة في فلسفة التاريخ. • الوجه الثاني :استراتيجية التوحيد التي هي موضوع \"الجلي في التفسير الفلسفي». لكننا سنتكلم في غاية هذا الاستدراك وختما للكلام على القرآن الكريم واستراتيجيته التوحيدية على هذا النوع الفريد من التعليم القرآني الذي يترك الاكتشاف العلمي للعقل الإنساني ولا يقدم حقائق نهائية تحول دون الاجتهاد العلمي فيكون تعليما يعلم الإنسان كيف يتعلم ولا يقدم له المعلومات التي يمكن أن يصل إليها خلال بحثه العلمي. فقد عرف ذلك الغزالي في مقدمات التهافت عندما قارن تخريفات ما يشبه دعاوى الإعجاز العلمي فقال قولته الشهيرة :الدين يكفيه أن يعلم أن العالم الطبيعي (الفلك) مخلوق أما عدد طبقاته وكيفية عملها فلا يختلف عن عدد طبقات البصل وحبات الرمان وهي مجال البحث العلمي الإنساني. أبو يعرب المرزوقي 72 الأسماء والبيان
-- الوجه الأول :التفكيك النقدي للتح ريف ولما يترتب عليه للكلام على هذا التحريف ينبغي أن نميز عليه بصورة عامة ثم على أهم تجربتي هما بؤرة النقد في القرآن الكريم .فأما التحريف بصورة عامة فهو موضوع السور التي اعتبرها النبي قد شيبت رأسه أي هود وأخواتها .وسأكتفي بهود .ففيها سبعة انبياء يدور الكلام عليهما ونبي مخاطب هو الرسول الخاتم ونبيان مضمران هما بداية تصوير الإنسان وغايته أي آدم وعيسى عليهما السلام. وإذن فالسورة تتكلم على أحد عشر نبيا (سبعة بالاسم والثامن هو المخاطب والإثنان الآخران يمثلان بداية تصوير الإنسان وغايته) خاتمهم المخاطب في السورة (الرسول الأكرم) لا يدعي الإتيان بدين جديد بل هو يذكر بالدين الفطري ويعالج تحريف التجارب السابقة التي تتضمن نفس الدين لكنها حرفت. والمضمر في السورة لم تتكلم عليه بل هي تفترضه خلفية للكلام على الإنسان الذي هو ليس عبدا آبقا لسيد مستبد بل خليفة مستعمر في الأرض وما يطرأ على تصويره التام بداية (آدم) وغاية (عيسى) من تحريفات جاء الإسلام الفطري ليحرره منها .ومن ثم فبلغة سورة العصر يمكن القول إن التحريف هو الخسر الذي لا يخرج الإنسانية منه إلا الشروط الخمسة التي وضعتها السورة: الوعي بالخسر وبالحاجة إلى الاستثناء منه. • شرطا الخروج الفردي :الإيمان والعمل الصالح. • شرطا الخروج الجمعي :التواصي بالحق والتواصي بالصبر. وطبعا فالشرطان الأخيران ممتنعان من دون الشرطي الأولي والأصل الذي هو الشرط الأول الذي تتفرع عنه الشروط الاربعة .كما أن الشرطي الأولي ممتنعان من دون الشرطي الأخيرين والشرط الأصل .ومن ثم فالشروط الخمسة متلازمة طردا وعكسا. أبو يعرب المرزوقي 73 الأسماء والبيان
-- ولهذه العلة اعتبر الشافعي سورة العصر متضمنة للقرآن كله لأنها عي رسالته ملخصة خاصة إذا فهمنا أن الخسر هو التحريف لأن إمكانية الاستثناء منه تعني أن الأصل المتقدم عليه هو \"خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلي\". والآن فلننظر في بنية سورة هود: • القلب منها إبراهيم عليه السلام. • وقبله ثلاثة تجارب حرفت. • وبعده ثلاثة حرفت. ولا تفهم التجارب الثلاث الأولى الغامضة إلا بالثلاث الأخيرة .فلو قرأنا نوحا بموسى وهودا بشعيب وصالحا بلوط لفهمنا الأمر الذي شيب رأس الخاتم .فالرسالات الثلاث الأولى ملغزة ويعسر فهم القصد منها لأنها لا تحدد بالدقة التامة مضمون رسالة نوح وهود وصالح. لكن الرسالات الثلاث الأخيرة بينة المضمون لأن المشكل مع لوط يتعلق بفساد العلاقة الجنسية والمشكل مع شعيب بالعلاقة الاقتصادية والمشكل مع موسى بالشرعية التي تحرر البشر من عبودية الاستبداد والفساد .فيكون موسى ذا صلة بنوح (دور الماء) وشعيب بهود (دور الاقتصاد) ولوط بصالح (شرط بقاء النوع). وبذلك نفهم دور إبراهيم الذي يوجد في قلب المعادلة .فهو يمثل مرجعية النقد وطبيعة التحريف موضوع النقد الخاتم .ذلك أن الإصلاح الديني المحمدي سيكون بالتحرر من عبادة الطبيعية (الأفلاك التي حاورها إبراهيم) بالعودة إلى مسألة التوحيد (ما انتهى إليه حوار إبراهيم). لذلك كانت البشرى التي عجبت منها زوجته :إنها البشرى بالرسالة المحمدية التي تنقد التحريفات هذه وتحقق الصلح. أما لماذا ذكرت المضمر (آدم وعيسى) واعتبرته خلفية القصة كلها فلأن نقد التحريف الذي مثل بؤرة النقد القرآني وما يرد إليه هذا التحريف العام الخاص بالجنس والاقتصاد وبالاستبداد والعبودية تمثل خاصة في الزوجي الاثني التاليي: أبو يعرب المرزوقي 74 الأسماء والبيان
-- • تحريف دين عيسى في المسيحية بالقياس إلى دين آدم :مسألة الجنس والخطيئة الموروثة. • تحريف دين موسى في اليهودية بالقياس إلى دين نوح :مسألة العنصرية وعبادة العجل. وحتى لا أطيل فإن اعتبار ما حصل لآدم في الجنة بحسب الأمثولة الرمزية خطيئة موروثة ولعنة دائمة يتنافى مع ما جاء في القرآن من أن آدم تلقى كلمات فأتهمن فاجتباه ربه وعفا عنه .وهذا التحريف الأول هو الذي كان نقده ثورة الإسلام الكبرى :تحرير الجنس من هذه اللعنة بل ورفعه إلى منزلة لا يسمو عليها في الآخرة إلا رؤية وجه الله. وحتى لا أطيل كذلك فإن ما قام به نوح في الطوفان كان انقاذ كل الخليقة لتحريرها من الطبيعة وإعادة استنباتها بفعل الإنسان المستعمر في الأرض والمستخلف فيها ينافيه حصر قصة إخراج موسى لأهله من كونها تحريرا للمستضعفي إلى قضية عنصرية بي شعب مختار وجوهيم تنتهي بعبادة العجل أي اعتبار المال هو الرب وهو رمز عبادة الدنيا .ولهذا جاء رمز ذبح البقرة التي هي الدنيا ومصر العجل الذهبي لأنها مرضعته لإنقاذ الميت لإخراج البشرية من عبادة الدنيا بل الاستخلاف فيها. الوجه الثاني :استراتيجية التوحيد\" :الجلي في التفسير\" سورة هود بقلبها الذي يمثله إبراهيم والبشرى التي جاءت لزوجته التي عجبت إشارة لطيفة لمجدد الحنيفية أي الرسول الخاتم .فهذا التجديد حصل في أرض عقيم لم يكن أحد يتوقع أنها يمكن أن تنجب الرسالة الخاتمة التي تحقق كل هذه المعجزات في نقد التحريف وما يترتب عليه في حياة البشر من خلال تحقيق ثورتي: • أولاهما تحرر الإنسان من الخطيئة الموروثة التي هي التحريف الأساسي في الدين المسيحي ومنه سلطة الشفيع ونائبته الكنيسة التي تمثل السلطان الروحي المستعبد للإنسان بصفتها وسيطا بينه وبي ربه في رزقه الروحي. أبو يعرب المرزوقي 75 الأسماء والبيان
-- • والثانية تحرر الإنسان من العنصرية الموروثة التي هي التحريف الأساسي في الدين اليهودي ومنه سلطة العجل الذهبي ونائبه الربا الذي يمثل السلطان المادي المستعبد للإنسان بصفته وسيطا بي وبي ربه في رزقه المادي. تلكما هما ثورتا القرآن الكريم ولا يمكن تحقيقهما من دون فلسفة التوحيد في المستويات الخمسة التي درسناها في هذه التأملات في الفرد بداية وفي الله غاية وبي البداية والغاية نجد الجماعة والعالم وفي القلب الإنسانية من حيث هي مستعمرة في الأرض ومستخلفة فيها. أسلوب القرآن التعليمي ونختم البحث في هذا الاستدراك بالكلام على أسلوب القرآن التعليمي وهو الأسلوب الذي جعلنا الآيتي المحددتي له شعار الجلي في التفسير :إنهما الآيتان 105و 106من سورة الإسراء التي هي بالذات سورة التقاطع بي فلسفة الدين وفلسفة التاريخ: فهي ترمز إلى فلسفة الدين بالمعراج. وهي ترمز إلى فلسفة التاريخ بالكرتي .والآيتان تتعلقان بأسلوب القرآن التعليمي بالنماذج التحليلية اعتمادا على المثل (تحديد الحقائق) وعلى بالنماذج التأويلية اعتمادا على الأمثال (ترميز المعاني) وهما تتعلقان بمضمون القرآن ومنهجه وطبيعة نزوله وطبيعة تنزيله وعلاقة التعليم النبوي أو السنة به: «وبالحق أنزلناه وبالحق نزل .وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا» (.)105 «وقرأنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا\" (.)106 فالمنزل حق وطريق الإنزال حق .ووظيفة الرسول التبشير والانذار. وطريقة التعليم من الله للنبي التنجيم .والغاية القراءة على مكث. أبو يعرب المرزوقي 76 الأسماء والبيان
-- وطبيعة العلاقة بي فلسفة الدين وفلسفة التاريخ تجعل التاريخ أعيان النوازل الممثلة لحقائق الوجود التي ينزل عليها القرآن لتحديد دلالتها ومعناها الـأخروي .فتكون العلاقة بي التاريخي والديني علاقة الأعيان بكلياتها المتعالية عليها. لكن الإسراء له الدلالتان التي تحددها فلسفة الدين وفلسفة التاريخ .فمن حيث فلسفة الدين عودة الرسول الخاتم إلى حقيقة الرسول الفاتح :فهو في صعوده من الدنيا إلى السماء (قصة المعراج) يرمز إلى المسار المقابل لنزول الرسالات عودة للمرجع الأول حتى يكون نقد التحريف مستندا إلى مرجعية أصل يتجاوز الأحياز في واقعها لإعادتها إلى واجبها أعني نظام المكان والزمان وثمرتيهما ومرجعيتها أربعة لتخليصها من التحريف .وإصلاح التحريف ليس مسألة مفهومية فحسب بل هو معركة تاريخية مع التحريفي .لذلك كان لا بد أن يحصل الحسم حيث تعي التحريفان وعلى النحو الذي حدده القرآن: • القدس خاصة وفلسطي عامة. • وذلك هو موضوع الكرتي. ونحن الآن على أبواب الكرة الثانية إذ لا يمكن أن يكون ما يجري حاليا في الإقليم وليد الصدف فالتحريفان الصفوي والصهيوني ماثلان للعي المجردة ومن لا يستطيع فهم ذلك ليس إلا ممن يتصور سياسة عالم الشهادة قابلة للفهم من دون ما يشدها إلى عالم الغيب. أبو يعرب المرزوقي 77 الأسماء والبيان
- وصلنا الآن إلى غاية التأملات الفلسفية للتحرر من التحريفي الديني والفلسفي لندرس مسألة \"المرجعية\" ما معناها؟ ولماذا يمكن اعتبارها ملتقى فلسفة الدين بفلسفة التاريخ تعيينا لبعدي الإنسان؟ فـما القصد بتعيي بعدي الإنسان؟ إن بعدي الإنسان الوجودين هما واقع وواجب أو موجود ومنشود: • والأول هو استعماره في الأرض. • والثاني هو استخلافه فيها بوعي أو بغير وعي. والتعيي هو الذي يجعل هذين البعدين يتحيزان في الأحياز الخمسة (المكان والزمان وثمرة تفاعليهما في الاتجاهي من المكان إلى الزمان أو الثروة ومن الزمان إلى المكان أو التراث) تعينا يحدد الخصوصيات التي تميز حضارة عن غيرها بهوية مختلفة سواء تساوقت الحضارات في المكان أو توالت في الزمان دون أن تكون المعاني الكلية التي تشير إليها أو ترمز لها مقومة لها تقويما يلغي هذا الكوني المتعالي على الخصوصيات. مستويا المرجعية فالمرجعية ذات أصل كوني من حيث الطبيعة لأنها مضمون بعدي الإنسان من حيث هو إنسان .إنها كلي موجوده أو الاستعمار في الأرض أو سياسة الإنسان لعالم الشهادة وهي كلي منشوده أو الاستخلاف فيها من حيث هو انشداد سياسة الإنسان لعالم الشهادة إلى سياسة الله لعالم الغيب. أبو يعرب المرزوقي 78 الأسماء والبيان
- والمرجعيات كلها حتى العلمانية منها لا تخرج عن ذلك لأن ما تشد إليها سياستها لعالم الشهادة هو ما تنسبه إلى الطبيعة وضرورتها مما يجانس ما ينسبه الدين إلى ربها وحريته .فلا فرق بي وضع إله وراء الطبيعة وبي تأليهها إلى كالفرق بي المفارقة والمحايثة وبي اعتبار المبدأ حرا أو اعتباره مضطرا .وليس لأي من الموقفي ما يثبته عقلا بل هو مجرد معتقد. لكن تعينها متعدد بحسب الاندراج في الأحياز مكانا وثمرة (الثروة) وزمانا وثمرة (التراث) ومرجعية وبحسب النسبة بي البعدين .وهذه المرجعية هي تحييز خاص للمكوني الكليي .فكيف يتم التحييز والتناسب بي المكوني الكليي في الأحياز الخمسة وما دور المرجعية في تحقيق \"لحمة\" خاصة تتوسط بي الإنسان من حيث هو فرد وجماعة والإنسانية من حيث هي نوع (النساء )1؟ فهي وجوديا ودينيا (في النساء )1علاقة مستوى الربوبية بمستوى الألوهية وعلاقة مستوى الرحم الكوني (وحدة الإنسانية) بمستوى الرحم الجزئي (وحدة جماعة معينة) وتعيير الثاني بالأول. والمرجعية تتعي بصورة أدق في هوية حضارية تتحول بتدرج إلى هوية شبه عضوية بما يحصل من تقارب في الخاصيات العضوية والسيماء المميزة للجماعة صفات عضوية متماثلة؟ ولعل المثال البي لهذا التحول من الحضاري إلى العضوي بسبب التزاوج الداخلي وقلة الاختلاط بالشعوب المجاورة لمدة طويلة هو حضارة الرجل الاصفر .فيتفاعل الحضاري والعضوي (التزاوج الداخلي) والمناخي وما يستمد من الجغرافي (الغذاء المتماثل) وعدم الاختلاط وطول التاريخ ليحقق هوية شبه تامة .وهذا التماثل العضوي مناقض لما ينبغي أن يكون بمقتضى ما أشرنا إليه بدلالة الآية الأولى من النساء لأنه قد ينتج مبررات للعنصرية باستدلال عضواني زائف .ولكن هذه الحالة القصوى قلما تتحقق وخاصة إذا كان تاريخ الجماعة قصيرا ومفتوحا على الجماعات الاخرى فتصبح فكرة في الأذهان لا حقيقة لها في الأعيان كما يرى ابن خلدون مسألة النسب (فوق أربعة أجيال وهمية). أبو يعرب المرزوقي 79 الأسماء والبيان
- طبيعة فعل نقيض المرجعية وبذلك نصل إلى طبيعة فعل المرجعية بما هي فكرة في الأذهان عن الهوية وبما هي حقيقة في الأعيان بوصفها كيانا حضاريا متميزا بما حققه في أحيازه .وقبل أن أواصل الكلام في المرجعية وضروب فعلها فلأبدأ بالكلام على نقيضها ممثلا بالحرب عليها كما تصديت لبعض ممثليها خلال العقود الثلاثة الماضية بضرب مثالي منهم كلاهما متعالم وهو أقرب إلى العامة منه إلى الخاصة التي يزعم الانتساب إليها .وسأذكر اسميهما نموذجي لسطحية الناقدين للإسلام على جهل بالحضارتي الإسلامية والغربية .فقد رددت عليهمـا الأول باطني هو نضال نعيشه وموقفه من الإسلام باعتباره دين أعراب قائده جلف يسمى محمد هدم جيشه حضارة الشام .فيكون عنده لا فرق بي جنكيز خان ومحمد. والثاني هو رئيس عصابتي العلمانية المغاربية والمشارقية التي تدعي نقد الدين الإسلامي بما تزعمه من علم لا يتجاوز سطحيات الفلسفة الغربية وكلهم لا صلة لهم بالفلسفة :أركون ومدرسته. فهما نوعان مغربي يمثله قائد \"الحركيي\" أركون وتلاميذه خاصة في مدرسة الحضارة في تونس ومشرقي يمثله أبوزيد ومدرسة التأويلية الماركسية الساذجة .واليوم نسمع بعض بقايا الصليبية في لبنان ويمثلها الأخرق جوزاف أبو فضل ومسخ الجنرال دوجول وفي مصر عتاة الاقباط في الولايات المتحدة كأبي خليل .كما صادف أن رددت على سيدة مهوسة بحرب على الإسلام بعد تحولها إلى المسيحية \"هدى سلطان\" من الشام وهي تدعي التفسير النفسي لما تسميه عقد المسلمي وتنسى تطبيقه على نفسها. وأخيرا فكل القوميي سواء ادعوا القومية العربية أو الأمازيغية أو الكردية إلخ ..ينتسبون إلى تيار الحرب على المرجعية ببدائل استعمارية خالصة ليسوا هم إلا أبواقها .وهي كلها بدائل رجعية مرتي :فهي تعود إلى ما قبل المرجعية المشتركة -الحضارة الاسلامية-وإلى ما تتصوره قد جبها أي الإرث الاستعماري تبني عليه .وتلك هي علة فشل كل الدويلات التي تدعي القومية في تاريخنا أبو يعرب المرزوقي 80 الأسماء والبيان
- المعاصر لأنها جميعا تدعي ما لا أساس له في المرجعية ومن ثم فهي في الحقيقة طائفية .وذلك هو معنى طابعها الرجعي مرتي :نكوص إلى ما دون المرجعية الروحية (العرق والطائفة) واستناد إلى هوية استعمارية وليست تعبيرا عن حرية وسيادة. وقبل الغوص في لطائف المرجعية فلأختم الكلام على هؤلاء الذين يحاربون المرجعية بفكر وصفته بكونه لا علاقة له بالفلسفة فضلا عن العلم والأخلاق .فزعيم المدرستي المشرقية والمغربية (أبو زيد وأركون) وكل تلاميذهما من خريجي الآداب العربية والمعجبي بقشور الفلسفة وشعاراتهما السطحية :إنهم منتحلو صفة. الأول ضحية تخلف الماركسية (البنيتان الفوقية والتحتية) والتأويلية الخرافية (ابن عربي) والثاني ضحية مغص وسوء هضم لما بعد الحداثة والدروشة التفكيكية .أما البقية ممن ذكرت فهم أميون بإطلاق وخاصة من يحاول أن يواصل فكرهما بدعوى النقد الديني المقصور على سرد أسماء الأعلام والكتب دون قراءتها :وجميعهم لم أر أكذب منهم في انتفاخ الأوداج بما لا يعلمون. كيف تعمل المرجعية ولنعد إلى الإشكالية :كيف تعمل المرجعيات التي تتحدد بها الحضارات لتتميز بهوية هي اللحمة التي تمكن من قراءتها وفهم جميع آثارها في التاريخ؟ فما تتميز به حضارة عن حضارة وأمة عن أمة ليس عنصرا بسيطا ووحيدا بل هو شبكة متلاحمة من المقومات التي تمثل مصفوفة أفاعيل رمزية وعضوية تتحيز .وكلها من طبيعة كونية ولا تتخصص إلا بأساليب التحيز والتعي .فهي تتحيز في الأعيان وفي الأذهان بأبعادهما المخمسة. فكما رأينا فكل فرد وكل جماعة ذات أحياز خمسة هي مكانها وثمرته (الثروة) وزمانها وثمرته (التراث) والمرجعية .وبالنسبة إلى الجماعة فالمكان وثمرته والزمان وثمرته والمرجعية أمرها بي لأنها معان مأخوذة على حقيقتها .لكن بالنسبة إلى الأفراد تبدو مجازية .وهي في الحقيقة ليست أبو يعرب المرزوقي 81 الأسماء والبيان
- مجازية بل حقيقية .فمكان الفرد هو بدنه وفاعليته هي ثمرة بدنه وزمان الفرد هو عمره وفاعليته ثمرة عمره والمرجعية هي بالذات عي ذهنه أو وعي بذلك عينا للذات. والسؤال يصبح الآن بي الدلالة :فبالنسبة إلى الجماعة هو كيف تتعي حضارة ما في المكان وثمرته وفي الزمان وثمرته وفي المرجعية مقومة للهوية؟ وبالنسبة إلى الفرد من الجماعة كيف تتعي حضارته في بدنه وفي ثمرته وفي عمره وفي ثمرته وفي ما يتثمله ذهنه منها باعتبارها عي نسبه الروحي والمادي؟ تلك هي الوجوه التي تمكن من فهم الدور الذي تؤديه في بقاء الحضارات ما يجعل كل محاولات القضاء عليها هو جوهر كل حرب نفسية ومادية وهي غايتها القصوى .فكما ذكرنا سابقا يعتبر كلاوسفيتز الحرب لم تصل إلى غايتها ما ظلت روح الجماعة صامدة ولم تنهزم نهائيا فتسلم بالهزيمة وتتخلى عن المقاومة. وإذن فالمرجعية هي كائن من طبيعة مزيجة إليه ترد قوة الأمة العميقة :بايولوجية وحضارية جمعهما مجهول الطبيعة هو ما يمكن أن نسميه بروح الأمة التي تثمل طاقة وجود وحرية حية. تلك هي علة قولي إن لطائف المرجعية من أعسر المفهومات الفلسفية لأنها تجمع بي فلسفة الدين وفلسفة التاريخ أو بصورة أدق بي الروحي العضوي والرمزي الحضاري .ومن ثم فهي تراوح بي قانون التاريخ الطبيعي وقانون التاريخ الخلقي. • فالأول يغلب على بعد الإنسان الأول أو استعماره في الأرض ودور الحروب في التاريخ الإنساني. • والثاني يغلب على بعد الإنسان الثاني أو استخلافه في الأرض ودور البناء الحضاري المشدود إلى المثل العليا وتجاوز القانون الطبيعي إلى القانون الخلقي المآخي بي البشر. القرآن مرجعية كونية أبو يعرب المرزوقي 82 الأسماء والبيان
- وقوة المرجعية القرآنية تتمثل في أنها سعي ديني وسياسي لتحقيق التناغم بي القانوني الطبيعي والخلقي جمعا متوازنا بينهما شرطا للبناء الحضاري كونيا .وهما كذلك شرطا التوازن النفسي لدى الأفراد .وقد تكلمت سابقا على الثورتي أو اصلاح التحريفي المتعلقي بمسألة المرأة والجنس ومسألة العنصر والمال. فتحريف دين المسيح في مجال المرأة والجنس وتحريف دين موسى في مجال العنصر والمال هما جوهر العولمة بتخريب العلاقة الجنسية والعلاقة المعيشية في العالم .ودعوى التحرير العولمي تحولت إلى عبودية عامة :الكل صار عبد السلطان الخفي في مجالي الإنتاج الإنساني الرمزي (ثقافة التخدير) والإنتاج الإنساني المادي (اقتصاد التذهيل). • فثقافة التخدير تعتمد الجنس والعنف بما هما فرجة أو جرب أفلاطون. • وثقافة التذهيل تعتمد لامتناهي هيجل الزائف أو الجوع الأبدي الذي لا يشبع ابدا. لذلك يصبح الإنسان كما يصفه القرآن كلبا يلهث دائما سواء حملت عليه أو لم تحمل جريا وراء ضمإ جنسي لا يرتوي مصدر الفرجة البورنوجرافية وجوع مادي لا يشبع مصدر الأكل الدائم والسمنة المزمنة .وذانك هما مرضا العصر. فأجرب أفلاطون هو رمز عدم الارتواء والتلذذ بـالأم لأن الأجرب يصيبه هوس الحكاك. ولامتناهي هيجل الزائف هو تركيم المال الذي لا يتوقف والجوع الدائم .وقد جمع هيدجر هذين المرضي في مفهوم واحد يعتبره مميزا للعصر هو \"التخزين\" أو تركيم الاستعداد للامتوقع الذي هو حالة الطوارئ والخوف الدائم من النقص الممكن .وهذا التركيم الذي لا يتوقف يتحول إلى نزعة قتل الحي لتجميده وتخزينه للاطمئنان على ما يمكن أن يسد حاجة قد تحصل لتجنب اللامتوقع كمن يخزن الأكل إلى أن يفسد. وهذا هو الخوف الدائم من المستقبل الذي يعاش كماض إذ ينتقل المرء بخياله إلى لحظة حصول الحاجة التي قد لا يكون مستعدا لها فيعيش كل حياته في مصارعة العدم الممكن .وبذلك يصبح أبو يعرب المرزوقي 83 الأسماء والبيان
- هذا العدم الممكن مرض العني إذ يفقد كل طاقته الجنسية في الفرجة (العجز الجنسي) ومرض الفقير الروحي إذ يفقد كل طاقته الاقتصادية في التخزين. والفرجة والتخزين يتحولان إلى مغذيي للحاجة :فيتحولان إلى أداة للزيادة في الطلب فوق الحاجة الفعلية بخلق نقص اصطناعي هو تجارة الجنس والاحتكار .ولما كانت تجارة الجنس تنفي هوية المرأة لتجعلها بضاعة وتجارة الاحتكار تنفي هوية البضاعة لتجعلها تجارة المفقود فإنهما تمددان الروحي (المرأة) وتروحنان المادي (البضاعة) .وذلك هو جوهر الوثنية :الحرب على المرجعيات والهويات تنتهي في الغاية إلى الوثنية المطلقة التي تمدد الحي (المرأة بضاعة) وتحيي المادي (البضاعة غاية). كيف تمدد المرأة وتبضع والمرأة بعد غسل دماغها تتماهي مع هذه الصورة فتصبح لا تعيش إلا لتكون موضوع فرجة وبضاعة وتلك هي غاية النسوية التي تجعل أشرف وظائفها احقرها في عينها لأنها تتنافى مع تبضيعها وتحويلها إلى منزلة الجواري طوعا وليس كرها كان ذلك سابقا .فيكون البيت محطة الاستعداد للعرض خارجه ويفقد دوره في الحياة .ذلك أن الماكياج لا بد من محوه في ا لبيت لإراحة البشرة ولا بد من تجديده للعودة إلى العرض في الخارج .فيكون البيت لعرض القبح وليس العفوية المغنية عن الجمال الصناعي .ويكون الشارع لعرض إخفاء القبح بالتجميل التزويقي من أجل الفرجة على الفرجة (المرأة تتفرج على من يتفرج عليها) :متعة الجارية هي أن تتفرج على ما يلتذ به المتفرج عليها .ونفس الأمر بالنسبة إلى الاحتكار :لكن في الاتجاه المعاكس .فعرض قبح نقص العرض في العلن أي السوق هدفه إبراز زيادة الطلب والاستعداد لذلك في الخفاء .وللظاهرتي علاقة بينة :ذلك أن كل فنون التسويق والإشهار تنبني على استعمال جسد المرأة حاملا للشعارات التسويقية والإشهارية. أبو يعرب المرزوقي 84 الأسماء والبيان
- العلاقة بمسألة المرجعية قد يسأل القارئ المتعجل :ما علاقة هذا بمسألة المرجعية عامة والمرجعية الإسلامية خاصة؟ ذلك ما سنعود إليه في الاستدراك المكمل لهذا الفصل الأخير. أما الآن فسأمسك العنان عند هذا الحد لأن لطائف المرجعية شديدة الدقة والتشاجن .لذلك سأكتفي اليوم بما قدمت من مداخل نظرية وبعض ما يترتب عليها في الواقع الفعلي :فكريا في الحرب على المرجعية ووجوديا بسبب التحريفي حول المرأة والجنس والعنصر والمال .وعندما أعود سأتكلم على المستويي التاليي: المستوى الأول هو كيف تتعي المرجعية في أحياز الجماعة مكانها وثمرته وزمانها وثمرته والمرجعية فتتعي في ذاتها. والمستوى الثاني هو كيف تتعي المرجعية في أحياز الفرد اي في بدنه وثمرته وفي ذهنه وثمرته وفي كيانه الواعي بذاته أو مرجعيته فيتعي في ذاته. وحينئذ سنرى المقصود باللطائف لأن الحضارة لا تتعي في الأعيان فحسب بل تتعي في الأذهان فتكون في آن بيئة خارجية متناغمة تحيط بالإنسان مع بيئة داخلية تحيط بها ذات الإنسان .وهذا التناغم هو المفقود حاليا في لحظتنا الراهنة وهو سبب كل حرب أهلية لأن عدم التناظر بي البيئتي يولد نوعا من التشغيب والتنغيص قد بلغ حدا التضارب التام فيصبح وقود الحرب الأهلية. فنحن حاليا نعيش صراعا بي بيئتي مرجعيتي خارجيتي في الجماعة وبيئتي مرجعيتي داخليتي في ذات الأفراد فيكون الكل في حرب مع ذاته وغيره .وهذا المناخ المتفجر داخليا وخارجيا هو صدام مرجعيات أو حضارات وذلك هو عي ما أظهرته الثورة والحرب الأهلية التي كانت كامنة وصامتة ثم انفجرت فأصبحت اقتتالا بلا رأس ولا ذيل. أبو يعرب المرزوقي 85 الأسماء والبيان
- والمناخ المتفجر بي حديه الفرد والجماعة يتعي في بيئات الوصل بي هذين الحدين: .1الاسرة .2والمعمل .3والمدرسة .4والمعبد (المسجد عندنا) .5والنظام الحاكم وكل مؤسسات وسيطة بي الفرد والجماعة لتحقيق التناغم. فهذه البيئات الواصلة بي الفرد والجماعة هي التي أصابها نوع من الفوضى فحال دونها وتكوين الفرد تكوينا يحقق الوصل بي بيئة الأذهان وبيئة الأعيان .وبذلك يصبح مطلوبنا في الاستدراك على هذا الفصل طبيعة تحقق المرجعية في أحياز الجماعة وفي أحياز الفرد وفي ما بينهما من الأحياز الوسيطة المحققة للتناغم. ذلك أن الاسرة والمعمل (أي محل للعمل) والمدرسة (أي فضاء للتعلم) والمعبد (أي محل للتعبد والتربية الدينية) والنظام السياسي (اي محل السلطة السياسية) لها هي أيضا نفس الأحياز الخمسة .وسنبي كيف تكون الأحياز الخمسة في الأسرة وفي المعمل وفي المدرسة وفي المعبد وفي النظام الحاكم كما هي في الجماعة وفي الفرد :مكانا وثروة وزمانا وتراثا ومرجعية. وبذلك تكون الأحياز أو النظرية التي وضعناها في الجلي في التفسير هادفة لتحديد مقومات الكيان في هذه المستويات جميعا بنية جامعة بي الطبيعي والبايولوجي والرمزي والحضاري. والمرجعية هي التي توحد ذلك كله بوصفها في آن معالم رمزية عائدة على الذات عودة الوعي لدى الفرد على ذاته وذلك هو مفهوم الهوية المدركة لذاتها .واللطائف التي نعد بالكلام عليها هي ما يصل هذه المستويات بي الحدين ثم ما يجعلها تصل بي الحدين لتكون الجماعة ذات لحام روحي متعي تاريخيا. ووصف اللحام بكونه روحيا ينتج عن دوره المحيط (تصويرا للأحياز في الأعيان) والمحاط (تصوريا للأحياز في الأذهان) عي الكيان للإنسان فردا وجماعة .وذلك هو مفهوم الأمة إذا قرآناه قرآنيا أبو يعرب المرزوقي 86 الأسماء والبيان
- إذ يطبقه على الفرد (ابراهيم أمة) والجماعة (المسلمون أمة) وما بينهما من وسائط بل هو يطبقه على كل الكائنات المتلاحمة بمثل ما وصفنا (أمم أمثالكم) .وهذه اللحمة التي يقيسها الرسول على لحمة أعضاء البدن في وحدته الحية ليست عضوية بل هي روحية ورمزية وقد تصبح عضوية. إنها المرجعية الروحية والحضارية كما تتحقق في الأعيان التي هي أحياز الجماعة وكيان مؤسساتها وأفرادها تعينها في الأذهان محيطة ومحاطة في آن. وينبغي أن اختم بالقول إن كل الذين يتكلمون على نهاية الملة لا يعلمون ما وراء هذا الكلام. ذلك أن الملة هي ما يفصل الإنسان عن الحيوان وغير غير الجماعة العضوية التي لا يخلو منها حيوان .فالحي لا يقوم كفرد على الأقل بوصفه نصف كائن إذ لا بد من الزوجي ليوجد وليبقى كفرد ولكي يتجدد ويبقى كجماعة .لكن ذلك مضاعف عند الإنسان لأن ما تحققه الجماعة لكيانه العضوي لا يكفي حتى لكيانه العضوي بسبب خاصية انثروبولوجية عضوية .فالطفل الإنساني بخلاف الطفل الحيواني في ما عدا الجنس البشري لا يستطيع القيام بذاته لمدة هي أطول بأضعاف مدة بقائه في الحمل. وهي المدة الضرورية ليس لتعلمه حتى سد حاجته مما تنتجه الطبيعة وحماية ذاته بما يكون قد تطور في كيانه العضوي بل لا بد له من تعلم ما ليس لأي من الحيوانات الأخرى من قدرات عليها: لا بد له من تحصيل الخبرة التي تمر بالخاصية الترميزية أعني التراث المتعلق بالمعرفة والقيمة والأولى شرط التعامل مع الطبيعة لإيجاد ما يسد حاجاته حتى العضوية والثانية لتنظيم عمل الجماعة في تحقيق ذلك وتأسيس التواصل والتبادل :وذلك هو معنى الملة تعينا لوحدة الإنسانية في تحصيل الخبرة والتراث الذي هو توارث رمزي يصاحب التوارث العضوي .والجهل بهذه الخاصية يجعل الكلام على نهاية الملة من دلالات الجهل بشروط قيام الفرد واتصافه بما يتصف به الإنسان أعني كل المكتسب الذي لا يوفره العضوي والذي لا يكتسب إلا بالرمزي بداية وغاية: فبداية الاكتساب يتعلق بما يمكن تسميته ثقافة المعرفة وتطبيقاتها للتمكن من العلاقة العمودية بالطبيعة بما يترتب عليها من التبادل بي البشر للتعاون من أجل القيام العضوي للإنسان. أبو يعرب المرزوقي 87 الأسماء والبيان
- وغاية الاكتساب يتعلق بما يمكن تسميته ثقافة الذوق وتطبيقاتها لتتمكن من العلاقة الأفقية بالتاريخ بما يترب عليها من التواصل بي البشر للتفاهم من أجل القيام الروحي للإنسان. والجمع بي الغايتي هو عي الإنساني في كل فرد إنساني ولا قيام له من دونهما إلا إذا نكص إلى الحيوانية الصرفة بالمعنى الذي يفيده مفهوم الأخلاد إلى الأرض القرآني. أبو يعرب المرزوقي 88 الأسماء والبيان
- نواصل التأملات الفلسفية ونؤجل الاستدراك الذي وعدنا به حول القرآن الكريم لنعجل بالاستدراك حول منزلة المرأة في القرآن بعد أن درسنا منزلتها في الفلسفة .فالفلسفة تحدد منزلتها إما بتغييبا بالكلية أو بالحط من شأنها كما بينا في الغالب .فيكون الاستدراك حول منزلتها في القرآن متعلقا بحضور المرأة فيه أولا وبالرفع من منزلتها ثانيا بخلاف ما يروج من القول بمنظور يزعم فلسفيا وحداثيا يعكس ىالموقفي فيتهم الإسلام بالحط منها. وسنرى أن الحضور في القرآن مضاعف والمنزلة مضاعفة كذلك وأن أصل الحضور والمنزلة المضاعفي هو التقدم الوجودي والعضوي للأنثوي على الذكري فيه .أعني أن التقابل مع التغييب والحط الفلسفيي للمرأة بالمستويات الخمسة تقابل مطلق .فالتغييب مضاعف والحط مضاعف والأصل فلسفيا هو الإنسان اللاجنسي كما في تعريفه بكونه حيوانا عاقلا لأن الفرق الجنسي عند أرسطو مثلا فرق مادي ولا علاقة له بحقيقة الكيان التي هي صورته. فتعريف الإنسان بوصفه حيوانا ناطقا يجعل المقابلة بي الجنسي بالذكورة والأنوثة راجعة إلى مادة الإنسان لا إلى صورته .فيكون الفرق النوعي خاليا مـما في الجنس من فرق لئلا يحصل التعارض مع مبدأ وحدة الفرق النوعي .وتكون الناطقية خالية مما فيها من الحيوانية بالمفهوم الفلسفي الذي يتصور حد الإنسان وطبيعته خالية من أي دور للفرق بي الجنسي ويغيب دور المادة فيه. ويصبح الفرق الجنسي غير مقوم للإنسانية لأنه مادي لكأن الحيوان لا يبرز ما فيه إلا ما جعلته الفلسفة فرقا نوعيا أي العقل شرط الفكر مع غياب شرط الذوق وهو أهم من العقل في كيان الإنسان بل لعل العقل فرع عنه. وفي خيار الناطقية فرقا نوعيا ضمنيا على الأقل نفي لأن يكون للجنس دور في الناطقية أو رد الذوق للناطقية وحدها والتي تبدو جامعة دون محافظة على فرق يبي ما للمادة في الصورة من أبو يعرب المرزوقي 89 الأسماء والبيان
- دور لا تلغيه وإن وحدت الجنسي .وعندئذ يتعذر فهم دور الذوق والجمال في العقل الإنساني وهما لا يمكن أن يختصرا في العبارة الروحية على العبارة التي يتجلى فيها جوهر الحياة رغم أن للجنس فيها المنزلة الأولى .فذروة الذوق الذي تجتمع فيه ذائقة كل الحواس هو الجنس والجمال من مدركات الحواس قبل أن يتجرد ليصبح معنى عقليا والمعنى العقلي من دون تعينه البدني حتى في ا لرسم والموسيقى وفي المجسمات الحاملة لهما مستحيل الوجود .والحواس عضوية بالجوهر ومن ثم فما فيها من المادي متقدم على ما يتدخل فيها من الصوري إذ لا معنى للناطقية في الحاسية. وبهذا المعنى أصبحت كل الأحكام المسبقة التي تنتج عن علاقات الأمر الواقع تصبح وكأنها من الأمر الواجب فتكون المرأة مجرد تابع للجنس الغالب .ولما كان الجنس من المتضايف لا معنى للذكورة من دون الأنوثة ولا معنى للتضايف من دون التساوي فإن كل هذه الأحكام المسبقة تمثل خللا في التكافؤ بي حدي التضايف .وبهذا المعنى فإن رفع كل الأحكام المسبقة التي تنتج عن علاقات الأمر الواقع بـالأمر الواجب رفع فاقد للأساس المنطقي والوجودي ولا معنى لاعتبار المرأة مجرد تابع للجنس الغالب. فالتضايف يعني أن التغالب جزء لا يتجزأ من العلاقة الجنسية ولكل منهما مجال غلبة ليس للآخر عليه سلطان .وهو ما به يكون للتجاذب بعد يمثل عنفوان الحياة سلطانا فيه بعض التسلط .وليس معنى اللطيف والعنيف مدارهما هو هذا السلطان اللطيف أنثويا والخشن ذكوريا لكنهما مجرد ترميز للتجاذب بأسلوبي مختلفي. لكن ذلك كله جعل الحط يصبح مضاعفا مثل الإلغاء الناتج عن الأصل أي تعريف الإنسان كيانا لا جنسيا :الحط ضمنا وصراحة مع التغييبي في الحد الفلسفي وضميره .لكن الدين الإسلامي في مرجعيتيه قرآنا وسنة لا يكاد يخاطب الرجل من دون مخاطبة المرأة ما يعني أنها حاضرة فيه لأنه يعرف الإنسان بجنسي متميزين مع بيان التجاذبي بالأسلوبي اللذين غايتهما التآنس والتراحم بيئة روحية لتربية الأطفال عضويا ونفسيا تربية سليمة. أبو يعرب المرزوقي 90 الأسماء والبيان
- وهو لا يكتفي بذلك بل هو يعتبر الأصل عائدا للجنس الأنثوي الذي يشتق منه الجنس الذكري: النساء 1والأعراف 89ولا اعتبار للتفاسير الواهية هنا .فقد فرضوا على الآيتي خرافة المرأة التي خلقت من ضلع معوج أعني إحدى الاسرائيليات الخرافية لتأييد الأحكام المسبقة لتقديم الذكورة على الأنوثة .فالنص الثاني على الأقل صريـح .فزوجها أشتق منها وتغشاها لتحمل منه وهو ما يفرض فهما يحول بإطلاق دون تأويل الآية الأولى من النساء بأن النفس الواحدة ليست هي المرأة .فلا يمكن مهما تحيلنا أن نقلب العلاقة فنجعل المرأة هي التي تغشت الرجل ليحمل منها. النفس الواحدة هي حواء وليس آدم .والمطلوب الآن فهم طبيعة الحضور في القرآن انطلاقا من هذه المنزلة الوجودية التي للجنس الأنثوي في كيان الإنسان .فهذا الحضور المضاعف كما سنرى هدفه بالأساس كما في علاقة القرآن بالتحريف الديني محاولة علاج التحريف بنقد الأمر الواقع واعادته للأمر الواجب. فما الأمر الواقع الذي ينقده القرآن في ما يتعلق بحضور المرأة بعد تعريف منزلتها الوجودية وتقدم الأنثوي على الذكري عضويا؟ المساواة في الخطاب .فالمساواة في الخطاب التكليفي يعني استعادة دور المرأة في الحياة الدينية والدنيوية بعد أن فقدته تماما .وهذه الإعادة تتعلق بخمسة أوجه حيوية: .1وأول هذه الوجوه هو تحريرها من تهمة أصل الخطيئة الموروثة في النظرة اليهودية والمسيحية .فالمرأة في التوراة عاهرة بالجوهر .لم يحتج القرآن لتبرئتها مثل آدم وإذن فهي بريئة أصلا وليست مسؤولة عن العصيان الأول .ومما يؤيد ذلك أن الكلام على العذاب الأخروي يكاد يكون مقصورا على الرجال دون النساء. .2وللنساء دور رئيس في الجنة ينافي تأفف الفلاسفة من البعث الجسدي .إنه المنزلة الوجودية للأنثى :لقاء الجنسي أو وحدة النفس أسمى جزاء بعد رؤية الله. أبو يعرب المرزوقي 91 الأسماء والبيان
- .3وما يؤيد ذلك هو منزلة الجنس في الإسلام لا يقتصر على الوظيفة العضوية والإنجابية بل هو مطلوب لذاته بمعنى أن الوحدة بي الجنسي متعة روحية حقا. .4والطلاق من أهم ثورات الإسلام في تحرير المرأة من كونها مجرد مملوك للزوج بعد الأهل إذ تصبح حرة متعاقدة مثلها مثل الزوج وليست مجرد تابع عقدا قابلا للفسخ .وهو شرط التعدد المتوالي للمرأة بسبب مسألة حفظ الأنساب مقابل التعدد المتساوق للرجال. .5ومن شروط ذلك كله توفر شرط القدرة التي تعبر عن الحرية أي الذات المالكة التي لها قدرة التعاقد .فللمرأة حق الملكية مثل الرجل وحق التصرف الحر بها إذ لها مطلق الحرية في التصرف في الملكية وثمراتها. وعندما ندرس بتعمق مسألة حق المرأة في الإرث فإننا نجد أن مضمونها الحقيقي ليس تحديد المقدار بل منع الوصية من إلغاء هذا الحق إذ الآية التي تعطي للأخ ضعف الاخت هدفها منع النزول دون ذلك وخاصة قبل أن تضيف السنة مبدأ عدم الوصية للوارث .والدليل أن الآية 11 من النساء تقول ما مفاده النهي عن المفاضلة بي الجنسي وبي الأصول والفروع بما يبديه بعضهم من نفاق قد يجعل الموروث يفضل بعضهم على بعض\" :آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله.\".. فالموصي عادة يفضل الأبناء على البنات في توزيع ملكه بعد وفاته .والآية تنهي عن ذلك لأن المفاضلة في هذه الحالة مبنية على أحكام مسبقة للعصر .ولا يمكن أن نغير هذا الحد الأدنى من دون المس بحقي من حقوق الإنسان: .1حق حرية الملكية .2وحق حرية المعتقد. فصاحب المال الذي لم يوزعه قبل وفاته بي ورثته يقصد أنه يفضل حكم عقيدته ما يعني ضمنا أنه يفضل الحكم الشرعي في الإرث .وهو ما يشبه حق الوصية الشرعية .ونأتي الآن للحضور الخاص وليس العام .فالحضور العام في القرآن هو التلازم بي الجنسي في الخاطب :المؤمنون والمؤمنات إلخ ..اما الخاص فمتعي. أبو يعرب المرزوقي 92 الأسماء والبيان
- وقد ذكرت في القرآن عدة نساء حوالي عشرون امرأة لم يعب إلا على ثلاثة منهن :زوجة نوح ولوط وامرأة العزيز .وبرئت اثنتان :مريم وعائشة من تهمة العرض .وذكرت خديجة بتعظيم كبير رغم عدم ذكرها بالاسم :فالخطاب في دثروني موجه إليها :ملجأ الرسول الخاتم وسنده الأول في مفتتح الرسالة وايام الاضطهاد .وحتى ملكة سبأ فهي في القرآن تمثل الحكمة السياسية والسمو الخلقي .فهي تحكم بالشورى وتسلم بالحكم تقديما لأمر الواجب على أمر الواقع في الملك .والأهم من ذلك كله أن النساء الثلاث اللواتي عيب عليهن ما وقعن فيه من خطأ ذي صلة بالجنس اقتصر عقابهن على ما حصل لهن في الدنيا .لم نر عليهن وعيدا. وبهذا المعنى فهمت حديث الرسول الخاتم \"ناقصات عقل ودين\" .فنقص العقل فهمته لغويا بمعنى القيد ونص الدين فهمته بمعنى العقاب .كما نقول يوم الدين .فهن أقل قيدا من الرجل بمعنى أن الخيال عندهن أقوى من العقل المنطقي ومن ثم فهن أصل كل إبداع أو محركات كل إبداع بخيالهن وبوحيهي لخيال الرجل .وهن مبرآت أصلا لأن قصة الاستخلاف تجعلهن مسهمات في السماع لإبليس لكن من احتاج للتبرئة هو آدم من دون حواء ما يعني أنها دونه عقابا في الأخرى. أعلم أن سخفاء العقلانية غير النقدية سيعتبرون هذا الكلام تأويل \"لأساطير الأولي\" .لكن أساطير الأولي هي ما حللناه في كلام الفلاسفة عن المرأة. والآن ما هي الدلالة الوجودية لتقدم الأنثوي على الذكري في قصة الخلق القرآنية؟ إذا كانت حواء تعني الحياة في آن فإن الأمر يكون مطلق الجلاء .فبي أن الحياة هي أصل الجنسي وأحد الجنسي :هي أصل الجنسي بمعنى عي الظاهرة الحية .وأحد الجنسي بمعنى أنها ككل الموجودات خاضعة للزوجية .ولما كنا نؤمن بأن الوحدانية مقصورة على الله الخالق وأن الله قال بأن الزوجية مبدأ وجودي مطلق للمخلوقات فالزوجية تفترض وحدة بداية وغاية لها. والوحدة المتقدمة والوحدة المتأخرة قبس إلهي في مخلوقاته يتخلق بالزوجية ليصبح بفعل اللذة الجنسية التي تمثل ذروتها رمز النعيم والخلود جاذبية الحياة .وهذه الجاذبية الحيوية تعبر عن الوجود المخلوق وعنها يصدر ما يحققها فنيا وفعليا ومعرفيا وخلقيا .لذلك فإنسان يقتبس صفاته أبو يعرب المرزوقي 93 الأسماء والبيان
- من صفات الله الخمس .فهو إرادة وعقلا وقدرة وحياة ووجودا مخلوقا يتعي في الزوجية بي الجنسي اللذين يمثلان بما بينهما من علاقات سلميها وحربيها جوهر الحياة. ذلك ما أهمله الفلاسفة أو ما جرموه ربما من منطلق تجارب شخصية فاشلة في اللقاء مع الجنس اللطيف .ولعل مثال نيتشه في ذلك أبلغ الأمثلة وأوضحها .وما كتبت هذا الاستدراك إلا لتفهم النساء وخاصة صاحبات الجندر بأن الدين الإسلامي بخلاف ما غالطهم به سطحيو الحداثة يخصن بمنزلة رفيعة .ومحاولات جعل المرأة باسم خرافات حداثية قصارى طموحها أن تكون شبيهة بالرجل فتفسد ما به تتميز عنه من أسخف الأفكار. فهي بذلك تفقد أجل ما تملك طمعا في أدنى ما يملك الرجل .إنهن سيدات الحياة والفن وذوات سلطان أهم ما فيه خفاؤه وما من سلطان حقيقي إلا السلطان الخفي :فسلطان الظاهر من رسوم الباطن خلقيا وسياسيا .ولعل أخطر نتائج محاولات التشبه بالرجل في الحضارة الحديثة طغيان ظاهرة المثلية الجنسية .فلا جدال في أن جزءا من المثلية طبيعي في البايولوجيا .لكن شيوعها ليس بايولوجيا بل هو ثقافي .وهو ينتج عن خاصية بايولوجية هي قابلية الحاجة الجنسية للسد حتى بالجنس الذاتي أو الاستمناء وهو خاص بالإنسان. وهو ليس خاص به إراديا فحسب بل وكذلك بصورة لاإرادية تتمثل في الاحتلام .لكنه عندئذ يصبح من جنس التفريغ كما في فضلات الأكل ماء وغذاء وليس جنسا .والمثلية التي ليست نتيجة لخلقة عضوية دائما بل أغلبها لتعود ثقافي سببها المسكوت عنه هو نظام التربية الكنسي أو الفاصل بي الجنسي وسببها البي هو هذا التماثل بي الجنسي بوصفه موضة ثقافية درسها ابن خلدون في مرحلة الترف للطبقات العليا والفقر الناتج عنها للطبقات الدنيا في الجماعة فضلا عن التخلي عن كلفة الوظائف المختلفة. فالتبني يغني عن كلفة الحمل بعد التحرر من الإرضاع الطبيعي بالصناعي وشيئا فشيئا تصبح الأسرة ذاتها مما لا تحتمل كلفته فتجدد الأجيال بالزراعة ويصبح الجنس مقصورا على اللاتذاذ مثل التذاذ الأجرب بالحكاك في الرؤية الأفلاطونية .ويمكن التعويص باستيراد البشر لتعويض أبو يعرب المرزوقي 94 الأسماء والبيان
- تجدد الأجيال من المجتمعات التي ما يزال فيها الجنسان قابلي لتحمل كلفة التجديد الطبيعي للأجيال .إنه تحول حضاري في عصرنا وليس تحولا بايولوجيا وقد اعتبره ابن خلدون ناتجا عن الترف الذي هو نهاية الحضارة في رؤيته بتوقف الوظيفة العضوية للجنس وشيوع المثلية. فإذا استجملت المرأة فحتما سيستنوق الرجل .فيكتفي كل جنس حتى بذاته بالاستمناء ويتخلص من كلفة الأسرة ودور ربها بمجرد غلبة صفة الذكورة على بعض النساء وصفة الأنوثة على بعض الرجال وهو الأساس العضوي الذي يدعمه الأساس الثقافي في اللباس والزينة والحلي وحتى في الوشم غاية لزينة البدن .ولكن في هذه الحالة يحدث أمر عجبا .فالرجال لا يبقى لهم إلا المتعة وفقدان الوظيفة العضوية التي لا يبقى منها إلا القاذورات الصرفة بطبيعة الفروج .والنساء يفقدن الوظيفة العضوية ولا تبقى إلا المتعة الجنسية ويصبح المبيض مقصورا على ما ينتج عنه من قاذورا الحيض المعطل عن دوره لدى المرأتي. فيكون الأمر في الحقيقة الانتحار الإنساني أو نكران جميل الحياة من زوجيها .كلاهما يقدم متعته الخالصة على ثمرتها العضوية فردا مقابل نوع ينقرض بحكم توقف الإنجاب أو اهماله بصورة تنتج أفرادا مرضى نفسيا يسارعون إلى الانتحار والعنف إذا لم يغرقوا في التخذير الذاتي الدائم .ولما كان انقراض النوع ينتج عنه حتما انقراض أفراده فإن العلاقة الجنسية بي الجنسي لكي تكون كذلك تلجأ إلى السوق :التبني واستيراد الأجيال .وإذن فاستيراد الأجيال من جنس استيراد اليد العاملة بسبب الترف .والتخلي عن العمل واستيراد العمالة يليه التخلي عن الإنجاب واستيراد الأطفال. والحصيلة ان التماثل يلغي جاذبية الفارق بي الجنسي فيستغني كلا الجنسي بالمثلية عن الفرق ويصبح الانجذاب بالجنس المقابل بلا دافع للاكتشاف .والتناقض يصبح جليا :فتماثل الجنسي يضعهما كليهما أمام التناقض التالي :فمن يطلب الأنثى يفضل رجلا متخنثا على امرأة مترجلة. والعكس بالعكس. أبو يعرب المرزوقي 95 الأسماء والبيان
- فالمرأة التي تطلب الذكر تفضل أن تجده في امرأة مترجلة على رجل متخنث .وليست القضية قضية منطق ورفض للتناقض بل قضية علاقة المطلوب بالموجود .ولهذه العلة فالرجل المتخنث يتشبه بالمرأة والمرأة المترجلة تتشبه بالرجل .فتكون صفة الأنوثة والذكورة هي التي ارتحلت لتحل في الجنس المقابل .وهذه الظاهرة عضوية بقدر معلوم .لكن شيوعها ليس عضويا بل هو تدن حضاري من جنس ظاهرة الخيانة الزوجية التي أصبحت غرضا مسرحيا وسينمائيا فعمت. ومحاولتي هذه هي تحليل سيميولوجي لظاهرة اجتماعية تكاد تكون قد عمت في الغرب وهي بصدد الانتقال إلى المجتمعات التي تتغرب بالمحاكاة السطحية .أما المطالبة بفرضها تشريعا عالميا للزواج المثلي فهي في الأصل قضية ضمانات اجتماعية :لأن الزواج يعطي حقوقا للمتزوجي فيريدون الحصول عليها .والمجتمعات المغلوبة على أمرها تخضغ لهذه التصورات القيمية التي تعبر عما ينتج عن الترف الذي هو بداية تحلل القوى الحيوية والانتحار الجماعي. ويخطئ من يتصور الحل في الفصل بي الجنسي .ولا علاقة للإسلام بهذا الفصل بل هو من غباء من يسمون أنفسهم علماء .فالإسلام لم يفصل بي الجنسي في أكبر شعيرة هي الحج .والفصل بي الجنسي هو الذي يقوي ظاهرة المثلية بي الرجال المفصولي عن النساء وبي النساء المفصولات عن الرجال ولا يقلصها .والعلاج هو الاختلاط مع المحافظة على الفروق المؤثرة وأهمها أساليب التعبير عن الذكورة والأنوثة لأن المحفز للتجاذب بي الجنسي هو هذه الأساليب. فما يجلب الإنسان حتى في المثلية ليس شيئا آخر غير هذه العلامات المحفزة للانجذاب :فما يجذب في المثلي المنفعل هو حضور علامات الأنوثة و غياب علامات الذكورة بالنسبة إلى المثلية بي الرجال .وما يجذب في المثلية المنفعلة بي النساء هو حضور علامات الذكورة في الفاعلة وغياب علامات الأنوثة .فلطافة الجنس اللطيف ليس ضعفا .وخشونة الجنس العنيف ليست قوة بل هما من جنس المحفزات الجنسية. • فالرجل السوي يطلب اللطف لا الضعف. • والمرأة السوية تطلب \"الخشونة\" لا العنف. أبو يعرب المرزوقي 96 الأسماء والبيان
Search
Read the Text Version
- 1
- 2
- 3
- 4
- 5
- 6
- 7
- 8
- 9
- 10
- 11
- 12
- 13
- 14
- 15
- 16
- 17
- 18
- 19
- 20
- 21
- 22
- 23
- 24
- 25
- 26
- 27
- 28
- 29
- 30
- 31
- 32
- 33
- 34
- 35
- 36
- 37
- 38
- 39
- 40
- 41
- 42
- 43
- 44
- 45
- 46
- 47
- 48
- 49
- 50
- 51
- 52
- 53
- 54
- 55
- 56
- 57
- 58
- 59
- 60
- 61
- 62
- 63
- 64
- 65
- 66
- 67
- 68
- 69
- 70
- 71
- 72
- 73
- 74
- 75
- 76
- 77
- 78
- 79
- 80
- 81
- 82
- 83
- 84
- 85
- 86
- 87
- 88
- 89
- 90
- 91
- 92
- 93
- 94
- 95
- 96
- 97
- 98
- 99
- 100
- 101
- 102
- 103
- 104