Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore تأملات فلسفية - التحرر من التحريفين الديني والفلسفي- أبو يعرب المرزوقي

تأملات فلسفية - التحرر من التحريفين الديني والفلسفي- أبو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2019-10-01 18:57:02

Description: تأملات فلسفية - التحرر من التحريفين الديني والفلسفي- أبو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫‪--‬‬ ‫(الشرط الثقافي والرمزي المكتسب) وكل منهما يساوي بمفرده الأبواب الأربعة المتوسطة‬ ‫بينهما‪ :‬أبواب العمران البدوي والدولة والمدينة والعمل‪.‬‬ ‫إذا كان ذلك كذلك فـماذا بقي للخصوصي في الحضارات والجماعات المختلفة إذا سلمنا‬ ‫مع ابن خلدون أن نظام الوجود البشري واحد؟‬ ‫ذلك هو موضوع التاريخ الخاص بكل جماعة‪ .‬والتاريخ بهذا المعنى يدرس التعي الجزئي‬ ‫لمعاني العلم الكلية العلم الذي أسسه ابن خلدون‪ .‬ومعنى ذلك أن نسبة علم ابن خلدون‬ ‫إلى التاريخ هي نسبة علم قواني الظاهرات إلى وصف مظاهرها المتنوعة‪.‬‬ ‫لكن تاريخ تكون أي جماعة مناظر لتاريخ تكون كل الجماعات والبشرية كلها‪ .‬فإذا درسنا‬ ‫أبواب المقدمة من الثاني إلى السادس كان ذلك مثالا عن تكون الحضارة الإنسانية‬ ‫بالانتقال من مفعول التاريخ الطبيعي إلى مفعول التاريخ الحضاري‪ :‬وهو في آن بيان دور‬ ‫الأول في الثاني‪ .‬وإذا درسناها بالعودة من السادس إلى الثاني كان ذلك مثالا عن تكون‬ ‫الحضارة الإنسانية بالعودة من التاريخ الحضاري التاريخ الطبيعي‪ :‬وهو في آن بيان دور‬ ‫الثاني في الأول‪.‬‬ ‫بعبارة مبسطة فالعلاقة هي بي الطبيعي والمكتسب أو بي الطبيعي والثقافي من الأول‬ ‫إلى الثاني ومن الثاني إلى الأول تفاعلا لا يتوقف‪ .‬وذلك هو جوهر فلسفة التاريخ‬ ‫الخلدونية وهي في آن فلسفة الدين لأنها تصل ذلك كله بالأحياز والمرجعية خاصة‪.‬‬ ‫ويلتقي المساران في باب المقدمة الرابع باب المدن أو الحواضر التي تمثل اللقاء الصدامي‬ ‫والتكاملي بي الاتجاهي‪ :‬فالمدينة ملتقى قانون التاريخ الطبيعي (الضرورة) وقانون‬ ‫التاريخ الحضاري (الحرية)‪ .‬فقبل باب المدينة (‪ )4‬نجد باب الدولة (‪ )3‬وتطور الجماعة‬ ‫لتكون دولة التي هي قوة شرعية وذلك هو مضمون باب العمران البدوي (‪ .)2‬وبعد المدينة‬ ‫نجد باب العمل (‪ )5‬وتطور الممارسات العلمية إلى علوم مؤسسات معرفية وتعبيرية ذات‬ ‫شرعية دينية وفلسفية قوية وذلك هو موضوع باب العلوم والتربية والفنون (‪ :)6‬وكل‬ ‫ذلك يكون ما يمكن أن نسميه عالم الجماعة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪47‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وتعدد هذه العوالم بتعدد الجماعات يمثل بؤر متفاعلة هي القوى السياسية والحضارية‬ ‫التي تتقاسم مكان المعمورة وثمرته وزمان المعمورة وثمرته بحركية يبرزها الثبات الهش‬ ‫للجماعات والدول والتغير الدائم للحدود بينها بمقتضى ما لهذه البؤر من قوة مادية‬ ‫وروحية‪ :‬إنه تاريخ الحروب والتعاون في آن بالتساوق وبالتوالي في الجماعات وبينها‪.‬‬ ‫وهشاشة الثبات والتغير الدائم للحدود بي الجماعات وفي نفس الجماعة بسبب التنافس‬ ‫على المكان والزمان وثمرتيهما والمرجعيات المؤولة والمعللة لذلك كله ذلك هو منطق التاريخ‬ ‫الخاص والعام الذي هو عي تكون الإنسانية سعيا إلى الوحدة رغم الصراعات والحروب‪.‬‬ ‫والمدينة هي القلب الذي يلتقي فيه المساران من التاريخ الطبيعي إلى التاريخ الحضاري‬ ‫ومن التاريخ الحضاري إلى التاريخ الطبيعي وبالتدريج تجعل وحدة الإنسان العالم كله‬ ‫مدينة واحدة‪ :‬فتكون كالبركان والتنور الفائر‪.‬‬ ‫وهذه المدينة العالمية الواحدة لا بد وأن تكون مدينة المرحلة النهائية التي تخوض فيها‬ ‫البشرية معركة التاريخي النهائية‪ :‬المعركة بي منطق التاريخ الطبيعي لاستعمار الإنسان‬ ‫في الأرض ومنطق التاريخ الخلقي لاستخلافه فيها‪ .‬ونشاتنا كانت عينه منها‪ .‬لكن استئنافتنا‬ ‫هي هي عينها‪.‬‬ ‫وهي معركة بي أسلوبي المرجعية الديني والفلسفي السوي والمنحرف‪ :‬معركة بي‬ ‫تصورين دينيي وتصورين فلسفيي‪ :‬تصور ديني وفلسفي منحرف يرتب البشر عنصريا‬ ‫وتصور ديني وفلسفي سوي يرتبهما ترتيبا متحررا من العنصرية‪.‬‬ ‫ولا يمكن التحرر من العنصرية دينيا وفلسفيا إذا ظل الإنسان خاضعا لمنطق التاريخ‬ ‫الطبيعي حول المكان وثمرته والزمان وثمرته ومرجعية المعنى والقيمة تأويلا وتعليلا‬ ‫منحرفا بالأسلوبي الديني والفلسفي‪ .‬والتحرر منهما يعني فهم الأحياز وتوالجها وتشاجنها‬ ‫في ضوء يتجاوز استعمار الإنسان في الأرض بقانون التاريخ الطبيعي بإضافة جعله في خدمة‬ ‫الاستخلاف فيها معنى وقيمة بقانون التاريخ الخلقي‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪48‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وهو القصد بالتحرر من التحريفي الديني والفلسفي‪ .‬فأما التخلص من الأول فتم بفضل‬ ‫نظرية الأخوة البشرية (النساء‪ )1‬ومعيار المساواة (الحجرات ‪ )13‬وهما قيمتان أضاعهما‬ ‫المسلمون بسبب الانحطاطي الذاتي والمستورد‪ .‬وحتى يحقق الإسلام ذلك حسم قضية‬ ‫التعدد الديني باعتباره ليس منافيا لهذين المبدئي بل هو شرطهما لأنه شرط التسابق في‬ ‫الخيرات أي السعي لتحقيقهما‪.‬‬ ‫فدولة الإسلام مطالبة بحماية الأديان الخمسة الأخرى التي تعترف بها‪ :‬اثنان منزلان‬ ‫(اليهودية والمسيحية) واثنان طبيعيان (الصابئية والمجوسية) والأخير هو الشرك (الحج‬ ‫‪.)17‬‬ ‫ولا يحسم التعدد الديني بهذا المعنى إلا لأن مبدأ حرية المعتقد وتحريم الإكراه في الدين‬ ‫علته اشتراط الإسلام في الإيمان تي الرشد من الغي‪ :‬ما يجعل الثورة الدينية هذه‬ ‫مشروطة بثورة فلسفية‪ .‬فتبي الرشد من الغي إذا كان شرطا في الإيمان فمعناه أنه سابق‬ ‫وأنه يحصل بالفكر الحر أي بالفلسفة‪ .‬وإذن فمسعانا لبيان وحدة الفكرين الديني‬ ‫والفلسفي إذا تجاوزا التحريف ليس مجرد موقف شخصي بل هو محاولة لصوغ مبدأ قرآني‬ ‫سبق إليه ابن خلدون صراحة‪.‬‬ ‫نظرية الأحياز تبي في مستويي اثني هما عي مستويي فلسفة الدين وفلسفة التاريخ‪.‬‬ ‫فـمـا يجري في التاريخ هو عينه ما تجعله المرجعيات الفلسفية والدينية موضوع بحثها‬ ‫وتأصيلها‪ .‬ومسعاي هدفه تجنيب لقائنا الثاني بالفكر الإنساني الذي تطور خلال سباتنا أن‬ ‫تصيبه نفس العاهة التي أخرجت الفلسفة من فكرنا سابقا‪ .‬فإني أراها قد عادت من جديد‪:‬‬ ‫حصر الفكر الفلسفي في التوظيف الإيديولوجي الهدام بسبب رداءة أدعيائه تماما كما‬ ‫حصل بسبب الباطنية التي وظفت الفلسفة والدين لتأسيس ما يسمى بالتعليمية‪.‬‬ ‫فهل لبيان هذا التناظر بي الجماعة والعالم علاقة ببيان التناظر بي الفرد الإنسان‬ ‫والله أو من يؤدي وظيفته في غير الإسلام؟ تناظر التناظرين ماذا يعني؟ قبل الجواب عن‬ ‫هذا السؤال لا بد من التذكير بأن المحاولة هدفها إزالة القطيعة بي أسلوبي التفكير‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪49‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الإنساني والتخلص من أكبر معوقات الإبداع وأسباب العقم الفكري‪ :‬أسلوب الدين أو القص‬ ‫الأمثولي وأسلوب الفلسفة أو الأكمسة المثالية‪.‬‬ ‫فـمـا فعلته الباطنية بالفلسفة ماضيا ورد الفعل الغبي عليها عادا ثانية لدى أدعياء‬ ‫العلمانية سواء كانت ماركسية أو ليبرالية والرادين عليهم بالحرب على الفلسفة لظنهم‬ ‫أنهم يمثلون الفلسفة‪ .‬وبذلك بات الفكر الفلسفي والفكر الديني مقصورين على‬ ‫سطحياتهم الأيديولوجية‪.‬‬ ‫لا ينبغي الوقوع في نفس الفخ الباطني فترفض الفلسفة ليبقى فكرنا عقيما فلا يبدع‬ ‫فلسفيا كما كان إذا ما استثنينا المدرسة النقدية (الغزالي وابن تيمية وابن خلدون) أو‬ ‫بعض التجاوز عند بعض الفلاسفة الآخرين‪ .‬أو أن تتبنى فلسفة من جنس فلسفة من ترد‬ ‫عليهم سطيحة وإيديولوجية فيتضاعف العقم في الدين وفي الفلسفة في آن‪ .‬تجنب ذلك‬ ‫هدف ينبغي تحقيقه فلسفيا‪ .‬فتحريف الفلسفة الباطني في لقائنا الفلسفي الأول مع اليونان‬ ‫نعلم نتائجه‪.‬‬ ‫وتحريف الفلسفي العلماني الماركسي أو الليبرالي نرى نتائجه حاليا‪ .‬واللقاء بي‬ ‫التحريفي الماضي والحاضر للفلسفة والدين في آن هو حقيقة ما يجري على ركح المسرح‬ ‫السياسي للحرب الأهلية العربية ببعدها العالمي‪ .‬والحلف البي بي إيران وإسرائيل‬ ‫ومليشياتهما الباطنية والعلمانية والليبرالية والفاشية القومية يجمع بي التحريفي الديني‬ ‫والفلسفي حربا علينا‪.‬‬ ‫هذه الحرب هي حقيقة التحريف الذي أصاب تناظر التناظرين‪ :‬فالتحريف يتمثل في‬ ‫التناظر بي علم الكلام الجديد غاية تحريف التناظر الأول والسياسة الدولية الجديدة‬ ‫غاية تحريف التناظر الثاني‪ .‬فعلم الكلام الجديد كما بينا يعطل الذات الإلهية لتصير‬ ‫عدما ويعوضها بتأليه إنسان معي هو سيد العالم وأهله ممن ليسوا مثله عنصريا وحضاريا‪.‬‬ ‫والموقف الإيراني والإسرائيلي وسيدهم الغربي من العرب خاصة ومن المسلمي عامة هو‬ ‫الموقف العنصري الذي يعتبرهم جوهيم لهم بوصفهم شعبا مختارا‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪50‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وهذا هو منطق سياسة العالم المعولم والمردود إلى البعد الواحد لاستعمار الإنسان في‬ ‫الأرض استعمارا ينفي قيم الاستخلاف بدلالتها الإسلامية‪ .‬هي إذن معركة بي كونيتي‬ ‫سوية ومحرفة‪ :‬العولمة التي تقف عند استعمار الإنسان المؤله في الارض بمنطق قانون‬ ‫التاريخ الطبيعي وكونية الإسلام بمنطق قانون التاريخ الخلقي‪ .‬والتاريخ الخلقي لا ينفي‬ ‫التاريخ الطبيعي بل هو يحرره من الاقتصار على الحيواني بما يجعله إنسانيا كما وصل بها‬ ‫ابن خلدون بي البشري والإنساني‪.‬‬ ‫فقانون التاريخ الطبيعي حصرا فيه يبتر الإنسان فيفقده ما به يسمو من مجرد العمران‬ ‫البشري إلى الاجتماع الإنساني‪ :‬والأول لسد الحاجات والثاني للأنس بالعشير (ابن‬ ‫خلدون)‪ .‬وذلك هو مدلول الآية الثالثة عشر من الحجرات تحديدا لطبيعة اللقاء بي‬ ‫البشر وشرطه القيمي‪ :‬التعارف مشروط بنفي التمييز العنصري والطبقي وبمعيار التقوى‪.‬‬ ‫ونقيض ذلك هو التناكر ونفي التقوى‪ :‬فتحريف التناظر الأول بي الفرد والله يولد‬ ‫العنصرية أي علاقة التفاضل بغير التقوى بي الشعوب والبشر بالعنصر والطبقة‪.‬‬ ‫وتحريف التناظر الثاني بي الجماعة والعالم يولد استحواذ الجماعة التي حرفت التناظر‬ ‫الأول على العالم وثمرته وجعل باقي الجماعات عبيدا لها‪ .‬والجمع بي هذين التحريفي‬ ‫هو جوهر العولمة التي نعيشها الآن والتي لم يبق صامدا أمامها ومحاولا التحرر من أربابها‬ ‫إلا نحن المسلمي‪ :‬تلك هي معركتنا ومعركة الإنسانية الوجودية‪.‬‬ ‫وهي معركة تجري في شكل حرب أهلية إسلامية وحرب أهلية كونية في آن‪ .‬فهي حرب‬ ‫أهلية بسبب موالاة جل الحكم ونخبهم لأصحاب التحريفي وهي كونية لأن هؤلاء يسندون‬ ‫أولئك‪ .‬وتلك هي علة الحلف بي أصحاب الاستبداد والفساد في الداخل وأصحاب‬ ‫الاستضعاف والاستتباع في الخارج في سعيهم لإفشال ثورة الاستئناف الإسلامية‪.‬‬ ‫والحرب النفسية التي توجه ضد المسلمي يمكن ردها إلى هذه الفكرة السطحية الوحيدة‬ ‫وهي مركوب كل سخفاء العلمانية والليبرالية العربيتي‪ :‬تصورهم المحقر من شأن طبيعة‬ ‫صمودنا‪ .‬فهم يحاولون نفي الطابع الخلقي عن صمودنا ويعتبرونه دليل تخلف عن ركب‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪51‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الحضارة وليس خيارا حضاريا أفضل نسعى لاستعادة شروط فاعليته التاريخية بل هم‬ ‫يسمون جهاد مقاومتنا للاستبداد والفساد والاستضعاف والاستتباع بالإرهاب‪.‬‬ ‫كلما تابعت أدعياء الحداثة العرب وخاصة أولئك الذين يدعون نقد التراث من جنس‬ ‫أركون أو أبي زيد ناهيك عن ببغاواتهما كالبلهي وأمثاله في الخليج أو كالشرفي وجل‬ ‫تلاميذه في المغرب العربي أشعر ببالغ التقزز والاحتقار‪ .‬فهم كاريكاتور الفكر الحديث‬ ‫المتجسد في انتفاخ أوداجهم مع جهل يقطر عفنا وعنفا إزاء الآفاق المختلفة عما في دماغهم‬ ‫المغسول بروبافيكيا الابتذال‪ :‬يتصورون الإنسانية متحققة في أخلاق العولمة المنحرفة‪.‬‬ ‫كلهم دون استثناء يصدق عليهم ما يقوله ارسطو عن عدم فهم مفهوم الكلي‪ .‬يتصورون‬ ‫كاريكاتورهم عن الحداثة الأفق الوحيد للإنسانية ويحاكمونها به‪ .‬ولما أسمع مترجم أركون‬ ‫أو ببغاواته في تونس يتفلسفون يقشعر بدني‪ .‬ولما أصبح السيسي وجوقته مصلحي للدين‬ ‫لم يبق كلام ولا سلام مع حثالة الأزلام‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪52‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫مفهوم الإنسانية‬ ‫وصلنا الآن إلى قلب المعادلة موضوع الفصل الخامس من التأملات‪-‬المعاني الكلية التي نشير بها إلى‬ ‫الإنسانية دون اعتبارها مقومة بخلاف ما يترتب على القول بالمطابقة‪-‬بعد الفرد والجماعة وقبل‬ ‫العالم والله‪ .‬وهي معضلة المعضلات وقلب المربع للعنصرين المتناظرين اللذين درسنا في ما تقدم‪.‬‬ ‫ذلك أن مفهوم الإنسانية مثل رقاص الساعة يناوس بي رؤوس المربع بوصفها أقطاب جذب وطرد لا‬ ‫يتوقفان‪ :‬تماهيا وتنافيا متناوبي مع الفرد والرب مباشرة وبي الجماعة والعالم اساسا لنفس‬ ‫العلاقة بي الفرد والرب ولكن بصورة غير مباشرة‪.‬‬ ‫وكل معضلاتها وألغازها مصدرها التماهي الجاذب والتناهي الطارد مع هذه الأقطاب الأربعة في‬ ‫عالمي متعالقي إيجابا أو سلبا هما الدنيا وما وراءها أو العالمي عالم الشهادة وعالم الغيب‪ .‬وهذان‬ ‫العالمان ليسا مقصورين على التصور الديني للوجود فحتى التصور الفلسفي لم يستطع التخلص‬ ‫منهما حتى وإن اعتبر الثاني مجرد تعويض عن نقص الأول بعد النكوص الهيجلي الذي صار في‬ ‫الماركسية رؤية تعويضية كما صاغها فيورباخ‪.‬‬ ‫بعبارة أوجز لا يمكن للإنسانية عامة ولأي إنسان منها خاصة ألا يعتبر الدنيا سجنا فيطلب‬ ‫اللامتناهي وراءها مهما كان فقير الخيال والطموح الوجودي‪ .‬وبهذا الاضطراب الذي لا يهدأ‬ ‫أريد أن أبدأ كلامي اليوم على الإنسانية عامة وعلى الإنسان المتماهي معها خاصة أعني كل‬ ‫القائلي بالتطابق المعرفي والقيمي الناتجي عن النكوص الهيجلي إليهما نفيا لمحاولة كنط التحرر‬ ‫منهما وتبنيه الماركسي‪ .‬فهذا التماهي لمن يدرك معناه عي جهنم الروح في الدنيا وسر كل ما تعاني‬ ‫منه الإنسانية من فوضى روحية في بواطنها وسياسية في ظواهرها‪.‬‬ ‫فهو بداية السؤال الديني والفلسفي في كل ما نعلمه من حقب تاريخ البشرية الفكري‪ .‬إنه جوهر‬ ‫ما يمكن أن نطلق عليه اسم الإنسانية وما عداه من ثمراته موجبها وسالبها‪ .‬كل ما عداه هو‬ ‫الحضارة المادية والرمزية أي العمران البشري والاجتماع الإنساني في الأعيان المكانية والأعيان‬ ‫الرمزية وفي الأذهان ومعالم الفكر‪ .‬وتلك هي حقيقة الثورة الخلدونية التي تتجاوز خرافة‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪53‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫التماثل مع كونت أو مع ماركس‪ .‬وإذن فالإنسانية ليست شيئا آخر غير ما يترتب على التحيز في‬ ‫المكان وثمرته وفي الزمان وثمرته بـالمرجعية التي تضفي عليهما معنى هو عي الرؤية الحضارية‬ ‫للجماعة من حيث إنها جميعا تعبير فعلي ورمزي على السؤالي الديني والفلسفي‪.‬‬ ‫جوهر الإنسانية سؤالاها الديني والفلسفي‬ ‫والسؤالان الديني والفلسفي هما بصورة أدق سؤالا الدين اللذين هما عينهما سؤالا الفلسفة حول‬ ‫الوصل والفصل بي الدنيا وما بعدها أو حول سياسة عالم الشهادة المشدود إلى سياسة عالم الغيب‬ ‫كما حددتهما في محاولات سابقة‪ .‬فطرحهما التناظر الأول بي الفرد والله صيغ في شكل محاسبة‬ ‫متبادلة‪:‬‬ ‫• فالله يحاسب الإنسان في الآخرة وتلك هي سياسة عالم الغيب‪.‬‬ ‫• والإنسان يحاسب الله في الدنيا وتلك هي سياسة عالم الشهادة‪.‬‬ ‫ومن يقرأ القرآن ببصيرة يراه مليئا بالتلاوم الـدائم بينهما إما على أرضية إيمانية أو على أرضية‬ ‫إلحادية‪ .‬وما من أحد صادق مع نفسه لم يعش هذا التلاوم في اشد لحظات الحياة ضيقا‪ .‬صحيح‬ ‫أن الإيمان يقتضي ألا يحاسب المخلوق الخالق‪ .‬لكن القرآن يقول عكس ذلك تماما حتى وإن لام‬ ‫الإنسان واعتبر الشر من عند الإنسان إذ القرآن يقول «رضي الله عنهم ورضوا عنه» وصفا‬ ‫للمؤمني‪ .‬وحتى الأعرابي الجلف أجاب الرسول بما يفيد هذا المعنى العميق‪.‬‬ ‫وهذا من أهم مداخل ما يزعم عقلانية اعتزالية‪ .‬فقد ظن أصحابها أن مشاركة الله في الخلق‬ ‫يلغي موقف الأعرابي‪ .‬لكن موقفه أسلم حتى بمقتضى العقلانية عند تحليل أفعال العباد‪ .‬فإذا‬ ‫كان الله يحمل الإنسان مسؤولية أفعاله ويصفه كما يعلم الجميع بكل العيوب فيمكن للإنسان إذا‬ ‫طبق مبادئ العقل أن يلوم صاحب الصنعة لا المصنوع‪ .‬وتلك هي علة ثورة الأشعري عندما عبر‬ ‫عن ذلك بعبارة بليغة عن معلمه وزوج أمه \"وقف حمار الشيخ في العقبة\" (الجبائي الأب)‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪54‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ذلك أن مجرد وجود الإنسان بكل ما يوصف به من عيوب بنص القرآن نفسه يجعل رأي الملائكة فيه‬ ‫صائبا وخلقة غير مقبول عقلا خاصة وتبريره \"وما خلقت الجنس والإنس إلا ليعبدوني\" فإذا‬ ‫بالإنسان أقل شيئا عبادة لله‪ .‬ثم أي حاجة للعابدين لكائن مطلق ‪-‬الله‪ -‬لا ينقصه شيء ولا حاجة‬ ‫له لغيره فضلا عن كون غيره مشوب بعيوب لا يتوقف القرآن عن ترديدها؟‬ ‫وهذا من أكبر ألغاز الوجود واضطراب العقل وعلة نفيي لفائدة علم الكلام‪ .‬وهو المنبع الأساسي‬ ‫لكل من يدعي خيار الإلحاد ولمن يبحث عن إيمان العجائز كذلك‪ .‬لكني سبق أن قلت إن الإلحاد‬ ‫مستحيل وإنه لو كان ممكنا لكنت أول القائلي به‪ .‬كل اللغز أنه ينفي ذاته‪ .‬كما أن إيمان العجائز‬ ‫مستحيل‪ .‬فالإلحاد هو في الغاية يفيد الاستنتاج الخاطئ من التنزيه المطلق‪ .‬فضميره هو‪ :‬إذا كان‬ ‫كل ما في العالم وما في الإنسانية خاصة فاقدا للمعنى فلا يمكن نسبته لرب حكيم‪ .‬وهذا هو ما‬ ‫يمكن تسميته بنظرية العدل الإلهي المسلوبة‪ :‬الثيوديسيا المقلوبة‪ .‬فالعالم والذات يغلب عليهما‬ ‫الشر والقرآن يؤكد ذلك في وصف الإنسان‪ .‬والإلحاد الذي يدعي أصحابه أنهم اختاروه من‬ ‫منطلق علمي من أكبر الأدلة على سخفهم وكذبهم‪ .‬لكن العلم لا يوصل إلى حقيقة مطلقة والممكن‬ ‫منه على محدوديته أولى به أن يوصل إلى الإيمان‪ .‬حتى من دون الظن أنه مطابق ومحيط‪.‬‬ ‫وإذا كان لا علم من غير نظام قواني ونظام في الوجود فإن وجودهما يؤدي حتما إلى الإيمان‬ ‫بوجود مبدئهما وهو أساس الدين والفلسفة في آن‪ .‬فالقواني ليست ضرورة عمياء بل هي ناتجة‬ ‫عن علاقات بي غايات وأدوات وإلا لما كانت نظاما وإذن فكونها نظاما يعني أنها خيار عقل لرب‬ ‫حكيم‪ .‬وإذن فالإلحاد مصدره نقيض ذلك أي الاعتقاد في أن العالم والذات كلاهما مناف لكل‬ ‫منطق \" ‪ \"Absurd‬وفاقد للعقل والحكمة ومليء بالشر والظلم والقهر‪ :‬وتلك هي نظرية العدل‬ ‫المنفي‪ .‬ونظرية العدل المنفي في الوجود هي في الحقيقة تنزيه للرب صاحبه لا واع به مفاده‪ :‬إذا‬ ‫كان الله لم يخلق عالما وذاتـا خاضعي للعدل فالأفضل نفي وجوده بدلا من الإيمان به ووصفه‬ ‫بالعجز‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪55‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫علاج القطب الأول من المربع الأول‬ ‫ولما كان هذا التنزيه لا واعيا فهو آلية دفاع للخروج من الاضطراب الذي وصفته بكونه جهنم‬ ‫الحياة الدنيا‪ .‬والخروج منه فلسفيا كان له شكلان في الفكر الغربي‪:‬‬ ‫• الأول ديكارتي مسكوت عنه‪.‬‬ ‫• والثاني نيتشوي صريح‪.‬‬ ‫والشكلان ليسا بالصدفة‪ .‬فأولهما ينتهي إلى ما انتهى إليه الغزالي في المشكاة‪ .‬والثاني ينتهي إلى‬ ‫ما انتهى إليه التلمساني في شرح مدارج السالكي‪ .‬وسيعجب أصحاب الفلسفة الصحفية من أن هذا‬ ‫المربع‪-‬ديكارت ونيتشه والغزالي والتلسماني‪-‬تلتقي في قلب هو ابن تيمية الذي عاش جهنم الدنيا‬ ‫بمخرج آخر‪ .‬وسأعود لمخرج ابن تيمية‪ .‬لكن فلأواصل الكلام على الحلي اللذين ينتهيان إلى‬ ‫ديكارت ونيتشه‪ .‬فديكارت قال في بداية مشروعة بنظرية الأخلاق المؤقتة‪.‬‬ ‫وأنه ظل عليها إلى أن مات وهي أخلاق جماعته‪ .‬ولعل جبنه وتحايله لئلا يحصل له ما حصل‬ ‫لجاليلي في قضية دوران الأرض يفسر علل عدم بيان ما يقصده بالأخلاق غير المؤقتة‪ .‬ولما ضاق‬ ‫ذرعا ساح كما ساح الغزالي‪ .‬لكن الانطلاق من العدم أو \"التابولا رازا=اللوحة الممحوة أو البكر\"‬ ‫انتهى بديكارت إلى حقيقة أقنعته بعجز الشيطان الماكر‪ :‬لا يستطيع أن يشككه في وجوده عي‬ ‫وعيه الشاك‪ .‬فلكأن ديكارت أثبت بذلك أن الإلحاد مستحيل‪ .‬لذلك صار ربه أساس كل فكره‬ ‫مثلما هو أساس كل الوجود‪ .‬وذلك بالذات بسبب استحالة رضا الإنسان بالمحدود‪.‬‬ ‫وما انتهى إليه ديكارت ولكن مع المحافظة على الأخلاق المؤقتة أو أخلاق الجماعة التي ربي فيها‬ ‫يعني أن لديكارت ما يشبه الجمع بي الفقه والتصوف‪ .‬أو بعبارة أوضح الجمع بي الرسم‬ ‫والحقيقة بالمصطلح الصوفي‪ .‬في الجماعة لا بد من الرسم (الفقه) وفي الذات لابد من الحقيقة‬ ‫(التصوف)‪ .‬وهذا ما أعنيه بمخرج الغزالي‪ .‬لكن الأساس واحد في الحالتي‪ :‬فـما يسميه ديكارت‬ ‫أساس نظامه الفكري والعالم يسميه الغزالي نور السماوات والأرض ويعتبر قلب المؤمن \"زجاجة\"‬ ‫مشكاته العاكسة‪ .‬وهذا الحل الذي حصل مرتي بارزتي ذكرتهما واحدة غزالية والثانية‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪56‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ديكارتية يحصل مرات لا متناهية لأنه يمثل الحد الأول من التناظر بي الفرد والله التناظر الذي‬ ‫درسناه في الفصل الثالث من بحثنا‪.‬‬ ‫علاج القطب الثاني من المربع الأول‬ ‫نصل الآن إلى القطب الثاني من هذا التناظر ويمثله نيتشه والتلمساني‪ .‬حيث ينتهي الإلحاد إلى‬ ‫عكس ما انتهى إليه عند الغزالي وديكارت‪ :‬التمانع بي الفرد والرب الرب‪ .‬وفي الحالتي ليس‬ ‫الشيطان الماكر صوتا خارجيا على الذات (فرضية جني ديكارت الخبيث) بل هو من مكر الذات‬ ‫التي تنتج كل الأوهام التي اقنعت الغزالي وديكارت بالأكاذيب النافعة بالاصطلاح النيتشوي‬ ‫والتلمساني‪ .‬فـما يسميه ديكارت والغزالي حقائق هو عند نيتشه والتلمساني أكاذيب نافعة من‬ ‫صنع الذات التي هي إرادة قوة عمياء تبدع عالما رمزيا لا حقيقة وراءه‪.‬‬ ‫وابن تيمية لا يحب الغزالي ويكره التلمساني‪ .‬ولو كان ديكارت ونيتشه موجودين قبله وكان على‬ ‫علم بهما لكان موقفه منهما نفس الموقف الذي له من الغزالي والتلمساني‪ :‬عدم حب وكراهية‪.‬‬ ‫ومشكلي الشخصي مع نيتشه والتلمساني أنهما أكثر وقوعا في الأوهام من ديكارت والغزالي‪:‬‬ ‫فـمنطقيا الكلام على أوهام نافعة بديلة من الحقيقة متضايف‪ .‬والتضايف يعني وجود حدي‬ ‫الإضافة بينهما‪ .‬فلم ينفيان أحد الحدين ويبقيان على الثاني؟‬ ‫في الحقيقة هما يضخان في الذات ما يسلبانه عن الرب عكس الغزالي وديكارت اللذين يضخان في‬ ‫الرب ما يسلبانه عن الإنسان‪ .‬وهذا يعني وجوديا أن العلاقة بي الذات والرب هي العلاقة بي‬ ‫الفناء والبقاء والخياران هما‪ :‬فتكون الذات هي الرب والرب من صنعها أو العكس‪.‬‬ ‫وبذلك يتبي أن المربع‪-‬ديكارت ونيتشة والغزالي والتلمساني‪-‬حقيقته كما فهمها ابن تيمية هي‬ ‫مرض التمانع بي الآله والمألوه أو ا لمربوب والرب مطبق على الذات والرب بالنفي المتبادل‪ :‬لا‬ ‫نثبت أحدهما من دون نفي الثاني‪:‬‬ ‫• هذا هو الوجه الأول من جهنم الدنيا‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪57‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫• أما الوجه الثاني فيأتي من التناظر الثاني بي الجماعة العالم‪.‬‬ ‫وهنا نجد المشكل في الغرب بي سبينوزا وهيجل‪ .‬وقبلهما نجد نفس المشكل بي ابن رشد وابن‬ ‫عربي‪ .‬ولكن في ترتيب معكوس‪ .‬ونجد في قلب المربع مرة أخرى ابن تيمية‪ .‬وتلك هي علل‬ ‫تعظيمي لهذا الرجل واحتقاري للمتجرئي عليه من أعشار المثقفي سواء من أدعياء التأصيل أو‬ ‫من أدعياء التحديث إذ هما كلاهما كاريكاتور مما يدعيه‪.‬‬ ‫يعسر على الكثير فهم العلاقة بي رموز هذا المربع وهم رموز لا غير لأنه مثل المربع السابق يتكرر‬ ‫بلا توقف إذ هو عي جهنم الإنسانية في الدنيا‪ .‬فأشهر ما عرف به سبينوزا هو قولته الشهيرة‪ :‬إن‬ ‫الإنسانية ليست دولة في الدولة‪ .‬وإذن فهو قد اختار في التناظر الثاني العالم والطبيعة بدل‬ ‫الجماعة والحضارة‪ .‬ومن اطلع على فلسفة الدين الهيجلية غاية وعلى ظاهراتية الروح بداية‬ ‫يعلم أن خياره عكس خيار سبينوزا تماما أي إنه يقدم قطب الجماعة والحضارة على العالم‬ ‫والطبيعة‪.‬‬ ‫وليس ذلك بالصدفة‪ .‬فكلاهما يقول بوحدة الوجود لكنها عند سبينوزا طبيعية مضطرة وهي عند‬ ‫هيجل روحية حرة‪-‬الوجود للذات قبالة الوجود في الذات وللغير‪ .‬وابن رشد أرسطي‪ .‬والقراءة‬ ‫السطحية لأرسطو تجعله قائلا بما يشبه قول سبينوزا وتجعل ابن عربي عكسه فيكون قائلا بما يشبه‬ ‫قول هيجل‪ .‬لكن العكس أصح‪.‬‬ ‫ولنبدأ بابن عربي‪ .‬ففي بعض رسائله يعتبر العالم عي الله‪ .‬والعي ليست الباصرة بل الحصول‬ ‫العيني في الوجود الفعلي كأن الله هو العالم الموجود‪ .‬والعالم الموجود هو تحقق العالم المعدوم أو‬ ‫\"الأعيان الثابتة في العدم\" بمصطلحه أي بالمعنى الفلسفي الأفلاطوني والأرسطي خاصة هي ما‬ ‫تكون المادة الأولى حبلى به بالقوة أي كل الموجودات‪ .‬وإذن فهذه الأعيان الثابتة في العدم تناظر‬ ‫مفهوم القوة الأرسطي وتناظر مفهوم الأحوال عند سبنوزا‪ .‬فيكون ابن عربي في الحقيقة هو‬ ‫القائل بما يقول به أرسطو قبله وسبينوزا بعده‪.‬‬ ‫وذلك ما يرجعنا إلى فهم أرسطو وفهم ابن رشد لأرسطو‪ .‬والانطلاق من الثاني إلى الأول اي من‬ ‫شرحه لمقالة اللام وشرحه للمقالة الثالثة من النفس‪ .‬ففيهما مجموعي نجد العلاقة بي عقل‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪58‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الإنسانية وعقل العالم أي وحدة الوجود الروحية المقابلة لوحدة الوجود المادية فيكون قوله أشبه‬ ‫بقول هيجل‪ .‬عندنا إذن مربع من تجربتي عربية وغربية لنفس المعضلة الإنسانية الناتجة عن‬ ‫التناظر الثاني بي الجماعة والعالم في فهم الوجود بما هو واحد‪ .‬وهي معضلة تتكرر بلا نهاية وما‬ ‫ذكرناه هو النماذج الابرز في تاريخ الفكرين الديني والفلسفي المعلومي أو على الأقل اللذين‬ ‫سيصبحان معلومي بهذه الرؤية التي هي من اجتهادي الشخصي ولا فخر‪.‬‬ ‫في دلالة شرحيْ مدارج السالكي‬ ‫وما أظنني بحاجة للتذكير بأن أهم المعضلات التي حاول ابن تيمية علاجها وتفكيكها هي هذه‬ ‫المعضلة بعبارتيها المعهودتي وحدة الوجود ووحدة الشهود‪ .‬ولست أدري هل الأمر من الصدف‬ ‫الوجودية أم من العناية الربانية أن يكون اللقاء بي ممثلي المربعي اللذين درسنا قد حصل في‬ ‫شرحي مدارج السالكي المتواليي‪ .‬فلكأن الله أراد لفكر ابن تيمية ممثلا في تلميذه ابن قيم‬ ‫الجوزية أن يناظر بالشرح مدارج السالكي شرح التلمساني في هذين الوجهي من المربعي‪.‬‬ ‫طبعا لا ينتظرن أحد مني أن أعرض جزئيات هذه المسائل الكبرى لأن المجال يتعلق بالإمساك‬ ‫بخيوط الإشكال وليس بعلاج تفاصيلها فكل واحد منها محيط‪ .‬ولأشر إلى المغزى من الجمع بي‬ ‫تجربتي في كلتا الحالتي غربية وعربية في علاج نفس المعضلة الوجودية‪ :‬ليس الهدف المقارنة بل‬ ‫بيان كونية مفهوم الإنسانية وهو رد ضمني على تخريف القائلي بالخصوصية في مسائل الدين‬ ‫والفلسفة المتعلقة بالمعضلات الوجودية التي هي عي كيان الإنسان‪.‬‬ ‫فما هو خصوصي في المعضلات الوجودية ليس جوهرها بل شكلها أي نوع الترجمان في تجارب الكيان‬ ‫التي أرجعتها إلى الأحياز الخمسة وتوالجها وتشاجنها‪ .‬لكن الغاية أعمق من هذا المغزى‪ .‬إنها بيان‬ ‫تفاهة فلسفة ما بعد الحداثة أي تحريف الفلسفة بعد تحريف الدين‪ .‬فثقافات الإنسان متوالجة‬ ‫ومتشاجنة ومتنافذة‪ .‬وهذا التوالج والتشاجن والتنافذ هو المفهوم القرآني العظيم في الآية‬ ‫الثالثة عشر من الحجرات‪ :‬شعوب وقبائل للتعارف والمفاضلة في الكرامة بالتقوى لا غير‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪59‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫تأويل دلالة المربع الأول‬ ‫نعود لمربعنا الأول‪-‬ديكارت ونيتشة والغزالي والتلمساني‪ -‬والحلول التي يقدمونها للإنسانية في‬ ‫فهم العلاقة بي قطبي التنازر الأول‪ :‬الفرد‪-‬الله‪ .‬ونبدأ بزوجي الفردية‪ :‬فنيتشه يقدم حل‬ ‫الإبداع الفني لتعويض موت الرب أو قلب القيم كما يقول والتلمساني يقدم الغطس في اقيانوس‬ ‫الفساد المطلق لنفس العلة‪ .‬ألست أبالغ عندما أقارن حل نيتشه بحل التلمساني أو الإبداع الفني‬ ‫بالفساد المطلق مهربي من الثقب الأسود لظن الإلحاد حلا ممكنا يرضي الإنسان؟‬ ‫‪ .1‬فـحل نيتشه‪ :‬طوفان التوهم الفني تعبيرا إبداعيا عن إرادة القوة وترجمته التاريخية هي‬ ‫العنف المطلق في سياسة العالم للتحرر من إرادة الضعف العامة التي يحتقر مسيحيتها‬ ‫وديموقراطيتها التي هي \"مديوقراطيتها»‪.‬‬ ‫‪ .2‬وحل التلمساني‪ :‬نظرية الأمواج التي تعتبر الوجود تسونامي السيلان الأبدي في العالم وفي‬ ‫الذات أعني الاضطراب الذي سميناه جهنم الإنسان في الدنيا‪.‬‬ ‫ما مهربهما؟ أليس الإبداع الفني للتعالي على إرادة الضعف بإرادة القوة تعويضا للرب المتوفى بل‬ ‫الاستفادة من عالم الضعف بالفساد وحلف الاستبداد عندما تصبح افعال الإنسان بمعزل عن الخير‬ ‫والشر في الحالتي عند نيتشة والتلمساني؟‬ ‫والحصيلة هي أن الوصف الأدق لجل النخب العربية التي تدعي النيتشوية بتوهم أنها مبدعة‬ ‫وقوية ليست إلا تلمسانية تغرق في الفساد وتتحالف مع الاستبداد‪.‬‬ ‫ولست بحاجة لأن أسمي أحدا‪ .‬فمن له اطلاع على شلل ما يسمى بالإبداع في الساحة العربية من‬ ‫هاجر منها ومن بقي يعلم علم اليقي أمانة وصفي للحال الروحية‪ .‬ولعل أكبر فضل لثورة الربيع‬ ‫أنها فضحت كل ما أصفه هنا وأنها بينت بطبيعة انطلاقها ما أقصده بجهنم الإنسانية في الحياة‬ ‫الدنيا‪ :‬الشرارة هي حرق الذات‪ .‬وما كان البوعزيزي يحرق ذاته لو لم يكن التناظر الثاني‬ ‫(الجماعة والعالم) والتناظر الأول (الفرد والله) قد أديا إلى اليأس المطلق واستعجال الحساب‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪60‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فمحمد البوعزيزي حرق المخلوق ليأسه من الخالق بعد عيش جهنم الدنيا متعينة في العلاقة الأولى‬ ‫بي الجماعة والعالم وفي العلاقة الثانية بينه وبي ربه‪ .‬والانتحار الذي تضاعف بأعداد مهولة في‬ ‫جل البلاد العربية ليس معهودا في الحضارة الإسلامية‪ .‬وهذه الظاهرة من أهم علامات الفوضى‬ ‫الروحية التي لها دلالة عميقة في بحثنا‪ .‬لذلك فـمراوحتي بي الفلسفي والحدثي ليست مصادفة‬ ‫بل هي مقصودة حتى نحسم نهائيا مع المخرفي الذين يتصورون الفلسفة كلاما في الهواء لا صلة له‬ ‫بالأحداث‪ ,.‬فالفلسفة ليست «الصليب الاحمر» ترافق آلام البشرية دون أن يكون لها منها موقف‬ ‫من الشرعية في حدود المقدور للإنسان في فعل التاريخ‪.‬‬ ‫وتلك هي دلالة الآية ‪ 110‬من سورة يوسف‪{ :‬حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا‬ ‫جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمي}‪ .‬إنها في الحقيقة ما في الأحداث‬ ‫من معنى وروح‪ .‬فلو لم تصبح الأمة في وضع روحي مأساوي لما كانت أحداثها تصل إلى ما لا يفسر‬ ‫إلا بروحانية اليأس المطلق‪ .‬وروحانية اليأس المطلق من علامات الانقلابات الروحية ذات الدلالة‬ ‫التاريخية الكونية جعلها الله آية من آيات فهم العلاقة بي فلسفة التاريخ وفلسفة الدين‪.‬‬ ‫فالاقتصار على فلسفة التاريخ يقف عن استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا‪ .‬فنيتشة والتلمساني‬ ‫يدعيان ما يشبه البنوة والرسالة استيأسوا من نصر الله‪.‬‬ ‫لكن نيتشه هرب إلى الإبداع بدعوى إرادة القوة وفلسفة العنف على الضعف ممثلا بما يسميه‬ ‫أوهاما وبمعتقديها هروبا من بديل الحقيقة‪ :‬العود الأبدي الذي لا يختلف في شيء عن امواج‬ ‫اقيانوس التلمساني الذي هرب إلى هيجان أمواج البحر ‪-‬الوجود‪-‬وفلسفة اللامبالاة بعنف التاريخ‬ ‫الحضاري المردود إلى التاريخ الطبيعي استمتاعا بالفاني والزائل‪ :‬وذلك هو جوهر الفساد وشرطه‬ ‫الاستبداد الروحي والسياسي‪ .‬كلاهما لم يعد مؤمنا إلا بظاهرات وعيه التي يرد إليها كل ما‬ ‫عداها جاعلا سرديته الهذيانية عي الحقيقة ومعتبرا كل ما عداها هذيان ضعف العامة‪.‬‬ ‫تأويل دلالة المربع الثاني‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪61‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ولنذهب الآن إلى المربع الثاني‪-‬ابن رشد وابن عربي وسبينوزا وهيجل‪-‬ممثلي التناظر بي‬ ‫الجماعة والعالم تمثيلا يناظر بي الزوجي من الحضارتي‪ .‬فقد بينا أن ابن رشد هو القابل‬ ‫للمقارنة بهيجل وابن عربي بسبينوزا بدليلي‪:‬‬ ‫• الدليل الأول هو قراءتنا لفلسفة أرسطو كما فهمها فلاسفة العرب‪.‬‬ ‫• والدليل الثاني هو نقد كنط رشدية هردر في فلسفته التاريخية‪.‬‬ ‫ما أورده من أدلة من اللطائف التي لا يمكن لمن لم \"يثني ركبتيه\" ليتعلم أن يعلمها‪ .‬فتحرير الفكر‬ ‫الغربي من فكر ابن رشد هو نهاية السكولاستيك ولا يعني أنه أسس الحداثة الغربية إلا عند من‬ ‫يجهل أنها قامت على التحرر ليس من ابن رشد فحسب بل وكذلك من أرسطو نفسه‪ .‬أعني تماما‬ ‫عكس ما يدعيه الرشديون العرب الذين يعظمون من دوره زعما أنه مؤسس العلمانية‪-‬لكأن‬ ‫العلمانية ليست متأخرة في الغرب على نهوضه الفعلي‪ .‬فنهوض الغرب ديني وفلسفي أسس لرؤية‬ ‫جديدة للعالم أقرب إلى نظرة ابن سينا والغزالي منها إلى نظرة ابن باجة وابن رشد‪ .‬ولعل حي‬ ‫ابن يقظان لابن طفيل أكبر دليل‪ .‬فحي بن يقظان هو عي ما وصفناه بوحدة الفكرين الديني‬ ‫والفلسفي في ذروتهما كما لدى ابن سينا والغزالي ديكارت ولايبنتز بناة العصر الكلاسيكي‪.‬‬ ‫أخذنا نيتشه والتلمساني رمزا لليأس من الرب لثقب الإنسانية الأسود هربا من جهنم الدنيا إما‬ ‫بالإبداع الفني أو بالغرق في الفساد ويجمع بينهما العنف‪ .‬فلنأخذ الآن رمزا للياس من الإنسان‬ ‫ولثقب الإنسانية الأسود هربا من جهنم الأخرى إما بالإبداع الميثولوجي أو بالغرق في الطاغوت‬ ‫المطلق ويجمع بينهما العنف‪ .‬إنهما سبينوزا وابن عربي‪:‬‬ ‫فالأول يلغي الآخرة بميثولوجيا الصوغ الرياضي لمغلقات الوجود في كتاب الأخلاق وهو مشروع بي‬ ‫ديكارت سخفه لما طلب منه عرض أجوبته على اعتراضات مفكري عصره على التأملات‪.‬‬ ‫والثاني يلغيها بالطاغوت المطلق الذي يرمز إليه قوله بان حاكم الارض ظل لحاكم السماء بحجة‬ ‫أن الثاني لو لم يكن مريدا لذلك لمنعه ومن ثم فهو لا يميز بي الموجود والمنشود وبي المشيئتي‪.‬‬ ‫ويجمع بينهما الفاتاليسم‪ :‬أحدهما يعتبره طبيعيا لان الطبيعة الطابعة عند سبينوزا تشبه ما تمثله‬ ‫إرادة الله عند ابن عربي‪ .‬وابن تيمية طبعا لا يعرف سبينوزا لأنه لم يوجد بعد في عصره لكنه‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪62‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫يعرف ابن عربي يعلم أن الثقب الأسود أو الياس من الجماعة مآله تأليه الطبيعة واعتبار الأمر‬ ‫الواقع أمرا واجبا ومن ثم نفي الفرق بي الموجود والمنشود في رؤية ابن عربي‪ .‬وذلك هو جوهر‬ ‫رفضه لفكره عربي‪ :‬عدم التمييز بي عالم الربوبية وعالم الألوهية أو نفي الحرية والاستسلام‬ ‫للضرورة أي نفي العالم الخلقي كله‪.‬‬ ‫الإنسانية ولعبة المربعي‬ ‫الإنسانية مترددة بي المربع نيتشة والتلمساني وسبينوزا وابن عربي والمربع ديكارت والغزالي‬ ‫وابن رشد وهيجل‪ .‬وتقابل خيارات المربعي همي الأول‪ .‬وذلك هو همي الأول لأنه هو عي‬ ‫الظرف الإنساني ‪ Predicament‬او الشرط الإنساني ‪ Condition‬أعني عي وجود‬ ‫الإنسانية التي هي قلب المعادلة موضوع تأملاتنا هذه‪ .‬لكننا رأينا أن الظرف أو الشرط الإنساني‬ ‫لا يتحدد إلا بالتناظرين بي الفرد والله وبي الجماعة والعالم ومن ثم فنظرية الأحياز تنفذ‬ ‫لبنيتها العميقة‪.‬‬ ‫وهذا يعيدنا لدراسة المرجعية التي هي بالنسبة إلينا نحن المسلمي القرآن الكريم وإقراء الرسول‬ ‫له صحابته المعاصرين له والملازمي للقرآن إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها‪ .‬فهل هو يعرض‬ ‫هذه المعادلات أمثوليا دينيا ومثاليا فلسفيا؟‬ ‫ذلك هو السؤال الغاية‪ .‬سنحاول علاجه فلسفيا في فصل لاحق إن شاء الله حتى نفهم معنى فصلت‬ ‫‪ 53‬وندرك أن حقيقته ترى في الآفاق والأنفس‪.‬‬ ‫القلب النظري والقلب العملي‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪63‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ولأشر في الختام أن قلب المربعي يمثله ابن تيمية في النظر والعقد أي في نظرية المعرفة النافية‬ ‫للمطابقة تمثيل ابن خلدون له في العمل والشرع في نظرية القيمة النافية للمطابقة بنفس التعليل‬ ‫أي بعدم اتصاف علم الإنسان وعمله بالإحاطة والإطلاق‪ .‬وتلك هي علة انشغالي بفكرهما عامة‬ ‫وبمنزلة المعاني الكلية في رسالتي للدكتورا في النظام القديم بجزئيها أي الكلي في الفلسفة جزئها‬ ‫النظري وإصلاح العقل في جزئها التطبيقي على رؤية ابن تيمية وابن خلدون بالمقارنة مع رؤية‬ ‫ارسطو في النظر والعقد ورؤية أفلاطون في العمل والشرع‪.‬‬ ‫فالأول عالج تحريف الفلسفة النظرية والثاني عالج تحريف الفلسفة العملية في عصرهما بداية‬ ‫القرن الثامن وغايته وعملهما الفلسفي مجهول شرقا وغربا‪ .‬وما أحاوله ليس إلا لإنصافهما ما‬ ‫استطعت إلى ذلك سبيلا مثلما سعيت قبل عنايتي بفكرهما إلى إنصاف أرسطو والغزالي اللذين‬ ‫ظلما من قراء التراث‪ .‬فقراء التراث الأرسطي من أبستمولوجي الغرب كانوا يتهمونه بمعاداة‬ ‫الرياضيات فبينت في رسالة الحلقة الثالثة أنه كان أفضل من أفلاطون المزعوم مفكرا رياضيا ‪Le‬‬ ‫‪.statut des mathématiques dans le discours scientifique d'Aristote‬‬ ‫وقراء تراث الغزالي من حداثيي العرب ما زالوا يتهمونه بمعاداة الفلسفة فبينت أنه أول فيلسوف‬ ‫في حضارتنا بدأ يحدث شرخا في الميتافيزيقا بالنقد الابستمولوجي ‪Le concept de‬‬ ‫‪.causalité chez Ghazali‬‬ ‫والعملان كانا باللسان الفرنسي لذلك لم يقرأهما الكثير من مفكري العرب حتى بعد ترجمتهما‪.‬‬ ‫فالأول هو منزلة الرياضيات في خطاب أرسطو العلمي (ما يعادل ‪ )Phd‬والثاني هو مفهوم السببية‬ ‫عند الغزالي (ما يعادل الماجستر)‪ .‬لكن الأهم من الإنصاف التاريخي للرجلي هو التمهيد لفهم‬ ‫الثورتي النظرية والعملية في القرن الثامن الرابع عشر لدى ابن تيمية وابن خلدون‪ .‬وختاما‬ ‫فهذان الرجلان عندما يقرآن قراءة تليق بدورهما الثوري يعيدان النظر في ما أدى إلى تحريف‬ ‫الأديان والفلسفات بصورة تؤدي إلى هذين المربعي‪ .‬ولا عجب في ذلك‪ :‬فالقراءة في الوضعية‬ ‫العربية الحالية تعاني من الانحطاط الذاتي ويغلب على التأصيليي والانحطاط المستورد ويغلب‬ ‫على التحديثيي‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪64‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وذلك ما أطلقت عليه اسم التلوث الثقافي الناتج عن الكاريكاتورين التأصيلي والتحديثي وكلاهما‬ ‫ينخر التراثي العربي والغربي برده إلى قشوره‪ .‬فالتأصيلي يتخيل التحديثي ممثلا للتراث‬ ‫الغربي فيحارب هذا بدلا من ذاك‪ .‬والتحديث يتصور التأصيلي ممثلا للتراث العربي فيحارب هذا‬ ‫بدلا من ذاك‪ .‬لذلك فهما صنفان من الدونكيخوتية يحاربان نواعير الطواحي ظاني أنهم فرسان‬ ‫تحارب فرسان‪ .‬وهذه المعركة الكاريكاتورية هي التلوث الثقافي الحالي‪ .‬ورغم أنها عامة في كل‬ ‫البلاد العربية إلا أنها بلغت الذروة في مصر السيسي‪ .‬من يسمع الشناعات التي يصحبها في الغالب‬ ‫أضخم الألقاب يصيبه الذهول‪ .‬فما أيسر استعمال أفعل التفضيل‪ .‬والرمز القاطع هو طب الكفتة‬ ‫لدكاترة الفيلسوف السيسي الذي يريد من الشعب المصري ألا يسمع إلا له بس‪ :‬التلوث‪.‬‬ ‫تدارك قبل الكلام في المرجعية‬ ‫تجاوزت الحد المقبول في هذا الفصل ولم أعالج إلا النصف‪ .‬ذلك أن أهم مسألتي يطرحهما مفهوم‬ ‫الإنسانية عامة ومعضلاته‪ .‬لذلك فالفصل الخامس سيتواصل في جزء ثان يعادله كما إن شاء الله‪:‬‬ ‫فالمسألة الأولى هي مسألة التلاوم الدائم بي الفرد الإنساني والله وبي الجماعة والعالم‪ .‬فهذان‬ ‫البعدان من معضلات الإنسانية هما مضمون كل دين وكل فلسفة ويتعينان في كيان أي فرد وأي‬ ‫جماعة وفي القرآن الكريم‪.‬‬ ‫والمسألة الثانية هي مفارقة الكلام على الإنسانية وكأنها لا تتألف إلا من الرجال وغابت المرأة تماما‬ ‫وهو ما ينافي حضورها في كيان أي فرد وأي جماعة وفي القرآن الكريم‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪65‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫تجنبا للإطالة في الفصل السادس لجأت إلى هذه الإضافة التي تشبه ضميمة حتى أواصل التأملات‬ ‫في قسمها قبل الأخير حول ما به نشير إلى ما نعتقده \"طبيعة\" القرآن الكريم لتكون رؤيتنا لنص‬ ‫القرآن رؤية نسقية تتعامل مع بنيته العميقة ونظامه الذي يبي أنه نظام ديني وفلسفي في آن‬ ‫رغم التقابل العلاجي فيهما‪ .‬فهو ديني لأنه ينتهي إلى النظر والعقد (الكلام والعقائد) من‬ ‫مدخل العمل والشرع (الفقه والشرائع) بخلاف الفلسفي الذي ينتهي إلى العمل والشرع‬ ‫(الفلسفة العملية) من مدخل النظر والعقد (الفلسفة النظرية)‪ .‬وقد كانت خاتمة الفصل‬ ‫السادس حول القرآن الإشارة إلى الوجهي التاليي‪ .‬وغاية هذه الضميمة استكمال تحديد‬ ‫\"طبيعة\" النص القرآني‪:‬‬ ‫• الوجه الأول‪ :‬تفكيك نقدي لما يترتب على التجارب الدينية السابقة المحرفة في فلسفة‬ ‫التاريخ‪.‬‬ ‫• الوجه الثاني‪ :‬استراتيجية التوحيد التي هي موضوع \"الجلي في التفسير الفلسفي»‪.‬‬ ‫أسلوب العلاج القرآني‪:‬‬ ‫لكن تحديد الطبيعة يقتضي كذلك تحديد أسلوب القرآن في العلاج الساعي لتحقيق هذين‬ ‫الوجهي بوصف الأول ملتفتا إلى الماضي بهدف تخليص سياسة عالم الشهادة مما قطع صلتها بالمثل‬ ‫العليا التي تمثلها سياسة عالم الغيب والثاني ملتفتا إلى المستقبل لإعادة هذه الصلة وباعتبار دور‬ ‫الأول في الثاني ودور الثاني في الأول ليكون القرآن بذلك كما وصفنا هو بدروه علاجا يستعمل‬ ‫منهجي‪:‬‬ ‫الأول علمي وظيفته العلاج النسقي لموضوعه ككل علم وهو المنهج المفهومي أو منهج المثل‪ .‬فالعلم‬ ‫لا يدرس ما يسميه الحداثيون الواقع كما يظهر بل هو يدرس بينة مجردة هي علة ما يجري فيه‬ ‫بنظام هو سر كيانه‪ :‬لذلك فمضمون العلم ليس وصف «الواقع» بل اكتشاف البنية العميقة التي‬ ‫تجعله يقع بنظام هو علة وقوعه كما يقع وهو إذن بنية مثالية‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪66‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الثاني تعليمي وظيفته تبليغ ما يصل إليه المنهج الأول من الحقائق إلى المخاطبي وهو المنهج‬ ‫التمثيلي ومنه ضرب الأمثال‪ .‬وعندئذ ننتقل من منهج اكتشاف البنى المجردة إلى تبليغها بأمثلة‬ ‫معينة‪ .‬وذلك هو الفرق بي دور مبدع النظرية وبي معلمها‪.‬‬ ‫وهذا هو سر الخلط الذي جعل علماء الملة لا يرون من القرآن إلى القسم الثاني فصار التمثيل‬ ‫عي الممثل له وأصبحت علوم ا لملة كلها تعتبر الأصبع المشيرة للأعيان الممثلة وكأنها علم لكأن طالبا‬ ‫يخلط بي الأمثلة التي يضربها المعلم لشرح المفهومات المجردة وهذه المفهومات فتصبح الامثلة هي‬ ‫العلم‪ .‬وإذا أخرجته منها يصبح أصم أبكم وأعمى لا يعقل‪.‬‬ ‫والمنهج الأول يتلقى المخاطب به رسائله العلمية بالتحليل المفهومي‪ .‬والمنهج الثاني يتلقى المخاطب‬ ‫رسائله التعليمية بالتأويل التطبيقي‪ .‬ثم إن القرآن لا يقدم مضمونا علميا جاهزا بل يقدم‬ ‫علاجات للمضامي من خلال تحليل عمل أجهزة الإنسان ي تمكنه من الوصول إليها ويوجهه الوجهة‬ ‫التي تساعده على اكتشافها لكأننا أمام منهجية تعليم التعلم لا منهجية تعليم المعلومات‪.‬‬ ‫فما يوجد فيه من حق ليس إذن مضامي معرفية تفصيلية بل أسس كل معرفة وخاصة توجيه المكلف‬ ‫إلى شرط القيام بما كلف به خلقيا (الاستخلاف في الأرض) ومعرفيا (الاستعمار في الأرض)‪ .‬هو‬ ‫يوجه المخاطب للبحث عن الحقيقة في مجالي متواصلي‪:‬‬ ‫• الآفاق التي هي ما يحيط بالإنسان وهي الطبيعة والتاريخ‪.‬‬ ‫• والأنفس التي هي كيان الإنسان الطبيعي والتاريخي متحدين فيه‪.‬‬ ‫فبي أن القصد بالآفاق العالم الطبيعي أولا أو عالم الضرورة (مجال الربوبية بالمفهوم الديني)‬ ‫ومنه كيان الإنسان العضوي لأنه جزء من العالم الطبيعي بهذا المعنى وله نفس الأحياز كما بينا‪.‬‬ ‫والقصد بها ثانيا عالم الحرية (مجال الألوهية بالمفهوم الديني) ومنه كيان الإنسان الروحي لأنه‬ ‫جزء من العلام التاريخي‪.‬‬ ‫أما القصد بالأنفس فيجمع بي العالمي الطبيعي والتاريخي متحدين في كيان الإنسان وهو عالم‬ ‫الحرية الخلقية المتفاعلة مع الضرورة الطبيعية‪ .‬فكيان الإنسان عضوي لأنه جزء من العالم‬ ‫الطبيعي ولكنه ذو كيان روحي كذلك لأنه جزء من العالم التاريخي أي مما تضيفه الإنسانية‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪67‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫للعالم الطبيعي خلال استعمارها في الارض بقيم الاستخلاف عندما تكون سياسة عالم الشهادة‬ ‫مشدودة إلى عالم الغيب أو بدونها عندما تنقطع هذه الصلة وذلك هو جوهر التحريف بالمعنى‬ ‫القرآني‪.‬‬ ‫وبهذا المعنى فللإنسان نفس الأبعاد التي للآفاق التي هي طبيعية وتاريخية متعينة في هذه الأحياز‬ ‫الخمسة أي المكان والزمان وثمرة تفاعلهما المادية (الثروة) والرمزية (التراث) والمرجعية‬ ‫الجامعة بينها أربعتها وكل ذلك لأن الإنسان مستعمر فيها ومستخلف في الرؤية القرآنية للإنسان‬ ‫وتلك هي الانثروبولوجيا القرآنية‪.‬‬ ‫والتوجيه القرآن إلى العالمي وإلى الانفس إشاري بمعنى أنه لا يكشف حقائقهما التفصيلية بل هو‬ ‫يكشف ما يعرفها به بالإضافة إلى تجهيز الإنسان للتعامل مع الطبيعة ومع التاريخ خارجه ومعهما‬ ‫في ذاته التجهيز الذي يمكن للإنسان بفضله أن يدركها ويكتشفها قواني الآفاق وسننهما فيها وفي‬ ‫ذاته‪:‬‬ ‫‪ .1‬فتوجيه القرآن للإنسان إلى الطبيعة يقتصر على الإشارة إلى فكرتي هما معنى الخلق بقدر‬ ‫وأصل معرفته المدارك العقلية والحسية التي تبحث عن النظام الطبيعي الذي هو عي‬ ‫قواني الخلق بقدر‪.‬‬ ‫‪ .2‬والتوجيه القرآني إلى التاريخ يقتصر على الإشارة إلى فكرتي هما معنى الامر بسنن‬ ‫وأصل معرفته المدارك العقلية والحسية التي تبحث عن النظام السياسي الذي هو عي سنن‬ ‫الأمر بسنن‪.‬‬ ‫وإذن فالقرآن خطاب من القوة الثانية يوجه جهد الإنسان ولا يعوضه بأن يمده بثمرات ما كلف به‬ ‫جاهزا بل هو يوجهه إلى ما جهزه به خالقه من شروط استعماره في الأرض علميا وهو موضوع‬ ‫التوجيه الأول وعمليا وهو موضوع التوجيه الثاني أعي ما هو ضروري للعلاقة بالعالم الطبيعي أي‬ ‫الاستعمار في الأرض وما هو ضروري للعلاقة بالعالم التاريخي أي الاستخلاف فيها‪ .‬وبذلك يجتمع‬ ‫التوجيه إلى ضرورة المعرفة وضرورة القيمة‪ .‬ولما كان العالمان متفاعلي في الاتجاهي من الطبيعة‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪68‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫إلى التاريخ ومن التاريخ إلى الطبيعة وكانت الأنفس تتضمن هذين البعدين وتفاعليهما فإن‬ ‫توجيه الإنسان مضاعف‪:‬‬ ‫‪ .1‬إلى البحث العلمي وثمرته في العالم الأول (الطبيعة) وهو ما يمكنه من شروط استمداد‬ ‫شروط الاستعمار في الأرض‪.‬‬ ‫‪ .2‬إلى البحث العملي وثمرته في العالم الثاني (التاريخ) وهو ما يمكنه من شروط الاستخلاف‬ ‫فيها‪.‬‬ ‫والتوجيه القرآني لا يكتفي بالتوجيه للشروط ولا بالاعتبار أي ببيان ثمرة البحث في الآفاق وفي‬ ‫الأنفس بل هو في آن يؤسس على ذلك كل الادلة التي يستعملها القرآن لأثبات العلاقة بي‬ ‫الاستعمار والاستخلاف في سياسة عالم الشهادة وما يناظرهما في سياسة عالم الغيب التي تعلل تجهيز‬ ‫الإنسان وتسخير العالم لقيامه بتلكما المهمتي‪.‬‬ ‫وبذلك فهو يتعامل مع كيانه الطبيعي مثل تعامله مع الطبيعة ويتعامل مع كيانه الروحي مثل‬ ‫تعامله مع التاريخ‪ .‬والتشارط بي العلم والعمل هو عي التشارط بي العالمي وعي التشارط بي‬ ‫منزلتي الإنسان من حيث هو مستعمر في الأرض ومن حيث هو مستخلف فيها‪ .‬وذلك هو مضمون‬ ‫الرسالة القرآنية بوصفها استراتيجية توحيد وتأطير للعلاقة بالعالمي بتوسط العلم والعمل اللذين‬ ‫يطلبان بالبحث العلمي والعملي في ظواهرهما لمعرفة قوانينهما‪.‬‬ ‫لكن الرسالة ليست ذات اتجاه واحد من الله مرسلا إلى الإنسان مرسلا إليه بل هي كذلك رد من‬ ‫الإنسان مرسلا إلى الله مرسلا إليه من حيث وجهي وجوده مستعمرا ومستخلفا‪ .‬لذلك فالقرآن‬ ‫حوار دائم بي الله والإنسان دون حصر الحوار بي الله ومن اصطفاهم ليكونوا نماذج إنسانية وإلا‬ ‫لاستحال ختم الوحي كما يتوهم التشيع الذي يعتبره متصلا في من يسميهم الأيمة المعصومي‪ .‬وما‬ ‫يثبت ذلك حتى مع وجود الأنبياء والرسل ظاهرة قلما اهتم بها علماء الملة وهي من العجائب فيها‪:‬‬ ‫كلما جاء رسول لاحظنا تدخل إنسان صالح ليس رسولا ينصح باتباعه‬ ‫والمثال الأقصى في ذلك الرجل الصالح الذي جعله كذب المتصوفي الخذر وهو إنسان عادي لا هو‬ ‫نبي ولا هو متصوف بل من جنس «وجاء رجل يسعى » في يس‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪69‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وإذن فالعلاقة المباشرة بي الله والإنسان ليست مقصورة على الاصطفاء لأنها مع آدم الذي‬ ‫استخلفت معه الإنسانية كلها وخاصة منذ أن أخذهم الله من ظهور آبائهم واشهدهم على أنفسهم‪.‬‬ ‫لكن هذه العلاقة المباشرة والتي نراها في الحوار بي الله والإنسان في القرآن يقرأه البعض تبدو‬ ‫وكأنها علاقة بي عبد آبق (الإنسان) وسيد مستبد (الله) في حي أنها علاقة بي إرادتي حرتي‬ ‫إحداهما مستخلِفة والثانية مستخ َلفة‪.‬‬ ‫نعم يبدو الحوار في فهم البعض وكأنه علاقة عدائية بي حريتي غير متلائمتي كل منهما تحمل‬ ‫الآخر الشر الموجود في العالمي الطبيعي والتاريخي‪ .‬ويقرأه البعض الآخر وكأنه علاقة بي متعلم‬ ‫عنيد ومعلم رحيم يحاول إخراج المتعلم من هذه القراءة الأولى ليمكنه من أن يكون سيدا بحق أي‬ ‫ليمكنه من شروط الحرية التي هي علة التكليف حتى يصير بحق عي حقيقته‪ :‬الحرية هي إذن في‬ ‫التحرر من كل الأوثان وعبادة رب الكيان‪.‬‬ ‫المشترك بي الدين والفلسفة‬ ‫وينبغي الإشارة إلى أن كلامنا على الفلسفة اقتصر على الخطاب الفلسفي الخالص ولم نلحق به‬ ‫العلوم لأن هذه لم تصبح علوما إلا بفضل الاستقلال عن الوجه المتجاوز للمعلوم في الفلسفة‪ .‬وما‬ ‫يتجاوز به الديني والفلسفي المعرفي والقيم واحد‪ .‬وهو عي ما ذكرنا عندما ما ميزنا بي الوعي‬ ‫الإدراكي من حيث هو شرط كل علم وكل عمل ومصاحب لهما مصاحبة الشرط للمشروط وبي‬ ‫المعرفة والقيمة المتعلقتي بمضمون محدد يصبح علما وعملا إذا اتسق وانتقل من مجرد التلقي‬ ‫للمعلومات والقيم إلى صائغ لهما بصورة تجعل جزئياتهما تستنبط مما وضع العقل لهما من مبادئ‬ ‫قليلة هي عللها منطقيا محاكية لعللها وجوديا‪.‬‬ ‫لذلك فينبغي ألا يكون كلامنا على المشترك الديني والفلسفي حائلا دون فصل ما يقوله العلم‬ ‫والعمل في القضايا التي نعالجها هنا لأنها ليست مطلوبنا المباشر بل هي ما قد يترتب على ما‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪70‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫نعرضه من عناصر مقومة لهذا البعد القبلي والمتقدم على المعرفة العلمية والقيم العملية لكونهما‬ ‫شارطي لهما‪.‬‬ ‫وهذا العنصر الشارط للمعرفة وللعمل هو الحل الذي انطلق منه ابن تيمية في \"الدرء\" لدحض‬ ‫نظرية التعارض بي النقل والعقل ردا على قانون التأويل الذي عممه الرازي تقديما لما يظنه‬ ‫عقلا على ما يظنه نقلا حال التعارض‪.‬‬ ‫ذلك أن هذه القدرة الشارطة لكل معرفة ولكل قيمة لا بد منها شرطا في المعرفة والقيمة‬ ‫المضمونيتي سواء كانتا نقليتي أو عقليتي‪ .‬ولا معنى حينها للتعارض لأن النقل والعقل كليهما‬ ‫بحاجة إلى نفس القدرة المشروطة فيهما كليتهما معرفة وقيمة‪ .‬ومعنى ذلك أن التعارض إن صادف‬ ‫فحصل لا يتعلق بهما لأنهما قدرة صورية بل بما تتوصلان إليه من مضمونات‪ .‬ولما كان العقلي‬ ‫نفسه له مضمون نقلي معرفيا كان أو قيميا حتى في الشاهد من الوجود فالمقابلة سخيفة‪ .‬لكن هذه‬ ‫المضمونات في الدين متجاوزة لما في الفلسفة بما تضعه من معرفة سلبية من وجهي بات أفق الدين‬ ‫المعرفي والقيمي وحتى الفلسفي أوسع من أفق الفلسفة التي تدعي العقلانية على الأقل قبل أن‬ ‫تصل إلى المرحلة النقدية‪:‬‬ ‫‪ .1‬فالدين يضيف إلى الشاهد من الوجود بعدا غير شاهد أو غيبيا وهو ما يجعله يحد من‬ ‫دعاوى الشفافية المطلقة للوجود والقدرة المطلقة للعقل‪.‬‬ ‫‪ .2‬والفلسفة لم تصل إلى هذا التمييز إلا بعد أن تجاوزت العقلانية الساذجة فتحررت من‬ ‫وهمي الشفافية الوجودية والقدرة العقلية المطلقة‪.‬‬ ‫فقد كانت العقلانية الساذجة تتصور العقل مرآة مطلقة ينعكس عليها الوجود الشاهد بإطلاق‪.‬‬ ‫ومن هنا القول بنظرية المعرفة التي تدرك الحقيقة المطابقة لكأن علم الإنسان علم محيط‪ .‬وكان‬ ‫الفلاسفة يتصورون القصور المعرفي والقيمي إن حصل ناتجا عن منهج الباحث وليس بسبب الوجود‬ ‫المحجوب‪.‬‬ ‫وعدم الوصول إلى الموقف النقدي في الفكر الفلسفي هو الذي يفسر الموقف الأول الذي سميناه‬ ‫علاقة بي عبد آبق وسيد مستبد‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪71‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وهو المنطلق لكل إلحاد بينا أنه موقف مستحيل لأنه في حقيقته‪-‬إذا كان صاحبه صادقا‪ -‬شبه تحرر‬ ‫من هذه الصورة بنفي وجود الله وتحول العبد الآبق إلى سيد مستبد مرحلة أولى هي الغالبة على‬ ‫كل السذج من الملحدين الذين يم يتحرروا من الإلحاد البدائي‪.‬‬ ‫وجها الإشكالية‬ ‫وهذا كاف لأننا تكلمنا على التناظر الأول بي الفرد والله وكذلك على التناظر الثاني بي‬ ‫الجماعة والعالم‪ .‬ومن ثم فلن نعود إلى الحوار بي الله والإنسان في القرآن وسنكتفي بالكلام على‬ ‫الوجهي الواردين في خاتمة الفصل السادس واللذين ذكرنا بهما في بداية هذا الاستدراك عليه‪:‬‬ ‫• الوجه الأول‪ :‬تفكيك نقدي لما يترتب على التجارب الدينية السابقة المحرفة في فلسفة‬ ‫التاريخ‪.‬‬ ‫• الوجه الثاني‪ :‬استراتيجية التوحيد التي هي موضوع \"الجلي في التفسير الفلسفي»‪.‬‬ ‫لكننا سنتكلم في غاية هذا الاستدراك وختما للكلام على القرآن الكريم واستراتيجيته التوحيدية‬ ‫على هذا النوع الفريد من التعليم القرآني الذي يترك الاكتشاف العلمي للعقل الإنساني ولا‬ ‫يقدم حقائق نهائية تحول دون الاجتهاد العلمي فيكون تعليما يعلم الإنسان كيف يتعلم ولا يقدم له‬ ‫المعلومات التي يمكن أن يصل إليها خلال بحثه العلمي‪.‬‬ ‫فقد عرف ذلك الغزالي في مقدمات التهافت عندما قارن تخريفات ما يشبه دعاوى الإعجاز العلمي‬ ‫فقال قولته الشهيرة‪ :‬الدين يكفيه أن يعلم أن العالم الطبيعي (الفلك) مخلوق أما عدد طبقاته‬ ‫وكيفية عملها فلا يختلف عن عدد طبقات البصل وحبات الرمان وهي مجال البحث العلمي‬ ‫الإنساني‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪72‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الوجه الأول‪ :‬التفكيك النقدي للتح ريف ولما يترتب عليه‬ ‫للكلام على هذا التحريف ينبغي أن نميز عليه بصورة عامة ثم على أهم تجربتي هما بؤرة النقد‬ ‫في القرآن الكريم‪ .‬فأما التحريف بصورة عامة فهو موضوع السور التي اعتبرها النبي قد شيبت‬ ‫رأسه أي هود وأخواتها‪ .‬وسأكتفي بهود‪ .‬ففيها سبعة انبياء يدور الكلام عليهما ونبي مخاطب هو‬ ‫الرسول الخاتم ونبيان مضمران هما بداية تصوير الإنسان وغايته أي آدم وعيسى عليهما السلام‪.‬‬ ‫وإذن فالسورة تتكلم على أحد عشر نبيا (سبعة بالاسم والثامن هو المخاطب والإثنان الآخران‬ ‫يمثلان بداية تصوير الإنسان وغايته) خاتمهم المخاطب في السورة (الرسول الأكرم) لا يدعي‬ ‫الإتيان بدين جديد بل هو يذكر بالدين الفطري ويعالج تحريف التجارب السابقة التي تتضمن‬ ‫نفس الدين لكنها حرفت‪.‬‬ ‫والمضمر في السورة لم تتكلم عليه بل هي تفترضه خلفية للكلام على الإنسان الذي هو ليس عبدا‬ ‫آبقا لسيد مستبد بل خليفة مستعمر في الأرض وما يطرأ على تصويره التام بداية (آدم) وغاية‬ ‫(عيسى) من تحريفات جاء الإسلام الفطري ليحرره منها‪ .‬ومن ثم فبلغة سورة العصر يمكن القول‬ ‫إن التحريف هو الخسر الذي لا يخرج الإنسانية منه إلا الشروط الخمسة التي وضعتها السورة‪:‬‬ ‫الوعي بالخسر وبالحاجة إلى الاستثناء منه‪.‬‬ ‫• شرطا الخروج الفردي‪ :‬الإيمان والعمل الصالح‪.‬‬ ‫• شرطا الخروج الجمعي‪ :‬التواصي بالحق والتواصي بالصبر‪.‬‬ ‫وطبعا فالشرطان الأخيران ممتنعان من دون الشرطي الأولي والأصل الذي هو الشرط الأول‬ ‫الذي تتفرع عنه الشروط الاربعة‪ .‬كما أن الشرطي الأولي ممتنعان من دون الشرطي الأخيرين‬ ‫والشرط الأصل‪ .‬ومن ثم فالشروط الخمسة متلازمة طردا وعكسا‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪73‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ولهذه العلة اعتبر الشافعي سورة العصر متضمنة للقرآن كله لأنها عي رسالته ملخصة خاصة إذا‬ ‫فهمنا أن الخسر هو التحريف لأن إمكانية الاستثناء منه تعني أن الأصل المتقدم عليه هو \"خلقنا‬ ‫الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلي\"‪.‬‬ ‫والآن فلننظر في بنية سورة هود‪:‬‬ ‫• القلب منها إبراهيم عليه السلام‪.‬‬ ‫• وقبله ثلاثة تجارب حرفت‪.‬‬ ‫• وبعده ثلاثة حرفت‪.‬‬ ‫ولا تفهم التجارب الثلاث الأولى الغامضة إلا بالثلاث الأخيرة‪ .‬فلو قرأنا نوحا بموسى وهودا‬ ‫بشعيب وصالحا بلوط لفهمنا الأمر الذي شيب رأس الخاتم‪ .‬فالرسالات الثلاث الأولى ملغزة ويعسر‬ ‫فهم القصد منها لأنها لا تحدد بالدقة التامة مضمون رسالة نوح وهود وصالح‪.‬‬ ‫لكن الرسالات الثلاث الأخيرة بينة المضمون لأن المشكل مع لوط يتعلق بفساد العلاقة الجنسية‬ ‫والمشكل مع شعيب بالعلاقة الاقتصادية والمشكل مع موسى بالشرعية التي تحرر البشر من عبودية‬ ‫الاستبداد والفساد‪ .‬فيكون موسى ذا صلة بنوح (دور الماء) وشعيب بهود (دور الاقتصاد) ولوط‬ ‫بصالح (شرط بقاء النوع)‪.‬‬ ‫وبذلك نفهم دور إبراهيم الذي يوجد في قلب المعادلة‪ .‬فهو يمثل مرجعية النقد وطبيعة التحريف‬ ‫موضوع النقد الخاتم‪ .‬ذلك أن الإصلاح الديني المحمدي سيكون بالتحرر من عبادة الطبيعية‬ ‫(الأفلاك التي حاورها إبراهيم) بالعودة إلى مسألة التوحيد (ما انتهى إليه حوار إبراهيم)‪.‬‬ ‫لذلك كانت البشرى التي عجبت منها زوجته‪ :‬إنها البشرى بالرسالة المحمدية التي تنقد‬ ‫التحريفات هذه وتحقق الصلح‪.‬‬ ‫أما لماذا ذكرت المضمر (آدم وعيسى) واعتبرته خلفية القصة كلها فلأن نقد التحريف الذي مثل‬ ‫بؤرة النقد القرآني وما يرد إليه هذا التحريف العام الخاص بالجنس والاقتصاد وبالاستبداد‬ ‫والعبودية تمثل خاصة في الزوجي الاثني التاليي‪:‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪74‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫• تحريف دين عيسى في المسيحية بالقياس إلى دين آدم‪ :‬مسألة الجنس والخطيئة الموروثة‪.‬‬ ‫• تحريف دين موسى في اليهودية بالقياس إلى دين نوح‪ :‬مسألة العنصرية وعبادة العجل‪.‬‬ ‫وحتى لا أطيل فإن اعتبار ما حصل لآدم في الجنة بحسب الأمثولة الرمزية خطيئة موروثة ولعنة‬ ‫دائمة يتنافى مع ما جاء في القرآن من أن آدم تلقى كلمات فأتهمن فاجتباه ربه وعفا عنه‪ .‬وهذا‬ ‫التحريف الأول هو الذي كان نقده ثورة الإسلام الكبرى‪ :‬تحرير الجنس من هذه اللعنة بل ورفعه‬ ‫إلى منزلة لا يسمو عليها في الآخرة إلا رؤية وجه الله‪.‬‬ ‫وحتى لا أطيل كذلك فإن ما قام به نوح في الطوفان كان انقاذ كل الخليقة لتحريرها من الطبيعة‬ ‫وإعادة استنباتها بفعل الإنسان المستعمر في الأرض والمستخلف فيها ينافيه حصر قصة إخراج موسى‬ ‫لأهله من كونها تحريرا للمستضعفي إلى قضية عنصرية بي شعب مختار وجوهيم تنتهي بعبادة‬ ‫العجل أي اعتبار المال هو الرب وهو رمز عبادة الدنيا‪ .‬ولهذا جاء رمز ذبح البقرة التي هي الدنيا‬ ‫ومصر العجل الذهبي لأنها مرضعته لإنقاذ الميت لإخراج البشرية من عبادة الدنيا بل الاستخلاف‬ ‫فيها‪.‬‬ ‫الوجه الثاني‪ :‬استراتيجية التوحيد‪\" :‬الجلي في التفسير\"‬ ‫سورة هود بقلبها الذي يمثله إبراهيم والبشرى التي جاءت لزوجته التي عجبت إشارة لطيفة لمجدد‬ ‫الحنيفية أي الرسول الخاتم‪ .‬فهذا التجديد حصل في أرض عقيم لم يكن أحد يتوقع أنها يمكن أن‬ ‫تنجب الرسالة الخاتمة التي تحقق كل هذه المعجزات في نقد التحريف وما يترتب عليه في حياة‬ ‫البشر من خلال تحقيق ثورتي‪:‬‬ ‫• أولاهما تحرر الإنسان من الخطيئة الموروثة التي هي التحريف الأساسي في الدين المسيحي‬ ‫ومنه سلطة الشفيع ونائبته الكنيسة التي تمثل السلطان الروحي المستعبد للإنسان بصفتها‬ ‫وسيطا بينه وبي ربه في رزقه الروحي‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪75‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫• والثانية تحرر الإنسان من العنصرية الموروثة التي هي التحريف الأساسي في الدين اليهودي‬ ‫ومنه سلطة العجل الذهبي ونائبه الربا الذي يمثل السلطان المادي المستعبد للإنسان بصفته‬ ‫وسيطا بي وبي ربه في رزقه المادي‪.‬‬ ‫تلكما هما ثورتا القرآن الكريم ولا يمكن تحقيقهما من دون فلسفة التوحيد في المستويات الخمسة‬ ‫التي درسناها في هذه التأملات في الفرد بداية وفي الله غاية وبي البداية والغاية نجد الجماعة‬ ‫والعالم وفي القلب الإنسانية من حيث هي مستعمرة في الأرض ومستخلفة فيها‪.‬‬ ‫أسلوب القرآن التعليمي‬ ‫ونختم البحث في هذا الاستدراك بالكلام على أسلوب القرآن التعليمي وهو الأسلوب الذي جعلنا‬ ‫الآيتي المحددتي له شعار الجلي في التفسير‪ :‬إنهما الآيتان ‪ 105‬و ‪ 106‬من سورة الإسراء التي‬ ‫هي بالذات سورة التقاطع بي فلسفة الدين وفلسفة التاريخ‪:‬‬ ‫فهي ترمز إلى فلسفة الدين بالمعراج‪.‬‬ ‫وهي ترمز إلى فلسفة التاريخ بالكرتي‪ .‬والآيتان تتعلقان بأسلوب القرآن التعليمي بالنماذج‬ ‫التحليلية اعتمادا على المثل (تحديد الحقائق) وعلى بالنماذج التأويلية اعتمادا على الأمثال‬ ‫(ترميز المعاني) وهما تتعلقان بمضمون القرآن ومنهجه وطبيعة نزوله وطبيعة تنزيله وعلاقة‬ ‫التعليم النبوي أو السنة به‪:‬‬ ‫«وبالحق أنزلناه وبالحق نزل‪ .‬وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا» (‪.)105‬‬ ‫«وقرأنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا\" (‪.)106‬‬ ‫فالمنزل حق وطريق الإنزال حق‪ .‬ووظيفة الرسول التبشير والانذار‪.‬‬ ‫وطريقة التعليم من الله للنبي التنجيم‪ .‬والغاية القراءة على مكث‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪76‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وطبيعة العلاقة بي فلسفة الدين وفلسفة التاريخ تجعل التاريخ أعيان النوازل الممثلة لحقائق‬ ‫الوجود التي ينزل عليها القرآن لتحديد دلالتها ومعناها الـأخروي‪ .‬فتكون العلاقة بي التاريخي‬ ‫والديني علاقة الأعيان بكلياتها المتعالية عليها‪.‬‬ ‫لكن الإسراء له الدلالتان التي تحددها فلسفة الدين وفلسفة التاريخ‪ .‬فمن حيث فلسفة الدين‬ ‫عودة الرسول الخاتم إلى حقيقة الرسول الفاتح‪ :‬فهو في صعوده من الدنيا إلى السماء (قصة‬ ‫المعراج) يرمز إلى المسار المقابل لنزول الرسالات عودة للمرجع الأول حتى يكون نقد التحريف‬ ‫مستندا إلى مرجعية أصل يتجاوز الأحياز في واقعها لإعادتها إلى واجبها أعني نظام المكان والزمان‬ ‫وثمرتيهما ومرجعيتها أربعة لتخليصها من التحريف‪ .‬وإصلاح التحريف ليس مسألة مفهومية فحسب‬ ‫بل هو معركة تاريخية مع التحريفي‪ .‬لذلك كان لا بد أن يحصل الحسم حيث تعي التحريفان‬ ‫وعلى النحو الذي حدده القرآن‪:‬‬ ‫• القدس خاصة وفلسطي عامة‪.‬‬ ‫• وذلك هو موضوع الكرتي‪.‬‬ ‫ونحن الآن على أبواب الكرة الثانية إذ لا يمكن أن يكون ما يجري حاليا في الإقليم وليد الصدف‬ ‫فالتحريفان الصفوي والصهيوني ماثلان للعي المجردة ومن لا يستطيع فهم ذلك ليس إلا ممن يتصور‬ ‫سياسة عالم الشهادة قابلة للفهم من دون ما يشدها إلى عالم الغيب‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪77‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪-‬‬ ‫وصلنا الآن إلى غاية التأملات الفلسفية للتحرر من التحريفي الديني والفلسفي لندرس مسألة‬ ‫\"المرجعية\" ما معناها؟‬ ‫ولماذا يمكن اعتبارها ملتقى فلسفة الدين بفلسفة التاريخ تعيينا لبعدي الإنسان؟ فـما القصد‬ ‫بتعيي بعدي الإنسان؟‬ ‫إن بعدي الإنسان الوجودين هما واقع وواجب أو موجود ومنشود‪:‬‬ ‫• والأول هو استعماره في الأرض‪.‬‬ ‫• والثاني هو استخلافه فيها بوعي أو بغير وعي‪.‬‬ ‫والتعيي هو الذي يجعل هذين البعدين يتحيزان في الأحياز الخمسة (المكان والزمان وثمرة‬ ‫تفاعليهما في الاتجاهي من المكان إلى الزمان أو الثروة ومن الزمان إلى المكان أو التراث) تعينا‬ ‫يحدد الخصوصيات التي تميز حضارة عن غيرها بهوية مختلفة سواء تساوقت الحضارات في المكان‬ ‫أو توالت في الزمان دون أن تكون المعاني الكلية التي تشير إليها أو ترمز لها مقومة لها تقويما‬ ‫يلغي هذا الكوني المتعالي على الخصوصيات‪.‬‬ ‫مستويا المرجعية‬ ‫فالمرجعية ذات أصل كوني من حيث الطبيعة لأنها مضمون بعدي الإنسان من حيث هو إنسان‪ .‬إنها‬ ‫كلي موجوده أو الاستعمار في الأرض أو سياسة الإنسان لعالم الشهادة وهي كلي منشوده أو‬ ‫الاستخلاف فيها من حيث هو انشداد سياسة الإنسان لعالم الشهادة إلى سياسة الله لعالم الغيب‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪78‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪-‬‬ ‫والمرجعيات كلها حتى العلمانية منها لا تخرج عن ذلك لأن ما تشد إليها سياستها لعالم الشهادة هو ما‬ ‫تنسبه إلى الطبيعة وضرورتها مما يجانس ما ينسبه الدين إلى ربها وحريته‪ .‬فلا فرق بي وضع‬ ‫إله وراء الطبيعة وبي تأليهها إلى كالفرق بي المفارقة والمحايثة وبي اعتبار المبدأ حرا أو اعتباره‬ ‫مضطرا‪ .‬وليس لأي من الموقفي ما يثبته عقلا بل هو مجرد معتقد‪.‬‬ ‫لكن تعينها متعدد بحسب الاندراج في الأحياز مكانا وثمرة (الثروة) وزمانا وثمرة (التراث)‬ ‫ومرجعية وبحسب النسبة بي البعدين‪ .‬وهذه المرجعية هي تحييز خاص للمكوني الكليي‪ .‬فكيف‬ ‫يتم التحييز والتناسب بي المكوني الكليي في الأحياز الخمسة وما دور المرجعية في تحقيق \"لحمة\"‬ ‫خاصة تتوسط بي الإنسان من حيث هو فرد وجماعة والإنسانية من حيث هي نوع (النساء ‪)1‬؟‬ ‫فهي وجوديا ودينيا (في النساء ‪ )1‬علاقة مستوى الربوبية بمستوى الألوهية وعلاقة مستوى الرحم‬ ‫الكوني (وحدة الإنسانية) بمستوى الرحم الجزئي (وحدة جماعة معينة) وتعيير الثاني بالأول‪.‬‬ ‫والمرجعية تتعي بصورة أدق في هوية حضارية تتحول بتدرج إلى هوية شبه عضوية بما يحصل من‬ ‫تقارب في الخاصيات العضوية والسيماء المميزة للجماعة صفات عضوية متماثلة؟‬ ‫ولعل المثال البي لهذا التحول من الحضاري إلى العضوي بسبب التزاوج الداخلي وقلة الاختلاط‬ ‫بالشعوب المجاورة لمدة طويلة هو حضارة الرجل الاصفر‪ .‬فيتفاعل الحضاري والعضوي (التزاوج‬ ‫الداخلي) والمناخي وما يستمد من الجغرافي (الغذاء المتماثل) وعدم الاختلاط وطول التاريخ‬ ‫ليحقق هوية شبه تامة‪ .‬وهذا التماثل العضوي مناقض لما ينبغي أن يكون بمقتضى ما أشرنا إليه‬ ‫بدلالة الآية الأولى من النساء لأنه قد ينتج مبررات للعنصرية باستدلال عضواني زائف‪ .‬ولكن‬ ‫هذه الحالة القصوى قلما تتحقق وخاصة إذا كان تاريخ الجماعة قصيرا ومفتوحا على الجماعات‬ ‫الاخرى فتصبح فكرة في الأذهان لا حقيقة لها في الأعيان كما يرى ابن خلدون مسألة النسب (فوق‬ ‫أربعة أجيال وهمية)‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪79‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪-‬‬ ‫طبيعة فعل نقيض المرجعية‬ ‫وبذلك نصل إلى طبيعة فعل المرجعية بما هي فكرة في الأذهان عن الهوية وبما هي حقيقة في‬ ‫الأعيان بوصفها كيانا حضاريا متميزا بما حققه في أحيازه‪ .‬وقبل أن أواصل الكلام في المرجعية‬ ‫وضروب فعلها فلأبدأ بالكلام على نقيضها ممثلا بالحرب عليها كما تصديت لبعض ممثليها خلال‬ ‫العقود الثلاثة الماضية بضرب مثالي منهم كلاهما متعالم وهو أقرب إلى العامة منه إلى الخاصة‬ ‫التي يزعم الانتساب إليها‪ .‬وسأذكر اسميهما نموذجي لسطحية الناقدين للإسلام على جهل‬ ‫بالحضارتي الإسلامية والغربية‪ .‬فقد رددت عليهمـا‬ ‫الأول باطني هو نضال نعيشه وموقفه من الإسلام باعتباره دين أعراب قائده جلف يسمى محمد‬ ‫هدم جيشه حضارة الشام‪ .‬فيكون عنده لا فرق بي جنكيز خان ومحمد‪.‬‬ ‫والثاني هو رئيس عصابتي العلمانية المغاربية والمشارقية التي تدعي نقد الدين الإسلامي بما‬ ‫تزعمه من علم لا يتجاوز سطحيات الفلسفة الغربية وكلهم لا صلة لهم بالفلسفة‪ :‬أركون ومدرسته‪.‬‬ ‫فهما نوعان مغربي يمثله قائد \"الحركيي\" أركون وتلاميذه خاصة في مدرسة الحضارة في تونس‬ ‫ومشرقي يمثله أبوزيد ومدرسة التأويلية الماركسية الساذجة‪ .‬واليوم نسمع بعض بقايا الصليبية في‬ ‫لبنان ويمثلها الأخرق جوزاف أبو فضل ومسخ الجنرال دوجول وفي مصر عتاة الاقباط في الولايات‬ ‫المتحدة كأبي خليل‪ .‬كما صادف أن رددت على سيدة مهوسة بحرب على الإسلام بعد تحولها إلى‬ ‫المسيحية \"هدى سلطان\" من الشام وهي تدعي التفسير النفسي لما تسميه عقد المسلمي وتنسى‬ ‫تطبيقه على نفسها‪.‬‬ ‫وأخيرا فكل القوميي سواء ادعوا القومية العربية أو الأمازيغية أو الكردية إلخ‪ ..‬ينتسبون إلى‬ ‫تيار الحرب على المرجعية ببدائل استعمارية خالصة ليسوا هم إلا أبواقها‪ .‬وهي كلها بدائل رجعية‬ ‫مرتي‪ :‬فهي تعود إلى ما قبل المرجعية المشتركة ‪-‬الحضارة الاسلامية‪-‬وإلى ما تتصوره قد جبها أي‬ ‫الإرث الاستعماري تبني عليه‪ .‬وتلك هي علة فشل كل الدويلات التي تدعي القومية في تاريخنا‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪80‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪-‬‬ ‫المعاصر لأنها جميعا تدعي ما لا أساس له في المرجعية ومن ثم فهي في الحقيقة طائفية‪ .‬وذلك هو‬ ‫معنى طابعها الرجعي مرتي‪ :‬نكوص إلى ما دون المرجعية الروحية (العرق والطائفة) واستناد إلى‬ ‫هوية استعمارية وليست تعبيرا عن حرية وسيادة‪.‬‬ ‫وقبل الغوص في لطائف المرجعية فلأختم الكلام على هؤلاء الذين يحاربون المرجعية بفكر وصفته‬ ‫بكونه لا علاقة له بالفلسفة فضلا عن العلم والأخلاق‪ .‬فزعيم المدرستي المشرقية والمغربية (أبو‬ ‫زيد وأركون) وكل تلاميذهما من خريجي الآداب العربية والمعجبي بقشور الفلسفة وشعاراتهما‬ ‫السطحية‪ :‬إنهم منتحلو صفة‪.‬‬ ‫الأول ضحية تخلف الماركسية (البنيتان الفوقية والتحتية) والتأويلية الخرافية (ابن عربي)‬ ‫والثاني ضحية مغص وسوء هضم لما بعد الحداثة والدروشة التفكيكية‪ .‬أما البقية ممن ذكرت فهم‬ ‫أميون بإطلاق وخاصة من يحاول أن يواصل فكرهما بدعوى النقد الديني المقصور على سرد أسماء‬ ‫الأعلام والكتب دون قراءتها‪ :‬وجميعهم لم أر أكذب منهم في انتفاخ الأوداج بما لا يعلمون‪.‬‬ ‫كيف تعمل المرجعية‬ ‫ولنعد إلى الإشكالية‪ :‬كيف تعمل المرجعيات التي تتحدد بها الحضارات لتتميز بهوية هي اللحمة‬ ‫التي تمكن من قراءتها وفهم جميع آثارها في التاريخ؟ فما تتميز به حضارة عن حضارة وأمة عن‬ ‫أمة ليس عنصرا بسيطا ووحيدا بل هو شبكة متلاحمة من المقومات التي تمثل مصفوفة أفاعيل‬ ‫رمزية وعضوية تتحيز‪ .‬وكلها من طبيعة كونية ولا تتخصص إلا بأساليب التحيز والتعي‪ .‬فهي‬ ‫تتحيز في الأعيان وفي الأذهان بأبعادهما المخمسة‪.‬‬ ‫فكما رأينا فكل فرد وكل جماعة ذات أحياز خمسة هي مكانها وثمرته (الثروة) وزمانها وثمرته‬ ‫(التراث) والمرجعية‪ .‬وبالنسبة إلى الجماعة فالمكان وثمرته والزمان وثمرته والمرجعية أمرها بي‬ ‫لأنها معان مأخوذة على حقيقتها‪ .‬لكن بالنسبة إلى الأفراد تبدو مجازية‪ .‬وهي في الحقيقة ليست‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪81‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪-‬‬ ‫مجازية بل حقيقية‪ .‬فمكان الفرد هو بدنه وفاعليته هي ثمرة بدنه وزمان الفرد هو عمره‬ ‫وفاعليته ثمرة عمره والمرجعية هي بالذات عي ذهنه أو وعي بذلك عينا للذات‪.‬‬ ‫والسؤال يصبح الآن بي الدلالة‪ :‬فبالنسبة إلى الجماعة هو كيف تتعي حضارة ما في المكان وثمرته‬ ‫وفي الزمان وثمرته وفي المرجعية مقومة للهوية؟‬ ‫وبالنسبة إلى الفرد من الجماعة كيف تتعي حضارته في بدنه وفي ثمرته وفي عمره وفي ثمرته وفي‬ ‫ما يتثمله ذهنه منها باعتبارها عي نسبه الروحي والمادي؟‬ ‫تلك هي الوجوه التي تمكن من فهم الدور الذي تؤديه في بقاء الحضارات ما يجعل كل محاولات‬ ‫القضاء عليها هو جوهر كل حرب نفسية ومادية وهي غايتها القصوى‪ .‬فكما ذكرنا سابقا يعتبر‬ ‫كلاوسفيتز الحرب لم تصل إلى غايتها ما ظلت روح الجماعة صامدة ولم تنهزم نهائيا فتسلم‬ ‫بالهزيمة وتتخلى عن المقاومة‪.‬‬ ‫وإذن فالمرجعية هي كائن من طبيعة مزيجة إليه ترد قوة الأمة العميقة‪ :‬بايولوجية وحضارية‬ ‫جمعهما مجهول الطبيعة هو ما يمكن أن نسميه بروح الأمة التي تثمل طاقة وجود وحرية حية‪.‬‬ ‫تلك هي علة قولي إن لطائف المرجعية من أعسر المفهومات الفلسفية لأنها تجمع بي فلسفة الدين‬ ‫وفلسفة التاريخ أو بصورة أدق بي الروحي العضوي والرمزي الحضاري‪ .‬ومن ثم فهي تراوح بي‬ ‫قانون التاريخ الطبيعي وقانون التاريخ الخلقي‪.‬‬ ‫• فالأول يغلب على بعد الإنسان الأول أو استعماره في الأرض ودور الحروب في التاريخ‬ ‫الإنساني‪.‬‬ ‫• والثاني يغلب على بعد الإنسان الثاني أو استخلافه في الأرض ودور البناء الحضاري‬ ‫المشدود إلى المثل العليا وتجاوز القانون الطبيعي إلى القانون الخلقي المآخي بي البشر‪.‬‬ ‫القرآن مرجعية كونية‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪82‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪-‬‬ ‫وقوة المرجعية القرآنية تتمثل في أنها سعي ديني وسياسي لتحقيق التناغم بي القانوني الطبيعي‬ ‫والخلقي جمعا متوازنا بينهما شرطا للبناء الحضاري كونيا‪ .‬وهما كذلك شرطا التوازن النفسي لدى‬ ‫الأفراد‪ .‬وقد تكلمت سابقا على الثورتي أو اصلاح التحريفي المتعلقي بمسألة المرأة والجنس‬ ‫ومسألة العنصر والمال‪.‬‬ ‫فتحريف دين المسيح في مجال المرأة والجنس وتحريف دين موسى في مجال العنصر والمال هما جوهر‬ ‫العولمة بتخريب العلاقة الجنسية والعلاقة المعيشية في العالم‪ .‬ودعوى التحرير العولمي تحولت إلى‬ ‫عبودية عامة‪ :‬الكل صار عبد السلطان الخفي في مجالي الإنتاج الإنساني الرمزي (ثقافة‬ ‫التخدير) والإنتاج الإنساني المادي (اقتصاد التذهيل)‪.‬‬ ‫• فثقافة التخدير تعتمد الجنس والعنف بما هما فرجة أو جرب أفلاطون‪.‬‬ ‫• وثقافة التذهيل تعتمد لامتناهي هيجل الزائف أو الجوع الأبدي الذي لا يشبع ابدا‪.‬‬ ‫لذلك يصبح الإنسان كما يصفه القرآن كلبا يلهث دائما سواء حملت عليه أو لم تحمل جريا وراء‬ ‫ضمإ جنسي لا يرتوي مصدر الفرجة البورنوجرافية وجوع مادي لا يشبع مصدر الأكل الدائم‬ ‫والسمنة المزمنة‪ .‬وذانك هما مرضا العصر‪.‬‬ ‫فأجرب أفلاطون هو رمز عدم الارتواء والتلذذ بـالأم لأن الأجرب يصيبه هوس الحكاك‪.‬‬ ‫ولامتناهي هيجل الزائف هو تركيم المال الذي لا يتوقف والجوع الدائم‪ .‬وقد جمع هيدجر هذين‬ ‫المرضي في مفهوم واحد يعتبره مميزا للعصر هو \"التخزين\" أو تركيم الاستعداد للامتوقع الذي هو‬ ‫حالة الطوارئ والخوف الدائم من النقص الممكن‪ .‬وهذا التركيم الذي لا يتوقف يتحول إلى نزعة‬ ‫قتل الحي لتجميده وتخزينه للاطمئنان على ما يمكن أن يسد حاجة قد تحصل لتجنب اللامتوقع‬ ‫كمن يخزن الأكل إلى أن يفسد‪.‬‬ ‫وهذا هو الخوف الدائم من المستقبل الذي يعاش كماض إذ ينتقل المرء بخياله إلى لحظة حصول‬ ‫الحاجة التي قد لا يكون مستعدا لها فيعيش كل حياته في مصارعة العدم الممكن‪ .‬وبذلك يصبح‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪83‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪-‬‬ ‫هذا العدم الممكن مرض العني إذ يفقد كل طاقته الجنسية في الفرجة (العجز الجنسي) ومرض‬ ‫الفقير الروحي إذ يفقد كل طاقته الاقتصادية في التخزين‪.‬‬ ‫والفرجة والتخزين يتحولان إلى مغذيي للحاجة‪ :‬فيتحولان إلى أداة للزيادة في الطلب فوق‬ ‫الحاجة الفعلية بخلق نقص اصطناعي هو تجارة الجنس والاحتكار‪ .‬ولما كانت تجارة الجنس تنفي‬ ‫هوية المرأة لتجعلها بضاعة وتجارة الاحتكار تنفي هوية البضاعة لتجعلها تجارة المفقود فإنهما‬ ‫تمددان الروحي (المرأة) وتروحنان المادي (البضاعة)‪ .‬وذلك هو جوهر الوثنية‪ :‬الحرب على‬ ‫المرجعيات والهويات تنتهي في الغاية إلى الوثنية المطلقة التي تمدد الحي (المرأة بضاعة) وتحيي‬ ‫المادي (البضاعة غاية)‪.‬‬ ‫كيف تمدد المرأة وتبضع‬ ‫والمرأة بعد غسل دماغها تتماهي مع هذه الصورة فتصبح لا تعيش إلا لتكون موضوع فرجة‬ ‫وبضاعة وتلك هي غاية النسوية التي تجعل أشرف وظائفها احقرها في عينها لأنها تتنافى مع‬ ‫تبضيعها وتحويلها إلى منزلة الجواري طوعا وليس كرها كان ذلك سابقا‪ .‬فيكون البيت محطة‬ ‫الاستعداد للعرض خارجه ويفقد دوره في الحياة‪ .‬ذلك أن الماكياج لا بد من محوه في ا لبيت‬ ‫لإراحة البشرة ولا بد من تجديده للعودة إلى العرض في الخارج‪ .‬فيكون البيت لعرض القبح‬ ‫وليس العفوية المغنية عن الجمال الصناعي‪ .‬ويكون الشارع لعرض إخفاء القبح بالتجميل‬ ‫التزويقي من أجل الفرجة على الفرجة (المرأة تتفرج على من يتفرج عليها)‪ :‬متعة الجارية هي‬ ‫أن تتفرج على ما يلتذ به المتفرج عليها‪ .‬ونفس الأمر بالنسبة إلى الاحتكار‪ :‬لكن في الاتجاه‬ ‫المعاكس‪ .‬فعرض قبح نقص العرض في العلن أي السوق هدفه إبراز زيادة الطلب والاستعداد‬ ‫لذلك في الخفاء‪ .‬وللظاهرتي علاقة بينة‪ :‬ذلك أن كل فنون التسويق والإشهار تنبني على‬ ‫استعمال جسد المرأة حاملا للشعارات التسويقية والإشهارية‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪84‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪-‬‬ ‫العلاقة بمسألة المرجعية‬ ‫قد يسأل القارئ المتعجل‪ :‬ما علاقة هذا بمسألة المرجعية عامة والمرجعية الإسلامية خاصة؟ ذلك ما‬ ‫سنعود إليه في الاستدراك المكمل لهذا الفصل الأخير‪.‬‬ ‫أما الآن فسأمسك العنان عند هذا الحد لأن لطائف المرجعية شديدة الدقة والتشاجن‪ .‬لذلك‬ ‫سأكتفي اليوم بما قدمت من مداخل نظرية وبعض ما يترتب عليها في الواقع الفعلي‪ :‬فكريا في‬ ‫الحرب على المرجعية ووجوديا بسبب التحريفي حول المرأة والجنس والعنصر والمال‪ .‬وعندما أعود‬ ‫سأتكلم على المستويي التاليي‪:‬‬ ‫المستوى الأول هو كيف تتعي المرجعية في أحياز الجماعة مكانها وثمرته وزمانها وثمرته والمرجعية‬ ‫فتتعي في ذاتها‪.‬‬ ‫والمستوى الثاني هو كيف تتعي المرجعية في أحياز الفرد اي في بدنه وثمرته وفي ذهنه وثمرته وفي‬ ‫كيانه الواعي بذاته أو مرجعيته فيتعي في ذاته‪.‬‬ ‫وحينئذ سنرى المقصود باللطائف لأن الحضارة لا تتعي في الأعيان فحسب بل تتعي في الأذهان‬ ‫فتكون في آن بيئة خارجية متناغمة تحيط بالإنسان مع بيئة داخلية تحيط بها ذات الإنسان‪ .‬وهذا‬ ‫التناغم هو المفقود حاليا في لحظتنا الراهنة وهو سبب كل حرب أهلية لأن عدم التناظر بي‬ ‫البيئتي يولد نوعا من التشغيب والتنغيص قد بلغ حدا التضارب التام فيصبح وقود الحرب‬ ‫الأهلية‪.‬‬ ‫فنحن حاليا نعيش صراعا بي بيئتي مرجعيتي خارجيتي في الجماعة وبيئتي مرجعيتي داخليتي‬ ‫في ذات الأفراد فيكون الكل في حرب مع ذاته وغيره‪ .‬وهذا المناخ المتفجر داخليا وخارجيا هو‬ ‫صدام مرجعيات أو حضارات وذلك هو عي ما أظهرته الثورة والحرب الأهلية التي كانت كامنة‬ ‫وصامتة ثم انفجرت فأصبحت اقتتالا بلا رأس ولا ذيل‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪85‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪-‬‬ ‫والمناخ المتفجر بي حديه الفرد والجماعة يتعي في بيئات الوصل بي هذين الحدين‪:‬‬ ‫‪ .1‬الاسرة‬ ‫‪ .2‬والمعمل‬ ‫‪ .3‬والمدرسة‬ ‫‪ .4‬والمعبد (المسجد عندنا)‬ ‫‪ .5‬والنظام الحاكم وكل مؤسسات وسيطة بي الفرد والجماعة لتحقيق التناغم‪.‬‬ ‫فهذه البيئات الواصلة بي الفرد والجماعة هي التي أصابها نوع من الفوضى فحال دونها وتكوين‬ ‫الفرد تكوينا يحقق الوصل بي بيئة الأذهان وبيئة الأعيان‪ .‬وبذلك يصبح مطلوبنا في الاستدراك‬ ‫على هذا الفصل طبيعة تحقق المرجعية في أحياز الجماعة وفي أحياز الفرد وفي ما بينهما من الأحياز‬ ‫الوسيطة المحققة للتناغم‪.‬‬ ‫ذلك أن الاسرة والمعمل (أي محل للعمل) والمدرسة (أي فضاء للتعلم) والمعبد (أي محل للتعبد‬ ‫والتربية الدينية) والنظام السياسي (اي محل السلطة السياسية) لها هي أيضا نفس الأحياز‬ ‫الخمسة‪ .‬وسنبي كيف تكون الأحياز الخمسة في الأسرة وفي المعمل وفي المدرسة وفي المعبد وفي‬ ‫النظام الحاكم كما هي في الجماعة وفي الفرد‪ :‬مكانا وثروة وزمانا وتراثا ومرجعية‪.‬‬ ‫وبذلك تكون الأحياز أو النظرية التي وضعناها في الجلي في التفسير هادفة لتحديد مقومات‬ ‫الكيان في هذه المستويات جميعا بنية جامعة بي الطبيعي والبايولوجي والرمزي والحضاري‪.‬‬ ‫والمرجعية هي التي توحد ذلك كله بوصفها في آن معالم رمزية عائدة على الذات عودة الوعي لدى‬ ‫الفرد على ذاته وذلك هو مفهوم الهوية المدركة لذاتها‪ .‬واللطائف التي نعد بالكلام عليها هي ما‬ ‫يصل هذه المستويات بي الحدين ثم ما يجعلها تصل بي الحدين لتكون الجماعة ذات لحام روحي‬ ‫متعي تاريخيا‪.‬‬ ‫ووصف اللحام بكونه روحيا ينتج عن دوره المحيط (تصويرا للأحياز في الأعيان) والمحاط (تصوريا‬ ‫للأحياز في الأذهان) عي الكيان للإنسان فردا وجماعة‪ .‬وذلك هو مفهوم الأمة إذا قرآناه قرآنيا‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪86‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪-‬‬ ‫إذ يطبقه على الفرد (ابراهيم أمة) والجماعة (المسلمون أمة) وما بينهما من وسائط بل هو يطبقه‬ ‫على كل الكائنات المتلاحمة بمثل ما وصفنا (أمم أمثالكم)‪ .‬وهذه اللحمة التي يقيسها الرسول على‬ ‫لحمة أعضاء البدن في وحدته الحية ليست عضوية بل هي روحية ورمزية وقد تصبح عضوية‪.‬‬ ‫إنها المرجعية الروحية والحضارية كما تتحقق في الأعيان التي هي أحياز الجماعة وكيان مؤسساتها‬ ‫وأفرادها تعينها في الأذهان محيطة ومحاطة في آن‪.‬‬ ‫وينبغي أن اختم بالقول إن كل الذين يتكلمون على نهاية الملة لا يعلمون ما وراء هذا الكلام‪.‬‬ ‫ذلك أن الملة هي ما يفصل الإنسان عن الحيوان وغير غير الجماعة العضوية التي لا يخلو منها‬ ‫حيوان‪ .‬فالحي لا يقوم كفرد على الأقل بوصفه نصف كائن إذ لا بد من الزوجي ليوجد وليبقى‬ ‫كفرد ولكي يتجدد ويبقى كجماعة‪ .‬لكن ذلك مضاعف عند الإنسان لأن ما تحققه الجماعة لكيانه‬ ‫العضوي لا يكفي حتى لكيانه العضوي بسبب خاصية انثروبولوجية عضوية‪ .‬فالطفل الإنساني‬ ‫بخلاف الطفل الحيواني في ما عدا الجنس البشري لا يستطيع القيام بذاته لمدة هي أطول بأضعاف‬ ‫مدة بقائه في الحمل‪.‬‬ ‫وهي المدة الضرورية ليس لتعلمه حتى سد حاجته مما تنتجه الطبيعة وحماية ذاته بما يكون قد‬ ‫تطور في كيانه العضوي بل لا بد له من تعلم ما ليس لأي من الحيوانات الأخرى من قدرات عليها‪:‬‬ ‫لا بد له من تحصيل الخبرة التي تمر بالخاصية الترميزية أعني التراث المتعلق بالمعرفة والقيمة‬ ‫والأولى شرط التعامل مع الطبيعة لإيجاد ما يسد حاجاته حتى العضوية والثانية لتنظيم عمل‬ ‫الجماعة في تحقيق ذلك وتأسيس التواصل والتبادل‪ :‬وذلك هو معنى الملة تعينا لوحدة الإنسانية في‬ ‫تحصيل الخبرة والتراث الذي هو توارث رمزي يصاحب التوارث العضوي‪ .‬والجهل بهذه الخاصية‬ ‫يجعل الكلام على نهاية الملة من دلالات الجهل بشروط قيام الفرد واتصافه بما يتصف به الإنسان‬ ‫أعني كل المكتسب الذي لا يوفره العضوي والذي لا يكتسب إلا بالرمزي بداية وغاية‪:‬‬ ‫فبداية الاكتساب يتعلق بما يمكن تسميته ثقافة المعرفة وتطبيقاتها للتمكن من العلاقة العمودية‬ ‫بالطبيعة بما يترتب عليها من التبادل بي البشر للتعاون من أجل القيام العضوي للإنسان‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪87‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪-‬‬ ‫وغاية الاكتساب يتعلق بما يمكن تسميته ثقافة الذوق وتطبيقاتها لتتمكن من العلاقة الأفقية‬ ‫بالتاريخ بما يترب عليها من التواصل بي البشر للتفاهم من أجل القيام الروحي للإنسان‪.‬‬ ‫والجمع بي الغايتي هو عي الإنساني في كل فرد إنساني ولا قيام له من دونهما إلا إذا‬ ‫نكص إلى الحيوانية الصرفة بالمعنى الذي يفيده مفهوم الأخلاد إلى الأرض القرآني‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪88‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪-‬‬ ‫نواصل التأملات الفلسفية ونؤجل الاستدراك الذي وعدنا به حول القرآن الكريم لنعجل‬ ‫بالاستدراك حول منزلة المرأة في القرآن بعد أن درسنا منزلتها في الفلسفة‪ .‬فالفلسفة تحدد‬ ‫منزلتها إما بتغييبا بالكلية أو بالحط من شأنها كما بينا في الغالب‪ .‬فيكون الاستدراك حول منزلتها‬ ‫في القرآن متعلقا بحضور المرأة فيه أولا وبالرفع من منزلتها ثانيا بخلاف ما يروج من القول بمنظور‬ ‫يزعم فلسفيا وحداثيا يعكس ىالموقفي فيتهم الإسلام بالحط منها‪.‬‬ ‫وسنرى أن الحضور في القرآن مضاعف والمنزلة مضاعفة كذلك وأن أصل الحضور والمنزلة‬ ‫المضاعفي هو التقدم الوجودي والعضوي للأنثوي على الذكري فيه‪ .‬أعني أن التقابل مع التغييب‬ ‫والحط الفلسفيي للمرأة بالمستويات الخمسة تقابل مطلق‪ .‬فالتغييب مضاعف والحط مضاعف‬ ‫والأصل فلسفيا هو الإنسان اللاجنسي كما في تعريفه بكونه حيوانا عاقلا لأن الفرق الجنسي عند‬ ‫أرسطو مثلا فرق مادي ولا علاقة له بحقيقة الكيان التي هي صورته‪.‬‬ ‫فتعريف الإنسان بوصفه حيوانا ناطقا يجعل المقابلة بي الجنسي بالذكورة والأنوثة راجعة إلى‬ ‫مادة الإنسان لا إلى صورته‪ .‬فيكون الفرق النوعي خاليا مـما في الجنس من فرق لئلا يحصل‬ ‫التعارض مع مبدأ وحدة الفرق النوعي‪ .‬وتكون الناطقية خالية مما فيها من الحيوانية بالمفهوم‬ ‫الفلسفي الذي يتصور حد الإنسان وطبيعته خالية من أي دور للفرق بي الجنسي ويغيب دور‬ ‫المادة فيه‪.‬‬ ‫ويصبح الفرق الجنسي غير مقوم للإنسانية لأنه مادي لكأن الحيوان لا يبرز ما فيه إلا ما جعلته‬ ‫الفلسفة فرقا نوعيا أي العقل شرط الفكر مع غياب شرط الذوق وهو أهم من العقل في كيان‬ ‫الإنسان بل لعل العقل فرع عنه‪.‬‬ ‫وفي خيار الناطقية فرقا نوعيا ضمنيا على الأقل نفي لأن يكون للجنس دور في الناطقية أو رد‬ ‫الذوق للناطقية وحدها والتي تبدو جامعة دون محافظة على فرق يبي ما للمادة في الصورة من‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪89‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪-‬‬ ‫دور لا تلغيه وإن وحدت الجنسي‪ .‬وعندئذ يتعذر فهم دور الذوق والجمال في العقل الإنساني‬ ‫وهما لا يمكن أن يختصرا في العبارة الروحية على العبارة التي يتجلى فيها جوهر الحياة رغم أن‬ ‫للجنس فيها المنزلة الأولى‪ .‬فذروة الذوق الذي تجتمع فيه ذائقة كل الحواس هو الجنس والجمال‬ ‫من مدركات الحواس قبل أن يتجرد ليصبح معنى عقليا والمعنى العقلي من دون تعينه البدني حتى‬ ‫في ا لرسم والموسيقى وفي المجسمات الحاملة لهما مستحيل الوجود‪ .‬والحواس عضوية بالجوهر ومن‬ ‫ثم فما فيها من المادي متقدم على ما يتدخل فيها من الصوري إذ لا معنى للناطقية في الحاسية‪.‬‬ ‫وبهذا المعنى أصبحت كل الأحكام المسبقة التي تنتج عن علاقات الأمر الواقع تصبح وكأنها من‬ ‫الأمر الواجب فتكون المرأة مجرد تابع للجنس الغالب‪ .‬ولما كان الجنس من المتضايف لا معنى‬ ‫للذكورة من دون الأنوثة ولا معنى للتضايف من دون التساوي فإن كل هذه الأحكام المسبقة تمثل‬ ‫خللا في التكافؤ بي حدي التضايف‪ .‬وبهذا المعنى فإن رفع كل الأحكام المسبقة التي تنتج عن‬ ‫علاقات الأمر الواقع بـالأمر الواجب رفع فاقد للأساس المنطقي والوجودي ولا معنى لاعتبار المرأة‬ ‫مجرد تابع للجنس الغالب‪.‬‬ ‫فالتضايف يعني أن التغالب جزء لا يتجزأ من العلاقة الجنسية ولكل منهما مجال غلبة ليس للآخر‬ ‫عليه سلطان‪ .‬وهو ما به يكون للتجاذب بعد يمثل عنفوان الحياة سلطانا فيه بعض التسلط‪ .‬وليس‬ ‫معنى اللطيف والعنيف مدارهما هو هذا السلطان اللطيف أنثويا والخشن ذكوريا لكنهما مجرد‬ ‫ترميز للتجاذب بأسلوبي مختلفي‪.‬‬ ‫لكن ذلك كله جعل الحط يصبح مضاعفا مثل الإلغاء الناتج عن الأصل أي تعريف الإنسان كيانا لا‬ ‫جنسيا‪ :‬الحط ضمنا وصراحة مع التغييبي في الحد الفلسفي وضميره‪ .‬لكن الدين الإسلامي في‬ ‫مرجعيتيه قرآنا وسنة لا يكاد يخاطب الرجل من دون مخاطبة المرأة ما يعني أنها حاضرة فيه لأنه‬ ‫يعرف الإنسان بجنسي متميزين مع بيان التجاذبي بالأسلوبي اللذين غايتهما التآنس والتراحم‬ ‫بيئة روحية لتربية الأطفال عضويا ونفسيا تربية سليمة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪90‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪-‬‬ ‫وهو لا يكتفي بذلك بل هو يعتبر الأصل عائدا للجنس الأنثوي الذي يشتق منه الجنس الذكري‪:‬‬ ‫النساء ‪ 1‬والأعراف ‪ 89‬ولا اعتبار للتفاسير الواهية هنا‪ .‬فقد فرضوا على الآيتي خرافة المرأة‬ ‫التي خلقت من ضلع معوج أعني إحدى الاسرائيليات الخرافية لتأييد الأحكام المسبقة لتقديم‬ ‫الذكورة على الأنوثة‪ .‬فالنص الثاني على الأقل صريـح‪ .‬فزوجها أشتق منها وتغشاها لتحمل منه‬ ‫وهو ما يفرض فهما يحول بإطلاق دون تأويل الآية الأولى من النساء بأن النفس الواحدة ليست‬ ‫هي المرأة‪ .‬فلا يمكن مهما تحيلنا أن نقلب العلاقة فنجعل المرأة هي التي تغشت الرجل ليحمل‬ ‫منها‪.‬‬ ‫النفس الواحدة هي حواء وليس آدم‪ .‬والمطلوب الآن فهم طبيعة الحضور في القرآن انطلاقا من‬ ‫هذه المنزلة الوجودية التي للجنس الأنثوي في كيان الإنسان‪ .‬فهذا الحضور المضاعف كما سنرى‬ ‫هدفه بالأساس كما في علاقة القرآن بالتحريف الديني محاولة علاج التحريف بنقد الأمر الواقع‬ ‫واعادته للأمر الواجب‪.‬‬ ‫فما الأمر الواقع الذي ينقده القرآن في ما يتعلق بحضور المرأة بعد تعريف منزلتها الوجودية‬ ‫وتقدم الأنثوي على الذكري عضويا؟‬ ‫المساواة في الخطاب‪ .‬فالمساواة في الخطاب التكليفي يعني استعادة دور المرأة في الحياة الدينية‬ ‫والدنيوية بعد أن فقدته تماما‪ .‬وهذه الإعادة تتعلق بخمسة أوجه حيوية‪:‬‬ ‫‪ .1‬وأول هذه الوجوه هو تحريرها من تهمة أصل الخطيئة الموروثة في النظرة اليهودية‬ ‫والمسيحية‪ .‬فالمرأة في التوراة عاهرة بالجوهر‪ .‬لم يحتج القرآن لتبرئتها مثل آدم وإذن فهي‬ ‫بريئة أصلا وليست مسؤولة عن العصيان الأول‪ .‬ومما يؤيد ذلك أن الكلام على العذاب‬ ‫الأخروي يكاد يكون مقصورا على الرجال دون النساء‪.‬‬ ‫‪ .2‬وللنساء دور رئيس في الجنة ينافي تأفف الفلاسفة من البعث الجسدي‪ .‬إنه المنزلة الوجودية‬ ‫للأنثى‪ :‬لقاء الجنسي أو وحدة النفس أسمى جزاء بعد رؤية الله‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪91‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪-‬‬ ‫‪ .3‬وما يؤيد ذلك هو منزلة الجنس في الإسلام لا يقتصر على الوظيفة العضوية والإنجابية بل‬ ‫هو مطلوب لذاته بمعنى أن الوحدة بي الجنسي متعة روحية حقا‪.‬‬ ‫‪ .4‬والطلاق من أهم ثورات الإسلام في تحرير المرأة من كونها مجرد مملوك للزوج بعد الأهل‬ ‫إذ تصبح حرة متعاقدة مثلها مثل الزوج وليست مجرد تابع عقدا قابلا للفسخ‪ .‬وهو شرط‬ ‫التعدد المتوالي للمرأة بسبب مسألة حفظ الأنساب مقابل التعدد المتساوق للرجال‪.‬‬ ‫‪ .5‬ومن شروط ذلك كله توفر شرط القدرة التي تعبر عن الحرية أي الذات المالكة التي لها‬ ‫قدرة التعاقد‪ .‬فللمرأة حق الملكية مثل الرجل وحق التصرف الحر بها إذ لها مطلق الحرية‬ ‫في التصرف في الملكية وثمراتها‪.‬‬ ‫وعندما ندرس بتعمق مسألة حق المرأة في الإرث فإننا نجد أن مضمونها الحقيقي ليس تحديد‬ ‫المقدار بل منع الوصية من إلغاء هذا الحق إذ الآية التي تعطي للأخ ضعف الاخت هدفها منع‬ ‫النزول دون ذلك وخاصة قبل أن تضيف السنة مبدأ عدم الوصية للوارث‪ .‬والدليل أن الآية ‪11‬‬ ‫من النساء تقول ما مفاده النهي عن المفاضلة بي الجنسي وبي الأصول والفروع بما يبديه بعضهم‬ ‫من نفاق قد يجعل الموروث يفضل بعضهم على بعض‪\" :‬آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم‬ ‫نفعا فريضة من الله‪.\"..‬‬ ‫فالموصي عادة يفضل الأبناء على البنات في توزيع ملكه بعد وفاته‪ .‬والآية تنهي عن ذلك لأن‬ ‫المفاضلة في هذه الحالة مبنية على أحكام مسبقة للعصر‪ .‬ولا يمكن أن نغير هذا الحد الأدنى من‬ ‫دون المس بحقي من حقوق الإنسان‪:‬‬ ‫‪ .1‬حق حرية الملكية‬ ‫‪ .2‬وحق حرية المعتقد‪.‬‬ ‫فصاحب المال الذي لم يوزعه قبل وفاته بي ورثته يقصد أنه يفضل حكم عقيدته ما يعني ضمنا‬ ‫أنه يفضل الحكم الشرعي في الإرث‪ .‬وهو ما يشبه حق الوصية الشرعية‪ .‬ونأتي الآن للحضور‬ ‫الخاص وليس العام‪ .‬فالحضور العام في القرآن هو التلازم بي الجنسي في الخاطب‪ :‬المؤمنون‬ ‫والمؤمنات إلخ‪ ..‬اما الخاص فمتعي‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪92‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪-‬‬ ‫وقد ذكرت في القرآن عدة نساء حوالي عشرون امرأة لم يعب إلا على ثلاثة منهن‪ :‬زوجة نوح‬ ‫ولوط وامرأة العزيز‪ .‬وبرئت اثنتان‪ :‬مريم وعائشة من تهمة العرض‪ .‬وذكرت خديجة بتعظيم‬ ‫كبير رغم عدم ذكرها بالاسم‪ :‬فالخطاب في دثروني موجه إليها‪ :‬ملجأ الرسول الخاتم وسنده الأول‬ ‫في مفتتح الرسالة وايام الاضطهاد‪ .‬وحتى ملكة سبأ فهي في القرآن تمثل الحكمة السياسية والسمو‬ ‫الخلقي‪ .‬فهي تحكم بالشورى وتسلم بالحكم تقديما لأمر الواجب على أمر الواقع في الملك‪ .‬والأهم‬ ‫من ذلك كله أن النساء الثلاث اللواتي عيب عليهن ما وقعن فيه من خطأ ذي صلة بالجنس اقتصر‬ ‫عقابهن على ما حصل لهن في الدنيا‪ .‬لم نر عليهن وعيدا‪.‬‬ ‫وبهذا المعنى فهمت حديث الرسول الخاتم \"ناقصات عقل ودين\"‪ .‬فنقص العقل فهمته لغويا بمعنى‬ ‫القيد ونص الدين فهمته بمعنى العقاب‪ .‬كما نقول يوم الدين‪ .‬فهن أقل قيدا من الرجل بمعنى أن‬ ‫الخيال عندهن أقوى من العقل المنطقي ومن ثم فهن أصل كل إبداع أو محركات كل إبداع‬ ‫بخيالهن وبوحيهي لخيال الرجل‪ .‬وهن مبرآت أصلا لأن قصة الاستخلاف تجعلهن مسهمات في‬ ‫السماع لإبليس لكن من احتاج للتبرئة هو آدم من دون حواء ما يعني أنها دونه عقابا في الأخرى‪.‬‬ ‫أعلم أن سخفاء العقلانية غير النقدية سيعتبرون هذا الكلام تأويل \"لأساطير الأولي\"‪ .‬لكن‬ ‫أساطير الأولي هي ما حللناه في كلام الفلاسفة عن المرأة‪.‬‬ ‫والآن ما هي الدلالة الوجودية لتقدم الأنثوي على الذكري في قصة الخلق القرآنية؟‬ ‫إذا كانت حواء تعني الحياة في آن فإن الأمر يكون مطلق الجلاء‪ .‬فبي أن الحياة هي أصل الجنسي‬ ‫وأحد الجنسي‪ :‬هي أصل الجنسي بمعنى عي الظاهرة الحية‪ .‬وأحد الجنسي بمعنى أنها ككل‬ ‫الموجودات خاضعة للزوجية‪ .‬ولما كنا نؤمن بأن الوحدانية مقصورة على الله الخالق وأن الله قال‬ ‫بأن الزوجية مبدأ وجودي مطلق للمخلوقات فالزوجية تفترض وحدة بداية وغاية لها‪.‬‬ ‫والوحدة المتقدمة والوحدة المتأخرة قبس إلهي في مخلوقاته يتخلق بالزوجية ليصبح بفعل اللذة‬ ‫الجنسية التي تمثل ذروتها رمز النعيم والخلود جاذبية الحياة‪ .‬وهذه الجاذبية الحيوية تعبر عن‬ ‫الوجود المخلوق وعنها يصدر ما يحققها فنيا وفعليا ومعرفيا وخلقيا‪ .‬لذلك فإنسان يقتبس صفاته‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪93‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪-‬‬ ‫من صفات الله الخمس‪ .‬فهو إرادة وعقلا وقدرة وحياة ووجودا مخلوقا يتعي في الزوجية بي‬ ‫الجنسي اللذين يمثلان بما بينهما من علاقات سلميها وحربيها جوهر الحياة‪.‬‬ ‫ذلك ما أهمله الفلاسفة أو ما جرموه ربما من منطلق تجارب شخصية فاشلة في اللقاء مع الجنس‬ ‫اللطيف‪ .‬ولعل مثال نيتشه في ذلك أبلغ الأمثلة وأوضحها‪ .‬وما كتبت هذا الاستدراك إلا لتفهم‬ ‫النساء وخاصة صاحبات الجندر بأن الدين الإسلامي بخلاف ما غالطهم به سطحيو الحداثة يخصن‬ ‫بمنزلة رفيعة‪ .‬ومحاولات جعل المرأة باسم خرافات حداثية قصارى طموحها أن تكون شبيهة‬ ‫بالرجل فتفسد ما به تتميز عنه من أسخف الأفكار‪.‬‬ ‫فهي بذلك تفقد أجل ما تملك طمعا في أدنى ما يملك الرجل‪ .‬إنهن سيدات الحياة والفن وذوات‬ ‫سلطان أهم ما فيه خفاؤه وما من سلطان حقيقي إلا السلطان الخفي‪ :‬فسلطان الظاهر من رسوم‬ ‫الباطن خلقيا وسياسيا‪ .‬ولعل أخطر نتائج محاولات التشبه بالرجل في الحضارة الحديثة طغيان‬ ‫ظاهرة المثلية الجنسية‪ .‬فلا جدال في أن جزءا من المثلية طبيعي في البايولوجيا‪ .‬لكن شيوعها ليس‬ ‫بايولوجيا بل هو ثقافي‪ .‬وهو ينتج عن خاصية بايولوجية هي قابلية الحاجة الجنسية للسد حتى‬ ‫بالجنس الذاتي أو الاستمناء وهو خاص بالإنسان‪.‬‬ ‫وهو ليس خاص به إراديا فحسب بل وكذلك بصورة لاإرادية تتمثل في الاحتلام‪ .‬لكنه عندئذ‬ ‫يصبح من جنس التفريغ كما في فضلات الأكل ماء وغذاء وليس جنسا‪ .‬والمثلية التي ليست نتيجة‬ ‫لخلقة عضوية دائما بل أغلبها لتعود ثقافي سببها المسكوت عنه هو نظام التربية الكنسي أو الفاصل‬ ‫بي الجنسي وسببها البي هو هذا التماثل بي الجنسي بوصفه موضة ثقافية درسها ابن خلدون في‬ ‫مرحلة الترف للطبقات العليا والفقر الناتج عنها للطبقات الدنيا في الجماعة فضلا عن التخلي عن‬ ‫كلفة الوظائف المختلفة‪.‬‬ ‫فالتبني يغني عن كلفة الحمل بعد التحرر من الإرضاع الطبيعي بالصناعي وشيئا فشيئا تصبح‬ ‫الأسرة ذاتها مما لا تحتمل كلفته فتجدد الأجيال بالزراعة ويصبح الجنس مقصورا على اللاتذاذ‬ ‫مثل التذاذ الأجرب بالحكاك في الرؤية الأفلاطونية‪ .‬ويمكن التعويص باستيراد البشر لتعويض‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪94‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪-‬‬ ‫تجدد الأجيال من المجتمعات التي ما يزال فيها الجنسان قابلي لتحمل كلفة التجديد الطبيعي‬ ‫للأجيال‪ .‬إنه تحول حضاري في عصرنا وليس تحولا بايولوجيا وقد اعتبره ابن خلدون ناتجا عن‬ ‫الترف الذي هو نهاية الحضارة في رؤيته بتوقف الوظيفة العضوية للجنس وشيوع المثلية‪.‬‬ ‫فإذا استجملت المرأة فحتما سيستنوق الرجل‪ .‬فيكتفي كل جنس حتى بذاته بالاستمناء ويتخلص من‬ ‫كلفة الأسرة ودور ربها بمجرد غلبة صفة الذكورة على بعض النساء وصفة الأنوثة على بعض‬ ‫الرجال وهو الأساس العضوي الذي يدعمه الأساس الثقافي في اللباس والزينة والحلي وحتى في‬ ‫الوشم غاية لزينة البدن‪ .‬ولكن في هذه الحالة يحدث أمر عجبا‪ .‬فالرجال لا يبقى لهم إلا المتعة‬ ‫وفقدان الوظيفة العضوية التي لا يبقى منها إلا القاذورات الصرفة بطبيعة الفروج‪ .‬والنساء‬ ‫يفقدن الوظيفة العضوية ولا تبقى إلا المتعة الجنسية ويصبح المبيض مقصورا على ما ينتج عنه‬ ‫من قاذورا الحيض المعطل عن دوره لدى المرأتي‪.‬‬ ‫فيكون الأمر في الحقيقة الانتحار الإنساني أو نكران جميل الحياة من زوجيها‪ .‬كلاهما يقدم متعته‬ ‫الخالصة على ثمرتها العضوية فردا مقابل نوع ينقرض بحكم توقف الإنجاب أو اهماله بصورة‬ ‫تنتج أفرادا مرضى نفسيا يسارعون إلى الانتحار والعنف إذا لم يغرقوا في التخذير الذاتي‬ ‫الدائم‪ .‬ولما كان انقراض النوع ينتج عنه حتما انقراض أفراده فإن العلاقة الجنسية بي الجنسي‬ ‫لكي تكون كذلك تلجأ إلى السوق‪ :‬التبني واستيراد الأجيال‪ .‬وإذن فاستيراد الأجيال من جنس‬ ‫استيراد اليد العاملة بسبب الترف‪ .‬والتخلي عن العمل واستيراد العمالة يليه التخلي عن الإنجاب‬ ‫واستيراد الأطفال‪.‬‬ ‫والحصيلة ان التماثل يلغي جاذبية الفارق بي الجنسي فيستغني كلا الجنسي بالمثلية عن الفرق‬ ‫ويصبح الانجذاب بالجنس المقابل بلا دافع للاكتشاف‪ .‬والتناقض يصبح جليا‪ :‬فتماثل الجنسي‬ ‫يضعهما كليهما أمام التناقض التالي‪ :‬فمن يطلب الأنثى يفضل رجلا متخنثا على امرأة مترجلة‪.‬‬ ‫والعكس بالعكس‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪95‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪-‬‬ ‫فالمرأة التي تطلب الذكر تفضل أن تجده في امرأة مترجلة على رجل متخنث‪ .‬وليست القضية‬ ‫قضية منطق ورفض للتناقض بل قضية علاقة المطلوب بالموجود‪ .‬ولهذه العلة فالرجل المتخنث‬ ‫يتشبه بالمرأة والمرأة المترجلة تتشبه بالرجل‪ .‬فتكون صفة الأنوثة والذكورة هي التي ارتحلت‬ ‫لتحل في الجنس المقابل‪ .‬وهذه الظاهرة عضوية بقدر معلوم‪ .‬لكن شيوعها ليس عضويا بل هو تدن‬ ‫حضاري من جنس ظاهرة الخيانة الزوجية التي أصبحت غرضا مسرحيا وسينمائيا فعمت‪.‬‬ ‫ومحاولتي هذه هي تحليل سيميولوجي لظاهرة اجتماعية تكاد تكون قد عمت في الغرب وهي بصدد‬ ‫الانتقال إلى المجتمعات التي تتغرب بالمحاكاة السطحية‪ .‬أما المطالبة بفرضها تشريعا عالميا للزواج‬ ‫المثلي فهي في الأصل قضية ضمانات اجتماعية‪ :‬لأن الزواج يعطي حقوقا للمتزوجي فيريدون‬ ‫الحصول عليها‪ .‬والمجتمعات المغلوبة على أمرها تخضغ لهذه التصورات القيمية التي تعبر عما ينتج‬ ‫عن الترف الذي هو بداية تحلل القوى الحيوية والانتحار الجماعي‪.‬‬ ‫ويخطئ من يتصور الحل في الفصل بي الجنسي‪ .‬ولا علاقة للإسلام بهذا الفصل بل هو من غباء‬ ‫من يسمون أنفسهم علماء‪ .‬فالإسلام لم يفصل بي الجنسي في أكبر شعيرة هي الحج‪ .‬والفصل بي‬ ‫الجنسي هو الذي يقوي ظاهرة المثلية بي الرجال المفصولي عن النساء وبي النساء المفصولات‬ ‫عن الرجال ولا يقلصها‪ .‬والعلاج هو الاختلاط مع المحافظة على الفروق المؤثرة وأهمها أساليب‬ ‫التعبير عن الذكورة والأنوثة لأن المحفز للتجاذب بي الجنسي هو هذه الأساليب‪.‬‬ ‫فما يجلب الإنسان حتى في المثلية ليس شيئا آخر غير هذه العلامات المحفزة للانجذاب‪ :‬فما يجذب‬ ‫في المثلي المنفعل هو حضور علامات الأنوثة و غياب علامات الذكورة بالنسبة إلى المثلية بي‬ ‫الرجال‪ .‬وما يجذب في المثلية المنفعلة بي النساء هو حضور علامات الذكورة في الفاعلة وغياب‬ ‫علامات الأنوثة‪ .‬فلطافة الجنس اللطيف ليس ضعفا‪ .‬وخشونة الجنس العنيف ليست قوة بل هما‬ ‫من جنس المحفزات الجنسية‪.‬‬ ‫• فالرجل السوي يطلب اللطف لا الضعف‪.‬‬ ‫• والمرأة السوية تطلب \"الخشونة\" لا العنف‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪96‬‬ ‫الأسماء والبيان‬