Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore ابهام مفهومي ينافي الرؤية القرآنية لـمعاني الإنسانية

ابهام مفهومي ينافي الرؤية القرآنية لـمعاني الإنسانية

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2019-02-05 17:49:38

Description: ابهام مفهومي ينافي الرؤية القرآنية لـمعاني الإنسانية

Search

Read the Text Version

‫‪--‬‬ ‫وهذه اللطيفة اساسها ولبها هو بيان امتناع علم السببية لا من حيث الإحاطة بها لأنها‬ ‫لامتناهية ولا خاصة من حيث طبيعة التأثير السببي لأنه مجهول وغامض وغير قابل‬ ‫للتحليل ولا للتعليل ومن ثم فالسببية التي ينفي علمها في لطيفته من الفصل ‪ 10‬حول الكلام‬ ‫غير سببية هذا الفصل الموالي له مباشرة‪.‬‬ ‫ما يعتبره محددا لمدى الإنسانية في الفصل ‪ 11‬من باب المقدمة السادس بعنوان \"في أن‬ ‫عالم الأحداث الفعلية إنما يتم بالفكر\" يتعلق بالترتيب في العمل على علم بالتشارط بين‬ ‫مراحله وما يبنى عليها من ترتيب تحدده العلاقة بين نظام التصور ونظام الإنجاز وهي‬ ‫علاقة استراتيجية الفعل بمستوييه هذين‪.‬‬ ‫والانتظام والترتيب هما معنى الشرع أو القانون في الفعل وتلك هي علاقة العمل‬ ‫والشرع المشروط بعلاقة النظر والعقد في الفكر‪ .‬وعندما يصلهما ابن خلدون بالاستخلاف‬ ‫فهو يعتبر ذلك سلطة أو سلطان هو معنى الرئاسة بالطبع وبمقتضى الاستخلاف‪ :‬حرية‬ ‫الإنسان أساسه ما له من سلطان على عالم الحوادث‪.‬‬ ‫وهذا السلطان على الأفعال فعلي وهو مبني على الفكر بالمعنى الذي حلله ابن خلدون‬ ‫ولا يمكن فيه الاعتماد على التصرف الموهوم في الأكوان في دعاوى الأولياء من دجالي‬ ‫المتصوفة‪ .‬ومن هنا نفهم أن أدلة القرآن ليست مستمدة من خرق العادات بل من النظم في‬ ‫الوجودين الطبيعي والتاريخي‪.‬‬ ‫وهذا السلطان له بعدان ابستمولوجي أو معرفي وأكسيولوجي أو قيمي‪ .‬والسؤال هو‬ ‫كيف يفقد الإنسان هذين البعدين فتسد فيه معاني الإنسانية؟ ذلك هو مطلوب بحثنا في‬ ‫نظرية ابن خلدون‪ :‬التربية العنيفة تفسد معاني الإنسانية للأفراد والحكم العنيف يفسد‬ ‫المعاني الإنسان للجماعات‪ .‬وبهما ينتهي وجود الأمم‪.‬‬ ‫وإذن فابن خلدون يتهم الوساطة في التربية لأن وجودها نفسه هو العنف بالجوهر إذ هو‬ ‫توسط بين الخليفة والـمستخلف أو بين الإنسان وربه بدعاوى العلم اللدني الذي بلغ ذروته‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪48‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫في عبارة المريد ميت يغسله الشيخ الصوفي‪ .‬وهذا طبعا رمز مآل الوساطة في أقصاها نفيا‬ ‫لكون الإنسان رئيسا بالطبع والاستخلاف‪.‬‬ ‫وما تحققه الوساطة بين الخليفة والمستخلف يعتبر عنفا رمزيا تتأسس عليه الوصاية بين‬ ‫الخليفة وأمره مسؤولا على التعمير والاستخلاف فيقضي عليهما بالاستبداد على الرزق‬ ‫المادي استمداد الوسيط على الرزق الروحي فيصبح الإنسان فعلا ميتا يغسله الأول‬ ‫ويضطهده الثاني بل ويقطعه بالمنشار غاية للفجار‪.‬‬ ‫وكل من قرأ ابن خلدون يعلم رأيه في دور هذا النظام التربوي بالمقابل مع التربية‬ ‫النبوية في القضاء على الأنفة الإنسانية وإزاله ما في المتعلم من معاني الإنسانية إزالة‬ ‫يحققها العنف في التربية لا تختلف عما يحققه العنف في الحكم‪ :‬نهاية الرئاسة بالطبع‬ ‫وبالاستخلاف‪ .‬فتفسد معاني الإنسانية‪.‬‬ ‫وبذلك تصبح الثقافة التي هي ثمرة التربية النظامية والاجتماعية ومادتها ووسطها بيئة‬ ‫لإنتاج نسخا مسيخة من الإنسان لأن فساد معاني الإنسانية كما يعرف ابن خلدون ثمرته‬ ‫المرة هي فقدان ما للإنسان من حيث التمدن نكوصه إلى أسفل سافلين فيكون كسولا منافقا‬ ‫خبيثا وعاجزا عن حماية ذاته ورعايتها‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪49‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫بقي علينا أن نعالج المتنافيات الأخرى في الثقافة وفي الاقتصاد وفي السياسة وهي غاية‬ ‫البحث من البداية لأن المشكل بدأ مع \"التدافع\" السخيف الذي هو تبن لا واح للرؤية‬ ‫الجدلية الصراعية‪ .‬وهو تقريبا نظير تبني نظرية صدام الحضارات التي هي نفي مطلق‬ ‫للنساء ‪ 1‬وللحجرات ‪ 13‬رؤية الإسلام الثورية‪.‬‬ ‫ونبدأ بالثقافة التي عرفناها بكونها الوسط أو البيئة المحددة لكل ما عداها ليس بوصفها‬ ‫مغنية عنه بل بوصها شبه مجال مغناطيسي كل شيء يجري فيه ويخضع لعوامل التحديد‬ ‫التي تترتب عليه في علاقة ما عداه به لجريانه فيه سواء كان أكثر منطقا كما في التعبير‬ ‫العلمي أو أكثر ذوقا كما في الفنون‪.‬‬ ‫وقد أشرت إلى المتقابلات المزعومة‪ .‬ففي الثقافة يتكلمون على التدافع بين المحافظة‬ ‫والتجديد‪ .‬وفي الاقتصاد بين العمل ورب العمل وفي السياسة بين الحكم والمعارضة‪ .‬وهذه‬ ‫كلها يعتبرونها خاضعة لمنطق التدافع الذي هو ترجمة لا واعية لمنطق الصراع الجدلي‬ ‫ومجموعها القول بصدام الحضارات‪.‬‬ ‫والمعلوم أن صدام الحضارات ترجمة حديثة لصراع أرواح الشعوب الهيجلي‪ .‬وهو ما‬ ‫يؤيد الترجمة للاواعية للجدل بعبارة التدافع‪ .‬وصدام الحضارات بعودته إلى صراع‬ ‫أرواح الشعوب في الحكمين المسبقين للعنصرية والجدلية‪ .‬ففيه مفاضلة بين الحضارات‬ ‫والشعوب وحرب أهلية كونية تجعل واقع الصراع مثال الوجود‪.‬‬ ‫وعندما أقابل بين الأمر الواقع والمثال اعترف بأن ظاهر ما يجري في التاريخ يبدو وكأنه‬ ‫مؤيد للرؤية الجدلية لكنه يكون كذلك لو اعتبرنا ما نعلمه من التاريخ هو حقيقته وليس‬ ‫ما ندركه منه بمعنى أن ذلك يكون كذلك لو أن علمنا كان فعلا محيطا إحاطة تلغي وجود‬ ‫عوامل نجهلها ولا نستطيع تقدير تأثيرها‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪50‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وحتى ندرك أهمية هذه المسألة فليحاول أي إنسان أن يتوقع المستقبل مهما كان له من‬ ‫وسائل الحساب‪ .‬فسيجد المسافة بين توقعه وما يحصل لما يحصل لا تكاد تقدر‪ .‬ذلك أن أدنى‬ ‫حدث قد نهمله يمكن أن يقلب كل شيء مثال ذلك أن اغتيال خاشقجي وانتحار بوعزيز‬ ‫لهما في تاريخنا الحاضر وقع الزلزال وارتداداته‪.‬‬ ‫ويكفيني أن أتخيل موقف ملوك العصر الذي نزل فيه الإسلام لما تلقوا رسائل الرسول‪:‬‬ ‫فأغلبهم يمكن أن يكون قد قارب الموت من الضحك نظرا لما كانوا يرون عليه حال العرب في‬ ‫ذلك الوقت‪ .‬جماعة على هامش التاريخ جلهم خاضعين لاستعمارهم يأتي منه رجل يدعوهم‬ ‫بقوله أسلم تسلم‪.‬‬ ‫ولسان حالهم يقول‪ :‬من هذا \"الدعي\" الذي يرسل رسالة بوعد ووعيد وهو في أمة على‬ ‫هامش التاريخ جلها مستعمر منا؟ ولو قال أحد منا اليوم ذلك لأمريكا وروسيا أو حتى‬ ‫لذراعيهما إيران وإسرائيل لسخر منه رغم أن التاريخ الإسلامي يجعل ذلك ليس مما يهزأ‬ ‫منه بسب ما كان لهذه الأمة من سيادة كونية‪.‬‬ ‫ولذلك فما من أحد عبر عن إعجابه بحضارتنا لم يكن في اعجابه تعجبا مما حققه العرب‬ ‫وهم من هم بمعنى أنه في الحقيقة ليس اعجابا بل فيه احتقار المتعجب‪ :‬آش يطلع من ها‬ ‫البدو الذين غزو العالم المتحضر في أقل من خمسين سنة فقضوا على أكبر إمبراطوريتين‬ ‫كانتا محتلتين لجل هذا العالم المتحضر‪.‬‬ ‫وحتى يفهم القاري سر التاريخ فليقرأ تعليقات هذا الصهيوني الأحمق‪-‬كوهين‪-‬يفاخر‬ ‫العرب ويعبر عن احتقاره لهم وهو يعلم علم اليقين أن قومه لا يساوون صفر فاصل بالقياس‬ ‫إلى العرب لأن مؤامراتهم التي يتصورها ذكاء جعلتهم خدم لمفايات العالم ومشروع نكبات‬ ‫متوالية طيلة تاريخهم وستقضي عليهم أمريكا‪.‬‬ ‫وكان نص نيتشه في معاني التاريخ من التاملات‪Unzeitgemäße Betrachtungen‬‬ ‫تطبيقا حرفيا للجدل الهيجلي رغم ما نعلم من احتقار نيتشة لهيجل لان المعلمي والنقدي‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪51‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الذي يهدمه من أجل الحياة وبينهما غايته تجنب المتحفي أو التاريخ الميت كنت اعتبره فتحا‬ ‫والآن صرت أبتعد عنه لما فيه من منطق دارويني‪.‬‬ ‫وحتى بالمعنى الدارويني فالحي لا يتجدد إلا بقدر ما يحافظ وليس بين المحافظة والتجدد‬ ‫تناف أصلا لأن ما يتجدد هو دائما من بذرات ما يحفظ دائما حتى في البايولوجيا ناهيك عنه‬ ‫في الثقافة‪ .‬فما من حركة تجديد ثقافي إلا وهي تأويل للقديم إما بمعنى اكتشاف ممكنه أو‬ ‫الاستدراك عليه‪.‬‬ ‫وخرافة القطائع تتنافى مع تاريخ العلم وتاريخ الفن وتاريخ الإبداع عامة سواء تعين في‬ ‫الرموز التواصلية أو في المعالم المادية للإبداع الحضاري وهي لا تستمد معناها من الارتسام‬ ‫المتدرج للوحة الحضارية التي يكون فيها المحفوظ شبه أرضية ينتأ عليها الجديد فيكون‬ ‫الجديد فعلا البارز وليس القاطع‪.‬‬ ‫فغالبا ما يكون البارز بارزا بالمعتق فيه وليس بما يقطع مسار تكونه‪ .‬فما يقطع مع التعتق‬ ‫يكون شبه عديم الاصل في الأنساب‪ .‬ولهذه العلة فالفنون من حيث هي مادة الذوق الجمالي‬ ‫تشبه الذوق المادي في المشروبات وفي المأكولات بما فيها عروق ضاربة في القدم وفي نقل ما‬ ‫في الحضارة من ذوق بالمعنيين‪.‬‬ ‫والثقافي هو دال ومدلوله الحضاري سواء كان رمزيا أو ماديا‪ .‬ولذلك فقد وضع ابن‬ ‫خلدون عبارته شبه الرياضية في الباب الأول من المقدمة بعد أن يكون الإنسان قد حول‬ ‫الجغرافيا الطبيعية إلى جغرافيا حضارية والزمان الطبيعي إلى زمان تاريخي بتفاعل بين‬ ‫الإنسان وأحياز وجوده فيه وفي العالم‪.‬‬ ‫فيصبح بدنه من ثمرة جغرافيته وروحه من ثمرة تاريخه وتصبح جغرافية عالمة ثمرة مما‬ ‫يحتاج إليه بدنه وتاريخ عالمه ثمره مما يحتاج إليه روحه ويكون هذا التثامر المتبادل بين‬ ‫أحياز الأنسان الذاتية وأحياز عالمه كيانا واحدا الحضارة هي مدلوله والثقافة هي داله‬ ‫والتاريخ تداولية بين الإنسان وبيئته‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪52‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وهذه الظاهرة التي حاولت صوغها بأبعاد علم اللسان فيها دلالة وتداول ذكرتهما وفيها‬ ‫بعدان آخران هما السنتاكس والمعنى‪:‬‬ ‫‪ .1‬يمكن تسمتيه منطق العلاقة بين نوعي الأحياز في كيان الإنسان وفي كيان العالم‬ ‫‪ .2‬يمكن تسميته ما يتجاوز الدلالة من معان مفتوحة على الممكن اللامتناهي الذي‬ ‫الرموز‪.‬‬ ‫الثقافة لها أبعاد اللسان الخمسة وليس الثلاثة كما هو سائد في نظرية اللسان‪ :‬فالدلالة‬ ‫لا تحيط بالمعنى‪ .‬فهي تابعة لمرجعية متناهية والمعنى لا متناهيها والتداولية نوعان تابعة‬ ‫للدلالة بين المختصين بلغة شبه صناعية وتابعة للمعنى بين الفنون ولا حد مرجعي لها‪ :‬عالم‬ ‫الشعر المطلق‪.‬‬ ‫ويبقى السنتاكس وهو في هذه الحالة ليس النحو وليس المنطق بل هو كل ضروب منطق‬ ‫التأويل الممكن للمعادلة التي وضعها ابن خلدون في الباب الاول حيث يلتقي الإنسان‬ ‫بالطبيعة فيؤنسنها وتطبعنه فيحصل كائن جديد مسماه الحضارة في كيانها الفعلي واسمه‬ ‫الثقافة في كيانها الرمزي‪ :‬وهذا لا متناه كذلك‪.‬‬ ‫ونظام التسمية بصورة عامة هو الثقافة التي هي تأويلات الحضارة اللامتناهية باستعارة‬ ‫من اللسانيات وهي في آن تداولية بين الإنسان الطبيعة وتأويلية لهذه التداولية هي‬ ‫التاريخ بالقياس إليها وبالقياس إلى ذاته لأنه دائم العودة على ذاته‪ :‬ولذلك قلنا إن أبعاد‬ ‫الزمان فيه مخمسة وليست مثلثة‪.‬‬ ‫فماضيه مضاعف احداث سابقة وأحاديث لاحقة‪ .‬والمستقبل مضاعف أحاديث سابقة‬ ‫وأحداث لاحقة‪ .‬والحاضر هو تحاضر الحديثين المؤول للماضي والمؤول بالمستقبل‪ .‬فيكون‬ ‫للتأويل معنيان‪:‬‬ ‫‪ .1‬ترجمة لأحداث الماضي الغائبة في أحاديث الحاضر‬ ‫‪ .2‬وترجمة لأحاديث المستقبل الحاضرة في أحداث المستقبل الغائبة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪53‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫والحاضر الذي يتلقى فيه تأويل الحدث الماضي الغائب في حديث الحاضر وتأويل حديث‬ ‫المستقل الحاضر في الحاضر في أحداث المستقبل الغائبة في الحاضر‪ .‬وهذا الحضور والغياب‬ ‫هو الذي يتصوره القائلون بالجدل صراعا في حين أنه عين التكامل الوجودي حاضر يحيط‬ ‫بما تقدم عليه بما يتلوه وهو الثقافة‪.‬‬ ‫ولهذه العلة فكل الذين يقولون بوجوب قلب الصفحة مع ماضينا الحضاري وتأويلاته‬ ‫الثقافية هم في الحقيقة من القائلين بالمنطق الجدلي الصراعي بالصورة التي ترد التاريخ‬ ‫إلى التأويل الدارويني الزائف للتاريخ الطبيعي‪ .‬ذلك أن التاريخ الطبيعي نفسه ليس‬ ‫مبنيا على المنطق الجدلي الصراعي‪.‬‬ ‫وقد سبق فبينت أن ذلك حتى لو قبلنا به فرضيا فهو يعني أنه توجد غائية للحي وبينه‬ ‫وبين المحيط الطبيعي الذي يجد فيه اسباب عيشه وهو أمر يعني أن ما يجري ليس محكوما‬ ‫بالصدفة وإلا لما حافظ الحي على ما يحدث بالصدفة لتكون الحصيلة تطورا مفيدا للحي‬ ‫عامة‪ :‬الغائية والصدفة لا يتماشيان‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪54‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وصلنا الآن إلى أصل كل الخرافات الماركسية‪ :‬الاقتصاد وأسطورة البنية التحتية والبنية‬ ‫الفوقية وما بينهما من جدل مضاعف في مكوني كل واحدة منهما وبين البنيتين‪ .‬فالبنية‬ ‫التحتية مضاعفة أدوات الإنتاج وعلاقاته والفوقية مضاعفة ويمكن رد عامليها إلى‬ ‫المؤسسات القانونية والمؤسسات الإيديولوجية‪.‬‬ ‫فإذا كانت الدولة من حيث هي دولة لا تكون إلا طبقية بذاتها وليس بمضمون معين من‬ ‫تطورها ألا يعني ذلك أنهم يعتقدون أن الجماعة يمكن أن تنظم من دون دولة أو أن‬ ‫الانتظام يمكن أن يوجد من دون سلطة تكون قيمة عليه حتى لو كانت ديموقراطية مباشرة‪.‬‬ ‫بالنسبة إلى الفكر هل يمكن أن يقتصر على \"العلمي\"؟‬ ‫ألم يؤد الوهم الأول مع الثاني إلى وساطة كنسية في شكل معلمن هو الحزب الشيوعي‬ ‫والنمنكلاتورا التي هي رجال الكنيسة الشيوعية المعلمنة سلطة وساطة تضفي الشرعية‬ ‫على سلطة وصاية هي دولة الحزب الشيوعي و\"علم\" مقدس هو المادية الجدلية التي هي‬ ‫\"عقيدة\" وحدانية مطلقة مثل دوغما الكنيسة؟‬ ‫وطبيعي جدا أن يكون ذلك كذلك لأن الأصل فيه هو عودة هيجل إلى ما قبل النقد‬ ‫الكنطي والقول بنظرية المعرفة المطابقة بمعنى أن ما نعلمه من الوجود هو حقيقة الوجود‬ ‫المحيطة به وهي علم مطلق يتطابق في العقلي والواقعي ولا شيء وراء ذلك يمكن أن يبقى‬ ‫الباب مفتوحا للاجتهاد النظري والجهاد العملي‪.‬‬ ‫ومن الحمق نفي دور الاقتصاد لكن ما أكثر حمقا هو حصر الفاعلية التي تفهمنا تاريخ‬ ‫الإنسانية فيه أو حتى ظنه العامل الأفعل‪ .‬فالمسألة الأعمق هي طبيعة المحرك في التاريخ‬ ‫الإنساني‪ :‬أدوات فاعلية لسد حاجاته أم غاياتها؟‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪55‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫هل هي الموجود منها أم المنشود في صلة الإنسان بشروط قيامه وطبيعة تجليها؟‬ ‫والجواب عن هذه الأسئلة كلها يرد إلى طبيعة العلاقة بين الاقتصادي والثقافي‪ .‬فإذا‬ ‫اعتبرنا الاول جوابا عن سؤال أدوات سد الحاجات المادية والروحية والثاني سؤال تحديد‬ ‫الغايات أي الحاجات المادية والروحية صار فاعل التحريك هو الثاني والأول يتحرك بطلب‬ ‫من الثاني المحدد للحاجات بنوعيها‪.‬‬ ‫صحيح أن الاقتصاد يمكن أن ينتج حاجة لم تكن موجودة فيصبح هو الذي يحدد الغايات‪.‬‬ ‫لكن ذلك يعود إلى الثقافة كذلك لأن الاقتصاد لا ينتج الحاجة والطلب عليها إلا بفضل‬ ‫اكتشاف ما في الثقافة من ترف في لحظة ما لهذه الحاجات التي ليس لها علاقة بالحاجات‬ ‫المباشرة بل بالحاجات الرمزية مثل الدالة على الثراء أو على الطبقة أو على تنوع الذوق‬ ‫وخاصة‪.‬‬ ‫وذلك هو دور خلق الموضات وهي ظاهرة تبدو نسوية بالأساس‪ .‬لكنها في الحقيقة هي‬ ‫ظاهرة شاملة للجنسين لأنها من أدوات تجديد مظاهر الذات لجلب انتباه الجنس الثاني‪.‬‬ ‫وهي تظهر نسوية لأن الذوق الجنسي غريب الأطوار لأن قسمته ليست متساوية‪ .‬فالرجل‬ ‫يبدو أكثر طلبا للجنس خلطا بين الجرأة على المجاهرة به وبينه‪ .‬لكن المرأة هي المحرك‬ ‫الفعلي للذوق الجنسي حتى عند نفسها فضلا عنها عند الرجل‪.‬‬ ‫وما يظن نسويا في ظاهرة الموضة هو علامة ذلك‪ .‬والمرأة أكثر تأثرا لأن لطافة الذوق‬ ‫الجنسي عندها يمكن أن يستثار حتى بالأقوال في حين أن الرجال ذوقهم الجنسي مصاب‬ ‫ببلادة عجيبة إذ يتطلب الأفعال وهذه الوظيفة الفعلية التي هي التغنج الاستثاري لا يمكن‬ ‫تعويض أفعال المرأة فيه‪ :‬هي إذن المحرك الفعلي للحياة من البداية إلى النهاية في تجديد‬ ‫الأجيال دفعا إليه ورعاية له‪.‬‬ ‫ولهذه العلة ففي القرآن (الأعراف ‪ )189‬الأصل في وجود النوع الإنساني ليس الرجل‬ ‫بل المرأة بخلاف اسطورة المرأة من ضلع أعوج من آدم‪\" :‬هُ َو الَّذِي َخلَ َق ُكم ِمّن ّنَفْ ٍس وَاحِدَ ٍة‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪56‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫َو َجعَ َل ِم ْن َها زَوْجَهَا لِ َيسْكُنَ ِإ َليْهَا ۖ َف َل َمّا َتغَ َّشاهَا حَ َملَتْ َح ْم ًلا َخفِي ًفا َفمَ َرّتْ ِبهِ ۖ َفلَ َّما َأ ْث َق َلت‬ ‫دَّ َع َوا اللَّهَ رَ َّبهُ َما لَئِ ْن آ َتيْتَ َنا َصالِ ًحا َّل َن ُكو َننَّ مِنَ الشَّاكِ ِري َن‪.‬‬ ‫فما المحدد للحاجات عند الإنسان؟ خصصت محاولة مطولة لتفسير العلاقة بين الجنسين‬ ‫بمنظور المفهوم الخلدوني \"نحلة العيش\"‪ .‬ولن أعود إليها‪ .‬سأكتفي بسؤال‪ :‬لو فرضنا‬ ‫الإنسان يرضى بالموجود هل كان يمكن لشيء في حياته أن يتغير؟ لو لم يكن الإنسان يميز‬ ‫بين الموجود والمنشود هل كان يمكن أن يتطور؟‬ ‫بهذا المعنى ليس الاقتصاد هو المحرك بل الوعي بالفارق بين الموجود والمنشود في سد‬ ‫الحاجات ومن ثم فليست أدوات الإنتاج وعلاقاته هي المحددة بل غايات الاستهلاك‬ ‫وعلاقاته هي المحددة لإبداع أدوات الإنتاج وعلاقاته فيكون غياب المنشود في الموجود هو‬ ‫المحرك‪ :‬وهذه مسألة الذوق بمعنييه‪.‬‬ ‫فقيمة الاقتصاد الاستعمالية يحركها الذوق بمعناه المادي وهو المائدة (رمزا لمقومات البدن‬ ‫عامة) والسرير (رمزا لمقومات الجنس عامة) وقيمة الاقتصاد التبادلية يحركها الذوق‬ ‫الرمزي أو الروحي وهو فن المائدة (رمزا لما يتجاوز الأكل إلى حليه) وفن السرير (رمزا‬ ‫لما يتجاوز الجنس إلى حليه)‪.‬‬ ‫وهذا هو الوجه الأول وهو متعلق بالرعاية‪ .‬لكن الوجه الثاني متعلق بالحماية‪ .‬فما يسد‬ ‫الحاجات‪-‬أدوات‪-‬التي يعيها الإنسان في شكل منشود غائب في الموجود الحاضر ليس مقصورا‬ ‫عليها بوصفها معطيات مباشرة بل هو يتعلق بما يضمنها ويضمن بقائها‪ .‬وذلك هو الوجه‬ ‫المتعلق بالحماية‪ :‬كيف نحمي شروط الرعاية‪.‬‬ ‫ومن هنا فالمائدة وفنها والسرير وفنه كلاهما رعاية لوجود الإنسان الفرد والجماعة‬ ‫شرطها سد الفجوة بين الموجود والمنشود فيهما‪ .‬وسد الفجوة هو شرط الرعاية‪ .‬لكن ضمان‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪57‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫السد وبقاؤه مشروط بمنع الغير من الاستحواذ عليها وهو ما يعني ضرورة الحماية لشروط‬ ‫لرعاية‪ :‬فتصبح الدولة قانونا وشوكة شرطا‪.‬‬ ‫وبذلك نجد أنفسنا أمام‪:‬‬ ‫‪ .1‬المائدة‬ ‫‪ .2‬وفنها‬ ‫‪ .3‬السرير‬ ‫‪ .4‬وفنه‬ ‫‪ .5‬الحماية بالقانون والشوكة في الداخل وفي الخارج‪.‬‬ ‫وهذه هي الغايات‪ .‬والأربعة الاولى هي الغايات الأسمى لكل اقتصاد ويحددها الذوق‬ ‫بمعنييه المادي (المائدة والسرير) والروحي (فن المائدة وفن السرير) والخامسة غاية‬ ‫نظامية لسلميتها‪.‬‬ ‫لكن الغايات الذوقية والأدوات الاقتصادية لا يمكن الوصل بينهما من دون أدوات‬ ‫الأدوات وغايات الغايات‪ .‬والأولى ابستمولوجية والثانية أكسيولوجية‪ .‬فمن دون العلوم‬ ‫لا يمكن تحقيق الادوات الاقتصادية ومن دون القيم لا معنى للغايات الذوقية‪ .‬فتكون‬ ‫العلوم بداية كل شيء والقيم غاية كل شيء‪.‬‬ ‫لو كان الإنسان يكتفي بما تنتجه الطبيعة لما وجد مشكل اقتصادي أصلا‪ .‬ولو كان الإنسان‬ ‫يقبل أن يعيش مثل الحيوان لما وجد مشكل حماية شروط المائدة والسرير وخاصة شروط‬ ‫فنيهما‪ .‬وحل المشكل الأول هو موضوع العلوم ومحل المشكل الثاني هو موضوع القيم‪.‬‬ ‫فنكون أمام معادلة مخمسة عجيبة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪58‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫عندنا في الوسط‪-3 :‬مشكل المائدة والسرير‪-2.‬وقبله مشكل حماية شروط تحقيقهما‪-1‬‬ ‫وقبل ما قبله مشكل إنتاج ما يستجيب لحاجاتهما أو العلوم ‪-4‬وبعده مشكل فن المائدة وفن‬ ‫السرير‪ .‬وبعد بعده مشكل القيم السامية التي تضفي المعنى على كل ما سبق ليكون جديرا‬ ‫بالإنسان من حيث هو كائن منشوده محرك لموجوده‪.‬‬ ‫فيكون الترتيب‬ ‫‪ .1‬العلم هو المحدد الأول لحل مشكل سد الحاجات لغياب المنشود في الموجود‪ :‬الإنسان‬ ‫مبدع لشروط بقائه‪.‬‬ ‫‪ .2‬الدولة هي المحدد الثاني لكل مشكل حماية ما يسد الحاجات لما يوجد من تمانع‬ ‫عليه‬ ‫‪ .3‬طبيعة الحاجة الأصلية‬ ‫‪ .4‬حليها المميز للإنسان‬ ‫‪ .5‬القيم التي تجعل الإنسان متجاوزا إلى منشوده‪.‬‬ ‫لكن الترتيب الفعلي لمجريات الامور في التاريخ وحتى في تاريخ الفرد المعين هو العكس‬ ‫تماما‪ :‬أي من ‪ 5‬إلى ‪ 1‬بمعنى أن الإنسان لأنه ساع دائما إلى تجاوز الموجود إلى المنشود‬ ‫وذلك هو معنى طلب حرية الإرادة وصدق العلم وخير القدرة وجمال الحياة وجلال الوجود‬ ‫يبدع الذوق الروحي حليا للذوق المادي‪.‬‬ ‫ويشعر أنه بحاجة للحماية ممن لم يرتق إلى هذا المستوى من الإنسانية فيكون العلم‬ ‫الذي به تتحقق الحماية والرعاية في المائدة والسرير وفنيهما وما يتعالى على ذلك كله‬ ‫ليكون ا لإنسان بحق رئيسا بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له ما يعني أن العلم أداة‬ ‫والدين غاية في الوجود الإنساني‪.‬‬ ‫ما معنى العلم أداة؟ القصد أنه أداة كل أداة لأنه بحث عن قوانين الطبيعية لإنتاج ما‬ ‫تنتجه ليكون متحررا من سلطانها عليه وسنن التاريخ لإنتاج من ينتجه ليكون متحررا من‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪59‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫سلطانه عليه‪ .‬فيسد حاجاته المادية والروحية بنفسه ولذلك فهو مجهز بما يمكنه من تعمير‬ ‫الارض شرطا لقيامه وبقاء نوعه‪.‬‬ ‫وما معنى الدين غاية؟‬ ‫القصد أن غاية كل غاية لأنه بحث عن معاني قوانين الطبيعة بوصفها جوهر الجمال‬ ‫الوجودي ومحاولة ابداع ما لا تستطيع إبداعه‪ :‬عبارة جمال الخلق (الفن) وعن معاني‬ ‫سنن التاريخ بوصفها جوهر الجلال الوجودي ومحاولة إبداع ما لا يستطيع إبداعه‪ :‬عبارة‬ ‫جلال الأمر(الحرية)‪.‬‬ ‫الفن الجميل غاية جمال الخلق والحياة الحرة غاية جلال الأمر صفتان إنسانيتان تعبران‬ ‫عن الوعي بالإلهي في الحياة وهما المنشود المتعالي على الموجود وسر كل الحركة في إنتاج‬ ‫شروط الحياة ما يجعل الاقتصاد بهذا المعنى ثمرة المدد الوجودي في كيان الإنسان القادر‬ ‫على تعمير الأرض بقيم الاستخلاف‬ ‫ومن هذه المعادلة استنتجت أن الاقتصاد ليس علاقة جدلية صراعية بين العامل ورب‬ ‫العمل بل هو ثمرة خمسة عوامل آخرها هو محركها‪:‬‬ ‫‪ .1‬فكرة مبدعة‬ ‫‪ .2‬استثمار مبدع‬ ‫‪ .3‬تمويل مبدع‬ ‫‪ .4‬منتج مبدع‬ ‫‪ .5‬مستهلك مبدع‪.‬‬ ‫والمستهلك هو المحرك الأول سواء بدافع من دوقه المادي أو من ذوقه الروحي‪.‬‬ ‫وصفة المبدع تعني المدرك للعلاقة بين منشود وموجود في مستويي القيمة الاقتصادية‬ ‫الاستعمالية والتبادلية وفي مستوى القيمة الأسمى من الاقتصادية التي لا تقبل البيع‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪60‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫والشراء لأنها إما عاطفية أو روحية‪ .‬والعاطفية مثل الحب والروحية مثل العقيدة‪ .‬فهما‬ ‫قيمتان متعاليتان على الاستعمال والتبادل‬ ‫وفوق ذلك كله أصل كل القيم هو حقيقة الإنسان من حيث هو خليفة محققة في مقومات‬ ‫وجوده‪ :‬الإرادة الحرة والعلم الصادق والقدرة الخيرة والحياة الجميلة والوجود الجليل‪.‬‬ ‫وتلك هي معاني الإنسانية التي تكلم ابن خلدون على علل فسادها ونتائجه والتي يسميها‬ ‫القرآن الكريم الإخلاد إلى الأرض‪.‬‬ ‫لا تصح الرؤية الماركسية إلا على هذا الاخلاد إلى الأرض أو على فساد معاني‬ ‫الإنسانية‪ .‬وطبعا فما يسمونه بالواقع يبدوا مصدقا للرؤية الماركسية أو لدين العجل‪.‬‬ ‫وأصحابها يسخرون مما وصفت لأنهم عبيد العجل‪ .‬ولا يزعجني كثيرا إذا قيل إني مثالي‬ ‫أو ساذج‪ .‬لكني هكذا أفهم الإسلام وثورته‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪61‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وهذا الفصل العاشر أبدأه بالقول إن الإسلام لو لم يكن كما يصفه القرآن لما اعتبرته‬ ‫دين الله الخاتم والفاتح ولو كان دينا من بين الاديان لبحثت عن غيره لأنه كما يحدد‬ ‫نفسه الديني في الأديان بداية كفطرة تحرف ليدرك الإنسان سعيه لتحقيق سلامتها غاية‪.‬‬ ‫ولو لم يكن سياسة تربية وحكم لكان ناقصا‪.‬‬ ‫لهذا عرفت القرآن بـ\"استراتيجية توحيد الإنسانية\" عامة مركزها الإنسان الخليفة‬ ‫لتحقيق التوحيد الكوني‪ \".‬منطق السياسة المحمدية\" مـحاول لتحقيق عينة منها لن تكتمل‬ ‫أبدا لأنها المسعى الإنساني لتخليص الديني في الأديان بمنهج التصديق والهيمنة النقدي‬ ‫وبفضل التسابق في الخيرات وتلك هي علة التعدد الديني والحرية العقدية (المائدة ‪.)48‬‬ ‫وهذا الفصل الأخير هو لتحديد القصد بالسياسية كما يعرفها القرآن الكريم وهي لا‬ ‫تقر ابدا منطق الجدل فيها بالمقابلة حكم معارضة بل منطق التكامل بالمشاركة في التواصي‬ ‫بالحق اجتهادا في النظر والعقد والتواصي بالصبر جهادا في العمل والشرع‪ .‬وهي رؤية‬ ‫حرفتها علوم الملة لعدم فهم معنى الديني في الأديان‪.‬‬ ‫أهملوا دلالة كونه دين البداية (الفطرة) ودين الغاية (الختم) ودين الامتحان النقدي‬ ‫(التصديق والهيمنة) ودين التسابق في الخيرات (التعدد الديني) دين حرية المعتقد‬ ‫(تبين الرشد من الغي) ومن ثم فهو دين الفلسفي في الفلسفات بمعنى سياسة العالم بمنطق‬ ‫النظر والعقد تأسيسا لمنطق العمل والشرع‪.‬‬ ‫فهو مبني على المعادلة الوجودية التي تحكم العلاقة بين الله والإنسان وبينهما العالم‬ ‫الطبيعي والعالم التاريخي تفاعلا بين الموجود والمنشود والوصل بينهما هو مهمتا الإنسان في‬ ‫العالمين أو الأمانة بوصفه مستعمرا في الارض ومستخلفا فيها بالقيم الخمس التي هي‬ ‫مقومات ذاته دليلا على وجود الله‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪62‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫والدلالة على وجود الله ليست نتائج الاستدلال أو ما يسمى بأدلة وجود الله المعلوم ‪-‬‬ ‫راجع مقارنة موقف هيجل وابن رشد منها‪-‬بل الاستدلال نفسه من حيث هو عين الاشرئباب‬ ‫الإنسان الواصل بين الموجود والمنشود أو عين حرية الإنسان التي يعلو بها على الضرورة‬ ‫الطبيعة هو الدليل الأتم‪ :‬جوهر الاستخلاف‪.‬‬ ‫وينتج عن ذلك ضرورة أن الرسول ليس وسيطا ‪-‬إنما أنت مذكر‪-‬وليس وصيا ‪-‬لست‬ ‫عليهم بمسيطر‪-‬بل هو مرب على النحو السقراطي وحكم على النحو الذي تعرفه الآية ‪58‬‬ ‫من النساء للإنسانية كلها بوصفها اخوة (النساء ‪ )1‬وبمعيار التفاضل المقصور على التقوى‬ ‫دون تمييز عرقي أو طبقي أو جنسي‪.‬‬ ‫وبهذا المعنى فالإسلام الذي حصل في التاريخ ‪-‬كما هو متوقع في كل سعي لتحقيق مثال‬ ‫اعلى‪-‬ليس مطابقا لحقيقة الإسلام وينبغي أن ينقد بنفس منطق التصديق والهيمنة التي‬ ‫نقد به القرآن تحريفات الأديان السابقة لأن الإسلام أيضا حرف في الممارسة ونحمد الله‬ ‫أن القرآن بقي بمنأى عن التحريف‪.‬‬ ‫وهذا هو السياسي من الإسلام أي التربية التي تحرر الإرادة وتصدق العلم وتخير القدرة‬ ‫وتجمل الحياة وتجلل الوجود بمعنى أنها تحرر الإنسان من الخسر الممكن فتعلمه الأفعال‬ ‫الخمسة التي تستثنيه من الخسر أو من الإخلاد إلى الأرض والرضا بالموجود‪ :‬الوعي‬ ‫برئاسته والإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر‪.‬‬ ‫ويترتب على كون الرسول ‪-‬إنما هو مذكر وليس مسيطرا‪ -‬تحريم الكنسية ‪-‬الوساطة‬ ‫الروحية ‪-‬وتحريم الحكم بالحق الإلهي‪ -‬الوصاية السياسية في الإسلام‪ .‬لكن الشيعة‬ ‫فرضوها رسميا وجعلوهما مقومين لفهمهم للإسلام تحريفا بينا وعلنيا والسنة وإن لم يفعلوا‬ ‫ذلك رسميا فالحاصل كأمر واقع لا يبعد عنه كثيرا‪.‬‬ ‫ذلك أنهم بشرعنة التغلب مبدأ لشرعية الحكم ولتحولهم إلى سلطة روحية كأمر واقع‬ ‫جعلوا السنة تعوض ما يسمى حكما بالحق الإلهي مباشرة حكما بالحق الإلهي بتوسط‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪63‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الطبيعة أو بتوسط التغلب الذي هو قوة طبيعية يبررون حصولها ضمنيا بأهم مبادئ الخروج‬ ‫عن الإسلام‪ :‬الفهم الخاطئ للقضاء والقدر‪.‬‬ ‫فهم يرون أن الله ‪-‬يؤتي الملك لم يشاء وينزعه عمن يشاء‪-‬وأنه لو كان لا يريد التغلب‬ ‫لمنعه ومن ثم فما يجري في الحكم قضاء وقدر فضلا عن كونه يحقق المصلحة بمنع الفوضى‪.‬‬ ‫وهذا كله مغالطات سوفسطائية لأن الله حدد شريعة الحكم في الشورى ‪ 38‬وأخلاقه في‬ ‫النساء ‪ 58‬وأفقدهم كل امكانية للتحيل‪.‬‬ ‫وليس هذا موضوعي الآن إذ سبق أن عالجته في محاولات سابقة‪ .‬موضوعي هو ما يصدق‬ ‫عليه المثل الشعبي \"هرب من القطرة جاء تحت الميزاب\"‪ .‬فالكلام على الديموقراطية حلا‬ ‫لا يعني تجاوز الوساطة والوصاية في الثيوقراطيا بل تعويضهما بما من نفس الجنس في‬ ‫الانثروبوقراطيا‪.‬‬ ‫صحيح أن الوساطة لم تعد تربية كنسية بل هي أفسد منها والوصاية لم تحد حكما بالحق‬ ‫الإلهي بل هو أفسد منه‪ .‬فالجميع صار خاضعا لتربية أساسها خوار العجل ولحكم أساسه‬ ‫معدن العجل ومن ثم فالبنية العميقة للثيوقراطيا (باسم الله) والانثروبوقراطيا (باسم‬ ‫الإنسان) هي الأبيسيوقراطيا (باسم العجل)‪.‬‬ ‫ففي الحالتين الثيوقراطيا والأنثروبوقراطيا ما يحكم باسمه مجرد أسم يخفي حقيقة ما‬ ‫يحكم باسمه أعني العجل أو معدنه (المال) وخواره (الإيديولوجيا)‪ .‬والدليل أن ما‬ ‫يوهمون البشر بأنهم تحرروا من العبودية هو في الحقيقة تعميم لها إذ الجميع صار عبدا‬ ‫لبنك الربا ولإعلام الملاهي مع وهم الحرية‪.‬‬ ‫والأدهى والأمر أن العبودية الحديثة مضاعفة بالقياس إلى العبودية الماضية‪:‬‬ ‫‪ .1‬أولا هي عبودة ليس للفرد وحده بل للجماعات أو لما يسميه أصحابه دولا وهي في‬ ‫الحقيقة محميات تابعة‬ ‫‪ .2‬العبد في الماضي كان يمكن أن يتحرر أو حتى يأبق‪ .‬اليوم يمتنع ذلك لأنه بائع‬ ‫لذاته ومستقبله ولا مهرب للتحرر‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪64‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫التحرر الوحيد بالنسبة إلى عبد البنك الربوي والإعلام الملهوي هو الانتحار‪ :‬ذلك أن‬ ‫المرهون في البنك إذ فقد مصدر رزقه يفيد معه كل ما يتوهم أنه مالكه فلا يبقى له إلا‬ ‫الانتحار‪ .‬وعبد الإعلام الملهوي لا يمكنه إلا أن يصبح مدرد متلق فيزداد غرقا في التبعية‬ ‫وقد ينتجر فيصبح مدمنا مخدر ْيه‪.‬‬ ‫ومخدراه هما العنف والبورنوغرافيا الغالبين على ما يسمى إبداعا في الثقافة الامريكية‬ ‫التي هي حلم غالب شباب العالم وخاصة شباب البلاد الفقيرة‪ .‬ذلك أن من يرتمي في البحر‬ ‫للهجرة لا يفعل إلا لأن السياسة تربية وحكما في بلاده لم تقدم له ما يحرره مما صاغ روحه‬ ‫فجعلها مخلدة إلى الأرض‪.‬‬ ‫ولنأت الآن إلى التعريف المحرف للسياسة عند فقهائها الحداثيين توهما بان ماكيافال‬ ‫وضع علم السياسة لأنه جعل أمرها الواقع وكأنها أمرها الواجب‪ .‬ثم صار اعشار المثقفين‬ ‫يسمون السياسة فن الممكن‪ .‬وهم لا يدرون أنهم يخلطون بين المتاح والممكن فيجعلون الممكن‬ ‫هو المضطر وهو جهل بمعاني الاصطلاح‪.‬‬ ‫أولا الممكن عكس المضطر‪ .‬وثانيا المتاح إضافي إلى من لم يعمل بالأنفال ‪ 60‬أي الارتجال‬ ‫في الفعل باعتماد الموجود وعدم السعي إلى المنشود‪ .‬وهذا هو سلوك كل الحكام العرب‪ .‬لا‬ ‫يستعد لشيء فيباغته كل شيء فيرتجل أي مهرب ويسمى ذلك \"فن الممكن\" ويقصد مهارب‬ ‫العاجزين لانعدام الاستراتيجيا التوقعية‪.‬‬ ‫لو كانت السياسة فن الممكن لكانت خاضعة حساب الاحتمال المعد إلى الأفعال والمغني عن‬ ‫الأقوال‪ .‬لكن فن الممكن عند هؤلاء هو \"ما باليد حيلة\" وهو عكس السياسة جوهريا‪ .‬فإذا‬ ‫كنت تسمي قبيلة دولة وهي أقل من محمية فأي معنى للسياسة \"فن الممكن\"؟ إنها فن‬ ‫التظاهر بعكس واقع الامر‪ :‬فن وهم السيادة‪.‬‬ ‫وفضل شباب الثورة بجنسيه أنه فضح ذلك‪ .‬لم يعد غفراء المحميات العربية سواء كانت‬ ‫قبلية أو عسكرية يمكنهم أن يخفوا التبعية المطلقة ليس لقوتي العالم فسحب بل لذراعيهما‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪65‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫أعني لإيران وإسرائيل أصالة عن نفسيهما ونيابة عن القوتين اللتين ليست العظمة عرضية‬ ‫لديهما بل صارت لهما بفن الممكن فعلا‪.‬‬ ‫وجود المحميات نفسه هو علة امتناع الكلام على السياسة ويحرمها على الغفراء العرب‪:‬‬ ‫ذلك أن السياسة من دون سيادة ليست سياسة بل نخاسة‪ .‬والسيادة تعني وجود دولة قادرة‬ ‫على وظيفتيها أي على الرعاية والحماية‪ .‬لكن الرعاية صارت إهمالا والحماية صارت‬ ‫إذلالا‪ .‬هم أداة الإهمال والإذلال للأمة‪.‬‬ ‫هم حراس تفتيت وحدة جغرافيتها وهم حماة تشتيت وحدة تاريخها ولما فضحت الثورة‬ ‫أنهم ليسوا أمراء بل غفراء وليس جيش دفاع عن الاوطان بل جيس استعمار للأوطان‬ ‫أعلنوا الحرب على المرجعية المشتركة التي حركت الشباب أعني الإسلام والإنسانية لديهم‬ ‫ليبينوا أنهم غفراء وأمراء حرب على الأمة‪.‬‬ ‫وبذلك فقد أشعل هؤلاء العملاء حربا أهلية في كل قطر بين متناهشي الأوطان ثم بين‬ ‫كل الاقطار وخاصة بعد أن اتضح أنها كلها أدوات بيد ذراعي الاستعمار أعني إيران‬ ‫(الثيوقراطيا) وإسرائيل (الانثروبوقرطيا) ذراعي الأبيسيوقراطيا (دين العجل) الخفي‬ ‫في الأولى والعلني في الثانية‪ :‬حربا على الإسلام وأمته‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪66‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لست أشك في أن الكثير من القراء سيعجب من كلامي على ما كفيال بشيء من الازدراء‬ ‫والتشكيك في ما ينسب إليه من علم السياسة والزعم بأنه اسس علمها لأنه تكلم على حيل‬ ‫السياسي في المناورات العينية التي لا تتعلق بالسياسة من حيث هي علم بل بالحيل والخدع‬ ‫التي هي من أدواتها و ليست هي إياها‪.‬‬ ‫ولما كانت هذه الحيل والخدع شبه \"بريكولاج\" سياسي من المفروض أن يكون في متناول‬ ‫الصفوف المتقابلة فهي إذن من جنس \"سر بوليشينال\" أي إنها ليست سرا إلا على من هم من‬ ‫جنس أمير السعودية الأحمق الذي يتلاعب به أي كان لغفلته بدليل أنه لم يحط نفسه إلا‬ ‫بمن هم أكثر منه غباء لأميتهم السياسية‪.‬‬ ‫ومن أهم علامات الغفلة في السياسة المسارعة في استعمال القوة العنيفة دليلا على اللجوء‬ ‫إلى الارتجال في غياب استراتيجية محكمة للردع والتوقع‪ .‬ذلك أن هذه القوة ليست قوة‬ ‫بل علامة على فقدان القوة اللطيفة‪ .‬فكلما كان الإنسان فاقدا للقوة اللطيفة سارع في‬ ‫استعمال القوة العنيفة‪ .‬وغالبا ما يكون ذلك عن جهل بأن هذه هي آخر ما يستعمل مع‬ ‫ضمان الحسم إذ إن خسرانها قاتل في الغالب في غياب أساسها الذي هو القوة اللطيفة‪.‬‬ ‫وغالبا ما تكون القوة اللطيفة موصلة إلى جعل العدو يهدم نفسه بنفسه لأنها تعتمد على‬ ‫معرفة نقاط ضعفه واستغلالها من اجل دفعه إلى الحماقات التي تزيده ضعفا وتفقده‬ ‫شروط المطاولة إذ القوة اللطيفة تشبه الاعداد المكين للضربة القاضية التي تحد من‬ ‫الكلفة والجهد في الحياة والمال أداتي الحرب‪.‬‬ ‫وأعتقد أن السر كله في السياسة هو عينه السر في الردع كما حددته الانفال ‪ 60‬رغم‬ ‫أنها مخصصة للردع الحربي‪ .‬لكن الردع الحربي هو بالأساسي الردع السياسي الذي قد‬ ‫يغني عن الحرب بكونها رادعا لمن قد يغامر بها من الأعداء‪ :‬فإرهاب العدو هو الردع الذي‬ ‫يجعل صاحبه مهاب الجانب وقلما يحاربه أحد‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪67‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫والردع السياسي بخلاف ما يتوهم الكثير من أصحاب العنتريات يتألف من خمسة مستويات‬ ‫هي عين كيان الجماعة ذات القيام السياسي الذي هو أشبه بالوعي الجمعي القابل للقيس‬ ‫على الوعي الفردي بالنسبة إلى الشخص الإنساني لأن الدولة هي شخص الجماعة المعنوي‪:‬‬ ‫‪ .1‬مستوى الإرادة السياسية‬ ‫‪ .2‬مستوى المعرفة الصحيحة بالذات وبالعدو‬ ‫‪ .3‬مستوى القدرة الفعلية المادية (الاقتصاد) والرمزية (الثقافة) للجماعة‬ ‫‪ .4‬مستوى ذوق الحياة وقيمتها (متعة الحياة)‬ ‫‪ .5‬مستوى الرؤية الوجودية‪.‬‬ ‫وقد بينت في كلامي على الفرد والفردية (كما في العلاقات التي يخلصها الإسلام حتى من‬ ‫روابط الأسرة والقبيلة اللتين يقدم عليهما الرابطة العقدية) وحتى الفردانية المطلقة‬ ‫(كما في رؤية الإسلام للحساب يوم الدين) بوصفها ظاهرة دينية بالأساس تبنتها الفلسفة‬ ‫لاحقا (محاولة في ذلك) أن الذات الفردية هي بدورها شخص معنوي لأن الكيان العضوي‬ ‫للفرد لا يكفي لجعله شخصا طبيعيا إذ كونه طبيعيا ليس بعد شخصا بل هو نصف شخص إذ‬ ‫شرط قيامه وتواصله هو الزوجية التي هي أول كيان قابل للتجدد والتواصل في الظاهرة‬ ‫العضوية‪.‬‬ ‫ولا يمكن أن توجد جماعة ذات حجم مناسب لحجوم عصرها وأجوارها أن تغلب إذا توفرت‬ ‫هذه الشروط الخمسة لأن الصدام إذا حصل لن يبقى بين قوة عسكرية وأخرى بل بين‬ ‫قوتين جماعيتين في صراع بقاء لنموذجين من الوجود أحدهما يلحم الجماعة والثاني يفتتها‬ ‫أو دونه قدرة على لحمها فتكون قوة ضاربة‪.‬‬ ‫ووظيفة السياسة هي في بعدها الاول تربية هدفها تحقيق تلك المستويات وحكم هدفه‬ ‫حماية الجماعة داخليا وخارجيا بفضل ما يصحب تلك المستويات من أخلاق هي عين \"ذوق‬ ‫الحياة\" في تلك الجماعة‪ .‬وذوق الحياة في الجماعة هو الرؤية الوجودية سواء صيغت دينيا‬ ‫أو فلسفيا وهي لحام الجماعة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪68‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫والبعد التربوي من السياسة هو الرعاية بمعناها العام أي التربية النظامية والتربية‬ ‫الاجتماعية التي يمارس فيها الأجيال ما ربوا عليه في البيت والمدرسة والمعبد والحياة العامة‬ ‫وتتعلق بكيان الإنسان العضوي وبكيانه الروحي‪ .‬وهي التموين المادي (الاقتصاد)‬ ‫والروحي (الثقافة كل إبداع والإبداع العلمي خاصة)‪.‬‬ ‫فالإبداع العملي (الاستعلام والإعلام العلمي) ينتج مقومات التموين والتكوين للرعاية‬ ‫ومقومات الدفاع للحماية ومن ثم فهو أصل كل قوة ولذلك كانت آية الردع قد بدأت بالقوة‬ ‫عامة ثم أتبعتها بالجوقة العسكرية (ما استطعتم ‪-1‬من قوة و‪-2‬من رباط الخيل) ثم عينت‬ ‫أنواع الأعداء الخمسة بذكرها لثلاثة‪.‬‬ ‫فالأعداء هم أعداء الجماعة وأعداء الله وأعداء الجماعة بسبب عدائهم لله وأعداء‬ ‫الله بسبب عدائهم للجماعة وآخرون لا نعلمهم ولا يعلمهم الله‪ .‬هو الخفي من الأعداء‬ ‫وليسوا بالضرورة بشرا وغير قابلة للتوقع إذ قد يكونوا ظاهرات مرضية في نفوس الجماعة‬ ‫وابدانها وهي مادة العلاج الطبي والروحي‪.‬‬ ‫وبذلك يتبين أن السياسة هي بالأساس العمل الوقائي الرادع وليس العمل العلاجي الذي‬ ‫يكون دائما متأخرا بمعركة أو أكثر‪ .‬وفي عملية الوقاية كل تحيل وتآمر بالمعنى الذي يتكلم‬ ‫عليه ما يبحث فيه ماكيافال هو من جنس البريكولاج الدال على غياب الاستراتيجية التي‬ ‫نتكلم عليها‪ .‬فتكون غشا ذاتيا‪.‬‬ ‫وليكن مثالنا جيوش الفتح الإسلامي في البداية‪ :‬لم يكن يخطر في بال أي قائد إسلامي‬ ‫أن هذه الجيوش يمكن أن تهزم‪ .‬ذلك أن قوتها اللطيفة لحام لا ينقطع وقوتها العنيفة‬ ‫ذكاء لا يندفع ومن ثم فهي قادرة على مطاولة لا ترتفع فتكون شبه قضاء وقدر علمها‬ ‫بقدرتها على الحسم في الامر علة شروعها فيه‪.‬‬ ‫في مثل هذه الحالات يكون كل فرد مع كونه متفردا بذاته يشعر بأن الجماعة متجسدة‬ ‫فيه أو يشعر بأنه ينوبها في كل ما يقوم به والكل يعتبر نفسه ممثلا للأمة إرادتها الحرة‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪69‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وعلمها الصادق وقدرتها المؤثرة ماديا ورمزيا وذوقها أو قيمها الجمالية ورؤيتها الوجودية‬ ‫دون أن يكون فاقدا لتفرد كيانه‪.‬‬ ‫ومن هنا يأتي التشبيه بكيان الإنسان الجسدي والروحي‪ .‬فكل نظام من أنظمة البدن‬ ‫رغم تفرده يمثل بقية الأنظمة فالجهاز العصبي والنظام الدورة الدموية نظام التغذية‬ ‫ونظام التطهير ونظام التنفس ونظام المناعة كلها تعمل وظيفتها التي تتفرد بها ولكن من‬ ‫حيث إن بقية الانظمة لها معها تواصل وتعاون‪.‬‬ ‫وهذا ما يرجعنا لخطر الرؤية الجدلية التي تجعل الأحزاب ليست متسابقة في الخيرات‬ ‫بل متنافسة على الإيقاع بعضها بالبعض في صراع مناف تماما لمعنى السياسة بوظيفتيها تربية‬ ‫لتحقيق شروط الرعاية وحكما لتحقيق شروط الحماية‪ .‬وبسبب المنطق الصراعي يصبح‬ ‫الاختراف المعادي بداية الانهيار والتبعية‪.‬‬ ‫وعندئذ لا تكون السياسة في الحكم والمعارضة خدمة للجماعة بل استخداما لها من أجل‬ ‫بعدي العجل أي المال (معدن العجل) والأيديولوجيا (خوار العجل)‪ .‬ويكفي أن ترى ما‬ ‫يحري في كل بلاد العرب‪ :‬السياسة غنيمة وليست مسؤولية‪ .‬هي الطريق الاسرع للإثراء‬ ‫بها أو بما يترتب عليها من جاه (ابن خلدون)‪.‬‬ ‫وهنا أيضا كانت ثورة الشباب بجنسيه الفاضحة‪ :‬انظر ماذا الأسد بسوريا والسيسي‬ ‫بمصر والأمير الأحمق بالسعودية وناصحه بالإمارات وحفتر بليبيا وأمثالهم بتونس أو من‬ ‫يستعدون لفعله بها وقس على ذلك كل بلاد العرب‪ .‬كل حزب عميل لأحد ذراعي‬ ‫الاستحواذ على بلاد العرب بتواطؤ جل نخبهم‪.‬‬ ‫وما يحدث في كل قطر عربي يحدث في المجموعات العربية وفي الجامعة العربية‪ :‬ففيها من‬ ‫كان يعلم إسرائيل بكل ما يظن سريا ولم يبق أي تجمع عربي قائما وآخرها تجمع الخليج‪.‬‬ ‫صارت أطرافه في صراعها البيني حليفة لكل أعداء العرب ولأذرعهم في الإقليم‪ .‬وصار‬ ‫الجميع مخبرا لدى الأعداء‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪70‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫سيقال أنت تريد تغيير طبائع الأشياء فتلك هي طبيعة السياسة‪ .‬لكن لو صح أن طبيعة‬ ‫السياسة هي تلك وكان العلم علما بالأمر الواقع أو ظاهر الطبائع لاستحال أن يوجد أي‬ ‫علم‪ .‬ذلك ان الأعراض وفوضاها ليست هي موضوع العلم أي علم بل ما وراءها الذي‬ ‫يفسر نظام مجراها وليس عبث فوضاها‪.‬‬ ‫وعندما ندرك نظام مجراها نتجاوز شذوذ فوضاها التي تحول دون فهم أسرارها الخفية‪.‬‬ ‫فالانتقال مثلا من التداول العنيف على الحكم بالانقلابات إلى التداول اللطيف عليه‬ ‫بالانتخابات يدحض أن الأسلوب الأول هو من طبيعة التداول المقصور على التغير بالموت‬ ‫الطبيعي فنتجاوز العضواني إلى الإنساني‪.‬‬ ‫وهذا يعني اكتشاف قانون مناف لجدل الصراع وتحاوزه إلى جدل الحوار بين الأفكار‬ ‫الهادية للإرادات حتى تكون متسابقة في الخيرات ويصبح التعدد شرط التواصي بالحق‬ ‫وليس شرط الاقتتال على المنافع التي تستخدم الجماعة ولا تخدمها‪ .‬فالمعارض المهدم إن‬ ‫جاء دوره للحكم سيحكم مقبرة وليس دولة‪.‬‬ ‫والحاكم الذي يلغي المعارضة السلمية كما يحدث في كل البلاد هو المسؤول على تهديم‬ ‫الموجود لأن منع غيره من سهمه في إدارة أمره ‪-‬الشورى تعتبر الأمر أمر الجماعة تديره‬ ‫بالشورى‪-‬وليس أمر مغتصب يبقى بالقوة والاستقواء بالأعداء ضد شعبه‪ :‬بشار والسيسي‬ ‫وجنرالات الجزائر وكل جل حكام العرب‪.‬‬ ‫هذه ليست سياسة لأنها بدل الرعاية تمثل الإهمال وبدل الحماية تمثل الإذلال وهي‬ ‫التي تستدعي الأعداء لحمايتها من شعبها ومقابل ذلك يقاسمها حاميها فتات كل ما فيها‪.‬‬ ‫لست أدري ما الذي بقي من سوريا لـ\"لسان الجرو\" العقون ومن لبنان لمن هو أكثر منه‬ ‫\"عقانة\" وعمالة‪.‬‬ ‫ومع ذلك تجد بين حمقى القوميين واليساريين من يعتبر بشار زعيما ومقاوما وعميل‬ ‫إيران في لبنان زعيما وحكميا وبطلا وهو في الحقيقة مجرد بيدق في ما تحاول إيران حيازته‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪71‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫من أوراق في تفاوضها مع الغرب حتى تضمن بقاء نظامها القروسطي‪ .‬ولن تستطع لأن‬ ‫شباب الأمة هزمها بعد‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪72‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪73‬‬ ‫الأسماء والبيان‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook