Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore ابهام مفهومي ينافي الرؤية القرآنية لـمعاني الإنسانية

ابهام مفهومي ينافي الرؤية القرآنية لـمعاني الإنسانية

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2019-02-05 17:49:38

Description: ابهام مفهومي ينافي الرؤية القرآنية لـمعاني الإنسانية

Search

Read the Text Version

‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫ينافي الرؤ ية القرآنية‬ ‫لـ\"معاني الإنسانية\"‬ ‫الأسماء والبيان‬



‫المحتويات ‪1‬‬ ‫‪ -‬الفصل الأول ‪1 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثاني ‪9 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثالث ‪15 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الرابع ‪23 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الخامس ‪29 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل السادس‪38 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل السابع ‪45 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثامن ‪50 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل التاسع ‪55 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل العاشر ‪62 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الحادي عشر ‪67 -‬‬

‫‪--‬‬ ‫ما الذي يترتب على محاولة تخليص الرؤية الوجودية التي وضعها هيجل ‪-‬الرؤية الجدلية‬ ‫المبنية على وحدة المتناقضين دائمة الصراع‪ -‬من ضرورة تغيير الاصطلاح في العبارة على‬ ‫مفهومات السياسي والاقتصادي والثقافي ونظرية النظر والعقد ونظرية العمل والشرع؟‬ ‫ذلك ما ينبغي تقريره بصورة لا يمكن من دونها فهم الرؤية القرآنية التي من دونها‪:‬‬ ‫‪ .1‬يصبح الإسلام دينا من بين الأديان وليس الديني في كل دين كما يعرف نفسه بوصفه‬ ‫تذكيرا بفطرية الدين وتحقيقا لختم الوعي بها ومحاولة للعرض النقدي الذي غيب هذه‬ ‫الفطرة واحوج إلى التذكير بها تذكيرا خاتما هو القرآن الكريم بالاعتماد على منطق‬ ‫\"التصديق والهيمنة\"‪.‬‬ ‫‪ .2‬ويصبح فكره فلسفة من بين الفلسفات وليس فلسفة تحرير الديني من تحريفه لئلا‬ ‫يبقى مردودا إلى دين العجل تربية وحكما (الأبيسيوقراطيا) دينه الذي بينا دلالاته‬ ‫ومعانيه في نوعي التربية والحكم الثيوقراطيين (باسم الله) والانثروبوقراطيين (باسم‬ ‫الإنسان)‪.‬‬ ‫وقد حاولت سابقا بيان وهاء الرؤية الجدلية للوجود لاستناده إلى نظرية في المعرفة تقول‬ ‫بالمطابقة ‪-‬محاولة لرفض المفهوم الحد الذي وضعه كنط في نقده لها‪ :‬الشيء في ذاته‪-‬‬ ‫فترد الوجود إلى الإدراك وبيان سقوط تلك بإسقاط هذه ومن ثم اعتبار الرؤية الجدلية‬ ‫لا تصح حتى في التاريخ الطبيعي بل وحتى في الظاهرات الطبيعية غير الحية‪ .‬لكني في‬ ‫هذه المحاولة سأمر مباشرة إلى الخاص بالإنسان‪.‬‬ ‫وهذا المرور لا يعني إهمال ما دونه لأن ما يخص الإنسان يتضمن كل ما قبله إذ هو من‬ ‫مقومات وجوده كما حاول ابن خلدون بيان ذلك في الباب الأول من المقدمة عندما حدد‬ ‫البنية الواحد في نوعي العمران البدوي والحضري أعني نظرية الأحياز المتناظرة في‬ ‫الإحاطة المتبادلة بين الإنسان والعالم‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪1‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وكان مما جعلني أقدم بما يشبه المبالغة في شدة الاهتمام بالأمر ما لاحظته من سطحية‬ ‫لدى المتمركسين بلا وعي من الإسلاميين القائلين بـ\"التدافع\"‪ .‬فهذا \"المفهوم\" ترجمة لا‬ ‫واعيد للرؤية الجدلية التي تعتبر الأمر السياسي والخلقي مقصورين على صفين متناقضين‬ ‫في علاقة جدلية صراعية فيهما ينحصر مجرى الأشياء والتقابل بين الحق والباطل‬ ‫المطلقين‪.‬‬ ‫فهذا الفهم العقيم للقرآن كان أول تعليق لي فيه مداخلة حول كلمة للشيخ الفاضل يوسف‬ ‫القرضاوي في أول لقاء حصل في أول ندوة نظمها مركز الجزيرة للدراسات‪ .‬فقد استعمل‬ ‫كلمة التدافع وعلقت بأنها ليست قرآنية لأن القرآن يتكلم على دفع الله الناس بعضهم‬ ‫ببعض ولم يقل إن الناس يتدافعون إذ لو كان ما يجري تدافعا لكان لا معنى للاعتقاد في‬ ‫وجود إله إذ التدافع الطبيعة وحدها كافية لتفسيره بقوانين الميكانيكا تسليما بأن قوانينها‬ ‫وحدها حاسمة‪.‬‬ ‫والفرق جلي‪ :‬فشتان بين اعتبار ما يجري بين الناس ليس مقصورا على المعنى الجدلي الذي‬ ‫يجعل الأمر وكأنه علاقة تناقض بين طرفين تكون حصيلتها تجاوز التناقض إلى التأليف إذ‬ ‫حتى لو سلمنا بذلك فلن يكون كافيا لفهم الانتقال من صراع النقيضين إلى التوليف بينهما‬ ‫من دون وجود مبدأ مغاير للتناقض وإلا لما توقف التناقض عند تحقق الغاية هيجليا‬ ‫وماركسيا‪ :‬هل الجدل يخضع لمنطق الذهاب إلى إلغاء ذاته فيكون قانون انتحار لحركة‬ ‫الوجود‪.‬‬ ‫ومن ثم فالدفع الإلهي للناس بعضهم ببعض يتعلق بمبدأ متعال على ما بين الناس يأتي‬ ‫علاجا لانحراف في علاقاتهم‪-‬حالتان‪ :‬لمنع تهديم المعابد دون تمييز ولمنع الاستضعاف عامة‪-‬‬ ‫وهو إذن مبدأ يتدارك ضعف الوازع الذاتي بأدوات الوازع الأجنبي وهو إذن تأسيس‬ ‫الحاجة السياسية المكملة للفطرة الخلقية‪.‬‬ ‫فالحالتان اللتان يذكرهما القرآن للدفع الإلهي للبشر تتعلقان بمنع التعصب الديني‬ ‫(تهديم الصوامع وبالبيع والمساجد) وبمنع الاستضعاف (عدوان الأقوياء على الضعفاء)‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪2‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ومن ثم فالأمر لا يتعلق بصراع بين متناقضين بل بما ينبغي إضافته للوازع الذاتي (خلقي)‬ ‫من وزع أجنبي (سياسي) حتى يتحقق التآخي‪.‬‬ ‫‪-9‬والتآخي (النساء ‪ )1‬بين البشر قرآنيا شرطه المساواة بينهم وحصر التفاضل في التقوى‬ ‫(الحجرات ‪ )13‬ومنهجه شروط الاستثناء من الخسر الخمس في سورة العصر أي‪:‬‬ ‫‪ .1‬الوعي بأن الإنسان معرض للخسر بسبب ما لأجله يدفع الله الناس بعضهم بالبعض‬ ‫لمنع الخسر الذي يتعرضون له فيحررهم بشروط الاستثناء منه بأمرين يحددان سلوك الفرد‬ ‫وأمرين يحددان سلوك الجماعة المؤلفة من الأفراد الذي لهم هذا السلوك‪:‬‬ ‫‪ .2‬الإيمان (الصادق) بالمبدأ الأعلى الذي هو المثال الأعلى لقيم مقومات وجودهم أي‬ ‫حرية الإرادة وصدق العلم وخير القدرة وجمال الحياة وجلال الوجود وتلك هي شروط‬ ‫الجدارة بالاستخلاف‪.‬‬ ‫‪ .3‬العمل الصالح الذي يترتب على ذلك الإيمان أي العمل بتلك القيم فيكون الفدر حر‬ ‫الإرادة صادق العلم خير القدرة جميل الحياة وجليل الوجود‪ .‬ومن هنا تعريف الإنسان‬ ‫الخلدوني \" رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\"‪.‬‬ ‫‪ .4‬التواصي بالحق هؤلاء الأفراد يجتهدون في النظر والعقد لمعرفة الحقيقة فيكون البحث‬ ‫العلمي شرط عملهم على علم‪.‬‬ ‫‪ .5‬التواصي بالصبر وذلك هو معنى تواصيهم بالصبر في الاجتهاد لاتباع الحقيقة في العمل‬ ‫والشرع فيكون السعي العملي شرط التواصل الأخوي في التعاون والتعاوض العادل المغني‬ ‫عن الصراع الجدلي‪.‬‬ ‫والحصيلة هي أن قول الإسلاميين بالتدافع انحراف مطلق عن فلسفة الإسلام ورؤيته‬ ‫للإنسانية قبولا لا واعيا بالرؤية الجدلية التي يقول بها هيجل وماركس‪ .‬وهي قائلة بصراع‬ ‫النقيضين المتحدين جدليا فتكون السياسة والاقتصاد والثقافة والنظر‪-‬العقد والعمل‪-‬‬ ‫الشرع كلها خاضعة لما يظن قانون التاريخ الطبيعي للحيوان‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪3‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وما أنفيه ليس وجود الصراع الذي ينتج عن الخسر أي عن عدم العمل بما وصفنا بل ما‬ ‫أنفيه هو أن يكون ذلك مطابقا لرؤية الإسلام فيصبح الإسلامي قائلا به ومتبنيا للرؤية‬ ‫الجدلية أو ما يسمونه التدافع‪ .‬ذلك أنه في تلك الحالة لا معنى للقول إن الإسلاميين يبنون‬ ‫رؤاهم السياسية على الإسلام‪ :‬هم يطوعونه لرؤية مادية فيصبح مجرد غطاء اسلامي في‬ ‫الأقوال لسياسة لا إسلامية في الأفعال‪.‬‬ ‫وحتى وإن بدا مجرى الأمر الواقع في التاريخ هو كذلك‪-‬وهو ليس كذلك إلا لتوهم ما‬ ‫ندركه محيط بما يجري فعلا نفيا لما فيه من غيب ومكر إلهي‪-‬فإن الدين والأخلاق لا‬ ‫يتعلقان بجعل الموجود قانونا للمنشود وإلا لصار الامر الواقع هو المثال الأعلى وليس الأمر‬ ‫الواجب ولم يعد فرق بين الضرورة والحرية‪.‬‬ ‫ومن هنا تفهم أن القائلين بالنظرية الجدلية في السياسة لا ينكرون أن السياسة لا تعترف‬ ‫بالأخلاق والقيم العليا بل هي فن الممكن‪ .‬الممكن كلمة مهذبة تعني أمرين‪ .‬فلا فائدة من‬ ‫الصمود أمام الظلم بعذر الممكن ولا فائدة من احترام الشروط الخلقية بل الاستفادة من‬ ‫كل الفرص وأهمها الغدر والخيانة‪ .‬وقد سبق لي شرح هذه المعاني وما يعنيني في هذه‬ ‫المحاولة هو بيان فساد الرؤية الجدلية وضررها عليها وعلى الجماعات البشرية التي لا‬ ‫يمكن أن تستفيد منها من دون تخليصها من هذه الرؤية التي تقلب العلاقة بين المثال الأعلى‬ ‫والأمر الواقع حصرا للمنشود برده إلى المعلوم من ظاهر الموجود‪:‬‬ ‫‪ .1‬في السياسة‬ ‫‪ .2‬وفي الاقتصاد‬ ‫‪ .3‬وفي الثقافة‬ ‫‪ .4‬وفي النظر والعقد وفي العمل والشرع فلسفيا‬ ‫‪ .5‬وفي العمل والشرع والنظر والعقد دينيا‪ .‬وهذه هي المجالات التي أفسدت العلاقة بين‬ ‫الاستعمار والاستخلاف في الأرض‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪4‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لما اضطر هيجل في محاولة الخروج من المأزق الذي نتج عن بيان كنط حدود النظر‬ ‫بتحريره من نظرية المعرفة القائلة بالمطابقة تصور أن تجاوز منطق القيمتين الارسطي‬ ‫باستنتاج رؤية للهوية المؤلفة من النقيضين ليؤسس لإلغاء الثالث المرفوع فيه واعتبر ذلك‬ ‫كافيا لتحريك الهوية بالصيرورة الجدلية‪.‬‬ ‫لكن المضمر في ذلك هو رد الموجود إلى المعلوم فيكون معيار الثاني معيارا للأول وذلك هو‬ ‫وهم المطابقة الذي يرد كما فسر ذلك ابن خلدون إلى رد الوجود إلى الإدراك‪ .‬وبذلك‬ ‫أمكن لهيجل أن يتوهم أنه المخرج التثليثي في قيم المنطق الجدلي يحقق المطابقة التي تلغي‬ ‫المفهوم الحد الكنطي‪ :‬الشيء في ذاته‪.‬‬ ‫والعودة إلى القول بالمطابقة لم يتجاوز كنط فحسب بالعودة إلى القرون الوسطى وعلم‬ ‫كلامه بل هو تجاوز حتى أرسطو الذي لم يذهب إلى حد المطابقة بين المنطقي والوجودي‬ ‫لأنه أبقى في الثاني أمرا لا يمكن أن يغني عنه الاول أعني التجربة ولم يعتبر المنطق علما‬ ‫بل أرغانونا (آلة) ولم يعتبره متيافيزيقا‪.‬‬ ‫ويمكن القول إن من تجاوز مرحلة اعتبار المنطق آلة وليس علما لموضوع هو ابن سينا‪.‬‬ ‫ففصله بين الماهية والوجود جعل المنطق في الحقيقة هو علم الماهيات بصرف النظر عن كونها‬ ‫حاصلة في الوجود الطبيعي أو في العناية (يعني في قصدية ذهنية ما سواء كانت قصدية‬ ‫إلهية أو إنسانية) مع اعتبار الماهيات ذات قيام ذاتي وهو أمر شديد القرب من الرؤية‬ ‫الأفلاطونية للمثل‪.‬‬ ‫لكن هيجل بنظرية القضية التأملية التي تتجاوز القضية التحليلية جعل الماهية هي عين‬ ‫الوجود الفعلي وصارت في صيرورة مثله وهو معنى الجدل الهيجلي ومن ثم فمنطقه هو عين‬ ‫ميتافيزيقاه لأن المطابقة صارت عنده مطلقة ‪-‬وهو معنى العقل واقع والواقع عقل عنده‪-‬‬ ‫بمعنى علم الوجود هو عينه علم المنطق وكلاهما جدلي بصراع المتناقضين المتجاوزين إلى‬ ‫التوليف بينهما في حركة جنونية لا تتوقف حتى وإن ظنها هيجل وبعده ماركس تتوقف عند‬ ‫تحقيق غاية غير مؤسسة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪5‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ولذلك ففي كلامه على المنطق الأرسطي قال هيجل إن منطق أرسطو التحليلي ليس هو ما‬ ‫عملت به فلسفته بل هي عملت بمنطق الكائنات العضوية أو بالنموذج العضواني ومن ثم‬ ‫فميتافيزيقا أرسطو حسب هيجل من جنس المنطق الهيجلي الذي هو الميتافيزيقا العضوانية‬ ‫حيث تصبح كل المفهومات المنطقية شبه كائن حي له ترابط وظائف الكائن الحي التي هي‬ ‫جميعا في آن أداة وغاية كل منها لكل منها‪.‬‬ ‫لكن السؤال يبقى في حالة هيجل وماركس هو مصدر الغاية في هذا النسق المبني على الجدل‬ ‫ما هو‪ .‬فغاية الحرية الروحية (هيجل) أو غاية التحرر السياسي (ماركس) إذا لم تكن‬ ‫مبدأ متعاليا على النقيضين ولم تكن هي المحركة وليس الصراع بينهما في وحدتهمـا لاستحال‬ ‫أن نفهم كيف يمكن أن تكون غاية لهما توقف الحاجة إليهما عندما تتحقق أعني الاعتراف‬ ‫المتبادل عند الأول والمساواة عند الثاني‪.‬‬ ‫والمبدأ المتعالي ‪-‬الحرية الروحية والاعتراف المتبادل بين السيد والعبد مثلا يتعالى عليهما‬ ‫الإنسان من حيث هو إنسان حرب الجوهر‪-‬يعني أن حقيقة الشيء ليست جدلية بل الجدلي‬ ‫هو السعي إليها اكتشافا في المعرفة وحصولا في الوجود ما يعني أن كلتا الفلسفتين مناقضة‬ ‫لنفسها لجعلها الأمر الواقع مثالا‪.‬‬ ‫وما كان ذلك ليحصل عند هيجل وماركس ‪-‬وكل النخب العربية سواء التقليدية بمفهوم‬ ‫التدافع أو الحداثية بمفهوم الجدل وهما نفس الشيء رغم اختلاف الاصطلاح‪-‬لو لم يكن‬ ‫الضمني فيها الوهم الذي سماه ابن خلدون رد الوجود إلى الإدراك أو وهم الإحاطة وعدم‬ ‫الاعتراف بحدود العقل أو بوجود الغيب‪.‬‬ ‫وإذا كان ابن خلدون قد عرف هذا الوهم بصورة جملية دون أن يشح طبيعته ابستمولوجيا‬ ‫فإن ابن تيمية تجاوز ذلك إلى بيان العلة المعرفية‪ .‬فميز بين مطلق الدقة في المقدرات‬ ‫الذهنية واستحالة إطلاقها في المعرفة ذات الموضوع ذي القيام المستقل عن اللعبة الرمزية‬ ‫في المقدرات الذهنية‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪6‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فهو مثلا لا يجادل في صحة المنطق الصوري ‪-‬موضوع التحليلات الاول‪-‬لكنه يجادل في صحة‬ ‫المنطق المادي‪-‬موضوع التحليلات الثواني أو الاواخر‪-‬فالانتقال من لعبة المتغيرات في الأول‬ ‫إلى ملئها بمضمون وجودي محدد يجعل الإشكال كله في مصدر هذا الملء وضمانة مطابقته‬ ‫لعين وجوده خارج المنطق‪.‬‬ ‫ففي المقدرات الذهنية لا وجود لمطابقة بين الرمز ودلالة معينة بل هو رمز لمتغير لا يتحدد‬ ‫في متعين إلا بعد أن نضع فيه مضمونا معينا من التجربة الخارجية‪ .‬وهذه العملية تعني أننا‬ ‫ننتقل من عملية الحساب الرمزي التي هي علاقة بين الرموز إلى المطابقة مع مضمون‬ ‫وجودي إدراكه ناقص وغير محيط دائما‪.‬‬ ‫وأدوات الإدراك الطبيعية هي الحواس‪ .‬ويمكن للإنسان أن يزيدها لطافة ودقة وعمقا‪-‬‬ ‫وذلك ليس جديدا لأن وسائل الرصد الفلكي كانت مبنية على علم المناظر منذ آلاف السنين‬ ‫قبل الميلاد‪-‬وهو ما يوجي بأن هذا التدقيق لا متناهي وكلما تقدمنا فيه اكتشفنا وجوها لم‬ ‫نكن ندركها قبل هذا التقدم‪ .‬ولذلك استنتج ابن تيمية أمرين‪:‬‬ ‫‪ .1‬كل تصور وراءه تصور أدق منه إلى غير غاية وهو ما يحول دون الإحاطة التامة التي‬ ‫يدعيها الكلام والفلسفة قولا بنظرية المعرفة المطابقة أي التي ترد الوجود إلى الإدراك‪.‬‬ ‫‪ .2‬لا وجود لعلم كلي للموجودات الخارجية التي تقتضي التجربة الناقصة دائما والكلي‬ ‫الوحيد في العلم ليس الوجود الخارجي بل هو من المقدرات الذهنية مثل المنطق الصوري‬ ‫والرياضيات‪.‬‬ ‫وقد نعجب من انطباق المقدرات الذهنية على الموجودات الطبيعية والتاريخية وهو أمر‬ ‫يسعر أن يكون بالصدفة‪ .‬لكن الانطباق عندما يوجد لا يكون بينها وبين الوجود الخارجي‬ ‫بل بين أمرين معدلين منها ومن الوجود الخارجي‪:‬‬ ‫‪ .1‬فمنها يختار العلماء بعد الصيغ التي يمكن أن تكون لغة صناعية لقول شيء مما أدركنا‬ ‫ما يمكن أن يكون بنية مفيدة من الوجود الخارجي‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪7‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .2‬والبنية المفيدة من الوجود الخارجي هي مجموعة من المعطيات التجريبية التي تبدوا‬ ‫قابلة لتمثيل الموضوع الخارجي الذي ندرسه وكأنها ممثلة لمقوماته التي نعتبرها قانونه‪.‬‬ ‫لكن الأمرين كلاهما مؤقت إذ يكفي أن تتقدم نظريات المقدرات الذهنية لتمدنا بعبارات‬ ‫أدق وتتقدم أدوات أدراكنا للموجود الخارجي حتى نكتشف أن ما تصورناه مؤقتا بنية مفيدة‬ ‫يصبح قابلا للتجاوز إلى بنية أعمق وأكثر إفادة في معرفة ما نسميه \"واقعا\" خارجيا‪.‬‬ ‫وبذلك يكون تطور العلم رهن نوعين من التطور الأول في مستوى التقديرات الذهنية‬ ‫التي تمثل معين اللسان المعبر عن الثاني في مستوى المدركات التجريبية بفضل ما تمكن علوم‬ ‫المدارك الحسية في صنع أدوات تزيد في مضاء الحواس مثل علم المناظر وعلم المسامع‬ ‫وأدوات القيس الدقيقة فضلا عن التناسق بين حصائل التجارب السابقة في العلوم المتكاملة‬ ‫التي تمكن من الاستنتاج المنطقي لما يستند من معارف على التسليم الضمني بأن الوجود له‬ ‫تناسق مناظر لما لدينا عنه من مدارك‪ :‬شبه تواز بين بنيتين بنية نسق المعارف الإنسانية‬ ‫وبنية نسق موضوعاتها‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪8‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫رتبت المجالات التي تنتسب إليها المفهومات الـمنافية للرؤية القرآنية والتي أنوي البحث‬ ‫في ما يمكن أن يعيد إليها دلالتها السوية إذا وصلت بالرؤية القرآنية المتحرر من التحريف‬ ‫الواعي وغير الواعي من قبل أدعياء التأصيل وأدعياء التحديث كما يلي‪:‬‬ ‫‪ .1‬السياسة‬ ‫‪ .2‬والاقتصاد‬ ‫‪ .3‬والثقافة‬ ‫‪ .4‬والنظر والعقد وفي العمل والشرع فلسفيا‬ ‫‪ .5‬وفي العمل والشرع والنظر والعقد دينيا‪.‬‬ ‫وهذه هي المجالات التي أفسدت العلاقة بين الاستعمار والاستخلاف في الأرض‪ .‬وتكلمت‬ ‫بصورة عامة على \"التدافع\" من أمثلة التحريف الاصطلاحي في فكر الإسلاميين ثم حاولت‬ ‫تعليل اللجوء الهيجلي للحل الجدلي شرطا في التحرر من المأزق الأبستمولوجي لأصحاب‬ ‫القول بنظرية المعرفة التي تظن مطابقة للوجود الناتج عن النقد الكنطي وقولها بالشيء‬ ‫في ذاته مفهوما حدا‪.‬‬ ‫ثم عرجت على المفهوم الحد الاعم عند ابن خلدون ‪-‬نفي رد الوجود إلى الإدراك أو‬ ‫نفي العلم المحيط على الإنسان‪-‬وعند ابن تيمية ‪-‬نفي التصور المطابق والمحيط والعلم‬ ‫الكلي لكل موجود فعليا وليس مقدرا ذهنيا‪-‬ولم أصله بنظرية المفهوم الحد الذي تقدم‬ ‫عليهما عند الغزالي أو طور وما وراء العقل‪.‬‬ ‫فمجرد افتراض العقل لطور وراءه فيه بداية القطيعة مع القول بالمطابقة الذي هو‬ ‫أساس الفلسفة اليونانية التي صارت ممثلة للفلسفي عامة عندنا وفي الغرب إلى بداية الفكر‬ ‫الحديث عندما قبل الفلاسفة بأن في الدين ما ليس يمكن يفهمه العقل مع تضمنه دليل‬ ‫ضمني بعدم المطابقة التي صارت صريحة عند كنط‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪9‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لكن الحل الجدلي الهيجلي وتبني الماركسية له جعل كل هذا التقدم الابستمولوجي وما‬ ‫يترتب عليه أكسيولوجيا يضيع فعادة الفلسفة إلى رؤية إيديولوجية تدعي أن الإنسان‬ ‫مقياس كل شيء ومن ثم فواقعه هو عين واجبه وأصبح منطق الصراع الجدلي القانون‬ ‫الأعم في كل أنشطة الإنسان حتى عند الإسلاميين‪.‬‬ ‫وهذه الرؤية مخالفة مطلق الخلاف للرؤية القرآنية‪ .‬فلا نظرية الصراع بين أرواح‬ ‫الشعوب لفهم التاريخ الروحي ولا نظرية الصراع بين الطبقات لفهم التاريخ المادي يمكن‬ ‫أن يقبل بهما من فهم رؤية القرآن للإنسانية وتعمق في منطق التاريخ الروحي والتاريخ‬ ‫المادي للإنسانية متحررا من المطابقة‪.‬‬ ‫وأول مقوم لهذه الرؤية هي القول بوجود الوحدة في أي شيء آخر غير المبدأ الأول لأن‬ ‫كل ما عداه مؤلف من مبدأ الزوجية الذي يجعل الوحدة مبدأ متعاليا في ما يصلهما بما بينهما‬ ‫من تفاعل في الاتجاهين‪ .‬وليكن مثالنا أكثر الأشياء بداهة في الدلالة على الوحدة في بادئ‬ ‫الرأي‪ :‬وحدة الفرد الإنساني‪.‬‬ ‫فمهما حاول المرء الإمساك بمبدأ وحدته عندما يقول \"أنا\" يعجز دون ذلك ولا يدري‬ ‫هل هي وحدة كيانه العضوي؟ أم وحدة كيانه النفسي الواعي بكيانه العضوي وبما حوله؟‬ ‫وهل هي أمر ثالث يصل بينهما؟ أم هي أمر في كل منهما هو صلته بالثاني؟ فيكون المبدأ‬ ‫الموحد هو بدروه مضاعف؟‬ ‫ألا تكون بذلك وحدة الموضوع ‪-‬بما في ذلك ما أعنيه بما يعتبر مرجعية ما أشير إليه‬ ‫بكلمة \"أنا\"‪-‬هي إذن \"وحدة\" لحظية في وعيي مع افتراض وحدة وعيي التي أعلم أنها في‬ ‫شبه سيلان أبدي ليس مقصورا وجوده على كياني العضوي والنفسي بل على أدوات الإدراك‬ ‫التي هي من ثمرات انتاجها العلمي كالمناظر؟‬ ‫فإذا عرفت \"هوية\" الشيء بكونها \"أ\" و\"لا أ\" فجمعت بين المتناقضين وممثلة للثالث المرفوع‬ ‫في المنطق الارسطي شرطا لوحدة الهوية البريئة من التناقض الا أكون قد جمعت كل ما‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪10‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ليس \"أ\" في \"لاأ\" وكأنه مثل \"أ\" شيء واحد؟ لماذا لا يكون \"أ\" أولا متكثرا ومثله \"لا أ\" فيكونا‬ ‫التعدد بديلا من التناقض؟‬ ‫وهذا هو معنى الزوجية‪ :‬فالإنسان من حيث هذا المبدأ هو تعدد الذكورة وتعدد الأنوثة‬ ‫دون أن يكون بين الذكورة والأنوثة تقابلا لا ضدي ولا تناقضي ولا بأي معنى نتصوره‬ ‫متضمنا للمنافاة لأن الإنسان الذي يمكن أن ينتج إنسانا مثله ليس الذكر ولا الانثى بل هو‬ ‫ما بينهما من علاقة تكامل عضوية‪.‬‬ ‫فلا الحيوان المنوي إنسان ولا البويضة إنسان بل الإنسان هو ما ينتج عن تفاعلهما بصورة‬ ‫تجعل دور كل منهما نظير دور الثاني رغم اختلافه الجنسي ويجعل الحيوانات المنوية في‬ ‫سعيها إلى اللقاء بالبويضة لا يتحاربان ولا يتنافيان بل يتسابقان في الخيرات بما بين كل‬ ‫منها وبيئة اللقاء من تناسب‪.‬‬ ‫وليس لأي منهم ولا للبوية من دور في هذا التناسب لأنه شبه عامل خارجي هما فيه‬ ‫مدفوعين وليسا متدافعين‪ .‬وهذا العامل الثالث بين البويضة والحيوان المنوي من حيث هو‬ ‫بيئة اللقاء أو وسطه يمثل العامل الذي يجعل العلاقة متضمنة لما لا يقبل الحساب المسبق‬ ‫وهو ليس من الغيب بل من الغائب‪.‬‬ ‫ولذلك فهو يعلم بعديا ويقبل العلاج إذا كان مطلقا بمعنى إذا كان من أسباب العقم فلا‬ ‫يصل أي حيوان منوي مثلا للبويضة كأن يكون الوسط تغلب عليه حموضة قاتلة للحيوانات‬ ‫فلا تصل إليها فتعالج الظاهرة بصورة تيسر الوصول للقوي من الحيوانات‪ .‬لكن قد توجد‬ ‫عوامل أخرى لا تقبل العلم فمن يدري؟‬ ‫ولما كان كلا الجنسين متعدد لأن الفردية دون النوعية فإن العلاقة ليست بين رجل وامرأة‬ ‫وهي ليست علاقة بين متناقضين وليس للرجل الجنسان ولا للمرأة الجنسان حتى وإن كان‬ ‫ذلك يوجد للبعض منهما بصورة استثنائية لعلها من اخطاء البايولوجيا‪-‬وتلك علة المثلية في‬ ‫الغالب‪-‬فالزوجية لا تناقض فيها‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪11‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لكن إيديولوجية الجدل أوجدت ما يمكن اعتباره العلاقة الجدلية الصراعية بينهما في ما‬ ‫يسمى المسألة الجناسية التي جعلت الصراع هو القاعدة بينهما وليس التكامل في حين أن‬ ‫الموجود حقا بينهما هو التسابق بين كلا الجنسين على الثاني بما يشبه منطق العلاقة بين‬ ‫الحيوان والبويضة بعوامل أكثر تعقيدا‪.‬‬ ‫وهذا التسابق الثاني الأكثر تعقيدا بين الذكور على الإناث والإناث على الذكور أتم من‬ ‫التسابق بين الحيوان والبويضة لأنه متساو بين الجنسين بخلافه إذ البويضة لا تسهم في‬ ‫التسابق بل هي تنتظر حصيلة التسابق بين الحيوانات‪ .‬والتسابق الأتم هو المحدد للثاني‬ ‫والوسط هنا هو موضوع بحثنا‪.‬‬ ‫فالوسط الذي يحدد نتيجة التسابق أو ثمرة التناسب بين قوى المتسابقين هو السياسي‬ ‫والاقتصادي والثقافي والنظر والعقد والعمل والشرع فلسفيا (المعرفة) والنظر والعقد‬ ‫والعمل والشرع دينيا (القيم) في كل الجماعات وهو الذي يلغي الرؤية القائلة بالعلاقة‬ ‫الجدلية بين اثبات ونفي فتوليف متجاوز‪.‬‬ ‫فتكون الرؤية الجدلية قد فرضت قانونا وهميا على الوسط الذي تجري فيه علاقات‬ ‫الأشياء والبشر في الجماعة ونقلها من منطق البنية المتكاملة والتحديد المتعالي على العناصر‬ ‫وهو بالأساس بنية الوسط السياسي والاقتصادي والثقافي والمعرفي والقيمي في الجماعة سويا‬ ‫كان أو مرضيا‪.‬‬ ‫وبذلك نصل إلى اعتباري الرؤية الجدلية تحريفا للرؤية القرآنية على الأقل بالنسبة‬ ‫إلى الإصلاح الروحي الذي تمثله الرسالة الخاتمة والتي تعتبر الوسط الذي يجري فيه‬ ‫التبادل والتواصل محددا بمفهوم الأخوة الإنسانية (النساء ‪ )1‬وبمفهوم التعارف بين البشر‬ ‫بمقيمة المساواة بصرف النظر عن تعدد القبائل والشعوب (الحجرات ‪ )13‬على الأقل في‬ ‫الواجب‪.‬‬ ‫وهو ما يدركه الإنسان بعد أن يدرك فساد جعل الأمر الواقع مثالا أعلى قلبا للعلاقة‬ ‫بينهما فيربى البشر على الصراع الذي ينتهي إلى حرب أهلية دائمة‪ .‬وذلك هو الفرق بين‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪12‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫مفهومين أساسيين‪ :‬التنافس بالتحارب والتسابق في الخيرات بالتعاون مع الحرص على‬ ‫المشاركة في كلفة البحث العلمي تطبيقاته ليكون في خدمة الإنسانية وليس في تقاتلها من‬ ‫أجل ما هو أداة وليس غاية في حياة البشر مثال ذلك بين في أمرين‪:‬‬ ‫‪ .1‬فالأمراض والمجاعات ونتائج الحروب لا تعترف بالحدود السياسية بين الدول لأن‬ ‫العدوى تنتشر عالميا وخاصة بعد أن صار العالم شبه جماعة واحدة بسبب المواصلات‪.‬‬ ‫‪ .2‬واخطار التلوث والأسلحة الحديثة وخاصة اسلحة الدمار الشامل مثل الأمراض‬ ‫لا تعترف بالحدود بين الدول فضلا عن الحدود بين الطبقات والأعراق في نفس الدولة‪.‬‬ ‫ومعنى ذلك أن الأخوة تحرر من الصراع الروحي والمساواة تحرر من الصراع المادي في‬ ‫المثال على الأقل وهو الغاية الجاذبة لتجاوز الأمر الواقع إذ المثال لم يوجد إلا لتحريرنا‬ ‫منه باعتباره ما يسميه القرآن الخسر الذي وضعت نظرية العصر شروط التحرر منه‪:‬‬ ‫• الوعي به‬ ‫• ثم الإيمان‬ ‫• ثم العمل الصالح‬ ‫• ثم التواصي بالحق‬ ‫• ثم التواصي بالصبر‪.‬‬ ‫ودفع الناس بعضهم بالبعض لا التدافع هو ضرورة وجود مؤسسات تقاوم من لم يكن‬ ‫وازعه الذاتي كافيا لئلا يعدو على هذه القيم فيكون الدافع متعاليا على المدفوع أو ما في‬ ‫النفس الإنسانية من وعي بالخسر ومن سعي للتحرر منه بهذه القيم التي تمثلها إرادة‬ ‫الجماعة في دولة تطبق القانون بمرجعية خلقية‪.‬‬ ‫ولعل أبرز مثال يمكن اعتماده من الفهم الجدلي المرضي للعلاقة بين العمل ورأس المال‬ ‫أو الاخلاق النقابية عند صاحب المال وصاحب العمل‪ .‬فأولا هذه الرؤية اختزالية لأن‬ ‫الإنتاج الاقتصادي ليس مؤلفا من صاحب المال والعامل بل فيه ثلاثة عوامل اخرى يقع‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪13‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫إهمالها وهي أكثر جوهرية منهما‪ .‬فالإنتاج الاقتصادي هو شرط قيام الجماعة ماديا خاصة‪.‬‬ ‫وفيه‪:‬‬ ‫‪ .1‬الفكرة القابلة للترجمة في بضاعة أو خدمة‪.‬‬ ‫‪ .2‬الاستثمار القابل لإنجاز تلك الترجمة‬ ‫‪ .3‬التمويل القادر على جمع كلفة تحقيقها‬ ‫‪ .4‬العمل الذي يحققها فعلا‬ ‫‪ .5‬الاستهلاك الذي يطلبها ويمولها في الحقيقة بعديا ويتضمن فوقه ما يغري بالعملية‬ ‫كلها من الفكرة إلى سد الحاجة التي تدفع إليها وهي دائما بنت الذوق المادي والروحي‬ ‫سواء مباشرة أو بصورة غير مباشرة أعني شروط بقاء الإنسان وشروط صحته البدنية‬ ‫والروحية‪ .‬ومن ضيق الأفق وسوء الفهم رد القضية كلها إلى علاقة جدلية بين العامل ورب‬ ‫العمل في وعلاقة تنافس بين ارباب العمل على السوق‪ .‬غاية وعلى ثمرة البحث العلمي‬ ‫بداية إما لتعطيلها أو لتوظيفها ضد المنافسين‪.‬‬ ‫والجماعة التي يكون الإنتاج من أجلها لسد حاجاتها هي في الجملة نفس الجماعة التي‬ ‫لها تلك الوظائف إما بالفعل أو بالقوة وخاصة إذا تجاوز الحدود السياسية فهي كل‬ ‫الإنسانية‪ .‬ومن ثم فالإنتاج الاقتصادي مثله مثل الإنتاج الثقافي يشارك فيه الجميع على‬ ‫الأقل بالاستهلاك الذي هو المحرك الأساسي وكلاهما مصدره الذوقان المادي والروحي‪.‬‬ ‫الرؤية الجدلية جعلت هذه المسألة الكونية مقصورة على صراع بين عمل ورأس مال‪.‬‬ ‫وهي علاقة تهديمية وليست علاقة بناءة‪ .‬فالعامل الذي يبالغ في ما يسميه حقوقه دون‬ ‫اعتبار لحقوق رب العمل والعكس بالعكس كلاهما يقضي على دوافع الاقتصاد وحياة‬ ‫المؤسسة المنتجة والطلب على المنتج بسبب هذه الرؤية‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪14‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫نستأنف الكلام في هذا الفصل فنحدد العلاقة بين الانتاج المادي والإنتاج الرمزي في كل‬ ‫حضارة لنفهم علاقة سد الحاجات الإنسانية أصلا لكل إنتاج اقتصادي وثقافي‪ .‬ولنبدأ‬ ‫بتحديد العلاقة بين الاقتصادي والثقافي‪ .‬فالأول مشروط بالثاني بمعنيين‪:‬‬ ‫‪ .1‬فالثقافي شارط للاقتصادي غاية لأن الاقتصاد مشروط بتحديد غايات وهي‬ ‫موضوع العبارة الثقافية عن الذوق بمعنييه المادي (ورمزه المائدة والسرير) والروحي‬ ‫(ورمزه فناهما أي ما يحيط بهما من فنون تضفي عليهما معنى يتجاوز سد الحاجة الطبيعية‬ ‫والارتقاء إلى الحاجة الروحية)‪ .‬ومن هنا تختلف القيمة التبادلية عن القيمة الاستعمالية‬ ‫في الاقتصاد‪ :‬فهذه دون تلك قيمة رغم أنها ضرورية أكثر منها‪ .‬فلوحة رسم قد تساوي ثمن‬ ‫الغذاء والزواج مثلا لألف إنسان في كامل حياتهم‪ .‬وحلي المرأة أغلى من نفقتها‪.‬‬ ‫‪ .2‬والثقافي شارط للاقتصادي بداية لأن الاقتصاد مشروط بإبداع أدوات انتاجه‬ ‫وطرائقه وتلك هي مهمة العلوم والتقنيات التي هي كلها عمل ثقافي بمعنى تراكم الخبرة‬ ‫في اكتشاف أسباب الرزق وتطويرها وتنميتها باكتشاف قوانين الطبيعة وسنن التاريخ‪ :‬وذلك‬ ‫هو مطلوب البحث العلمي مع المعرفة للمعرفة‪.‬‬ ‫لكن الثقافي هو بدوره جزء من الاقتصاد بمعنى أنه ينتج بضائع (الأدوات) خدمات‬ ‫(الطرائق) هي بدورها قابلة لأن تكون مادة تبادل بتعاوض‪-‬ليس علاقة بين عامل ورب‬ ‫عمل ببن هي علاقة مخمسة بين إبداع علمي تقني وإبداع استثماري لهما وابداع تمويلي‬ ‫للاستثمار وابداع إنتاجي للمبدعات التي تسد حاجات وابداع استهلاكي لسد الحاجات‪.‬‬ ‫كما أن الثقافي مشروط بالاقتصادي ولكن شرط الأداة وليس شرط الغاية‪ .‬ذلك أن‬ ‫الانتاج الثقافي سواء الغائي (المتعلق الذوقين) أو البدائي (المتعلق بالعلمين الأداتي‬ ‫والمنهجي) لا يمكن أن يحدث من دون تمويل ضخم هو المحرك الأول والأخير لكل حضارة‬ ‫أعني البحث العلمي في المجالين الذوقي خاصة والقيمي عامة (الأكسيولوجي) والتقني‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪15‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫خاصة والعلمي عامة (الأبستمولوجي)‪ .‬وبهذا المعيار يمكن أن نميز بين الحضارات‪ :‬فالتي‬ ‫لم تدرك هذه الحقيقة تمثل العمران البدوي والتي أدركته تمثل العمران الحضري بلغة‬ ‫ابن خلدون‪.‬‬ ‫ذلك أن الأولى تعتمد على ما تنتجه الطبيعة والثانية دون نفي دور الطبيعة تعتمد على‬ ‫ما تنتجه الثقافة‪ .‬وبهذا المعنى فالعرب لم يتجاوزوا بعد العمران البدوي إذ إن ما لديهم‬ ‫من صناعات لاستخراج ثروات الطبيعة ليست من صنعهم بل هي مستوردة‪ .‬وكل ما يتعلق‬ ‫بالمائدة والسرير وخاصة بفن المائدة وفن السرير والإنتاجين المادي والرمزي أدوات‬ ‫ومنهجيات كلها مستوردة‪ :‬ما يزال العرب بدوا من الماء إلى الماء إذا طبقنا المعنى الخلدوني‬ ‫لمعنى العمران البدوي والعمران الحضري بمقتضى مفهومة الثورة \"نحلة العيش\" ذاتية‬ ‫الانتاج في الجماعة‪.‬‬ ‫وهذا النسيج المخمس يحتاج إلى إبداع سياسي وخلقي يجعل الجماعة قادرة على رعاية‬ ‫نفسها بما يسد حاجاتها وحماية مقومات وجودها التي هي أحيازه ومنها تستمد هذه‬ ‫المقومات‪ :‬جغرافيتها ومنها ثروتها وتاريخها ومنه تراثها أو ثروتها الروحية والعلمية‬ ‫والقيمية كلها وأخيرا مرجعيتها التي تلحم الجماعة‪ .‬وهذه الرؤية يجمعها القرآن الكريم‬ ‫في تعريف الإنسان بوصفه‪:‬‬ ‫‪ .1‬مستعمرا في الأرض أي مكلفا بتعميرها والمحافظة عليها وحماتها من الفساد فيها‬ ‫لأنه من حيث هو إنسان ومن حيث هي شرط بقاء الإنسانية وغيرها من المخلوقات‬ ‫‪ .2‬مستخلف فيها أي مكلف بجعل ذلك التعمير يكون بقيم تجعله جديرا بالاستخلاف‬ ‫أي حريصا على مبدأي الإنسانية في القرآن‪ :‬أخوة البشر الكونية (النساء ‪ )1‬والتعارف‬ ‫والمساواة بينهم (الحجرات ‪.)13‬‬ ‫القول بالجدل نفي لهذه الحقيقة ونكوص إلى الجاهلية وهما أمران مناسبان للكسل‬ ‫الفكري والأنانية الخلقية‪ .‬لذلك تجد المجتمعات التي تردت إلى هذه الرؤية يغلب عليها‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪16‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫التبسيط الفكري في منهجية الوضع ونقيضه والتأليف وهو تبسيط يدل على الرداءة وتوهم‬ ‫الإحاطة والتعصب المقيت للإيديولوجيا التبسيط‪.‬‬ ‫وأغرب ما في الأمر أن هيجل ومثله ماركس كلاهما ليس له جواب عن سؤالين ينسفان‬ ‫رؤيتهما نسفا‪:‬‬ ‫‪ .1‬كلاهما يتوهم أن تحقق الغاية تنهي مبدأ رؤيتهما إذ تزول علة الصراع‬ ‫‪ .2‬وكلاهما يدعي وجود شيء مستثنى من مبدأ الجدل الدولة عند هيجل والحزب‬ ‫الثوري عند ماركس‪ :‬كلاهما فوق صراع الجدل وعلاج له‪.‬‬ ‫وسأبدأ مراجعة المفهومات من الغاية إلى البداية أي بعكس الورود ذكري للمجالات التي‬ ‫تعنيني‪:‬‬ ‫‪ .1‬من العمل والشرع والنظر والعقد في الدين‬ ‫‪ .2‬ثم من النظر والعقد والعمل والشرع في الفلسفة‬ ‫‪ .3‬ثم الثقافي‬ ‫‪ .4‬ثم الاقتصادي‬ ‫‪ .5‬ثم السياسي‪.‬‬ ‫وهو الذي بدأت به في عرض الإشكالية التي جعلتها موضوعا لهذه المحاولة‪ :‬إذ بدأت‬ ‫برفض مفهوم التدافع الكريه الذي بات طاغيا على خطاب الإسلاميين الذين تمركسوا بغير‬ ‫وعي‪ .‬فالتدافع مشاركة بين المتدافعين ضميرها أن الدافع المتعالي بات مجرد شعار عندهم‬ ‫لكأن \"دفع الله الناس بعضهم ببعض\" مجرد كلام‪.‬‬ ‫ذلك أن التدافع تفاعل بين قوتين لا وجود لقوة متعالية عليهما تماما كما يتوهم من يعتقد‬ ‫أن ما يجري في التاريخ مقصور على صدام الإرادات البشرية وليس وراءه حكمة وليس‬ ‫مدفوعا بعدم نسيان تلك الحكمة‪ .‬فيكون \"فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر\" مجرد‬ ‫تجمل وتبرك بنص وليس عملا بمبدأ‪ :‬فإذا كان الناس يتدافعون بدوافع يحكمها الأمر‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪17‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الواقع وحده وليس فوقع اعتبار الأمر الواجب لم يعد فرق بين من مرجعيته صراع القوى‬ ‫وبين من مرجعيته تجاوزه إلى التواصي بالحق والتواصي بالصبر‪.‬‬ ‫ولنأخذ أبسط مثال أخلاق السياسة عامة والحرب خاصة كما يحددها الإسلام‪ :‬ففي الغاية‬ ‫ما نراه اليوم من عمل الإسلاميين في المعارضة أو في الحكم بنفس السياسة التي يعمل بها‬ ‫كل أنظمة العرب والمسلمين‪ .‬فما نراه عند المعارضين من تفجير المساجد وقتل المصلين‬ ‫بخلاف علة الدفع الإلهي في الآية وقتل الاطفال والشيوخ وحرب الطوائف وما نراه عند‬ ‫الحكام منهم من تعذيب المعارضين وتصفيتهم ماديا أو رمزيا يجعلهم لا يختلفون عن الإرهاب‬ ‫الاحمر والماركسي في الحكم أو في المعارضة‪.‬‬ ‫فبئس السياسة التي تقول بالتدافع لأنها قرآنيا تقول بالتجاذب بمعنى أن الجماعة‬ ‫السوية ليست مؤلفة من جماعات تتناحر على الحكم بل ممن وصفتهم سورة العصر على‬ ‫الأقل في الواجب‪:‬‬ ‫‪ .1‬واعون بعلل الخسر‬ ‫‪ .2‬فيؤمنون‬ ‫‪ .3‬ويعملون صالحا‬ ‫‪ .4‬ويتواصون بالحق‬ ‫‪ .5‬ويتواصون بالصبر‪.‬‬ ‫وبغير ذلك تكون جاهلية جهلاء‪ .‬وواضح أن الإيمان للفرد هو التواصي بالحق للجماعة‬ ‫والعمل الصالح للفرد هو التواصي بالصبر للجماعة‪ .‬ومعنى ذلك أن الإيمان والتواصي‬ ‫بالحق يتعلقان بالنظر والعقد وهو جوهر الاجتهاد والعمل الصالح والتواصي بالصبر‬ ‫يتعلقان بالعمل والشرع وهو جوهر الجهاد‪.‬‬ ‫وتلك هي المعاني التي غفل عنها مفسرو القرآن الكريم ما جعل علوم الملة تصبح عقيما‬ ‫لأنها حصرت الاجتهاد في ما نهى عنه القرآن (آل عمران ‪ )7‬وأهملوا ما أمر به (فصلت‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪18‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ )53‬ونتج عن ذلك أن الجهاد صار مقصورا على القتال ولم يعد شاملا للعمل كله وللشرع‬ ‫كله اي لتحقيق شروط الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف‪.‬‬ ‫ولذلك فسيكون آخر المفهومات التي أحاول بيان خطر دلالتها الجدلية هو مصطلح الحكم‬ ‫والمعارضة‪ .‬فالانتخابات عندما تختار من ينوب إرادة الأمة بالفعل (الذي يحكم) ومن‬ ‫ينوبها بالقوة (الذي يعارضه) لا تختار عدوين أحدهما يحكم والثاني يعارض بل تختار‬ ‫موقفين أحدهما يغلب عليه معالجة الأمر الواقع الذي قد ينسيه الأمر الواجب والثاني‬ ‫يغلب عليه الأمر الواجب الذي قد ينسيه الأمر الواقع‪ .‬وهذان الرؤيتان تمثلان لحظة من‬ ‫وعي الأمة بما تحتاج إليه وبمن تراه أولى بتحقيقه في الحال‪ .‬ولهذه العلة فالأغلبيات‬ ‫تتغير‪ .‬فمن كان يمثل أقلية في لحظة قد يصبح هو صاحب الأغلبية في التي تليها عندما‬ ‫يكون عرضه لتقديره للعلاقة بين الأمر الواقع والأمر الواجب مقنعا للجماعة التي تختار‬ ‫من ينوبها في الحال والاستقبال‪.‬‬ ‫والأمر الواجب والأمر الواقع ليسا متناقضين بل هما متكاملان تكامل التجربة التي يغلب‬ ‫عليها الأمر الواقع والنظرية التي يغلب عليها الأمر الواجب وتكامل الممكن الحاصل بالفعل‬ ‫والممكن القابل للحصول بالقوة وتكامل من يحكم ومن يستعد للحكم فيكون تسابقا في‬ ‫الخيرات وليس تنافسا في الشرور‪ .‬فما يسمى بالمعارض إذا كان يحارب الحاكم ليسقطه‬ ‫فسيرث تخريبه لعمله وليس ما بناه ليستكمل بناءه تعديلا أو تجويدا أو تداركا فيربو‬ ‫الخير ويضمر الشر‪.‬‬ ‫وأكثر الناس عملا بهذه الذهنية هم أحزاب العرب الحاكم منها والمعارض‪ .‬فالأول يريد‬ ‫أن يقطف كل الرؤوس حتى يقول لا وجود لبديل والثاني يهدم كل البناء حتى يقول لا بد‬ ‫من البدء من الصفر‪ .‬كلاهما يعمل بمنطق الصراع الجدلي المزعوم ولا يعتقد أن خيار‬ ‫الجماعة مفاضلة لا تقول بالتنافي بل بالتكامل‪.‬‬ ‫وشرط ذلك رؤية للنظر والعقد لا تتجاوز الاجتهاد بتوهم الإحاطة المعرفية النافية‬ ‫للتواضع المؤدي للتواصي بالحق ورؤية للعمل والشرع لا تتجاوز الجهاد بتوهم الإحاطة‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪19‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫القيمية النافية للتواضع المؤدي للتواصي بالصبر‪ .‬فالتواصيان يعنيان أن الفروق‬ ‫الاجتهادية التي يستفيد منها التواصي بالحق والفروق الجهادية التي يستفيد منها التواصي‬ ‫بالصبر دليل التكامل لا التنافي‪.‬‬ ‫ولهذا قلبت العلاج فبدأت بآخر اشكالية عودة منها إلى أولها أعني من الإبستمولوجي‬ ‫والأكسيولوجي في الدين وفي الفلسفة إلى السياسي الذي هو مجموع كل ما يتسوط بينهما‬ ‫وبين سياسة الأمم لذاتها رعاية وحماية بالاقتصاد لسد حاجاتها المادية بالثقافة لسد حاجات‬ ‫الروحية‪ .‬وذلك هو مخمس موضوعنا الحالي‪.‬‬ ‫ابدأ إذن بالنظر والعقد وبالعمل والشرع في الرؤية الدينية‪-‬واقصد بالدينية القرآنية‬ ‫باعتبارها في الحقيقة حصيلة ما هو ديني في الأديان الستة التي ذكرها في الحج ‪ 17‬بعد‬ ‫مراجعتها لنقدها بمنطق التصديق والهيمنة (اثنان منزلان‪ ،‬اثنان طبيعيان وأصل‬ ‫التحريف أي الشرك ثم أصل اصلاح التحريف أو الإسلام)‪.‬‬ ‫وتصنيف الأديان هذا جامع مانع‪ .‬فاليهودية والمسيحية هما الحدان المنحرفان عن‬ ‫الإسلام الفطري كما جاء ذلك في الاستعراض القرآني بمنطق التصديق والهيمنة‪ :‬فعرضه‬ ‫لهما ليس له من قصد إلا وجهي الإصلاح‪ :‬بيان ما أدى إليه التحريف واستخراج الاصل‬ ‫الثابت في الديني أو ما سيميته باسم \"المعادلة الوجودية\"‪.‬‬ ‫وهذه المعادلة الوجودية هي لحمة القرآن وسداه‪ :‬فلها قطبان هما الله والإنسان يوجدان‬ ‫بين الطبيعة والتاريخ ويؤسسان للعلاقة بينهما‪ .‬وبين القطبين علاقة مباشرة تتجاوز‬ ‫العلاقة التي تحصل بتوسط العالمين الطبيعي والتاريخي لأن ما في الإنسان من أثرها هو‬ ‫الذي يحدد موقفه منهما فيجعله دائما متجاوز للطبيعة والتاريخ إلى ما ورائهما الذي يضفي‬ ‫عليهما المعنى ويحرر الإنسان من سلطان الأمر الواقع (حكم الموجود) على الأمر الواجب‬ ‫(حكم المنشود) في حياته وسلوكه‪.‬‬ ‫وما يـحرف من المعادلة الوجودية هو العلاقة المباشرة لما تنعكس صلتها بالعلاقة غير‬ ‫المباشرة فيصبح الموقف من الأولى الذي هو مثالي محكوما بأمر الموقف من لثانية الذي هو‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪20‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫أمر واقع‪ :‬وذلك ما يحصل في كل الأديان التي ينقدها القرآن بمنطق التصديق والهيمنة‬ ‫والإسلام نفسه لم ينج منها لما انحطت الأمة وهو ما يحذر منه القرآن وبين آثاره في اليهودية‬ ‫والمسيحية وما حرف منهما هو العلاقة غير المباشرة في الصابئية والمجوسية‪.‬‬ ‫والتحريف في هذه الحالات كلها يتألف من أصل هو الشرك وفروع متراتبة اثنان طبيعيان‬ ‫هما الصابئية (الأفلاك) والمجوسية (النور والظلمة) واثنان منزلان حرفا بتأليف العجل‬ ‫وتأليه المسيح‪ .‬والإسلام بالتصديق والهيمنة يعتبرها رغم تحريفها فيها الاشرئباب إلى‬ ‫شيء من الديني بدرجات مختلفة‪.‬‬ ‫وهو يعتبر تعددها شرط التسابق في الخيرات نحو الديني المتحرر من هذه التحريفات‬ ‫والذي يذكر القرآن بمبادئه التي جمعتها في ما سميته المعادلة الوجودية‪:‬‬ ‫‪ .1‬أولا استرداد العلاقة المباشرة بين الإنسان وربه بثورة سياسية تحررها من‬ ‫الوساطة في تربية ومن الوصاية في حكمه‪ :‬رئيس بطبعه وباستخلافه‪.‬‬ ‫‪ .2‬وتحرير العلاقة غير المباشرة من الاكتفاء بالذات‪ :‬فالطبيعة متوسطة بين الإنسان‬ ‫وربه ولكنها لا تتوسط بذاتها بل بما فيها آيات فضل الله على الإنسان أي إنها تحيله إلى‬ ‫صاحب الفضل فتذكره بالعلاقة المباشرة‪ .‬ذلك أن ما في الطبيعة من مناسب لقيام الإنسان‬ ‫ليس بمحض الصدفة بل هو \"تسخير\"‪.‬‬ ‫وتسخير الطبيعة للإنسان الذي يرجعه إلى ما وراء الطبيعة من مسخر لها يرجعه إلى‬ ‫العلاقة المباشرة بينه وبين ربه فيكتشف أن هذا التسخير مشروط بوظيفتين كلف بهما ولا‬ ‫يمكن أن تتحققا للفرد بمعزل عن الجماعة فيجد الوسيط الثاني أي التاريخ هو بالضرورة‬ ‫محيل إلى ما وراء التاريخ وشرطه الجمعي‪.‬‬ ‫فتعود الوساطة الطبيعية والوساطة التاريخية إلى ما بعد طبيعية وما بعد تاريخ كلاهما‬ ‫يستمد معناه ومبناه من العلاقة المباشرة بين الإنسان وربه‪ .‬وذلك هو معنى كون الإنسان‬ ‫يعرف قرآنيا بالاستعمار في الأرض وظيفة وشرط بقاء وبالاستخلاف فيها وظيفة شروط‬ ‫كمال‪ .‬وذلك هو الديني في كل دين سوي‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪21‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فيكتشف الإنسان حينها أن العمل الإنساني لتحقيق هذين المهمتين فعل منتج لما يستمد‬ ‫من تعمير الارض لسد حاجات بقائه القيمية المادية ولما يستمد من الاستخلاف فيها لسد‬ ‫حاجات كماله القيمية الروحية‪ .‬وله وجهان‪ :‬فهو عمل بشرع أي إن العمل فعل مادي‬ ‫مشروط بالقانون فعل روحي يضبط الفعل المادي‪.‬‬ ‫فيكون الفعل المادي والفعل الروحي وجهين للعمل الذي هو في الدين عبادة كجهد عضوي‬ ‫(باليد أو بالفكر) منضبط بقيم خلقية وهو البعد المحقق للمعنى الأول للتكليف أو لمهمة‬ ‫الإنسان‪ :‬تعمير الأرض التي سخرت للإنسان وكلف بتعميرها ورعايتها والحيلولة دون‬ ‫الفساد فيها أو إفسادها‪.‬‬ ‫لكن هذا العمل بهذين الوجهين الفعل المادي والفعل الروحي يستحيل من دون تكليف‬ ‫أعمق هو النظر والعقد‪ .‬فلا يسمى عملا إلا ما كان على علم‪ .‬ما لم يكن على علم لا يسمى‬ ‫عملا بل هو اضطراب المرتعش وليس من يحرك يده بإرادته‪ .‬والعلم نظر في الموجود‬ ‫مشروع بعقيدتين‪ :‬وجوده والقدرة على معرفته‪.‬‬ ‫فمن لا يؤمن بأن العالم موجود وقابل للعلم وبان الإنسان موجود قادر على العلم وكلاهما‬ ‫عقيدة وليس علما استحال عليه أن يشرع في البحث العلمي‪ .‬ومن لم يجعلهما عقيدتين فهو‬ ‫على الأقل يجعلهما فرضيتين إن لم يسلمهما يكون السعي لطلب المعرفة عبثا‪ :‬إذا انعدم‬ ‫الموضوع والذات لا وجود لعلم ولا لـمعلوم‪.‬‬ ‫الديني في الأديان مشروط إذن بالنظر والعقد متصاحبين وبالعمل والشرع متصاعبين‪.‬‬ ‫وهما كما سنرى المشترك بين الديني والفلسفي‪ .‬وهما في آن جوهر النص القرآني‪ :‬فهو نص‬ ‫ديني وفلسفي في آن لأنه علاج نسقي للمعادلة الوجودية التي وصفت وكل أدلته تستند‬ ‫إلى بيان النظام في الوجود وليس خرقه‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪22‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وما قلناه عن العمل والشرع وعن النظر والعقد في الرؤية الدينية يقال مثله بل وأكثر‬ ‫منه عنهما في الرؤية الفلسفية مع قلب الترتيب بتقديم النظر والعقد على العمل والشرع‪.‬‬ ‫ذلك أن الكثير يتصور الديني والفلسفي متقابلين تقابل العقلي والنقلي موهمين أن‬ ‫الفلسفي عقل دون نقل والديني نقل دون عقل‪ .‬وهذا من التبسط الفلسفي والكلامي‬ ‫وخاصة عند مقلديهما‬ ‫لكن لو كان الفلسفي عقليا دون نقل لكان شكلا عديم المضمون بمعنى أنه يقتصر على‬ ‫علاقة الرموز التي يستعملها المنطق الصوري عامة وفي التحليلات الأوائل في المنطق القديم‬ ‫دون أن يكون له مضمون يستمده من الموضوع الذي يصاغ بتلك الرموز في الاستدلال الذي‬ ‫يعالج مادة معينة تملأ الخانات التي ترمز إلى مضمونها رموز المتغيرات‪ .‬وذلك هو المضمون‬ ‫الذي يعالجه المنطق المادي أو المطبق على مضمون معني عامة وفي التحليلات الأواخر في‬ ‫المنطق القديم خاصة‪.‬‬ ‫وهذا المضمون نقلي ضرورة لأنه جملة المعطيات المستمدة من ملاحظة الموضوع وهي ما‬ ‫نعوض به المتغيرات في الصورة المنطقية أو الرياضية التي تعبر عنه وذلك هو جوهر‬ ‫التجربة التي يحتاج إليها العقل ليعلم موضوعا معينا بأداة هي المنطق والرياضيات التي‬ ‫تصوغ قوانين ذلك الموضوع بصورة تؤيدها المعطيات التجريبية‪ .‬فيتبين أن العقل لا يعلم‬ ‫شيئا من دون مضمون نقلي‪.‬‬ ‫وقد يصدم ادعياء العقلانية من سذاجتهم إذا علموا أن العقل حتى في محاولته علم ذاته‬ ‫لا يمكن ألا يكون ذا مضمون نقلي‪ .‬فهو لا يتكلم على العقل كلاما لا يعتمد فيه على معطيات‬ ‫نقلية عن سلوك العقلي في عملية التعقل‪ .‬صحيح أن المنطق ليس نفسانيا وأنه معياري \"ما‬ ‫بين ذاتيا\"‪ :‬سلوك العقلاء‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪23‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وسلوك العقلاء هو القواعد التي تمكن من نقل المضمون المعرفي الإيجابي من المقدم إلى‬ ‫التالي في الاستدلال والعكس من التالي إلى المقدم أي نقل المضمون المعرفي السلبي لأن‬ ‫نقيض التالي ينتج نقيض المقدم‪ .‬وذلك يحكم الترجمة الرمزية شكلا للحقائق الفعلية‬ ‫مضمونا ومن ثم فالعقلي له وجه نقلي دائما‪.‬‬ ‫ولخرافة المقابلة نقل عقل وجه ثان يبالغ في الكلام عليه أنصاف المثقفين مدعين أن‬ ‫الدين لا عقلي لأنه نقلي‪ .‬وهذه كذبة كبرى‪ .‬فحتى لو سلمنا أن في الدين ما هو نقلي دون‬ ‫أن يكون ذا وجه عقلي مثل الإشارة إلى وجود الغيب دون علمه وهو من أسرار الأديان‬ ‫فإن ذلك ليس كل الدين وإلا لكان وهو قمة العقلي‪.‬‬ ‫فالفلسفة لم تصبح بحق عقلانية إلا عندما علم العقل حدوده ففهم أن ما يعلمه بالقياس‬ ‫إلى ما يجهله هو في نسبة المتناهي الأدنى إلى اللامتناهي الأعلى بمعنى أن ما نعلمه حتى‬ ‫مما هو ممكن العلم لا يساوي واحد من المليار منه لأن علمنا محدود في عالم الشهادة ناهيك‬ ‫عما يوحي به ماورائه الممكن‪.‬‬ ‫ودون الذهاب إلى المقابلة الكنطية بين ظاهر الشيء والشيء في ذاته فيكفي مفهوم‬ ‫الغزالي \"طور ما وراء العقل\" حتى نعلم أن جوهر العقل هو هذا الوعي بحدوده فلا يغتر‬ ‫بموقف الغافلين الذين يردون العالم إلى مداركهم فيقع في سخافات المتصوفة الذين يذهب‬ ‫بهم تضخم الذات إلى حد رؤية الله في جبتهم‪.‬‬ ‫ومثلما بينت أن أغرب شيء بالنسبة إلى العقلانيين هو أن العقل نفسه في معرفته لنفسه‬ ‫لا يخلو من النقلي بل هو في ذلك يمثل ذروة النقلـي لأن الوعي بالذات عاقلة هو قبل كل‬ ‫شيء تجربة مضمونية و\"عيش\" وجودي لفعل عودة الذات على ذاتها لتكون عالمة (عقل)‬ ‫ومعلومة (نقل)‪ :‬فعقل الذات لذاتها معرفة نقلية تعلم بها الذات ذاتها‪.‬‬ ‫وهي تجربة وجودية وليست استدلالا قياسا كما قد يظن في (أنا أشك إذن أنا‬ ‫موجود‪ )Dubito ergo sum‬التي اشتهرت بـ\"أنا افكر إذن أنا موجود‪\" Cogito ergo sum‬‬ ‫الديكارتية‪ .‬وهو شرح ذلك في ردوده على ناقديه رغم أنه استعمل علامة الاستنتاج لكأنه‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪24‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫أنا أفكر مقدمة وأنا موجود نتيجة‪ .‬لكن ذلك شكل ظاهر وديكارت يعترف بأنه تجربة‬ ‫وجودية هي عين الوعي بالذات‪.‬‬ ‫وأغرب من ذلك أن الوعي بحدود العقل أو الإيمان بالغيب هو ذروة العقل لأنه وعي‬ ‫العقل بذاته الذي هو تجربة نقلية ومعيشة هو أكثر ألغاز الوجود غيبية‪ .‬فلا يمكن عقلا‬ ‫تفسير معنى إني عاقل أو إني اعقل أو إني واع أو إني أعي كل ذلك حالات معيشية وتجارب‬ ‫وجودية لا تقبل التفسير ولا الشرح‪.‬‬ ‫ولا شيء يقتلني ضحكا أكثر من انتفاخ أوداج المتكلمين أو المتفلسفين إذ يزعمون‬ ‫المستحيل فيجعل الأولون جهلهم بجوهر الديني والثانون بجوهر الفلسفي الواحد والمتمثل‬ ‫في محاولات فهم هذين اللغزين علما محيطا يجعلهم يتعصبون لسذاجتهم فيتحولون إلى‬ ‫مشرعين للإنسانية بموقف الوصي على البشرية كلها‪.‬‬ ‫وهكذا فقد بينا أن أقصى ما هو ممكن للإنسان أيا كان علمه أو عقده لا يتجاوز ما حددته‬ ‫سورة العصر للاستثناء من الخسر‪:‬‬ ‫‪ .1‬فنحن نعي أن الإنسان يعيش حال الخسر إذا توهم الكمال في أي من مقوماته‬ ‫الخمسة إرادته وعلمه وقدرته وحياته ووجوده‪ .‬فكلها شديدة النسبية والزلل والغفلة‬ ‫عن برهان الرب‪.‬‬ ‫‪ .2‬ولا مخرج من هذا الخسر من دون فروع هذا الوعي المحررة منه بالشروط الخمسة‬ ‫التالية‪:‬‬ ‫• الإيمان ببرهان الرب‬ ‫• العمل الصالح بمقتضى هذا الإيمان‬ ‫• التواصي بالحق لأن الاهتداء في الاجتهاد النظري والعقدي عمل جماعي‪-‬إذ العلم‬ ‫معرفة ما بين ذاتية من حيث منهج الحصول عليها والتأكد من صحتها بمعايير متفق عليها‬ ‫بين جماعة العلماء‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪25‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫• التواصي بالصبر لأن الاهتداء في الجهاد العملي والشرعي جمل جماعي كعمل على‬ ‫علم وهو ما يبنى على تلك المعرفة المابين ذاتية‪.‬‬ ‫• ولا تفاضل في النظر والعقد ولا في العمل والشرع من دون هذين التواصيين‪ .‬فمن‬ ‫عمل بهما وكان مؤمنا حقا ببرهان الرب ويعمل صالحا أي بعدم الغفلة عنه يمكنه أن يكون‬ ‫أفضل من غيره بالتقوى وليس بشيء آخر لا بعرقة ولا بطبقته ولا بجنسه وذلك في الأعمال‬ ‫الإنسانية الجامعة المانعة‪.‬‬ ‫وحصر أعمال الإنسان حصرا جامعا مانعا بمستوييها في الأذهان وفي الأعيان وكلاهما‬ ‫يحصل في مستوى التصور كأحلام وفي مستوى الإنجاز كوقائع تاريخية وذلك هو مضمون سورة‬ ‫يوسف أمثولة رمزية في نصها القرآني لأن مضمونها في نصها التوراتي هو نقيض القرآني‪.‬‬ ‫فيوسف في القرآن مستشار صادق وهو في التوراة المحرفة مستشار غشاش نصح فرعون بخزن‬ ‫صابة السنوات السمان لاستعمالها في مقايضتها بأرض المصريين الذين صاروا بذلك عبيدا‬ ‫يخدمون أرضا لم تعد على ملكهم‪ .‬والأعمال التي تنجح عندما تكون على علم هي‪:‬‬ ‫‪ .1‬الحب‬ ‫‪ .2‬والاقتصاد‬ ‫‪ .3‬وتأويل الأحلام وتوقع المستقبل‬ ‫‪ .4‬والسياسة أو استراتيجية لتحقيق الأحلام بتنظيم حياة الجماعة‬ ‫‪ .5‬والدين أو برهان الرب‪.‬‬ ‫وكلها تقع في مستوى الاحلام والرؤى وفي مستوى الوقائع والتاريخ‪ .‬ولا يوجد غيرها من‬ ‫الغايات لأن كل ما عدها أدوات لتحقيقها ولخدمتها إما برؤية البرهان أو بالعمى عنه‪.‬‬ ‫وصاحب الخبرة الإستراتيجية في تنظيم حياة الجماعة ينقل الاحلام والرؤى إلى الوقائع‬ ‫والتاريخ وتلك مهمة السياسة إذا كانت مصحوبة ببرهان الرب وهو أخلاقها الفاضلة‪ .‬لكنها‬ ‫قد تكون محرومة بأخلاقها الراذلة‪ .‬والبشرية لا تنفك عنهما‪ .‬ومن يعتقد السياسة غنية‬ ‫عن برهان الرب مجرم ككل المافيات‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪26‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وأصح دليل أن النوع الثاني من السياسة يحتاج إلى التظاهر باكساء أفعاله كسوة الأخلاق‬ ‫نفاقا لأن النفاق من أدل الأشياء على جلال القيم لأنه لم يستطع الاستغناء حتى عن‬ ‫مظهرها تماما كما أن الكذاب يحتاج للتظاهر بالصدق‪ .‬فدين العجل لا يغنيه بعده‬ ‫المادي(الذهب)عن نفاق بعده الرمزي (الخوار)‪.‬‬ ‫ولا أعتقد أنه يوجد من يجهل أن كل نفاة دور برهان الرب في هذه الأفعال الخمسة هم‬ ‫أكبر المستعلمين لبعد العجل الرمزي (خوار الإيديولوجيا والإعلام المزيف والملاهي‬ ‫والمخدرات) من بعده المادي (الذهب الذي صنع منه وهو ذهب مسروع لأنه استعير ثم هرب‬ ‫خيانة لمؤتمن)‪ :‬كذلك تعامل مافياتنا شعوبنا‪.‬‬ ‫وطبعا لست بغافل عن كون الكثير من \"النخب\" \"القافزة\" (بالتونسي التي تدعي الذكاء‬ ‫الخارق) يضحكهم هذا الكلام لأنهم لا يؤمنون بغير دين العجل‪ .‬فالسياسة عندهم لا‬ ‫علاقة لها بالحب والاقتصاد والخبرة والسياسية بمرجعية برهان الرب بل المرجعية الوحيدة‬ ‫عندهم هي معدن العجل غاية وخواره أداة‪.‬‬ ‫فإذا عدت إلى يوسف القرآن فهمت أنهم عبيد لم يقبلوا تحرير موسى لهم من العبودية‬ ‫لفرعون فعادوا إلى دين العبودية‪ .‬فكل الساسة العرب ‪-‬ولا أتكلم على غيرهم رغم أنه‬ ‫قل أن يوجد سياسي في العالم خال مما اصف‪-‬عبيد للعجل التابع وليس للعجل المتبوع‪ :‬هم‬ ‫عبيد لعجل محلي تابع لعجل دولي بتوسط ذراعيه‪.‬‬ ‫وبعضهم تابع لمرحلة أخرى من دين العجل‪ :‬ولنأخذ مثالين من حكامنا‪ :‬توابع إيران التي‬ ‫هي بدورها تابعة مباشرة لبوتين وبصورة غير مباشرة لأمريكا التي تحتاج إليها قوة تجريف‬ ‫ضد من يخيفونها في الإقليم وتوابع إسرائيل لنفس الغاية‪ .‬لكن بعضهم توابع لهؤلاء الحكام‬ ‫وخاصة منذ ظهور الثورة المضادة‪.‬‬ ‫والنخب التي تطبل لنوعي الانظمة وحتى للنوع الثالث التابع لها هي عبيد في من الدرجة‬ ‫الرابعة الأدنى‪ .‬يعني المطبلون لصاحب المنشار الذي يطبل لإسرائيل التي تطبل نخبها‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪27‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لأمريكا يجعل معدن العجل (المال المستعمل لشراء الذمم) يتدثر بخوار العجل‬ ‫(الإيديولوجيا التي تغطي عن المحرك الأساسي)‪.‬‬ ‫وهذه السياسة تحتاج إلى أحلام زائفة وإلى منجزات أكثر زيفا وإلى حب واقتصاد وخبرة‬ ‫وسياسة ودين كلها تتكلم باسم الإنسان وهي في الحقيقة تسعى إلى استعباده واضطهاده من‬ ‫أجل أهداف فاقدة لكل معنى لأن الذهب والخوار أو بعدي العجل لا يجعلان للحياة معنى‬ ‫أكثر من الإخلاد إلى الأرض‪.‬‬ ‫وهي حياة تنقلب فيها العلاقة بين الغاية والأداة‪ .‬فالمال أو رمز الفعل والكلمة أو فعل‬ ‫الرمز أداتان لما يرمزان إليه‪ .‬الأول يرمز إلى وسيلة التعاوض في التبادل والثاني يرمز‬ ‫إلى وسيلة التفاهم في التواصل‪ .‬لكن التبادل أداة التخاون لا التعاون والتواصل صار‬ ‫التخادع لا التفاهم‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪28‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫انتهينا في الفصول السابقة إلى تحديد مشكلتين شائكتين في بحثنا‪:‬‬ ‫‪ .1‬لماذا أحصيت المفهومات من السياسة وأثر المعرفة والقيمة فيها بسبب دين العجل‬ ‫إلى رؤية الدين في الأكسيولوجيا والأبتسمولوجيا وبينهما من الاقتصاد وأثر المعرفة‬ ‫والقيمة فيه بسبب دين العجل إلى الرؤية الفلسفية في الابستمولوجيا والأكسيولوجيا؟‬ ‫‪ .2‬لماذا كان العلاج في الفصول السابقة بعكس ذلك أي من الدين في العمل والنظر‬ ‫إلى السياسة وأثر دين العجل فيهما ومن الفلسفة في النظر والعقد إلى الاقتصاد ولم أتكلم‬ ‫على الثقافة التي صارت في هذه الحالة قلب المعادلة المخمسة والتي كل الإشكال فيها شبهته‬ ‫ببيئة الأصل في أول لقاء للجنسين‪ :‬أي رحم المرأة‪.‬‬ ‫فالبيئة الأصل هي رحم المرأة الذي يحدد اللقاء بين الحيوان المنوي والبويضة إيجابا أو‬ ‫سلبا مثمرا لأفضل إثمار أو لأسوئه بحسب ما يحصل من تلاؤم مع اللقاء المثمر‪ .‬فالثقافة هي‬ ‫هذا الوسط الروحي الشامل للمفهومات الأربعة الأخرى وهو الذي يحدد قيم الأشياء كلها‬ ‫فيجعل السياسي والديني والاقتصادي والفلسفي تابعا أو متحررا من دين العجل‪.‬‬ ‫وهذا الوسط الثقافي هو الذي سيطر عليه منطق الجدل الصراعي بالمعنى الهيجلي أو‬ ‫الماركسي وهو المنطق الذي يحصر الوجود الإنساني في التاريخي أي الدنيوي سواء فسر‬ ‫بصراع أرواح الشعوب أو بصراع طبقاتها فيحد آفاق الإنسان في فضاء ضيق يجعل الوجود‬ ‫محكوما ببعدي دين العجل‪ :‬معدنه وخواره‪.‬‬ ‫وبعدا دين العجل يحرفان الدين والفلسفة وهذا التحريف هو الذي يحدد الثقافي من‬ ‫حيث هو الوسط الذي وصفت‪ .‬وحتى أشرح ذلك وضعت‪:‬‬ ‫مفهومين فلسفيين يفسران التحريف الفلسفي الموصل إلى بعدي العجل‬ ‫ومفهومين دينيين يفسران التحريف الديني الموصل إلى دين العجل‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪29‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫والمفهومات الأولان يحكمان عصرنا الحديث وما بعده والمفهومان الأخيران يحكمان العصر‬ ‫الوسيط وما قبله‪ .‬فبعدا العجل تحريف للرمزين الأكثر كلية والشارطين للعمل والنظر في‬ ‫الجماعات البشرية‪:‬‬ ‫‪ .1‬الأول هو \"رمز الفعل\" أو \"العملة\" وهي شرط التبادل وي‪1‬نحرف بمجرد أن‬ ‫يتجاوز دوره الأداتي في التبادل فيتحول إلى سلطان على المتبادلين وذلك هو سلطان المال‬ ‫على البشر بديلا من سلطانهم عليه‪ .‬وذلك هو الذهب أو معدن العجل‪.‬‬ ‫‪ .2‬والثاني هو \"فعل الرمز\" أو \"الكلمة\" وهو شرط التواصل وينحرف بمجرد أن‬ ‫يتجاوز دوره الأداتي في التواصل فيتحول إلى سلطان على المتواصلين وذلك هو سلطان‬ ‫الخداع العقدي على البشر بديلا من سلطانهم عليها‪ .‬وذلك هو خوار العجل‪.‬‬ ‫ولنقل إن تحريفا مضاعفا لدور العملة أداة تبادل ولدور الكلمة أداة تواصل هما بعدا‬ ‫دين العجل الذي يمثل البنية العميقة لنوعي السياسة في التربية والحكم إذ ينحرفان عن‬ ‫وظيفتهما‪:‬‬ ‫‪ .1‬التحريف الحالي في عصرنا الحديث وما بعده هو تحريف الفكر الفلسفي ومنه‬ ‫تنتج السياسة التي تدعي الحكم باسم الإنسان \"انثروبوقراطيا\"‪.‬‬ ‫‪ .2‬والتحريف الذي يدعي هذا التحريف الفلسفي الثورة عليه هو تحريف العصر‬ ‫الوسيط وما قبله وهو تحريف الفكر الديني ومنه تنتج السياسة التي تدعي الحكم باسم‬ ‫الله \"ثيوقراطيا‪\".‬‬ ‫والبنية التحريفين واحدة‪ :‬حكم العجل \"أبيسيوقراطيا\"‪ .‬وهذه البنية العميقة الواحدة‬ ‫التي حكمت تحريف الفلسفة التي تدعي تأسيس الحكم باسم الإنسان وتحريف الدين الذي‬ ‫يدعي الحكم باسم الله لم أكتشفها أنا بل اكتفيت بصوغهما لأن الذي حددها هو القرآن‬ ‫الكريم في قصة العجل وفي كلامه على الثيوقراطيا خاصة في آل عمران‪ .‬وما كنت لأصوغها‬ ‫لو لم أرجعها بالتحليل الفلسفي إلى النظر والعقد معرفيا وإلى العمل والشرع قيميا‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪30‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فحكم العجل هو البنية العميقة للثيوقراطيا (ثيوقراطية الملالي والكنائس ورمزها‬ ‫الكاثوليكية سباقة والصفوية حاليا) وللانثروبوقراطيا (ديموقراطية الحاخامات والبنوك‬ ‫ورمزها المرابين سابقا والصهيونية حاليا) وكلتاهما مسماها ضديد معنى اسمها إنها لا تؤمن‬ ‫إلى بسلطان المال والخداع للاستعباد‪.‬‬ ‫وما يسميه القرآن منهج التصديق والهيمنة في عرضه النقدي لتاريخ البشرية يرجع‬ ‫التحريف إلى جعل أداة التبادل سلطانا على المتبادلين (تحريف دور العملة أو رمز الفعل)‬ ‫واداة التواصل سلطانا على المتواصلين (تحريف دور الكلمة أو فعل الرمز)‪ :‬والأول يرمز‬ ‫إليه الربا والثاني القول المخادع‪.‬‬ ‫والربا معلوم ولا يحتاج لبيانه دلالته في القرآن‪ .‬لكن القول المخادع هو في الدين النفاق‬ ‫وهو بصورة عامة عدم مطابقة الفعل للقول ويذهب القرآن إلى حد تطبيق ذلك حتى‬ ‫لتحديد معايير الشاعرية أعني صدق التعبير الذي ليس له من علامة أفضل من المطابقة‬ ‫بين القول والفعل‪ .‬وهما علامتا الشرك‪.‬‬ ‫ماذا أعني بكونهما علامتي الشرك؟ إنهما وجها الطاغوت الذي يعتبر القرآن الكفر به‬ ‫شرطا في الإيمان بالله وما يعني أنهما وجها الشرك‪ .‬فالربا تحويل للعملة إلى سلطان على‬ ‫المتبادلين‪ .‬وهو الطاغوت المادي‪ .‬والخداع تحويل للكملة إلى سلطان على المتواصلين وهو‬ ‫الطاغوت الروحي‪.‬‬ ‫والطاغوت المادي يؤسس لسلطان الأوصياء‪ .‬والطاغوت الروحي يؤسس لسلطان‬ ‫الوسطاء‪ .‬والأول يتحول إلى حكم بالحق الإلهي (قوة رمزية) أو بالحق الطبيعي (سلطة‬ ‫مادية) والثاني يتحول إلى تربية بالحق الإلهي (قوة رمزية الكنسية) أو بالحق الطبيعي‬ ‫(سلطة مادية البنك)‪ :‬شرك مغن عن الله الحق‪.‬‬ ‫ولذلك اعتبرت آية حرية المعتقد أو عدم الإكراه في الدين مشروطة بتبين الرشد من‬ ‫الغي واعتبرت علامته شرطا في الإيمان الحق الناتج عن التبين‪ :‬الكفر بالطاغوت شرطا‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪31‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫للإيمان بالله والاستمساك بالعروة الوثقى‪ .‬ومعنى ذلك أن ما دونه استمساك بما يصفه‬ ‫الإخلاد إلى الأرض وصاحبه ليس أهلا للاستخلاف‪.‬‬ ‫ولما كان تعريف الإنسان القرآني كما صاغه منه ابن خلدون هو \"رئيس بطبعه بمقتضى‬ ‫الاستخلاف الذي خلق له\" فمن كان هذا وضعه لم يرتق إلى ما في فطرته من مقومات‬ ‫إنسانيته أي‪ :‬حرية الإرادة وصدق العلم وخير القدرة وجمال الحياة وجلال الوجود وهو‬ ‫إذن مخلد إلى الأرض كما يصفه القرآن‪.‬‬ ‫فماذا يصف القرآن من المخلد إلى الارض بصرف النظر عن المشبه به‪ :‬المهم هو وجه‬ ‫الشبه وهو اللهيث‪ .‬فما الذي يلهث من أجله من تحولت العملة عنده من أداة تبادل إلى‬ ‫سلطان على المتبادلين؟ ومن تحولت عنده الكلمة من أداة تواصل إلى سلطان على‬ ‫المتواصلين؟ هل يعتبر مؤمنا بالله أو بالإنسان؟‬ ‫فالله خدعة في الثيوقراطيا والإنسان خدعة في الانثروبوقرطيا وصاحبهما لا يؤمن إلا‬ ‫بالأبيسيوقراطيا التي تجعل غاية الحياة تحويل أداة التبادل إلى سلطان على المتبادلين‬ ‫وأداة التواصل إلى سلطان على المتواصلين ومن ثم فهو مرابي ماديا ومخادع روحيا؟ وهذا‬ ‫هو \"فساد معاني الإنسانية\"‪.‬‬ ‫بيان هذين الحقيقتين هو جوهر الرسالة المحمدية‪ .‬والقرآن هو المضمون الذي يبشر‬ ‫بالعمل به وينذر من تحريف الديني والفلسفي الذي هو نفس المضمون‪ .‬وهنا لا بد من‬ ‫بيان أفدح خطأ وقع فيه الفكر الديني في الملة‪ .‬فلا يوجد في القرآن علم يتجاوز عالم‬ ‫الشهادة لأن الإخبار بوجود الغيب ليس علما بالغيب إلا عند من ينسى ليس كمثله شيء في‬ ‫كلام القرآن على الله ذاته وصفاته ومن ينسى لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على‬ ‫بال بشر في كلام الرسول على البعث‪.‬‬ ‫أسلوب القرآن التشبيهي ‪-‬وهو كله تشبيهي‪-‬أماثيل فهومها بعدد النفوس والواحد فيها‬ ‫أنها تمثل ما يشبه نقطة الالتقاء المنظور الرسمي في الغاية اللامتناهية عند الرسام ‪Point‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪32‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ de fuite‬بحيث إن كل قارئ للقرآن يرسم عالما من المعاني توحي بها لغته التشبيهية المصحوبة‬ ‫بليس كمثله شيء‪.‬‬ ‫ومن ثم فهو جوهر البؤرة المشعة بالمعاني التي يتقوم بها العالم الروحي الذي يوحد‬ ‫جماعة برسم متماثل يصدر عن القرآن في اعالم روحي محدوس صدور أشعة الشمس في‬ ‫العالم الطبيعي المحسوس‪ :‬وذلك فهو يشبه نفسه بالنور المطلق الذي يشع في بصيرة الروح‬ ‫كما يشع نور الشمس في بصر العين‪ .‬وليست هذه تأويلات لأنها إيحاءات قرآنية بالعالم‬ ‫الروحي وليس حصرا لها في دلالات مرجعية كما يكون الأمر في التأويل الذي درج عليه‬ ‫المتكلمون والفلاسفة في النظر والفقهاء والمتصوفة في العمل وإليه ترد كل تفاسيرهما‬ ‫للقرآن لأنه يغفون عن حرز ليس كمثله شيء‪ :‬فلا شيء من عالم المتناهيات الحسية يشبه‬ ‫عالم اللامتناهيات المثالية في عالم الروح‪.‬‬ ‫وهذا العالم الذي لا يمكن تصور وحدة جماعة من دونه هو في آن عين كيان الفرد‬ ‫الإنساني وهو القلب من المعادلة الوجودية التي هي في آن عين بنية القرآن وبنية كيان‬ ‫الإنسان من حيث هو مستخلف‪ .‬فقد وضعت في \"الله‪-‬الإنسان\" في قلبها علاقة مباشرة بينهما‬ ‫لا تنفصم بحيث إنها ليست مؤلفة من ذاتين قابلتين للفصل بل هما متلازمتان دون امتزاج‪.‬‬ ‫لكن الإنسان في هذا القلب يشعر بأن بينه وبين الله يتدخل فاصل أول هو الطبيعة فيضع‬ ‫وراءها ألله ويشعر بأن بينه وبين الله يتدخل فاصل ثان هو التاريخ فيضع وراءه الإنسان‪.‬‬ ‫ولما تزول علاقته بالله المباشرة التي هي تلازم الذاتين في القلب يزول ما وراء الطبيعة‬ ‫فيؤلهها ويزول ما وراء التاريخ فيؤلهه‪.‬‬ ‫ولذلك يوجد نوعان من الإلحاد الذي هو كذب على الذات لأن الذات الثانية لا تلغى بل‬ ‫تجد مع في الوسيطين‪:‬‬ ‫‪ .1‬تأليه الطبيعة‬ ‫‪ .2‬وتأليف التاريخ‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪33‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وهما نوعا وحدة الوجود الأولى عرفت بالسبينوزية أو وحدة الوجود الطبعانية والثانية‬ ‫عرفت بالهيجلية أو وجدة الوجود التاريخانية‪ .‬والماركسية تراوح بينهما وهو معنى المادية‬ ‫الجدلية‪ .‬أصناف التصوف القائل بوحدة الوجود له نظائر منها ثلاثتها‪.‬‬ ‫لا وجود لعلم بالغيب لا في القرآن ولا في السنة‪ .‬ما يوجد هو مبدأ ابتسمولوجي ثوري‬ ‫غابت دلالته عند الخالطين بين الإعلام بوجود الغيب أو بحدود علم الإنسان وتوهم علمه‪.‬‬ ‫إعلامنا بحدود علمنا وعملنا وضع لمفهوم حد يسمى الغيب‪ .‬لكن هل لنا علم بالغيب لمجرد‬ ‫علمنا بوجوده إذا فهمنا أنه مفهوم حد وليس معرفة؟ ينسى المتوهمون بأن القرآن والسنة‬ ‫فيهما علم بالغيب أن الإعلام به كان دائما مصحوبا بالتنبيه إلى أنه محجوب حتى على‬ ‫الرسل‪.‬‬ ‫ومن ثم فكل القائلين بأن لهم علما بالغيب مكذبون للقرآن وللرسول‪ .‬ولذلك فالثيوقرطيا‬ ‫التي تنبني على القول بوجود من له علم بالغيب ليست إلا تحريفا للديني من أجل التغطية‬ ‫على بعدي دين العجل‪ :‬لذلك فالكنسية سواء كانت كاثوليكية أو شيعية ليست في الحقيقة‬ ‫إلا خرافة توهم العامة بأن رجال الدين لهم علم بالغيب ويتصرفون فيه وفي الوجود‪ .‬لكنهم‬ ‫في الحقيقة مؤلهون للمال والخداع لا غير ومن ثم فهم بالجوهر خدم القوة الحاضرة‬ ‫باستخدام القوة الغائبة بدعوى علمهم بالغيب‪.‬‬ ‫ومثلها الانثروبوقراطيا التي تنبني على وجود من له أخلاق احترام الإنسان لكنها ليست‬ ‫إلى تحريف الفلسفي من أجل التغطية على بعدي دين العجل‪ .‬لذلك فالمثال الأوضح هو‬ ‫الصهيونية في إسرائيل والمسيحية الصهيونية في أمريكا وهما يمثلان سلطان المافيات‬ ‫الابتزازية بالمال القذر والخداع الإعلامي‪ .‬وحذار من الظن أني أدعي أحد أمرين أو‬ ‫كليهما‪:‬‬ ‫‪ .1‬قلا أدعي أن الإسلام في قراءته السنية بريء من هذين التحريفين إذ لو صح‬ ‫ذلك لما كانت علوم الملة كما بينت عقيمة كلها لأنها تركت فصلت ‪ 53‬فقلبت أمرها وأدمنت‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪34‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫آل عمران ‪ 7‬فقلبت نهيها‪ .‬وما كانت لتفعل لو لم يكن الهدف تأسيس سلطة روحية في التربية‬ ‫تتوسط بين الإنسان وربه وسلطة وصية في الحكم تتوسط بين الإنسان وأمره‪.‬‬ ‫‪ .2‬ولا أدعي أن لي حلا لتحقيق المثال الأعلى الذي يحدده القرآن والسنة لجعل رمز‬ ‫الفعل أو العملة تبقى أداة تبادل لا غير وأداة فعل الرمز أو الكلمة تبقى أداة تواصل لا‬ ‫غير‪ .‬وهذا يعني أن المطلوب ثورة كونية في العالم كله الذي وصل إلى مرحلة تثبت صحة‬ ‫المنظور القرآني‪ :‬ضرورة التحرر من سلطان العجل الذي هو قانون العولمة بسلطان البنك‬ ‫والملاهي‪.‬‬ ‫ومعنى ذلك أن معرفة ثورة الإسلام ليست كافية لمعرفة شروط تحقيقها‪ .‬ولست ساذجا‬ ‫حتى أصدق أن عهد الراشدين يمثلها حقا فيكون أمره الواقع عين المثال الأعلى القرآني‪.‬‬ ‫قد يكون أقرب إليها مما حدث بعده‪ .‬لكنه لا يمثلها فعلا‪ .‬فقد كانت محاولة لتطبيق الشورى‬ ‫‪ .38‬لكنها كانت محاولة ساذجة لأنها غير مسبوقة بصوغ نظري يجمع شتات مقوماتها التي‬ ‫صيغت خلال ‪ 23‬سنة‪ .‬ولذلك فهي لم تتحول إلى مؤسسات ذاتية التعديل كما كان ينبغي‬ ‫أن يحصل‪ .‬بقيت جنينية‪.‬‬ ‫ذلك أننا لو قلنا إن العهد الراشدي كان مطابقا للمثل العليا التي وضعها القرآن‬ ‫لاضطررنا لأمرين لا يمكن أن يقبل بهما أي عاقل مؤمن بتعالي المثال على الواقع دائما‪.‬‬ ‫فلو كان ما حدث في الصدر هو عن المثال القرآني الأعلى لكان ذلك يعني أحد أمرين لا‬ ‫يرضاهما من يؤمن بالإسلام‪:‬‬ ‫فللصدر نقائص ولا يمكن أن تكون من القرآن وكل من يذهب إلى اعتبار الوفاء إلى‬ ‫الإسلام يكفي فيه تقليد الصدر ليس وفيا إلى ما يمكن أن يترتب على التقدم في فهم رسالة‬ ‫القرآن‪.‬‬ ‫وإذا فعل كان مسفها للإيمان بأن القرآن صالح لكل مكان وزمان‪ .‬لا يمكن أن يصلح لكل‬ ‫زمان ومكان ما يقبل التجميد في إحدى لحظات تاريخ فهومه التي تستمد منه يثبت هذه‬ ‫الصلوحية‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪35‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وإذا فهمنا هذين النتيجتين تمكنا من تحقيق شروط الاستئناف ليس بمحاكاة الماضي بل‬ ‫بإبداع المستقبل من خلال فهم دلالة الأبعاد الخمسة للزمان التاريخي‪.‬‬ ‫فللماضي بعدان في كل تاريخ إنساني‪:‬‬ ‫‪ .1‬ورثنا أحداثه الفعلية بكل أبعاد الأحداث العمرانية والاجتماعية في الجماعة‬ ‫المؤسسة وفي كل ما تعلق بها داخليا وخارجيا في عصرها‪.‬‬ ‫‪ .2‬وورثنا أحاديث تأويلاتها من منظور تلك الجماعة ومن منظور الجماعات السابقة‬ ‫والمساوقة والموالية من خلال صلاتها بها سلميها وحربيها‪.‬‬ ‫وللمستقبل بعدان في كل تاريخ إنساني كذلك وهي دائما مثل الماضي ولكن بترتيب‬ ‫معكوس‪:‬‬ ‫‪ .3‬فنحن نبدع أحاديث تتوقع ما سيحدث أو تخطط له بنفس المنظورين إلى الماضي‬ ‫والمستقبل فيها وفي من حولها السابقة والمساوقة والموالية من الجماعات المحيطة بها والتي‬ ‫لها معها رهانات متكاملة أو متمانعة‪.‬‬ ‫‪ .4‬أحداث تجري في ضوء ما تم توقعه وما خطط له مطابقة أو غير مطابقة لما جاء‬ ‫في الأحاديث التي توقعتها أو خططت لها وحينها نجد وجه شبه بين الماضي والمستقبل لأن‬ ‫التوقع الاستقبالي الحالي يذكر التوقع الاستقبالي الماضي‪.‬‬ ‫وحينئذ نقف أمام لحظة الحاضر التي هي ليست ما بين الماضي والمستقبل محوطة بهما بل‬ ‫هي التي تحيط بهما باعتبارها هذا الامتداد في الزمان والمكان للجماعة التي لا تتضمن‬ ‫الأحياء في الحاضر بل كل من كان من الماضي ومن سيكون من المستقبل ممثلا لحياة الجماعة‬ ‫أعني أصناف فاعلياتها الخمسة‪ :‬أي إرادتها السياسية ومعرفتها العلمية وقدرتها المادية‬ ‫وحياتها الجمالية ورؤيتها الوجودية‪.‬‬ ‫ومن تغيب عن باله هذه الأبعاد لا يمكن أن يفهم دلالة القول إن القرآن صالح لكل مكان‬ ‫وزمان‪ .‬فهو المعين الذي لا ينضب والذي بسبب خاصيته هذه بينت الفرق بين الدلالة‬ ‫والمعنى‪ .‬فالدلالة إحالة رمز لمرموز معين حصرا فيه‪ .‬والمعنى إحالة شبيهة بالخانات الخالية‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪36‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫التي تمثلها المتغيرات في المنطق الرياضي‪ .‬وهي فضاء مفتوح على الدلالات المتوالية ومن‬ ‫ثم فهو أفق مطلق الانفتاح على الممكن اللامتناهي للتاريخ‪.‬‬ ‫وهذه المعاني هي المحركة للتاريخ بمعنيي التأويل اللذين تراوح بينهما علاقتنا بالمرجع‬ ‫المطلق الذي هو ما بين النص المؤسس للمبدأ اللاحم للجماعة والوجود الفعلي للجماعة‪:‬‬ ‫‪ .1‬التأويل الذي يعبر عن الأحداث فينقلها من الاعيان إلى الأذهان ليتجاوز العيني‬ ‫فيها إلى الكلي‪ .‬وبه نفهم مشروعات ماضينا‪.‬‬ ‫‪ .2‬والتحقيق الذي يعبر عن الأحاديث فينقلها من الأذهان إلى الأعيان ليتجاوز‬ ‫الكلي إلى العيني‪ .‬وبه نحقق مشروعات مستقبلنا‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪37‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ما الذي يعاب على هيجل وماركس الذي لم يضف إليه شيئا من حيث الرؤية الوجودية‬ ‫التي تتمثل في أمرين هما من صنع هيجل‪:‬‬ ‫• الأمر الأول‪:‬‬ ‫التخلص من المفهوم الحد الذي توصل إليه كنط أو عدم حصر الوجود في ما نعلم منه‬ ‫والذي سبقت إليه المدرسة النقدية العربية وهو ترجمة فلسفية للمفهوم الحد الديني أو‬ ‫الغيب‪ .‬وقد أجاد كنط في تعريف المفهوم الحد بكونه \"ما نفكر فيه ولا نعلمه\" أي إننا نعلم‬ ‫أنه موجود ولا نعلم شيئا عن كيف وجوده ولا عن مضمونه والقرآن يصفه بـ\"ليس كمثله‬ ‫شيء\" أي إننا لا نستطيع قيسه على أي شيء مما يمكن أن نعلمه‪ .‬لكننا نعلم أنه موجود‪.‬‬ ‫وهذا يصح على المثل العليا في أصناف القيم كلها‪.‬‬ ‫فنحن نعلم أن الإرادة ينبغي أن تكون حرة والعلم صادقا والقدرة خيرة والحياة جميلة‬ ‫والوجود جليلا‪ .‬والحرية والصدق والخير والجمال والجلال كلها مثل عليا لنا منها نصيب‬ ‫دون أن نعلم حقيقتها المطلقة التي نعتبرها عين حقيقة الله بوصفه جوهرالمثال الأعلى‬ ‫الموجود فعلا إذ ما عداه يستمد منه معناه‪.‬‬ ‫• الأمر الثاني‪:‬‬ ‫إعلان هيجل عما يتربت على الأمر الأول بالقول إنه لا يوجد ما هناك ‪ Jenseit‬وراء‬ ‫ماهنا ‪ Disseit‬إذ في ذلك تضييق للوجود إلى المشهود وما يتعالى على الطبيعة والتاريخ وهم‬ ‫فيصبح الإنسان رهين المحبسين‪:‬‬ ‫‪ .1‬أحيازه الذاتية (بدنه وما فيه من زاد قيامه العضوي وروحه وما فيها من زادي‬ ‫قيامه الروح وفرديته‪.‬‬ ‫‪ .2‬أحياز عالمه الطبيعي والتاريخي أي الجغرافيا وثمرتها والتاريخ وثمرته والمرجعية‬ ‫الحضارية التي ينتسب إليها أو ما يسميه هيجل روح الشعب مع خرافة التفاضل بين الأرواح‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪38‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الشعبية بمنطق التطور في التاريخ الطبيعي للأحياء‪ .‬واكتفي ماركس بجعل المحرك في ذلك‬ ‫بعدا العجل‪ :‬الاقتصاد والاعتقاد‪.‬‬ ‫والأمر الموحد بين الرؤيتين في علاقة الديني بالفلسفي هو رؤية فيورباخ الذي يتصور‬ ‫أن \"إبداع\" الإنسان لصورته عن الله ليس إلا اسقاطا لإبداع الإنسان لما يستكمل به نقائص‬ ‫صورته بإطلاقها خلطا منه بين إبداع الصورة وأبداع ما تصوره‪ .‬فصحيح أن الإنسان لا‬ ‫يعلم حقيقة الله لكنه يصنع منها صورة‪.‬‬ ‫وسواء قدمنا الاعتقاد على الاقتصاد (هيجل) أو الاقتصاد على الاعتقاد (ماركس) فإن‬ ‫المشكل يبقى واحدا وهو حقيقة هذه \"الثقافة\" التي تنتج عن دغمائية النظر والعقد‬ ‫معرفيا بدعوى التحرر من المفهوم الحد ابستمولوجيا لتحرير النظر والعقد من الدغمائية‬ ‫وأكسيولوجيا لتحرير العمل والشرع من الدغمائية‪.‬‬ ‫تحرير النظر والعقد من الدغمائية يجعلهما اجتهادا وتحرير العمل والشرع من‬ ‫الدغمائية يجعلهما جهادا‪ .‬والأول تواص بالحق وهو إذن تواصل معرفي والثاني تواص‬ ‫بالصبر وهو إذن تواصل قيمي‪ .‬ولا يتواصى الناس بالحق في النظر والعقد وبالصبر في‬ ‫العمل والشرع من دون إيمان وعمل صالح‪.‬‬ ‫والإيمان كما بينا مشروط بالكفر بالطاغوتين الروحي (تحرر من الوساطة) والمادي‬ ‫(تحرر من الوصاية) والعمل الصالح كما بينا مشروط بالموجب من القيم الخمس أي حرية‬ ‫الإرادة وصدق العلم وخير القدرة وجمال الحياة وجلال الوجود وهي ما يسميه ابن خلدون‬ ‫معاني الإنسان رئاسة بالطبع وبمقتضى الاستخلاف‪.‬‬ ‫والسؤال الآن مضاعف‪ :‬هل إذا حررنا الاجتهاد أي النظر والعقد من الوساطة في التربية‬ ‫يكون الإنسان \"رئيسا بطبعه وبمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\" فلا تبقى أداة التواصل‬ ‫(الكلمة أو فعل الرمز) ذا سلطان على المتواصلين لأنه يتحرر من الخداع فلا يكون القول‬ ‫والفعل متضادين فيزول الخداع؟‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪39‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وهل إذ حررنا الجهاد أي العمل والشرع من الوصاية في الحكم يكون الإنسان \"رئيسا‬ ‫بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\" فلا تبقى أداة التبادل (العملة أو رمز الفعل)‬ ‫ذا سلطان على المتبادلين لأنه يتحرر من الربا فلا يكون التبادل والتعاوض متضادين فيزول‬ ‫الاستغلال؟‬ ‫بعبارة أخرى هل تحريف الدين والكلمة وتحريف الفلسفة والعملة كلاهما ينتجان عن‬ ‫الوساطة الروحية والوصاية السياسية في الجماعات البشرية فيكون التحرير بإلغائهما وجعل‬ ‫النظر والعقد اجتهاديين والعمل والشرع جهاديين وكلاهما فرض عين وليس فرض كفاية‬ ‫ليكون لإنسان سلطان على إنسان؟‬ ‫هل هذا ما كان يقصده رسول الفتح لما خاطب قائد الجيش الفارسي ردا عن سؤاله لماذا‬ ‫جئتم إلينا قائلا‪\" :‬جئنا لنحرركم من عبادة العباد بعبادة رب العباد\"؟‬ ‫هل كان حقا مدركا لطبيعة التحريفين التي تؤدي إلى عبادة عبد لعبد بالوساطة الروحية‬ ‫والوصاية السياسية؟‬ ‫وما البديل من الاستعبادين؟‬ ‫لو لم تصل الانثروبوقراطيا إلى نفس المآزق التي أنهت الثيوقراطيا لكان سؤالي عديم‬ ‫المعنى‪ :‬لم يعد أحد يصدق أن الديموقراطيا الغربية الحالية تختلف في حقيقتها عما هي في‬ ‫واقعها الذي مثاله الأعلى هو ما نراه من دور للمال والاعلام المزيف للوعي في أمريكا‪.‬‬ ‫فالانثروبوقراطيا أو ما يسمى بالديموقراطية وصل إلى نفس الطريق المسدودة أي‬ ‫تبينت حقيقتها بكونها في العمق أبيسيوقراطيا (دين العجل) يحكمها تحريف أداة التبادل‬ ‫وأداة التواصل وتحولهما إلى سلطان مطلق‪ :‬وليس مستبعدا أن تصبح ثورة الشعوب التي‬ ‫تعتبر متخلفة بداية لثورة عالمية يتغير فيها نظام الحكم في العالم ليصبح قريبا من المثال‬ ‫الأعلى القرآني‪.‬‬ ‫والمعلوم أن جميع البشر ابتعدوا عن القيم التي وضعها القرآن بمن فيهم المسلمون عامة‬ ‫والعرب خاصة‪ .‬فهم أقل المسلمين ولاء للإسلام وقربا من قيمه حتى وإن تظاهروا بالإكثار‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪40‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫من العبادات وحمي السبح والكلام الفارغ عن القيم مع العمل بعكسها تماما أعني ما يمقته‬ ‫الله أشد مقت‪.‬‬ ‫ومثلما تبين أن الثيوقراطيا غطاء يخفي الأبيسيوقراطيا (وهو ما بينه التاريخ وصاغته‬ ‫آل عمران علة للتحريف الديني حلفا بين وسطاء التربية واوصياء الحكم) تبين أن‬ ‫الأنثروبوقراطيا غطاء يخفي نفس الأبيسيوقراطيا) وهو ما بينه التاريخ علة للتحريف‬ ‫الفلسفي حلفا بين الوسطاء والأوصياء)‪.‬‬ ‫وهذه البنية العميقة للثيوقراطيا (الحكم باسم الله) وللانثروبوقراطيا (الحكم باسم‬ ‫الإنسان) هي الأبيسيوقراطيا (الحكم باسم العجل) وهي تحريف دور العملة ودور الكلمة‬ ‫أي دور الرمزيين الاكثر كلية واللذين يرد إليهما أحوال التبادل (شروط الحياة المادية‬ ‫وقيمه) وأحوال التواصل (شروط الحياة الروحية وقميها) في المجتمعات البشرية منذ بدء‬ ‫الخليقة‪.‬‬ ‫إلى حد الآن يعسر أن تجد من يناقش في كون ذلك هو معنى التحريف في القرآن وكون‬ ‫القرآن مشروع إصلاح لهذا التحريف‪ .‬لكن الإشكال يبدأ عندما نبحث عن البديل من هذه‬ ‫الأمر الواقع في بعدي السياسة أي في التربية والحكم بوصفهما شرطي قيام الجماعات نظاما‬ ‫وتجديدا لبقاء الفرد والجماعة‪.‬‬ ‫هل العلم بهذين التحريفين والتحذير منهما كافيان لتحرير الإنسان منهما وقوعا يكاد‬ ‫يكون شبه أمر حتمي بسبب قوة التأثير التي لبعدي العجل‪:‬‬ ‫‪ .1‬فتأثير تحريف العملة من أداة تبادل إلى سلطان على المتبادلي‬ ‫‪ .2‬وتأثير تحريف الكلمة من أداة تواصل إلى سلطان على المتواصلين يبدوان غير‬ ‫قابلين للمقاومة‪.‬‬ ‫وهنا يأتي الحل الخلدوني‪ :‬التأثيران لا ينتجان عن قوة بعدي العجل ‪-‬معدنه وخواره‪-‬‬ ‫بل عن علل افساد معاني الإنسانية في بعدي السياسة أي في التربية والحكم‪ .‬وهذا هو‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪41‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫مدلول البيئة الثقافية التي هي أشبه برحم المرأة في الظاهرة الحية التي تتحقق بلقاء‬ ‫الجنسين الأصلي أي الحيوان المنوي والبويضة‪.‬‬ ‫ولهذا كان أفلاطون يعتبر أم المسائل في فلسفته السياسية هي تنظيم النسل وذهب إلى‬ ‫حد سياسية الانتخاب ليس الطبيعي بل السياسي بمعنيين‪:‬‬ ‫‪ .1‬بسياسة تشبه سياسة تجويد النوع بسياسة التزاوج المخطط له وفي حدود معينة من‬ ‫حيث الكم لاحترام ما يسميه بالرقم الذهبي‪.‬‬ ‫‪ .2‬بسياسة اعدام من لا يراه جديرا بالحياة من النسل عندما يتبين أنه لا يخضع‬ ‫لمعايير تنظيم النسل وهي سياسة نادت بها الفاشية الحديثة بين الربين‪.‬‬ ‫وفي الحقيقة العالم اليوم يسير بمثلها لأن العنصرية وإفناء بعض الشعوب والثقافات‬ ‫مبني على رؤية تفاضلها ومقدار جدارتها بالحياة عند فلاسفة الرؤية العرقية‪.‬‬ ‫ومن آثارها في إقليمنا مثلا‪ :‬الموقف الغربي عامة والألماني خاصة من العرب والفرس‪.‬‬ ‫فالعلة عرقية لأن الفرس من الآريين حسب زعمهم والعرب من الساميين فجمعوا عليهم‬ ‫عداوتهم للسامية التي لم يعودوا قادرين عليها مع اليهود فصارت العرب هي الهدف‪ .‬لكنهم‬ ‫يزعمون أنها لعلة ثقافية بمعنى أن الفرس متحضرون والعرب متوحشون‪.‬‬ ‫وهذه الأسطورة يكذبها تاريخ ما قبل الإسلام وما بعد بداية الإسلام‪ .‬فما قبل الإسلام‬ ‫صورة الفرس عند اليونان هي ما يريد الغرب اليوم أن يطلقه علينا‪ .‬وما بعد الإسلام لست‬ ‫أدري ما الذي يمكن للفرس أن يفاخروا به العرب‪ .‬فكل ما لديهم مستمد من الإسلام فكرهم‬ ‫وآدابهم وخاصة قدرتهم التعبيرية عن الروحي والعقلي والشعري لأن شعرهم ليس فيه‬ ‫فارسيا إلى القليل مما ليس مقولا بالعربية في لغتهم‪.‬‬ ‫ولا يذكر التاريخ أن لهم قبل الإسلام فلاسفة كبار من جنس الغزالي أو ابن سينا وهما‬ ‫ليسا فارسيين إلى بسبب قراءة الماضي بإيديولوجيا الحاضر لأنهم مسلمان لا غير من حيث‬ ‫الروح وعربيان لا غير من حيث اللسان وحتى المباحث والإشكاليات التي عالجاها وهي‬ ‫يونانية عربية وليس فارسية إلا في عقول العرقيات الغربية‪ .‬ولهذه العلة كنت دائما اشمئز‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪42‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫من من كتابات شاعر باكستان إذ يزعم لتأثره بأرواح الشعوب الهيجلية بأن الفلسفة‬ ‫الإسلامية فارسية‪ :‬فلا فارسي فيها إلا ما بقي دون مستوى الرؤية القرآنية من خرافات‬ ‫الزرادشتية‪.‬‬ ‫كانت السياسة في الفلسفة اليونانية سواء عند أفلاطون وأرسطو ذات ثقافة سقراطية‬ ‫قائلة بقانون خلقي وثيوقراطي (قانون النوس إلهي فوق الإنسان) أو عند ضديدها أعني‬ ‫ثقافة كلاسيكية قائلة بقانون طبيعي (قانون الطبيعي طبيعي في الإنسان المتعامل مع‬ ‫الطبيعة في الإنسان وفي العالم) وكان نموذج مكونات الدولة قوى النفس الإنسانية عند‬ ‫الفريقين‪ :‬العقل والغضب والشهوة‪.‬‬ ‫وهم إذن كانوا متفقين على أن بنية الدولة مستمدة من بنية ثابتة هي بنية النفس‬ ‫وقواها‪ .‬وذلك ما لا يسلمه ابن خلدون إذ هو يعكس تماما ويجعل بنية النفس هي المستمدة‬ ‫من بنية الدولة بتوسط ما يسميه بـ\"نحلة العيش\" أي ما حاولنا تشبيهه بالوسط أو البيئة‬ ‫التي يلتقي فيها مقومي الحياة من الجنسين‪.‬‬ ‫وهذا الوسط أو البيئة هو حال ثقافية تنتج عن لقاء بين الأحياز الذاتية والأحياز‬ ‫الخارجية ومن ثم عن دور أداة التبادل (العملة) وأداة التواصل (الكلمة) وشروط الإبقاء‬ ‫عليهما أداتين أو تحويلهما إلى سلطانين على المتبادلين والمتواصلين‪ .‬والأحياز الذاتية‬ ‫والخارجية أشبعناهما تحليلا وتفصيلا‪.‬‬ ‫ومنطلقنا في هذه المحاولة هي بيان الدور الخطير الذي يسيطر على الإسلاميين الذين‬ ‫بلغ بهم التأثر اللاواعي بالمصطلحات الموروثة عن الهيجلية والماركسية فصاروا من حيث لا‬ ‫يدرون متبنين للرؤية الوجودية الهيجلية والماركسية التي تقول بالجدل الصراعي بدل‬ ‫النساء ‪ 1‬والحجرات ‪ 13‬نفيا لثورة الإسلام‪.‬‬ ‫ولذلك فهم ما أن يصلوا إلى الحكم حتى يصبحوا مثل غيرهم من عبيد العجل يقولون‬ ‫بالوساطة الروحية في التربية والوصاية المادية في الحكم ولا يختلفون عن الماركسي‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪43‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫والهيجلي إلا بالخطاب المنافق‪ .‬والأمر يكون واضحا خاصة عند خصومهم من السلفية‬ ‫الجهادية‪ :‬فهم في السلم أو في الحرب جاهليون‪.‬‬ ‫فلا يمكن أن يكون الجهاد بمعناه الإسلامي منطلقا لتحول المجاهدين إلى أمراء حرب ولا‬ ‫يمكن للاجتهاد بمعناه الإسلامي منطلقا للتكفير المتبادل‪ .‬ظاهرة أمراء الحرب وظاهرة‬ ‫التكفير لا يمكن أن توجدا في الإسلام إلا عند من يعاديه ولم يفهم سورة العصر وشروط‬ ‫الاستثناء من الخسر الخمسة‪.‬‬ ‫فالوعي بالخسر هو الوعي بخطر التحريف الموصل إلى دين العجل‪ .‬ويترتب عليه فروع‬ ‫التحرر منه الأربعة وهـي‪:‬‬ ‫‪ .1‬الإيمان الصادق‬ ‫‪ .2‬والعمل الصالح (الفرد الجدير بالاستخلاف)‬ ‫‪ .3‬والتواصي بالحق (الجماعة المجتهدة)‬ ‫‪ .4‬التواصي بالصبر (الجماعة المجاهدة)‪.‬‬ ‫وتلك هي وحدة الديني والفلسفي القيمية أو الإسلام‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪44‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫يمكننا الآن أن نجمع المصطلحات التي ينبغي اعادة النظر فيها حتى تعتبر قريبة بدلالتها‬ ‫من معناها القرآني‪ .‬والمعلوم أن الدلالة فيها إحالة لمرجع محدد تشير إليه في حين أن المعنى‬ ‫مفتوح على ما لا يتناهى من الدلالات الممكنة ومن ثم فهو غير محدد بإحالة لمرجع محدد‬ ‫فيقبل التعدد الدلالي‪.‬‬ ‫وهذا الفرق بين الدلالة ‪ Die Bedeutung‬والمعنى ‪ Der Sinn‬يحررنا من الرؤية‬ ‫الجدلية بين نقيضين يتصارعان ليصلا إلى تجاوز ناسخ ‪ Aufhebung‬لتناقضهما في توليفة‬ ‫‪ . Synthesis‬ثم يستأنف المسار الجهنمي للصراع اخضاعا للتاريخ الحضاري إلى ما يظن قد‬ ‫تأكد في قانون التاريخ الطبيعي على النحو الدارويني لاحقا‪ .‬وكلها تعود إلى العلاقة‬ ‫الجدلية الموهومة‪:‬‬ ‫بين العمل والشرح والنظر والعقد في الدين‬ ‫وبين النظر والعقد والعمل والشرع في الفلسفة‬ ‫وبين الحفظ والتجديد في الثقافة (التراث)‬ ‫وبين العمل وراس المال في الاقتصاد (الثروة)‬ ‫وبين الحكم والمعارضة في السياسة‪.‬‬ ‫وكلها تعتمد الصراع بمنطق دين العجل‪.‬‬ ‫فالزوج الأول هو العمل والشرع والنظر والعقد في الرؤية الدينية ونفس الزوج بترتيب‬ ‫مقابل في الرؤية الفلسفية يطرحان مشكل التنافي المزعوم بين الأخلاق والقانون وبين العلم‬ ‫والإيمان‪ .‬وهي مقابلة أفسدت كل علوم الملة سواء كانت في الفكر الديني أو في الفكر‬ ‫الفلسفي طيلة ماضينا وفي حاضرنا‪.‬‬ ‫ذلك أنها هي التي تجعل الديني والفلسفي متنافيين في الرؤية التي صارت من البين‬ ‫بنفسه بسبب دغمائية النظر والعقد والعمل والشرع بعد العودة الهيجلية إلى القول‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪45‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫بالمطابقة وزعمه دحض المفهوم الحد الكنطي بزعم الانتقال من القضية التحليلية إلى‬ ‫القضية التأملية في منطقه الذي هو ميتافيزيقاه في آن‪.‬‬ ‫لكننا بينا أن النظر مستحيل من دون العقد بداية وغاية‪ .‬فبداية لا بد من التسليم على‬ ‫الاقل فرضيا بأن الموضوع موجود وبأن الذات موجودة وبأن الموضوع قابل للمعلومية وبأن‬ ‫الذات قادرة على العالمية وبأن هذه العلاقة ليست كلها وهما بل فيها على الأقل شيء من‬ ‫الحقيقة من دونها تكون اللاأدرية‪.‬‬ ‫والعقد غاية للنظر‪ .‬فلو لم نعتقد في ما نتوصل إليه في البحث لاستحال أن نتوقف لحظة‬ ‫واحدة لأن الممكن للجواب عن أي سؤال في أي مسألة قد يكون مطلق الانفتاح على ما لا‬ ‫يتناهى من الحلول‪ .‬ولابد إذن في أي علم من جملة من المعايير يتواضع عليها العلماء دليلا‬ ‫على حصول معرفة موثوق بها‪ :‬وهو عقد‪.‬‬ ‫والعقد الانطلاقي ثابت من دونه تستحيل البداية والعقد الغائي متغير إذ من دونه لا‬ ‫تتقدم المعرفة ومن ثم فالعقد له دلالتان‪ :‬الثابت للبداية والمتغير للغاية‪ .‬لكن هذين‬ ‫النوعين من العقد ليسا ضروريين للنظر فحسب بل أيضا للوجود الذاتي‪ .‬فلا يمكن تصور‬ ‫وجود الإنسان من دون هذين النوعين من العقد‪.‬‬ ‫وهما حينها لا يتعلقان بالنظر في موضوع خارجي بل بوعي الإنسان بنفسه‪ .‬فإذا لم يكن‬ ‫له عقد بأنه موجود وبأن العالم موجود وبأن هذا الوجود فيه نظام وبأن هذا النظام لا‬ ‫يمكن أن يكون ذاتي التنظيم بالصدفة فإنه قد يعيش ولكن في فوضى روحية ونفسية لا‬ ‫مخرج منها إلا بالانتحار أو بالغيبوبة الدائمة كإدمان المخدرات والمسكرات والملهيات‪.‬‬ ‫ونفس هذا التلازم بين النظر والعقد موجود في علاقة العمل بالشرع‪ .‬فإذا كان المتكلم‬ ‫والفيلسوف يتقابلان لتوهمهما التنافي بين الإيمان والعلم فالفقيه والمتصوف يتقابلان‬ ‫لتوهمهما التنافي بين القانون والأخلاق‪ .‬والتنافي الذي يعلل الرؤية الجدلية والصراع هو‬ ‫في الحقيقة معلولها وليس علتها‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪46‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫والأصل هو العلاقة بين النظر والعقد والعلاقة بين العمل والشرع هو كونها اربعتها‬ ‫فروعا عن العلاقة بين الذات وذاتها وعيا بوجودها هو في آن نظر وعقد وعمل وشرع‪.‬‬ ‫فوجود الإنسان من حيث هو كائن واع نظر وعقد وعمل وشرع ما كان سويا ويوم يفقد أحد‬ ‫هذه العناصر يختل وجوده فتفسد معاني الإنسانية فيه‪.‬‬ ‫وهذا هو مدلول معاني الإنسانية المستنتج من تعريف الإنسان بكونه \"رئيسا بطبعه‬ ‫بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\"‪ .‬وهذا هو النص الخلدوني الحاسم في تعريف الإنسان‬ ‫بهذه المقومات الأربعة لوجوده أصلا لها‪\" :‬وأما الأفعال الحيوانية لغير البشر فليس فيها‬ ‫انتظام لعدم الفكر الذي يعثر به الفاعل على الترتيب في ما يفعل إذ الحيوانات إنما تدرك‬ ‫بالحواس ومدركاتها متفرقة خلية من الربط لأنه لا يكون إلا بالفكر‪ .‬ولما كانت الحواس‬ ‫المعتبرة في عالم الكائنات هي المنتظمة وغير المنتظمة إنما هي تبع لها اندرجت حينئذ أفعال‬ ‫الحيوانات فيها فكانت مسخرة للبشر‪ .‬واستولت أفعال البشر على عالم الحوادث بما فيه‬ ‫فكان كله في طاعته وتسخره‪ .‬وهذا معنى الاستخلاف المشار إليه في قوله تعالى \"إني جاعل‬ ‫في الأرض خليفة \" فهذا الفكر هو الخاصة الإنسانية التي تميز بها البشر عن غيره من‬ ‫الحيوان وعلى قدر حصول الأسباب والمسببات في الفكر مرتبة تكون إنسانيته\" (المقدمة ‪-6‬‬ ‫‪.)11‬‬ ‫وأول ملاحظة تتعلق باستعمال الفكر الذي هو أعم من العقل بمعنى أن اختيار ابن‬ ‫خلدون لهذا الاستعمال مقصود والثانية الوصل بين أساس النظر‪-‬الظاهرة ملاحظة‪-‬‬ ‫والعقد التأسيس على الاستخلاف بمعنى السلطان الذي أعطي للإنسان بالقياس إلى غيره‬ ‫من الحيوانات‪ :‬إدراك الترتيب وإبداعه في الأفعال‪.‬‬ ‫لكن الوصل بين هذا السلطان والسببية إلى حد تعريف مقدار الإنسانية في الإنسان بها‬ ‫قد يوهم الكثير من ادعياء العقلانية أن ابن خلدون عقلاني بمعنى القول بالتنافي بين‬ ‫الديني والفلسفي‪ .‬ومن يسارع بهذا الفهم لم يقرأ المقدمة لأن هذا الفصل يأتي مباشرة‬ ‫بعد فصل الكلام وفيه لطيفة ابن خلدون‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪47‬‬ ‫الأسماء والبيان‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook