أبو يعرب المرزوقي بحاجة إلى مراجعة لفهم القرآن الأسماء والبيان
- المحتويات -الفصل الأول - 2 -الفصل الثاني - 1 -الفصل الثالث - 6 -الفصل الرابع - 11 -الفصل الخامس - 16 -الفصل السادس- 21 -الفصل السابع - 26 -الفصل الثامن - 31 -الفصل التاسع - 36 42 -الفصل العاشر - 47 -الفصل الحادي عشر - 52
- - - ظن البعض أني عندما أرجعت كل المحددات في الوجود الإنساني إلى المائدة والسرير وما دونهما وما فوقهما ثم إلى فنيهما وما دونهما وما فوقهما واعتبرت ما دون المائدة والسرير وما فوق فنيهما يلتقيان في أقصى البداوة وأقصى الترف أعدت حياة البشر المادية بالمعنى الحديث للكلمة. لكن المحاولة تثبت عكس ذلك أولا لأن مفهوم المادة يختلف معناه في الرؤية القرآنية عن مفهومها الفلسفي الذي هو عندها الخامة التي تستعصي على الصورة ومن ثم فهي ممثلة للشر المطلق -بلغة أفلاطون حتى وإن حد أرسطو من معناها التحقيري-لأنها في الإسلام هي المدد الوجودي الفعلي للمخلوقات. ورؤية المادة بوصفها خاما متمنعا عن التصوير رؤية فلسفية تشترك مع الرؤية الإبليسية التي تعتبر التفاضل بين الموجودات يعود إلى الاختلاف في المادة من حيث كمال صورتها إذ ادعى أنه من نار والإنسان من تراب .وهذا التفاضل لا يقره القرآن بل هو يعتبر المادة نفسها هي المدد القيامي للمخلوق. والمدد القيامي للمخلوق ليس صورة لاحقة لمادة غير مصورة سابقة بل كل مخلوق يخلق مصورا بعين كيانه المادي ومن ثم فالصفات المادية للمخلوقات هي عين مددها ذي الامتداد والمدة :الوجود مدد ممتد في المكان والزمان وهو الواحد فيهما بوصفها تحيزا وجوديا أو شغل حيز مكاني وزماني في الوجود. بهذا المعنى تكلمت على المائدة استعارة على ما يستمده الفرد الإنساني من الطبيعة ليقوم الفرد شرط قيام النوع .وتكلمت على السرير استعارة على ما يمد به الفرد لإنساني للحياة ليقوم النوع .وبين الفرد الإنساني والطبيعة في المائدة كل البشرية تاريخيا .وبينه وبين والحياة كل البشرية طبيعيا. أبو يعرب المرزوقي 1 الأسماء والبيان
- -- وقبل شرح هذا الـ\"بين\" التاريخي والـ\"بين\" الطبيعي فلأذكر القارئ الكريم أن استعارة المائدة والسرير ليست مقصورة على الوجود الدنيوي بل هي تشمل الوجود الاخروي. فالقرآن الكريم عندما يصف الجنة لا يورد بعد الدينونة ورؤية وجه الله شيئا آخر غير الطبيعة والتاريخ والمائدة والسرير. ولما كان هيجل يخلط بين مفهومي المادة -من حيث هي مدد كما في رؤية الإسلام ومن حيث هي خامة في رؤية الفلسفة القديمة والوسيطة-فهو قد أشار إلى أن الإسلام حتى في رؤيته إلى الجنة يشجع على المجون والانفلات في ما استعرت له اسمي المائدة والسرير .ولو لم أكن أفهم الفرق بين المدد والخامة لملت إلى التفسير الهيجلي. ذلك أن التفسير الهيجلي صحيح في ما يتعلق باللقاء السريع بين أقصى البداوة واقصى الحضارة-والقرآن نفسه يشير إلى ذلك وقد فهم الظاهرة ابن خلدون .فاللقاء بين البداوة والحضارة السريع دون قطع ما بينهما من مراحل يؤدي إلى ترف البدوي وهو الغرق في اللذائذ بدلا من تجاوزها إلى مستواهما الروحي. وقد كان ذلك فعلا سر نكبات كثيرة في حضارتنا :فالعرب فقدوا السلطان على دولة الإسلام بسرعة في المشرق وفي المغرب بسبب بين الحدين الأقصيين البداوة والترف .فمن دون ثقافة العمل المنتج والمبدع لا يتحرر الإنسان من اعتبار المدد مادة بالمعنى الفلسفي فيغرق في اللذائذ مثل الخنزير في القاذورات .وهذا يتبين بوضوح في حالتين: • من يرث ثروة ولم ينتجها بعرق جبينه. • ومن يصبح ثريا بسرعة دون تدرج في الجهد. ومن أمثلة هذا النوع الثاني يصح على الأفراد صحته على الجماعات مثل من نسميهم الأغنياء الجدد في عالمنا الحالي إما بسبب بيع المخدرات والتهريب (للأفراد) أو بسبب المواد الخام في بعض البلدان (للجماعات) أو بسبب بيع الأوطان والاستبداد والفساد وسرقة ثروات البلاد بالتواطؤ مع المستعمر (للحكام والنخب المستفيدة من الجاه الناتج عن التبعية لهم). أبو يعرب المرزوقي 2 الأسماء والبيان
- -- والقرآن الكريم جعل هذه الظاهرة من علامات هلاك القرى :وَإِذَا َأرَ ْدنَا َأن نُّهْ ِل َك قَ ْريَةً َأمَ ْرنَا متْرَ ِفيهَا َففَ َسقوا فِي َها َف َحقَُّ عَ َليْ َها الْقَ ْول َفدَ ُمَّرْنَاهَا تَدْ ِمي ًرا ( 16الإسراء) .حال دائمة للقاء بين اقصى البداوة واقصى الحضارة أي الثراء والفقر الفاحشين. فمن مر بما بين البداوة والحضارة من مراحل تهذبه يمكن أن يستمتع بالحياة دون أن يغرق في الترف .فترى ألأوروبي يعمل 11شهرا عملا شاقا ويستمتع شهرا 1يسميه عطلة للراحة والسياحة .أما العربي فلا يعمل يوما واحدا إذا استطاع ويرتاح كامل السنة ويسمي ذلك حياة وهي غرق في قاذورات الترف. بعد أن وضحنا دلالة المائدة والسرير ودلالة فنيهما ودلالة ما دونهما وما فوق فنيهما فلنمر إلى مكملاتهما .فالمائدة لها مكمل هو الصحة العضوية والسرير له مكمل هو الصحة النفسية أو الروحية :معيار السوي فيهما يستمد من معيار الصحة العضوية في الاول ومعيار الثاني من الصحة النفسية. وهذان المعياران يمثلان مقياس الأخلاق العملية في الأعيان والأخلاق النظرية في الأذهان .ومعنى ذلك أن وصل الاخلاق بالمائدة وبالسرير ليس خطأ في المجتمعات بل هو عين المعيار الموضوعي لما هو خلقي :فالمائدة تحدد الاخلاق بالمعنيين في صلة بالأكل والصحة العضوية. والسرير يحدد الأخلاق بالمعنيين في صلة بالجنس والصحة النفسية .ورغم أنه يوجد تبادل التأثير بين الصحتين العضوية والنفسية فإن الأولى هي الشرط الحقيقي للثانية لأن الثانية هي دائما ما يمكن أن ينتج إما عن خلل في الكيان العضوي أو عن خلل في صورة صاحبه عنه المنتجة للعقد النفسية. وهو ما يبين النسبة بين المددين العضوي والنفسي لكيان الإنسان البدني والنفسي .فرغم قول الناس تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها فإن أول دافع لتغذية تجارة الجنس كان ولا يزال الجوع عند الجنسين :فاستعمال المبدن من أجل اللقمة يوجد عند المجنسين بخلاف من يتوهمه خاصا بالنساء. أبو يعرب المرزوقي 3 الأسماء والبيان
- -- ويمكن للإنسان أن يصبر على الحرمان من الجنس سنوات ولا يستطيع أن يصبر عن الحرمان من الأكل أكثر من أسبوع .وهذه الظاهرة تشجع تجارة الجنس عند مستغلي المحتاجين ليكونوا عبيدا جنسا لدى الأغنياء كما نرى ذلك بالعين المجردة في السياحة التي ليست دائما بريئة ومتعلقة بحب الاطلاع على الآثار أو الاستمتاع بمزايا الطبيعة برا وبحرا ومناخا. ثم إن حياة الفرد في علاقة بالطبيعة سواء مباشرة (عندما ينعزل أو في اقصى البداوة حيث يعيش المرء على ما تنتجه الطبيعة) أو بتوسط الجماعة (عندما يكون في جماعة وفي وجود تقاسم العمل والتبادل والتعاوض فيها) ومن ثم فعلاقته بالحياة مشروطة بعلاقته بالطبيعة وهي من ثم تالية وليست سابقة. وكل من يتغاضى عن هذه المعطيات التي تنتج عن مقومات كيان الإنسان لا يمكن أن يجادل ماركس أو فرويد خاصة إذا كان يتوهم أنه يحارب المادية باستعمال دلالة للمادة هي الدلالة التي يستعملها ماركس وفرويد :فالمادة في الإسلام مدد وهي عندهما خام مؤثر بقلب العلاقة التي كان يقول بها من كان ينسب التأثير إلى الصورة. ومن يجهل علل المنزلة التي يوليها الإسلام الملكية شرطا للتحرر من العبودية للمستبدين بمدد القيام العضوي لن يفهم شيئا من قانونه الجنائي الذي وصل إلى وضع أكبر عقوبتين فيه بحماية الملكية وهما عقوبة السرقة العادية وعقوبة المسلحة أو الحرابة .فهما اشد من عقاب قتل النفس إذ لا عفو فيهما. وليس ذلك لقيمتهما بالمعنى المادي الفلسفي بل لقيمة المدد في تحقيق شروط الحرية التي هي \"رئاسة الإنسان بالطبع وبمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\"(ابن خلدون) .ويتبين ذلك :أولا 4من الفروض الإسلامية مشروطة بحد كاف من الثروة الزكاة بالنصاب والصلاة بالنظافة والصوم بالصحة والحج بالاستطاعة. ويتبين ثانيا وسلبا بسوء الفهم الذي سيطر على الفقهاء وخاصة على المتصوفة :الخلط بين نوعي الفقر .المأمور به بل وحتى المضطر لأنه ليس اختياري وأعني الفقر إلى الله وهو أبو يعرب المرزوقي 4 الأسماء والبيان
- -- الفقر الوجودي إذ إن قيامنا ليس بأيدينا إلا سلبيا بمعنى أننا نستطيع أن ننتحر ولكننا لا نستطيع أن نلغي الموت. أما الفقر المادي بمعنى تعمير الأرض التي نستمد منها المدد القيامي لكياننا العضوي شرطا في قيامنا النفسي مرحلة ثانية من دورها في نقل القيام المددي من الطبيعة إلى الحياة بتوسط السرير فهو اختياري أولا وهو • المهمة الأولى للإنسان المستعمر في الأرض • والمهمة الثانية هي تحقيق قيم الاستخلاف. فعندما يتكلم القرآن على الفقراء المقدمين في الآخرة فهو يعني أمرين: • الفقراء إلى الله وليس الفقراء إلى المعين بسبب الخلط بين المعنيين • الذين لا يجعلهم الثراء في المعين ينسيهم الفقر إلى الله. وما عداه كذب على الله .فلو كان فقر المدد هو المقصود لما استعمر الإنسان في الأرض ولما سخرت له بمعنى كونها تحتوي على شروط بقائه بشرط سعيه لتعميرها ورعايتها. نظرية الإنسان أو الانثروبولوجيا القرآنية لا يمكن أن تفهم إذا واصلنا في فهم المادة فهما مستمدا من الفلسفة القديمة-المادة باعتبارها خام الوجود تمييزا لها عن الصورة وتصورها مصدر الشر الذي لا يتقبل كل الخير أو الصورة-بل لابد من اعتبارها كما يعرفها هي المدد القيامي أي إنه هو عين المدد الكياني والامتداد مكانا والمدة زمانا. أبو يعرب المرزوقي 5 الأسماء والبيان
- - - ولو لم تكن المادة -البدن مثلا-تعني المدد الكياني بمعنى الامتداد المكاني والمدة الزمانية ولو كانت تعني الخام الجامد الذي يتحاج لصورة ليست منه لكان يستحيل أن يتجاوز الإنسان المائدة والسرير إلى فنيهما ولكان عدم التجاوز غير ناتج عن نقصهما بدلا من ان يكون ناتجا عن فضلهما. فالمدد لا يتميز فيه الروحي عن المادي -إذا استعملنا مفهوم المادة بالمعنى التحقيري الموروث عن فلسفة أفلاطون وتبعاتها في تحريف المسيحية التي جعلت البدن مدنسا ومثلها كل فلاسفة القرون الوسطى ومنها اعتبار أكل التفاحة الشهير خطيئة موروثة واستنجاس الجنس-بل هو مقوم كياني واحد. ومن المواريث الفلسفية والدينية التي تخلص منها الإسلام ما يرفضه الفلاسفة أعني اعتبار البعث الجسدي أمرا غير معقول لكأن البعث الروحي معقول إذا كان القصد بالمعقول ما يعلمه العقل .فكلا البعثين لا يعلمهما العقل وليس له تفسير لأن فهمه للتفسير طبيعي دائما والبحث ليس بالأمر الطبيعي .وسخافة المقابلة بين البعثين علتها مضاعفة: • توهم العلم محيطا • واعتبار لذة العلم حقيقة البعث. فهم يعتبرون البعث مقبولا بهذا المعنى اللابدني أو اللاجسدي-ولست أدري ما علة احتقار الجسد إلى هذا الحد عند الفلاسفة والمتصوفة -لكأن العلم يمكن أولا أن يكون محيطا وثانيا يمكن تصوره غير مادي .فلا وجود لعلم بدون قوة قائمة في الكيان العضوي للإنسان ومن ثم فالعلم قوة بدنية مثله مثل قيام البدن. ولما كنا لا نملك دليلا ولا حتى قرينة تثبت أن العقل مفارق للبدن فإن توهم المعقولات الحاصلة فيه وبه مفارقة للبدن أو لتعينها في الرموز التي يعبر بها البدن عنها ومن ثم فإذا أبو يعرب المرزوقي 6 الأسماء والبيان
- -- كان البدن يفنى بعد الموت لا يبعث فمعه تفنى كل ما ينتج عن فاعلياته :إما بعث الإنسان كاملا بدنا وروحا لأن البدن هو خزينة المدد أولا بعث أصلا. وهذا لا يعني أن إثبات البعث أو نفيه أمران ممكنان عقلا الممكن عقلا هو امتناع أثباته أو نفيه ككل معاني الغيب التي يستند إليها الدين .فهي معتقدات لا دليل لوجودها ولا دليل عليه وهي إذن من الإيمان بما يضفي المعنى عن الوجود الشاهد بما يجعله مستحيل الوجود من دون المنشود الغائب. ونسبة المنشود الغائب في الوجود الشاهد من العالمين الطبيعي والتاريخي هي نسبة ما نسميه روحا إلى البدن .الدين هو روح العالمين الطبيعي والتاريخي وهو في آن عين الروح الموجود في الإنسان من حيث هو وعي بذاته ووعي بالعالمين وما وراء ذاته والعالمين أي الإيمان بالله وبالاستخلاف. ومثلما أن الروح من أمر ربي فالدين الذي هو روح العالم الطبيعي والتاريخي من أمر ربي .ولذلك فالإلحاد مستحيل لأن الملحد في النهاية يؤله شيئا ما في الطبيعة وفي التاريخ وهما نوعا وحدة الوجود الطبعانية أو الذاتوية والاولى تؤلفه الطبيعة الطابعة والثانية تؤله ما يسمى بالإنسان الكامل. وقد قدمت محاضرة مؤخرا في بيت الحكمة درست فيـها مفهوم التأله عند ابن خلدون وبينت أنه من الكلمات الأضداد .فالتاله بمعناه الذي يتمثل في الاستبداد السياسي يمكن تسميته بأصل الكنسية والفرعونية .والتأله بمعناه الذي يتمثل في تصوف وحدة الوجود والفلسفة القائلة بالمطابقة حصل مرتين في تاريخها. ففي القديم هذا التأله أفلاطوني أرسطي وفي الحديث هو سبينوزي هيجلي .وكلا التألهين جعل الفلسفة دينا أو عقيدة مثل الكنسية الفرعونية .والدين السوي ومثله الفلسفة السوية هي التي تتحرر من هذين الوهمين اللذين ردهما ابن خلدون إلى نظرية المعرفة المطابقة أي إلى رد الوجود إلى الإدراك. أبو يعرب المرزوقي 7 الأسماء والبيان
- -- سيعترض على قولي إن الدين في نسبته إلى العالمين الطبيعي والتاريخي مثل الروح في نسبتها إلى البدن مع عدم الفصل بين البدن والروح بل اعتبار هذه من المدد الذي هو امتداد ومدة أي عين قيام الإنسان يجعل العالمين ذوي روح بهذا المعنى فيكون وكأنه قول بوحدة الوجود.وما ذلك كذلك. فقولي هذا مبني على أن الروح من أمر ربي والبدن هو أثره الشاهد أي هو المدد الذي يتضمن هذا الروح ومن ثم فهو ليس خالق الإنسان ولا العالم الطبيعي ولا العالم التاريخي بل هو مخلوق وهو عين حياتهما المتعينة فيهما من حيث هما مدد ممتد ذو مدة لكأنه كائن هو عين شحنته الطاقية لحيوية وروحه. وهذه الشحنة الطاقية الروحية وشاحنها الذي هو أمر ربي وحاملها الذي هو هي أي البدن كل ذلك لا نعلم إلا ما عينه الله في آية الكرسي-ولا يحيطون بعلمه إلا بما شاء-وما نحيط به هو بعض الشاهد من بدننا وتجلياته ومن العالمين الطبيعي والتاريخي وتجلياتهما التي هي مادة المائدة والسرير وفنيهما. فكون المائدة والسرير يصدر عنهما فن المائدة وفن السرير يجعلهما مميزين للإنسان إذ ليس لنا علم بأن غيرنا من الكائنات الحية المشهودة لنا لها فن المائدة وفن السرير أي ما يجعلهما ذوي معنى بل وعبادة في الإسلام لأن الأول شرط الصحة وهي شرط كل العبادات والثاني شرط بقاء النوع وهو فرض عين. ففن المائدة مؤلف من عنصرين آداب الأكل (وهي أهم فنون الأكل) وزينة الأكل (وهي ليست بالضرورة البذخ والتبذير) .والأولى أخلاقيات والثانية جماليات .وكلتاهما تبرزان خاصة في شهر الصيام الذي هو عبادة وفيه الاكل لا يبقى مجرد عادة بل يصبح عبادة وشرطا لكثير من العبادات وأهمها صلة الرحم واجتماع الاسرة حول المائدة والسمر وطبعا التراويح. وبما أن الحواس تستأنف قدرة عجيبة على الحس والاحساس فإن ما يحدث في المائدة يحدث مثله في السرير إذ الجماليات مثل الاخلاقيات يقويهما ما يطرأ على الحواس من حدة أبو يعرب المرزوقي 8 الأسماء والبيان
- -- فيكون البصر حديدا ومعه خاصة الشم والذوق المادي (من المائدة والسرير ) والروحي (من فن المائدة وفن السرير). وعندئذ تفهم دلالة فصلت :53فهي دلالة ابستمولوجية تتعلق بتحديد مجال العلم والعقد وأكسيولوجية تتعلق بتحديد مجال العمل والشرع والأول لمعرفة الطبيعة خاصة والثاني لمعرفة التاريخ خاصة وبهما ندرك معنى آيات الله في الآفاق (الطبيعة والتاريخ) وفي الانفس (ما في كياننا من القيم المقومة). فما في كياننا من القيم المقومة والتي هي المدد امتداد ومدة هي القيم الخمس :حرية الإرادة وصدق العلم وخير القدرة وجمال الحياة وجلال الوجود .لكن يمكن أن يخلد الكيان إلى الأرض فتصبح قيمه عبودية الإرادة وكذب العلم وشر القدرة وقبح الحياة وذل الوجود .وذلك هو فساد معاني الإنسانية الخلدوني. لكن المائدة إذا فقدت فنها أعني آداب الأكل (خلقية) وزينة الأكل (جمالية) تتنافي في الشاهد مع الصحة وفي ما ورائه مع الاخلاق والجمال فتتحول إلى ترف يهدم المدد صحيا (بكل الأمراض العضوية ولعل اخطرها البدانة) خلقيا (كل الأمراض النفسية ولعل اخطرها البطر) .ومثلها يحصل للسرير والأمر بين. وبهذا المعنى فما دون المائدة والسرير أي فقدان الغذاء والجنس يؤديان إلى فقدان الصحة لعضوية والنفسية ومثلهما يؤدي إلى نفس الامراض ما فوق فن المائدة والسرير أي هوس الغذاء والجنس عند من لهم رمزي تحقيقهما الغرق فيهما أي المال والإخلاد إلى الأرض :فيلتقي الفقر والترف سر فساد المدد. وقد خصص ابن خلدون لهذه الظاهرة فصلا طويلا تكلم فيه على ما يحصل في مرحلة الترف الحضاري من التقاء ما دون سد الحاجة وما فوقه في وخاصة في المدن الكبرى من تستحيل كل القيم الموجبة أي حرية الإرادة وصدق العلم وخير القدرة وجمال الحياة وجلال الوجود إلى نقائضها كلها. أبو يعرب المرزوقي 9 الأسماء والبيان
- -- وهذه الوضعية هي الغالبة على كل بلاد العرب وخاصة على التي تبدو الأغنى منها. لكنها عامة لأن الحكم المستبد والفساد وخاصة في البلاد الفقيرة يضاعف الترف والفقر وليس له حائل دون العيش مثل الأغنى :ألم يقل ابن علي تبرير لسلوك أسرته ومن تبعهم في الجاه :احسبوهم أمراء مثل أمراء الخليج؟ وفعلا فذلك ما حصل في كل بلاد العرب سواء كانت أنظمتها قبلية تدعي الحكم بقيم الأصالة أو عسكرية تدعي الحكم باسم الحداثة أو بين بين لأن النظام البورقيبي ليس جمهوريا وحداثيا إلا في الفترينة والبروباغندا الإعلامية لكنه في الحقيقة كان نظاما \"جهويا\" وبوليسيا وأبويا ومعقدا إزاء أمه فرنسا. ولما كانت هذه حال العرب الذين هم في الهوى سواء فإن العلاج ينبغي أن يكون متجانس مع علل المرض .وما يعنيني شخصيا هو أن الإسلاميين الذين لا يمكن للامة أن تستأنف دورها من دون أن يتجاوزا مطالب الثورة المباشرة إلى شروطها التي هي المطالب غير المباشرة لن يتغير شيء من وضعيتنا. لكن هذا البحث ليس لعرض استراتيجية للعلاج بل هو للتشخيص دون العلاج .ويمكن للتشخيص أن يسهم في العلاج أولا وفي الوقاية ثانيا .وتلك مهمة بحوث سابقة وقد تأتي بعدها بحوث لاحقة .لكن الأن نريد أن نحدد أدوات التحليل بإعادة النظر في مفهومات مموهة قد تخالط في تجاوز شعارات التفلسف البدائي. ومن أشد علاماته حالتان واحدة يطبل لها سخفاء النخب المصرية والثانية يزغرد لها بلهاء النخب السعودية .وطبعا يوجد في البلدين من يفهم معنى التفلسف فلا يقبل أن يكون السيسي فيلسوفا يصلح الدين ولا يقبل أن يكون الأمير الذي لا يقل عنه حمقا مصلحا للإسلام ومعلمنا لبلد الحرمين. أبو يعرب المرزوقي 10 الأسماء والبيان
- - - إذا كانت المادة هي المدد المؤلف من امتداد مكاني ومدة زمانية هي عين قيام الموجود وما فيه من اشرئباب للمنشود وكان العالم الطبيعي والتاريخي (أو الحضاري الذي هو مجموع ما أضافته الثقافة للطبيعة أو ما بلغ إليه الموجود في سعيه إلى المنشود) فإن القضية كلها تعود إلى نظريتنا في الأحياز. ونظرية الأحياز مبنية على تناظر بين أحياز خارجية محيطة بالإنسان في الأعيان وأحياز داخلية أو ذاتية للإنسان محيطة في الأذهان بما يحيط في الأعيان .فيكون الإنسان بهذا الاشرئباب إلى المنشود الكامن في ما فيه من الموجود تجاذبا بين الأحياز الخارجية ولأحياز الداخلية في الاتجاهين. فالأحياز الخارجية المحيطة بالإنسان جاذبة للأحياز الذاتية له بما تسده من حاجات الإنسان وكأنها تدعوه إلى استهلاكها حتى يكون هو أداة نقلها من الطبيعي (بالمائدة وفنها) إلى العضوي (بالسرير وفنه) فيكون الإنسان بذلك وكأنه أداة استكمال الطبيعة طبيعيا بما يترتب الأولى وحضاريا على الثانية. وتكون الأحياز الذاتية للإنسان جاذبة للأحياز الخارجية من حوله بالنظر والعقد للعلم بقوانين الطبيعة وبالعمل والشرع للعمل بسنن التاريخ .فتمد الخارجية الداخلية بالمدد الكياني مضمونه وتكون الداخلية الخارجية بقراءات المدد أو بما وصفته الآية 53من فصلت بآيات الله في الآفاق وفي الأنفس .فيصبح لدينا العناصر التالية التي علينا تحديد معانيها: .1الأحياز الخارجية .2الأحياز الداخلية أو الذاتية للإنسان .3جاذبية الأولى للثانية .4جاذبية الثانية للأولى أبو يعرب المرزوقي 11 الأسماء والبيان
- -- .5المرجعية الموحدة للعناصر الأربعة الأولى في شكل رؤية وجودية تجمع بين التحيزين الداخلي والخارجي كعبارة عن روح الجماعة. فالأحياز الخارجية هي مكان الجماعة أو حصتها من المعمورة ومنها رزقها مهما بلغ بها التقدم العلمي لأن العلم يساعد في الاستفادة من هذه الحصة أو من التبادل مع الجماعات الاخرى فيكون المكان في آن مكان الجماعة الخاص وصلته بالمكان العام الذي تشترك فيه البشرية كلها معينا لرزقها. وهو إذن حيز مفيد بما فيه وبموضعه من الأرض وهما وجها الاستراتيجية من حيث هو خطط الرعاية وخطط الحماية .والحيز المكاني أو جغرافيا الجماعة هو أول أحد مقومات المدد من حيث هو علاقة بالعالم الطبيعي الذي يمثل الحفاظ عليه شرط بقاء رعاية علة ومعلولا لحماية حرية الجماعة. واستمداد الرعاية منه مددا للقيام العضوي لا يكفي فيه ما فيه وحتى موقعه بل هو مشروط بنوع ثان من الحيز بعد هذين الحيزين المكان وثمرته وهذا النوع الثاني هو بدوره مضاعف لأنه حصة من الزمان الذي يتراكم فيه فعل الجماعة في المكان فيكون تاريخ أفعالها فيه وثمرته التراث العلمي والذوقي. وهذا التاريخ هو ديمومة في الزمان وبعدا ثانيا بعد الامتداد في المكان .ومثلما أن الامتداد مزيد مدد للكيان العضوي فإن المدة مزيد مدد للكيان النفسي .وبهما تتحدد الجماعة التي تتكون بالتدريج من خلال وحدة الجغرافيا وثمرتها ووحدة التاريخ وثمرته فتكون بذلك أمة لحامها هو لحام ثمرة المدد. وهذا اللحام الذي هو ثمرة الجغرافيا وعمل الإنسان فيها وثمرة التاريخ وإبداع الإنسان التعميري المادي والرمزي (الثقافة) هما الثروة والتراث .وهما الحيزان اللذان يمثلان جهد الجماعة اجتهاد وجهاد لتحقيق شرطي السيادة أعني الرعاية والحماية الذاتيتين: أمة حرة ذات كيان متلاحم. أبو يعرب المرزوقي 12 الأسماء والبيان
- -- وكل معتد على أمة لا يستطيع غلبتها إلا إذا استطاع أن يفتت جغرافيتها ليحول دون ثمرتها التي هي شرط الرعاية وأن يشتت تاريخها ليحول دون ثمرته التي هي شرط الحماية والمجموع رعاية حماية يعني فقدان السيادة فشروط الرعاية تحرر القيام العضوي من التبعية وشروط الحماية تحرر القيام النفسي منها. وذلك ما فعله الاستعمار الغربي بدار الإسلام وأمته :فتت جغرافيته فافقده شروط الرعاية وشتت تاريخه فأفقده شروط الحماية فصارت كل أقطار العرب مثلا محميات حتى وإن سماها من نصبهم عليها الاستعمار دولا وما هي كذلك لأنها فاقدة لشرطي السيادة في الرعاية أو في الحماية أو فيهمها معا. وعندما نفكك استراتيجية الأعداء -ومثالها سايكس بيكو لتفتيت المكان مع تكوين محميات لتفتيت الزمان لأن كل محمية تعتبر نفسها دولة وتبحث عن شرعية تاريخية تستمدها مما يريد الأعداء قتله ويعلمون أن قتله يتطلب اعطاء الوقت للوقت :فلا يمكن للمحميات أن تشتت التاريخ من دون أن تحارب اللحمة. واللحمة هي المرجعية الروحية التي ترى بها الجماعة نفسها في علاقة بأبعاد المعادلة الوجودية (النظرية التي وضعتها) وهي دينية بالأساس :أي بالله وبالطبيعة وبما ورائها وبالتاريخ وبما ورائه وتلك هي مقومات رؤية الإنسان لكيانه في علاقة بالجماعة المتحيزة في المكان وثمرته وفي الزمان وثمرته. فمثلا لا تنفصل حصة المكان التونسي عن حصة المكان الجزائري وحصة الزمان التونسي عن حصة الزمان الجزائري من دون مدة طويلة ينفصل فيها الرابط الروحي بين الشعبين ليصبحا مجرد جارين في المكان والزمان دون ترابط في ثمرتيهما :يصبح الترابط بين كل منهما والمستعمر مقدما على الترابط بينهما. وعندئذ يصبح الترابط المصلحي المباشر مقدما قيميا على الترابط الروحي الذي يوحد الحصتين من المكان والحصتين من الزمان فتصبح فرنسا أقرب للجزائر من تونس وأقرب أبو يعرب المرزوقي 13 الأسماء والبيان
- -- لتونس من الجزائر رغم الحوار ويصبح الإسلام مجرد عبادات شكلية لا تمثل رؤية الجماعة لتلاحمها في كل ذلك. وهذه الحقائق قد تبدو بديهية بعد أن صيغت بنظرية الأحياز الخارجية ودورها وبنظرية المعادلة الوجودية ودورها .وما كان ذلك ليحصل لو لم يكن الهدف الكشف عن الحيل الاستراتيجية التي استعملها الاستعمار لتفكيك لحام الوحدة بين المسلمين حتى يستطيع القضاء على سر قوتها المادية والروحية. ومرة أخرى لا ينبغي أن يفهم القارئ المادية والروحية على أنهما أمرين منفصلين كما بينا في الفصل الأول والثاني بل هما ما ينتج عن المدد الواحد من حيث هو امتداد ومدة مشدودا إلى ما في الوجود مما يترتب عليه من منشود يجعل الإنسان لا يقوم من دون تعمير الأرض بعلمه وعمله أو تدميرها بهما. ومعنى ذلك أن الإنسان يعمر إذا كان جديرا بالاستخلاف ويدمر إذا لم يكن جديرا به. وهو رهان امتحان أهلية الإنسان في وجوده الدنيوي حسب الرؤية القرآنية .وكل الحضارات لها رؤي مماثلة من حيث الوظيفة حتى وإن لم تكن بنفس الصيغة التي نجدها في القرآن :والفرق هو التعالي أو التداني. فإذا كانت الرؤية لا تخلد إلى الأرض فهي متجاوزة للموجود إلى المنشود في العلاقة المباشرة بين الإنسان ومثاله الأعلى الله والعلاقة غير المباشرة بينه وبين العالم الطبيعي ذي الماوراء المحيل على العلاقة المباشرة وبينه وبين العالم التاريخي ذي الماوراء المحيل على العلاقة المباشرة. وما كانت لتصبح بديهية من دون نظرية الأحياز ونظرية المعادلة الوجودية .وهي ستزداد وضوحا بتجاوز ما له صلة بما يبدو وكأنه سياسي في حين أنه وجودي محدد للسياسي عندما نتكلم على نظرية الأحياز الداخلية أو الذاتية في الإنسان نفسه .فهو كذلك له خمسة أحياز مثل العالم المحيط طبيعية وتاريخيه. أبو يعرب المرزوقي 14 الأسماء والبيان
- -- وهذه الأحياز الذاتية للفرد الإنساني أكثر تلاحما من الأحياز الخارجية للجماعة بمقتضى حصتها من المكان وثمرتها (الثروة) وحصتها من الزمان وثمرته (التراث) واللحام الموحد للجماعة أو المرجعية المحددة للرؤية لأنها هي عين كيانه العضوي والنفسي ووحدته من حيث هو فرد وذات وشخص ومواطن ومؤمن. وحينها نرى بالعين المجردة معنى المدد الذي هو امتداد ومدة أو حصة من المكان ذات ثمرة هي الكيان العضوي للإنسان وحصة من الزمان هي الكيان النفسي للإنسان ووحدة هي كونه \"الشيء\" الذي يقول \"أنا\" أو الذات الواعية بذاتها والقائمة بإرادتها وعلمها وقدرتها وحياتها ووجودها. لكن إذ لم تكن إرادتها حرة وعلمها صادقا وقدرتها خيرة وحياتها جميلة ووجودها جليلا فهي تكون مثل البلاد التي ليس لها سلطان على جغرافيتها وثمرتها ولا على تاريخها وثمرته ولا على مرجعيتها اللاحمة لكيانها الذي هو حصة من المكان وحصة من الزمان في تقاسم البشر للمعمورة. وها نحن قد وصلنا إلى فضاء مخمس الأضلع .اعتدنا على الفضاء مثلث الاضلع ونفهم الآن معنى \"الزمكان المضاعف\" أو البعد الذي يوحد المكان وثمرته (الثروة) والزمان وثمرته (لتراث) وهذا الزمكان المضاعف لأن كلا بعديه الطبيعيين يتضاعفان بالرمزيين فتكون الأحياز في الحالتين مخمسة. أبو يعرب المرزوقي 15 الأسماء والبيان
- - - فضاء مخمس الأبعاد لا يمكن أن يكون طبيعيا بل هو الفضاء الذي يتمازج فيه الطبيعي والثقافي ويصبح فيه الثاني محددا للأول دون أن يلغيه بل هو يستمد منه المدد سواء كان الحيزين الخارجيين (المكان والزمان) أو الحيزين الداخليين (البدن والروح) لأن كليهما يصبحان فاعلين بثمرتيهما يقدران بهما. فالمكان يصبح جغرافيا ولكل أمة ذات دور في سياسة العالم حصة منه والزمان يصبح تاريخا ولكل أمة ذات دور في سياسة العالم حصة منه .وكل أمة مطالبة على الأقل بالمحافظة على ما صار حصة لها في فاعلية نشأتها الأولى لكنها لا تستطيع المحافظة عليها إذا لم تحقق شرطي السيادة حماية ورعاية. وتحقيق شرطي السيادة لا يحصل مرة واحدة بل هو دائم التحصيل لأنه دائم التآكل لعلتين :لفتور ذاتي ككل ظاهرة حية لم تتجدد أجيالها ولوجود منافسين لها على حصتها من المكان وحصتها من الزمان أو لما في جغرافيتها من شروط الرعاية ولما في تاريخها من شروط الحماية :ولقيامها الفعلي كقوة مجاورة. ولهذه العلة وضع القرآن الكريم المبدأ الأساسي لتواصل الاستعداد في الرعاية والحماية: ذلك هو موضوع الأنفال .60فهي تبدأ بالقوة عامة وهي بالأساس قوة الرعاية تكوينا وتموينا للأجيال الذين يمثلون بقاء الأمة ثم تثني بقوة الحماية رمزا إليها برباط الخيل أعني بأقوى الأسلحة لحظة النزول. والقوة عامة ليست مقصورة على الرعاية بل هي متعدية للحماية .فالرعاية تحقق ذلك مرتين :أولا بتكوين أجيال قادرة وغنية عن الحاجة للغير لأن معاني الإنسانية فيها لم تفسد بسبب الخوف من الغير وبسبب الثقة في النفس أولا وثانيا لأن الحماية بحاجة لتمويل ولا يقوم به من كان عاجزا دون الرعاية. أبو يعرب المرزوقي 16 الأسماء والبيان
- -- ولهذه العلة اعتبر ابن خلدون من فسدت فيه معاني الإنسانية يصبح عاجزا عن الرعاية وأعجز عن الحماية بالتالي فصوفه بكونه عالة على غيره .وتلك هي حال الأمة اليوم. فبعد أن فتتت جغرافيتها وفقدت ثمرتها وشتت تاريخها وفقدت ثمرته باتت عاجزة عن الرعاية والحماية وحتى أصل اللحمة الإسلام. والعلامة الابرز على ذلك واضح عندنا نحن عرب الاقليم ومستعربيه من الشعوب التي كان لها دور إيجابي في بناء دولة الإسلام كما تدل على ذلك علامتان: .1العلامة الأولى :فالعرب اليوم لا هم لهم إلا التنافس السلبي كل محمية عربية همها أن تقضي على المحمية المجاورة بالتقرب أكثر من يمكن للأعداء الأمة وذراعيهما. .2والعلامة الثانية :لا هم للعرب بعد أن فرغوا تقريبا من تصفية كل قوة لديهم- العراق وسوريا ومصر وربما قريبا السعودية والجزائر والمغرب وهلم جرا-شرعوا في محاولة المشاركة في تصفية القوى الإسلامية الصاعدة مثل التآمر على تركيا مع ذراعي الأعداء في الإقليم أو بمحاولة افساد الحكم في ماليزيا. وطبعا فهذان الأمران لا يكفي لتفسيرهما التنافس والتغاير والتحاسد بين الحكام والنخب بل إن وراءه استراتيجية توظف الأنظمة العميلة في المحميات العربية لتحقيق أهم خطط الاستراتيجيات المخربة للأمم :فبعد تفتيت الجغرافيا وتشتيت التاريخ يبقى تأليب الشعوب عرقيا وطائفيا بعضها ضد البعض. وهذه أمثلة عينية فعلية من فساد دور اللاحمة التي هي من جنسين :لاحمة تنتج عن شروط دور المدد التي حصلت في الماضي أحداثه وأحاديثه ولاحمة تنتج عن شروط المدد التي ينبغي أن تحصل في المستقبل أحاديثه وأحداثه .فاللاحمة تستمد دائما من رؤية وجودية متعينة في الأحياز الخارجية والداخلية. ولا يمكن فهم خراب الجامعة العربية ثم التجمعات الاقليمية للعرب في المشرق وفي المغرب من دون هذه الظاهرة التي تتنافى مع شروط المدد المستمدة من الماضي المشترك الذي قضي أبو يعرب المرزوقي 17 الأسماء والبيان
- -- عليه ومن المستقبل المشترك الذي يتم تجاهله بل وتخريبه بسبب ما بينا في الفصل السابق من تفتيت الرؤية اللاحمة. فكل كلام على الجامعة العربية خداع .وكل كلام على التجمعات الإقليمية أكثر خداعا. وما يعرفه تجمع الخليج حاليا عرفه قبله تجمع المغرب العربي وتجمع النيل وتجمع القرنين (قرن الجزيرة العربية وقرن افريقيا) وعرفه قبلهم جميعا تجمع الهلال بسبب الاقتتال بين البعثين العراقي والسوري. وفي الحقيقة ما يوجد هو تجمعان كلاهما تابع لأحد ذراعي الحرب على الأمة والإسلام: تجمع الأنظمة التي تحتمي بإيران وهي أربعة في العلن وأكثر في السر (العراق وسوريا ولبنان ويمن الحوثي) تجمع الأنظمة التي تحتمي بإسرائيل وهي تقريبا كل البقية .تقريبا تعني أن بعضها محمي من كلا الذراعين. وكل تجمع منهما يتنافس المنتسبون إليها على ترضية الذراع الحامية والقوة الخارجية التي تسندها وتوظفها لمنع قلب الأمة من الاستئناف لأن استئنافها يعني عودة الإسلام للفاعلية التاريخية الكونية التي كانت له قبل تفتيت داره وتشتيت تاريخه وعلى الحرب على كل راس تينع في الأمة وحان قطافها. ولأختم هذا التوصيف لأمر إلى ما هو أهم :فهذا السلوك الذي لا يحتاج إلى كثير كلام ليفهمه القارئ لأنه يعيشه مثلي وربما أكثر بسبب مباشرته له في حياته وفي أعماله خاصة يمكن القول إن الظاهرة عدم فهم معنى الجوار في القرآن وخاصة في مقدمة ابن خلدون التي تأسست عليه. وأبدأ بالجوار في مقدمة ابن خلدون .فأولا هو لا يسميه جوارا بل تنازلا أي مشاركة في المنزل .والمنزل هنا ليس البيت بل الحصة من المكان أو مورد الرزق أو ما سميته الحيز الجغرافي الذي تستمد منه الجماعة شروط القيام العضوي خاصة :سماه تنازلا من أجل التعاون على سد الحاجات .وهي عنده نوعان. أبو يعرب المرزوقي 18 الأسماء والبيان
- -- فالحاجات التي لأجلها يتنازل البشر أي يشتركون في المنزل بهذا المعنى هي الرعاية والحماية أو مضمون سورة قريش (اطعمهم من جوع رمز الرعاية وآمنهم من خوف رمز الحماية) :وهما شرطا السيادة ومن ثم فالمدلول أن التنازل هو شرط حرية الجماعة لأنها ترعى ذاتها وتحميها ولا تخضع لغيرها. والعرب اليوم منقسمون بين المحتاج للرعاية والمحتاج للحماية والمحتاج لهما معا .ولا يوجد بلد عربي واحد ليس محمية بدليل القواعد .وتعدد القواعد في بلد ما يشبه تعدد حاجة العاهرات للقوادة .فتعددها لا يعني أنها تحررت بل يعني أنها ازدادت تبعية .ما يظن حلا للحماية هو غرق في التبعية. لكن للجوار أو التنازل -المشاركة في المنزل-عند ابن خلدون معنى آخر أسمى لأنه غاية وليس أداة مثل التنازل الاول الذي هو أداتي وليس غائيا إلا مرحليا .إنه التنازل \"للأنس بالعشير\" .ولهذه العلة سمى علمه باسمين أولهما للتنازل من أجل يسد الحاجات والثاني للتنازل الذي من أجل الأنس بالعشير. سمى علمه \"علم العمران البشري (=علم التنازل من أجل سد الحاجات) والاجتماع الإنساني (=علم التنازل من أجل الأنس بالعشير)\" .وطبعا فهو لم يفصل الأمر على هذا النحو بل إن ذلك هو ما يترتب على محاولته التأسيس على هذين المستويين من التنازل وهو ما يمكن من الوصل مع نظرية الرمزين الكونيين. فهذه النظرية التي وضعتها تهدف إلى رد كل شيء إلى رمز التبادل ورمز التواصل. والاول هو رمز الفعل الذي يتصل بالمدد الكياني العضوي خاصة وهو العملة التي يقدر بها تبادل سد الحاجات والثاني هو فعل الرمز الذي يتصل بالمدد الكياني الروحي خاصة وهو الكلمة التي تقدر بها تواصل معاني الأنس. وكل ما يوجد بين البشر أو بينهم وبين الطبيعة أو بينهم وبين ما وراءها أو بينهم وبين التاريخ أو بينهم وبين ما ورائه كل ذلك يرد إلى هذين الرمزين رمز التبادل أو العملة أبو يعرب المرزوقي 19 الأسماء والبيان
- -- والقيمتين الاقتصاديتين (الاستعمال والتبادل) ورمز التواصل أو الكلمة والقيمتين الأسميين (اللااستعمال المطلق والهدايا). والقيمة الموحدة للقيم جميعا لأنها المحدد لسلم القيم هي المنشود الديني أو الروحي الذي يجعل الإنسان أهلا للاستخلاف .وطبعا الكلمة لا تقتصر على التواصل من أجل ما يتميز به المستوى المتعالي على الاقتصادي بل هي أيضا من أدوات التبادل لأن شرطه التواصل المصلحي بين المتبادلين. وهذا الدور التواصلي التابع للتبادلي نوعان :شارط لموضوع التبادل وشارط لنظام التبادل .فالتواصل المعرفي بين البشر شارط لموضوع التبادل لأن العلم هو الذي يستخرج المدد من معينه سواء كان الأحياز الخارجية أو الأحياز الداخلية .وهو شارط لنظامه لأن كل تبادل مسبوق بتفاوض وتعاقد وهو التشريع. ولعل المفهوم المحير في الكلام على التواصل باعتباره وظيفة الكلمة الأسمى التي تعرف قيمه بعكس ما يعرف به قيم التبادل الاقتصادي .فقيمتا التبادل الاقتصادي الاستعمالية والتبادلية معلومتان .لكن قيمة اللااستعمال والتهادي التواصليتين هما اللغز في حياة البشر وهو تابع للأنس بالعشير. وهو في آن ما يترتب على ما سميناه فني المائدة والسرير .فالعشير هو ما لا يقبل الاستعمال التبادلي إذ لا أحد يجعل ابناءه أو زوجته أو اخته أو أمه بضاعة أو خدمة لأن قيمتهم لا تقدر بأي ثمن وهم إذن ليسوا للاستعمال .والتهادي تبادل الهدايا الثمينة ليس تبادلا اقتصاديا بل تواصل عاطفي. أبو يعرب المرزوقي 20 الأسماء والبيان
- -- تركت القيمة المطلقة لتكون بداية الفصل الخامس والاخير من المحاولة :فهي أصل كل القيم لأنها اساس سلمها .فما الذي يجعل البشر يميزون بين ما يقبل التبادل وما لا يقبله لأنه ينتسب إلى التواصل بالمعاني التي شرحنا في الفصل الرابع :الله الذي هو القيمة المطلقة التي هي جوهر الدين. فما يشعر به الإنسان مقوما لذاته من حيث هو إنسان هو صورة من الله يجدها في نفسه ويرى أنه مهما فعل يبقى دونها لأن مقومات وجوده هي التي تثبت له ذلك ومن ثم فعين مقومات وجود الإنسان هي أدلة وجود الله وكمال ذاته وصفاته .أريد وأعلم وأقدر وأحيا وأوجد لكني أشعر بكونها متناهية جميعا. شعوري بها المصحوب بشعوري بتناهيها وهو ليس شعور وهمي أو من الأحلام بل هو أكثر من الكوابين الوجودية المعيشة فعلا متضايف مع المنشود المطلق الكامن في الموجود النسبي: أشعر بأن تناهي مقوماتي الخمسة متضايف مع لا تناهي صورتي عن الله بوصفه المطلق واللامتناهي وهي تلازم وعيي بذاتي دائما. ويمكن القول إن كل الفلسفة المعاصرة أي التي حصلت بعد هيجل هي علم كلام جديد موضوعه هذه الصورة التي رد إليها ما هي رمزه ودليله في الوعي الإنساني :فقول فيورباخ في الاستكمال الإنساني بالصورة الإلهية واعتبار الإنسان هو خالق الله هو أساس الفكرين الحديث المتأخر وما بعد الحديث. وهذا الفكر الحديث المتأخر-ما بعد هيجل-وما بعد الحديث هو مثلجة للفكر الديني والفلسفي في مستوى النظر وأدلجة في مستوى العمل وهو نكوص إلى القول بالمطابقة بمعنيين :إما المطابقة برد الوجود إلى الإدراك وهو الماركسية خاصة أو بنفي ما وراء الإدراك أصلا هو النيتشوية خاصة. أبو يعرب المرزوقي 21 الأسماء والبيان
- -- ولكل من هذين التصورين نظير في الوجوديات المؤمنة والملحدة .وأصل هذه الرؤى الاربعة هيجلي ناتج عن العودة إلى القول بالمطابقة أو النكوص عن الكنطية التي أسست في الفكر الفلسفي الغربي المفهوم الحد -الشيء في ذاته -الذي سعى الغزالي وابن تيمية وابن خلدون لتأسيسه في فكرنا :نفي المطابقة. ونفي المطابقة في نظرية المعرفة يلازمه نفيها في نظرية العمل .فتكون المعرفة اجتهادا غير محيط ويكون العمل جهادا غير محيط .والمفهوم الحد دينيا هو مفهوم الغيب وقد حاول الغزالي وضع مفهوم حد نكص دونه وهو مفهوم \"طور ما وراء العقل\" وحاول ابن تيمية وضعه إيجابا بالقول بتوال لامتناه للتصورات الأكمل فالأكمل. لكن من صاغ المفهوم الحد دون تشكيك في قدرات العقل التي هي دون هذا المفهوم هو ابن خلدون في فصل الكلام (العاشر من الباب السادس ) وفي فصل ابطال الفلسفة وفساد منتحلها (الحادي والثلاثون من الباب السادس) حيث بين أن الوجود أوسع من الإدراك فأطاح بأساس كل الفلسفة القديمة والوسيطة قبله. وهذا التحديد هو الذي يؤسس للقيمة المطلقة التي هي أصل القيم لأنها محدد لسلم القيم .فمن دون مفهوم الله أو القيمة المطلقة واللامتناهية لا يمكن بناء سلم للقيم يفصل بين قيم التبادل بمستوييها وقيم التواصل بمستوييها .ومن دونها كل شيء يصبح من النوع الأول من القيم وهو الغالب على العولمة. وهو ما يعني أن الأخلاق السائدة هي أخلاق التجار كما يصفها ابن خلدون .كل شيء يقدر بقيمته التبادلية ولا وجود لتواصل .ولما كانت القيمة التبادلية تجارية فهي ترد كل شيء إلى بعده القابل للتقدير برمز التبادل أو رمز الفعل أي بالعملة السائدة .واليوم وخاصة عند العرب والمسلمين هي الدولار. وطبعا لم أضع نظرية الرمزين الأكثر كلية لأستثني من الحاجة إليهما من يتحرر من سلطانهما لأن لهما دورا لا يخلو منه عمران .المشكل هو في انقلاب دورهما من أداة للتبادل أبو يعرب المرزوقي 22 الأسماء والبيان
- -- إلى سلطان على المتبادلين وهو معنى الربا التبادلي ومن أداة للتواصل إلى سلطان على المتواصلين وهو معنى الخداع التواصلي. العولمة ليس عيبها استعمال الرمزين بل كون رمز التبادل هو بالأساس رمز الربا التبادلي -البنك -ورمز التواصل هو بالأساس رمز التواصل الخداعي-اعلام التلهية .فالأول يستبد بالمدد القيامي العضوي والثاني يستبد بالمدد القيامي الروحي .فيصبح الإنسان عبدا وهو يتوهم نفسه حرا. عصر العولمة بهذا المعنى هو عصر العبودية الشاملة وليس كما يوهمنا الكلام الخادع والعملة الربوية عصر الحرية والتعاقد في التبادل والتواصل .ذلك أنه لا يمكن أن يحصل تعاقد بين طرفين غير متساويين .فالأقوى هو الذي يحدد شروط العقد فلا يبقى عقدا بل صك عبودية الضعيف للقوي لغياب رب العباد. فتكون العولمة نكوصا إلى عبادة العباد بدل رب العباد .ولذلك فأصحابها لا يمكن ألا يحاربوا الإسلام وحتى لو لم يوجد الإسلام ووجد شيء آخر يشخص الداء هذا التشخيص -وهو موجود عند بعض الفلاسفة -فإن أصحابها سيحاربوه بنفس الضراوة التي يحاربون بها الإسلام :لكن الإسلام سيظهر عليهم. والآن نفهم لماذا يتضمن القرآن أحكاما عجيبة يعسر فهمها من دون نظرية الرمزين وانقلابهما من أداتين للتبادل والتواصل إلى سلطانين على المتبادلين والمتواصلين فيصبحان أصلا للنكوص من العبودية لله وحده إلى العبودية لأرباب الرمزين التبادلي والتواصلي في العولمة :وهما وجها الشرك بالله. والشرك بالله لا علاقة له بالوثنية بمعناها الاول بل المعنى هو الوثنية بالمعنى الذي بالتخلص منه نتخلص من العبودية للعباد بالعبودية لرب العباد أعني ما يترتب على تبين الرشد من الغي أو شرط الحرية العقدية :فلا يمكن الإيمان بالله من دون الكفر بالطاغوت .والطاغوت يقلب دور الأداتين. أبو يعرب المرزوقي 23 الأسماء والبيان
- -- والآن نفهم لماذا يغفر الله كل الذنوب إلا الشرك به-أي عدم الكفر بالطاغوت أو عبادة العباد-ثم يعلن الحرب على الربا التبادلي ويمقت من يقول ما لا يفعل أشد مقت أي على الخداع التواصلي .فالأول يجعل أداة التبادل سلطانا على المتبادلين والثاني أداة التواصل سلطانا على المتواصلين. ولست غافلا عن كون الكثير سيتصور أني قلبت العلاقة بين الدين والدنيا لكأني جعلتهما هو في خدمتها وليست هي في خدمته .وهذا الوهم علته المقابلة بين الدين للآخرة وليس للدنيا لكأنه يفصل بينهما .فالدين للدنيا من حيث هي مطية الآخرة وامتطاؤها هو العمل بقيم الدين فيها الحساب بها له أو عليه. التحريف هو ما يقوم به من جعل الدين هو العبادات وليس المعاملات .فالعبادات من دون المعاملات هي النفاق المطلق .والمعاملات من دون العبادات هي الإلحاد المطلق والدين هو المعاملات التي تجري بما فيها من عبادات أي بما فيها من أخلاق القرآن وأصلها جميعا حضور الله فيها كلها. وحضور الله فيها هو معنى فإن لم تكن تراه فهو يراك .الإيمان الصادق هو هذا الوعي بالحضور الإلهي رقيبا قيميا لكل أفعال الإنسان وهو معنى كونه خليفة يعمل بما يعتقد أن المستخلف استخلفه من أجله .وكل فهم للقرآن يخالف دلالة هذا الحضور كفر به أو كفر بحقيقته وعبودية لغير الله. بل وأكثر من ذلك هو كفر بتعريف الإنسان الخلدوني الذي هو نظرية القرآن في الإنسان -الانثروبولوجيا القرآنية\"-رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\" .وقد خصصت لهذه المسألة محاولة من خمسة فصول لفهم دلالة نظرية القرآن في الإنسان :وجوده في الأرض فرصة ثانية لامتحان أهليته للاستخلاف. في الرؤية المسيحية كما تعبر عنها الكنسية-ليس للمسيحية كتاب منزل أو لنقل إن الكتاب المنزل لم يعد موجودا الموجود هو روايات بعض الحواريين وهي أشبه بالحديث عندنا- أبو يعرب المرزوقي 24 الأسماء والبيان
- -- وجود الإنسان الأرضي عقاب للتكفير عما يسمونه الخطيئة الموروثة والمسيح شفيع ومضح من أجل غسلها والكنيسة هي المغسلة. لكن القرآن لا يعتبر خطأ آدم وحواء خطيئة موروثة لأن الله اجتبى آدم وعفا عنه وأعطاه هو وحواء فرصة ثانية للاختبار اهليته للخلافة في شكل رهان لإثبات أهليته بخلاف ما تقول الملائكة وبخلاف رهان ابليس على عدم أهليته :هذه الأمثولة القرآنية هي الرؤية الوجودية للعلاقة بين الحياتين. ولذلك فعلماء الدين عندنا نحن السنة دون أن يصلوا إلى ما وصل إليه مراجع الشيعة بالغوا في تحويل علمهم من أداة للتذكير -إذ حتى الرسول إنما هو مذكر-إلى سلطان على المستذكرين في حين أن القرآن قال للنبي إن ليس عليهم بمسيطر .فكانت النتيجة خطوة نحو تمسيح الإسلام وصنع كنسية ذات سلطان. لكنهم ولله الحمد لم يصلوا إلى ما وصل إليه مراجع التشيح الذين أسسوا لكنسية تتوسط في التربية بين المؤمن وربه وحكم بالحق الإلهي لأسرة بقول لا يختلف عن القول بـالشعب المختار عند اليهود سموها آل البيت أو الأسرة الحاكمة عند الفرس وقبل ذلك عند الفراعنة .وكل ذلك مناف للقرآن منافاة مطلقة لأن العلاقة بين المؤمن وكل إنسان وربه علاقة مباشرة لا وساطة فيها والحكم للأمة كلها لا وصاية وليس لأسرة. وهكذا فالطاغوت بمعنييه -سلطة الوساطة في التربية وسلطة الوصاية في الحكم-مبنيتان عن قلب دور الكلمة إلى خداع إيديولوجي في التواصل وهو جوهر الوساطة الكنسية وربا اقتصادي في التبادل وهو جوهر الوصاية السياسية .وهذان هما جوهر التشيع عقيدة وممارسة وجوهر التسنن ممارسة لا عقيدة. أبو يعرب المرزوقي 25 الأسماء والبيان
- -- لما ألغى الإسلام الوساطة في التربية وأنهى الكنسية فاعتبر الرسول نفسه 'إنما أنت مذكر\" وألغى الوصاية في الحكم وأنهى بالحق الإلهي فيه فاعتبر الرسول نفسه \"لست عليهم بمسيطر\" لم يكن بوسع الأمة أن تطبق هذا الحل السابق لشروط تحقيقه بقرون عاد المسلمون إلى ما يسد الفراغ مما كان موجودا. وما كان موجودا نوعان :النوع البيزنطي والفارسي على الكنسية والحق الإلهي والنوع الجاهلي المبني علة على التغلب وحق القوة .فحكان الحكم في دار الإسلام بالثاني وكانت المعارضة بالأول .ولما تنقلب العلاقة بين الحكم والمعارضة يصبح الطرفان متماثلين :حضور الله والإنسان فيهما اسمي لا غير. وكان هيجل يعتبر مثالية الرؤية الإسلامية للنظام السياسي والاجتماعي وغلبة التجريد على التعيين فيها علة لعدم إمكانية تأسيس دولة القانون ومجتمع التنوع الطبقي اللذين يعتبرهما متنافيين مع المساواة المطلقة وعدم وجود تربية بالوساطة وحكم بالوصاية ما يجعل الجماعة في فوضى دائمة حسب رأيه. وإذا وصلنا رأي هيجل بعصره فضلا عن الوصل بعصر نزول القرآن تبين أن هيجل كان على حق لأن تطبيق الحل القرآني لتربية لا يتحول فيها المربي لوسيط ذي سلطان روحي ولحكم لا يتحول فيها الحاكم إلى وصي ذي سلطان مادي يبدوان أمرين مستحيلين بسبب عدم توفر شروط التبادل والتواصل المناسبين لذلك. كيف يفهم العقل الإنسان دينيا يأمر ربه رسوله بألا يكون إلا مذكرا في التربية (مثل سقراط) وبألا يكون مسيطرا في الحكم (مثل من لا يحكم بالحق الإلهي أو القوة الرمزية أو بالحق الطبيعي أو القوة المادية) في عصر يستحيل فيها أن تكون التربية سقراطية والحكم مماثلا لها بمعنى الحكم الذاتي؟ أبو يعرب المرزوقي 26 الأسماء والبيان
- -- كيف يمكن أن تكون البشرية حينها ذات سياسة حكم معيارها النساء 1وذات سياسة تربية معيارها الحجرات 13وذات نظام ديني معياره المائدة 48وذات نظام شامل معياره الشورى 38وذات رؤية فلسفية معيارها تبين الرشد من الغي أي البقرة 256؟ أليس هيجل محقا في الكلام على المثالية والتجريد؟ والسؤال الآن :هل لو كان هيجل في عصرنا الحالي هل كان سيقول ما قاله في الرؤية القرآنية أم كان سيكون أكثر المؤيدين لها لأن هذه المعاني التي ذكرتها في سؤال السابق هي عين ما صار منشود كل شباب العالم فضلا عن كون شروطه الإجرائية لم تعد ذات إشكال بعد فشل الديموقراطية والثيوقراطية؟ هل يمكن بعد أن بينت أن هذين النظامين هما في الحقيقة متحدان في بنيتهما العميقة وهما عين الأبيسيوقراطية أو دين العجل الذي قلب وظيفة معدنه أو العملة من أداة تبادل إلى أداة سلطان على المتبادلين وقلب وظيفته خواره أو الكلمة من أداة تواصل إلى أداة سلطان على المتواصلين؟ الجواب بين بنفسه. ومعنى ذلك أن ما بينته ثبت أن ما يجري في الإقليم ليس فيه شيء يجري بمجرد الصدفة. فطبيعة الازمة الكونية تقتضيه لأن علاجها لن يكون ممكنا من دون هذه الحلول الإسلامية التي كانت تعتبر مستحيلة عقلا وتاريخا وصارت هي الوحيدة التي يمكن أن تخرج البشرية مما هي فيه من أدواء. فطبيعي أن يكون كل المستفيدين من هذه الأدواء مثلهم مثل الفيروسات التي تعيش على الاغتذاء من بدن من تحل فيه أن يحاربوا الدواء بما يستطيعون من قوة .لكن الدواء لأنه عين المناعة البشرية -الدين الإسلام هو فطرة البشرية عندما تتحرر من النسيان وهو معنى الذكر-دواء لا يقهر أبدا. فإنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر تعني أن الله يقول لرسوله وظيفة الإسلام هي أيقاظ المناعة الذاتية التي توجد في المدد المستمد من الأحياز الخارجية ومن الأحياز أبو يعرب المرزوقي 27 الأسماء والبيان
- -- الداخلية والمتعين في الامتداد والمدة بحيث إن الإنسان بعد التذكير الخاتم وعملا بفصلت53 يرى آيات الله في الآفاق وفي الأنفس. فآيات الله في الآفاق وفي الأنفس التي تبين حقيقة القرآن فيكتشف الإنسان في ذاته ما سيحرره من الفساد في الأرض يعلمه القرآن أنها مصدر مدده وسفك الدماء بين البشر يعلمه أنهم من نفس واحدة (النساء )1وأن التفاضل الوحيد بينهم هو التقوى والتآخي سره التعارف معرفة ومعروفا (الحجرات .)13 ولست أنتظر من المسلمين الحاليين تمثيل الإسلام الذي سيبلسم أدواء البشرية لأن أكثر البشر المرضى حاليا بهذه الأدواء هم المسلمون عامة والعرب خاصة .فابعد الناس عن قيم الإسلام هم العرب وخاصة منهم من يدعون الأصالة .فهم يعتمدون علوم الملة التي بينت أنها منافية تماما للرؤية القرآنية. والدليل على ذلك دامغ .فالقرآن يقول في فصلت 53إن حقيقته هي في آيات الله التي يرينها في الآفاق والأنفس وهم يهملون هذا الامر ويستبدلونه بالنهي الذي جعلوه أمرا أعني النهي عن الزعم بعلم الغيب من خلال تأويل آيات القرآن المتشابهة (آل عمران :)7 اهلموا الشهادة وانشغلوا بالغيب. فكانت علوم الملة كلها دون استثناء (التفسير اصلا للفقه وأصوله وللتصوف وأصولها في العمل والشرع واصلا للكلام وأصوله وللفلسفة وأصولها في النظر والعقد) تركت عالم الشهادة القابل للعلم وانشغلت بعالم الغيب المحجوب فكانت بذلك مصدر زيغ القلوب وابتغاء الفتنة وهي علة انحطاط الأمة .والعلة في ذلك ليست لفساد في عقولهم ولا لقلة ذكاء بل لعلة مضاعفة هما خطآن جسيمان في فهم نظرية القيم تقييما ومعرفة: .1خطأ أكسيولوجي اعتبار الأمر الواقع يمكن أن يكون أمرا واجبا وأن ما يحدث في التاريخ ينبغي أن يصبح مثالا أعلى يقلد دون أن يتجاوز حتى لو كان هذا التاريخ ممثلا بلحظة الرسول نفسه إذ هو مجتهد لا وسيط ومجاهد لا وصي. أبو يعرب المرزوقي 28 الأسماء والبيان
- -- .2وهو ابستمولوجي في فلسفة القانون أي في أصول الفقه وأصول الدين .لما كانت الأمة قد وقعت في حروب أهلية ناتجة عن الفتنة الكبرى التي أدت إلى اغتيال الخليفة الثالث (وهي بدأت من يوم السقيفة وتجذرت باغتيال الفاروق واكتملت باغتيال ذي النورين) أدت إلى حالة الطواري. الدولة الأموية لم تحكم بالدستور القرآني بل بحالة الطوارئ وتعطيل الدستور دون نفيه .وعلامة ذلك أن كل أحكامها ترد إلى الضرورة التي تبيح المحظور قرآنيا فصارت القوانين الخاصة بالطواري هي القاعدة ومنها استنتج أن الخاص في القرآن ناسخ للعام قياسا على قانون الطوارئ وكأنه ناسخ للدستور. فصار الخاص عاما لأن العام نسخ .ومن ثم فكل القواعد الدستورية المتعلقة بالتربية والحكم سقطت وعوضتها القواعد الخاصة بحالة الطواري وظلت الأمة تعيش على هذه الحالة إلى اليوم .فلكأن أمريكا بعد 11سبتمبر مثلا قد أبقت على تعطيل بعض بنود الدستور بسبب الطوارئ وجعلت التعطيل دستورا بديلا. ومن ذلك في التربية أن الأمر قلب نهيا فأهمل عالم الشهادة ولم يكن لفصلت 53أدنى دور في علوم الملة بحيث إن الأفاق والأنفس ظلت مهملة والنهي قلب أمرا فانشغلوا بعالم الغيب ولم يكن لآل عمران 7أدنى دور بل تحيلوا عليها فجعلوا واوها للعطف وعطفها كفر لأن تأويل الله محيط وعلم الإنسان محدود. جعلوا \"الواو\" الاستئنافية فيها عطفية فأصبح زيغ القلوب وابتغاء الفتنة هو الثمرة الوحيدة للعلوم المزعومة للراسخين في العلم المزعومين .وطبعا القرآن لا يتكلم على المسلمين بالمعنى الخاص بنا بل على الإنسان من حيث هو مسلم بالفطرة وهو ما يعني أن كل البشرية وقعت في شيء من هذا فكانت الاشرئباب لعلم الغيب مصدرا لتحريف الأديان. وتصورا رؤية آيات الله في الآفاق والأنفس أمرا يمكن أن يفهم بالمعنى العامي الذي يستعمل في الوعظ والإرشاد وليس أمرا يقتضي رؤية قوانين الطبيعة وسنن التاريخ (الآفاق والأنفس) في الأعيان ورؤية تجهيز الإنسان لبصيرته بما يتطلبه العلم في النظر أبو يعرب المرزوقي 29 الأسماء والبيان
- -- والعقد والفعل في العمل والشرع أعني كل ما كان مفقودا في لغو العلوم التي لا تتجاوز الأقوال ولا تؤسس للأفعال. فالـ\"علوم\" والـ\"أعمال\" التي لا تعمر الأرض ولا تحقق شروط الاستخلاف ليست علوما ولا أعمالا بل هي تخريف هدفه الوساطة والوصاية أي السلطان على الإنسان بدل تحريره من سلطان الطبيعة ومن سلطان التاريخ بالنظر والعقد لحل العلاقة العمودية بالعالم الطبيعي ومن سلطان العمل والشرع لحل العلاقة الأفقية بالعالم التاريخي :فيتحرر من الوساطة في تربيته والوصاية في حكمه. ولما أدركت هذه العلاقة فهمت علة ما وقعت فيه السنة من مبالغة في تطبيق سد الذرائع ضد الفكر الفلسفي لأنهم ظنوا أن الفلسفة هي ما كانت تستعمله الباطنية للحرب على الدين لكأن الواحد منا اليوم يتصور الفلسفة هي ما تستعمله النخب الماركسية العربية للحرب على الدين :أعداء الفلسفة ظنوا فلاسفة. الباطنية وظفت الفلسفة توظيف الماركسية لها والسنة بمثل هذا الفكر القاصر يحاربون الفلسفة لظنهم أنها ما يمثله الباطني والماركسي .فمن يقرأ رسائل اخوان الصفا على أنها فلسفة لا يفهم معنى فلسفة .عرض نتائج بعص الفلسفات ليس فلسفة بل هو لعب حمقى لمجرد اعتبارها حقائق نهائية أو بديل من الدين. ومن أراد أن يفهم ذلك فليقرأ بعض خريجي العربية المتفلسفين في الدين .فما عرفت البشرية أكثر حمقا منهم وبعدا عن الفلسفة والدين .وكذلك الأمر عند الباطنية كما بين ذلك الغزالي في فضائحهم :فمن يستعمل الحيل الجدلية لإثبات الوساطة والوصاية لا يمكن أن يكون مؤمنا بالفلسفة ولا بالدين. البحث في نظام القرآن النسقي كان شرطا لتجاوز هذه المعوقات التي جعلت علوم الملة الخمسة تتحول إلى عوائق ابستمولوجية وأكسيولوجية ألغى كل أدوات الرعاية (العلم بقوانين الطبيعة وتطبيقاتها) والحماية (العلم بسنن التاريخ وتطبيقاتها) فصرنا أمة عزلاء بخلاف ما أمرت به الأنفال .60 أبو يعرب المرزوقي 30 الأسماء والبيان
- - - لما فتت علماء الملة القرآن كل يسحبه نحو مجال بحثه هل تساءلوا عما يوحد بين هذه المجالات أي هل افترضوا أن القرآن لا بد وأن يكون فيه عمارة ارشيتاكتونية -أو بلغة فلاسفتنا القدامى علما رئيسا يؤسس لكل ما بني عليه من علوم وهي خمسة :التفسير والفقه وأصوله والتصوف وأصوله في العمل والشرع. ثم الكلام وأصوله والفلسفة وأصولها في النظر والعقد؟ أ أم إن العكس هو الذي وقع فصار القرآن وتفسيره تابعا لهذه المجالات ففرضت عليه مطالبها وكأنه \"صندوق\" أدوات للصناع؟ ثم لما بنيت المذاهب الفقهية والطرق الصوفية والنحل الكلامية والمدارس الفلسفية صارت هي الاصل وهو الفرع؟ يصعب أن يجادل أحد في أن هذه الحالة الأخيرة هي التي سيطرت حتى في العصر الحديث عندما عاد فكر المسلمين إلى محاولة إحياء علوم الملة الماضية خلطا بين تاريخ المعارف السابقة وبين اعتبارها ما تزال علوما يمكن أن تفيد في إعادة بناء الأمة تحقيق شرطي السيادة أي الرعاية والحماية. وإذا اعتبرنا التفسير هو هذا العلم المؤسس للأربعة الباقية فمن أو الأرشيتاكتونيك أو العلم الرئيس فمن المفروض ألا يكون مثلها أو واحدا منها ومن المفروض أن يكون تعليلا لكونها تلك جمعا ومنعا ولكونها كذلك من حيث موضوع البحث وطريقة البحث وغاياتها ووظائفها وطبيعة علاقاتها بعضها بالبعض. فهذه خاصيات العلم الرئيس .وأولى مهامها الجواب عن هذه الأسئلة التي أولها تعريف ذاته وتحديد دورها -رئاستها لبقية العلوم التي تتأسس عليه-كيفية التأسس عليه وأي نوع من العلاقة تصله بما يعتبره موحدا لأغراضه :فالقرآن يعرف نفسه رسالة كونية دورها التذكير الخاتم فالديني في دين. أبو يعرب المرزوقي 31 الأسماء والبيان
- -- ويكفي مثال واحد على صحة حكمي على انحراف علماء الملة :فخرافة العلماء ورثة الأنبياء جعلهم يرثون ما لم يدع الرسول ملكيته .ما يعني أنهم يكذبون على الرسول لينسبوا إليه ما يريدون زعمه لأنفسهم .فالله يقول له \"إنما أنت مذكر\" وهو صاروا وسطاء بين الإنسان وربه .فشرعن جلهم سيطرة المتغلب. وبهذا المعنى تحرف مفهوم \"أولي الأمر منكم\" لأن منكم سقطت وصارت من يتولى الأمر عنكم وليس منكم فاخذ العلماء الاجتهاد وجعلوه فرض كفاية وشبه مقصور على ما يوطد وساطتهم على تربية الأمة وأخذ الأمراء الجهاد وجعلوه فرض كفاي وشبه مقصور عليهم ما يوسط وصايتهم على حكم الأمة. والوساطة في التربية تتنافى مع \"إنما أنت مذكر\" والوصاية في الحكم تتنافى مع \"لست عليهم بمسيطر\" .إذن هم يفعلون العكس ويسمون ذلك وراثة عن النبي .ولا يمكن أن تجد تحريفا أشد من هذا لأنه قلب المعنى تماما فصار التذكير التربوي سلطانا روحيا وسيطا وصار التذكير الحكمي سلطانا ماديا وصيا. ولما كان يمتنع أن يصبح المربي وسيطا إذا كان علمه ذا صلة بالشاهد لأن الشاهد مشهود للجميع بمجرد أن يبحث فإن وساطتهم صارت مشروطة بقلب أمر فصلت 53إلى ما يشبه النهي وقلب نهي آل عمران إلى ما يشبه الأمر :ذلك أن كل الأكاذيب حول الغيب لا يمكن دحضها لأنها \"لدنية\". وأول شيء كان ينبغي أن يتفطن إليه من يريد أن يطلب من التفسير بوصفه العلم الرئيس بالمعنى الذي شرحت هو أن يسلم بأن القرآن ليس فيه علم أصلا بل فيه رؤية تؤسس للعلم والعمل والاخلاق والفن وكل شروط الحياة من حيث المبادئ والادوات والغايات والطرق الموصلة إليها بقدر مستطاع الإنسان. وما يظن علوما في القرآن أمثلة لتنزيل الرؤية وليست علوما .وقد ظن عبد الرحمن بدوي رحمه الله أن مقدمة ابن خلدون مثلا استقرائية خلطا بين الامثلة المضروبة فيها أبو يعرب المرزوقي 32 الأسماء والبيان
- -- وبين العلم الخلدوني فتوهم أنه علم مستقرأ وعاب عليه أنه لم يكن يعرف الشرق وإلا لكان استقراؤه أتم ولقبل بنظرية أرسطو في الدولة. ورغم أن بدوي من كبار عقول مصر والعرب في العصر الحديث فهو قد تسرع في الحكم وظن أن ابن خلدون بهذه السطحية أو ربما لتوهمه ان العلم يمكن أن يكون استقرائيا. فلا يوجد علم استقرائي أصلا وليست المقدمة مستقرأة من تجارب عاشها ابن خلدون والتصاق بالأنظمة في المغرب العربي. فلو كان ابن خلدون مستقرئا لعلمه من المغرب لما سماه علم العمران البشري والاجتماع الإنساني .وقد ضربت هذا المثال حتى يكون قصدي بأن القرآن الكريم رؤية لشروط كل الأنشطة التي ينسبها الله فيه للإنسان من وجهي وظيفته في العالم: .1كمستعمر في الأرض .2كمستخلف فيها. والرؤية تتعلق بالاستعمار في الأرض وبالاستخلاف فيها .فهبنا تصورنا فهمهم متعلقا بالاستخلاف أي ما ردوا إليه القرآن مجرد معين أو صندوق ماعون للوعظ والإرشاد والكلام على الآخرة والغيب بدلا مع نسيان \"في الأرض\" من إني جاعل \"في الأرض\" خليفة .لكن كيف نفهم \"مستعمر في الأرض\"؟ هل يوجد في علومهم ما يمكن أن يعتبر محققا لشروط تعمير الارض؟ أم إنها كلها لا تستهدف إلى تحقيق شروط الوساطة للعلماء والوصاية للحكام؟ والبقية كلام على الغيب الذي هو بالجوهر محجوب وكل كلام عليه كذب في كذب لأنه كلام على ما ليس كمثله شيء. وهذا حتى في فلسفتهم. فلو فهموا أن القول بالمطابقة في المعرفة وزعم الرسوخ في العلم مؤسسا لجعل واو آل عمران 7عطفية كما يرى ابن رشد من أكبر الأوهام لما ادعوا أن رسوخهم في العلم يجعلهم يردون ما يسمونه نقلا إلى ما يسمونه عقلا وهو كله صادر عن وهم جعل علمهم محيطا والوجود مردودا إليه ومن ثم نفي الغيب. أبو يعرب المرزوقي 33 الأسماء والبيان
- -- ليس في القرآن علم لكن فيه رؤية للعلم الذي يمكن أن يعمر به الإنسان الأرض وهي مهمته الأولى التي يذكره بها .فهو يقول له إن كل المخلوقات بقدر أي بمقدار ومن ثم فلا بد من الرياضيات .ويقول له إن ذلك لا يكفي بل لا بد من استعمال الحواس ومن ثم فلا بد من التجربة .والعلم هو معرفة القوانين. وهذه رؤية ابستمولوجية خاصة وهي مشفوعة بمفهوم حد يجعل البحث لا يغرق في الغيبيات ويعتبر ذلك من مجال الإيمان وليس من مجال العلم التجريبي .ومن دون العلم الرياضي التجريبي لا يمكن معرفة القوانين التي هي العلم الحقيقي والتي هي شرط بتطبيقها لتعمير الارض وسد حاجات الرعاية والحماية. وقد يعترض علي بأني أدرجت الفلاسفة مع بقية العلماء الآخرين أي مع الفقه والتصوف والكلام .والمعترض يظن الفلاسفة كانوا علماء بهذا المعنى .وهذا كذبة تشبه ظن المتفلسفين اليوم علماء .فمن في نهاية القرن 12بعد الميلاد امثلة أرسطو العلمية في فلسفته يظنها علما مطلقا ماذا تنتظر من علمه؟ وإذا كان هذا الرجل يتصور نفسه راسخا في العلم ويعطف بدل أن يستأنف في آل عمران 7ليرد المتشابه إلى \"العقلي\" الذي من هذا النوع ولم يتساءل حتى مجرد التساؤل عن رؤية القرآن للمكان والزمان بالمقارنة مع رؤية ارسطو ليعلل الفرق بينهما بدل ردها إليهما هل له روح علمية؟ فإذا كان عالم أرسطو الطبيعي لا يتجاوز مجرة التبانة ويعتبر الزمان واحد في كل العالم وكانت بعض إشارات القرآن تنفي ذلك بل وتعتبر بعض العوالم اليوم فيها بخمسين ألف سنة من أيامنا ولم يعجب من ذلك فلا بد أن يكون فعلا \"غير مدرك لمعنى ذلك\" أي فاقدا للبصيرة رغم أنه الشارح الأكبر وفيلسوف \"كبير\". ومرة اخرى فهذه رؤية وليست علما .فالقرآن لم يعدد النسبية بهذا المثال بل حدد عدم إحاطة علم الإنسان بالوجود وهي رؤية وليست علما .لأن العلم لا يكتفي بالرؤى بل لا بد أبو يعرب المرزوقي 34 الأسماء والبيان
- -- أن يتكشف قوانين الظاهرات بصورة تجعلها قابلة للصوغ الرياضي المدعوم بالتجربة التي تؤيدها وإلا فهي فرضية وليس بعد علما. ولهذه العلة كنت وما زلت نافيا لخرافة الأعجاز العلمي في القرآن .فأولا هذه الخرافة تحط من القرآن ولا تسمو به لأن العلوم كلها تاريخية ومتغيرة والقرآن فوق التاريخ والتغير وثانيا لأن العلم ليس مجرد رؤية وتلميحات قابلة للتأويل اللغوي وهي لا تنطق باللغة الطبيعية بل باللغة الرياضية. تلك هي المفهومات التي حاولت مراجعتها حتى نفهم القرآن كما يعرف نفسه بكونه :رسالة تذكير بما يجعل الإنسان معمرا وخليفة في الأرض .جعله ملغيا هذين المهمتين ومقصورا على ما يوجد في علوم الملة يعني بقاء الامة عاجزة عن الرعاية والحماية .ومن كان كذلك ليس عزيزا والذليل ليس مسلما. أبو يعرب المرزوقي 35 الأسماء والبيان
- - - كاد التداخل بين البحث النظري في المفهومات التي يتحتم تعديلها لفهم رؤية الإسلام والهم العملي الذي يتعلق بوضع المسلمين والإسلام في اللحظة التاريخية وتشخيصها واقتراح استراتيجية علاجها كاد أن يحول دون الذهاب إلى الغاية في المسألة النظرية ومواصلة تعديل المفهومات. فلنعد لنستأنف من حيث توقفنا في العلاج النظري إلى مسألة الأحياز وعلاقتها بالمائدة والسرير وفنيهما وما قبل الاولين وما بعد الأخيرين .فقد بينا أن المدد متعين بامتداده وبمدته في نوعي الأحياز في المكان والزمان الخارجيين أي في العالم طبيعيه وتاريخيه وفي الفرد الإنساني بدنه وروحه. فمثلما أن جغرافية أي جماعة هي حصة من المكان عامة وزمانها حصة من الزمان عامة فإن بدن الإنسان حصة من المكان متحركة فيه كله عينيا وذهنيا وروح الإنسان حصة من الزمان حاصله وممكنه .وإذن فالعلاقة بين الإنسان وعالمه لا يمكن أن تفهم من درس التبادل والتواصل في الأحياز البسيطة والمؤلفة. فالأحياز البسيطة هي الجغرافيا والتاريخ والبدن والروح أي هذه الحصص التي ذكرناها والمؤلفة منه هي الثروة والتراث خارج الفرد وهي الزاد من الثروة في بدن الفرد والزاد من التراث في روح الفرد .والبسيطة توحدها المؤلفة في الأعيان والمرجعية اللاحمة في الأذهان وفي أثرها في الأعيان. وأثر المرجعية التي في الأذهان في الأعيان هو بالأساس ما سميناه قيما متعالية على القيم الاقتصادية ولنسمها قيما روحية لا تباع ولا تشترى لأنها فوق التبادل والتواصل المتعلق به بل هي مقصورة على تبادل وتوصل ما وراء الطبيعة وما وراء التاريخ وتمثل معالم ومآثر تتعين فيها هذه القيم. أبو يعرب المرزوقي 36 الأسماء والبيان
- -- وهذه المعالم والمآثر قابلة للحصر الجامع المانع :فهي معالم معبرة عن إرادة الأمة (مثل الابطال) وعن علم الأمة (مثل الإبداع العلمي والتقني) وعن قدرة الأمة المادية والثقافية وعن ذوق الأمة مثل الفنون ومنها الرياضة وعن رؤى الأمة سواء تعينت في آثار دينية أو في آثار فلسفية. فتكون المرجعية موحدة لنوعي الأحياز البسيطة والمركبة بوجودها في الأذهان وفي الاعيان وهي بنوع ما كل ما تقدس له الجماعة بمعنى أن تضعه فوق كل اعتبار في تبادلها وتواصلها وفوق النفعيات .لكن هذه الاهمية تجعلها قابلة للتوظيف لتكون غطاء عن بدعي العجل-المال والإيديولوجيا-فتصبح ربا وخداعا .وتلك هي العلة في تركيز الإسلام على هذين المرضين: مرض عبادة الدنيا والهوى أو الأخلاد لهما بصورة تفقد الإنسان معاني الإنسانية. ومرض تحول الإنسان هو بدوره إلى أداة ويفقد صفة الغاية الأسمى بوصفه مستعمرا في الأرض بقيم الاستخلاف أو \"رئيسا بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\" (ابن خلدون). وأن يكون الناس بينهم تبادل وتواصل أمر مفهوم .لكن الزعم بأن بين الأشياء في الطبيعة أولا ثم في التاريخ ثانيا ثم بينهما ثالثا ثم بينهما وبين البشر رابعا وأخيرا بين ذلك كله وما بعد لها قد لا يكون موجودا إلى في أذهان البشر (أي الله وما وراء الدنيا كلها) فذلك هو المشكل في كل جماعة. ولولا ذلك لـما ادعيت أن القرآن سداه ولحمته هما وحدة الديني والفلسفي أو علاج هذه القضايا ذاتها وتقديم أجوبه حولها هي من جنس الرؤى المعرفية والقيمية وليس من جنس العلم والعمل المباشرين .وهمي هو أن أفهم هذه المسائل وأجناس الحلول التي تعتبر ممثلة للديني وممثلة للفلسفي وما وحدتهما. ولنبدأ بالتبادل والتواصل مع الماوراء بصورة عامة .فالممارسات البشرية واضحة :لا توجد جماعة في المعلوم من تاريخ البشر ليس فيها ممارسات من هذا النوع ورمزها الدعاء أبو يعرب المرزوقي 37 الأسماء والبيان
- -- والأمل في الاستجابة في مستوى التواصل وانتظار جزاء للأعمال وحتى للأضاحي والنذور والجهاد وكل الأعمال التي لها مقابل أخروي. وقد يظن أن ذلك مجرد قيس للماهناك على الماهنا بلغة هيجل الذي يعتقد أنه لا يوجد ما هناك وأن الوجود مقصور على الماهنا .لكن حتى هذا النفي فهو دليل على وجود الظاهرة سواء كانت حقيقية أو كما يتوهم هيجل وكل القائلين بوحدة العالم من وهم الإنسان :فهم أيضا مضطرون لوضع ذلك في الماهنا. لكن عالم الشهادة والتاريخ يثبت ذلك للإنسان ولا يمكننا انطلاقا منه أن نعممه على كل الموجودات .لذلك فسؤالنا هو عن التعميم القرآني الذي يعتبر كل الموجودات تقدس لله وتسجد له .وهو أمر لا ننتظر من العلم بيانه وإن كنا لا نستثني إمكانية أن يصل العلم يوما ما لقراءة لغاتها وبيان صحته. لذلك فسأكتفي بالكلام على ما يقبل الإثبات علميا في اللحظة الراهنة فأعود إلى ما قررته في الفصول السابقة .فقد رأينا أن الفرد الإنساني تصوره يتضمن مفارقة عجيبة: فمن الطبيعي مدد قيامه العضوي إما مباشرة أو بتوسط التاريخي بكامله ومن التاريخي مدد قيامه الروحي مباشرة أو بتوسط الطبيعي بكامله. لكنه لا يعطي للحياة وللتاريخ إلا جزءا شرطه المشاركة مع الآخرين وخاصة مع الجنس الثاني إن كان ذكرا مع الأنثى وإن كان أنثى مع الذكر .ومع ذلك فالدين والفلسفة كلاهما يعتبره كائنا كاملا وليس نصف كائن ما يعني أن الفرد من حيث هو معتبرا كاملا ليس الفرد من حيث هو في حقيته نصف كامل. وهو ما يقلب التصور الذي يظن فلسفيا -الفرد-راسا على عقب .فالفرد ليس كائنا كاملا إلا بمقتضى تصوره الديني الذي يجعل كماله شرط كونه ذاتا مسؤولة خلقيا .لكنه عضويا أي الفرد الطبيعي لا يقوم بمفرده بل لا بد له من مكمل من الجنس الثاني طبيعيا ومن أبو يعرب المرزوقي 38 الأسماء والبيان
- -- مكمل من الجماعة كلها تاريخيا رعاية وحماية .ولا بد هنا من أن نبين أن هذه القسمة بين الجنسين مقصورة على الوظائف العضوية في القسمة بين الحيوان والبويضة بل هي أوسع وأشمل ولا يمكن أن تزول مهما حاولنا أن نقلل من دور المرأة التي تبقى الوسيط الضروري والذي لا بديل عنه في تواصل النوع .ويتمثل ذلك في أمرين: • الأول هو أن الجنين يغتذي منها على الأقل مدة الحمل أو بواسطتها بينه وبين ما يستمد من الطبيعة مباشرة أو بتوسط الجماعة. • الثاني هو أن الجنين حتى بعد إيجاد مؤسسات تنوب وظيفة الأم بعد الوضع فإن ذلك له أثر شديد الضرر على سلامته العضوية والنفسية. الثالث وهو مترتب عليهما وخاصة في بدايات العمران البشري و الاجتماع الإنساني - لكن ذلك ما يزال كذلك حتى الآن سواء في مستوى الأسيرة أو في مستوى الجماعة إذ حتى لما تجند المرأة فهي أساسا للخدمات وليس للقتال-هو القسمة الطبيعية للعمل والتعاون في الجماعة :المرأة للمهمة الأعسر في الواقع أي للرعاية والرجل للمهمة التي تظن الأعسر لأنها الاعنف للحماية. الرابع وهو مترتب على هذا المترتب الأول هو كل المعاني الإنسانية الحقيقة تمر ضرورة بتوسط المرأة وما لديها من خصائص روحية وجمالية وما لها من ثقافة تتعلق بهما. والأخير هو ما لا يفهمه الكثير من الذين يجادلون في هذه الحقائق العضوية والتاريخية كلما أهملت هذه المقومات في النظام التربوي كلما فقدت النساء أنوثتهن والرجال رجولتهن وأصبح تواصل النوع في خطر لأن النساء يفقدن قوة الأمومة الروحية والرجال قوة الأبوة المادية .فتصبح الأجيال وكأن الخصائص العضوية والنفسية للجنسين مقلوبة. وفي ذلك انقلاب عجيب :الفردانية ليست مفهوما يمكن تأسيسه فلسفيا بل هي مفهوم لا يتأسس إلى دينيا وصورته القرآنية هي \"يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه\" فتكون الفردانية مفهوما خلقيا متعلقا بالمسؤولية أمام الله على الأفعال التي يقترفها الإنسان في الدنيا دون أساس عضوي فعلي. أبو يعرب المرزوقي 39 الأسماء والبيان
- - - وما لم نفهم هذا اللغز فإنه يستحيل أن نفهم معنى الجماعة .وما لم نفهم معنى الجماعة بعد فهم هذا اللغز يستحيل أن ندحض الجدل الهيجلي .ونبدأ تحليل اللغز من الجدل الهيجلي .فالزوجية هي مظهر هذا اللغز والتي يعتبرها القرآن مبدأ كل مخلوق -ما طلب من نوح هذه علته-لأن الوحدة لله وحده. وهي التي تحقق وحدة الإنسان عضويا دون أن يكون هذا الواحد مؤلفا من متناقضين بل هو مؤلف من متكاملين عضويا وخلقيا ومن ثم فما هو أول ليس الفرد العضوي بل التكامل بين الفردين الذي هو أساس تواصل النوع عضويا وتكون أجياله خلقيا وعضويا فتكون الجماعة هي الأصل وليس الفرد. وإذا كانت الجماعة هي الأصل فالفرد هو الغاية ولكن بمعنى الفرد الذي لا يقوم من دون مكمله أي الجنس الثاني ما يعني أن العلاقة بين الجماعة والفرد من جنس التلازم كلاهما يترتب عليه الثاني فيكون في آن أداته وغايته .وهذه البنية هي التي أعوض بها بنية الجدل الهيجلي في كل الظاهرات. ومعنى ذلك أن التأليف بين العناصر ليس جدليا بمعنى صراع النقيضين بل هو تكاملي بمعنى تحقيق النظام في التبادل والتواصل بينها ويكون الواحد إن صح التعبير هو نظام التبادل ونظام التواصل بين المكونات التي يتألف منها الموجود .ويصح ذلك على كل موجود بما في ذلك العالمين الطبيعي والتاريخي. حسن .فليكن ذلك كذلك في التبادل الفرد الذي هو نصف الإنسان عضويا يأخذ من الطبيعة مدده العضوي ويعطيها مددها التعميري ويأخذ من التاريخ ممده الروحي ويعطيه ممدده الاستخلافي أو القيم .ولكن هل الطبيعة تحتاج لأن يمدها الإنسان بثمرات العمارة والتاريخ لأنه يمده الإنسان بقيم الاستخلاف؟ أبو يعرب المرزوقي 40 الأسماء والبيان
- -- وهذا التجهيز الذي في الإنسان والذي به يحقق التبادل مع الطبيعة والتاريخ هو ما سميناه النظر(فلسفة) والعقد (دين) والعمل (فلسفة) والشرع (دين) وهما في كيان الإنسان العضوي من حيث هو كيان يصل بين الموجود فيه وحوله وبين المنشود لما ينبغي أن يكون عليه فيه وحوله :وذلك هو معنى الإنسانية في القرآن. جيد .لكن هذا كله تبادل فأين التواصل؟ هنا يأتي معنى فن المائدة وفن السرير .فنحن نتصورهما فنان يبدعهما الإنسان عن عدم وليسا ناتجين عن تواصل جوهري بينه وبين الطبيعة وبينه وبين التاريخ وما فيهما من علامات مابعدهما .فالمائدة تكتمل لما لا تكون مجرد رد فعل على الجوع فتكون صراعا مع العدم. وكذلك السرير ليس فنه إلا ما به يتجاوز مجرد الحاجة الجنسية .واعتبار فن المائدة وفن السرير رد فعل على وعي بنقس في حاجة غذائية وجنسية يجعلهما سلبيين تماما كمن يتصور الدين رد فعل على وعي بالنقص كما يتوهم فيورباخ وكل المتأثرين به من أصحاب علم الكلام الجديد مثل الدكتور حسن حنفي. وموقفه من الاستشراق ورد الفعل بالاستغراب هو استغراب استشراقي أي إنه يريد أن يرد الفعل على الغرب بفلسفة منه تماما كمن يرد الفعل على فلسفته ببعض أفكار \"مأسلمة\" من ما بعد الحداثة ويسمى ذلك حقا فلسفيا للمسلمين نزولا دون كونية رؤية القرآن للإنسان ووحدة فطرته الدينية والفلسفية. أبو يعرب المرزوقي 41 الأسماء والبيان
- - - فن المائدة وفن السرير لا ينتجان عن السلب في التبادل بمعنى أن الجوع العضوي في الغذاء والجنس هو المحرك تحريك العدم كما في القول \"جوع تأكل بالعسل\" فيكون الجوعين هما مصدر الإغراء الذي يولد قيمة الغذاء والجنس بل الفن المبدع للعبارة عن التواصل بين الأحياز الخارجية والداخلية. فالطبيعي من الطبيعة والتاريخي من التاريخي يتواصلان مع الطبيعي في الإنسان ومن التاريخي فيه بما فيهما من جاذبية جمالية هي التي تنتج فن المائدة وفن السرير اللذين يحرران من الأكل أكل الأنعام ومن التسافد تسافد الحيوان .فيكون التواصل الجمالي في الحالتين هو سر اللقاء بين الأحياز بصنفيها الذوق الجمالي الطبيعي في الإنسان بالجمال الطبيعي من الطبيعة والجمالي العضوي في العضوي من الإنسان -وغالبا ما يكون متعينا في الجنس المقابل-هما مصدر فن المائدة وفن السرير الذي هو تطبيق للوعي بالذوق الجمالي الطبيعي في الحالتين الطبيعية والعضوية. لكنهما على نوعين. فالذوق الجمالي إذا صحبه العرفان والاعتراف بما وراء أسمى من الطبيعة والحياة كان بداية للذوق الجلالي وإذا غاب عنه العرفان والاعتراف بذلك صار بطرا من من يتوهم الاستغناء عن الفقر المادي ملغيا للفقر الوجودي وتلك هي بداية ما يسميه القرآن \"الترف\" ويبين ابن خلدون علة قضائه على الحضارة. ويمكن اعتبار فصل ابن خلدون عن الترف تفسيرا بالأدلة التاريخية وتطبيقا لفصلت 53 للبحث عما يبين حقيقة القرآن من خلال فهم الآية الكريمة التي يعتبرها وصفا أمينا لدور الترف في قتل الحضارات \" َوإِذَا َأ َر ْد َنا َأن نُّ ْه ِلكَ َقرْيَ ًة َأ َم ْرنَا م ْترَ ِفيهَا فَفَ َسقوا ِفي َها َفحَ َُّق عَ َل ْي َها الْ َق ْول فَ َد ُّمَ ْر َناهَا تَ ْدمِيرًا\". أبو يعرب المرزوقي 42 الأسماء والبيان
- -- فالفسق هنا هو هذا الانقلاب في التواصل الذي ينتقل من الذوق الجمالي الموصل إلى الذوق الجلالي إلى عكسيهما فيصبح فن المائدة معبرا عن البطر ومظاهر التبذير في الغذاء وفن السرير عن العهر ومظاهر البرنوغرافيا الجنسية وعلامتها كثرة المثلية وتجارة الجنس كما وصفهما ابن خلدون في فصله. ويكون التدمير الوارد في الآية ليس بتدخل خارجي رغم نسبة الله للأمر إلى نفسه قد يفهم بأنه تدخل خارجي منه كما يؤول بعض الشيوخ بعض مظاهر ثورة الطبيعية (مثلا التسونامي على أنه يعبر عن غضب إلهي) بل من أمر الله المجهول المرسوم في قوانين الظاهرات وسنن التاريخ :آيات الله في الآفاق والأنفس. ولنمر إلى ما هو أشمل :ففن المائدة وفن السرير لا يتوقف عن التواصل من حيث هو صادر عن الأحياز الخارجية من الجمال والجلال والوارد إلى الأحياز الداخلية بل هو يصدر عن هذه ويرد على تلك .فالإنسان لا يجمل المائدة والسرير فحسب بل يجمل الأحياز الخارجية أي الطبيعة والتاريخ. وليست الحدائق والمتاحف إلا نفس هذه الظاهرة في شكل مصغر هو عينة من الجغرافيا المجملة والتاريخ المجمل الذي يحيط بكياننا العضوي والروحي والذي من دونه لا معنى للمعالم التي تمثل بنحو ما أهم الإبداعات الفنية الجمالية التي تجمل محل القيام الإنساني في العالم بالمعالم ذات الدلالة الرمزية فتضفي عليه الروحانية التي من دونها يشعر الإنسان بالغربة فيه. فلا توجد جماعة ليس عمرانها ذا صبغة جمالية وهو تجميل للجغرافيا بحيث إن العمران ليس إلا لوحة جمالية تعبر عن ذوق أصحابه الجمالي وفيه ما يعبر عن ذوقه الجلالي وهي المعالم الروحية في كل جماعة .ولا توجد جماعة ليس اجتماعها ذا صبغة جمالية وهو تجميل للتاريخ .فالعيش المشترك سمفونية خلقية. وهذا التواصل بين الطبيعي والتاريخي في حياة الأمم من حيث هو تشاجن وتوالج بين الطبيعي والثقافي هو الذي يلغي بصورة نهائية خرافة الجدل وخرافة التفسير بالاقتصاد أبو يعرب المرزوقي 43 الأسماء والبيان
- -- أو بالثقافة لأن ما يجري هو تواصل بين الأحياز الخارجية والداخلية إما غاية لذاتها في اللامباشر أو محركا للتبادل في المباشر. واللامباشر مقدم على المباشر لأنه ما في الموجود من منشود .والمنشود هو هذا التواصل الروحي بين الأحياز لكي ينتقل المدد من الأحياز الخارجية إلى الأحياز الداخلية جيئة وذهابا بينهما .ويمكن للتبسيط أن نعتبر هذا التواصل والتبادل كامنا في ثمرتيهما أي في الثروة والتراث حيث تحايث كل القيم. و\"حيث تحايث\" كل القيم فضاء لا يمكن أن نميز فيه بين الطبيعي والتاريخي ولا بين الأحياز الخارجية والأحياز الداخلية ولا بين المادي والروحي لأنه هو ما نعنيه بالمدد الذي يتعين في الامتداد وفي المدة بالنسبة إلى الجماعة والفرد في آن :فضاء يضاعف الحيزين المكاني والزماني فيخمس الأحياز بنوعيها. فالحيز الجغرافي يتضاعف ليصبح ثروة تجعل المكان هو بدوره ثروة والحيز التاريخي يتضاعف ليصبح تراثا يجعل الزمان هو بدوره تراثا .وتأثل الثروة والتراث يمثلان فضاءين يتنزل فيها الإنسان تنزله في المكان والزمان وتقيم منزلته بهما قدرة مادية ووجاهة روحية وبهما تقيم منزلة مكانه وزمانه. وحتى أيسر للقارئ فهم هذه المعاني التي تبدو ألغازا فلأضرب أمثلة :فالإنسان يحتل رتبة في سلم تحدده مراتب الثروة ومراتب التراث .فمن الأول يستمد قوة مادية في العلاقات الاجتماعية .ومن الثاني قوة رمزية تعرف عادة بشجرة النسب .وهما متداخلان .وقد بين ابن خلدون أن رمزية النسب وحدها كلمة جوفاء وخاصة بعد أربعة أجيال غاية للفاعلية الرمزية. وينعكس الأمر فالمكان تتغير قيمته بقيمة المتمكن فيه :فحيثما يسكن الأغنياء يغلو ثمن المتر المربع من المكان .فالمتر المربع في بحيرة تونس بعد تطهيرها صار أغلى من هكتار خارج تونس العاصمة .ذلك أن المكان الذي عادة يقدر بكم المساحة يصبح تقديره بكيف الجاه: علاقة تواصلية مؤثرة في التبادلية. أبو يعرب المرزوقي 44 الأسماء والبيان
- -- أعتقد أن هذه الأمثلة تجعل كلامي ليس صينيا -لا أتكلم شينوا-بل هو مفهومي يعبر عن ظاهرات يعيشها الإنسان الذي ليس له دراية بما يؤسسها في البنية النظرية العميقة وكأنها أشياء طبيعية لا تخضع لقوانين قابلة للإدراك البين إذا طبقنا فصلت 53فرأينا آيات الله فيها بيانا لحقيقة القرآن كما قال. فالمكان والزمان عندما يصبحان ثروة وتراثا بفضل التبادل والتواصل بين نوعي الأحياز الخارجية (في العالمين الطبيعي والتاريخي) والأحياز الداخلية (في بدن الإنسان وروحه) يتغيران من مجرد كونها أربعتها مجرد أحياز أو محال إلى ما يحل فيها فتتغير من الكمي إلى الكيفي وتلك آيات الله فيها. لكنها لا تكون آيات لله يرينها فيها إلا لكونها ناتجة عن ذوق جمالي وجلالي لما يعبران عنه مما فيهما من ما ورائهما فيضفي عليهما معنى ينقلهما من مجرد سد لحاجات أولية إلى فنون راقية ليست ناتجة عن سلب كما يتوهم الجدليون بل هي ناتجة عن الموجود في الأحياز من مدد يمتد إلى المنشود. ومن له دراية بعمق فكر ابن تيمية وابن خلدون يفهم معنى أن أكبر حجة يستعملها الأول ضد أصحاب وحدة الوجود هي أنهم لا يؤمنون بالمنشود ويكتفون بالموجود فيكونوا بذلك قد نفوا أمرين: .1الحرية التي تنعدم بمجرد حصر الإنسان في الموجود لأنه حينها يكون خاضعا للضرورة وليس لما يحرره منها .وإذا حصل ذلك: .2انعدم أي معنى للأخلاق لأن الضرورة ليس فيها معنى للإمكان إذ كل الموجود حاصل ولا معنى لما لم يحصل لأن الإمكان شرطه ألا يكون الحاصل ضروريا. فكل القائلين بوحدة الوجود يعتبرون مجرى الأحداث التاريخية حتميا ويقبلون بالاستبداد والفساد فيبررون الاستعمار بالقضاء والقدر. ولا تعجب حينها إذا رأيت الاستعمار يشجع الدجالين من المتصوفة .فهو لا يفعل ذلك حبا في الحياة الروحية المزعومة عندهم لأنه لا يجهل أنه أفسد خلق الله واكثرهم نفاقا وكذبا أبو يعرب المرزوقي 45 الأسماء والبيان
- -- على الله والرسول وهم في الحقيقة التعين الفعلي للتجارة بالدين وخدمة المستبدين وسطاء مزيفين بعلم لدني كله خرافات. أما الثاني ابن خلدون فأقوى حجة يستعملها ضد المتكلمين والفلاسفة والمتصوفة والفقهاء أي ضد كل من يسمون علماء بعلم يقول بالمطابقة ويقلب دلالة فصلت 53ودلالة آل عمران 7هي وهم رد الوجود إلى الإدراك وطبعا ضمن ذلك المنشود من الموجود الذي يردوه إليه قبل رده إلى الإدراك. ولهذه العلة اعتبرت ابن خلدون -حتى وإن لم نجد دليلا نقليا يثبت اطلاعه على فلسفة ابن تيمية-لا يمكن أن يفهم عمله من دون شيء مماثل لها سواء نتج عن نفس ما نتجت عنه ثورة ابن تيمية أو ابتدعه ابتداعا إذ لا يمكن أن يبني فلسفة العمل والشرع على هذا النحو دون نفس فلسفة النظر والعقد. ولكن لسوء الحظ بقيت فلسفة الرجلين صرخة في واد .ذلك أن كل قراءاتهما اعتمدت على ما كانا ثائرين عليه في فكر عصرهما بعد أن أصبح فكر عصرنا لدى نخبنا مبينا على جنيس لأساس فلسفة عصرهما :القول بالمطابقة في نظرية المعرفة والعقد وفي نظرية العمل والشرع بتأثير من هيجل وماركس. أبو يعرب المرزوقي 46 الأسماء والبيان
Search