Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore الدنيا أو معنى مطية الآخرة – أبو يعرب المرزوقي

الدنيا أو معنى مطية الآخرة – أبو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2018-07-12 15:34:55

Description: الدنيا أو معنى مطية الآخرة – أبو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫أبو يعرب المرزوقي‬‫الدنيا‬ ‫الأسماء والبيان‬





‫المحتويات ‪2‬‬‫‪ -‬الفصل الأول ‪1 -‬‬‫‪ -‬الفصل الثاني ‪5 -‬‬‫‪ -‬الفصل الثالث ‪10 -‬‬‫‪ -‬الفصل الرابع ‪14 -‬‬‫‪ -‬الفصل الخامس ‪19 -‬‬

‫‪--‬‬‫لما أرجعت كل ما يوجد في حياة البشر إلى التبادل والتواصل ورمزيهما أعني رمز الفعل أو العملة‬‫وفعل الرمز أو الكلمة وركزت خاصة على الرمزين بوصفهما يمكن أن يردا إلى بعدي دين العجل أي‬‫مادته (ذهب العجل) وصورته (خوار العجل) لم يكن القصد حصر سلطان الإنسان على الإنسان‬ ‫فيهما‪.‬‬‫صحيح أن سلطان الإنسان على الإنسان لا يحصل فعليا إلا بهما لكنهما ذوا سلطان بوصفهما رمز ما‬‫به يحصل سلطانهما ومن ثم فالسلطان له قاعدة أعمق منهما وهما يمثلان السلطان تمثيل الرمز‬ ‫للمرموز‪ .‬ولو ذلك لاستحال السلطان الزائف ولكان السلطان حقيقته هي ظاهره الرمزي‪.‬‬‫وإذن فسلطان الرمزين سلطان عارية أي إنه مستعار مما يرمزان إليه فعليا أو وهميا‪ .‬وحتى نفهم‬‫معنى المستويين كون سلطان الرمز عارية من المرموز وكونه يمكن أن يكون عارية فعلية أو عارية‬‫وهمية فلنتصور أحدا تظاهر بالثراء فاستعمل رموزه مثل السيارة والهندام ليوهم ليخادع أحدا‬ ‫بذمة كاذبة‪.‬‬‫وهذا يكثر في الأعمال وفي السياسة وفي علاقات الرجال بالنساء حيث إن للإيهام برموز القوة‬‫تطمئن فتمكن من الخداع اليسير في الأعمال وفي السياسة وخاصة في غزو النساء عند من أزيار‬‫النساء وقد يكون الأمر كذلك عند \"ازيار\" الرجال من النساء‪ .‬فالرمز ييسر الخداع بسبب العارية‬ ‫والوهم‪.‬‬‫وقبل الغوص في هذه الإشكالية أريد أن أعتذر لنوعين من المعترضين على هذا النوع من البحث‬‫وخاصة على لغة الكلام فيه‪ .‬فالاعتراض على الفلسفة التي تبحث فيما يبدو عديم الفائدة لمن‬‫عقموا الفكر بسبب ارتمائهم في الفائدة المباشرة وهذا يغلب على الثقافة التقليدية التي وصلت إلى‬ ‫تحريم الفلسفة‪.‬‬‫فطالب الفائدة المباشرة يبقى دائما في المباشر فلا يرى شروطه ويظل حياته وحياة الامة التي له‬‫عليها سلطان يستمده من دعواه العلم بالمباشر النهائي أي القفز إلى الآخرة التي تتحول إلى سلطان‬‫التخويف هذا النوع من الفكر هو الذي حال دون العلم بقوانين الطبيعة وبسنن التاريخ فجعلنا ذيل‬ ‫الأمم‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪1‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫وهؤلاء رغم خطر ما ترتب على فكرة الفائدة المباشرة معذورون فهم ينتسبون إلى رؤية بدأت‬‫تنقرض ولم يعد الاعتراض على التأمل الفلسفي حتى فيما يبدو عديم الفائدة يجد الكثير من‬‫الاعتراض بل إني شديد السعادة بما أراه من اهتمام متزايد بالفكر المجرد عامة وعلى رأسه‬ ‫الفلسفة لدى الشباب من الجنسين‪.‬‬‫لكن ظاهرة أخرى عجيبة بدأت تطغى على الساحة الفكرية وهي الاكتفاء بتصنيف محاولات‬‫التفكير الفلسفي بما ينسب لصاحبها من مواقف إيديولوجية أو عقدية قد تكون صحيحة وقد لا‬‫تكون دون اعتبار إلى أن ذلك لا يغير من أهمية الفكر بصرف النظر عن موقفه العقدية التي تخصه‬ ‫شخصيا‪.‬‬ ‫وحتى يكون هذا الأمر بينا فلأضرب مثالا يخصني‪ :‬يعاب علي الاهتمام بابن تيمية لعلتين‪:‬‬‫‪ .1‬لموقفهم من ابن تيمية بسبب الحكم عليه من منطلقين علاقته بأعداء الأمة في عصره‬ ‫وعلاقته بما يدعي الانتساب إلى فكره في عصرنا‪.‬‬ ‫‪ .2‬ولظنهم أني أحاكم الفكر بمعاييرهم هم فألغي مفكرا بسبب عقائده وعقائدي‪.‬‬‫والعلة الثانية هي أصل العلة الأولى‪ :‬اي إن موقفهم مني من جنس موقفهم من ابن تيمية‪ .‬لكن‬‫لو كانت أرى المفكرين بهذه العين لما درست هيجل أو ماركس أو هيدجر‪ .‬فثلاثتهم عقائدهم لا يمكن‬‫أن يقبل بها أي مسلم صادق‪ .‬لكني أميز بين فكرهم ومواقفهم‪ .‬لا احمل هيدجر نازية هتلر ولا‬ ‫ماركس فاشية ستالين‪.‬‬‫الظاهرة الجديدة هي إذن تحميلك عقيدة من درست فكرهم ولا يعلنون ذلك بل يبحثون فيما‬‫تكتب عما يمكنهم من \"لعنك\" باسم أمور أخرى تعود في النهاية إلى موقف الشيوخ الذي بدأنا‪ :‬بعضهم‬‫يعتبرك تكتب ما لا يفهم وهي حجة لا ينكرها أحد خاصة والجميع يعلم أم من لا يفهم لا يتهم نفسه‬ ‫بل يتهم الكاتب‪.‬‬‫فإذا قلت له إن ابن سينا والكل يعلم من هو من حيث الذكاء والعبقرية اعترف أنه قرأ ميتافيزيقا‬‫أرسطو عديد المرات ولم يفهم لكنه واظب على قراءته حتى وجد شرحا للفارابي ففهم وحمد الله‪.‬‬‫لكن كيف تنصح أعشار المثقفين بأن يتواضعوا كما تواضع ابن سينا‪ :‬سيتهمونك بالادعاء لأنك ليست‬ ‫أرسطو‪.‬‬‫لا شك أني لست أرسطو واعترف بذلك‪ .‬لكن الصحيح أيضا أن قصاصا شديد التوسط لا يمكنه‬‫أن يدعي أنه يحاكم قدرتي على الترجمة فضلا عن معرفتي بالعربية التي لا يعرف منها إلى الكتابة‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪2‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫الصحفية ولا يفهم أكثر منها فيزعم أن ترجمتي لهوسرل غير مفهومة لكأنه يفهم هوسرل حتى يحكم‬ ‫على نقله إلى العربية‪.‬‬‫أما بعض الشباب الذي يكون فرحا بما تعلم فيريد أن يثبت ذاته بمناقشات شكلية فهؤلاء يمثلون‬‫ظاهرة صحية ومبشرة بكل الخير لأن حماسة الشباب وطموحهم وسعيهم لإبراز نبوغهم ليس عيبا‬‫لأنه سرعان ما يزول بمجرد تجاوز لذة الاكتشاف الأول الذي يليه التواضع والنظر متعدد الأبعاد‪.‬‬‫ويوجد موقفان آخران لهما أساس في الممارسات الجارية حاليا بسبب سلطان الصراعات‬‫الإيديولوجية وكلتاهما تحولان دون العلاج الفكري لأن الاتهام بهما صار عملة سارية‪ :‬فإذا قلت‬‫الحقيقة لصالح أحد اعتبروك أجيرا عنده وإذا قلت الحقيقة ضد أحد اعتبروك في خدمه خصمة‬ ‫والغلب تهمة الطائفية والإرهاب‪.‬‬‫والأصل الجامع بين هذه المواقف الأربع هي عدم الإيمان بحرية الفكر لأن كل هؤلاء يعتبرون‬‫موقفهم حقيقة مطلقة تسمح لهم بعدم السماح لغيرهم بأن يهتم بما يريد أن يهتم به حتى لو كان‬‫جنونا‪ .‬لم يزل أصحاب هذه المواقف يعتبرون أنفسهم حكما في فكر غيرهم يعيروه ويصنفوه بهواهم‬ ‫دون نقد ذاتي‪.‬‬‫طبعا سترد الحجة بالعكس‪ :‬لما ترد عليهم ألست تقف موقفهم‪ .‬اتركهم يقولون ما يحلو لهم‪ .‬وهو‬‫ما أفعل غالبا لكن أحيانا تفيض الكأس لما تسمع مبتدئا او ربع مثقف يحاكم الفلسفة عامة بمعيار‬ ‫الفائدة (ولا أتحدث عن محاولاتي) أو يحاكمك بمعيار ما يفهم \"عقيله\"‪.‬‬‫أعود إذن إلى \"ما لا فائدة منه\" بلغة \"لا تفهم\" وأواصل الكلام في سر السلطان الذي يرد إلى‬‫الرمزين رمز الفعل او العملة وفعل الرمز أو الكلمة حتى ندرك معنى العارية ويسر تحولهما إلى‬‫بعدي دين العجل في كل الحضارات وعلة تحذير الرسالة الخاتمة من هذه الوظيفة التي تستعبد‬ ‫الإنسان‪.‬‬‫ذلك أن الرمزين لا يمكن الاستغناء عنهما لا في الكلام على الدنيا ولا في الكلام على الأخرى‪.‬‬‫فحتى الاخرى فيها للرمزين دور شبيه بدورهما في الأخرى‪ .‬والمثال الأكثر وضوحا هو مفهوم الربا‬‫المحرم في الدنيا والذي هو مفهوم شديد الفاعلية في الأخرى لأن الله يربي الحسنات ويقترض‬ ‫القرض الحسن‪.‬‬‫وما كان ذلك ليكون مفهوما ‪-‬تحريم الربا في المعاملات الدنيوية وتحليله في المعاملة الاخروية‪-‬لو‬‫لم يكن سلطان الرمزين من العارية وليس حقيقة ذاتية لهما‪ :‬فالسلطان ليس لهما بل للفعل الذي‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪3‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫يمثلانه‪ .‬سلطان فعل الرمز أو الكلمة مثلا هو سلطان الحقيقة والكذب اللذين تستمد منهما الكلمة‬ ‫سلطانها‪.‬‬‫وسلطان العلمة ليس سلطانها بل هو سلطان القيمة الفعلية أو الوهمية للقدرة التبادلية فنميز بين‬‫العملة الحقيقية والعملة الزائفة وللزيف درجات هي درجات تضخمها حتى تتحول إلى ورق بلا قيمة‬‫مثل الصكوك التي لا رصيد لها‪ .‬مثلا‪ :‬نزول جنيه مصر من قيمة ‪ 2‬دولار إلى ‪ 1‬من عشرين من‬ ‫قيمة الدولار‪.‬‬‫ولا يوجد أحد مهما كان غافلا يجهل هذه الأمثلة‪ .‬ولا يوجد أحد مهما كان فطنا يمكن أن يستغني‬‫عن الرمزين وعن دورهما في تمثيل السلطان المادي والسلطان المعنوي ومن ثم لبعدي العجل الذهبي‬‫الذي لا يمكن تصور جماعة ليست بنسب متفاوتة خاضعة له خضوعا رمزه هو الإخلاد إلى الأرض‪.‬‬‫فاللهيث الذي يتكمل عليه القرآن هو لهيث وراء هذين الرمزين بوصفهما أداتي السلطان على ما‬‫الإنسان بما يرمزان إليه‪ .‬وما سعى إليه من حرف الحلول القرآنية تمثل في جعله يزداد سيطرة‪:‬‬‫ذلك ان علاج اللهيث ليس بنفي ما يدفع أليه بل بالسلطان عليه‪ :‬لعدم تمييزهم بين الفقر إلى الله‬ ‫والفقر إلى العجل‪.‬‬‫فمن تصور العلاج متمثلا في نفي الدنيا وينسى أن الإنسان مستعمر في الأرض هو الذي يجعل‬‫سلطانها يزداد قوة لأن سلطان الرمزين هو سلطان الدنيا أو سلطان الحاجتين المادية (العملة)‬‫والروحية (الكلمة) عندما تصبحان بيد غيرك فتصبح عبدا له بسبب سلطانه على ما له عليك سلطان‬ ‫أي ذاتك المحتاجة‪.‬‬‫الفقر إلى الله لا يكون صادقا إلا بفضل التحرر من الفقر إلى الدنيا وهذا لا يتم إلا إذا حقق‬‫الإنسان شروط الاستعمار في الأرض فيكون الفقر إلى الله علامته أنك استعمرت الأرض ليس‬‫باللهيث وراء سلطانها بل بالسلطان عليها الذي يجعلك تستعمرها بقيم الاستخلاف‪ :‬معنى الدنيا مطية‬ ‫الآخرة‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪4‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫ما الذي يجعل المسلم الذي يردد يوميا أو يسمع يوميا أن الله خلقه حرا وكرمه بأن جعله‬‫في علاقة مباشرة معه وفي علاقة غير مباشرة بتوسط شرطي قيامه العضوي والروحي أي‬‫الطبيعة والتاريخ يقبل بأن يخضع لمن بيده السلطان على سلطانهما عليه غير عدم علاج‬ ‫الجماعة علاقتها بهما للتحرر؟‬‫ما الذي يجعل الشعوب الإسلامية غارقة في الفقر إلى الدنيا ومخلدة إليها غير عدم فهمها‬‫أن التحرر منها ليس بدعوى التعالي عليها بلا سلطان عليها بما طلب الله في قرآنه استعماله‬‫للتحرر من سلطانها أعني النظر والعقد والعمل والشرع بمعرة سرهما‪ :‬الرياضيات‬ ‫والسياسيات والتجربة العلمية والتاريخية‪.‬‬‫والعلة هي الخلط بين الفقرين‪ :‬الفقر المادي والفقر الوجودي‪ .‬نحن فقراء لله وجوديا‬‫دائما لأن ذلك هو جوهرنا المتناهي إرادة وعلما وقدرة وحياة ووجودا لكننا لا ندرك ذلك‬‫حق الإدراك ولا نحيا بما يترتب عليه إلى متى طفونا من الغرق فيما يشدنا إلى الأرض‬ ‫بعدمه وليس بحيازته‪ :‬سيادة الحاجة‪.‬‬‫هل معنى هذا أن الإنسان لا يؤمن حقا إلا إذا كان غنيا عن الدنيا؟ نعم‪ .‬لكن الاستغناء‬‫عن الدنيا ليس نفي الحاجة إليها بل سد الحاجة هو الذي يغني عنها باستثناء المرضى الذين‬‫لا يشبعون إن صح التعبير وهو أشقى مخلوقات الله‪ .‬ورمزه الإخلاد إلى الارض أو الكلب‬ ‫اللاهث دائما‪.‬‬‫وهؤلاء هم من يستعمل بعدي العجل الذهبي للسلطان على الغارقين في اللهيث إما‬‫لفقدان ما يسد الحاجة أو لأن حاجتهم المرضية لا تسد‪ .‬ونحن نتكلم على اسوياء الفطرة‬‫أي من يتجاوز ضرورات الحياة إلى الحياة‪ .‬وأفضل رمز لهذا المعنى هو معنى النصاب في‬ ‫الإسلام‪ :‬فالزكاة مشروطة به‪.‬‬‫والحج مشروط بأكثر والصلاة والصوم مشروطان بما يساويه لأن النظافة والصحة‬‫مشروطتان فيهما وهما من أكثر الاشياء كلفة مادية‪ .‬وإذن بالمقصود بشرط التحرر من‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪5‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫سلطان الرمزين هو هذا المعنى‪ .‬ذلك أني لا أستطيع أن أتخيل من هو مهموم بقوته وقوت‬ ‫أبنائه للغد يمكن أن يفكر في غيره‪.‬‬‫وهذا الشرط هو الذي يفهمك معنى أن أكثر من ‪ 80‬في المائة من الأمة غارقة في هذه‬‫الهموم والأصح القول \"مغرقة\" في هذه الهموم ومن ثم في عبيد لما به يستعبد الإنسان في‬‫كل مكان وفي كل زمان أعني العجل الذهبي الذي يتحكم في شرطي قيامه‪ :‬رمز الفعل‬ ‫(العملة) وفعل الرمز (الكلمة)‪.‬‬‫سيقال تحليلك بخصوص رمز الفعل (العملة) فهمناه لكن ما دخل فعل الرمز (الكلمة)؟‬‫وهذا هو سر حاجة العجل للخوار‪ :‬فلا يمكن تصور فرعون من دون هامان‪ .‬الدولة عادلة‬‫كانت أو ظالمة لا بد لها من بعدي السلطان او الرمزين‪ :‬رمز القوة المادية ورمز القوة‬ ‫المعنوية‪ :‬الوصي والوسيط‪.‬‬‫ولذلك كانت ثورتا الإسلام هما الحرية الروحية (التحرر من الوسيط او الكنسية)‬‫والحرية السياسية (التحرر من الوصي أو الحكم بالحق الإلهي)‪ .‬فصاحب السلطان على‬‫رمز الفعل هو الوصي أو صاحب السلطة الزمانية وصاحب السلطان على فعل الرمز هو‬ ‫الوسيط أو صاحب السلطة الروحية‪ :‬تعطيل الدستورين‪.‬‬‫وهذا هو الجواب الوحيد لحل ما يبدو من تناقض بين القول إن الجماعة فضلا عن‬‫الدولة لا يمكن أن تقوم من دون الرمزين اللذين يمثلها الوصي والوسيط والقول بالحريتين‬‫المغنيتين عنهما‪ :‬هذا تناقض حله القرآن من عجائب الرسالة الخاتمة بل لعله من أهم‬ ‫معجزات القرآن المعتمدة على نظرية النظام‪.‬‬‫فنظرية المعجزة كنظام التي عوضت نظرية المعجزة كخرق للنظام ذات أبعاد خمسة هي‪:‬‬‫الأصل أو فلسفة الدين ثم فلسفة الطبيعة وفلسفة التاريخ وفلسفة النظر والعقد وفلسفة‬‫العمل والشرع وكلها أنظمة متناغمة لا يمكن للإنسان أن يكون حرا روحيا وسياسيا من دونها‬ ‫لأنها أساس السلطانين على الدنيا‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪6‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫فالسلطان على الدنيا سلطان على الطبيعة بالنظر والعقد من خلال السيادة على العلاقة‬‫العمودية بينها وبين الإنسان من حيث كائن عضوي خاصة وعلى التاريخ بالعمل والشرع من‬‫خلال السيادة على العلاقة الأفقية بين الإنسان والتاريخ من حيث هو كائن روحي‬ ‫والسلطانان هما حقيقة الإنسان مستعمرا ومستخلفا‪.‬‬‫فكيف يحل التناقض؟ أن يكون الإنسان وسيط نفسه ووصيها وهو معنى كونه حرا روحيا‬‫وسياسيا‪ .‬فعندما نلغي الوساطة والوصاية فالقصد ليس الوساطة والوصاية بل كونها سلطانا‬‫لغير الذات الإنسانية أو عبودية الإنسان للوسيط والوصي‪ .‬عندما يكون وسيط نفسه‬ ‫ووصيها يصبح الحل كما يلي‪.‬‬‫سيعجب الكثير من الحل‪ :‬فكون الإنسان وسيط نفسه ووصيها ليس مفهوما متناقضا بل هو‬‫جوهر الإنسان من حيث هو خليفة بمعنى أنه له الوعي الذي يتضاعف فيتكشف ما سماه‬‫ابن خلدون الوازع الذاتي أعني أنه ذو سلطان على ذاته هو هذه العلاقة المباشرة بينه‬ ‫وبين ربه وبينه وبين أمره‪.‬‬‫وهذا عينه جوهر الديني في الأديان أو أساس الأخلاق أو معنى الدين فطرة بمعنى أن‬‫الإنسان رقيب نفسه في كل ما يفعل مهما ضعف تأثير رقابته لنفسه‪ .‬وقد من الله علي‬‫بإدراك هذا المعنى بمجرد تأمل النداء للقاء الرب المباشرة في الأذان‪ .‬ففيه حقيقة هذا‬ ‫المعنى العميق الذي هو أصل العلاقة المباشرة‪.‬‬ ‫خذ الأذان اطرح التكرار وستجد‪:‬‬ ‫‪ .1‬الله أكبر‬ ‫‪ .2‬أشهد أنه لا إله إلا الله‬ ‫‪ .3‬أشهد أن محمدا رسول الله‬ ‫‪ .4‬حي على الصلاة‬ ‫‪ .5‬حي على الفلاح‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪7‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫فالجملة الأولى نتيجة استدلال مضمر‪ :‬فتش الإنسان في وجوده فلم يجد شيئا يمكن أن‬ ‫يعتبر مطلقا فاعترف بأنه لا أكبر من الله‪ .‬والجملة الثانية شهادة بوحدانيته‪.‬‬‫وبالجملتين كان وسيط نفسه في الوصول إلى النتيجة الأولى وما يترتب عليها أو النتيجة‬‫الثانية التي تغنيه عن عبادة غيره أي عن الوسطاء بينه وبين ربه‪ .‬والجملة الثالثة فيها‬‫اعتراف بأن الرسول خاتم لأنه ذكره بهذه الحقيقة تذكيرا أخيرا والجملة الرابعة تسليم‬ ‫بضرورة المحافظة على المباشرة‪.‬‬‫ولا مباشرة أكثر من الصلاة لأنها حوار مباشر مع الرب‪ .‬والجملة الأخيرة تعرف كل ذلك‬‫بأنه الفلاح أي الجمع الناجح بين الدنيا والآخرة بمعنى تحقيق الاستعمار بقيم الاستخلاف‪.‬‬‫لما فتح الله علي فهم دلالة الأذان هذه شعرت بأن جهدي في قراءة القرآن كان خيارا صائبا‬ ‫فحمدا لله وشكرا‪.‬‬‫وحتى أتأكد من صحة تأويلي للأذان كان ينبغي نظريا أن يكون المؤذن الأول عبدا حرره‬‫الإسلام‪ .‬حتى يكون التعين التاريخي لفعل النداء للصلاة تعينا لمفهومه في ذات المنادي‪:‬‬‫وذلك هو اختيار النبي لبلال تدليلا على أن الإسلام جمع ثورتيه في الدعوة الى الصلاة‬ ‫التي يكررها كل مسلم ولو بكلام النفس‪.‬‬‫ولا يمكن أن يكون ذلك كذلك بالصدفة‪ .‬لذلك فقد تأكد لي أن الإنسان يكون وسيط‬‫نفسه حتى لو لم يدرس الفلسفة‪ :‬فالجملة الأولى جمعت كل أدلة وجود الله لأنها ثلاثتها‬‫(الدليل الكوني والدليل الغائي والدليل الوجودي) تنتج عن هذه المقارنة الضمنية بين‬ ‫الوجودين الفاني والباقي‪ :‬الله أكبر=الباقي‬‫فهو الباقي قياما (الدليل الكوني) وهو الباقي غاية (الدليل الغائي) وهو الباقي وجودا‬‫(الدليل الوجودي) ومعنى ذلك أن الإنسان بفطرته يقوم بهذه الأدلة في وعيه فيكتشف‬‫أن العالم فان وأن نظامه الغائي ليس منه وأن البقاء لا يكون لغير الله الاكبر‪ .‬ثم يأتي‬ ‫اثبات الوحدانية من افعل التفضيل‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪8‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫وحينئذ لا يحتاج إلى معجزات تخرق العادات بل يكتشف أن من ذكره بهذه المعجزة التي‬‫تعكس فتبني العلم بالله على الاستدلال الفطري عند الإنسان بدءا باكتشاف ضعفه لا يمكن‬‫ألا يكون رسولا من الله إليه بهذا المعنى الكوني أي إليه كإنسان عامة‪ .‬وحينها يعلم أنه‬ ‫عليه ألا ينسى الحوار المباشر‬‫وجمع هذه الحقائق هو الفلاح‪ .‬لكن ما كان ذلك ليكون كذلك لم لم يكن \"الله أكبر\"‬‫دليل فهم أن الرمزين ليسا هما الغاية فيتحرر من بالله أكبر من بعدي العجل الذهبي‪ :‬فلا‬‫يكون مخلدا إلى الأرض ولا يكون لرمز الفعل ولا لفعل الرمز عليه سلطان لأن السلطان‬ ‫الوحيد الذي يعترف هو الله أكبر‪.‬‬‫ولا استحي إذا قلت إن هذا الفصل الذي أمليته اليوم اعتبره غاية ما يمكن أن أطمح‬‫إليه في فهم الرسالة الخاتمة وخاصة بعد أن فهمت دلالة الجمل الخمس ودلالة اختيارها‬‫واختيار أول مناد بها لأنها تمثل عندي الدليل الحاسم على أن الإسلام يعتبر الديني في كل‬ ‫دين متمثلا في الحريتين‪.‬‬‫والحريتان لا تغنيان عن الوساطة والوصاية بل عن تحولهما إلى سلطان خارجي على‬‫الإنسان‪ :‬الإنسان وسيط نفسه ووصيها بالمعنى الذي شرجناه‪ .‬فهو وسيط نفسه روحيا‬‫بضميره أو الوازع الذاتي بلغة ابن خلدون وهو وصي نفسه بأمره أو الوازع الخارجي بلغة‬ ‫ابن خلدون‪ :‬وبهما هو رئيس بالطبع (ابن خلدون)‪.‬‬‫ولا يكون رئيسا بالطبع ما لم يتمكن بالفلسفة النظرية والعقدية من علاج مشكل العلاقة‬‫العمودية مع الطبيعة (فلسفة الطبيعة) وبالفلسفة العملية والشرعية من علاج مشكل‬‫العلاقة الأفقية مع التاريخ (فلسفة التاريخ) وتلك هي الفلسفات الخمس التي هي مضمون‬ ‫القرآن الكريم إذا قُرأ فلسفيا‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪9‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫مفهوم \"الرئيس بالطبع\" تعريفا للإنسان مفهوم أو من استنتجه من مفهوم الاستخلاف ابن خلدون‬‫ويقابل بينه وبين التغلب الذي هو التأله الفاسد أو الملك‪\" :‬وهذا التغلب (الناتج عن العصبية) هو‬‫الملك وهو أمر زائد على الرئاسة لأن الرئاسة إنما هي سؤدد وصاحبها متبوع وليس له عليهم (على‬ ‫تابعيه) قهر في أحكامه‪ .‬وأما الملك فهو التغلب والحكم بالقهر\" (المقدمة الباب ‪ 2‬الفصل ‪.)17‬‬‫والمعلوم أن الانتقال من منزلة الرئاسة إلى منزلة الملك لا تكون من دون دوافع وأدوات‪.‬‬‫والدوافع هي التي يفسرها ابن خلدون بحب التأله عند الإنسان والاتصاف بما يغفل عن امتناعه‬ ‫للإنسان فينسى أنه خليفة‪.‬‬‫وهو ما يعني أن الانتقال السياسي من الخلافة إلى الملك العضوض له أصل في كيان الإنسان الذي‬‫يصبو إلى أن ينتقل من منزلة الخليفة إلى منزلة الغني عمن استخلفه فيتأله وليس ذلك منحصرا في‬‫السياسة بل في كل الصفات المقومة للإنسان‪ :‬إرادته يريدها سلطة مطلقة وعمله يريده معرفة‬‫محيطة وقدرته يريدها لا مرد لها وحياته يريدها خالدة ووجوده يرد إليه الوجود في إدراكه رؤية‬‫له يظنها محيطة إرادة وعلما وقدرة وحياة‪ .‬وهذه الإرادات كلها تتمثل في التغلب أو في الملك‬‫العضوض‪ .‬ومن ثم فالأمر كله يرد إلى مسألة السلطة وأدواتها‪ .‬وقد رأينا ان الأدوات تبدو قابلة‬ ‫للرد إلى الرمزين موضوعنا‪.‬‬‫ورغم عموم الظاهرة على الصفات الخمس فإن ظهورها الأبرز يكون في السياسة التي هي بالجوهر‬‫سلطان عماده ‪-‬عندما يرد إلى ما في الإنسان من حيوانية‪ -‬القوة الطبيعية في ترجمتها السياسية أي‬‫إلى العصبية سواء كانت قبلية أو حزبية عندما تتهذب فيصبح معيار تحديد الأغلبية سلميا‪ :‬آليات‬ ‫التداول السلمي‪.‬‬‫وهو ما يعني أن الانتقال من الخلافة إلى الملك العضوض يمكن أن يؤول إلى العودة إلى ما يقرب‬‫من الخلافة بمعنى أن الشرعية تصبح هي الأساس بدل الشوكة ولذلك يذكر ابن خلدون أن الدولة‬ ‫يمكن بعد أن تستقر أن تصبح غنية عن العصبية فتعوض الشرعية السياسية العنف السياسي‪.‬‬‫وهو يفسر العنف السياسي بخاصيات تشمل الفرد والجماعة هي سر الاجتماع المنظم سياسيا ببعديه‬‫أي بالشوكة والشرعية سواء كانت الشرعية فعلية أو وهمية وبما يرمز إليهما أعني بالرمزين اللذين‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪10‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫يحققان الشوكة (المال أساس توظيف القوة) والشرعية (العقائد اساس توظيف الشرعية)‪ .‬فلنورد‬ ‫الخاصية المؤسسة‪.‬‬‫\"وإذا تعني له (لمن يستبد بالأمر في العصبية الغالبة) فمن الطبيعة الحيوانية (يعني البعد الأدنى‬‫من الإنسان) خلق الكبر (الرذيلة الأعظم في نظر الإسلام) والانفة فيأنف حينئذ من المساهمة‬‫والمشاركة في استتباعهم (عكس التواصيين) والتحكم فيهم‪ .‬ويجيء خلق التأله الذي في طباع البشر‬‫مع ما تقتضيه السياسة من انفراد الحكم لفساد الكل باختلاف الحكام‪\" .‬ولوكان فيهما آلهة إلا الله‬‫لفسدتا\" فتجدع حينئذ أنوف العصبيات وتفلج شكائمهم عن أن يسموا إلى مشاركته في التحكم وتقرع‬‫عصبيتهم عن ذلك وينفرد به ما استطاع حتى لا يترك لأحد منهم في الامر لا ناقة ولا جملا‪ .‬فينفرد‬‫بذلك المجد بكليته ويدفعهم عن مساهمته‪ .‬وقد يتم ذلك للأول من ملوك الدولة‪ .‬ولا لا يتم للثاني‬‫والثالث على قدر ممانعة العصبيات وقوتها‪ .‬إلا أنه أمر لا بد منه في الدول\"(المقدمة الفصل الباب‬ ‫‪ 3‬الفصل ‪.)10‬‬‫ها نحن من خلال نص بن خلدون بدأن نغوص لنكتشف المرموز وراء الرمزين‪ :‬طبيعة القوة‬ ‫السياسية‪.‬‬‫وهذه القوة السياسية ذات أصلين أولهما هو العصبية والثانية هو صفات القيادة في العصبية‬‫الواحدة ثم فيما بين العصبيات المتنافسة على السلطة والرمزان يتعلقان بالأدوات التي هي في آن‬‫موضوع التنافس وأدواته بين البشر في نفس الجماعة وبين الجماعات‪ :‬قانون كوني وليس خاص‬ ‫بجماعة بعينها‪.‬‬‫وهكذا يتبين أن مدار السلطان والسلطة هو موضوع التنافس وأدواته‪ :‬فالموضوع هو ثمرة العلاقة‬‫بالطبيعة وثمرة العلاقة بالتاريخ أي الثروة المادية والثروة الروحية إذ هما أساس القوة وأساس‬‫الشرعية‪ .‬وهما إذن المرموز في الرمزين اللذين يمثلان أداتي السلطة ببعدها المادي والمعنوي‪:‬‬ ‫العملة والكلمة‪.‬‬‫وهنا يبرز الفرق الذي لم يفت ابن خلدون كذلك وهو ما يمكن نسبته إلى اخلاف ما يسميه \"نحلة‬‫العيش\"‪ .‬فنحلة العيش البدوية تجعل اصحابها يتصورون أن القوة التي لدى الإنسان ليس قوة‬‫إنتاج القوة وأدواتها بل في حيازتها بما لديه من قوة طبيعية فيعتبر الاغارة مثلا أو بيع الخامات‬ ‫ثروة وقوة‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪11‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫فإذا كان موضوع التنافس فيما يدين به الإنسان إلى الطبيعة فإن من لم يدرك علاج العلاقة بين‬‫الإنسان والطبيعة هو القوة وليس ما يدين به للطبيعة من حيث هو منتوجها المباشر مثل الجني‬ ‫والرعي وبيع الخامات وحتى بيع المناخ والتراث في السياحة مثلا‪ :‬هذه ليست ثروة ولا قوة‪.‬‬‫وهذا المسار الفكري هو الذي جعله يكون أول من اكتشف مفهوم القيمة الاقتصادية أو بصورة‬‫أدق كيفية تحديد القيمة وتقديرها للترجمة إلى ما يقبل أن يصبح مادة للعملة‪ :‬إنه كمية العمل‬‫التي في المنتج ومن ثم فضمنيا هو كذلك منزلة المنتج في سلم المنتجات السادة للحاجات الاستعمالية‬ ‫والتبادلية‪.‬‬‫فتكون القيمة القابلة للترميز بالعملة كمية وكيفية فكمها يقاس بكم العمل وكيفها يقاس بمنزلة‬‫المنتج في سلم الحاجات الاستعمالية والتبادلية في حضارة من الحضارات بحسب حقب تطور بعدي‬‫الذوق فيها وارتقائها إلى الرموز وعم الاقتصار على أساسي الذوق‪ :‬الغذاء وفن المائدة والجنس‬ ‫وفن السرير‪.‬‬‫ولهذه العلة كذلك وصل ابن خلدون بين الاقتصاد والعلوم (والتعليم عامة) معتبرا أن كل‬‫الصناعات التي تغير نحلة العيش تكون في البداية خبرات أولية ثم ترتقي لما يعود عليها العلم‬‫فتصبح ثمرة تنظير لعلاج العلاقة العمودية بين الإنسان والطبيعة والعلاقة الأفقية بين الإنسان‬ ‫والإنسان‪.‬‬‫فتكون نحلة العيش الأرقى معتمدة على العلم وتطبيقاته في استخراج الثروة من الأرض ومن‬‫الخدمات وعلى الحاجات الاستعمالية وخاصة التبادلية التي تنتج عن الحياة في المدن أو بلغة ابن‬‫خلدون عن الترف وتجاوز الحاجات الاولية‪ :‬فيكون المنتج مستمدا قيمته من عنصر ثالث أصلا للفرق‬ ‫بين القيمتين‪.‬‬‫فالقيمة التبادلية أرفع من القيمة الاستعمالية للبضاعة والخدمة بسبب كون التبادلية لا تسد‬‫حاجات مادية بل تسد حاجات روحية مثل الفنون الرياش والأثاث وزينة النساء ولباسهن وكل ما لا‬‫يتعلق بالحاجات الأولية‪ .‬وطبعا لا تنعكس العلاقة بين القيمتين إلافي الحروب مثلا‪ :‬سد الحاجات‬ ‫الأولية هو الأهم‪.‬‬‫ذلك أن شربة ماء لمن ضل طريقه في الصحراء أو جزء من كسرة في الحرب لا يساوها ذهب الدنيا‬‫كلها لكن الكلام على يتعلق بما يتنافس عليه الناس في السلم‪ .‬أما في الحرب ‪-‬لمن يفهم معنى الانفال‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪12‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫‪-60‬فإن من لم يستعد لها يكون دائما مهددا بوضع المحتاج لشربة ماء في الصحراء وقطعة كسرة في‬ ‫الحرب‪.‬‬‫وهذا ما يعيدنا إلى بيت القصيد‪ :‬شرطا الحرية الروحية والسياسية‪ .‬فحتى يكون الإنسان حرا‬‫بحق ينبغي ألا يدين بشرطي رعايته وحمايته لغيره وإلا فهو يكون قد اختار أن يكون بينه وبين‬‫ربه وسيط ووصي‪ .‬الوسيط يفرض الجهل لمنعه من الاعتماد على فكره والوصي يفرض الخنوع لأنه‬ ‫يمسكه بحاجاته الأولية‬‫وغالبا ما يدعي الوسيط والوصي ما ينتج عن الخلط بين معنيي الفرض‪ :‬يخلطون بين فرض‬‫الكفاية وفرض العين‪ .‬فلا شك أن العلم والحكم كلاهما كفن وتخصص يمكن أن يعتبرا فرض كفاية‪.‬‬‫لكن هما في المقام الأول فرض عين‪ .‬فالضروري للحرية الروحية (العقد) والسياسية (الشرع)‬ ‫كلاهما من أهم مقومات ذات الإنسان‪.‬‬‫وسهم الإنسان فيهما هما معنى كونه إنسانا حرا في نظره وعقده وحرا في علمه وشرعه‪ .‬ذلك أن‬‫الخبير في العلم وفي العمل يمكن أن يحتاج إليه الإنسان بوصفه خبيرا وليس بوصفه وسيطا‪ .‬ولهذه‬‫العلة لا يوجد في الإسلام كرسي الاعتراف وكنسية غسل الذنوب في النظر والعقد وفي العمل‬ ‫والشرع‪.‬‬‫هذه كلها أربعتها فروض عين ولا ينبغي خلطها بفروض الكفاية التي هي في خدمة من يؤدون‬‫فروض العين وتحت رقابتهم بل ويخضعون لاختيارهم‪ :‬فالإنسان الحر يختار الطبيب والمحامي‬‫والسياسي ويستخدمهم في القيام بما يعلم معايير تقييمه فيحاسبهم عليه بعضهم بالنتائج وبعضهم‬ ‫بالوسائل‪.‬‬‫مثال ذلك أن الإنسان الحر الذي يقوم بفرض العين يقيم الطبيب بواجب الوسيلة ويقيم السياسي‬‫بواجب النتيجة‪ .‬إذا قام الطبيب بما يوجه فنه ولم يشفى المريض فكلنا يعلم أن الشفاء على الله‬‫إذا كان الطبيب لم يخل بالوسيلة (تشخيصا وعلاجا) لكن السياسي مطالب بالنتيجة لأن العمل الغائي‬ ‫محدد بها‪.‬‬‫ومثله المهندس المعماري أو المدني‪ :‬إذا بنى الأول بيتا وسقط (دون عامل قاهر كأن يكون زلزالا‬‫أو طوفانا إلخ‪ )..‬وإذا بنى الثاني طريقا جرفها أدنى زخات مطر فهو يحاسب على بالنتيجة وليس‬‫بالوسيلة وكل ذلك يقتضي أن يكون الإنسان هو المسؤول عن ذاته وساطة ووصاية ولا يعتمد على‬ ‫وسيط أو وصي غيره‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪13‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫من تعودوا على المقابلة بين الفكرين الديني والفلسفي بدعوى أن الأول نقلي ونصي‬‫والثاني عقلي وواقعي لن يستطيعوا متابعة هذه المحاولات لأنها تبدو لهم خلطا بين‬‫جزيرتين لا يصل بينهما سبب لان الحواجز الأيديولوجية بين كاريكاتوري التأصيل‬ ‫والتحديث تحول دون أي وصل‪.‬‬‫وإذا حدث فأقدم البعض على الوصل كان من أسخف ما يقع وخاصة إذا كان من جنس ما‬‫يسمى بالإعجاز العلمي الذي يشوه العلم والقرآن في آن‪ .‬ما بيناه قبل هذه المحاولة يثبت‬‫أن القصد ليس الوصل بين مجالين مفصولين المقابلة بين العقلي والنقلي ليس لها أدنى‬ ‫معنى‪ :‬فكل معرفة لها الوجهان‪.‬‬‫لا توجد معرفة مضمونها ليس نقليا ولا توجد معرفة شكلها ليس عقليا وعندما نغوص في‬‫حقيقة المعرفتين الدينية والفلسفية نكتشف أنهما تتجاوزان هذه المقابلة بإطلاق لأن‬‫النقلي والعقلي فيهما واحد وهو التخلص من الذاتي المقصور على النفسي وهو الكلي الذي‬ ‫ينتسب إلى الواحد في وجهي المعرفة‪.‬‬‫والواحد في وجهي المعرفة ‪-‬أو الكلي‪-‬هو الإيمان بأن الإنسان لما يطلب الحقيقة فهو يسلم‬‫بوجودها وبأنها متعالية على إدراكه النفسي فيعتقد في آن أن له إدراكا يتجاوز شخصه‬‫النفسي إلى ذات كونية تدرك موضوعا كونيا هو الممكن له من الحقيقة سواء سماها فلسفية‬ ‫أو دينية فكلتاهما ليست محسوسة‪.‬‬‫وحتى يفهم كلامي هذا فليعلم القارئ أني أقصره على الإسلام الذي هو كما بينت سابقا‬‫الديني في كل دين وليست دينا من الأديان وهو ما بعد الديني الناقدي لتحريفات الأديان‬‫الاخرى وهو يرفض الاعجاز الخارق للعادة بل هو يعتبر المعجزة الوحيدة هي النظام في‬ ‫الطبيعة والتاريخ ويحرم الخوض في الغيب‪.‬‬‫ولذلك فالإسلام نفسه هو الذي يتجاوز المقابلة السطحية بين النقل والعقل لأنه يعتبر‬‫تبين حقيقته لا تكون من نصه كنقل بل من آياته في الآفاق والأنفس ومن ثم كإدراك عقلي‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪14‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫يتعالى على المحسوس وعلى توهم طبيعته مادية كانت أو روحية لأن طبيعته غيب لا يحيط‬ ‫به إلا الله‪ :‬ندرك ما يتجاوز النفسي‪.‬‬‫وما يتجاوز النفسي البعض يتصوره كيانا ماديا والبعض يتصوره كيانا روحيا لكن كلا‬‫التصورين ليس لنا عليهما أدنى دليل بدليل أن كل مادة نتصورها نهائية نتكشف أن التمدد‬‫فيها نسبي إلى درجة علمنا بها وبمجرد أن يتقدم علمنا نكتشف أن تمددها يتهاشش إلى‬ ‫حد التضاؤل فلا يبقى فيها إلا ما يشبه الفكرة‪.‬‬‫لكأن الكثافة المادية التي نتوهمها في الموجودات هي من جنس النسيج المناسب لمداركنا‬‫العادية وهي في ذاتها أو خارج مداركنا لا ندري ما هي بل إن نسيجها يتلاطف بالتدريج‬‫حتى لا يكاد يبقى فيه شيء مما نسميه مادة فلا تكون المادة إلى ما تحتاج إليه حواسنا‬ ‫بوصفها تواصلا إدراكيا مع الوجود‪.‬‬‫وقد أجازف فأقول إن ما في الوجود كله آيات أو رموز تتكايف وتتلاطف بحسب نوع‬‫الإدراك فتكون بالنسبة إلى حواسنا وكأنها مواد كثيفة ولكنها تتلاطف إلى حد تحول المادي‬‫إلى الطاقي والطاقي إلى المادي وكلاهما يمكن ألا يكون إلا مجرد آيات أو رموز أو كلمات‬ ‫وكلها تسميات قرآنية للمخلوقات‪.‬‬‫وهذا ما بدأنا نلحظه في كلامنا على الرمزين‪ :‬عدنا بهما إلى ما به يفعلان‪ .‬فالعملة‬‫تفعل بأمرين بما تضفيه عليها السلطة السياسية من نفاذ وخاصة بعد أن أصبحت العملة‬‫ورقية عديمة القيمة الذاتية فيكون الفاعل فيها ليس الورقة بل سلطة النفاذ التي هي‬ ‫سلطة مجردة للدولة وضعتها عملة للتبادل‪.‬‬‫لكن سلطة النفاذ لا يكفي فيها قرار السياسة إذ لا بد أن يكون للعملة رصيد تمثله يقاس‬‫بقوة الاقتصاد الذي ترمز إلى القيم فيه ممثلة العلمة أداة تبادل‪ .‬صحيح أن الحكومات‬‫يمكن أن تطبع أكثر مما يخوله هذا التناسب فيحصل التضخم الذي يفقد العملة قيمتها‬ ‫وقدرتها الشرائية‪ :‬فيتكاثف الأساس‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪15‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫ثم نتقدم خطوة أخرى فنجد أن الأساس ليس علاقة بين البضائع والخدمات أو دور‬‫السوق (عرضا وطلبا) في تحديده بل إن التناسب بين المنتجات بنوعيها والحاجات بنوعيها‬‫والقيم بنوعيها كلها ذات صلة بالعمل ومراحل تحول إلى بضاعة أو خدمة هي التي تحدد‬ ‫بالعرض والطلب مقياس القدرة الشرائية للعملة‪.‬‬‫والعمل المنتج للبضاعة والخدمة ليس ماديا إلا فيما سماه ابن خلدون \"نحلة العيش\"‬‫بالبدائية جنيا أو رعيا لمنتج الطبيعة أو بعض الصناعات البدائية التي تعتمد على العمل‬‫اليدوي لكن التقدم الحضاري شيئا فشيئا يتحول إلى عمل الفكر فيه متقدم على اليد‬ ‫وحتى الآلة التي تعوض اليد فيها تتلاطف‪.‬‬‫فلا يكاد يبقى من العمل بمعناه المادي إلا النزر القليل وقد يحين وقت يصبح فيه الأنسان‬‫وكأنه يعمل بـ\"كن\" يأمر المواد فتطيعه ويأمر الآلات فتعمل بدلا منه والآلات يصنها بفكره‬‫خاصة لأنها في الحقيقة نظريات تتحول إلى آلات مثل المجهز والمسابر التي هي نظريات‬ ‫بصرية تصبح أدوات إدراك آلية‪.‬‬‫وهذا النسيج الفكري والنظري هو في الحقيقة نسيج رمزي المادي فيه مجرد حامل عرضي‬‫قد يصبح مقصورا على أداة البث وأداة الالتقاط كما يحصل التواصل الحالي الذي يستعمل‬‫الأمواج الكهرومغناطيسية حوامل للتواصل مع المجرات وبين البشر فالعالم المادي العادي‬ ‫من تخلف القائلين \"الواقع\" غير الافتراضي‪.‬‬‫هذه المقدمة التي تتعلق بطبيعة ما يتجه إليه الفكر‪-‬دينيا كان أو فلسفيا‪-‬بوصفه‬‫الموضوع الذي يستهدفه النظر بوصفه ذا قيام ذاتي مستقل في وجوده عن الإدراك لا فيما‬‫يدرك منه ويعتبر عين الوجود خارج الإدراك هو \"شيء\" ما لا نعلم طبيعته ما هي حتى‬ ‫وإن غلب على الدين اعتباره روحيا والفلسفة ماديا‪.‬‬‫وبهذا المعنى أوحد بين الفكرين لأن حكم أي منهما لا يستنده ما يقبل اسم العلم بل هو‬‫عقد منطلقه تضخيم دور المحسوسة بداية و\"الاستقلالية\" عن كل إدراك غاية وهما ما‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪16‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫يعرف به الموضوع القائم بذاته خارج فكر الإنسان ومداركه أو الوجود خارج الأذهان أو‬ ‫الوجود في الأعيان دون تحديد دقيق للعينة‪.‬‬‫فما نسميه عينا لا يمكن أن يتجاوز إدراكه الإشارة إليه كأنية قائمة بالذات لو حاولنا‬‫تحديدها مفهوميا لكان ينبغي أن نؤمن بأنه بالوسع قول اللامتناهي من الصفات والأعراض‬‫حتى يميز بإطلاق عن عين أخرى فالتحيز في المكان والزمان لا يكفي إلا إذا تصورنا‬ ‫المتحيزين المتخارجين ليس بينهما وصل‪.‬‬‫فقد يكون بين الأشياء المتحيزة في المكان والزمان ومن ثم المتماعية في المحل من الوصلات‬‫ما لا يتناهى من سوائل و شفيف لا يتناهى مستويات الكثافة لامتناهية الصغر بحيث لا ترى‬‫ولا تدرك إنسانيا ولكنها تشبه ماء البحر بالنسبة إلى الأسماك فتكون الأحيان سابحة كلها‬ ‫في محل يمسك بوجودها معا‪.‬‬‫وفي الفيزياء يتكلم العلماء على الأربعة قوى التي سينتظم بها العالم هي قواه الأساسية‬‫هي القوة الذرية الضعيفة والقوية والقوة الكهربائية المغنطية وقوة الجاذبية ولا بد لها‬‫من حامل هو الاصل وهي فروعه لئلا يكون قيامها في الخلاء وهي توحد نظام العالم‬ ‫الطبيعي دون أن ندري طبيعته ما هي‪.‬‬‫وكل قوة هي فاعلية في بقية الموجودات ونعتبرها موجودا لتوهمنا دائما أن وراء أي‬‫فاعلية شيئا فاعلا ولا نسلم بأن الفاعلية قد تكون فاعلية لا غير وليس وراءها شيء فاعل‬‫إذا تخلصنا من قيس العالم على ذواتنا اذ نتخيل أننا \"جوهر\" وراء افعالنا التي نعتبرها‬ ‫من ظواهره ونتوهم وراءها جوهر يمسك بها‪.‬‬‫لكننا يمكن أن نكون من جنس مونادات لايبنتز كالمرايا التي تعكس العالم كلها في كيانها‬‫شبه الذري دون أن يكون ماديا لأن المونادات عنده روحية وليست مادية‪ .‬لكن كونها مادية‬‫أو روحية يبقى مجرد ترجيح غير مبني إلا ما كوننا لا نستطيع تصور الأعيان إلى أعيانا‬ ‫مادية وتلك علة عسر فهم الدين‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪17‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫ولما كان الامر غير قابل للحسم بصورة علمية يقينية فإني اعتبر الدين والفلسفة أو على‬‫الأقل الديني الذي هو جوهر الإسلام لا يميز بينهما بل من يقرآ القرآن ويصدق ما فيه إن‬‫كان مؤمنا به لا يمكن أن يحسم في خلافات المتكلمين حول مسألة الصفات ومن ثم فلا حسم‬ ‫ويبقى الأمر وجهين لنفس المعنى‪.‬‬‫أو هما بصورة أدق درجتان من درجات تخيل الوجود الغيبي وراء ما ندركه من الوجود‬‫الشاهد‪ .‬ولا أعتقد أن الامر يغير شيئا في المعتقدات ولا حتى في النظريات لأنه من‬‫المتشابهات التي نهينا عن الخوض فيها في آل عمران ‪ 7‬والنهي يشمل كل البشر ولا يستثنى‬ ‫منه أدعياء الرسوخ في العلم‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪18‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫الفصل الأخير سيبحث في تعريف \"الدنيا مطية الآخرة\" فلسفيا تعريفا يتطابق فيه‬‫القرآني والفلسفي دون أن يكون الكلام في المفهوم ذا علاقة بالغيب لأن التعريف لا يتعلق‬‫بطبيعة موضوع هذا المفهوم أو ما صدق هذا التصور بل هو يتعلق بما يدركه الإنسان من‬ ‫وجوده في كما يتعين في المعادلة الوجودية‪.‬‬‫في الحقيقة العبارة \"الدنيا مطية الآخرة\" ليس المقصود بها ترتيبا زمانيا بين الدنيا‬‫والآخرة لكأن الأمر يتعلق بما بين الأولى والأخيرة من توال بل القصد هو أن أعمال‬‫الإنسان في الدنيا هي ما يجعله خلال حياته الدنيا يرتقي إلى ما يؤهله لجزاء بمعايير‬ ‫حياته الأخرى‪.‬‬‫وحتى لو طبقناها على الحدين الدنيا والأخرى فليس القصد الترتيب بل التراتب‪ :‬أي‬‫إن لحياة الإنسان رتبتين واحدة دنيا والأخرى عليا أو واحدة للعمل الاختباري والثانية‬‫للاطلاع على نتيجة العمل الاختباري‪ .‬ويمكن أن نقول إن العمل الاختباري يتعلق بمدى‬ ‫مطابقة الاستعمار في الأرض لقيم الاستخلاف‪.‬‬‫انس الدين الآن واعتبر نفسك تنظر في ملف أحد نواب سلطة معينة كلف بمهمة ثم جاء‬‫يوم الحساب على عمله في تلك المهمة‪ :‬ستجد أن العلاقة في عبارة الدنيا مطية الآخرة كأنها‬‫عبارة على علاقة بين مستويين من السلطة أحدهما مكلِف والثاني مك َلف‪ .‬وهي إذن عبارة‬ ‫تصف علاقة بين سلطتين عليا ودنيا‪.‬‬‫انس الآن علاقة السلطتين السياسيتين وانظر في علاقة مبدئين أحدهما أدنى والثاني‬‫أعلى في نظام أكسيومي أو في نظام منطقي أو رياضي معين‪ .‬فلو شخصنا المبدئين واعتبرنا‬‫ما نقوم به نحن المستعلمين للمبدئين من مراجعة الثاني بمعيار الأول أو الأدنى بمعيار‬ ‫الاعلى فإن الوضعية هي ما حددنا‪.‬‬‫انس الآن العلاقة بين مبدئين في نظام أكسيومي وفكر في العلاقة بين قوتني في النظام‬‫الطبيعي‪ .‬ستكون الوضعية هي عينها إذا تصورنا أن ما في النظام من علاقة بين القوتين هو‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪19‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫ما نراه نحن فيما بين القوتين من تفاعل يحتكم إلى مجرى قوة النظام الاعلى في تقييم قوة‬ ‫النظام الأدنى‪ .‬فنجد نفس الوضعية‪.‬‬‫وهذا ما أعنيه بالقول إن مفهوم \"الدنيا مطية الآخرة\" في كلامنا الديني‪-‬دائما في الإسلام‬‫الذي يحتج بمعجزة النظام وليس بمعجزة خرقه‪-‬لا يختلف عنه في كلامنا الفلسفي إذا نحن‬‫قرأنا القرآن قراءة فلسفية بمعنى اعتباره كما يعرف نفسه قولا في القول الديني أو ما بعد‬ ‫الأخلاق لنقد تكوينية الإنسان‪.‬‬‫والقصد بتكوينية الإنسان هو تحقق ما فطر عليه الإنسان (الأعراف ‪)173-172‬‬‫بالفعل خلال النضوج الذي اعتبر القرآن غايته تبين الرشد من الغي شرط الحرية الدينية‬‫بمعنى شرط منع الوسطاء والأوصياء اللذين يفرضان الإكراه في الدين‪ .‬فتكون التكوينية‬ ‫هي تحقق الحريتين وإلغاء الوساطة والوصاية‪.‬‬‫وعلامة هذا التحقق هو إلغاؤهما مضمونا للرسالة الخاتمة أو التذكير الأخير بما فطر‬‫عليه الإنسان أو بالميثاق الذي حددته آيات الأعراف ‪ .173-172‬وعندما يتحقق‬‫الشرطان الحرية الروحية والحرية السياسية يصبح حساب الإنسان على تحقيق مهمته‬ ‫الاستعمار بقيم الاستخلاف تحقيقا يحاسب عليه إيجابا وسلبا‪.‬‬‫وبذلك يكون علاج هذه المسألة علاجا لا فرق فيه بين الفلسفي والديني الذي من جنس‬‫ما حدد القرآن فيصبح اعتباري الإسلام بما هو ما بعد أخلاق فلسفة دين يتفرع عنها أربع‬‫فلسفات هي فلسفة الطبيعة وفلسفة التاريخ وفلسفة النظر والعقد وفلسفة العمل والشرع‬ ‫ومجموعها هو مضمون القرآن الكريم‪.‬‬‫وحتى تكتمل عبارة \"الدنيا مطية الآخرة\" لا بد من وصلتين بين الدنيا والمطية وبين‬‫المطية والآخرة حتى نفهم كيف للدنيا أن تكون مطية وأن نعلم كيف للآخرة أن تحتاج لمطية‬‫للوصول إليها‪ .‬فالمطية هنا وساطة بين حالتين أو بين منزلتي متساوقتين في حياة الإنسان‪:‬‬ ‫فحياة الإنسان مسيرة بين حدين‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪20‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫فليست الدنيا هي المطية بل المطية هي هذه الحركة الدائمة في حياة الإنسان بين الحدين‬‫الدنيا والآخرة‪ .‬أو بين المنزلتين الوجوديتين المتلازمتين والمتساوقتين وليستا واحدة وراء‬‫الأخرى بل هما دائما متعاصرتين‪ :‬إنه امتطاء الدنيا للوصول إلى الأخرة في سفر متزامن‬ ‫لا ينقطع عن منطلقه وغايته‪.‬‬‫وأول ملاحظة ينبغي الانتباه إليها هي أن عودة الذات على ذاتها أو الوعي هي هذا‬‫التلازم بين الحدين في الحركة من أولهما إلى ثانيهما دون أن ينفصلا أو يتواليا بل هما‬‫متساوقان كل ما يجري في أحدهما يجري في ثانيهما تماما كالوعي بالذات حيث أكون أنا‬ ‫الواعي والموعى به في آن‪.‬‬‫وكل منا يعي أن ذاته كوعي تبدو وكأنها سابقة عن ذاته كموعى به لكنه يعلم أن العلاقة‬‫هي من جنس المنعكس والمنعكس عليه فيكون في الحقيقة الموعى به وكأنه هو السابق لأنه‬‫هو المنكس والوعي هو المنعكس عليه‪ .‬وإذ كل منهما يبدو سابقا ولاحقا فهما إذن متساوقان‬ ‫ويبدوان متلاحقين بالتناوب‪.‬‬‫وبذلك يتبين أن الوصلتين بين \"مطية\" وما قبلها وبين \"مطية\" وما بعدها تمتدان لتصبحا‬‫بسبب هذا التساوق المتناوب بالتبادل محيطتين بالحدين‪ :‬فيكون الامتطاء سابقا ولاحقا لكل‬‫منهما‪ .‬ومعنى ذلك أن الإنسان يعيش في باطنه هذه الحركة الدائبة بين موجوده الدنيوي‬ ‫ومنشوده الأخروي‪.‬‬‫وتكون المسيرة من الموجود إلى المنشود هي حركة في كيان الإنسان أشبه بما يجعل وجدانه‬‫وكأنه بئر ارتوازية تتفجر ماء (رمز الحياة) يصعد نحو السماء وتلك هي الدين الفطرة‬‫والفلسفة الفطرة إذ يتحدان في الاشرئباب الفطري لاستكمال الكيان بما في الوجدان من‬ ‫عبادة الرحمان‪.‬‬‫والفلاسفة يسمون ذلك حب الحكمة والدين يسميه حب الله والله هو الحكمة أو هذا‬‫الاشرئباب للتعالي حركة تنسل من الدنيا إلى الأخرى ليس بالهروب منها بل‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪21‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫بسياستها(الاستعمار)بقيم بمطالب الفلسفات الخمسة التي يذكر بها القرآن‪ :‬فلسفة الدين‬ ‫أو ما بعد الأخلاق ثم الفروع الاربعة للحكمة التي ذكرت‪.‬‬‫وقد حدد القرآن طبيعة المطلوب من الحكمة الأصل أو فلسفة الديني في الأديان وهو‬‫الأخلاق وحدد المطلوب في فلسفة الطبيعة وفي فلسفة التاريخ وهي الآفاق والأنفس بوصفها‬‫موضوعات لفلسفة النظر والعقد ولفلسفة العمل والشرع‪ :‬هدفهما اكتشاف قوانين الطبيعة‬ ‫وسنن التاريخ‪ :‬نظام الطبيعة ونظام التاريخ‪.‬‬‫ونظام الطبيعة يحدد القرآن طبيعته بوصفه نظام الخلق ويعتبره رياضيا تجريبيا وبه‬‫يستدل على نظام العالم المادي ونظام التاريخ يحدد طبيعته بوصفه نظام الامر ويعتبره‬‫سياسيا خلقيا وبه يستدل على نظام الروحي ونظام النظامين هو الحكمة الإلهية التي تجعل‬ ‫الله أحسن الخالقين وأعدل الآمرين‪.‬‬‫ورغم أنه لا يبدو أن كل الفلسفات والعلوم مطابقة لهذه الرؤية فتعتبرها من الوجهين‬‫الديني والفلسفي فإني أستطيع أن اجزم ان التي لا تقبل بذلك مضطرة لما يناظره فتضعه‬‫في الطبيعة وفي التاريخ لأنه هو مطلوب بحثها‪ :‬فهي تطلب النظامين وتضع حتما أن الأول‬ ‫رياضي تجريبي والثاني سياسي خلقي‪.‬‬‫ولست أرى في ذلك تناقضا مع من يضفي على هذا الوجه الذي يحيثه بعض الفلاسفة في‬‫الطبيعة وفي التاريخ لأن الأمر لا يتحقق بالمحل بل بما يحل فيه‪ :‬فمن اله الطبيعة اضطر‬‫إلى يضاعفها فسمى الوجه الفاعل طابعا والوجه المفعول مطبوعا (ناتور ناتورنس وناطور‬ ‫ناطوراتا) في وحدة الوجود الطبعانية‪.‬‬‫وحتى من يعتبر النظام وليد الصدف فهو بالضرورة يعتبر تراكم الصدف الذي ينتج‬‫الانتظام التدريجي كما عند أصحاب النظرية التطورية في الظاهرات الحية فهو في النهاية‬‫يؤمن مرتين بأن للإنتظام قانون يجعله يصبح نظاما‪ :‬الأول هو تراكم المفيد من الصدف‬ ‫والثاني هو الانتخاب الطبيعي الذي يلغي الضار‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪22‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫فيكون القائل بالصدف من حيث لا يعلم ينتهي في الغاية إلى القول بما يشبه الغائية‬‫فيكون أكثر سذاجة من المتدينين‪ :‬ذلك أن هؤلاء من البداية يقولون بغائية في الوجود هي‬‫ما يعتبرونه حكمة‪ .‬لكنه يجعل من الفوضى اصلا للنظام فيجعل الحكمة غير حكيمة السلف‬ ‫وحكيمة الخلف‪ .‬ولا بأس‪ :‬فالحكمة واجبة‬‫ذلك ما أردت تعريفه واستنتاجه من عبارة \"الدنيا مطية الآخرة\" حتى يفهم الكثير ممن‬‫يستهينون بعمق بعض العبارات الدينية وأبعادها الفلسفية العميقة التي هي في الحقيقة‬‫من المعاني المقومة للوجود الإنسان رغم الغفلة عنها ونسيان ما فيها من مفجر لحركات‬ ‫الوجدان الروحي وعلاقة الموجود بالمنشود‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪23‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪24‬‬ ‫الأسماء والبيان‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook