أبو يعرب المرزوقيالدنيا الأسماء والبيان
المحتويات 2 -الفصل الأول 1 - -الفصل الثاني 5 - -الفصل الثالث 10 - -الفصل الرابع 14 - -الفصل الخامس 19 -
--لما أرجعت كل ما يوجد في حياة البشر إلى التبادل والتواصل ورمزيهما أعني رمز الفعل أو العملةوفعل الرمز أو الكلمة وركزت خاصة على الرمزين بوصفهما يمكن أن يردا إلى بعدي دين العجل أيمادته (ذهب العجل) وصورته (خوار العجل) لم يكن القصد حصر سلطان الإنسان على الإنسان فيهما.صحيح أن سلطان الإنسان على الإنسان لا يحصل فعليا إلا بهما لكنهما ذوا سلطان بوصفهما رمز مابه يحصل سلطانهما ومن ثم فالسلطان له قاعدة أعمق منهما وهما يمثلان السلطان تمثيل الرمز للمرموز .ولو ذلك لاستحال السلطان الزائف ولكان السلطان حقيقته هي ظاهره الرمزي.وإذن فسلطان الرمزين سلطان عارية أي إنه مستعار مما يرمزان إليه فعليا أو وهميا .وحتى نفهممعنى المستويين كون سلطان الرمز عارية من المرموز وكونه يمكن أن يكون عارية فعلية أو عاريةوهمية فلنتصور أحدا تظاهر بالثراء فاستعمل رموزه مثل السيارة والهندام ليوهم ليخادع أحدا بذمة كاذبة.وهذا يكثر في الأعمال وفي السياسة وفي علاقات الرجال بالنساء حيث إن للإيهام برموز القوةتطمئن فتمكن من الخداع اليسير في الأعمال وفي السياسة وخاصة في غزو النساء عند من أزيارالنساء وقد يكون الأمر كذلك عند \"ازيار\" الرجال من النساء .فالرمز ييسر الخداع بسبب العارية والوهم.وقبل الغوص في هذه الإشكالية أريد أن أعتذر لنوعين من المعترضين على هذا النوع من البحثوخاصة على لغة الكلام فيه .فالاعتراض على الفلسفة التي تبحث فيما يبدو عديم الفائدة لمنعقموا الفكر بسبب ارتمائهم في الفائدة المباشرة وهذا يغلب على الثقافة التقليدية التي وصلت إلى تحريم الفلسفة.فطالب الفائدة المباشرة يبقى دائما في المباشر فلا يرى شروطه ويظل حياته وحياة الامة التي لهعليها سلطان يستمده من دعواه العلم بالمباشر النهائي أي القفز إلى الآخرة التي تتحول إلى سلطانالتخويف هذا النوع من الفكر هو الذي حال دون العلم بقوانين الطبيعة وبسنن التاريخ فجعلنا ذيل الأمم.أبو يعرب المرزوقي 1 الأسماء والبيان
--وهؤلاء رغم خطر ما ترتب على فكرة الفائدة المباشرة معذورون فهم ينتسبون إلى رؤية بدأتتنقرض ولم يعد الاعتراض على التأمل الفلسفي حتى فيما يبدو عديم الفائدة يجد الكثير منالاعتراض بل إني شديد السعادة بما أراه من اهتمام متزايد بالفكر المجرد عامة وعلى رأسه الفلسفة لدى الشباب من الجنسين.لكن ظاهرة أخرى عجيبة بدأت تطغى على الساحة الفكرية وهي الاكتفاء بتصنيف محاولاتالتفكير الفلسفي بما ينسب لصاحبها من مواقف إيديولوجية أو عقدية قد تكون صحيحة وقد لاتكون دون اعتبار إلى أن ذلك لا يغير من أهمية الفكر بصرف النظر عن موقفه العقدية التي تخصه شخصيا. وحتى يكون هذا الأمر بينا فلأضرب مثالا يخصني :يعاب علي الاهتمام بابن تيمية لعلتين: .1لموقفهم من ابن تيمية بسبب الحكم عليه من منطلقين علاقته بأعداء الأمة في عصره وعلاقته بما يدعي الانتساب إلى فكره في عصرنا. .2ولظنهم أني أحاكم الفكر بمعاييرهم هم فألغي مفكرا بسبب عقائده وعقائدي.والعلة الثانية هي أصل العلة الأولى :اي إن موقفهم مني من جنس موقفهم من ابن تيمية .لكنلو كانت أرى المفكرين بهذه العين لما درست هيجل أو ماركس أو هيدجر .فثلاثتهم عقائدهم لا يمكنأن يقبل بها أي مسلم صادق .لكني أميز بين فكرهم ومواقفهم .لا احمل هيدجر نازية هتلر ولا ماركس فاشية ستالين.الظاهرة الجديدة هي إذن تحميلك عقيدة من درست فكرهم ولا يعلنون ذلك بل يبحثون فيماتكتب عما يمكنهم من \"لعنك\" باسم أمور أخرى تعود في النهاية إلى موقف الشيوخ الذي بدأنا :بعضهميعتبرك تكتب ما لا يفهم وهي حجة لا ينكرها أحد خاصة والجميع يعلم أم من لا يفهم لا يتهم نفسه بل يتهم الكاتب.فإذا قلت له إن ابن سينا والكل يعلم من هو من حيث الذكاء والعبقرية اعترف أنه قرأ ميتافيزيقاأرسطو عديد المرات ولم يفهم لكنه واظب على قراءته حتى وجد شرحا للفارابي ففهم وحمد الله.لكن كيف تنصح أعشار المثقفين بأن يتواضعوا كما تواضع ابن سينا :سيتهمونك بالادعاء لأنك ليست أرسطو.لا شك أني لست أرسطو واعترف بذلك .لكن الصحيح أيضا أن قصاصا شديد التوسط لا يمكنهأن يدعي أنه يحاكم قدرتي على الترجمة فضلا عن معرفتي بالعربية التي لا يعرف منها إلى الكتابةأبو يعرب المرزوقي 2 الأسماء والبيان
--الصحفية ولا يفهم أكثر منها فيزعم أن ترجمتي لهوسرل غير مفهومة لكأنه يفهم هوسرل حتى يحكم على نقله إلى العربية.أما بعض الشباب الذي يكون فرحا بما تعلم فيريد أن يثبت ذاته بمناقشات شكلية فهؤلاء يمثلونظاهرة صحية ومبشرة بكل الخير لأن حماسة الشباب وطموحهم وسعيهم لإبراز نبوغهم ليس عيبالأنه سرعان ما يزول بمجرد تجاوز لذة الاكتشاف الأول الذي يليه التواضع والنظر متعدد الأبعاد.ويوجد موقفان آخران لهما أساس في الممارسات الجارية حاليا بسبب سلطان الصراعاتالإيديولوجية وكلتاهما تحولان دون العلاج الفكري لأن الاتهام بهما صار عملة سارية :فإذا قلتالحقيقة لصالح أحد اعتبروك أجيرا عنده وإذا قلت الحقيقة ضد أحد اعتبروك في خدمه خصمة والغلب تهمة الطائفية والإرهاب.والأصل الجامع بين هذه المواقف الأربع هي عدم الإيمان بحرية الفكر لأن كل هؤلاء يعتبرونموقفهم حقيقة مطلقة تسمح لهم بعدم السماح لغيرهم بأن يهتم بما يريد أن يهتم به حتى لو كانجنونا .لم يزل أصحاب هذه المواقف يعتبرون أنفسهم حكما في فكر غيرهم يعيروه ويصنفوه بهواهم دون نقد ذاتي.طبعا سترد الحجة بالعكس :لما ترد عليهم ألست تقف موقفهم .اتركهم يقولون ما يحلو لهم .وهوما أفعل غالبا لكن أحيانا تفيض الكأس لما تسمع مبتدئا او ربع مثقف يحاكم الفلسفة عامة بمعيار الفائدة (ولا أتحدث عن محاولاتي) أو يحاكمك بمعيار ما يفهم \"عقيله\".أعود إذن إلى \"ما لا فائدة منه\" بلغة \"لا تفهم\" وأواصل الكلام في سر السلطان الذي يرد إلىالرمزين رمز الفعل او العملة وفعل الرمز أو الكلمة حتى ندرك معنى العارية ويسر تحولهما إلىبعدي دين العجل في كل الحضارات وعلة تحذير الرسالة الخاتمة من هذه الوظيفة التي تستعبد الإنسان.ذلك أن الرمزين لا يمكن الاستغناء عنهما لا في الكلام على الدنيا ولا في الكلام على الأخرى.فحتى الاخرى فيها للرمزين دور شبيه بدورهما في الأخرى .والمثال الأكثر وضوحا هو مفهوم الرباالمحرم في الدنيا والذي هو مفهوم شديد الفاعلية في الأخرى لأن الله يربي الحسنات ويقترض القرض الحسن.وما كان ذلك ليكون مفهوما -تحريم الربا في المعاملات الدنيوية وتحليله في المعاملة الاخروية-لولم يكن سلطان الرمزين من العارية وليس حقيقة ذاتية لهما :فالسلطان ليس لهما بل للفعل الذيأبو يعرب المرزوقي 3 الأسماء والبيان
--يمثلانه .سلطان فعل الرمز أو الكلمة مثلا هو سلطان الحقيقة والكذب اللذين تستمد منهما الكلمة سلطانها.وسلطان العلمة ليس سلطانها بل هو سلطان القيمة الفعلية أو الوهمية للقدرة التبادلية فنميز بينالعملة الحقيقية والعملة الزائفة وللزيف درجات هي درجات تضخمها حتى تتحول إلى ورق بلا قيمةمثل الصكوك التي لا رصيد لها .مثلا :نزول جنيه مصر من قيمة 2دولار إلى 1من عشرين من قيمة الدولار.ولا يوجد أحد مهما كان غافلا يجهل هذه الأمثلة .ولا يوجد أحد مهما كان فطنا يمكن أن يستغنيعن الرمزين وعن دورهما في تمثيل السلطان المادي والسلطان المعنوي ومن ثم لبعدي العجل الذهبيالذي لا يمكن تصور جماعة ليست بنسب متفاوتة خاضعة له خضوعا رمزه هو الإخلاد إلى الأرض.فاللهيث الذي يتكمل عليه القرآن هو لهيث وراء هذين الرمزين بوصفهما أداتي السلطان على ماالإنسان بما يرمزان إليه .وما سعى إليه من حرف الحلول القرآنية تمثل في جعله يزداد سيطرة:ذلك ان علاج اللهيث ليس بنفي ما يدفع أليه بل بالسلطان عليه :لعدم تمييزهم بين الفقر إلى الله والفقر إلى العجل.فمن تصور العلاج متمثلا في نفي الدنيا وينسى أن الإنسان مستعمر في الأرض هو الذي يجعلسلطانها يزداد قوة لأن سلطان الرمزين هو سلطان الدنيا أو سلطان الحاجتين المادية (العملة)والروحية (الكلمة) عندما تصبحان بيد غيرك فتصبح عبدا له بسبب سلطانه على ما له عليك سلطان أي ذاتك المحتاجة.الفقر إلى الله لا يكون صادقا إلا بفضل التحرر من الفقر إلى الدنيا وهذا لا يتم إلا إذا حققالإنسان شروط الاستعمار في الأرض فيكون الفقر إلى الله علامته أنك استعمرت الأرض ليسباللهيث وراء سلطانها بل بالسلطان عليها الذي يجعلك تستعمرها بقيم الاستخلاف :معنى الدنيا مطية الآخرة.أبو يعرب المرزوقي 4 الأسماء والبيان
--ما الذي يجعل المسلم الذي يردد يوميا أو يسمع يوميا أن الله خلقه حرا وكرمه بأن جعلهفي علاقة مباشرة معه وفي علاقة غير مباشرة بتوسط شرطي قيامه العضوي والروحي أيالطبيعة والتاريخ يقبل بأن يخضع لمن بيده السلطان على سلطانهما عليه غير عدم علاج الجماعة علاقتها بهما للتحرر؟ما الذي يجعل الشعوب الإسلامية غارقة في الفقر إلى الدنيا ومخلدة إليها غير عدم فهمهاأن التحرر منها ليس بدعوى التعالي عليها بلا سلطان عليها بما طلب الله في قرآنه استعمالهللتحرر من سلطانها أعني النظر والعقد والعمل والشرع بمعرة سرهما :الرياضيات والسياسيات والتجربة العلمية والتاريخية.والعلة هي الخلط بين الفقرين :الفقر المادي والفقر الوجودي .نحن فقراء لله وجوديادائما لأن ذلك هو جوهرنا المتناهي إرادة وعلما وقدرة وحياة ووجودا لكننا لا ندرك ذلكحق الإدراك ولا نحيا بما يترتب عليه إلى متى طفونا من الغرق فيما يشدنا إلى الأرض بعدمه وليس بحيازته :سيادة الحاجة.هل معنى هذا أن الإنسان لا يؤمن حقا إلا إذا كان غنيا عن الدنيا؟ نعم .لكن الاستغناءعن الدنيا ليس نفي الحاجة إليها بل سد الحاجة هو الذي يغني عنها باستثناء المرضى الذينلا يشبعون إن صح التعبير وهو أشقى مخلوقات الله .ورمزه الإخلاد إلى الارض أو الكلب اللاهث دائما.وهؤلاء هم من يستعمل بعدي العجل الذهبي للسلطان على الغارقين في اللهيث إمالفقدان ما يسد الحاجة أو لأن حاجتهم المرضية لا تسد .ونحن نتكلم على اسوياء الفطرةأي من يتجاوز ضرورات الحياة إلى الحياة .وأفضل رمز لهذا المعنى هو معنى النصاب في الإسلام :فالزكاة مشروطة به.والحج مشروط بأكثر والصلاة والصوم مشروطان بما يساويه لأن النظافة والصحةمشروطتان فيهما وهما من أكثر الاشياء كلفة مادية .وإذن بالمقصود بشرط التحرر منأبو يعرب المرزوقي 5 الأسماء والبيان
--سلطان الرمزين هو هذا المعنى .ذلك أني لا أستطيع أن أتخيل من هو مهموم بقوته وقوت أبنائه للغد يمكن أن يفكر في غيره.وهذا الشرط هو الذي يفهمك معنى أن أكثر من 80في المائة من الأمة غارقة في هذهالهموم والأصح القول \"مغرقة\" في هذه الهموم ومن ثم في عبيد لما به يستعبد الإنسان فيكل مكان وفي كل زمان أعني العجل الذهبي الذي يتحكم في شرطي قيامه :رمز الفعل (العملة) وفعل الرمز (الكلمة).سيقال تحليلك بخصوص رمز الفعل (العملة) فهمناه لكن ما دخل فعل الرمز (الكلمة)؟وهذا هو سر حاجة العجل للخوار :فلا يمكن تصور فرعون من دون هامان .الدولة عادلةكانت أو ظالمة لا بد لها من بعدي السلطان او الرمزين :رمز القوة المادية ورمز القوة المعنوية :الوصي والوسيط.ولذلك كانت ثورتا الإسلام هما الحرية الروحية (التحرر من الوسيط او الكنسية)والحرية السياسية (التحرر من الوصي أو الحكم بالحق الإلهي) .فصاحب السلطان علىرمز الفعل هو الوصي أو صاحب السلطة الزمانية وصاحب السلطان على فعل الرمز هو الوسيط أو صاحب السلطة الروحية :تعطيل الدستورين.وهذا هو الجواب الوحيد لحل ما يبدو من تناقض بين القول إن الجماعة فضلا عنالدولة لا يمكن أن تقوم من دون الرمزين اللذين يمثلها الوصي والوسيط والقول بالحريتينالمغنيتين عنهما :هذا تناقض حله القرآن من عجائب الرسالة الخاتمة بل لعله من أهم معجزات القرآن المعتمدة على نظرية النظام.فنظرية المعجزة كنظام التي عوضت نظرية المعجزة كخرق للنظام ذات أبعاد خمسة هي:الأصل أو فلسفة الدين ثم فلسفة الطبيعة وفلسفة التاريخ وفلسفة النظر والعقد وفلسفةالعمل والشرع وكلها أنظمة متناغمة لا يمكن للإنسان أن يكون حرا روحيا وسياسيا من دونها لأنها أساس السلطانين على الدنيا.أبو يعرب المرزوقي 6 الأسماء والبيان
--فالسلطان على الدنيا سلطان على الطبيعة بالنظر والعقد من خلال السيادة على العلاقةالعمودية بينها وبين الإنسان من حيث كائن عضوي خاصة وعلى التاريخ بالعمل والشرع منخلال السيادة على العلاقة الأفقية بين الإنسان والتاريخ من حيث هو كائن روحي والسلطانان هما حقيقة الإنسان مستعمرا ومستخلفا.فكيف يحل التناقض؟ أن يكون الإنسان وسيط نفسه ووصيها وهو معنى كونه حرا روحياوسياسيا .فعندما نلغي الوساطة والوصاية فالقصد ليس الوساطة والوصاية بل كونها سلطانالغير الذات الإنسانية أو عبودية الإنسان للوسيط والوصي .عندما يكون وسيط نفسه ووصيها يصبح الحل كما يلي.سيعجب الكثير من الحل :فكون الإنسان وسيط نفسه ووصيها ليس مفهوما متناقضا بل هوجوهر الإنسان من حيث هو خليفة بمعنى أنه له الوعي الذي يتضاعف فيتكشف ما سماهابن خلدون الوازع الذاتي أعني أنه ذو سلطان على ذاته هو هذه العلاقة المباشرة بينه وبين ربه وبينه وبين أمره.وهذا عينه جوهر الديني في الأديان أو أساس الأخلاق أو معنى الدين فطرة بمعنى أنالإنسان رقيب نفسه في كل ما يفعل مهما ضعف تأثير رقابته لنفسه .وقد من الله عليبإدراك هذا المعنى بمجرد تأمل النداء للقاء الرب المباشرة في الأذان .ففيه حقيقة هذا المعنى العميق الذي هو أصل العلاقة المباشرة. خذ الأذان اطرح التكرار وستجد: .1الله أكبر .2أشهد أنه لا إله إلا الله .3أشهد أن محمدا رسول الله .4حي على الصلاة .5حي على الفلاح.أبو يعرب المرزوقي 7 الأسماء والبيان
--فالجملة الأولى نتيجة استدلال مضمر :فتش الإنسان في وجوده فلم يجد شيئا يمكن أن يعتبر مطلقا فاعترف بأنه لا أكبر من الله .والجملة الثانية شهادة بوحدانيته.وبالجملتين كان وسيط نفسه في الوصول إلى النتيجة الأولى وما يترتب عليها أو النتيجةالثانية التي تغنيه عن عبادة غيره أي عن الوسطاء بينه وبين ربه .والجملة الثالثة فيهااعتراف بأن الرسول خاتم لأنه ذكره بهذه الحقيقة تذكيرا أخيرا والجملة الرابعة تسليم بضرورة المحافظة على المباشرة.ولا مباشرة أكثر من الصلاة لأنها حوار مباشر مع الرب .والجملة الأخيرة تعرف كل ذلكبأنه الفلاح أي الجمع الناجح بين الدنيا والآخرة بمعنى تحقيق الاستعمار بقيم الاستخلاف.لما فتح الله علي فهم دلالة الأذان هذه شعرت بأن جهدي في قراءة القرآن كان خيارا صائبا فحمدا لله وشكرا.وحتى أتأكد من صحة تأويلي للأذان كان ينبغي نظريا أن يكون المؤذن الأول عبدا حررهالإسلام .حتى يكون التعين التاريخي لفعل النداء للصلاة تعينا لمفهومه في ذات المنادي:وذلك هو اختيار النبي لبلال تدليلا على أن الإسلام جمع ثورتيه في الدعوة الى الصلاة التي يكررها كل مسلم ولو بكلام النفس.ولا يمكن أن يكون ذلك كذلك بالصدفة .لذلك فقد تأكد لي أن الإنسان يكون وسيطنفسه حتى لو لم يدرس الفلسفة :فالجملة الأولى جمعت كل أدلة وجود الله لأنها ثلاثتها(الدليل الكوني والدليل الغائي والدليل الوجودي) تنتج عن هذه المقارنة الضمنية بين الوجودين الفاني والباقي :الله أكبر=الباقيفهو الباقي قياما (الدليل الكوني) وهو الباقي غاية (الدليل الغائي) وهو الباقي وجودا(الدليل الوجودي) ومعنى ذلك أن الإنسان بفطرته يقوم بهذه الأدلة في وعيه فيكتشفأن العالم فان وأن نظامه الغائي ليس منه وأن البقاء لا يكون لغير الله الاكبر .ثم يأتي اثبات الوحدانية من افعل التفضيل.أبو يعرب المرزوقي 8 الأسماء والبيان
--وحينئذ لا يحتاج إلى معجزات تخرق العادات بل يكتشف أن من ذكره بهذه المعجزة التيتعكس فتبني العلم بالله على الاستدلال الفطري عند الإنسان بدءا باكتشاف ضعفه لا يمكنألا يكون رسولا من الله إليه بهذا المعنى الكوني أي إليه كإنسان عامة .وحينها يعلم أنه عليه ألا ينسى الحوار المباشروجمع هذه الحقائق هو الفلاح .لكن ما كان ذلك ليكون كذلك لم لم يكن \"الله أكبر\"دليل فهم أن الرمزين ليسا هما الغاية فيتحرر من بالله أكبر من بعدي العجل الذهبي :فلايكون مخلدا إلى الأرض ولا يكون لرمز الفعل ولا لفعل الرمز عليه سلطان لأن السلطان الوحيد الذي يعترف هو الله أكبر.ولا استحي إذا قلت إن هذا الفصل الذي أمليته اليوم اعتبره غاية ما يمكن أن أطمحإليه في فهم الرسالة الخاتمة وخاصة بعد أن فهمت دلالة الجمل الخمس ودلالة اختيارهاواختيار أول مناد بها لأنها تمثل عندي الدليل الحاسم على أن الإسلام يعتبر الديني في كل دين متمثلا في الحريتين.والحريتان لا تغنيان عن الوساطة والوصاية بل عن تحولهما إلى سلطان خارجي علىالإنسان :الإنسان وسيط نفسه ووصيها بالمعنى الذي شرجناه .فهو وسيط نفسه روحيابضميره أو الوازع الذاتي بلغة ابن خلدون وهو وصي نفسه بأمره أو الوازع الخارجي بلغة ابن خلدون :وبهما هو رئيس بالطبع (ابن خلدون).ولا يكون رئيسا بالطبع ما لم يتمكن بالفلسفة النظرية والعقدية من علاج مشكل العلاقةالعمودية مع الطبيعة (فلسفة الطبيعة) وبالفلسفة العملية والشرعية من علاج مشكلالعلاقة الأفقية مع التاريخ (فلسفة التاريخ) وتلك هي الفلسفات الخمس التي هي مضمون القرآن الكريم إذا قُرأ فلسفيا.أبو يعرب المرزوقي 9 الأسماء والبيان
--مفهوم \"الرئيس بالطبع\" تعريفا للإنسان مفهوم أو من استنتجه من مفهوم الاستخلاف ابن خلدونويقابل بينه وبين التغلب الذي هو التأله الفاسد أو الملك\" :وهذا التغلب (الناتج عن العصبية) هوالملك وهو أمر زائد على الرئاسة لأن الرئاسة إنما هي سؤدد وصاحبها متبوع وليس له عليهم (على تابعيه) قهر في أحكامه .وأما الملك فهو التغلب والحكم بالقهر\" (المقدمة الباب 2الفصل .)17والمعلوم أن الانتقال من منزلة الرئاسة إلى منزلة الملك لا تكون من دون دوافع وأدوات.والدوافع هي التي يفسرها ابن خلدون بحب التأله عند الإنسان والاتصاف بما يغفل عن امتناعه للإنسان فينسى أنه خليفة.وهو ما يعني أن الانتقال السياسي من الخلافة إلى الملك العضوض له أصل في كيان الإنسان الذييصبو إلى أن ينتقل من منزلة الخليفة إلى منزلة الغني عمن استخلفه فيتأله وليس ذلك منحصرا فيالسياسة بل في كل الصفات المقومة للإنسان :إرادته يريدها سلطة مطلقة وعمله يريده معرفةمحيطة وقدرته يريدها لا مرد لها وحياته يريدها خالدة ووجوده يرد إليه الوجود في إدراكه رؤيةله يظنها محيطة إرادة وعلما وقدرة وحياة .وهذه الإرادات كلها تتمثل في التغلب أو في الملكالعضوض .ومن ثم فالأمر كله يرد إلى مسألة السلطة وأدواتها .وقد رأينا ان الأدوات تبدو قابلة للرد إلى الرمزين موضوعنا.ورغم عموم الظاهرة على الصفات الخمس فإن ظهورها الأبرز يكون في السياسة التي هي بالجوهرسلطان عماده -عندما يرد إلى ما في الإنسان من حيوانية -القوة الطبيعية في ترجمتها السياسية أيإلى العصبية سواء كانت قبلية أو حزبية عندما تتهذب فيصبح معيار تحديد الأغلبية سلميا :آليات التداول السلمي.وهو ما يعني أن الانتقال من الخلافة إلى الملك العضوض يمكن أن يؤول إلى العودة إلى ما يقربمن الخلافة بمعنى أن الشرعية تصبح هي الأساس بدل الشوكة ولذلك يذكر ابن خلدون أن الدولة يمكن بعد أن تستقر أن تصبح غنية عن العصبية فتعوض الشرعية السياسية العنف السياسي.وهو يفسر العنف السياسي بخاصيات تشمل الفرد والجماعة هي سر الاجتماع المنظم سياسيا ببعديهأي بالشوكة والشرعية سواء كانت الشرعية فعلية أو وهمية وبما يرمز إليهما أعني بالرمزين اللذينأبو يعرب المرزوقي 10 الأسماء والبيان
--يحققان الشوكة (المال أساس توظيف القوة) والشرعية (العقائد اساس توظيف الشرعية) .فلنورد الخاصية المؤسسة.\"وإذا تعني له (لمن يستبد بالأمر في العصبية الغالبة) فمن الطبيعة الحيوانية (يعني البعد الأدنىمن الإنسان) خلق الكبر (الرذيلة الأعظم في نظر الإسلام) والانفة فيأنف حينئذ من المساهمةوالمشاركة في استتباعهم (عكس التواصيين) والتحكم فيهم .ويجيء خلق التأله الذي في طباع البشرمع ما تقتضيه السياسة من انفراد الحكم لفساد الكل باختلاف الحكام\" .ولوكان فيهما آلهة إلا اللهلفسدتا\" فتجدع حينئذ أنوف العصبيات وتفلج شكائمهم عن أن يسموا إلى مشاركته في التحكم وتقرععصبيتهم عن ذلك وينفرد به ما استطاع حتى لا يترك لأحد منهم في الامر لا ناقة ولا جملا .فينفردبذلك المجد بكليته ويدفعهم عن مساهمته .وقد يتم ذلك للأول من ملوك الدولة .ولا لا يتم للثانيوالثالث على قدر ممانعة العصبيات وقوتها .إلا أنه أمر لا بد منه في الدول\"(المقدمة الفصل الباب 3الفصل .)10ها نحن من خلال نص بن خلدون بدأن نغوص لنكتشف المرموز وراء الرمزين :طبيعة القوة السياسية.وهذه القوة السياسية ذات أصلين أولهما هو العصبية والثانية هو صفات القيادة في العصبيةالواحدة ثم فيما بين العصبيات المتنافسة على السلطة والرمزان يتعلقان بالأدوات التي هي في آنموضوع التنافس وأدواته بين البشر في نفس الجماعة وبين الجماعات :قانون كوني وليس خاص بجماعة بعينها.وهكذا يتبين أن مدار السلطان والسلطة هو موضوع التنافس وأدواته :فالموضوع هو ثمرة العلاقةبالطبيعة وثمرة العلاقة بالتاريخ أي الثروة المادية والثروة الروحية إذ هما أساس القوة وأساسالشرعية .وهما إذن المرموز في الرمزين اللذين يمثلان أداتي السلطة ببعدها المادي والمعنوي: العملة والكلمة.وهنا يبرز الفرق الذي لم يفت ابن خلدون كذلك وهو ما يمكن نسبته إلى اخلاف ما يسميه \"نحلةالعيش\" .فنحلة العيش البدوية تجعل اصحابها يتصورون أن القوة التي لدى الإنسان ليس قوةإنتاج القوة وأدواتها بل في حيازتها بما لديه من قوة طبيعية فيعتبر الاغارة مثلا أو بيع الخامات ثروة وقوة.أبو يعرب المرزوقي 11 الأسماء والبيان
--فإذا كان موضوع التنافس فيما يدين به الإنسان إلى الطبيعة فإن من لم يدرك علاج العلاقة بينالإنسان والطبيعة هو القوة وليس ما يدين به للطبيعة من حيث هو منتوجها المباشر مثل الجني والرعي وبيع الخامات وحتى بيع المناخ والتراث في السياحة مثلا :هذه ليست ثروة ولا قوة.وهذا المسار الفكري هو الذي جعله يكون أول من اكتشف مفهوم القيمة الاقتصادية أو بصورةأدق كيفية تحديد القيمة وتقديرها للترجمة إلى ما يقبل أن يصبح مادة للعملة :إنه كمية العملالتي في المنتج ومن ثم فضمنيا هو كذلك منزلة المنتج في سلم المنتجات السادة للحاجات الاستعمالية والتبادلية.فتكون القيمة القابلة للترميز بالعملة كمية وكيفية فكمها يقاس بكم العمل وكيفها يقاس بمنزلةالمنتج في سلم الحاجات الاستعمالية والتبادلية في حضارة من الحضارات بحسب حقب تطور بعديالذوق فيها وارتقائها إلى الرموز وعم الاقتصار على أساسي الذوق :الغذاء وفن المائدة والجنس وفن السرير.ولهذه العلة كذلك وصل ابن خلدون بين الاقتصاد والعلوم (والتعليم عامة) معتبرا أن كلالصناعات التي تغير نحلة العيش تكون في البداية خبرات أولية ثم ترتقي لما يعود عليها العلمفتصبح ثمرة تنظير لعلاج العلاقة العمودية بين الإنسان والطبيعة والعلاقة الأفقية بين الإنسان والإنسان.فتكون نحلة العيش الأرقى معتمدة على العلم وتطبيقاته في استخراج الثروة من الأرض ومنالخدمات وعلى الحاجات الاستعمالية وخاصة التبادلية التي تنتج عن الحياة في المدن أو بلغة ابنخلدون عن الترف وتجاوز الحاجات الاولية :فيكون المنتج مستمدا قيمته من عنصر ثالث أصلا للفرق بين القيمتين.فالقيمة التبادلية أرفع من القيمة الاستعمالية للبضاعة والخدمة بسبب كون التبادلية لا تسدحاجات مادية بل تسد حاجات روحية مثل الفنون الرياش والأثاث وزينة النساء ولباسهن وكل ما لايتعلق بالحاجات الأولية .وطبعا لا تنعكس العلاقة بين القيمتين إلافي الحروب مثلا :سد الحاجات الأولية هو الأهم.ذلك أن شربة ماء لمن ضل طريقه في الصحراء أو جزء من كسرة في الحرب لا يساوها ذهب الدنياكلها لكن الكلام على يتعلق بما يتنافس عليه الناس في السلم .أما في الحرب -لمن يفهم معنى الانفالأبو يعرب المرزوقي 12 الأسماء والبيان
---60فإن من لم يستعد لها يكون دائما مهددا بوضع المحتاج لشربة ماء في الصحراء وقطعة كسرة في الحرب.وهذا ما يعيدنا إلى بيت القصيد :شرطا الحرية الروحية والسياسية .فحتى يكون الإنسان حرابحق ينبغي ألا يدين بشرطي رعايته وحمايته لغيره وإلا فهو يكون قد اختار أن يكون بينه وبينربه وسيط ووصي .الوسيط يفرض الجهل لمنعه من الاعتماد على فكره والوصي يفرض الخنوع لأنه يمسكه بحاجاته الأوليةوغالبا ما يدعي الوسيط والوصي ما ينتج عن الخلط بين معنيي الفرض :يخلطون بين فرضالكفاية وفرض العين .فلا شك أن العلم والحكم كلاهما كفن وتخصص يمكن أن يعتبرا فرض كفاية.لكن هما في المقام الأول فرض عين .فالضروري للحرية الروحية (العقد) والسياسية (الشرع) كلاهما من أهم مقومات ذات الإنسان.وسهم الإنسان فيهما هما معنى كونه إنسانا حرا في نظره وعقده وحرا في علمه وشرعه .ذلك أنالخبير في العلم وفي العمل يمكن أن يحتاج إليه الإنسان بوصفه خبيرا وليس بوصفه وسيطا .ولهذهالعلة لا يوجد في الإسلام كرسي الاعتراف وكنسية غسل الذنوب في النظر والعقد وفي العمل والشرع.هذه كلها أربعتها فروض عين ولا ينبغي خلطها بفروض الكفاية التي هي في خدمة من يؤدونفروض العين وتحت رقابتهم بل ويخضعون لاختيارهم :فالإنسان الحر يختار الطبيب والمحاميوالسياسي ويستخدمهم في القيام بما يعلم معايير تقييمه فيحاسبهم عليه بعضهم بالنتائج وبعضهم بالوسائل.مثال ذلك أن الإنسان الحر الذي يقوم بفرض العين يقيم الطبيب بواجب الوسيلة ويقيم السياسيبواجب النتيجة .إذا قام الطبيب بما يوجه فنه ولم يشفى المريض فكلنا يعلم أن الشفاء على اللهإذا كان الطبيب لم يخل بالوسيلة (تشخيصا وعلاجا) لكن السياسي مطالب بالنتيجة لأن العمل الغائي محدد بها.ومثله المهندس المعماري أو المدني :إذا بنى الأول بيتا وسقط (دون عامل قاهر كأن يكون زلزالاأو طوفانا إلخ )..وإذا بنى الثاني طريقا جرفها أدنى زخات مطر فهو يحاسب على بالنتيجة وليسبالوسيلة وكل ذلك يقتضي أن يكون الإنسان هو المسؤول عن ذاته وساطة ووصاية ولا يعتمد على وسيط أو وصي غيره.أبو يعرب المرزوقي 13 الأسماء والبيان
--من تعودوا على المقابلة بين الفكرين الديني والفلسفي بدعوى أن الأول نقلي ونصيوالثاني عقلي وواقعي لن يستطيعوا متابعة هذه المحاولات لأنها تبدو لهم خلطا بينجزيرتين لا يصل بينهما سبب لان الحواجز الأيديولوجية بين كاريكاتوري التأصيل والتحديث تحول دون أي وصل.وإذا حدث فأقدم البعض على الوصل كان من أسخف ما يقع وخاصة إذا كان من جنس مايسمى بالإعجاز العلمي الذي يشوه العلم والقرآن في آن .ما بيناه قبل هذه المحاولة يثبتأن القصد ليس الوصل بين مجالين مفصولين المقابلة بين العقلي والنقلي ليس لها أدنى معنى :فكل معرفة لها الوجهان.لا توجد معرفة مضمونها ليس نقليا ولا توجد معرفة شكلها ليس عقليا وعندما نغوص فيحقيقة المعرفتين الدينية والفلسفية نكتشف أنهما تتجاوزان هذه المقابلة بإطلاق لأنالنقلي والعقلي فيهما واحد وهو التخلص من الذاتي المقصور على النفسي وهو الكلي الذي ينتسب إلى الواحد في وجهي المعرفة.والواحد في وجهي المعرفة -أو الكلي-هو الإيمان بأن الإنسان لما يطلب الحقيقة فهو يسلمبوجودها وبأنها متعالية على إدراكه النفسي فيعتقد في آن أن له إدراكا يتجاوز شخصهالنفسي إلى ذات كونية تدرك موضوعا كونيا هو الممكن له من الحقيقة سواء سماها فلسفية أو دينية فكلتاهما ليست محسوسة.وحتى يفهم كلامي هذا فليعلم القارئ أني أقصره على الإسلام الذي هو كما بينت سابقاالديني في كل دين وليست دينا من الأديان وهو ما بعد الديني الناقدي لتحريفات الأديانالاخرى وهو يرفض الاعجاز الخارق للعادة بل هو يعتبر المعجزة الوحيدة هي النظام في الطبيعة والتاريخ ويحرم الخوض في الغيب.ولذلك فالإسلام نفسه هو الذي يتجاوز المقابلة السطحية بين النقل والعقل لأنه يعتبرتبين حقيقته لا تكون من نصه كنقل بل من آياته في الآفاق والأنفس ومن ثم كإدراك عقليأبو يعرب المرزوقي 14 الأسماء والبيان
--يتعالى على المحسوس وعلى توهم طبيعته مادية كانت أو روحية لأن طبيعته غيب لا يحيط به إلا الله :ندرك ما يتجاوز النفسي.وما يتجاوز النفسي البعض يتصوره كيانا ماديا والبعض يتصوره كيانا روحيا لكن كلاالتصورين ليس لنا عليهما أدنى دليل بدليل أن كل مادة نتصورها نهائية نتكشف أن التمددفيها نسبي إلى درجة علمنا بها وبمجرد أن يتقدم علمنا نكتشف أن تمددها يتهاشش إلى حد التضاؤل فلا يبقى فيها إلا ما يشبه الفكرة.لكأن الكثافة المادية التي نتوهمها في الموجودات هي من جنس النسيج المناسب لمداركناالعادية وهي في ذاتها أو خارج مداركنا لا ندري ما هي بل إن نسيجها يتلاطف بالتدريجحتى لا يكاد يبقى فيه شيء مما نسميه مادة فلا تكون المادة إلى ما تحتاج إليه حواسنا بوصفها تواصلا إدراكيا مع الوجود.وقد أجازف فأقول إن ما في الوجود كله آيات أو رموز تتكايف وتتلاطف بحسب نوعالإدراك فتكون بالنسبة إلى حواسنا وكأنها مواد كثيفة ولكنها تتلاطف إلى حد تحول الماديإلى الطاقي والطاقي إلى المادي وكلاهما يمكن ألا يكون إلا مجرد آيات أو رموز أو كلمات وكلها تسميات قرآنية للمخلوقات.وهذا ما بدأنا نلحظه في كلامنا على الرمزين :عدنا بهما إلى ما به يفعلان .فالعملةتفعل بأمرين بما تضفيه عليها السلطة السياسية من نفاذ وخاصة بعد أن أصبحت العملةورقية عديمة القيمة الذاتية فيكون الفاعل فيها ليس الورقة بل سلطة النفاذ التي هي سلطة مجردة للدولة وضعتها عملة للتبادل.لكن سلطة النفاذ لا يكفي فيها قرار السياسة إذ لا بد أن يكون للعملة رصيد تمثله يقاسبقوة الاقتصاد الذي ترمز إلى القيم فيه ممثلة العلمة أداة تبادل .صحيح أن الحكوماتيمكن أن تطبع أكثر مما يخوله هذا التناسب فيحصل التضخم الذي يفقد العملة قيمتها وقدرتها الشرائية :فيتكاثف الأساس.أبو يعرب المرزوقي 15 الأسماء والبيان
--ثم نتقدم خطوة أخرى فنجد أن الأساس ليس علاقة بين البضائع والخدمات أو دورالسوق (عرضا وطلبا) في تحديده بل إن التناسب بين المنتجات بنوعيها والحاجات بنوعيهاوالقيم بنوعيها كلها ذات صلة بالعمل ومراحل تحول إلى بضاعة أو خدمة هي التي تحدد بالعرض والطلب مقياس القدرة الشرائية للعملة.والعمل المنتج للبضاعة والخدمة ليس ماديا إلا فيما سماه ابن خلدون \"نحلة العيش\"بالبدائية جنيا أو رعيا لمنتج الطبيعة أو بعض الصناعات البدائية التي تعتمد على العملاليدوي لكن التقدم الحضاري شيئا فشيئا يتحول إلى عمل الفكر فيه متقدم على اليد وحتى الآلة التي تعوض اليد فيها تتلاطف.فلا يكاد يبقى من العمل بمعناه المادي إلا النزر القليل وقد يحين وقت يصبح فيه الأنسانوكأنه يعمل بـ\"كن\" يأمر المواد فتطيعه ويأمر الآلات فتعمل بدلا منه والآلات يصنها بفكرهخاصة لأنها في الحقيقة نظريات تتحول إلى آلات مثل المجهز والمسابر التي هي نظريات بصرية تصبح أدوات إدراك آلية.وهذا النسيج الفكري والنظري هو في الحقيقة نسيج رمزي المادي فيه مجرد حامل عرضيقد يصبح مقصورا على أداة البث وأداة الالتقاط كما يحصل التواصل الحالي الذي يستعملالأمواج الكهرومغناطيسية حوامل للتواصل مع المجرات وبين البشر فالعالم المادي العادي من تخلف القائلين \"الواقع\" غير الافتراضي.هذه المقدمة التي تتعلق بطبيعة ما يتجه إليه الفكر-دينيا كان أو فلسفيا-بوصفهالموضوع الذي يستهدفه النظر بوصفه ذا قيام ذاتي مستقل في وجوده عن الإدراك لا فيمايدرك منه ويعتبر عين الوجود خارج الإدراك هو \"شيء\" ما لا نعلم طبيعته ما هي حتى وإن غلب على الدين اعتباره روحيا والفلسفة ماديا.وبهذا المعنى أوحد بين الفكرين لأن حكم أي منهما لا يستنده ما يقبل اسم العلم بل هوعقد منطلقه تضخيم دور المحسوسة بداية و\"الاستقلالية\" عن كل إدراك غاية وهما ماأبو يعرب المرزوقي 16 الأسماء والبيان
--يعرف به الموضوع القائم بذاته خارج فكر الإنسان ومداركه أو الوجود خارج الأذهان أو الوجود في الأعيان دون تحديد دقيق للعينة.فما نسميه عينا لا يمكن أن يتجاوز إدراكه الإشارة إليه كأنية قائمة بالذات لو حاولناتحديدها مفهوميا لكان ينبغي أن نؤمن بأنه بالوسع قول اللامتناهي من الصفات والأعراضحتى يميز بإطلاق عن عين أخرى فالتحيز في المكان والزمان لا يكفي إلا إذا تصورنا المتحيزين المتخارجين ليس بينهما وصل.فقد يكون بين الأشياء المتحيزة في المكان والزمان ومن ثم المتماعية في المحل من الوصلاتما لا يتناهى من سوائل و شفيف لا يتناهى مستويات الكثافة لامتناهية الصغر بحيث لا ترىولا تدرك إنسانيا ولكنها تشبه ماء البحر بالنسبة إلى الأسماك فتكون الأحيان سابحة كلها في محل يمسك بوجودها معا.وفي الفيزياء يتكلم العلماء على الأربعة قوى التي سينتظم بها العالم هي قواه الأساسيةهي القوة الذرية الضعيفة والقوية والقوة الكهربائية المغنطية وقوة الجاذبية ولا بد لهامن حامل هو الاصل وهي فروعه لئلا يكون قيامها في الخلاء وهي توحد نظام العالم الطبيعي دون أن ندري طبيعته ما هي.وكل قوة هي فاعلية في بقية الموجودات ونعتبرها موجودا لتوهمنا دائما أن وراء أيفاعلية شيئا فاعلا ولا نسلم بأن الفاعلية قد تكون فاعلية لا غير وليس وراءها شيء فاعلإذا تخلصنا من قيس العالم على ذواتنا اذ نتخيل أننا \"جوهر\" وراء افعالنا التي نعتبرها من ظواهره ونتوهم وراءها جوهر يمسك بها.لكننا يمكن أن نكون من جنس مونادات لايبنتز كالمرايا التي تعكس العالم كلها في كيانهاشبه الذري دون أن يكون ماديا لأن المونادات عنده روحية وليست مادية .لكن كونها ماديةأو روحية يبقى مجرد ترجيح غير مبني إلا ما كوننا لا نستطيع تصور الأعيان إلى أعيانا مادية وتلك علة عسر فهم الدين.أبو يعرب المرزوقي 17 الأسماء والبيان
--ولما كان الامر غير قابل للحسم بصورة علمية يقينية فإني اعتبر الدين والفلسفة أو علىالأقل الديني الذي هو جوهر الإسلام لا يميز بينهما بل من يقرآ القرآن ويصدق ما فيه إنكان مؤمنا به لا يمكن أن يحسم في خلافات المتكلمين حول مسألة الصفات ومن ثم فلا حسم ويبقى الأمر وجهين لنفس المعنى.أو هما بصورة أدق درجتان من درجات تخيل الوجود الغيبي وراء ما ندركه من الوجودالشاهد .ولا أعتقد أن الامر يغير شيئا في المعتقدات ولا حتى في النظريات لأنه منالمتشابهات التي نهينا عن الخوض فيها في آل عمران 7والنهي يشمل كل البشر ولا يستثنى منه أدعياء الرسوخ في العلم.أبو يعرب المرزوقي 18 الأسماء والبيان
--الفصل الأخير سيبحث في تعريف \"الدنيا مطية الآخرة\" فلسفيا تعريفا يتطابق فيهالقرآني والفلسفي دون أن يكون الكلام في المفهوم ذا علاقة بالغيب لأن التعريف لا يتعلقبطبيعة موضوع هذا المفهوم أو ما صدق هذا التصور بل هو يتعلق بما يدركه الإنسان من وجوده في كما يتعين في المعادلة الوجودية.في الحقيقة العبارة \"الدنيا مطية الآخرة\" ليس المقصود بها ترتيبا زمانيا بين الدنياوالآخرة لكأن الأمر يتعلق بما بين الأولى والأخيرة من توال بل القصد هو أن أعمالالإنسان في الدنيا هي ما يجعله خلال حياته الدنيا يرتقي إلى ما يؤهله لجزاء بمعايير حياته الأخرى.وحتى لو طبقناها على الحدين الدنيا والأخرى فليس القصد الترتيب بل التراتب :أيإن لحياة الإنسان رتبتين واحدة دنيا والأخرى عليا أو واحدة للعمل الاختباري والثانيةللاطلاع على نتيجة العمل الاختباري .ويمكن أن نقول إن العمل الاختباري يتعلق بمدى مطابقة الاستعمار في الأرض لقيم الاستخلاف.انس الدين الآن واعتبر نفسك تنظر في ملف أحد نواب سلطة معينة كلف بمهمة ثم جاءيوم الحساب على عمله في تلك المهمة :ستجد أن العلاقة في عبارة الدنيا مطية الآخرة كأنهاعبارة على علاقة بين مستويين من السلطة أحدهما مكلِف والثاني مك َلف .وهي إذن عبارة تصف علاقة بين سلطتين عليا ودنيا.انس الآن علاقة السلطتين السياسيتين وانظر في علاقة مبدئين أحدهما أدنى والثانيأعلى في نظام أكسيومي أو في نظام منطقي أو رياضي معين .فلو شخصنا المبدئين واعتبرناما نقوم به نحن المستعلمين للمبدئين من مراجعة الثاني بمعيار الأول أو الأدنى بمعيار الاعلى فإن الوضعية هي ما حددنا.انس الآن العلاقة بين مبدئين في نظام أكسيومي وفكر في العلاقة بين قوتني في النظامالطبيعي .ستكون الوضعية هي عينها إذا تصورنا أن ما في النظام من علاقة بين القوتين هوأبو يعرب المرزوقي 19 الأسماء والبيان
--ما نراه نحن فيما بين القوتين من تفاعل يحتكم إلى مجرى قوة النظام الاعلى في تقييم قوة النظام الأدنى .فنجد نفس الوضعية.وهذا ما أعنيه بالقول إن مفهوم \"الدنيا مطية الآخرة\" في كلامنا الديني-دائما في الإسلامالذي يحتج بمعجزة النظام وليس بمعجزة خرقه-لا يختلف عنه في كلامنا الفلسفي إذا نحنقرأنا القرآن قراءة فلسفية بمعنى اعتباره كما يعرف نفسه قولا في القول الديني أو ما بعد الأخلاق لنقد تكوينية الإنسان.والقصد بتكوينية الإنسان هو تحقق ما فطر عليه الإنسان (الأعراف )173-172بالفعل خلال النضوج الذي اعتبر القرآن غايته تبين الرشد من الغي شرط الحرية الدينيةبمعنى شرط منع الوسطاء والأوصياء اللذين يفرضان الإكراه في الدين .فتكون التكوينية هي تحقق الحريتين وإلغاء الوساطة والوصاية.وعلامة هذا التحقق هو إلغاؤهما مضمونا للرسالة الخاتمة أو التذكير الأخير بما فطرعليه الإنسان أو بالميثاق الذي حددته آيات الأعراف .173-172وعندما يتحققالشرطان الحرية الروحية والحرية السياسية يصبح حساب الإنسان على تحقيق مهمته الاستعمار بقيم الاستخلاف تحقيقا يحاسب عليه إيجابا وسلبا.وبذلك يكون علاج هذه المسألة علاجا لا فرق فيه بين الفلسفي والديني الذي من جنسما حدد القرآن فيصبح اعتباري الإسلام بما هو ما بعد أخلاق فلسفة دين يتفرع عنها أربعفلسفات هي فلسفة الطبيعة وفلسفة التاريخ وفلسفة النظر والعقد وفلسفة العمل والشرع ومجموعها هو مضمون القرآن الكريم.وحتى تكتمل عبارة \"الدنيا مطية الآخرة\" لا بد من وصلتين بين الدنيا والمطية وبينالمطية والآخرة حتى نفهم كيف للدنيا أن تكون مطية وأن نعلم كيف للآخرة أن تحتاج لمطيةللوصول إليها .فالمطية هنا وساطة بين حالتين أو بين منزلتي متساوقتين في حياة الإنسان: فحياة الإنسان مسيرة بين حدينأبو يعرب المرزوقي 20 الأسماء والبيان
--فليست الدنيا هي المطية بل المطية هي هذه الحركة الدائمة في حياة الإنسان بين الحدينالدنيا والآخرة .أو بين المنزلتين الوجوديتين المتلازمتين والمتساوقتين وليستا واحدة وراءالأخرى بل هما دائما متعاصرتين :إنه امتطاء الدنيا للوصول إلى الأخرة في سفر متزامن لا ينقطع عن منطلقه وغايته.وأول ملاحظة ينبغي الانتباه إليها هي أن عودة الذات على ذاتها أو الوعي هي هذاالتلازم بين الحدين في الحركة من أولهما إلى ثانيهما دون أن ينفصلا أو يتواليا بل همامتساوقان كل ما يجري في أحدهما يجري في ثانيهما تماما كالوعي بالذات حيث أكون أنا الواعي والموعى به في آن.وكل منا يعي أن ذاته كوعي تبدو وكأنها سابقة عن ذاته كموعى به لكنه يعلم أن العلاقةهي من جنس المنعكس والمنعكس عليه فيكون في الحقيقة الموعى به وكأنه هو السابق لأنههو المنكس والوعي هو المنعكس عليه .وإذ كل منهما يبدو سابقا ولاحقا فهما إذن متساوقان ويبدوان متلاحقين بالتناوب.وبذلك يتبين أن الوصلتين بين \"مطية\" وما قبلها وبين \"مطية\" وما بعدها تمتدان لتصبحابسبب هذا التساوق المتناوب بالتبادل محيطتين بالحدين :فيكون الامتطاء سابقا ولاحقا لكلمنهما .ومعنى ذلك أن الإنسان يعيش في باطنه هذه الحركة الدائبة بين موجوده الدنيوي ومنشوده الأخروي.وتكون المسيرة من الموجود إلى المنشود هي حركة في كيان الإنسان أشبه بما يجعل وجدانهوكأنه بئر ارتوازية تتفجر ماء (رمز الحياة) يصعد نحو السماء وتلك هي الدين الفطرةوالفلسفة الفطرة إذ يتحدان في الاشرئباب الفطري لاستكمال الكيان بما في الوجدان من عبادة الرحمان.والفلاسفة يسمون ذلك حب الحكمة والدين يسميه حب الله والله هو الحكمة أو هذاالاشرئباب للتعالي حركة تنسل من الدنيا إلى الأخرى ليس بالهروب منها بلأبو يعرب المرزوقي 21 الأسماء والبيان
--بسياستها(الاستعمار)بقيم بمطالب الفلسفات الخمسة التي يذكر بها القرآن :فلسفة الدين أو ما بعد الأخلاق ثم الفروع الاربعة للحكمة التي ذكرت.وقد حدد القرآن طبيعة المطلوب من الحكمة الأصل أو فلسفة الديني في الأديان وهوالأخلاق وحدد المطلوب في فلسفة الطبيعة وفي فلسفة التاريخ وهي الآفاق والأنفس بوصفهاموضوعات لفلسفة النظر والعقد ولفلسفة العمل والشرع :هدفهما اكتشاف قوانين الطبيعة وسنن التاريخ :نظام الطبيعة ونظام التاريخ.ونظام الطبيعة يحدد القرآن طبيعته بوصفه نظام الخلق ويعتبره رياضيا تجريبيا وبهيستدل على نظام العالم المادي ونظام التاريخ يحدد طبيعته بوصفه نظام الامر ويعتبرهسياسيا خلقيا وبه يستدل على نظام الروحي ونظام النظامين هو الحكمة الإلهية التي تجعل الله أحسن الخالقين وأعدل الآمرين.ورغم أنه لا يبدو أن كل الفلسفات والعلوم مطابقة لهذه الرؤية فتعتبرها من الوجهينالديني والفلسفي فإني أستطيع أن اجزم ان التي لا تقبل بذلك مضطرة لما يناظره فتضعهفي الطبيعة وفي التاريخ لأنه هو مطلوب بحثها :فهي تطلب النظامين وتضع حتما أن الأول رياضي تجريبي والثاني سياسي خلقي.ولست أرى في ذلك تناقضا مع من يضفي على هذا الوجه الذي يحيثه بعض الفلاسفة فيالطبيعة وفي التاريخ لأن الأمر لا يتحقق بالمحل بل بما يحل فيه :فمن اله الطبيعة اضطرإلى يضاعفها فسمى الوجه الفاعل طابعا والوجه المفعول مطبوعا (ناتور ناتورنس وناطور ناطوراتا) في وحدة الوجود الطبعانية.وحتى من يعتبر النظام وليد الصدف فهو بالضرورة يعتبر تراكم الصدف الذي ينتجالانتظام التدريجي كما عند أصحاب النظرية التطورية في الظاهرات الحية فهو في النهايةيؤمن مرتين بأن للإنتظام قانون يجعله يصبح نظاما :الأول هو تراكم المفيد من الصدف والثاني هو الانتخاب الطبيعي الذي يلغي الضارأبو يعرب المرزوقي 22 الأسماء والبيان
--فيكون القائل بالصدف من حيث لا يعلم ينتهي في الغاية إلى القول بما يشبه الغائيةفيكون أكثر سذاجة من المتدينين :ذلك أن هؤلاء من البداية يقولون بغائية في الوجود هيما يعتبرونه حكمة .لكنه يجعل من الفوضى اصلا للنظام فيجعل الحكمة غير حكيمة السلف وحكيمة الخلف .ولا بأس :فالحكمة واجبةذلك ما أردت تعريفه واستنتاجه من عبارة \"الدنيا مطية الآخرة\" حتى يفهم الكثير ممنيستهينون بعمق بعض العبارات الدينية وأبعادها الفلسفية العميقة التي هي في الحقيقةمن المعاني المقومة للوجود الإنسان رغم الغفلة عنها ونسيان ما فيها من مفجر لحركات الوجدان الروحي وعلاقة الموجود بالمنشود.أبو يعرب المرزوقي 23 الأسماء والبيان
--أبو يعرب المرزوقي 24 الأسماء والبيان
Search
Read the Text Version
- 1 - 28
Pages: