Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore مواضعات مفهومية في تأسيس القرآن للواحد في الديني والفلسفي

مواضعات مفهومية في تأسيس القرآن للواحد في الديني والفلسفي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2020-07-07 16:40:20

Description: مواضعات مفهومية في تأسيس القرآن للواحد في الديني والفلسفي

Search

Read the Text Version

‫‪--‬‬ ‫فكل فرد رغم انتسابه لزمان جماعته ومكانها بهذه المعاني الاربعة وبمركزها له نصيب‬ ‫منهما يخصه‪ .‬ومن ثم فالأمكنة والأزمة هي بعدد الافراد في الجماعة تماما كما هي بعدد‬ ‫كيانهم بدنيا وروحيا‪ .‬فيكون كل إنسان بين مجالين بما يشبه المجال المغناطيسي الذي يحيط‬ ‫بوعيه بكيانه وبوعيه بكيان الجماعة‪ .‬وهو مشدود المجالين موضوعيا وذاتيا في وعيه وهو‬ ‫ما يجعل كل فرد وكأن كيانه نسخة متنوعة من كيان الجماعة العضوي والروحي‪.‬‬ ‫وبذلك نصل إلى معادلة الإنسان الوجودية‪ .‬فهو في قلب المعادلة ويشعر أن فوقه خانة‬ ‫قد تكون مليئة بمبدأ متعال إذا كان يؤمن بالتعالي على عالم الشهادة وقد تكون خالية منه‬ ‫إذا كان لا يؤمن بمبدأ التعالي على عالم الشهادة مبدأ واحد مهيمن على الأنظمة التي‬ ‫تحيط به وتحيله إليه بما يشبه الوعي بماوراء يعللها‪ .‬فللفرد بدنه ووعيه به وبروحه وله‬ ‫وعي بما حوله التاريخي والطبيعي يحيطان به إحاطة بدنه وروحه به‪ :‬لكأن المكان الجغرافي‬ ‫مثل بدنه والزمان التاريخي مثل روحه‪.‬‬ ‫ووعيه بعلاقته ببدنه وبوعيه ووعيه بعلاقته بالمحيط الطبيعي وبالمحيط التاريخي‬ ‫يجعلانه يشعر بأن كيانه الذاتي البدني والرحي مدين للمحيطين به الجغرافي والتاريخي‬ ‫شرطا لقيامه العضوي والروحي‪ .‬ويشعر بأنه قادر على التحرر منهما والتعالي عليهما‬ ‫فيعتبرهما غير مكتفيين بذاتهما مثله ويدينان لما يتعالى عليهما مثله ولا يكفيان من ثم‬ ‫لوصل موجوده بمنشوده‪ :‬فيعي فيهما ما وراء كما يعي الرسام في المبصرات جمالها كما يعي‬ ‫الموسيقي في المسموعات جمالها‪ .‬وهذا هو ما سميته الوعي بجلال نظام الطبيعة والحياة‬ ‫وبجلال نظام التاريخ والروح‪.‬‬ ‫فيكون هذا الماوراء علاقة غير مباشرة بما يملأ الخانة التي فوق الإنسان قلب المعادلة‬ ‫الوجودية‪ .‬فيعيده إلى العلاقة المباشرة به وهي الوحيدة التي تصل الموجود بالمنشود عند‬ ‫الإنسان سواء كان مؤمنا أو ملحدا‪ .‬فالشعور بأن الموجود من حيث ما هو كائن فوقه ما ينبغي‬ ‫أن يكون وما جعله يكون على ما هو عليه ليس في كيانه فسحب بل في ما حوله هو أصل كل‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪47‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫القيم وأصل الفكرين الفلسفي والديني في وجود ما يتعالى على عالم الشهادة وهو أرضية‬ ‫الدين‪.‬‬ ‫فالإنسان يشعر في كيانه الذاتي بدنه وروحه أن إرادته وعلمه وقدرته وحياته ووجوده‬ ‫كلها جوهر وجودها هو الوعي بكونها دون المنشود دائما‪ .‬فإرادته وعلمه وقدرته وحياته‬ ‫ووجوده كلها محدودة في الوجود لكن وجوده في آن يشرئب إلى منشود تكون فيه غير‬ ‫محدودة‪ .‬والشعور بخصوص الطبيعة والتاريخ اللذين من حوله والشعور بعدم الإحاطة‬ ‫والكمال يجعل الإحاطة والكمال جوهر المبدأ الذي يعلو على كل شيء موجود مشدود إلى‬ ‫منشود يتجاوزه‪.‬‬ ‫وهو ما يفرض مراجعة تعريفي الأولي لأصل القيم الأربعة‪ .‬فقد اعتبرته \"نحلة‬ ‫العيش\"‪ .‬لكنه ليس إياها بل هو ما فيها من نظام التأثير في تفاعلاتها وسلمها‪ .‬والقصد أن‬ ‫نحلة العيش التي تحددها علاقة الإنسان بالطبيعة وعلاقته بالتاريخ هي مناسبة الوعي‬ ‫بالفارق بين الموجود والمنشود النسبيين والمطلقين‪ :‬الإنسان يدرك أن إرادته وعلمه وقدرته‬ ‫وحياته ووجوده كلها نسبية ومتناهية وأن المبدأ المتعالي إرادته وعلمه وقدرته وحياته‬ ‫ووجوده كلها مطلقة ولا متناهية‪ .‬وإذن فالنسبي يتعلق بقيام الإنسان النسبي والمطلق بما‬ ‫يتعالى عليه‪.‬‬ ‫فمايتعلق بقيام الإنسان النسبي هو ما يمكن سده بالقيم الاقتصادية وبالقيم الخلقية أي‬ ‫بقيمتي الاستعمال والتبادل اقتصاديا وبقيمتي الكرامة والحرية خلقيا‪ .‬لكن الإنسان‬ ‫مشدود إلى نشدان أسمى منهما وهو مطلق الإرادة ومطلق العلم ومطلق القدرة ومطلق‬ ‫الحياة ومطلق الوجود وكلها خارج عالم الشهادة‪ .‬وتعلقه بها قد يخدعه فيدعيها وتلك هي‬ ‫بداية فساد معاني الإنسانية‪ .‬لأن من يدعيها يستعبد بقية البشر في الجماعة أو حتى في‬ ‫العالم‪ .‬فتفسد سياسة عالم الشهادة لأن أصحابه يجعلون الأمر الواقع أمرا واجبا فلا يبقى‬ ‫فرق بين الموجود والمنشود‪ :‬وهو أصل كل عنف في التربية وفي الحكم أي في بعدي سياسة‬ ‫عالم الشهادة الذي يتوهم الاستغناء عن عالم الغيب‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪48‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وكاذب كل من يكذب بهذه المطلقات المنشودية في كيان كل إنسان فيدعيها من الخيال أو‬ ‫من التعويض عن النقص لأنه يخلط بين أمرين‪:‬‬ ‫‪ .1‬وجودها من حيث هي معاني كلية من جنس المقدرات الذهنية النظرية وهي عملية‬ ‫‪ .2‬والجزم بوجودها أو بنفيه خارج عالم الشهادة‪ .‬فهي المقصود بعالم الغيب وحياة‬ ‫الآخرة‪.‬‬ ‫وموقف النافي يشبه موقف من لا يفهم أن المعاني المقدرة ذهنيا في النظر مثلا في‬ ‫الرياضيات ليس لها وجود خارجي بالمعنى المحسوس فيردها إلى ظاهرة نفسية عديمة القيام‬ ‫الذاتي‪ .‬وكذلك الأمر بالنسبة إلى المعاني المقدرة ذهينا في العمل‪ .‬المعاني القيمية مثل‬ ‫المعاني الرياضية لا توجد في عالم الحس لكنها ليست ظاهرات نفسية‪ .‬ولا يعلم أو يفهم‬ ‫عالم الحس الطبيعي وعالم القيم التاريخي من دونهما‪.‬‬ ‫‪37‬ومعنى ذلك أن نسبة الرياضيات من المقدرات الذهنية النظرية إلى الطبيعيات هي‬ ‫عينها نسبة القيميات من المقدرات الذهنية العملية إلى التاريخيات‪ .‬فلو قيل للعامي إن ما‬ ‫يراه بعينيه ويسمعه بأذنيه له ما يتعالى عليه تراه عين الرسام وتسمعه اذن الموسيقار‬ ‫لصدق لأن الرسام والموسيقار يثبان له ذلك بالعلم وبالعمل المنجز تطبيقا للعلم‪ .‬لكن الملحد‬ ‫الذي يتعلل بالمعرفة العلمية لا يفهم أن قوانين الطبيعة وسنن التاريخ يراها المدرك‬ ‫لشروط العلم ولشروط العلم بمفعولها في الطبيعة وفي التاريخ وليس بمحسوسيتهما التي لا‬ ‫وجود لها‪.‬‬ ‫وما نعبر به عن المعاني الكلية التي هي مقدرات ذهنية النظرية والعملية يشبه ما يرى‬ ‫به الرسام والموسيقار الجمال في المحسوس‪ .‬لكن الأمر هنا أرفع منزلة لأنه هو ما نسميه‬ ‫الفكر الفلسفي والفكر الديني اللذين يريان الجلال في النظام الطبيعي والعضوي والجلال‬ ‫في النظام التاريخي والروحي‪ .‬وهو معنى الآيات التي يسميها القرآن آيات الله في الآفاق‬ ‫وفي الانفس وهي النظام الذي ينتج قوانين الطبيعة والعضوي والنظام ينتج سنن التاريخي‬ ‫والروحي‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪49‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وبهذه الأنظمة التي هي آيات الطبيعي والعضوي وآيات التاريخي والروحي يستدل‬ ‫القرآن على وجود المبدأ الواحد المتعالي أو الله بوصفه خالقا وآمرا بفعلين من عالم الغيب‬ ‫الذي يعني عالما آخر وراء عالم الشهادة‪ .‬فعالم الغيب وراء عالم الشهادة هو غيب الخلق‬ ‫والامر والخالق والآمر وبه أي بمطلقاته التي يدرك الإنسان استحالتها في عالم الشهادة‬ ‫ويؤمن بأنها ليست مستحيلة عقلا في عالم آخر هو ما وراء الطبيعي والعضوي والتاريخي‬ ‫والروحي في عالم الشهادة وهو المقصود بأن الإنسان مهما كذب على نفسه يعلم يدرك أن‬ ‫علمنا ليس محيطا بالموجود ولا مطابقا له حتى في ما هو مشهود منه وعملنا ليس له كمال‬ ‫المنشود ولا مطابقا له حتى في ما هو مشهود منه‪.‬‬ ‫وبهذا المعنى فالمعاني الكلية التي هي مقدرات ذهنية عملية تؤدي نفس الوظيفة التي‬ ‫تؤديها المعاني الكلية التي هي مقدرات ذهنية نظرية‪ .‬وهذه تمثل شرط النظر والعقد‬ ‫للعلاقة مع الضرورة الشرطية في الطبيعيات وفي العضويات‪ .‬وتلك تمثل شرط العمل‬ ‫والشرع في التاريخيات وفي الروحانيات‪ .‬لكنهما شرط تصوير فعلهما المؤول للتجربة‬ ‫الطبيعية والعضوية والتجربة التاريخية والروحية دون مطابقة لأن المعاني الكلية لا تتعين‬ ‫أبدا في الأشياء لأنها \"لغة\" نقول بها ما ندركه من الأشياء دون أن تكون مقومة لها بل هي‬ ‫مقومة لإدراكنا وعبارتنا عنه دون أن تكون ظاهرات نفسية لأن لها قياما ذاتيا خارج‬ ‫الأذهان وخارج الاشياء‪.‬‬ ‫وحتى أحلل هذه العلاقة بين الآفاق والأنفس وآياتهما التي تبين حقيقة القرآن وضعت‬ ‫نظرية الأحياز المحيطة بكيان الإنسان والاحياز القائمة في كيانه‪ .‬فالمحطية به هي‬ ‫الجغرافيا والتاريخ وتفاعلهما ينتج حيزين آخرين هما حيز الثروة التي هي ثمرة القيمتين‬ ‫الاقتصاديتين وحيز التراث الذي هو ثمرة القيمتين الخلقيتين‪ .‬وهما حيزان تتحدد بهما‬ ‫منزلة الإنسان في الجماعة تحديد المكان والزمان لها‪ .‬ومعنى ذلك أن الإنسان محاط بأربعة‬ ‫أحياز اثنان من الطبيعة (المكان والزمان) واثنان من التاريخ (الثروة والتراث)‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪50‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫والاحياز الاربعة تتفاعل فحيزا الطبيعة لا يبقيان مكانا وزمانا طبيعيين فحسب بل‬ ‫يتأرخنان‪ .‬وحيزا التاريخ لا يبقيان تاريخين فحسب بل يتطبعنان‪.‬‬ ‫والفرق بين التحديدين هو أن المكان والزمان يحددان منزلة الإنسان في تعينه العضوي‬ ‫والروحي كعين طبيعية لكن تحديد منزلته بالثروة والتراث يحدده كذات اقتصادية‬ ‫وخلقية فيعودان على تحديده المكاني والزماني ليضفيا على منزلته فيهما معنى ليس لهما‬ ‫طبيعيا فيصبحان ذوي منزلة اقتصادية وخلقية‪ .‬فالمكان والزمان في الحضارة الإنسانية‬ ‫يعتبران من أهم القيم الاقتصادية والخلقية بعد تفاعلهما من الثروة والتراث‪.‬‬ ‫من ذلك أن المكان الذي يسكنه الإنسان يصبح أغلى اقتصاديا في اقتسام المكان وأكثر‬ ‫دلالة اقتصادية‪ .‬والزمان الذي تمثله شجرة نسبه أكثر دلالة خلقية في رؤية الجماعة‬ ‫بعضها للبعض‪ .‬وكل ذلك له أصل في مرجعية روحية تحدد سلم القيم في الجماعة وتمثل‬ ‫لواحمها وأوتادها مكانيا وزمانيا‪ .‬فالثروة والتراث يغيران طبيعة المكان والزمان ليضفيا‬ ‫عليهما معنى الثروة والتراث فتصبح قيمتهما الاقتصادية والخلقية أهم من كونهما فضاء‬ ‫مكانيا وامتدادا زمانيا‪ :‬المتحيز في الحيز يغير طبيعته فيدرجه في سلم القيم وينقله من‬ ‫الموجود إلى المنشود‪ .‬وجوديا كل الأماكن وكل الأزمنة متماثلة‪ .‬لكنها منشوديا مختلفة‬ ‫بسبب ما أضفي عليهما من قيم اقتصادية وخلقية‪.‬‬ ‫أما الأحياز التي في كيان الإنسان نفسه فهي بدنه الذي هو نظير المكان أو الجغرافيا‬ ‫الخارجية ووعيه الذي هو نظير الزمان أو التاريخ الخارجي‪ .‬وتفاعلهما فيه ينتج ما يناظر‬ ‫الثروة وهو الزاد الذي في بدنه والذي يتجلى له عندما يبقي مدة من دون غذاء فيغتذي‬ ‫مما اختزنه بدنه وهو مثل الشحن في الهاتف الجوال يتناقص بقدر ما يأكل منه‪ .‬ونرى‬ ‫ذلك خاصة في المجاعات عندما يضعف البدن حتى لا يبقى منه إلا الهيكل العظمي‬ ‫والبشرة‪.‬‬ ‫كما ينتج ما يناظر التراث في ذاته وهو كل ما ورثه من تراث حضارته وما فيها من‬ ‫الحضارة الإنسانية سواء اطلع عليه أو لم يطلع لأنه كامن في ممارسات جماعته التي ربي‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪51‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫عليها بوعي أو بغير وعي لأن كل حضارة تمثل تراكم للتراث الإنساني الكوني مهما كان‬ ‫أصحابه منعزلين عن غيرهم من الشعوب‪ .‬فحياة البشر واحدة بما تحتاج إليه مهما اختلفت‬ ‫وسائل سد الحاجات‪ .‬والحضارات المتساوقة تتبادل التأثير التراثي والحضارات المتوالية‬ ‫تتوارث التراث‪.‬‬ ‫وما يوحد هذه الأحياز الأربعة في كيان الإنسان الذاتية له هو كونه فردا متميزا عن‬ ‫غيره من الافراد بمزيج فريد نوعه رغم أن المكونات واحدة مزيج يحدد كيمياء الشخصية‬ ‫الفردية بحيث إن تميز الفرد في سلسلة الوراثة العضوية يناظره تميزه في سلسلة الموروث‬ ‫الروحي الذي له علاقة مباشرة بحصانة الجماعة الروحية وهي التي تمثل مبدا وحدة‬ ‫الوراثتين العضوية والروحية المميزة له بوصفها سهمه من هوية الجماعة المتميزة حضاريا‬ ‫أرضية الهوية الكونية للإنسان من حيث هو إنسان عضويا وروحيا‪.‬‬ ‫وبهذا المعنى فكل \"المتجلمغين\" عن التخلص من الهويات ومن الكلام الهووي لا يدرون‬ ‫فيم يتكلمون الهوية الكونية تمثل شكلا خاويا هو نظام الاستعداد لتحقيق الإنسانية وليس‬ ‫الإنسانية المتحققة وهي تعود إلى شكل الجهاز العضوي والجهاز الروحي أو الذهني الذي‬ ‫سميته بجهاز النظر والعقد في النظريات وجهاز العمل والشرع في العمليات وكلاهما استعداد‬ ‫مجرد لا يكون ذا وجود فعلي إلا بما يصاغ بها من مضمونه‪ .‬وخلافي مع القائلين بالخصوصية‬ ‫ليس في هذا بل في ظنهم أننا إذا نزعنا الخصوصية الحضارية لا يبقى إلا الحيوان في‬ ‫الإنسان‪ .‬موقفي هو أن الإنسان حتى من دون الحضارة الحاصلة ليس حيوانا فحسب بل هو‬ ‫كائن حضاري بالتجهيز المستعد للإنجاز الحضاري‪ :‬وهذا التجهيز كوني بمعنى أنه يختلف‬ ‫عن مضمونه التاريخي الذي هو تعينه الخصوصي وليس حقيقة كيانه الكلي‪.‬‬ ‫ولذلك فالهوية الإنسانية متقدمة على الهوية الحضارية التي هي من أعراض مضمونها‬ ‫الذي هو شرط تعينها ولذلك فلا يمكن تصور الهوية الكونية مغنية عنها ولا هي مغنية عن‬ ‫الهوية الكونية‪ .‬فالمقدرات الذهنية النظرية (الرياضيات مثلا) والمقدرات الذهنية‬ ‫العملية (الأخلاقيات مثلا) لا يمكن تصورها موجودة لو لم يكن الإنسان في أحياز كيانه‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪52‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫اولا وفي الاحياز المحيطة به ثانيا ليس له موجود فعلي يدركه على أنه ذو وجود موضوعي‬ ‫يختلف عن المقدرات التي هي شكل يستمد مضمونه من الموجود والمنشود العينيين دائما‪.‬‬ ‫فتكون الأحياز الخارجية والأحياز الداخلية هي معين المضمون الذي يصبح بتشكيله‬ ‫اعتمادا على المقدرات الذهنية مطبقة على التجربة المستمدة من نوعي الاحياز المضاعفين‬ ‫وعلاقات الإنسان بها في النظر والعمل معرفة علمية وقيمة عملية وهما ما يضفي الوجود‬ ‫والمنشود الفعليين للمقدرات الذهنية النظرية والعملية بوصفهما صور الموجود والمنشود‬ ‫الفعليين‪ .‬لكن الموجود والمنشود الفعليين مضمون دائم التغير لأن المعاني الكلية التي‬ ‫للمقدرات الذهنية هي كما أسلفت مثل الجمال في المحسوس والجلال في نظام الطبيعة‬ ‫والبدن وفي نظام التاريخ والروح‪ .‬وهذه هي معين كل أدلة القرآن في الحجاج الديني‪:‬‬ ‫وهي بديله من الاحتجاج بالمعجزات‪ .‬معجزة القرآن هي نظام كيان العالم ونظام كيان‬ ‫الإنسان‪ .‬وهو معنى فصلت ‪ :53‬آيات الآفاق وآيات الانفس هي التي تبين حقيقة القرآن‪.‬‬ ‫وهكذا فقد بلغنا الغاية في المحاولة وبها نكون قد أدركنا ما كان يمكن أن يستمد من‬ ‫الفتوحات التي أنسب بذراتها إلى المدرسة النقدية عامة وإلى ابن تيمية وابن خلدون‬ ‫خاصة‪ .‬وهذه البذرات ليست إلا ثمرة محاولتهما التخلص من تحريف علوم الملة الناتج عن‬ ‫قلب آية فصلت ‪ 53‬وآية آل عمران ‪ 7‬بعكسهما‪ .‬ولهذه العلة فإن ما تصوره فلاسفة الحداثة‬ ‫الاستغناء عنه لبناء المعرفة والقيمة هو عين ما جعل الإنسانية تصل إلى اعتبار تهديم‬ ‫العالم تعميرا وتهديم الإنسان تنويرا‪ .‬ولهذه العلة كذلك أعتقد أن الإسلام هو مستقبل‬ ‫الإنسانية وأن فكر المدرسة النقدية العربية هو مستقبل الفكرين الفلسفي والديني‪.‬‬ ‫وبهذا المعنى فإني اعتبر نفسي رابع فروع أصلها (بعد العزالي وابن تيمية وابن خلدون)‬ ‫أصلها الذي هو القرآن الكريم المدرسة التي حاولت تبين حقيقة القرآن التي تحرر الإنسان‬ ‫من تحريف الدين والفلسفة المتمثل في القول بالمطابقتين في النظر والعقد وفي العمل‬ ‫والشرع‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪53‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪54‬‬ ‫الأسماء والبيان‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook