Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore مواضعات مفهومية في تأسيس القرآن للواحد في الديني والفلسفي

مواضعات مفهومية في تأسيس القرآن للواحد في الديني والفلسفي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2020-07-07 16:40:20

Description: مواضعات مفهومية في تأسيس القرآن للواحد في الديني والفلسفي

Search

Read the Text Version

‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪re nils frahm‬‬ ‫مواضعات مفهومية‬ ‫في تأسيس القرآن للواحد‬ ‫في الديني والفلسفي‬ ‫الأسماء والبيان‬





‫المحتويات ‪2‬‬ ‫‪ -‬الفصل الأول ‪1 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثاني ‪13 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثالث ‪24 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الرابع ‪39 -‬‬

‫‪--‬‬ ‫استوفيت الكلام في الوصل بين فتوحات شيخ الإسلام ابن تيمية بما يسد ثغرات تفصل بينها‬ ‫فيمكن من فهمها بصورة أوضح اعتمادا على نسقية مفهومية‪ .‬ولم يبق لي ما أقوله في دوره‬ ‫الذي أطلت فيه الكلام في ضميمة المثالية الألمانية‪ .‬وأريد الآن أن أعود إلى هذه الروابط‬ ‫النظرية التي أضفت شرعية النسق النظري على فكره لمزيد التعميق لأن الكثير منها ما‬ ‫يزال في مرحلة الامتحان‪.‬‬ ‫فقد استعملت الكثير من المفهومات ليست من الاصطلاح الفلسفي المعهود بسبب نكوص‬ ‫الفلسفة إلى سرديات تاريخية حول بعض النكت إما البيوغرافية أو المنتسبة إلى موضة‬ ‫الكلام على آراء المشاهير بالشذود في أمهات المسائل‪ .‬وسأكتفي اليوم بمفهومين غريبين لأن‬ ‫كلا منهما مؤلف من مفهومين ما يجعلهما مفهومين مركبين وليسا بسيطين بخلاف المعتاد‪.‬‬ ‫فالمفهوم يكون عادة ذا وحدة تحيط بعناصره التي تتبعها وليس مؤلفا من مفهومين يبدوان‬ ‫من سجلين مختلفين‪:‬‬ ‫• الأول هو النظر والعقد‬ ‫• والثاني هو العمل والشرع‪.‬‬ ‫والمفهوم الموحد للنظر والعقد هو معنى طلب الحقيقة في الفكر الفلسفي‪ .‬فالنظر يطلب‬ ‫الحقيقية ليصل إلى ما يعتقد أنه الحقيقة‪ .‬فيكون العنصر الثاني غاية والعنصر الاول‬ ‫أداة‪ .‬ما يعني أن المفهوم المركب هو المفهوم الذي يعتبر التلازم بين الأداة والغاية في‬ ‫المعرفة الإنسانية غير قابلين الفصل‪ :‬فالنظر أداة لغاية هي الحقيقة ولا ينفصلان لكأن‬ ‫الأول هو الطريق والثاني هو نهايته‪.‬‬ ‫وهذا التلازم بخلاف ما يكون عليه العمل مفاده أن الغاية في هذا الأخير ليست بالضرورة‬ ‫متلازمة مع أداة معينة لأنها تستعمل الأدوات المتاحة التي حققها النظر والعقد والتي هي‬ ‫في الغالب ثمرة سابقة عليها ويتم تحصيلها في مسعى النظر إلى تحقيق العقد في حقيقة ما‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪1‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫يعني في النهاية أن مفهوم \"العمل والشرع\" هو الغاية وأن \"النظر والعقد\" هو الأداة في‬ ‫تجهيز الإنسان للتعمير والاستخلاف‪.‬‬ ‫فيكون\"العمل والشرع\" هو الفلسفة العملية التي هي الغاية من \"النظر والعقد\" أو الفلسفة‬ ‫النظرية‪ .‬وبذلك يكون العمل عملا على علم‪ .‬ونفس هذه العلاقة دينية‪ .‬لكنها تعكس‬ ‫فتأخر المقدم في الفلسفة وتقدم المؤخر‪ .‬بمعنى أن الفلسفة العملية التي هي الغاية مقدمة‬ ‫على الفلسفة النظرية لأنها تختار من بين حلولها الأدوات المناسبة للعمل المزمع بالمفاضلة‬ ‫بين النظريات والعقائد‪.‬‬ ‫والآن فلأشرع في شرح المفهوم المركب الأول \"النظر والعقد\" بما تكلمت عليه من تمييز بين‬ ‫المضمون الوجودي والكثافة الوجودية المناظرين لمضمون القضية وللموقف القضوي‪.‬‬ ‫وهذان مفهومان معلومان ومعهودان‪ .‬لكنهما غير محللين بما يعلل الفرق بينهما‪ .‬فقد جرت‬ ‫العادة الكلام عليهما دون مضاعفة أي منهما‪ .‬لكني ضاعفتهما لأني ميزت بين الموقف من‬ ‫النظر والموقف من العقد في المفهوم المؤلف الواحد‪.‬‬ ‫فنحن أمام أربعة عناصر اثنين في النظر والعقد واثنين في العمل والشرع وكلها ذات أصل‬ ‫يوحدها في كيان الإنسان أي تجهيزه لمهمتيه‪ .‬ولننظر في الاثنين الاولين‪ .‬عندنا المضمون‬ ‫الوجودي الذي يناظر المضمون القضوي ويكون مع رفع الحكم بالوجود مقتصرا على مضمون‬ ‫النظرية من حيث بنيانها المنطقي ثم نفس المضمون مع الحكم بالوجود من حيث ما سميته‬ ‫بالكثافة الوجود التي تجعل الإنسان يصدق أن موضوع النظرية موجود فعلا وليس مجرد‬ ‫ظاهرة ذهنية‪ .‬وإذن عندنا ظاهرة ذهينة ظاهرة خارجية‪.‬‬ ‫وللفكر موقف منهما كليهما‪ .‬فالموقف القضوي الأول موقف من تناسق النظرية مع رفع‬ ‫الحكم في ما يخص الوجود وعدمه‪ .‬والموقف القضوي من الثاني موقف يحدد درجة تصديق‬ ‫مطابقة المفهوم للماصدق الموجود فعلا خارج النظرية بالقول أظن أعتقد أرجح إلخ‪ ..‬أن‬ ‫هذه النظرية تتعلق بموضوع فعلي خارج ذهن صاحبها وهو ما يوصف بواقع الموضوع‬ ‫الخارجي‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪2‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وبذلك يتبين أن الموقف القضوي من المضمون الوجودي غير الموقف القضوي من الكثافة‬ ‫الوجودية لأن الثاني ينتقل إلى من بنية المفهوم إلى وجود الماصدق وهو العقد‪ .‬أما الأول‬ ‫فيقتصر على بنية المفهوم من حيث نسيجه المنطقي وتناسقه الذي يضفي عليه المعنى دون‬ ‫تعلقه بمرجعية هي ماصدقه في الوجود الخارجي‪.‬‬ ‫ولابد من التنبيه إلى خطأ شائع حول المفهوم‪ .‬فهو ليس بديل التصور كما يتوهم بعض‬ ‫المترجمين لـ\"كونسابت\" أو لـ\"بجرف\" كما يحاول المتفاقهون الذين وضعوا كلمة \"أفهوم\" التي‬ ‫لا تعني شيئا في العربية‪ .‬فالمفهوم هو الوجه المعنوي من التصور وهو متلازم مع الوجه‬ ‫الموضوعي أو الماصدق الذي يعرفه المفهوم‪.‬‬ ‫فالتصور مفهوم متلازم مع ماصدق‪ .‬والفصل بينهما هو الذي يحول المفهوم إلى معنى ذهني‬ ‫ينظر إليه بتعليق الحكم في القول بوجوده أو بعدمه أي بمعزل عن مرجع وجودي لأنه ينتج‬ ‫عن رفع الحكم بوضع المعنى موجودا خارج الذهن‪ .‬والعملية تسمى عملية رفع الحكم في‬ ‫الفينومينولوجيا لفحص المعنى من حيث نسيجه المعنوي وتناسقه المنطقي قبل الجزم بوجوده‬ ‫أو بعدمه‪.‬‬ ‫فيترتب على ذلك ضرورة التمييز بين مضمون القضية في حالة رفع الحكم عن مضمونها‬ ‫في حالة وضع الحكم‪ .‬وهو ما يترتب التمييز بين حالتين من النظر في مضمون القضية‬ ‫وبالتالي التمييز بين موقفين قضويين أحدهما يتعلق بدرجات القبول بالتحليل الذهني‬ ‫والثاني يتعلق بدرجات التصديق بمطابقته للموضوع الذي يعرفه المفهوم‪.‬‬ ‫والأول هو النظر‪ .‬والثاني هو العقد‪.‬‬ ‫في التصور الواحد الذي يتألف منهما بوصف النظر أداة والعقد غاية في كل معرفة‪ .‬ولولا‬ ‫ذلك لما احتجنا للمنطق ولكانت التجربة الغفلة كافية كما في حالة من يتصور الإدراكات‬ ‫الحسية عاكسة لما يسميه الواقع فيكون موقفه القضوي مبنيا على شعور بالكثافة الوجودية‬ ‫أو بتأثير الموضوع فيه دون أن يكون فاهما للمضمون الوجودي‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪3‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪-14‬فالمدارك الحسية تحتوي على الكثافة الوجودية الأسمى في المدارك الغفلة‪ .‬وهي التي‬ ‫تمثل ما يسمونه \"الواقع الملموس\"‪ .‬والفلسفة والدين كلاهما يقلب الأمر فهو يعتبرها‬ ‫محتوية على الكثافة الوجودية الأدنى لأنها لا تكتفي بنفسها‪ .‬فأعماقها هي مجال النظر‬ ‫الباحث في المضمون القضوي المعلل لقيامه‪.‬‬ ‫وتلك هي علة التلازم بين النظر أداة والعقد غاية‪ .‬فتكون النظر أداة تحرير العقد من‬ ‫الغفلة وإيصاله اليقظ الذي يبحث في ما وراء الظاهر الحسي ليبلغ إلى الباطن الحدسي‬ ‫سواء بالمعنى المعرفي أو بالمعنى القيمي في الفلسفة وفي الدين على حد سواء‪ .‬تلك هي وحدة‬ ‫الفكر الإنساني الفلسفي والديني‪.‬‬ ‫وبذلك تسقط خرافة المقابلة بين العقل والنقل‪ .‬فأصحاب هذه الخرافة يعتقدون أن‬ ‫العقل هو النظر والنقل هو العقد‪ .‬فيكون العقل نظرا دون عقد في الغاية والنقل عقدا‬ ‫دون نظر في الغاية‪ .‬وحتى يفهم القارئ فلنسأل‪ :‬هل العقل يمكن أن يعلم من دون ماصدق‬ ‫فعلي للمفهوم الذي يعلمه؟ ولنسأل هل النقل يمكن أن يعلم من دون مفهوم تصوري للمضوع‬ ‫الذي يعلمه؟‬ ‫وإذن فإذا سلمنا بوجود فرق بينهما فهو لا يتعلق بالعقل أو النقل لأن كليهما عقلي ونقلي‬ ‫دائما أي إن كل فكر دينيا كان أو فلسفيا لابد له من شكل عقلي ومضمون نقلي‪ .‬وهو في‬ ‫الفلسفة التجربة الطبيعية وفي الدين التجربة للروحية‪ .‬والشكل واحد في الحالتين أي‬ ‫تحليل المضمون القضوي لتحديد الموقف القضوي أو تحليل المضمون الوجودي لتحديد‬ ‫الكثافة الوجودية التي يعبر عنها الموقف القضوي‪.‬‬ ‫فالموقف القضوي ليس تحكميا إلا في الأيديولوجيا‪ .‬لكنه في العلم فلسفيا كان أو دينيا‬ ‫يعتمد على تقدير الكثافة الوجودية التي يمثلها المصادق المناسب للمفهوم في التصور‪.‬‬ ‫فإدراك الكثافة الوجودية هو المحدد للموقف القضوي في الفلسفة وفي الدين على حد‬ ‫سواء‪ .‬ولا فرق بينهما فكلاهما مؤلف حتما من نظر وعقد حتما‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪4‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وكل من يعكس فيبدأ بالعقد ثم يذهب إلى النظر فإنه يكون في إحدى الوضعيتين‬ ‫التاليتين‪ :‬فهو إما يبحث عن الحقيقة حقا أي عن مدى التلاؤم الممكن بين المفهوم والماصدق‬ ‫لتأسيس عقده في ضوء نظره أو العكس لا يبحث عن الحقيقة بل تأييد عقده بتحريف نظره‬ ‫ليسند عقده‪ .‬وهذه هي الوضعية الغالبة في الفكر الإنساني إذ لا توجد لوحة بيضاء \"تبولا‬ ‫رازا\" لعسر التحرر من العقائد المسبقة وهو معنى محاولة التحرر من التوظيف الأيديولوجي‬ ‫للنظر‪.‬‬ ‫وإذن فالموقف العلمي في الدين أو في الفلسفة لا بد أن يكون جهدا متواصلا للتحرر من‬ ‫العقد المسبق الذي لم يتأسس على نقد ونظر أمين في اسسه اي في التناظر الممكن بين مكونات‬ ‫المفهوم ومكونات الماصدق‪ .‬والأول عمل منطقي ورياضي لتناسق النظر‪ .‬والثاني عمل حسي‬ ‫وتجريبي لتناسق الوقائع‪ .‬والتجربة تكون إما حسية أو روحية‪ .‬وكلتاهما ذات وجاهة‬ ‫فعلية‪.‬‬ ‫والمشكل هو أن التجربة الحسية تبدو حاصلة على ما يشبه الإجماع بخلاف التجربة‬ ‫الروحية‪ .‬وقد ذكرنا العلة وهي أن المدارك الحسية هي الأسمى من حيث تأثير الكثافة‬ ‫الوجودية في وعي الإنسان مهما حاول أن يتخلص من سلطان المحسوسات عليه لأنها جزء‬ ‫مقوم من كيانه الذي هو في علاقة مع العالم الخارجي إذ إن كيانه العضوي حاس ومحسوس‬ ‫في آن‪ :‬ويعسر أن يشك الإنسان في كيانه العضوي المحسوس‪.‬‬ ‫لكن التجربة الروحية ليست في متناول الجميع رغم أن الجميع له روح مثلما له بدن‪ .‬فكما‬ ‫بينت كلنا نرى‪ .‬لكن لسنا كلنا مالكين لعين الرسام التي ترى جمال الشكل‪ .‬وكلنا نسمع لكن‬ ‫لسنا كلنا مالكين لأذن الموسيقار التي تسمع جمال الصوت‪ .‬وأعمق من ذلك لسنا كلنا مدركين‬ ‫لآيات الجلال وراء نظام خلق الطبيعة أو لآيات الجلال وراء نظام أمر التاريخ‪ :‬آي ما‬ ‫نعتبره فعل الإرادة الإلهية الحرة‪.‬‬ ‫إدراك جمال الشكل وجمال الصوت قابلان للصوغ الرياضي كما أسلفنا‪ .‬لكن كيف نصف‬ ‫إدراك الجلال الكامن في الطبيعي (جلال الخلق ونظام الضرورة) والجلال الكامن في‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪5‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫التاريخي (جلال الأمر ونظام الحرية)‪ .‬وهما يصاغان بما لا يكفي فيه المنطق والرياضي‬ ‫لأن صوغهما يجمع بين الجمال والجلال وبين الحرية المطلقة المؤسسة للضرورة في الطبيعة‬ ‫وللحرية في التاريخ‪ :‬وتلك هي بينة القرآن التي اعتقد أني قد اكتشفتها ولا فخر‪.‬‬ ‫وقد حاولت أن أبين ذلك في كتاب \"الشعر المطلق والأعجاز القرآني\" أين بينت أن الجلال‬ ‫هو إطلاق الجمال بالتناظر بين مقوميهما لأن الوجود أولا وكونه على ما هو عليه ثانيا لا‬ ‫يكفي لفهمهما الضرورة المنطقية والرياضية إذ هما أحد الممكنات في اللامتناهي‪ .‬جمال‬ ‫الرسم وجمال الصوت يناظران جلال الكون الذي يعبر عما وراء أفعال الوجود الطبيعي‬ ‫وجلال الحضارة التي تعبر عما وراء أفعال الوجود التاريخي‪ .‬وإدراكاتها العلمية‬ ‫وانجازاتها العملية هي العبادة المثلى لأنهما هما فعل تحقيق التعمير والاستخلاف‪.‬‬ ‫والادراكات الأربعة التي تمثل العبادة هي جوهر الإنسان من حيث هو كيان محقق لذاته‬ ‫بالوعي بها اجتهادا أولا وبالعمل بها جهادا ثانيا وهو معنى كونه مستعمر في الأرض‬ ‫ومستخلفا فيها‪ .‬ولما كان الله يقول إنه لم يخلق الإنس والجنس إلا ليعبدوه فتلازم وجهي‬ ‫مهمته هذين هو جوهر العبادة‪ .‬فمن لا يدركها هو الناسي لما فطر عليه ليكون مشدودا إليها‬ ‫ومن لا ينجزها هو العاصي فلا يرى وراء الحواس الحوادس وخاصة الجمال الشكلي والجمال‬ ‫الصوتي ومن ثم فهو لا يرتقي إلى ما هو أسمى أي جلال ما بعد الأفعال الطبيعية وجلال‬ ‫وما بعد الأفعال التاريخية‪.‬‬ ‫وهي أربعتها علاقة غير مباشرة بالرب تعيد الإنسان إلى علاقته المباشرة به أي قلب‬ ‫المعادلة الوجودية‪ .‬فيكون بذلك هو الآية الكبرى التي تدرك الآيات الفرعية الأربعة أي‬ ‫جمال الشكل وجمال الصوت وجلال آيات نظام الطبيعة وجلال آيات نظام التاريخ ومن ثم‬ ‫فمهمة الإنسان هي علم هذه الآيات الأربعة المتفرعة عنه أصلا لإدراكها بعلمه وتحقيقها في‬ ‫عمله‪ :‬الاستخلاف‪.‬‬ ‫والان نمر إلى المفهوم الثاني \"العمل والشرع\" بعد المفهوم الاول \"النظر والعقد\"‪ .‬وهو‬ ‫المفهوم الثاني المؤلف من مفهومين متلازمين تلازم النظر والعقد في المفهوم السابق‪ .‬فيكون‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪6‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫العمل أداة والشرع غاية مثلما أن النظر أداة والعقد غاية‪ .‬فنحن ننظر لنعتقد ونعمل‬ ‫لنشرع‪ .‬وكلاهما فعل جماعي‪ :‬أشار إليهما القرآن في سورة العصر بالتواصي بالحق لمعرفته‬ ‫بتعاون الناظرين وبالتواصي بالصبر لتحقيقه بتعاون العاملين‪.‬‬ ‫والعبادة هي إذن التواصي بالحق لمعرفة الحقيقة أو للتخلص من الغفلة والنسيان‬ ‫والتواصي بالصبر لتحقيقها في التاريخ الفعلي أو للتخلص من العصيان‪ .‬ولا يمكن أن يحصل‬ ‫ذلك من دون أن يكون المشارك فيهما مؤمنا (النظر والعقد) وعاملا صالحا (العمل‬ ‫والشرع)‪ .‬فيكون ما كلف به الإنسان عبادة هو التحرر من الخسر الذي أوجب أعادة تأهيله‬ ‫بتكليفه بمهمتين هما التعمير والاستخلاف‪.‬‬ ‫والمهمة الأولى هي أن يكون مبدع شروط قيامه العضوي وهو تعمير الأرض ورعايتها‪.‬‬ ‫والثانية هي أن يكون مبدع شروط اهليته للاستخلاف بأن يجعل التعمير معتمدا على‬ ‫اكتشاف قوانين الطبيعة باجتهاده النظري وهي ما يناظر عين الرسام وعلى اكتشاف سنن‬ ‫التاريخ بجهاده العملي وهي ما يناظر أذن الموسيقار‪ .‬فيرى آيات الآفاق ويسمع آيات‬ ‫الأنفس (فصلت ‪ :)53‬لاختبار اهليته للاستخلاف‪.‬‬ ‫علينا الآن أن نشرح العلاقة بين العمل والشرع مقومي المفهوم الثاني كما شرحنا العلاقة‬ ‫بين النظر والعقد مقومي المفهوم الاول وأن نحلل طبيعة التلازم بين مقومي كلا المفهومين‪.‬‬ ‫فما هي علاقة العمل والشرع وما هي طبيعة التلازم بينهما؟ قلنا إن العمل أداة والشرع‬ ‫غاية‪ .‬وهذا يبدو غريبا إذ في العادة يعتبر الشرع أداة العمل لكن الدين والفلسفة‬ ‫يعكسان العادة كما في المسالة السابقة‪.‬‬ ‫رأينا في المسألة السابقة أن الفكر الغفل ينطلق من العقد ليجعل النظر مجرد اداة لدعم‬ ‫ما يعتقده فيحرفه حتى يصبح أداة تأسيس الابتعاد عن الحقيقة وليس الوصول إليها وذلك‬ ‫هو معنى الإيديولوجيا‪ .‬في مسألتنا التشريع الغفل يجعل العمل الفاسد أداة لفرض تشريع‬ ‫يحرف الحقيقة ولا يحققها أي إن نظير الإيديولوجيا هو العلم الصادق لأنها تحول دون‬ ‫طلب الحقيقة هو الاستبداد ضديد العمل الصالح لأنه يحول دون تحقيق الحقيقة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪7‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فيكون النظر الصادق أداة تحرير الإنسان من تحريف طلب الحقيقة ومن هنا الحاجة‬ ‫للتواصي بالحق حتى يحال دون تحريف الاعتقاد من أجل الوصول إلى الحقيقة بالاجتهاد‬ ‫الجماعي والعمل أداة تحرير الإنسان من تحريف تحقيق الحقيقة ومن هنا الحاجة إلى‬ ‫التواصي بالصبر حتى يحال دون تحريف التشريع‪ :‬تحرر من الإيديولوجيا وتحرر من‬ ‫الاستبداد شرطي الإيمان والعمل الصالح‪.‬‬ ‫والآن أجدني مضطرا لذكر أمر محير وهو أن العمل ليس قسيم النظر إلا بصورة عامية‬ ‫ولضرورة التحليل المجرد لكنه فلسفيا ودينيا يشمل النظر‪ .‬ففعل النظر هو بدروه عمل‪.‬‬ ‫لكنه ليس بالجوارح بل بالذهن‪ .‬وهو ليس عملا في الاشياء بل عمل في ما يستعمله الإنسان‬ ‫من رموز للتفكير فيها تكون بدائل من الأشياء كمن يحسب ما يملك بحسبان الأوراق‬ ‫النقدية‪.‬‬ ‫وهذه الخاصية هي الظاهرة الأساسية المميزة للإنسان عن كل ما عداه من الكائنات الحية‪.‬‬ ‫فكل ما نعلمه منها بخلاف الإنسان لا يتعامل إلا مع الأشياء نفسها كما يدركها إلا الإنسان‬ ‫فهو له تعاملان بجوارحه مع ما يدركه منها حاضرة بذاتها خارج ذهنه أو في ذهنه مع ما‬ ‫يدركه من رموزها في حضورها أو في غيابها‪ .‬لكأن الرموز تنوب الأشياء في عمل الذهن‪.‬‬ ‫ولذلك فللإنسان مهما كان أميا عالمان‪:‬‬ ‫‪ .1‬عالم يكون فيه متعاملا مع كل شيء مما يدركه بكيانه العضوي أو بجوارحه معه كشيء‬ ‫‪ .2‬ويكون فيه متعاملا معه بذهنه كاسم لذلك الشيء في ثقافته أو في اختصاصه يرمز اليه‬ ‫به مسلما بالتناظر التام بين الشيء ورمزه أو اسمه ومن ثم فالعملية الذهنية شاملة للرمز‬ ‫الحاضر والشيء الذي يكون حاضرا باسمه رغم غياب عينه الفعلي‪.‬‬ ‫ومثلما أخذت مثال عملياتنا الحسابية على العلمة لحساب الثروة المادية أو لتقدير‬ ‫المقتنيات الممكنة بفضلها فإنه يمكن أخذ الكلمة لحاسب أسماء الأشياء في العملية الذهنية‬ ‫سواء كانت حاضرة أو غائبة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪8‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫والفرض المؤسس للعمليتين هو اعتبار الشيء واسمه قابلين للتناوب أحدهما ينوب الثاني‬ ‫في الحضور إلى الذهن الذي هو العامل المشترك بين النظر والعمل بوجهيه الفعلي‬ ‫والرمزي‪ :‬فلنحاول فهم المسألة المعقدة رغم أن جميع البشر يمارسونها عامة وخاصة لا‬ ‫فرق‪.‬‬ ‫ويمكن فهمها اعتمادا على مثال المقارنة بين التبادل المعتمد على المقايضة والتبادل المعتمد‬ ‫على العملة وسيطا فيه‪ .‬فنوع التبادل الاول يتعامل مع الأشياء التي يتم تبادلها‪ ،‬والنوع‬ ‫الثاني يتعامل مع ما يرمز إلى الشيء عامة وهي قيمته بالعملة التي هي مواضعة لوسيط‬ ‫بين الأشياء التي تتحدد قيمها في التبادل لسد الحاجات‪ .‬والامر في الذهن لا يتعلق بالتبادل‬ ‫بل بالتواصل‪ .‬ويمكن أن يكون مثل المقايضة بالإشارة إلى الأشياء دون رموز لسانية أو‬ ‫بالعبارة اللسانية في حضورها أو في غيابها‪ :‬فتكون ألفاظ اللسان مثل أوراق العملة حوامل‬ ‫لقيم في التبادل مادية وفي التواصل معنوية‪.‬‬ ‫وامكانية التبادل في غياب الشيء وإمكانية التواصل في غياب الشيء بفضل العملة في‬ ‫التبادل للتحرر من المقاضية التي تقتضي حضور الشيء وبفضل الكلمة في التواصل للتحرر‬ ‫من الإشارة التي تقتضي حضور الشيء هذه الامكانية في حالتي التبادل والتواصل هي التي‬ ‫تجعل العمل بالجوارح على الأشياء ليس هو العمل الوحيد بل هو يقع بالذهن على رموزها‬ ‫كذلك‪.‬‬ ‫فنفهم معنى \"علمه الاسماء كلها\" أي علمه القدرة على التسمية التي تجعل الامرين‬ ‫ممكنين‪ .‬وبعبارة وجيزة فإن العمل يكون بالبدن ويكون بالذهن والأول شديد المحدودية‬ ‫بالقياس إلى الثاني لأن يحرر من عائق المكان والزمان والتعين المادي والتعين المعنوي فيمثل‬ ‫قوة التجريد الأقصى‪ .‬والتواصل المعنوي مشروط في التبادل المادي عند الإنسان حتى في‬ ‫العمل بالجوارح عندما يصبح عادة تنجزها الجوارح دون تفكير لأنه صار فعلا آليا أي ملكة‬ ‫وعادة وهو من شروط تفرغ الذهن لعملية اشمل هي عملية تنظيم الأعمال المتكاملة في‬ ‫أنجاز شيء ما‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪9‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ويمكن لهذا التنظيم هو نفسه أن يصبح عادة عندما يتحول إلى عادة نظام جاهز يتعود‬ ‫عليه الإنسان مثل كل الأفعال المتكاملة في أنجاز شيء ما كما نلاحظ ذلك مثلا في أي مهارة‬ ‫بدنية كما في سلسلة من الحركات الرياضية أو من الافعال الصناعية أو في عمل متكامل صار‬ ‫التمكن من سلسلة العناصر التي انتظمت فيه عادة تنجزها الجوارح بصورة آلية‪ .‬وهذا هو‬ ‫سر الروبوتات المبرمجة‪.‬‬ ‫وبهذا المعنى فالمفهوم الأول أي النظر في الرموز والعقد في ما يوصل إليه من تحديد ما‬ ‫يجدر اعتقاده في المسألة المنظور فيها يعتبر جزءا مقوما للمفهوم الثاني أي لمفهوم العمل‬ ‫والشرع‪ .‬ففي أي عمل القياسات العينية لعناصر موضوعه المعتبرة ليست إلا تعيينا يجري‬ ‫أولا في رموزها التي نعلمها بها‪ .‬مثال ذلك بناء بيت أو جسر‪ .‬فالقياسات النظرية سابقة‬ ‫على القياسات التطبيقية على العين شرط الانجاز الفعلي‪.‬‬ ‫والرموز التي نعلم بها الأشياء أمور ذهنية تتعامل مع الاسماء وليس مع الأشياء بعد أن‬ ‫وضعت رموزا لها تمكن من اعتماد التناظر بين الرموز والمرموزات بحيث يكون أحدهما‬ ‫منعكسا على ثانيهما كما في الكيمياء‪ .‬فما نجريه من تفاعل بين رموزها في لغة الكيمياء‬ ‫ننتظر حصوله في التفاعل الكيمياوي نفسه في الواقع الفعلي‪.‬‬ ‫وهذا يقتضي أن يكون النظر قد تخلص من الإدراك الغفل وصار رامزا لما صار يعتقد‬ ‫بالبحث العلمي أنه \"حقيقة\" الشيء على الأقل إلى حين المزيد من التقدم في معرفة حقيقة‬ ‫الشيء الذي نتعامل مع رمزه وكأنه مطابق له مع العلم بأن المطابقة التامة مستحيلة ولهذه‬ ‫العلة فالمطابقة يمكن اعتباره غاية في نهاية الوصول إليها يقتضي قطع اللامتناهي‪ .‬وإذن‬ ‫فغاية كل نظر من حيث هو عمل أو موصل إلى عمل هو طلب الممكن من مطابقة الحقيقة‪.‬‬ ‫والإنسان لا يمكن أن يستقر له قيام من دون الاعتقاد في شيء ما ركيزة لثبات هو علة‬ ‫الاستقرار حتى ولو كان على خطأ‪ .‬ولذلك فالاعتقاد يعتبر الدرجة الأسمى في الموقف‬ ‫القضوي التابع لتأثير الكثافة الوجودية ومن ثم فهو خاضع لتقييم المواقف القضوية فيكون‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪10‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫بالتالي خاضعا لقيم الأحكام الخمسة في تقدير أفعال العباد‪ .‬فالإنسان لا يخلو في كل فعل‬ ‫من‪:‬‬ ‫‪ .1‬الاعتقاد في الامتناع‬ ‫‪ .2‬الاعتقاد في الوجوب‬ ‫‪ .3‬الاعتقاد في المكروه‬ ‫‪ .4‬الاعتقاد في المندوب أو‬ ‫‪ .5‬الاعتقاد في اللامحدد بالقيم الأربع السابقة وهو بنحو ما اعتقاد في المباح أو الاعتقاد‬ ‫الصفري‪.‬‬ ‫وقد يعجب الكثير كيف ارجع النظر في غايته إلى أحكام الفعل منطبقة على غايته التي‬ ‫هي العقد؟ لكن الأمر يتعلق بتحديد المواقف القضوية التي تترتب على تأثير الاعتقاد في‬ ‫الكثافة الوجودية‪ .‬والمواقف القضوية أفعال إنسانية وأحكامها هي أحكام أفعال الأنسان‬ ‫الحرة أي التشريعية بصرف النظر عن كونه متدينا أو غير متدين لأن الأنسان في كل‬ ‫الأحوال شارع نفسه في أفعاله الحرة حتى لو كان تابعا لتشريع سماوي أو لتشريع وضعي‪.‬‬ ‫ولا بد له من حيث هو مشرع ذاته في تصنيف الافعال من أن يعتقد أحد الأحكام الخمسة‬ ‫وهي بمقتضى اعتقاده وليست بطبعها لأنها حرة وليست مضطرة‪.‬‬ ‫ففي غاية النظر يصل الإنسان إلى اعتقاد في حقيقة ما بوصفها إما ممتنعة أو واجبة أو‬ ‫مكروهة أو مندوبة أو مباحة‪ .‬والحكم الاخير يعني أنها ليست أيا من الاحكام الاربعة‬ ‫الاخرى‪ .‬وأكثر من ذلك فإنه عند الاضطرار يجعلها كلها مباحة فيفقدها بقية الأحكام‪.‬‬ ‫وهذا نص قرآني‪ :‬عند الضرورة كل المحرمات تصبح اتيانها مباحا وكل الواجبات بصبح‬ ‫تركها مباحا‪ .‬وهذا يحصل في الحروب مثلا وفي التعامل مع الأحكام القيمية والمعرفية‪.‬‬ ‫وبذلك فالنظر والعقد جزء من العمل الذي يعد إلى الشرع الذاتي لأن الإنسان حر إذ‬ ‫هو يمكن أن يطيع الشرع السماوي أو الأرضي أو أن يعصيهما ولا يكون ذلك ممكنا من دون‬ ‫أن يصبح شارعا لنفسه‪ .‬فالشرع هنا ليس القصد به الشرع بمعناه الديني المعتاد ولا بمعناه‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪11‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الوضعي المعتاد بل بمعناه المعبر عن التشريع الذاتي سواء كان سويا كالذي يوصل إليه‬ ‫النظر الباحث عن الحقيقة الطبيعية والتاريخية بالتحرر من الإيديولوجيا ومن الاستبداد‬ ‫أو غير سوي مترتب على الهوى‪ .‬وهذا التحرر لا يتحقق من دون ماوراء الطبيعة وما وراء‬ ‫التاريخ‪.‬‬ ‫وهكذا فما وراء الطبيعة شبيه بما وراء الحس في عين الرسام وما وراء التاريخ شبيه بما‬ ‫وراء الحس في أذن الموسيقار‪.‬‬ ‫ويوجد ما وراء وراء هذين الماورائين وهو الوعي بآيات النظام الطبيعي معبرة عن جلال‬ ‫الخلق وبآيات النظام التاريخي معبرة عن جلال الأمر‪ .‬وذلك هو جوهر الواحد في الديني‬ ‫والفلسفي إذا لم يحرفا‪.‬‬ ‫وهذا الواحد الديني والفلسفي في كيان الإنسان الذهني والعضوي في ذاته وفي علاقته‬ ‫بالعالم هو ما سميته معادلة الإنسان الوجودية سواء كان الإنسان مؤمنا أو ملحدا‪ .‬وهي‬ ‫تتألف من قلب هو الإنسان وفوقه خانة المتعالي الذي يوجد وراء كل وراء وتكون إما ممتلئة‬ ‫بالله أو خاوية يملؤها صاحبها بوثن من الطبيعة أو من التاريخ برمز هو الصدفة أصلا‬ ‫للنظام‪.‬‬ ‫ويوجد على يمين القلب التاريخ وما بعده وله علاقة بكيانه الروحي وعلى يساره الطبيعة‬ ‫وما بعدها ولها علاقة بكيانه العضوي‪ .‬لكن ما بعد التاريخ وما بعد الطبيعة مصدرين‬ ‫للنظامين الطبيعي والتاريخي يصلانه بصورة غير مباشرة بالقلب فيعيدانه إلى العلاقة‬ ‫المباشرة بالمتعالي أي بما يملأ الخانة الأسمى بمبدأ النظام أو بمبدأ الصدفة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪12‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫تبين القصد من توضيح مفهوم \"النظر والعقد\" و \"مفهوم العمل والشرع\" وما بينهما من‬ ‫أواصر مما سميته معادلة الإنسان الوجودية القائمة في كيانه الذاتي (الأنفس) وفي ما‬ ‫حوله من الوجود (الأفاق)‪ .‬والآن أريد توضيح مفهومين آخرين فأفهم علل قلب أمر فصلت‬ ‫‪ 53‬نهيا وهي آل عمران ‪ 7‬أمرا فأحلل أثر القلبين على الفشل في أنجاز مهمتي الإنسان كما‬ ‫يعرفهما القرآن الكريم‪.‬‬ ‫فالمهمتان هما‪:‬‬ ‫‪ .1‬مهمة استعمار الإنسان في الأرض أي تكليفه بتعميرها وتجهيزه بالقدرة على ابداع‬ ‫المقدارت الذهنية النظرية لصوغ القوانين والتجربة الطبيعية التي ينتظم بها الخلق‬ ‫‪ .2‬ومهمة استخلافه في الأرض أي تكليفه وتجهيزه بالقدرة على أبداع المقدرات‬ ‫الذهنية العملية والتجربة التاريخية اليت ينتظم به الأمر‪ .‬والجمع المهمتين يحقق العمل‬ ‫على علم بقوانين الطبيعة وبسنن التاريخ‪ :‬وتلك هي وظيفة الاجتهاد والجهاد مقومي‬ ‫العبادة لله وحده‪.‬‬ ‫فكيف يحول قلب آل عمران ‪ 7‬بعكس دلالتها كل إمكانية لتجاوز المواقف القضوية إلى‬ ‫المضامين القضوية لأنه يعكس العلاقة بينهما جاعلا منه متقدما عليه في تأويل المتشابه‬ ‫فيصبح كل تأويل دالا على زيغ في القلب يفسد النظر والعقد وابتغاء الفتنة يفسد العمل‬ ‫والشرع؟ هذا القسم الأول من هذا الفصل‪.‬‬ ‫وقسمه الثاني‪ :‬كيف يؤدي قلب فصلت ‪ 53‬بعكس دلالتها إلى عدم التفكير حتى مجرد‬ ‫التفكير في البحث العلمي في القوانين والسنن‪.‬‬ ‫مرة أخرى نحن أمام مفهومين كلاهما مركب من مفهومين‪ .‬فالأول هو \"\"زيغ القلوب\"‬ ‫و\"ابتغاء الفتنة\"\" والثاني هو \"\"آيات الآفاق\" و\"آيات الأنفس\"\"‪ .‬والمفهوم المؤلف الأول يلغي‬ ‫كل إمكانية للتمكن من شروط التعمير والاستخلاف أي مفهومي \"النظر والعقد\" و\"العمل‬ ‫والشرع\" فيحول دون تحقيق هذين المهمتين‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪13‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫والثاني إذا قاد إلى البحث العلمي في آيات الآفاق وآيات الأنس يمكن منهما‪.‬‬ ‫فنرى بذلك الوشيجة المتينة بين المفهومات الأربعة أي مفهوم \"النظر والعقد\" ومفهوم‬ ‫\"العمل والشرع\" ومفهوم \"زيغ القلوب وابتغاء الفتنة\" في آل عمران ‪ 7‬ومفهوم \"آيات الآفاق‬ ‫وآيات الأنفس\" في فصلت ‪ 53‬فنفهم صلة المفهومات بتحقيق المهمتين اللتين هما عين العبادة‬ ‫التي لأجلها خلق الإنسان في رؤية القرآن للعلاقة بينه وبين ربه‪ :‬وما خلقت الجنس والإنس‬ ‫إلا ليعبدوني‪.‬‬ ‫ولما كان المدار في القلبين العاكسين للآيتين هو المقابلة بين مفهومين آخرين هما \"المحكم\"‬ ‫و\"المتشابه\" فإن البداية لا بد أن تكون الكلام على هذين المفهومين اللذين صار الحسم شبه‬ ‫المستحيل لتحديدهما في نص القرآن مبررا لكل التحيل الذي بنى عليه قلب آل عمران ‪7‬‬ ‫بعكسها من النهي إلى الامر وبقلب فصلت ‪ 53‬بعكسها من الأمر إلى النهي في علوم الملة‬ ‫الخمسة‪ :‬الكلام والفلسفة في النظر والعقد والفقه والتصوف في العمل والشرع‪.‬‬ ‫ورغم كثرة اللغط في صراع المواقف المتناقضة حل تحديد ما هو متشابه وما هو محكم في‬ ‫القرآن الحكيم فإن المسألة عندي محسومة بنص القرآن نفسه ولا حاجة لكثرة التفاقه فيها‪.‬‬ ‫فالآيتان نفساهما يحسمانها‪ .‬ذلك أن آل عمران ‪ 7‬اعطتنا علامة في ذات الإنسان المؤول‪:‬‬ ‫وهي زيغ القلوب وابتغاء الفتنة التي هي علامة تدل على أن قصده ليس طلب الحقيقة‬ ‫ببيان الدافع النفسي والغاية السياسية من وراء الفتنة الدينية (وهو مضمون سورة آل‬ ‫عمران كلها‪ :‬الحلف بين رجال الدين ورجال الحكم)‪.‬‬ ‫وفصلت ‪ 53‬أعطتنا علامة في طبيعة الموضوع المطلوب معرفته‪ .‬ففي رؤية آيات الله في‬ ‫الآفاق وفي الانفس يتبين الإنسان الذي يراها حقيقة القرآن‪ .‬وهو ما يعني أنها تتضمن‬ ‫معايير تحول دون زيغ القلوب وابتغاء الفتنة‪ .‬وهي ليست معايير نفسية بل موضوعية لأن‬ ‫فيها ما يحسم الخلاف بين الباحثين لأنه الآفاق والأنفس مرجعية يحتكم إليها الباحث فيهما‬ ‫ولات يقتصر على آيات الص فيحول الموضوع الخارجي دون القصد التأويلي التحكمي‬ ‫لزائغي القلوب طالبي الفتنة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪14‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫إذا جمعت بين الأساسين الدالين على الفرق بين الاقتصار على الآيات النصية والجمع‬ ‫بينها وبين الآيات الوجودية تمكن الباحثون من الاحتكام إلى مرجعية تحسم الخلاف بين‬ ‫الذاتي والموضوعي‪ .‬فيتبين من ثم أن المتشابه هو ما لا يمكن فيه حسم الخلاف بين الباحثين‬ ‫بالاحتكام إلى مرجعية تحسم الخلاف في التأويل بالحدود التي يتواضع عليها العلماء في دور‬ ‫هذا الاحتكام للحسم بخلاف الاقتصار على كلام في ما لا مرجع فيه يحتكم إليه‪ :‬وإذن‬ ‫فالمتشابه هو كل ما يتعلق بالغيب المطلق الذي ليس لنا فيه مرجع خارج النص بل وخارج‬ ‫عالم الشهادة الذي لا يخلو من الغيب لأن كل شاهد فيه غيب مثل السرائر وراء سلوك‬ ‫الإنسان الظاهر‪ :‬التأويل مواقف قضوية من علم مضمون القضية بل هي متقدمة عليه‬ ‫لتحريفه‪.‬‬ ‫أما المحكم فهو كل ما يتعلق بعالم الشهادة مما يقبل الشهود أي باستثناء ما فيه من غيب‪.‬‬ ‫وهو ما يجعل العلم اجتهادا لا يدعي صاحبه الإحاطة والعمل جهادا لا يدعي صاحبه‬ ‫التمام‪ .‬وفيه تفسير دلالة معيار القضاء الذي يحكم بالظاهر والله يتولى السرائر بمعنى‬ ‫أنه لا يطلق أحكامه فيترك القطع وينسبها لئلا يظلم المتقاضي ولئلا يقع في خطأ لا رجعة‬ ‫فيه إذا تعلق الأمر بالقانون الجنائي‪.‬‬ ‫فرجائي أن يعذر القراء دعواي أن تحريف القرآن علته جدل عقيم حول التمييز بين‬ ‫المحكم والمتشابه مكن من قلب الآيتين فكان ذلك داء دويا حال دون ذوي البصيرة ورؤية‬ ‫الحل في الآيتين نفسيهما لأنهما تضمنتا العلامتين الممكنتين منه‪ :‬طلب الحقيقة خاضع‬ ‫لمعيارين أحدهما ذاتي في آل عمران ‪ 7‬والثاني موضوعي في فصلت ‪.53‬‬ ‫واعتذاري من القراء علته أني أفهم تشكيكهم في تشكيكي في علماء الملة الذين صار ما‬ ‫يضفى عليهم من التقديس أو يكاد يعتبر العلم قد انتهى معهم وأن كل من يشكك في صواب‬ ‫ما رؤاهم يتهم بالتشكيك في المرجعية نفسها وليس في فهمهم لها لفرط خلطهم بين تأويلات‬ ‫\"العلماء\" والمرجعية التي حرفوها بتأويلهم غير المتروي‪ :‬وذلك هو سر الجمود لأن نقد فهم‬ ‫العلماء للمرجعية صار وكانه نقد المرجعية نفسها‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪15‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ولا يعني ذلك أني أدعو إلى رمي تراث الفكر الديني والفكر الفلسفي السابقين وأنفي‬ ‫تضمنهما بعض الفوائد رغم أنهما لا يمكنان الأمة من تحقيق مهمتي الإنسان المسلم مهمة‬ ‫التعمير ومهمة الاستخلاف لأنهما لا يبحثان في قوانين الطبيعة وفي سنن التاريخ ولا في كيان‬ ‫الإنسان العضوي ولا في كيانه الروحي بل هما لا يتجاوزان الوعظ والإرشاد واجترار بعض‬ ‫نتائج العلم اليوناني القديم في أدنى مستوياته أي الكلام عليه وليس ممارسته المنتجة‬ ‫لثمراته وأولها التطور المطرد‪.‬‬ ‫ففوائد هذه العلوم لا تتجاوز أمرين‪ :‬فهي تطلعنا على محاولات تحقيق النصوص والتمكن‬ ‫من اللسان العربي وتطلعنا على أطوار الفكر الذي هذا مطلوبه والتي لم تتجاوز التراث‬ ‫في عصر أرسطو وفي عصر علم الكلام ولا علاقة لها بإبداع العلوم والأعمال التي تحقق‬ ‫مهمتي الإنسان من حيث هو مكلف من الله في القرآن بمهمتي التعمير والاستخلاف وهما ركنا‬ ‫العبادة لأن الشعائر من علامات العبادة وليست هي العبادة‪.‬‬ ‫وكلامي على الشعائر بوصفها مجرد علامات العبادة قد يظنها الكثير استنقاص من منزلتها‬ ‫ودورها لأنهم يتصورونها دالة بظاهرها ليس بثمرتها مثل النهي عن الفحشاء‪ .‬ولا يدركون‬ ‫أنها من دونها ليست دالة على العمل الصالح إذ قد تفيد بظاهرها عكس باطن الإنسان‪.‬‬ ‫فتكون مثلا دالة على النفاق وليست دالة على الأيمان الصادق‪ .‬وأكبر الأدلة أن الكثير‬ ‫من القائمين بها من المسلمين وخاصة في عصرنا لا يترددون في الكذب والغش والخداع‬ ‫والغدر والسرقة وأكل مال اليتيم وخاصة تأييد الظلمة وخدمة المستبدين‪.‬‬ ‫أما من يتمحض للبحث العلمي لاكتشاف قوانين الطبيعة وسنن التاريخ فلا يمكن أن يكون‬ ‫تمحضه غطاء منافقا أو غشا أو خداعا لأنه لو فعل لاستحال أن يعلم علما حقيقيا يمكنه‬ ‫من اكتشاف شيء من قوانين الطبيعة سنن التاريخ فضلا عن كون ذلك يتطلب كل الحياة‬ ‫إذ لا يمكن بالخداع الوصول إلى الحقيقة لأن من شرط الوصول إليها اتباع طرق تكشف‬ ‫صاحبه إذا حادة عنها لوجود معايير يعسر أن يختلف باطنها عن ظاهرها في المناهج العلمية‬ ‫ويحقق النتيجة المرجوة التي هي بدورها ظاهرة وليست باطنة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪16‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لكن ذلك يمكن أن يحدث بعد اكتشاف القوانين والسنن أو عندما يكون اكتشافها ليس‬ ‫من أجل الاستخلاف بل للحرب عليه كما في توظيف التقنية المادية والرمزية في العولمة التي‬ ‫تلوث الطبيعة وتلوث الثقافة‪ .‬وفي هذه الحالة كذلك المعايير الموضوعية متوفرة وتمكن من‬ ‫كشف موظف العلم والعمل لغايات منافية للمهمة الثانية أي الاستخلاف عند من يكتفي‬ ‫بالمهمة الأولى أي التعمير فيصبح تدميرا كالعولمة‪.‬‬ ‫وذلك بخلاف الشعائر فهي علامات مبهمة لأن فيها ظاهرا وباطنا يمكن أن يكونا متناقضين‬ ‫تماما‪ .‬ولهذا ميز الله بين ظاهر السلوك المشعري الذي نعلمه وسريرة المتعبد بها والتي لا‬ ‫يعلمها إلا الله‪ .‬لكن خداع طالب الحقيقة والساعي لتحقيقها كلاهما لا يفلحان إلا في‬ ‫الظاهر لأن الظاهر إذا ناقض الباطن يفضح نفسه بفشله الظاهر‪ .‬وتوظيف التعمير‬ ‫والاستخلاف لا يمكن اخفاؤها وغالبا ما يكون الموظف لهما غير العلماء بل الساسة وأرباب‬ ‫الأعمال‪.‬‬ ‫ولهذه العلة اعتبرت عدم الاقتراب من حدود الله ليس مقصورا على المتقاضي الذي‬ ‫يتهم به فيحاكم عليه بل هو يشمل القاضي الذي يحكم بالظاهر وقد يتناسى السرائر‬ ‫فيزعم تطبيق الحد لكأن حكمه مثل حكم الله الذي يعلمها‪ .‬وإذن فعليه ألا يقرب حدود‬ ‫الله بمعنى ألا يطبقها وكأنه محيط بالسرائر‪ .‬فحكمه ليس في مستوى حكم الله‪ .‬ومن ثم‬ ‫فالحدود كلها مما لا ينبغي الحكم به في القضاء الإنساني حكما قاطعا وكأنه لا دور للسرائر‬ ‫في الحد من الاكتفاء بالظاهر‪.‬‬ ‫إنما الأحكام تحدد حدا اقصى من العقاب وهي غير مقداره‪ .‬لذلك فكل قاض ينبغي ألا‬ ‫ينسى اخذ السرائر المجهولة بعين الاعتبار فيحكم حكما العقاب فيه ينبغي أن يكون دون‬ ‫الحد الأقصى لأنه يستحيل أن يدرك سرائر الفاعل إدراكا مطلقا مثل الله‪ .‬فيكون الحد‬ ‫الأقصى في العقوبة لا يقبل التطبيق بسبب الجهل بالسرائر الذي يصبح علة التخفيف في‬ ‫الحكم حتما لأن عدم العلم بكل المعطيات يجعل الشك لصالح المتهم حتى لو كانت الأدلة‬ ‫الظاهر تبدو حاسمة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪17‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ومن له دراية بالأخطاء القضائية يعلم أن الأدلة المزيفة ليست من النوادر‪ .‬ولا يمكن‬ ‫الاحتجاج بتطبيق الرسول للحدود‪ .‬فألة لا يوجد قاض يمكن أن يزعم أن قضاءه من جنس‬ ‫قضاء الرسول‪ .‬والرسول شارع وقاض‪ .‬فيكون تطبيقه للحدود امثلة تشريعية للحالات‬ ‫الشبيهة‪ .‬ولا يقتصر قضاؤه على تطبيق تشريع سابق مثل القاضي العادي‪ :‬في قضائه إذن‬ ‫بعدان تشريعي وقضائي‪ .‬فتطبيقه للحد الاقصى من مقدار العقوبة في الحد كان في بداية‬ ‫تأسيس دولة لجماعة كانت تعيش على التناهب والتسارق والتقاتل كان يقتضي الذهاب‬ ‫بالعقوبة إلى غايتها‪.‬‬ ‫والرسول في هذه الحالة مستثنى من البقاء دون العقوبة الاقصى في الحكم ليس لكونه‬ ‫رسولا ‪-‬لأن الرسول ايضا لا يعلم السرائر‪ -‬بل الاستثناء علته حكم قرآني أسمى يقتضي‬ ‫تشريعا خاصا للقضاء في مثل تلك الحالات‪ .‬وهذا المبدأ هو الضرورة التي تبيع المحظور‪.‬‬ ‫فالمحظور هو الاقتراب من حدود الله‪ .‬والضرورة التي تبيحه هي اخراج العرب من‬ ‫التوحش لبناء الدولة أو لحمايتها عند الضرورة‪.‬‬ ‫فبناء الدولة أو حمياتها من خطر الفوضى يشبه في هذه الحالة حالة الطوارئ التي‬ ‫تقتضي قوانين خاصة أساسها الضرورة التي تبيع المحظور‪ .‬وهي مثل تحليل المحرم كما في‬ ‫أكل الميتة أو شرب الخمر في حالة تعرض الحياة للخطر جوعا أو ضمأ‪ .‬لكن ذلك من الشاذ‬ ‫الذي لا يقاس عليه في القضاء العادي الذي ليس فيه تشريع خاص فيبقى من واجب القضاء‬ ‫الجنائي التخفيف بسبب الجهل بالسرائر ولتجنب الخطأ القضائي الذي لا رجع فيه كحكم‬ ‫الاعدام‪.‬‬ ‫ومبدأ الجهل بالسرائر اقوى من مبدا فضل الشك ‪ L'avantage du doute‬في القانون‬ ‫الجنائي في استعماله لصالح المتهم ولصالح القضاء العادل الذي يتجنب الخطأ الذي لا يقبل‬ ‫التدارك مثل حكم الاعدام أو قطع اليد لاستعمال ظروف التخفيف في القضاء بفضل‬ ‫التمييز بين الحكم ومقدار العقوبة‪ .‬وكل ظروف التخفيف في الفقه الإسلامي علتها اعتبار‬ ‫الظاهر غير كاف‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪18‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وبذلك يصبح احترام استحالة المطابقتين معرفيا وقيميا هو المحدد لكل اجتهاد إنساني‬ ‫لوعينا بأن علمنا ليس محيطا ولأن الغيب لا يعلمه إلا الله فتكون أحكامنا في العمل نسبية‬ ‫مثل أحكامنا في النظر‪ :‬وذلك هو معنى عدم المطابقة لعدم الإحاطة المعرفية ولعدم التمام‬ ‫العملي‪ .‬وبذلك نفهم كيف أن القرآن يرجئ الحسم حتى بين الأديان واختلاف أصحابها‬ ‫ويترك الفصل بنيهم إلى يوم الدين‪.‬‬ ‫والقرآن طبق ذلك في حالتين على الاقل‪ .‬فحد السرقة مثلا دون حد الحرابة لأن هذه‬ ‫سرقة مع عنف مادي‪ .‬وهي إذن جريمة مضاعفة‪ :‬سرقة وقطع الطريق بالسلاح‪ .‬ومع ذلك‬ ‫فالقرآن جعل توبة المحارب قبل قدرة الدولة عليه ملغية للعقوبة لكنها طبعا لا تلغي الحكم‪.‬‬ ‫وأذن فالقرآن يميز بين الحد مقدارا للعقوبة والحد حكما‪ .‬والسارق يمكن أن يكون بسبب‬ ‫الجوع وهذه حسمها الفاروق‪ .‬ولكن يمكن أن يكون لمرض يسمى \"كلابتوماني\" أي الهوس‬ ‫بالسرقة‪ .‬فهذا يعالج ولا تقطع يده مثلا‪.‬‬ ‫والحالة الثانية من التخفيف هي حالة اشتراط المستحيل للحد من تطبيق الحد الاقصى‬ ‫من العقوبة في الحدود كما في اثبات الزنا والاكتفاء بالتلاعن من الأدلة القاطعة على أن‬ ‫القاضي ينبغي أن يتجنب الاقتراب من حدود الله التي يفرض اعتبار الجهل بالسرائر من‬ ‫المخففات في الحكم القضائي فيقدر العقوبة دون الحد لأنه ليس اعدل الحاكمين اي الوحيد‬ ‫العالم بها‪.‬‬ ‫أعود الآن إلى آل عمران ‪ 7‬فأبدأ بها وكان يمكن أن أبدأ بفصلت ‪ .53‬لكني أفضل‬ ‫البداية بالعلامة الذاتية التي تمكن من التمييز بين المحكم والمتشابه‪ .‬فما لا يمكن فيه‬ ‫الاحتكام إلى مرجعية لحسم الخلاف بين الباحثين هو المتشابه أي الغيب‪ :‬فمثلا نحن نعلم‬ ‫أن الله ليس كمثله شيء فكيف نفصل بين تآويل وتأويل بالاعتماد على قيس الغائب على‬ ‫الشاهد والغيب ليس مجرد غائب يمكن أن يحضر بل هو مطلق الغياب ولا يحضر إلا يوم‬ ‫الدين لما يصبح البصر حديدا؟‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪19‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫حتما سيكون الحسم بين التآويل بالغلبة أي بالقوة وليس بالحجة‪ :‬فننتقل من قوة الحجة‬ ‫إلى حجة القوة‪ .‬وتلك هي الفتنة التي تبدأ بصراع التآويل التي لا تقبل الحسم لغياب ما‬ ‫يحتكم إليه فيكون الحل فرض تأويل صاحب القوة فننتقل من صراع التآويل إلى صراع‬ ‫الإرادات وتكل هي الفتنة التي من أكبر شواهدها الفتنة الكبرى وما أدت إليه من حروب‬ ‫أهلية‪.‬‬ ‫لكن الخلافات في التآويل التي لا يوجد لها مراجع فإنها غير قابلة للحسم إذ لا يوجد‬ ‫مرجع من خارج النص يمكن الاحتكام إليه لأنها تتعلق بالغيب الذي لا نعلمه‪ .‬فيكون الموقف‬ ‫القضوي فيها متقدما على العلم بالقضوي مستحيل العلم أصلا أو الذي يختلقه صاحب الموقف‬ ‫القضوي بمقتضى هواه من جنس إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم‪ :‬وهذا هو معنى‬ ‫زيغ القلب‪ .‬فالدافع ليس طلب الحقيقة بل فرض رؤية‪ :‬أي أدلجة القرآن بدلا من علمه‪.‬‬ ‫ولهذه العلة صار كل مذهب له قرآنه يختار منه ما يناسب إيديولوجيته التي تعبر عن‬ ‫زيغ قلبه ثم يؤول باقي القرآن لتأييد ايديولوجيته فيضرب بعض القرآن ببعضه الآخر‬ ‫ويصبح الله على الصورة التي تؤيد المذهب في حين أن القرآن يقول إن تبين حقيقته لا‬ ‫يكون بشرح آياته النصية بل برؤية آياته في الآفاق وفي الانفس‪ .‬وهذا هو التحريف الذي‬ ‫هو الموضوع الأساسي في آل عمران‪ .‬وهو حصيلة حلف بين \"علماء\" و\"أمراء\" فوصل الأمر‬ ‫إلى تأليه عيسى‪.‬‬ ‫المعيارالذي توصلت إليه من منطلق هذا الوجه الذاتي يخلص القرآن من كل تأويل‬ ‫للمتشابه لأنه من الغيب الذي ليس فيه مرجع يمكن الاحتكام إليه للحسم في الخلافات بين‬ ‫الباحثين حتى لو فرضناهم يطلبون الحقيقة بصدق ولا يقصدون التحريف‪ .‬فكل حجة لها‬ ‫حجة مضادة والتآويل لامتناهية ولا يمكن أن تتوقف ومن ثم فلا يبقى إلا الحسم العنيف‬ ‫فيسيطر تأويل الأقوى لحلفه مع الطغاة‪.‬‬ ‫وبذلك يفسد الدين فينتقل من مصدر للإصلاح إلى أداة للتغطية على الطاغوتين‪:‬‬ ‫‪ .1‬طاغوت الوسطاء بين المؤمن وربه في التربية أو الكنسية‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪20‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .2‬وطاغوت الأوصياء في الحكم أو الحكم باسم الحق الإلهي أو بالشوكة التي يضفي‬ ‫عليها الوسطاء شرعية طاعة ولي الامر فيكون الحكم هو عين الاستبداد باسم الله‪ .‬وهذا‬ ‫هو مرض القلوب وابتغاء الفتنة‪.‬‬ ‫وبين أن الغيب أو ما ليس لنا فيه مرجع موضوعي نحتكم إليه هو المتشابه الذي يمنع‬ ‫تأويله‪.‬‬ ‫أما المحكم فهو ما لنا فيه مرجع يمكن الاحتكام إليه‪ :‬ولذلك قال القرآن إن تبين حقيقة‬ ‫القرآن تكون برؤية آيات الآفاق وآيات الأنفس‪ .‬لكن ما لنا مرجع يمكن الاحتكام إليه لا‬ ‫يمنع من أنه ليس كله شاهدا بل إن فيه غيبا حتما‪ .‬لذلك فالاحتكام إليه يقتصر على ما‬ ‫هو قابل للعلم فيه بصورة نسبية وهو معنى نفي المطابقة والاقتصار على المعرفة‬ ‫الاجتهادية‪ .‬علمنا ليس محيطا حتى بالشاهد‪ .‬وإذن فهو لا يحسم التأويل إلا في حدود‬ ‫المشهود من الموجود‪.‬‬ ‫وهكذا فقد وصلنا إلى الآية الثانية أعني فصلت ‪.53‬‬ ‫فهنا يتبين الأمر بتبين حقيقة القرآن من خلال رؤية آيات الله في الآفاق وفي الأنفس‪.‬‬ ‫والآفاق مضاعفة‪ .‬والأنفس مضاعفة‪ .‬فالآفاق طبيعية وتاريخية‪ .‬والأنفس بدنية‬ ‫وروحية‪.‬‬ ‫وهذه العناصر الأربعة اثنان منها أضمن كمرجع للاحتكام إليهما واثنان أقل ضمانة‪.‬‬ ‫لكنها جميعها مراجع يمكن الاحتكام إليها وحسم الخلاف بين الباحثين بصورة معقولة‪.‬‬ ‫فمن الآفاق الطبيعة ومن الانفس البدن‪ .‬وكلاهما تغلب الشهادة فيهما على الغيب‪.‬‬ ‫ومنهما التاريخ والروح‪ .‬وكلاهما يغلب الغيب فيهما على الشهادة‪ .‬ولهذه العلة فالخلافات‬ ‫في هذين أكثر من الخلافات في ذينك‪ .‬ففي الأربعة غيب‪ .‬لكنه في التاريخ والنفس يبدو‬ ‫ذا حضور أبرز إذ يغلب عليهما منطق الحرية الشرطية‪ .‬وحضور الشهادة أبرز في الطبيعة‬ ‫والبدن إذ يغلب عليهما منطق الضرورة الشرطية‪ .‬وفي الحالتين يبقى الاحتكام إلى‬ ‫التجربة حاسما للخلافات التأويلية‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪21‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫والفرق بين الضرورة الشرطية في الطبيعي والعضوي والحرية الشرطية في التاريخي‬ ‫والروحي هي علة تعثر العلوم الإنسانية بالقياس إلى العلوم الطبيعية لأن التاريخ‬ ‫والروحي في الإنسان يفترضان الطبيعي في الطبيعة والإنسان ويضيفان إليهما أبعادا أخرى‬ ‫الغيب فيها أكثر حضورا منه في الطبيعي والعضوي على الأقل في تصور العلوم الحالية لأننا‬ ‫بدأنا نكتشف أن هذا التمييز علته تخلف علوم الطبيعة وعلوم الأنسان معا‪.‬‬ ‫فقد بدأنا ندرك أن الطبيعي والعضوي ليسا ماديين فحسب ومن ثم فتغليب الشاهد فيهما‬ ‫من علامات قصور ما في علمهما وأن التاريخي والروحي ليسا لا ماديين فحسب ومن ثم‬ ‫فتغليب الروحي فيهما من علامات قصور ما في علمهما بل إن المقابلة مادة روح والمقابلة شهادة‬ ‫غيب يحتاجان للحذر الشديد ولعلهما من قصور ما في علمنا‪.‬‬ ‫وهكذا فإن علوم الملة تركت واجب البحث العلمي في آيات الآفاق وآيات الأنفس وجعلتها‬ ‫مجرد عبر في الوعظ والإرشاد لكأنها علامات رضا الله أو عضبه وليست علامات نظام كيان‬ ‫العالم ونظام كيان الإنسان (مثل الجوائح) بدلا من أن اعتبار معرفة قوانينها وسننها‬ ‫بالبحث العلمي شرطا في التعمير والاستخلاف‪ .‬وفي هذه الحالة فمن الطبيعي أن تصبح‬ ‫الأمة عزلاء ومتسولة أو عالة على غيرها كما يقول ابن خلدون‪.‬‬ ‫فالقرآن لم يكتف بتجهيز الإنسان بأدوات النظر والعقد للتعمير وبأدوات العمل‬ ‫والتشريع للاستخلاف بل بين أن الخلق بقدر وحسبان وهو إذن ذو قوانين رياضية وأن‬ ‫الأمر بسنن لا تتبدل وهو إذن ذو قوانين قابلة للتحديد ما يعني أنه دلنا على طبيعة ما‬ ‫علينا البحث عنه في الخلق وفي الأمر حتى ننجز مهمتينا اللتين هما فرعا العبادة الفعلية أي‬ ‫التعمير والاستخلاف‪.‬‬ ‫لكن قلب فصلت ‪ 53‬بجعلها تفيد عكسها وعدم الانتباه إلى أن حقيقة القرآن تتبين من‬ ‫خلال اكتشاف قوانين الطبيعة وقوانين كيان الإنسان العضوي ومن خلال اكتشاف سنن‬ ‫التاريخ وسنن كيان الإنسان الروحي وليست في شرح النصوص التي كما بينت ركزت على‬ ‫قلب آل عمران ‪ 7‬بجعلها تفيد عكسها فأصبح العلم مقصورا على تأويل المتشابه ليطابق ما‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪22‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ظن علما عقليا محيط وهو أقوال على أقوال لا تتناهي ولا أثر لها في التعمير ولا في‬ ‫الاستخلاف وهو ما جعل العبادة تقتصر على الشعائر التي هي ظاهر قد يتناقض مع الباطن‬ ‫فلا نميز فيها بين الصدق والنفاق‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪23‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫خصصت الفصلين الأولين من هذه المحاولة لبيان فضل ابن تيمية على الفكر الإنساني‪.‬‬ ‫وخصصت فصلين مواليين لشرح ما استعملته من مواضعات مفهومية يسرت لي الكلام في‬ ‫إبداعاته‪ .‬ولم أدع لهذه المواضعات أكثر من كونها \"لغة\" تعبر عن المعاني التي أبني عليها‬ ‫فراءتي‪ .‬وهي لغة بالمعنى التيميي للمعاني الكلية التي لا يعتبرها مقومة لموضوعات‬ ‫الدراسة بل مقومة للعبارة عنها‪.‬‬ ‫وأخصص هذا الفصل للوصل بين عين الرسام وأذن الموسيقار المدركين للجمالي في المحسوس‬ ‫البصري والسمعي وهما أصبحا قابلين للعبارة عنهما بالمقدرات الذهنية الرياضية من جهة‬ ‫وما يناظرها في إدراك الجلالي في نظام الآفاق وفي إدراك الجلالي في نظام الأنفس‪ .‬فيكون‬ ‫نظام الآفاق مناظرا لنظام الرسم ويكون نظام الأنفس مناظر لنظام الموسيقى‪ .‬وإذن فيمكن‬ ‫البحث عن المعاني الكلية التي هي مقدرات ذهنية للكلام على هذين النظامين‪.‬‬ ‫والمشكل العويص لا يتعلق بنظام الآفاق رغم أنه مضاعف لأنه نظام الطبيعة ونظام‬ ‫التاريخ‪ .‬والأول يستند إلى الضرورة الشرطية ولذلك فهو مردود إلى ما يقال بالمقدرات‬ ‫الذهنية النظرية أي بالرياضيات والثاني يستند إلى الحرية الشرطية وهي التي تضعنا‬ ‫أمام مشكل التعبير عنها الذي نبحث عنه‪ .‬أما نظام الطبيعة فقد بات قابلا للصوغ الرياضي‬ ‫لا بديل عنه‪ .‬والمعلوم أن الطبيعيات الكيفية لم تعد مفيدة رغم أنها كانت بداية في فلسفة‬ ‫أرسطو‪.‬‬ ‫وينبغي الاعتراف بأنها لم تخل من صوغ رياضي على الأقل في علوم الهيأة وفي البصريات‬ ‫وحتى في دراسة المعادن وقيس الكثافة والكتلة وإن كانت كلها محاولات تجريبية أكثر مما‬ ‫هي نظرية بالقدر الكافي ربما لأن الرياضيات نفسها لم تكن بعد قادرة على دراسة القوة‬ ‫والحركة وقوانين النظام الطبيعي العام‪ .‬لكن الطابع الكيفي ظل مسيطرا على الطبيعيات‬ ‫وللأمر صلة بالميتافيزيقا الارسطية‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪24‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫والصوغ الرياضي للرسم وللموسيقي لم تنتظر العصور الحديثة بل كانت قد حققت مراحل‬ ‫متقدمة عند اليونان بعد أفلاطون وارسطو في محاولة أولية للهندسة الاسقاطية‪-‬‬ ‫‪- projective‬التي بنى عليها الرسم والنحت والعمارة وللمعادلات الهرمونيكية التي بنيت‬ ‫عليها الموسيقى‪ .‬والمعلوم أن كتاب اقليدس قد مكن من بناء اجرام افلاطون الخمسة وكلها‬ ‫من شروط العبارة الرياضية في الطبيعيات وخاصة عند بطليموس في الهيأة وفي البصريات‬ ‫التي واصلها ابن الهيثم‪.‬‬ ‫والمعضلة الحالية هي صوغ جلال التاريخ وجلال الروحي من الأنفس لأن البدني تابع‬ ‫للطبيعي وبصورة أدق للحيوي من الطبيعي‪ .‬فصوغهما أعسر من صوغ جلال الطبيعيات ومن‬ ‫العضوي في الانفس‪ .‬فالإنسان مؤلف من العضوي وهو تابع للطبيعيات أو العكس إذ قد‬ ‫تكون الطبيعة في العمق تابعية للحيوي ومن الروحي وهو تابع للتاريخيات أو العكس إذ قد‬ ‫يكون التاريخي تابعا للروحي‪ .‬والألمان يسمون العلوم الإنسانية كلها علم‬ ‫الروح‪ .Geisteswissenschaft‬و\"العكس\" تشير إلى إشكال في تصور الطبيعة هل هي جامدة‬ ‫أم حية والتاريخ هل هو مادي أم روحي‪.‬‬ ‫لما كان كل ما يقبل الصوغ الرياضي يعتمد على ما سماه ابن تيمية المقدرات الذهنية‬ ‫النظرية فإن ما يتعسر صوغه الرياضي هو الذي يحتاج لحل يماثله دون أن يقتصر عليه‬ ‫ومن ثم فهو يوجب نوعا آخر من المقدرات الذهنية أكثر تعقيدا وصوغا‪ .‬وهوما حاولت‬ ‫تسميته بالمقدرات الذهنية العملية التي لا تقدم البعد المكاني بل البعد الزماني‪ .‬وينبغي‬ ‫أن تكون هذه العملية لها خصائص مشتركة مع النظرية مع مميز يخصها‪.‬‬ ‫والمميز الذي يخصها بدأت الطبيعيات تصل إليه أي إلى يكاد يلغي الفرق بين المادي‬ ‫والروحي‪ .‬وهو ما جعلني أطرح سؤال هل الطبيعة جامدة بإطلاق أم فيها في الغاية ما هو‬ ‫حي أي ما يتجاوز الضرورة الشرطية إلى ما يقرب من الحرية الشرطية؟ وهل التاريخ‬ ‫روحي بإطلاق أم فيه في الغاية ما هو جامد‪ .‬فتكون الإشكالية في العلوم الإنسانية التي‬ ‫تبحث في جلال نظام التاريخ والروح جمعها بين الضرورة والحرية الشرطيتين‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪25‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ومن ثم فالمشكل‪ :‬هل المادي والروحي حدان لنفس الوجود الذي يراوح بين التكاثف‬ ‫والتلاطف؟‬ ‫هل المادة غاية التكاثف والروح غاية التلاطف في الوجود؟‬ ‫إنه المشكل الأعوص في نظرية المعاني الكلية بوصفها مقومات العبارة عن الوجود بهذا‬ ‫المعنى وليست مقومات الموجودات‪ .‬فهل اعتبار هذين الحدين مختلفين بسبب مدارك‬ ‫الإنسان وعبارته عن مداركه أم الأمر متعلق موضوعيا بما هما عليه؟ ولما كنا لا نعلم ما هما‬ ‫عليه في ذاتهما لأن علمنا ليس محيطا فيمكننا أن نعتبر شبيها بما فوق ما نراه من الجرم وما‬ ‫نسمعه من الصوت وما دونهما حدين لقدرة إدراكنا الحسي من حيث الطبيعة لكنه مطلق‬ ‫وليس مثلهما مما يقبل التجاوز بالتجهيزات المكملة للحواس‪.‬‬ ‫فالعلوم الطبيعية مكنتنا من صنع أجهزة تطور قدرتنا على رؤية ما كنا لا نراه بالعين‬ ‫المجردة وعلى سماع ما كنا لا نسمعه بالأذن المجردة مما هو فوق قدرتنا الطبيعية عليهما‬ ‫ومما هو دونها‪ .‬وذلك يحصل فعلا بفضل التجهيز الذي نصنعه بعد معرفة قوانين الطبيعة‬ ‫وسنن التاريخ في الآفاق وقوانين العضوي وسنن الروحي في الأنفس‪ .‬وقد نصل إلى لحظة‬ ‫ندرك وحدتهما لأننا صرنا نرى ما ما يقرب من اللامتناهي في الصغر وما فوق اللامتناهي‬ ‫في الكبر بالعين وبالسمع‪.‬‬ ‫وحتى يمكن اكتشاف المعاني الكلية التي هي مقدرات ذهنية عملية بالمقارنة مع المعاني‬ ‫الكلية التي هي مقدرات ذهنية نظرية يكفي أن أنطلق من أهم خاصية في هذه وأبحث عن‬ ‫مثيل لها في تلك‪ .‬وهذه الخاصية تكمن في القصد بـ\"ذهنية\"‪ .‬وهذا القصد مضاعف‪:‬‬ ‫‪ .1‬هو أولا سالب إذ هو ينفي التعين‬ ‫‪ .2‬وهو موجب إذ هو يثبت قابلية كل متعين للتشكيل به فيكون نظامه القانوني‪.‬‬ ‫فجميع الكائنات الرياضية لا تقبل التعين لأنها كائنات ذهنية حدية شرطها المكان والزمان‬ ‫لكنها ليست مكانية ولا زمانية‪ .‬فتبدو وكأنها كائنات غير موجودة وجود القيام بالذات لكأنها‬ ‫معدومة لأنها حدود الأشكال المكانية والزمانية الممكنة دون أن تكون جزءا من المتعينات‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪26‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫بهما لكأنها ليست بذات كيان يقبل التعين المادي لأنها كائنات حدية مثل النقطة والواحد‪.‬‬ ‫فالنقطة تتفرض متحيزة في المكان مثلا لكنها دون مقدار قابل للقسمة‪ .‬وبها بلا تناهي‬ ‫ضمها بعضها إلى البعض يتكون كل كائن هندسي من المستقيم إلى الجرم وكل كائن عددي‬ ‫حقيقي وكلها توجد في مفهومها الذهني‪.‬‬ ‫لكنها مع ذلك لا يمكن تصور أي كائن متعين ذي تحيز وامتداد جرمي أو عدد حقيقي لا‬ ‫يمكن صوغه من دونها‪ .‬وهذا ما يجعلني اعتبرها ليست كائنات قائمة في الذهن بل هي عين‬ ‫أفعال الذهن الذي يدرك المتناهي واللامتناهي دون تعيين إذا بقي ذهنيا ويصبح متعينا‬ ‫إذا صيغ به شيء من الوجود‪ .‬وباستعارة تعريف ديكارت للرياضي هي‪-1 :‬فعل القيس و‪-2‬‬ ‫فعل الترتيب في آن‪.‬‬ ‫الكائنات الرياضية ليست في الذهن وكأنها مضمون يحتويه الذهن بل هي أفعال الذهن في‬ ‫الموجود أيا كان مضمونها مشروط بالفعل في مكان وزمان مجردين وليس في مكان وزمان‬ ‫معينين لأنهما هما فعل التعيين نفسه‪.‬‬ ‫وهذا يعني أنها تتعلق بكل ما يخضع للضرورة الشرطية في حدود مداركنا للموجود‬ ‫والعبارة عنها دون الزعم بأن مقاساتنا وتراتيبنا مقومة للموضوع الذي نقيسه ونرتبه أو‬ ‫هي حالة فيه حلولا مقوما بل إحلالها فيه هو إحلال لفعلنا فيه شرطا في تعاملنا معه بوصه‬ ‫قد صار معينا ومحددا به‪ .‬فإذا وجدت ما يناظر ذلك بالنسبة إلى كل ما يخضع للحرية‬ ‫الشرطية في حدود مداركنا للمنشود والعبارة عنها أكون قد نجحت في اكتشاف الحل المطلوب‬ ‫للمشكل‪.‬‬ ‫فهل يمكن أن نجد نظاما يقيس ويرتب المنشود مثل النظام الذي يقيس ويرتب الموجود‬ ‫يتجاوز الكيفي إلى تضمن أبعاد الكمي في التاريخي والروحي؟ وهذا النظام هو نظام‬ ‫القيس والترتيب بوصفهما فعلين للذهن وليسا أمرين موجودين فيه ومنفيا عنهما القيام في‬ ‫الخارج لأنهما عين فعلي الذهن الإنساني القائس والمرتب‪ :‬التقدير الذهني سواء كان‬ ‫نظريا أو عمليا ليس هو شيئا آخر غير فعل الذهن الإنساني يبدع المقدرات لغة للتعامل مع‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪27‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الأشياء أيا كانت طبيعتها‪ .‬فهل يوجد نظام لفعل الذهن الإنساني الذي يقيس المنشود‬ ‫ويرتبه مثل الذي يقيس الموجود ويرتبه؟ المواضعات هدفها بيان إمكان ذلك‪.‬‬ ‫ولأبدأ بتعريف المنشود المتعلق بالحرية الشرطية بالمقابل مع الموجود المتعلق بالضرورة‬ ‫الشرطية‪ .‬والحرية الشرطية والضرورة الشرطية مفهومان سبق لي الكلام عليهما وبيان‬ ‫طبيعتهما ي محاولة سابقة‪ .‬أما المنشود فهو لا يتعلق بما هو موجود بل بما ينبغي أن يوجد‬ ‫أو ما يتمنى الإنسان إيجاده فهو إذن متعلق بمعدوم وجوديا موجود ذهنيا في شكل معاني‬ ‫كلية لأفعال ذهنية في إطار جهات الإمكان والامتناع والوجوب‪ .‬والعمل والشرع الذي يتعلق‬ ‫به هو إذن الجواب عن سؤال ماذا على الإنسان فعله ليحصل المنشود الذهني‪ .‬فيكون مؤلفا‬ ‫من أمرين‪ :‬أولا قيس المنشود وترتيبه‪ .‬وثانيا قيس المجهود الضروري لتحقيقه‪.‬‬ ‫فيكون العمل والشرع جوهر الاستراتيجيا الإبداعية لنقل المنشود من حالة النشدان إلى‬ ‫حالة الوجود‪ .‬إنه استراتيجية ذات مستويين الاول هو التقدير الذي يختار المنشود وهو‬ ‫من مجال الإرادة‪ .‬والثاني هو التقدير الذي يختار المجهود وهو من مجال القدرة‪ .‬وهما‬ ‫متعالقان إذ إن قيس المجهود يتدخل في اختيار المنشود بمعيار القدرة والاقدام على المجوده‬ ‫يحدده منزلة الخيار المنشود بمعيار الإرادة‪ .‬فيكون عملية قيس وترتيب لفعلين هما فعل‬ ‫\"أريد\" كذا و\"أقدر\" على كذا‪.‬‬ ‫ولما كان القيس والترتيب هما بدورهما فعلين فإن الأمر يعتلق بقيس وترتيب فعلين بقيس‬ ‫وترتيب فعلين‪ .‬وهذه أربعة أفعال تفيد أن المقدرات الذهنية العملية أكثر تعقيدا من‬ ‫المقدرات الذهنية النظرية‪ .‬فالمقدرات العملية تشترط المقدرات النظرية أداة لتحقيقها‬ ‫لحسبانها وحسبان شروط تحقيقها‪ .‬لا بد من قيس الهدف وترتيبه ومن قيس كلفة تحقيقه‬ ‫في الممكن منهما لإرادة ما وقدرة ما‪.‬‬ ‫وقيس الأهداف وترتيبها ليس تحكميا بل هو تابع لتقييمها وترتيبها في مستوى الإرادة‬ ‫ولكن باعتبار مستوى القدرة‪ .‬فنكون قد انتقلنا من المعرفة المحايدة مأ أمكنت المحايدة في‬ ‫قيس الموجود وترتيبه إلى المعرفة المقيمة في ترتيب المنشود وترتيبه‪ .‬وإذن فلا اختيار من‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪28‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫دون قيس القيم وترتيبها في سلم تفاضلي في مستوى الأهداف الإرادية وفي مستوى القدرات‬ ‫الفعلية‪ .‬وهو النوع الأساسي من القيمة وهي خلقية فوق الكلفة التي يقتضيها فعل الإنجاز‬ ‫الذي يعود في الغاية إلى الاقتصاد‪.‬‬ ‫وبذلك تتضاعف الأفعال‪ :‬أفعال القيس والترتيب للأهداف الممكنة لاختيار المطلوب‬ ‫وافعال القيس والترتيب للأفعال الممكنة لاختيار ما يحقق الهدف الذي تم عليه الاختيار‪.‬‬ ‫ذلك هو جوهر ما يمكن أن نسميه الحساب الاستراتيجي في المنشود بمعيار الإرادة والقدرة‬ ‫أو ما ينبغي أن يكون بخلاف الموجود الذي الكلام فيه على ما هو كائن‪ .‬والأمر إذن يتعلق‬ ‫بكل أفعال الانتقال من الموجود إلى المنشود وحسبان ينتسب إلى منطق الجهات‪.‬‬ ‫وما ينبغي أن يكون أو ما نريده أن يكون لا بد فيه من قوانين ما هو كائن لأنه يصبح بعد‬ ‫تحقيقه مما هو كائن‪ .‬فيكون الأمر متعلقا بما ينقلنا من موجود حاصل في حالة أولى إلى‬ ‫موجود فقابل للتحصيل في حالة ثانية رغم كونه ليس بعد موجودا‪ .‬والأمر إذن يتعلق بإيجاد‬ ‫المنشود لجعله موجودا وفيه حتما البعد الزمني‪ .‬فلكأن الإنسان بالحرية الشرطية يحاكي‬ ‫الخالق والآمر في الحرية المطلقة غير المشروطة‪ .‬وهو ما يقلب العلاقة بين الحرية الشرطية‬ ‫والضرورة الشرطية‪ .‬فتكون معرفة شروط الضرورة عند الإنسان منطلقا لتقديم الحرية‬ ‫الشرطية عليها دون أن يطلقها لأنها بقدر علمه بالضرورة الشرطية الشاهدة فحسب‬ ‫بمقتضى عدم الإحاطة واستحالة المطابقة‪.‬‬ ‫وإذن فالعلم شرطه أن يتخيل مبدعه افتراض الموجود في الطبيعي والعضوي وكأنه قبل‬ ‫أن يصبح موجودا كان منشودا فيكون علم الموجود هو بدروه استراتيجية تحقيق المنشود‬ ‫لكن المحقق له ليس الإنسان بل إما قوة محايثة فيه أو قوة مفارقة هي الله وكلتاهما تعمل‬ ‫بما يشبه عين الرسام في المرئي وبما يشبه اذن الموسيقار في المسموع إدراكا للجمال وبما‬ ‫يناظرهما في نظام الجلال الطبيعي وفي نظام الجلال التاريخي إدراكا للجلال‪ .‬والإنسان لا‬ ‫يبدع الموجود بل هو يبدع ما يفترضه استراتيجية ناشده ومحققه في هذه الحالة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪29‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ولهذه العلة فكل نماذج المعرفة العلمية مستمدة من استراتيجية من هذا النوع وهي‬ ‫تكنولوجية أي متعلقة بفن صنع الشيء المنشود الذي يفترض متقدما على الشيء الموجود‪:‬‬ ‫ورمزه إذا أردنا شيئا نقول له كن فيكون‪ .‬كن الإلهية من الغيب‪ .‬كن الإنسانية هي صنع‬ ‫المنشود في عالم الشهادة وتلك هي استراتيجية تحقيق المنشود بعد اختياره بمعيار الإرادة‬ ‫واختيار كلفته بمعيار القدرة‪ .‬وإذن ففعلا القيس والترتيب الذهنيان في المنشود‬ ‫استراتيجية مضاعفة هي استراتيجية علمه واستراتيجية عمله‪ .‬أما في الموجود فالعمل‬ ‫حاصل والسعي لفهمه يقتضي تصوره منشودا قبل تحققه لاكتشاف عمل تحقيقه‪.‬‬ ‫وبهذا المعنى فلا يمكن تصور الذهن الإنسان يعلم أو يعمل من دون رؤية دينية سواء‬ ‫اعتبر محقق المنشود ليجعله موجودا ربا مفارقا أو ربا محايثا وأعني بالرب صاحب فعلي‬ ‫الإرادة والقدرة‪ :‬إذ حتى الملحد فهو يميز بين الطبيعة الطابعة والطبيعة المطبوعة بلغة‬ ‫وحدة الوجود السبينوزية‪ .‬والآن بعد أن عرفنا المنشود بالمقارنة مع الموجود وتبين أنه‬ ‫استراتيجية مضاعفة أولاهما تحدد الهدف باختيار المناسب للغرض من النشدان والثانية‬ ‫تحدد كلفه تحقيقه فإن الأمر أصبح متعلقا بعاملين‪:‬‬ ‫• قيس الأهداف وترتيباتها في ضوء الغرض المطلوب‪ .‬وهو قيس الإرادة‬ ‫• وقيس الكلف وترتيبها في ضوء إمكانات طالب الهدف‪ .‬وهو قيس القدرة‪.‬‬ ‫وهذان الفعلان لا يمكن لأي إنسان أن يعيش لحظة من دونهما بصرف النظر عن كونه‬ ‫متعلما أو جاهلا أو عن كونه ذكيا أو غبيا‪ .‬وبين أن اختيار الغرض المطلوب حرية شرطية‪.‬‬ ‫فهو حرية لأن فيه اختيار وهو مشروط بكونه يستجيب للغرض‪ .‬فيكون الأمر عائدا لقيس‬ ‫المناسب للغرض من بين عدة خيارات بعد ترتيبها بمعيار التفاضل في القدرة على تحقيق‬ ‫الغرض وهو معنى التدبر العملي أو استراتيجية العمل قبل الانجاز الفعلي الساعي‬ ‫لتحقيقه‪.‬‬ ‫وإذن فاستراتيجية المنشود تجمع بين نوعين من القيمة كلاهما مضاعف‪:‬‬ ‫‪ .1‬القيمة الخلقية وهي مضاعفة لأن لها بعدين هما حرية الناشد وكرامته‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪30‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .2‬ثم القيمة الاقتصادية وهي مضاعفة كذلك لأن لها بعدين كذلك هما الاستعمال‬ ‫والتبادل‪.‬‬ ‫وهذه العوامل الأربعة هي التي تحدد المعاني الكلية المقدرة ذهنيا لصوغ عبارة المنشود‬ ‫العلمية‪ .‬وبذلك فقد وجدنا ما نطلبه لكي نستطيع العبارة عن إدراك الجلال في التاريخي‬ ‫والروحي مناظرا للعبارة عن إدراك الجلال في الطبيعي والعضوي‪.‬‬ ‫إذن نحن أمام أربع قيم‪ :‬اثنتان يمكن وصفهما بالخلقيتين وهما الحرية والكرامة‪ .‬واثنتان‬ ‫يمكن وصفهما بالاقتصاديتين وهما التبادل والاستعمال‪ .‬ويوجد تناظر بين قيمة الحرية في‬ ‫الخلقي وقيمة التبادل في الاقتصادي‪ .‬كما يوجد تناظر بين قيمة الكرامة في الخلقي وقيمة‬ ‫الاستعمال في الاقتصادي‪ .‬فالتبادل الاقتصادي رمز الحرية لأنه يحرر لإنسان أولا بوصفه‬ ‫ينتج عن تقسيم العمل في الجماعة من حيث استعمال الزمان‪.‬‬ ‫ثم هو ثانيا بفضل تقاسم الأعمال في الجماعة يؤسس مفهوم الحقوق والواجبات إذ يكون‬ ‫كل فرد منه من الجماعة خادما لبقية أفرادها وهو ما يعني أن فرض الكفاية يصبح بديلا‬ ‫من فرض العين في سد الحاجات المستحيل فرديا لأنه لولا تقاسم الأعمال لصار عائقا أمام‬ ‫حرية الإنسان والاستفادة من التعاون على سد حاجاته ليكون له هامش حرية توفرها‬ ‫خدمة بقية العاملين‪ .‬وإذن فالتحرر زمانيا والتحرر بالقانون الحامي للحقوق والواجبات في‬ ‫التعاون والتعاوض يمثلان أهم نتيجة للتبادل‪.‬‬ ‫لكن الأهم من ذلك كله هو أن التبادل الذي يوفر هذه الهامش من الحرية بسد الحاجات‬ ‫المعتمد على خدمات أفراد المجموعة التي تتقاسم العمل مقابل خدمات الفرد يجعل السلم‬ ‫الأهلية اساس الوجود الجمعي وعلة التخلص من الحرب الاهلية التي يكون مدارها عدم‬ ‫وجود القانون الحامي للحقوق والواجبات حتى يحصل التعاون والتبادل والتعاوض العادل‬ ‫المحافظ عليهما‪ .‬فتكون الحرية في هذه الحالة هي القانون الضامن لشروط الحقوق‬ ‫والواجبات وهي الغاية النهائية المعللة لوجود الدولة التي هي شوكة القانون‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪31‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ومثلما أن التبادل يحقق شروط الحرية فإن الاستعمال يحقق شروط الكرامة لأنه هو الذي‬ ‫يضمن شروط البقاء العضوي من خلال السهم في العمل الجماعي أو تقاسم العمل وضمان‬ ‫المنزلة التي يحددها سلم تقاسمه في مستوى التعاون والتعاوض بمقتضى القانون الحامي‬ ‫للحقوق والواجبات‪ .‬فالإنسان يمكن أن يفقد كرامته مثلا لو اضطره الجوع إلى التسول أو‬ ‫السرقة‪ .‬والأولى تذلل للغير وفقدان للكرامة‪ .‬والثانية عدوان على حق الغير وفقدان‬ ‫للكرامة إذا ثبتت عليه تهمة السرقة فعوقب بجريمة العدوان على ملك الغير‪ .‬ولهذه العلة‬ ‫فقيم التبادل والتعاون والتعاوض ثلاثتها لا تكفي لتحقيق شروط السلم الأهلية وهو ما‬ ‫يقتضي قيم التضامن بوصفه حقا للفرد الفاقد للثلاثة الاولى وواجب على الجماعة‪.‬‬ ‫فتكون القيمة الاستعمالية متصلة بالحد المحافظ على الكرامة شرطا في بقاء وجود الجماعة‬ ‫سلميا وبعيدا عن علل الحرب الاهلية وهي ما يحول دون \"اكل الحرة بثدييها\" أي إن‬ ‫الجماعة من واجبها تحقيق ما يستجيب للحاجات الأساسية حتى لمن له معيقات دون المشاركة‬ ‫في العمل الجماعي وهم من يحدد القرآن حاجتهم لذلك (البقرة ‪ .)177‬ولا عجب إذا‬ ‫اعتبرت القيمة التبادلية أغلى من القيمة الاستعمالية لأن الحرية شرط الكرامة‪ .‬فالحر‬ ‫هو الذي لا يقبل أن يذل لغيره ويطلب ما يتعالى على الاستعمالية‪ :‬ولهذه العلة فقيمة‬ ‫التضامن هي التي تحول دون إذلال المحتاج إليه لأنه صار حقا لفاقد ما يغنيه عنه وواجبا‬ ‫على الجماعة‪.‬‬ ‫وما يتعالى على القيمة الاستعمالية ليس حطا من هذه رغم كونه ترفيعا من القيمة‬ ‫التبادلية‪ .‬ولأضرب مثالين‪ :‬فالمائدة رمزا للغذاء من القيم الاستعمالية والسرير رمزا‬ ‫للجنس من القيم الاستعمالية‪ .‬وفن المائدة وفن السرير من القيم التبادلية في الخدمات‬ ‫وليس في البضائع المستخدمة والمقيمة أي الغذاء والجنس‪ .‬من ذلك أن الذهب قيمة تبادلية‬ ‫لأنه علامة جمالية في ذوق السرير ويتبع فن السرير والخبز قيمة استعمالية عضوية لكن‬ ‫الحلويات قيمة تبادلية لأنها علامة جمالية في ذوق المائدة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪32‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لكن ما يحدث في قلب القيم إلى عكسها يتمثل في تحول رمز التبادل (العملة) من أداة‬ ‫تحقيق الحرية إلى أداة تحقق العبودية بما يصبح لها من سلطان على المتبادلين‪ .‬وهو ما‬ ‫سميته ربا الأموال‪ .‬كما أن رمز التواصل (الكلمة) لما يتحول من أداة التواصل لتحقيق‬ ‫الكرامة إلى أداة سلطان على المتواصلين‪ .‬وهو ما سميته ربا الأقوال‪ .‬وعندما يحصل هذان‬ ‫التحولان ينحط سلم القيم‪ :‬ويصبح تحديد الكلفة الاقتصادية بمستوييها الاستعمالي‬ ‫والتبادلي متحكما في تحديد الغاية الخلقية بمستوييها كرامة وحرية‪.‬‬ ‫وهكذا تصبح القيمتان الخلقيتان ‪-‬الحرية والكرامة‪-‬تابعتين للقيمتين الاقتصاديتين ‪-‬‬ ‫التبادلية والاستعمالية‪ .‬فيكون التبادل هو المحدد للحرية‪ .‬ويكون الاستعمال هو المحدد‬ ‫للكرامة‪ .‬بحيث إن الإنسان يصبح عبدا للمسيطر على رمز التبادل (العملة) ويتنازل عن‬ ‫كرامته للمسيطر على رمز التواصل (الكلمة)‪ :‬والتواصل يتعلق بالقيمة الاستعمالية‬ ‫والتبادل بالقيمة التبادلية‪ .‬وعندئذ تصبح الحرية والكرامة بضاعتين تباعان وتشتريان‪.‬‬ ‫والآن فلنحاول فهم العلة التي لأجلها يتعلق التواصل بالقيمة الاستعمالية وما علة دور‬ ‫الكلمة فيه؟ إن اللقاء بين البشر من اجل التعاون هو لسد الحاجات بتقاسم العمل والتخادم‬ ‫المتبادل أو التساخر المتبادل‪ .‬وهذا لا يكون من دون تواصل بمعنيين‪ :‬أولا في انجاز العمل‬ ‫بتكامل أسهم كل مشارك في منظومة العمل المتكامل‪ .‬وثانيا في تقاسم ثمرته بالقسط وهو‬ ‫التعاوض العادل للتخادم والتساخر‪ .‬وهذا يتعين خاصة في نظام الأسرة الذي يكون‬ ‫الاستعمالي فيه مقدما على التبادلي في الاقتصادي والكرامة على الحرية في الخلقي‪.‬‬ ‫ففيه لا يوجد تبادل بين أفراد الأسرة بل تواصل بينهم وإذا عكسنا انهارت الأسرة وهو‬ ‫ما نلاحظه في الرؤية الحديثة للأسرة التي لم يعد لها وجود في الحقيقة لأنها تحولت إلى‬ ‫شركة‪ .‬لكن في الأسرة السوية الأب والام لا يعتبران عملهما في تربية الأبناء بالمعنى الكامل‬ ‫لمفهوم التربية أي الرعاية والحماية أمرا ينتظران منه مقابلا ماديا لأنها ليست خدمات‬ ‫تبادل بل هي علاقات تواصل إذ هو ليس خدمة ولا بضاعة بل هو تواصل وتراحم من‬ ‫الرحمة ومن الرحم لكأن الأب والام يشعران بأن الابناء \"تواصل\" صادق لحياتهما‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪33‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ورمز التواصل الكلمة الطيبة مثلما أن رمز التبادل هو العملة غير الربوية‪ .‬وقد اخترت‬ ‫الكلمة التي تكون طيبة بمعنى التبالغ وصلة الرحم وقد تكون خبيثة وهي منتهى الإذلال‬ ‫من القوي للضعيف عندما تصبح ربا أقوال أي للخداع مثلما تصبح العلمة ربا أموال‬ ‫للاستغلال‪ .‬وهكذا وجدنا ما يمكن قيسه وترتيبه في مجال جليل نظام الطبيعة والحياة وفي‬ ‫مستوى جليل نظام التاريخ والروح‪.‬‬ ‫فما يمكن قيسه وترتيبه في جليل الطبيعة والحياة هو نظام الطبيعة ونظام الحياة اللذين‬ ‫حسم أمر صوغهما الرياضي الذي لا بديل عنه‪ .‬وهو تطبيق المقدرات الذهنية النظرية‬ ‫على صوغ التجريب الطبيعي والعضوي‪ :‬الصوغ الرياضي لقوانين الطبيعيات والعضويات‪.‬‬ ‫واكشفنا ما يمكن قيسه وترتيبه في جليل التاريخ والروح‪ :‬إنه القيم الأربع أي القيمتان‬ ‫الخلقيتان الحرية والكرامة والقيمتان الاقتصاديتان التبادل والاستعمال‪.‬‬ ‫فأما القيمتان الاقتصاديتان فهما أيضا قابلتين للصوغ بالمقدرات الذهنية النظرية مع‬ ‫التجريب لقيس الاستعمالي والتبادلي مع حصر دور رمزهما العملة في دور الاداة لئلا تتحول‬ ‫إلى سلطان على المتبادلين بربا الأموال‪ .‬وأما القيمتان الخلقيتان أي الحرية والكرامة فهما‬ ‫قابلتان للقيس والترتيب في سلم قيم مع حصر دور رمزهما الكلمة في دور الأداة لئلا تتحول‬ ‫إلى سلطان على المتواصلين‪ :‬تواصل الأحرار وتواصل الكرام‪ .‬وإذن فالأمر مضاعف‪ :‬بين‬ ‫الخلقي والاقتصادي ببعديهما كليهما ثم بين بعدي كل منهما‪.‬‬ ‫فبين النوعين هو جعل الاقتصادي تابع للخلقي وهو شرط منع رمز التبادل (العملة) من‬ ‫أن يتجاوز دوره في التبادل لئلا يصبح سلطانا على المتبادلين بربا الأموال ومنع رمز التواصل‬ ‫من أن يتجاوز دوره في التواصل لئلا يصبح سلطانا على المتواصلين بربا الأقوال‪ .‬وإلا كان‬ ‫الدين دين العجل بمعدنه وخواره‪ .‬ففي حالة حصول هذا التحول يصبح الإنسان مستعدا‬ ‫للخضوع لسلطان غيره غير الشرعي فيكون عبدا فتقصدن الحرية والكرامة وتفقدان‬ ‫طبيعتهما الخلقية لأنهما تصبحان بضاعة أو خدمة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪34‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫أما في كل منهما أي بين قيمتي الاقتصادي وبين قيمتي الخلقي فالأمر مماثل‪ .‬فإذا سيطر‬ ‫التبادلي على الاستعمالي في الاقتصاد صارت الحاجات الاولية من أتفه الاشياء في التبادل‬ ‫والتعاوض فانحطت منزلة منتجيها وأصبح المجتمع مترفا بحيث إن مآله إلى غلبة الفقر‬ ‫وانحصار الثروة في القيم التبادلية بدلا من القيم الاستعمالية ما يجعل العبودية تفرض‬ ‫على الحرة أن تأكل بثدييها وتصبح الجماعة جماعة أسياد وعبيد وليست جماعة بشر‬ ‫متساويين في المنزلة الوجودية والقانونية‪.‬‬ ‫فتكون حرية المترفين ملغية لكرامة المعدمين الذين يصبحون عبيدا‪ .‬وهي حال كل مجتمع‬ ‫سيطر عليه ربا الأموال وربا الأقوال أي دين العجل الذي يحكم البشر بالمال الفاسد‬ ‫وبالخطاب المنافق فيؤدي إلى تلويث الطبيعة التي هي شرط البقاء العضوي وتلويث الثقافة‬ ‫التي هي شرط البقاء الروحي‪ .‬وإذا قدمنا الحرية على الكرامة بإطلاق أصبحت حرية‬ ‫القلة أو السادة في استعباد الكثرة أي العبيد وعوض السلم بالحرب الباردة التي تقضي‬ ‫على الحياة الأهلية وتؤدي إلى الاحتراب إما في حرب أهلية أو في غلبة الإجرام‪.‬‬ ‫وقد يعجب الكثير إذا سمعوني أقول إن هذه المعادلة من اكتشاف ابن خلدون في فصل‬ ‫الترف من المقدمة‪ .‬ففيه بين فاعلية العلاقة بين الاقتصادي والخلقي بما يقرب من هذه‬ ‫المعاني حتى وإن لم يكن قد اعتمد على نسق تام من المواضعات التي من جنس ما حاولت‬ ‫بناءه بالتدريج منذ أكثر من أربعة عقود من البحث‪ .‬ولم يكن بوسع دارسيه اكتشاف جل‬ ‫إبداعاته لأنهم يبحثون في فكره أوجه الشبه مع أوغست كونت أو مع ماركس فلا يرون ما‬ ‫يميزه وهم الأهم‪.‬‬ ‫وهذه الخاصية العجيبة في فكر حداثيينا عامة وليست خاصة بابن خلدون‪ :‬إما البحث عن‬ ‫السبق والتأثير في حداثة الغرب أو البحث عن وجه الشبه في حالة استحالة البحث الأول‪.‬‬ ‫وكلا البحثين دليل عقدة نقص وليس بحث علمي‪ .‬لكن التخلص من هذه العقدة هو الذي‬ ‫مكنني من بيان أن ما سعى إليه ابن تيمية في مراجعة فلسفة النظر والعقد أتمه سعي ابن‬ ‫خلدون في مراجعة فلسفة العمل والشرع‪ .‬فكلاهما تحرر من تحريف علوم الملة الدينية‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪35‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫والفلسفية رغم أن مسعاهما بقي حبرا على ورق لأن من أتى بعدهما إلى الآن ما يزال‬ ‫يخرف بمنطق يهمل فصلت ‪ 53‬ويدمن آل عمران ‪.7‬‬ ‫آمل أني قد وفيت شيخ الإسلام حقه من التكريم ببيان أهمية ثورته في نظرية المعاني‬ ‫الكلية باعتبارها لغة يتقوم بها قولنا عن الموجود وليست مقومة للوجود وهي قطيعة ثورية‬ ‫مع الفلسفة اليونانية‪ .‬وهو من هذا المنطلق حاول إعادة النظر في كل علوم الملة الغائية‬ ‫الخمسة وعلومها الأداتية الخمسة فكان بذلك أكبر فيلسوف في حضارتنا نظير أفلاطون‬ ‫وأرسطو في حضارة اليونان‪ .‬لكن دوره الاساسي كان في النظر والعقد وأثرهما على العمل‬ ‫والشرع ويقابله ابن خلدون في العمل والشرع وأثرهما في النظر والعقد‬ ‫لكن ابن تيمية تجاوز أرسطو في فلسفة النظر والعقد وابن خلدون تجاوز افلاطون في‬ ‫فلسفة العمل والشرع‪ .‬وتجاوزهما ذو علاقة بما صار الآن من أهم مباحث الفلسفة الحديثة‬ ‫التي لم يؤثرا في بدايتها لأن الغرب لم يكن على علم بأعمالهما‪ .‬وليس المحير جهل الغرب‬ ‫بهما وشروعه الآن في فهم ما حققاه بل جهل علماء الأمة حتى الحاليين بهما لأن ما يقال‬ ‫عنهما ما يزال مقصورا على مجرد البحث عمن يشبهون وليس عما يتميزان به‪.‬‬ ‫فلما كان ابن تيمية وابن خلدون غير معروفين في الغرب إلى حدود القرن التاسع عشر‬ ‫معرفة يمكن أن تكون قد أثرت في الغرب فقد حماهما الله من خرافة البحث عن تأثيرنا‬ ‫فيه وهو الغرض الاول للباحثين في تراثنا‪ .‬وهو ما نجاني منه الله فلا أبحث عن أثر لهما‬ ‫في زيد أو في عمر من مفكري النهضة الغربية ولا عمن يشبههما فيها‪ .‬فهما لم يؤثرا في‬ ‫نهضة الغرب ولا أحد من الغربيين يشبههما ممن يقاسان عليهم من الغربيين‪.‬‬ ‫ولما كان ذلك لم يحصل أي أنه لا يمكن أن يزعم أحد فيهما مثلما يزعمون في تأثير الغزالي‬ ‫في ديكارت أو في تأثير ابن رشد في النهضة الغربية الذي جعلوه مؤسس الحداثة الغربية‬ ‫والفصل بين الدين والسياسة إلخ‪ ..‬من الخرافات لم يبق لهم إلا خرافة البحث عن السبق‬ ‫بشبيه لهما في الغرب‪ :‬ابن تيمية مثل لوثر وابن خلدون مثل كونت أو ماركس‪ .‬وهذا حط‬ ‫من ابن تيمية ومن ابن خلدون‪ .‬فلا وجه للمقارنة لأن ما يعالجه لوثر لا وجود له في بحثهما‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪36‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لعدم حاجة الإسلام إليه وما يلغيه كونت أساسي في عملهما‪ :‬الوساطة والوصاية لا توجد إلا‬ ‫عند الشيعة ولا معنى لها عند ابن تيمية وابن خلدون إلا في الرد على التشيع والتصوف‪.‬‬ ‫وإذن فما يطلبه الباحثون فيهما لا علاقة له بعلم إبداعهما بل هو رد فعل على عقدة عند‬ ‫الباحثين العرب تجعل الأشياء لا قيمة لها بذاتها بل بهذا الشبه مع زيد أو عمر من‬ ‫الغربيين أي مع ما يعتبر ذا قيمة في الغرب والنتيجة تغييب ما هو أهم أعني ما قد يكون‬ ‫أمرا الغرب لم يفكر فيه أصلا وليس من همومه أو هو من نقائضها وفكر فيها الرجلان‬ ‫وهو ربما أهم مما فكر فيه بكونه أكثر كونية ومستقبل الإنسانية من حيث المسألة‬ ‫الأبستمولوجية (نظرية المعرفة وعدم مطابقة علم الإنسان مع الموجود) والمسألة‬ ‫الأكسيولوحية (نظرية القيمة وعدم مطابقة عمل الإنسان مع المنشود)‪.‬‬ ‫وفهم هذا الموقف العقيم الناتج عن العقد‪-‬وهو جنيس خرافة الأعجاز العلمي للقرآن‪-‬‬ ‫هو الذي حررني من الوقوع في ما وقع فيه الفكر الإسلامي قديما بالقياس إلى الفكر‬ ‫اليوناني فلسفيا وبالقياس إلى الفكر الكلامي المسيحي واليهودي والمجوسي كلاميا بسبب‬ ‫نفس العقدة‪ :‬حضارة ناشئة تبحث عن نماذج تعير بها نفسها‪ .‬والحضارة المستأنفة تفعل‬ ‫نفس الشيء بالقياس إلى من سبقها في شيء ما‪ .‬وكل مسعاي هو التحرر من هذه العقدة‬ ‫من منطلقين‪ :‬الاول أني ضد الخصوصيات واعتبر الإنساني الكوني متقدم على الثقافي‬ ‫الخصوصي والثاني هو أن الإسلام نفسه يفرض أن يكون رسالة خاصة بثقافة أو شعب معين‬ ‫بل هو للإنسانية هو رسالة في شأن الإنسانية كلها بمبدأي النساء ‪ 1‬والحجرات ‪.13‬‬ ‫ولا يعني ذلك أني أنكر أن الحضارات تتبادل التأثر والتأثير ولكن ذلك ليس متعلقا‬ ‫بالقضايا من حيث كونيتها بل بها من حيث التدرج في الترقي إلى كونيتها‪ .‬فاليونان أثروا‬ ‫في فكرنا بهذا المعنى بدليل أني اعتبر هذا الأثر حال دون تجاوزه لتوهمه كاملا فأخذ‬ ‫الخصوصي الثقافي وكأنه كوني وجودي‪ .‬ولا أنكر أن فكرنا يمكن أن يكون قد أثر في نهضة‬ ‫الغرب بنفس المعنى‪ .‬ما أنفيه هو أن يكون الفكر قابلا للفهم من خلال تأثره أو تأثيره‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪37‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫أعني من خلال ما لا يمثل الإبداع فيه بل الاتباع قبل فهمه هو ذاته التي يحددها الكوني‬ ‫الإنساني في ه لفهم ما يجعله منفعلا بغيره أو فاعلا في غيره‪.‬‬ ‫وما لم ننفذ إلى ما فيه من محدد كوني للتلقي من غيره ولتلقي غيره له فإننا نكون كمن‬ ‫يكتفي بقشرة الاعراض التي في ذلك الفكر دون البلوغ إلى ما يعلل وجود تلك القشرة‬ ‫فيه وطغيانها عليه سواء كانت دليل قوة أو دليل ضعف‪ .‬وإذن البحث عما فيه من فاعلية‬ ‫وانفعالية ذاتيتين وهو القصد بالبحث فيه لذاته‪ .‬ولم يبق إلا أن أختم هذا البحث بضميمة‬ ‫تكون آخر فصول هذه المحاولة أخصصه لوصل كل هذه المواضعات بمعادلة الإنسان‬ ‫الوجودية‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪38‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫في هذا الفصل الاخير أحاول بيان الدور الذي تؤديه القيم الأربع التي استخرجناها‪.‬‬ ‫وأعني القيم التي تتعلق بها المقدرات الذهنية العملية التي تؤدي في العلوم الإنسانية أي‬ ‫علم التاريخي والروحي نفس الدور الذي تؤديه المقدرات الذهنية النظرية في العلوم‬ ‫الطبيعية والعضوية لصوغ ما تمكن منه التجربة من معطيات الموضوع‪.‬‬ ‫وهو ما يعني أننا انتقلنا من ابداع ابن تيمية إلى ابداع ابن خلدون وهو عكس ما حصل‬ ‫عندما اكتشفت ابن تيمية بحثا عما يمكن أن يكون قد أسس ثورة ابن خلدون قبله بتغيير‬ ‫فلسفة النظر‪ .‬فإن ابن تيمية تعلق إبداعه بفلسفة النظر والعقد وشروطها التي تقتضي‬ ‫الجمع بين المقدرات الذهنية النظرية والتجربة لمعرفة قوانين الطبيعة الجامدة والحية‪.‬‬ ‫والإبداع هنا يعلق بمجال الضرورة الشرطية بمصطلح أرسطو لأن نظامها نظام علاقة‬ ‫وظيفة بجهاز‪.‬‬ ‫ولذلك فالنموذج في فلسفة النظر والعقد التي تدرس قوانين الطبيعة خاصة يكون‬ ‫تكنولوجيا أي إن الأمر وكأنه صناعة فيه مادة وصورة وعلة محركة وعلة غائية‪ .‬وهو ما‬ ‫يسمى في الفلسفة القديمة النموذج الهيلومورفي نموذج تصوير المادة‪ ..‬فالصناعة هي دائما‬ ‫تصوير لمادة من أجل وظيفة وليست خلقا للمادة ولا حتى للصورة في الفلسفة القديمة‪.‬‬ ‫ولذلك فالنموذج العام في فلسفة أرسطو هو نظام العالم بوصفه آلة مصورة للمادة ولا معنى‬ ‫لتصور الطبيعة ذات تاريخ بل هي عنده سرمدية‪.‬‬ ‫لكن ابن تيمية يرفض تطبيق هذه الرؤية على أفعال الله ويغير النموذج لتفسير على‬ ‫أفعال الأنسان نظرية كانت أو عملية‪ .‬ولذلك فعلاقته بينة بثورة ابن خلدون‪ .‬فإبداعه‬ ‫يتعلق بفلسفة العمل والشرع وشروطها التي تقتضي الجمع بين المقدرات الذهنية العملية‬ ‫والتجربة لمعرفة سنن التاريخ المادي والروحي‪ .‬وهذا هو مجال الحرية الشرطية بمصطلح‬ ‫لم يضعه أرسطو رغم أن فكرته مضمرة في الميتافيزيقا‪ .‬لكنه مبدأ صريح في الابداع‬ ‫الخلدوني الذي سأحاول بيانه هنا‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪39‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫صحيح أن أرسطو وضع مفهوم قوة الإنسان على الضدين بخلاف الطبيعة التي ليس لها‬ ‫هذه القوة‪ .‬وهو ما يقرب من مفهوم الحرية الشرطية لأن القيام بأحد الضدين بدلا من‬ ‫الثاني مع القدرة عليه يعني بنحو ما القدرة على اختيار أحد الاثنين‪ .‬لكن فلسفته العملية‬ ‫لا تستند إلى هذا المعنى بل بناها على طبيعة النفس ومقومات الأسرة وكلتاهما ضرورة‬ ‫شرطية‪.‬‬ ‫ولذلك فرغم إضافة الأسرة فإن أرسطو لم يتجاوز أستاذه في اعتبار الفلسفة العملية‬ ‫مؤسسة على الضرورة الشرطية وليس على الحرية الشرطية‪ .‬فأفلاطون يؤسسها على قوى‬ ‫النفس الثلاث أي العقل والغضب والشهوة‪ .‬وأرسطو يقول في الحقيقة نفس القول ولكنه‬ ‫يعتبره متحققا فعليا في الأسرة بوصفها نموذج الدولة في فلسفته‪.‬‬ ‫وهذا هو مناط ثورة ابن خلدون‪ .‬فهو يعكس تماما النموذج الأفلاطوني الارسطي‪ .‬إنه‬ ‫لا يعتبر النفس نموذجا بقواها الثلاث ولا الأسرة بمقوماتها الثلاث (رب الأسرة والأسرة‬ ‫وعبيدها) بل هو يعتبر الدولة والجماعة وشروط القيام الخارجية هي المحدد لبنية النفس‬ ‫ولمقومات الأسرة اللتين تتبعان بنية الدولة وتتأثران بالتطور الحضاري وليس لها ثبات‬ ‫الطبيعة‪ .‬ويجمع ذلك بمفهوم بديع يتألف من القيم الأربع المذكورة‪ :‬مفهوم \"نحلة العيش\"‪.‬‬ ‫فمفهوم \"نحلة العيش\" ببعديه أي التنازل (تساكن افراد الجماعة) لسد حاجات الرعاية‬ ‫والحماية والتنازل (تساكن الأفراد الجماعة) لسد حاجات الأنس بالعشير‪ .‬ويسمي‬ ‫التساكن الأول العمران البشري‪ .‬ويسمي التنازل الثاني الاجتماع الإنساني‪ .‬ولذلك سمى‬ ‫علمه \"علم العمران البشري والاجتماع الإنساني\"‪ .‬والقصد علم قيم \"نحل العيش\" في القيم‬ ‫الاقتصادية والحكم وقيم \"نحل العيش \" في القيم الخلقية والتربية‪ .‬وتلك هي قيم الإنسان‬ ‫الأربع ومجال الفلسفة العملية‪.‬‬ ‫والقيم الأربع كما سبق أن بينت في الفصول السابقة هي‪:‬‬ ‫‪ .1‬القيمتان الاقتصاديتان اي القيمة الاستهلاكية والقيمة التبادلية للبضائع‬ ‫والخدمات واستعمالهما في الرعاية والحماية وظيفتي الدولة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪40‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .2‬والقيمتان الروحيتان أي قيمة الكرامة وقيمة الحرية في علاقة التبادل والتواصل‬ ‫في الجماعة شرط قيامها لتكون قادرة على رعاية ذاتها وحمايتها وهما شرط الحرية‬ ‫والكرامة بوصفهما عدم التبعية للغير‪.‬‬ ‫وذلك ما يترتب عليها من نظام سياسي ببعديه أي رعاية الجماعة وحكمها شرط البقاء‬ ‫والتجدد للجماعة الحرة والكريمة التي لا تدين بشروط قيامها لغيرها فتكون عالة عليه‪.‬‬ ‫بوسعي إذن أن أستنتج من أفكار ابن خلدون بعد تنظيمها نسقيا ‪-‬لأن المقدمة بحاجة إلى‬ ‫إعادة تنظيم بالتمييز بين النظرية والأمثلة التوضيحية التي وردت فيها تطبقا للنظرية‬ ‫وليست اصلا استقرائيا لها كما توهم المرحوم عبد الرحمن بدوي‪-‬أنه يعتبر \"نحلة العيش\"‬ ‫أصل القيم الأربع أي القيمتين الاقتصاديتين (الاستهلاكية والتبادلية) والقيمتين‬ ‫الخلقيتين (الكرامة والحرية)‪ .‬وهو يفسرها كلها بالعلاقة بين الطبيعي والحيوي من جهة‬ ‫والتاريخي والروحي من جهة ثانية‪.‬‬ ‫وقد وردت صيغة النظرية في خطاطة أولية في الباب الأول من المقدمة أعني نظرية‬ ‫التفاعل بين احياز محيط الإنسان وأحياز كيانه وما يترتب على التفاعل بين كيان الجغرافيا‬ ‫مناخا ومصدر غذاء وكيان الإنسان روحا وكيانا عضويا‪ .‬وكل مضمون المقدمة في أبوابها‬ ‫الخمسة الموالية تتبع هذا التفاعل في نحل العيش أي ما ترتب على هذا التفاعل تغيير‬ ‫متبادل بينهما وتأويلات لـفهمها‪ .‬وهذا ما لم يكن بوسع من يبحث عن أوغست كونت أو‬ ‫ماركس في ابن خلدون أن يكتشفه‪.‬‬ ‫فهذه المعاني لا أحد غيره تفطن إليها بهذا الوضوح الذي يتجاوز المقابلة بين هيجل‬ ‫وماركس وبين المادي والروحي ويتجاوز اعتبار دور الديني في الفلسفي والفلسفي في الديني‬ ‫أمرا يمكن شطبه بالمقابلة بين الواقع والخيال‪ .‬إذ إن القيمتين الخلقيتين ‪-‬الكرامة‬ ‫والحرية‪-‬اللتين هما من جوهر الحرية الشرطية لا يمكن اعتبارهما ممكنتين لو اقتصرنا‬ ‫على الضرورة الشرطية التي لا تستثني الإنسان من قوانين الطبيعة والبايولوجيا‪ .‬فهما‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪41‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫بالذات ما به يعلو الإنسان على سيطرة القيمتين الاقتصاديتين‪-‬الاستعمال والتبادل‪-‬‬ ‫ليتحرر‪.‬‬ ‫وعندما وضعت نظرية نظام الأبيسيوقراطيا (الحكم باسم دين العجل) واعتبرته البنية‬ ‫العميقة لنظام الثيوقراطيا (الحكم باسم الرب) ولنظام الأنثربوقراطيا (الحكم باسم‬ ‫الإنسان) فالقصد هو فهم علل استعباد الإنسان وردها إلى سلطان معدن العجل (ربا‬ ‫الاموال) وسلطان خواره (ربا الأقوال)‪ .‬والمعلوم أن الله أعلن الحرب عليهما في القرآن‪.‬‬ ‫ولا يمكن تحرير الإنسان من السلطانين من دون دور الدين في السياسة أو دور التعالي على‬ ‫الضرورة الشرطية بالحرية الشرطية‪.‬‬ ‫‪-14‬فأما اعلان الحرب على ربا الأموال في القرآن فغني عن الشرح‪ .‬لكن اعلان الحرب‬ ‫على ربا الأقوال أشد فيه من الحرب على ربا الأموال لأن الله يقول \"كبر مقتا عند الله أن‬ ‫تقولوا ما لا تفعلون\" وهذا هو جوهر الخوار اي استعمال الأقوال كذبا أو تحريف الكلم من‬ ‫أجل الخداع‪ .‬وذلك ما يجعل الرب خديعة في الثيوقراطيا والإنسان خديعة في‬ ‫الانثروبوقراطيا‪ .‬والخديعتان تغطيان على دين العجل أي ربا الأموال وربا الأقوال‪.‬‬ ‫ولنا مثالان في الإقليم يتبين الباحث حقيقة هذه المعاني‪:‬‬ ‫‪ .1‬فإسرائيل تدعي الحكم باسم الإنسان وتزعم تأسيس وجودها على حق إلهي في‬ ‫فلسطين مع الزعم بأنها شعبه المختار وغيرها جوهيم‪ .‬لكن نظامها في الحقيقة‬ ‫أبيسيوقراطي أي دين العجل بربا الاموال وبربا الأقوال‪.‬‬ ‫‪ .2‬وإيران تدعي الحكم باسم الرب وتتأسس على عنصرية الأسرة المختارة وتريد‬ ‫الثأر من العرب لإسقاطهم دولة الأكاسرة‪ .‬لكن نظامها في الحقيقة أبيسيوقراطي أي دين‬ ‫العجل مثل إسرائيل‪.‬‬ ‫أما الأنظمة العربية العسكرية والقبلية فهي أفسد من إيران وإسرائيل وأكثر ضررا‬ ‫بالأمة منهما لأنها أولا في خدمتهما ولأنها لا تتغطى بأي برقع بل هي مباشرة أبيسيوقراطيا‪.‬‬ ‫فهي توابع للنظامين الإسرائيلي الامريكي وللنظامين الإيراني الروسي وأربعتها‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪42‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ابيسيوقراطية تبعية محميات يسمونها دولا وهي قبائل نكصت عن الإسلام ومافيات لا‬ ‫علاقة لها بمفهوم دولة ممثلة لإرادة أمة‪ .‬ولم يكفها أنها ناتجة عن تفتيت جغرافية الأمة‬ ‫فإنهم يحاولون تشتيت تاريخها بحثا عن شرعية تاريخية كاذبة مما تقدم الإسلام‪.‬‬ ‫فلا يوجد نظام عربي واحد يستمد شرعيته من إرادة شعبيه ولا من تاريخ الأمة بل كل‬ ‫نظام عربي يستمد بقاءه ليس من شرعية ذاتية بل من تبيعتيه لإرادة حاميه الذي يفرضه‬ ‫على شعبه مقابل ما يدفعه من جزية مما يحرم منه شعبه أي من ثروته وحريته وكرامته‪.‬‬ ‫فلا يوجد حاكم عربي واحد يتجاوز دوره دور الغفير حتى لو سمى نفسه أميرا أو ملكا أو‬ ‫رئيسا أو شيخا أو اي اسم شاء‪ :‬كلهم عبيد للحامي وأدوات استعباد للشعب‪.‬‬ ‫واستعبادهم للشعب قابل للقيس والترتيب لأنه مفسد لمعاني الإنسانية بما هو ملغ لحقوق‬ ‫المواطنة الاقتصادية والخلقية وحتى لنحلة العيش التي صارت كلها فاقدة للعلاقة بالأحياز‬ ‫الذاتية للجماعة‪ .‬لا شيء بقي منتسبا حقا لمكونات كيان الأمة‪ .‬كله حضارة زائفة لأنها‬ ‫مستوردة بلا ذوق لأنها محاكاة ببغائية‪ .‬وابن خلدون يعتبر الجماعة التي هذه صفات‬ ‫نظامها السياسي والقيمي جماعة خضعت للتربية العنيفة والحكم العنيف اللذين يفسدان‬ ‫معاني الإنسانية‪ .‬فهي تصبح جماعة متصفة بما يفيد الاخلاد إلى الارض وكل الرذائل‬ ‫التي تنجر عنه ما يحولها إلى عالة على غيرها رعاية وحماية فتسفل أسفل سافلين (عولجت‬ ‫سابقا)‪.‬‬ ‫فكيف يكون مفهوم \"نحلة العيش\" بالمعنيين اللذين وصفت أي التنازل لسد حاجات الرعاية‬ ‫والحماية في الجماعة (العمران والاقتصاد) والتنازل لسد حاجات العشير والأنس به‬ ‫(الاجتماع والاخلاق) موحدا بين هذه القيم الأربع أي الاثنتين الاقتصاديتين والاثنتين‬ ‫الخلقيتين وعلاقتها بالمقدرات الذهنية العملية معرفة وقيمة؟ ذلك ما كان يستحيل فهمه‬ ‫وتحليله لو لم يكن ابن خلدون قد استند إلى ما يماثل نظرية ابن تيمية في المعاني الكلية‬ ‫التي تقال بالمقدرات الذهنية لكنها عملية وكلها قرآنية رغم ما يبدو من معان أرسطية‪ :‬مثل‬ ‫التعمير والاستخلاف وحب التأله وكل القيم الاقتصادية والخلقية قرآنية مائة في المائة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪43‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ومعنى ذلك فلكأن ابن خلدون فهم أن الإسلام ليس ثروة بعباداته المشعرية بل بعباداته‬ ‫الأعمق منها أي بكون سياسة تربية وسياسة حكم ونظرية سلم القيم الأربع الاقتصادية‬ ‫والخلقية التي تحرر الإنسان من دين العجل وتبدع نظاما يحقق في آن القوة بعدم التنكر‬ ‫للدنيا والحل الذي يحرر من الاخلاد إليها‪ .‬إنه سياسة الموجود في عالم الشهادة وتغلب عليه‬ ‫الضرورة الشرطية بمثل من عالم الغيب تغلب عليها الحرية الشرطية‪ :‬وهي معان كلية لا‬ ‫ندركها إلا من حيث هي مقدرات ذهنية عملية مثلها مثل المعاني الكلية التي ندركها‬ ‫بالمقدرات الذهنية النظرية‪.‬‬ ‫ولهذه العلة فلا يمكن أن نجد له مثيلا قبله ولا بعده إذ حتى ابن تيمية فهو مؤسس‬ ‫لقراءة القرآن وليس مؤسسا لتوظيفها في الفلسفة العملية لاقتصاره على الفلسفة النظرية‪.‬‬ ‫ومن يقرأ المقدمة بعجلة يتوهم انها تقسم \"نحل العيش\" إلى جنسين البدوي والحضري‬ ‫منهما في مسار كوني لا يتكرر أي إن الجماعة التي تصل إلى الثاني تكون قد تجاوزت نهائيا‬ ‫الأول‪ .‬فلا يرى التداخل بين الجنسين تداخلا ينتج عنه خمسة نحل لا يغيب أي منها في أي‬ ‫جماعة من البشر الاحرار ممن لهم شروط السيادة‪ :‬اثنتان في البدوي هما حد أقصى في‬ ‫بدايتها وحد أدنى من البداوة في غايتها‪ .‬واثنتان في الحضري هما حد أدنى في بدايتها‬ ‫مؤسس للمدن وحد اقصى في غايتها‪.‬‬ ‫وهما قابلان للقيس بعنوان الحياة التي رمزها القوة الديموغرافية والحضور التاريخي‬ ‫في العالم‪ .‬والمدينة هي التي تمثل مركز نحل العيش كلها ولا يمكن أن توجد مدينة خالية‬ ‫من البدايتين والغايتين‪ .‬فالحد الأقصى من البداوة هو ما يسميه ابن خلدون البداوة‬ ‫العربية ‪-‬ولا يعني العرب كعرق بل من يعيشون في الصحراء مع الأبل ويذكر منه الأعراب‬ ‫والأكراد وهو إذن مفهوم انثروبولوجي وليس عرقيا لأنه موجود في نحلة العيش وليس في‬ ‫الأقوام التي تعيشه وعلته الأساسية جغرافية إما دائمة أو غير دائمة بالمعنيين أي المناخ‬ ‫ومصدر الغذاء‪-‬والحد الأدنى هم المستقرون حول المدن التابعون لها‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪44‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وبين الحدين عديد من نحل العيش هي درجات علاقة الإنسان بالجغرافيا وهي علاقة‬ ‫يحددها ما يبدعه الإنسان للتعامل معها والتحرر من مفعوليها المناخي والغذائي وذلك خلال‬ ‫النقلة التاريخية من الحد الاقصى إلى الحد الأدنى‪ .‬والتوسط بين الحدين هو البداوة‬ ‫المستقرة التي تنشئ الدول والتي تستقر في المدن لأن الاستقرار هو غاية نحل العيش‪.‬‬ ‫وبه تبدأ نحل العيش الحضرية التي يكون اقصاها حيويا ما في البداوة من عنفوان حيوي‬ ‫ينشئ شروط الاستقرار أي الدولة التي تنشئ المدن والحضارة وأدناها حيويا قتل الحضارة‬ ‫بالترف‪ .‬وبين الحدين مراحل فساد معاني الإنسانية‪.‬‬ ‫وبذلك فالأمر كله يعود إلى علاقة الحيوي بسياسة عالم الشهادة من حيث هو علاقة بين‬ ‫الأحياز الخارجية والأحياز الذاتية للإنسان أي ما تكون حصيلته العلاقة بين الطبيعي‬ ‫والحضاري‪ .‬فيكون التاريخ ذا بنية كونية هي هذه الصيرورة لنحل العيش التي هي أصل‬ ‫القيمتين الاقتصاديتين (قيمة الاستعمال وقيمة التبادل) بالقيمتين الأخلاقيتين (قيمة‬ ‫الكرامة وقيمة الحرية)‪ .‬وهي في آن ثمرتها لأنها بداية التاريخ وغايته من أقصى البداوة‬ ‫إلى أدنها ومن أقصى الحضارة ومن هذه إلى ادناها والحدود الأربعة كلها باقية بصورة‬ ‫ابدية في كل مدينة إذا كانت مدينة فعلية وليست اصطناعية مثل مدن دول البترول لأنها‬ ‫لا تاريخ ذاتي لها‪.‬‬ ‫ولذلك فكل مدينة فيها كل نحل العيش البدوية وكل نحل العيش الحضرية وإذن‬ ‫فمنزلتها في أبعاد المكان مثل منزلة الحاضر في أبعاد الزمان الأربعة الاخرى‪ :‬فهي الحاضر‬ ‫المكاني الجامع لنحل العيش مثل الحاضر الزماني الجامع للقيم القيم الأربع من حيث هي‬ ‫بعدا الماضي حدثا وحديثا وبعدا المستقبل حديثا وحدثا‪ .‬فيكون الحاضر الزماني مثل‬ ‫الحاضر المكاني قائمين دائما في المدينة التي هي إذا كانت حقيقية وليس مصطنعة كل عين‬ ‫التعين المادي والروحي لكيان الأمة التي أنشأتها‪.‬‬ ‫ولذلك كان تاريخ زمان الأمم مخمس الأبعاد مثله مثل تاريخ مكانها‪ .‬واجتماعهما هو‬ ‫كيان الأمة الحضاري الذي يوجد في ثروتها وفي تراثها خارج كيان الأفراد وفي كيانهم‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪45‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فالزمان التاريخي ماضيه مضاعف لأنه ماضي حدثه وماضي حديثه عن حدثه‪ :‬وذلك هو‬ ‫مصدر ثروته وتراثه المنجز‪ .‬ومستقبله مضاعف لأن مستقبل حديث ومستقبل حدثه‪:‬‬ ‫وذلك هو مصدر ثروته وتراثه المستعد للإنجاز‪ .‬والحاضر الزماني محيط ببعدي ماضيه‬ ‫يبدأ بما قبله وببعدي مستقبله يبدأ بما بعده‪ .‬وهو كالمرجل يغلي بها أربعتها‪ .‬ومثله الحاضر‬ ‫المكان التاريخي التناظر التام في كل هذه الخصائص‪.‬‬ ‫والتناظر بين أبعاد المكان الخمسة وأبعاد الزمان الخمسة واحاطة الحاضر الزماني‬ ‫بالماضيين الحدثي والحديثي وبالمستقبلين الحديثي والحدثي واحاطة المدينة بالمكانين‬ ‫بنفس المعاني الأربعة هذا التناظر هو الذي يجعل المدينة مركز الإسلام والهجرة إليها‬ ‫بداية تاريخه وهي مركز المقدمة واحتواءها كل القيم موجبها وسالبها‪ .‬والمسلمون بدأوا في‬ ‫التنصل من ثورتهم منذ أن عادوا إلى جعل أم قراهم ساسانية (دمشق) ثم مناذرية‬ ‫(بغداد)‪.‬‬ ‫فما قبل المدينة العامل ذو التاثير الغالب هو البداوة وسيطرة الطبيعة على الإنسان وما‬ ‫بعد المدينة العامل ذو التأثير الغالب هو سيطرة التاريخ على الإنسان‪ .‬فالإنسان يكون في‬ ‫ما قبلها الإنسان أكثر تبعية لما يستمده من الطبيعة مما يستمده من التاريخ‪ .‬وفي ما بعدها‬ ‫الإنسان أكثر تبعية لما يستمده مما أضافه هو إلى الطبيعة مما يستمده من الطبيعة في كل‬ ‫القيم‪ .‬وإذن فالتراث التاريخي هو ما ينقل ثروة البشر من التبعية للطبيعة إلى التبعية‬ ‫للتاريخ أي إلى منجزات الإنسان الذي يبدع مصادر الثروة‪ :‬فالزراعة مثلا هي البديل من‬ ‫الجني وتربية الحيوان هي البديل من الصيد‪.‬‬ ‫إحاطة المدينة بكل أبعاد المكان مما قبل ماضي المكان ببعديه إلى ما بعد مستقبل المكان‬ ‫ببعديه وإحاطة الحاضر بكل ابعاد الزمان مما قبل مكان الزمان ببعديه إلى ما بعد مكان‬ ‫الزمان ببعديه يعتبران من ثوابت كيان الإنسان لأن المكان والزمان ملازمان لكينونته جزءا‬ ‫من تحيزيه فيهما كبدنه وروحه‪ .‬وهما حيزان محيطان به لكنهما مرتسمان في كيانه‬ ‫العضوي بتوسط الثروة وفي كيانه الروحي بتوسط التراث‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪46‬‬ ‫الأسماء والبيان‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook