ثورة الإسلاموادعياء الحداثة الكاريكاتورية -الفصل الرابع - الأسماء والبيان
وأدعياء الحداثة الكاريكاتورية
ما القصد بكاريكاتور التأصيل وكاريكاتور التحديث؟ بينا معنى الكاريكاتور بنسبته التشويهية في فن الرسم ،فماذا يرسم كلاهما؟ وما التشويه المشترك؟في الحقيقة كلاهما تأصيلي وتحديثي :يدعيان تمثيل الأصل من الإسلام والأصل من الحداثة ،بعودة تحققه من جديد ،ومن ثم ،فلهما كلاهما أصل يعودان إليه.ومن ثم ،فالتشويه مضاعف :تحديد الأصل ما هو ،سواء كان الإسلام أو الحداثة ،وتصور العودة إليه كيف تكون. وبهذا سأبدأ دراسة كاريكاتور التأصيل.وأول سؤال هو :هل يعلم صاحب كاريكاتور التحديث ،أن القرآن يعرف الإسلام بكونه الديني في كل الأديان ،بمعنى الخلقي والقانوني؟ أم جعله أحد الأديان؟ألم يجعله مجرد محاكات ،ولو بالضد ،لخاصيات الأديان التي نقد الإسلام تحريفها ،بحيث غابت صفته الجوهرية المتمثلة في كونه دولة الأخلاق والقانون؟وبذلك ،فهو لم يبق منه إلا الممارسات التوثينية ،التي تحاكي لحظة من تعين الأخلاق والقانون ،وكأن لها ثبات العبادات ،فقدس الأعيان بدل المثال؟ولأنه لم يجد في الإسلام أهم صفتين تتميز بها الأديان ،التي يعتبرها القرآن محرفة ،فقد استعارها منها :وهي اسرائيليات ونصرانيات وحتى جاهليات.ومن هنا جاءت كل الأساطير التي تتعلق بمعجزات ،القرآن ينفي صراحة أن النبي يمكنأن يقدم منها شيئا ،بل ويعتبرها للتخويف ولا علاقة لها بالديني ،ومن ثم اعادة الكنسية،أو الوساطة الروحية ،في شكل مؤسسة الإفتاء ،وخاصة في شكل الأولياء والكرامات وكل ما يلغي القانون والأخلاق ،أي دور الحريتين. 81
وفي الجملة ،فإن كاريكاتور التأصيل ،بوصفه عودة إلى هذا الفهم ،لا يعود إلى الإسلاموالقرآن ،بل إلى أوثان جعلت الإسلام مثل الأديان التي ينقدها ،فهيمنت استعادة المظاهرأكثر من الحقائق التي يمثلها الإسلام ،بوصفه ثورة روحية وسياسية ،تحرر من وساطة روحية والحق الإلهي أو الطبيعي في الحكم.وهذا الفهم ،حرف كل علوم الملة بقلب ما حددته الآية 53من سورة فصلت ،ما جعل النظر والعمل يصبحان عقيمين ،والأخلاق والقانون يفقدان سلطانهما لصالح قشور التدين.ومؤسسة الإفتاء ليست استشارة علمية ،بل هي من جنس المرشدية العامة ،أو من جنس المرجعية الشيعية ،وهي كنسية دون اسمها ،وصرحت في المشيخة الصوفية.ذلك أن من يستفتي لا يريد معرفة ،بل يريد التخلص من ثقل المسؤولية في أخذ قرار متعلق بخصومة مع ذاته ،وغالبا ما يكون الداعي الهروب من البينات.وأقصد بالهروب من البينات ،عدم اتباع ما لا يحتاج إلى علم كبير للقرار فيه إلا بمعنىالبحث عن مهرب وحيلة ،تحلل ما ليس حلالا أو تحرم ما ليس حراما ،وخاصة إذا كان طالبالفتوى ذا سلطان أو جاه .وبهذا المعنى فالحاجة إلى الإفتاء -باستثناء ما لم يكن ذا رهان مهم منه-هي الحاجة للوساطة الروحية.لن أطيل في هذا الوجه من كاريكاتور التحديث ،لأن ما يعنيني هو ما ينتج عنه من اعاقة لمسعى تحقيق شروط الاستعمار في الارض بدعوى الاستخلاف المباشر.وقد بينت أن الاستخلاف المباشر مستحيل أولا ،وأنه مناف للعلاقة الجوهرية بين الدين والحياة :تصور الاستخلاف ممكنا ،دون تعمير الأرض ،مناقض للإسلام.وقد بينت أن جوهر التعبد ،أي الفروض الخمسة ،جعلها الإسلام مشروطة بعلامة تعمير الأرض ،أي سد الحاجات الممتنع من دون تنمية مادية كافية لحياة كريمة. ففي الزكاة والحج الأمر بين.وفي الصوم والصلاة أبين رغم خفائه :فلا يمكن أن يصوم من لا يتوفر له شروط الصحة، ولا يمكن أن يصلي من دون شروط النظافة. 82
وإذن ،فأربعة من الفروض الخمسة مشروطة صراحة بالنجاح في تعمير الأرض ،والشهادة هي الحد الأدنى من فروض العبادة ،مدخلا للعبادات بشروطها التعميرية.وإذن ،فالتعمير صار جزءا من العبادات ،وليس مقصورا على المعاملات ،وشرطهما الأخلاق والقانون ،والأولى وازع ذاتي ،والثاني وازع أجنبي (ابن خلدون).والتعمير لم يعد مجرد ضرب في الأرض للاسترزاق ،بل هو ما نتج عن الديني في كل دين، الملازم للفلسفي في كل فلسفة :الإبداعات الاربعة التي حددت.فلا بد لتعمير الأرض شرطا في الاستخلاف من الإبداع التاريخي ،أصلا لأربعة فروع هي: الإبداع الذوقي: -الوجداني -والوجودي أصل الوعي الديني. ولا بد من الإبداع: -النظري -والعملي أصل الوعي الفلسفي.فيكون الوعي الديني أصلا للوعي الفلسفي ،إذا كان الدين خاتما بوصفه الديني في كل دين.وإذن ،فالإسلام الدين الخاتم ،هو هذه الرؤية التي تعتبر الديني في كل دين ،والفلسفي في كل فلسفة ،أو الابداع التاريخي متقوما بالإبداعات الأربعة.واقتضى ذلك أن يكون كتابه إعادة النظر الثورية في مفهوم الوحي ،وفي مفهوم العقل، بصورة تحرر الاول مما علق به من خرافة ،والثاني مما علق به من وهم.والخرافة هي ما تحرر منه الإسلام الدين ،لقوله بانتظام العادات وليس بخرقها ،والوهم هو ما حرر منه الإسلام العقل لقوله بأن للعلم حدا ،هو الغيب.وذلك هو مفهوم الرشد الإسلامي في الوحي والعقل :الاول من جنس التعبير الوجداني والوجودي ،والثاني من جنس العلم النظري والعملي. وكلاهما محدود. 83
فلا النبي يعلم الغيب (الخرافة) ،ولا الفيلسوف يعلم المطلق (الوهم) :أسلوبان متكاملان لقيام الإنسان بالمعادلة الوجودية في الدنيا وما بعدها.والآن سأصدع بأعظم معجزة ،هي جوهر الإسلام :معجزة القرآن التي حررت الوحي من خرافة خرق العادات بانتظامها ،والعقل من خرافة العلم المطلق بالغيب.أساس الحريتين :الحرية الروحية تغني عن الوسطاء بين الله والإنسان بوجدانه ،والحرية السياسية تغني عن الوسطاء بين المؤمن والشأن العام بعقله.والوجدان في الخلقي والقانوني وحي كوني-الفطرة الخلقية-والعقل في النظري والعملي إدراك كوني -الفطرة العقلية :الإسلام يساوي الديني والفلسفي الخاتمين.والسؤال الآن هو :ما الذي حال دون علماء الملة وفهم هذه الحقائق ،التي ينضح بها القرآن والسنة ،ولا يمكن أن يغفل عنها عاقل ينظر بهدي الاسلام؟وعودة للمفارقة الكبرى -البارادوكس الأعظم -وهو أن المعجزة المحمدية ،دينيا ،هي نفيخرافة خرق العادات ببيان انتظامها في الطبيعة والتاريخ ،وهي فلسفيا نفي وهم العلمالمطلق بنظرية الغيب المحجوب حتى على الأنبياء ،ومن ثم فجواب سؤالي هو غفلة علماء الملة عن وجهي الاعجاز المحمدي.والعجب من الغفلة عنهما :فالرسول لم يعتمد في تحقيق شروط الرسالة على المعجزات ،بل كان عمله السياسي والعسكري اجتهادا وجهادا عملا بالأسباب.وهنا لا بد من الإشارة إلى ضرورة التمييز بين قص القرآن للرسالات ،ومعجزات الأنبياء قبله ،وبين نظرية الإسلام في عمل الرسول الاجتهادي والجهادي. فالقرآن نقد التطور الروحي للبشرية ،نوعين من النقد: -نصي. -وفعلي.والنصي تعلق بالتحريف العقيدة (مضمون المعادلة الوجودية) ،والفعلي بما أقره منه ،وهولم يقر خرافة خرق العادات ولا وهم العلم المطلق .ومن ثم ،فالإسلام نفسه من حيث هو هيمنة وتصديق ،يفهمنا الفرق بين قص المعجزات وعدم اعتمادها. 84
وهذا لا يعني أني أكذب بالمعجزات .فالقرآن لم يكذب بها ،إذ أوردها كما هي في معتقدات أصحابها ،لكنه لم يعتمدها في الإسلام ،اي في الديني في كل دين. وهي إذن من عرضيات الدين ،وليس من الديني فيه.ولما كان الإسلام هو الديني في كل دين ،فهو يحرر الرسالة الخاتمة مما ليس جوهريا في دينية الدين.لكن الخرافة عادت لدى المتصوفة خاصة ،لكأنهم ظنوا عدم وجود خرق العادات في الإسلام نقصا ،فلم يفهموا طبيعة الأعجاز القرآني :النظام بدل خرقه.لكن الأخطر من ذلك كله هو قلب دلالة الآية 53من سورة فصلت ،وبالكلام في هذا يتبين أصل كل العلوم الزائفة ،التي قضت على ثورتي الإسلام طيلة عصر الانحطاط.وكان يمكن أن أسكت عن ذلك بعد شروعنا في الخروج منه لو لم يكن كاريكاتور التحديث يريد العودة إلى هذه العلوم الزائفة ،متصورا أنها بعث لعزتنا.ولعل ذلك هو السر في اعجابي بابن خلدون غاية ،وبابن تيمية وسطا ،وبالغزالي بداية،باعتبارهم قد أدركوا خطر الأوهام التي حصلت عن هذا القلب العجيب ،وهم ثلاثتهمأدركوا أن العلة كامنة في التأثر بالكلام والفلسفة ،السائدين في المجال الحضاري الذي أصبح أرض الإسلام دون أن يبدع فكرا يلائم رؤاه.صحيح أن السلف كانوا بمنأى عن التأثر بهذا التراث السابق على الإسلام ،وصحيح أنهم حاولوا مقاومة التأثر ،لكنهم لم يكونوا مجهزين فكريا للتصدي.فمجرد الرفض والتحريم لا يحول دون التأثير ،بل لعله يضاعفه ،والتصدي بالتجهيز الفكري المناسب لم يبدأ حقا إ ّلا مع الغزال ،ي واكتمل مع ابن خلدون.لذلك فعودتي المستمرة للغزالي وابن تيمية وابن خلدون ،ليس عودة إلى الماضي ،بل عودة إلى ما في الماضي من سبل لتجاوز ما أعاق استكمال ثورة الإسلام.فكون الغزالي نقد الفلسفة النظرية (التهافت) ،والفلسفة العملية (الفضائح) ،يمثل عندي أكبر ثورة فكرية عرفتها البشرية ،وهي صوغ صريح لثورة الإسلام. 85
ثم عمق ابن تيمية هذا النقد ،فأعاد النظر في أسس النظر ،ولم يقتصر على ما بعد الطبيعة ،بل أنهى الأبستمولوجيا القديمة بنقد نوعي التحليلات الارسطية.ثم تجاوز ابن خلدون الغزالي والفضائح ،ونقد الفلسفة العملية اليونانية ،واسس لفلسفة التاريخ الكوني وشروط الاستعمار في الأرض بقيم الخلافة.تلك هي المدرسة النقدية التي استثنيها من كلامي على فشل علوم الملة ،الذي سأحاول وصفه الآن ،والذي هو مصدر عقم الإبداع المحقق للتعمير والاستخلاف.فما العلوم الزائفة التي قتلت الإبداع بأصنافه الأربعة (الجمالي ،والجلالي ،والنظري، والعملي) لأنها قلبت فصلت 53وجعلت الغيب موضوعها بدل الشاهد؟ويمكن صوغ السؤال بصورة أوضح :ما العلوم الزائفة التي حالت دون فهم الديني في الأديان ،والفلسفي في الفلسفات ،بوصفهما ثمرة الثورة الإسلامية؟إنها العلوم الزائفة التي افسدت علاقة الأخلاق بالقانون ،والإيمان بالعلم ،أو افسدت حل القرآن لمشكل الوجدان والوجود دينيا ،والنظر والعمل فلسفيا.ففصلت 53تقول إن حقيقة القرآن يرينها الله في آيات الآفاق والأنفس ،لافي ذات الله وصفاته ،أو في اسرار البعث ،أو الأرواح ،وكلها من الغيب المحجوب.ولما كان القرآن يعرف ذاته بكونه الحق الذي أنزله الحق بالحق ،فهو بذلك قد اعتبر ذاته الدستور الذي يحدد شروط الاستعمار في الارض بقيم الاستخلاف.ولا يكون القرآن كذلك إلا إذا كان القصد بآيات الآفاق والأنفس ما يتجلى فيها من قوانين، تمكن من تحقيق شروط الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف.وذلك هو مضمون الرسالة التي تصل قطبي المعادلة نزولا ،ويقابلها مضمون الرد عليها بعلم قوانين الآفاق والأنفس لتحقيق أعمال الإنسان المكلف بهما.فيكون الديني في الأديان هو الخلقي والإيماني ،ويكون الفلسفي في الفلسفات هو القانوني والعلمي. وهذه الأبعاد الأربعة هي شروط التعمير الاستخلافي. 86
أما العلوم الزائفة ،فهي التي تجعل الأخلاق في صراع مع القانون ،والإيمان مع العلم، فتفسد الديني والفلسفي الخاتمين ،وبذلك انحطت ثورة الإسلام.وهي بالذات ،العلوم التي الغت الفرق بين الوجدان والوجود ،والتعبير عنهما ،والفرق بين النظر والعمل والعلم بهما ،فأزالت الابداعات الأربعة من أصلها.فلا يمكن تحقيق التلاؤم بين الاخلاق والقانون من دون التمييز بين الوجدان والتعبير عنه، فالأول لامتناهي ولا يقال كله ،والثاني متناه وينبغي قوله.والنسبة بينهما هي النسبة بين المثال والعين منه ،التي هي في تطور دائم ،سعيا إلىالاقتراب منه دون لمسه مثل منحنى \"اسمبتوت\" المقطوع المخروطي ،ونفس هذه النسبةتوجد بين الإيمان والعلم ،فلا يمكن للعلم المتناهي بالطبع أن يطابق الإيمان اللامتناهي بالطبع ،بنفس علاقة منحنى الاسمبتوت.والعلاقة بين المتناهي واللامتناهي في الابداعين الجمالي والجلالي أولا ،وفي الإبداعينالنظري والعملي ،هي سر الثورتين الإسلاميتين أو الحريتين ،فالإنسان المكلف والمكرم حرروحيا (علاقة مباشرة بالله :رزقه الروحي) ،وحر سياسيا (علاقة مباشرة بالشأن العام)، وهو أحد قطبي المعادلة الوجودية. والمعادلة الوجودية صيغت بها هذه العلاقة فهي مساوية لمضمون فصلت :53 -القطبان :الله يري الإنسان، -والوسطيان (الآفاق والانفس) -والوصل هو رؤية ما يرينا الله.ورؤية ما يرينا الله هي علم حقيقة القرآن والعمل بها :فيكون الوجدان والعلم مقصورين على الشاهد ،ومحجوبين عن الغيب. لكن علوم الملة عكست فانحطت.وهذه العلوم التي عكست ،هي علم الكلام والفلسفة بمعناهما الذي يلغي الغيب ،متوهماأن العلم يمكن أن يكون مطلقا ،يقاس به بعدا الروح ،الوجدان والعقل ،وهي الفقه 87
والتصوف في العمل والشرائع ،كالكلام والفلسفة في النظر والعقائد اللذين انتهيا إلى صراع الأخلاق والقانون ،بنفس الوهم الكلامي والفلسفي.وتلك موضوعات الجدل العقيم الذي أنهى كل ابداع ،ولم ينتج عنه إلا ما اشارت إليه الآية السابعة من آل عمران :زيغ القلوب وابتغاء الفتنة الدائمين.فكانت النتيجة الجامعة ،العقم الإبداعي الحائل دون تعمير الأرض بوهم الاستخلاف التعبدي ،الذي كما بينا ،يكون وهميا من دون تحقيق ما كُلف به الإنسان. 88
02 01 01 02تصميم الأسماء والبيان – المدير التنفيذي :محمد مراس المرزوقي
Search
Read the Text Version
- 1 - 14
Pages: