الفاتيكان العلماني الأسماء والبيان
أو سدنة العجل الذهبي وثورة الإسلام
ذكرت أن الدولة الحديثة تمثلها الولايات المتحدة وإسرائيل ،عينتين مكبرة ومصغرة من غاية ما وصلت اليه .وهذا يوجب أن أشرع في علاج مسألة حساسة. ما علاقة الولايات المتحدة خاصة ،والغرب عامة ،بدولة اسرائيل؟إنها \"فاتيكان دين العجل الذهبي\" بعبارة رمزية قرآنية بالنسبة إلى الغرب الحديث كله،فعلاقة الحداثة بالإسلام هي علاقة \"دين العجل الذهبي\" ،نظيرا سلبيا بالإصلاح القرآني للتحريف ،بمعنى فصل التعمير عن الاستخلاف وتقديمه عليه قيميا.وهو ما يعني أن الغرب الحديث له فاتيكانان :كاثوليكي ،وبروتستانتي .والإسلام له فاتيكان شيعي ومحاولة التحرر من الكنسية سنيا ،مع فشل تحقيق البديل.فلكأن قيم الحداثة الكونية ذات فرعين :الإسلام ومحاكاته المحرفة بالنكوص إلى الأديان، التي حاول إصلاح تحريفها بمعنى التصديق والهيمنة :البحث معقد.فهو فلسفيا بحث في علاقة القانونين الطبيعي والخلقي ،وهو دينيا علاقة بين عبادة العجل وعبادة الله ،والقرآن يعالج كلا المستويين الفلسفي والديني.فشرط فهم العلاقة بين الإسلام والحداثة ،من حيث رؤيتهما للدولة تربية وحكما ،يمر حتما بفهم تلازم بعدي الإنسان مستعمرا في الأرض ومستخلفا فيها.فإصلاح الإسلامي للدينين المنزلين بمنطق التصديق والهيمنة ،يقتضي ألا يكون الإسلام في قطيعة معهما ،بل يصدق القيم الكونية المشتركة بينه وبينهما.فدور دين العجل في الإصلاح المسيحي ،حرف الحريتين الروحية والسياسية ،فأفقدهما جل دلالتهما الإسلامية وجعلهما غطاء إيديولوجيا لعبودية العجل.ومن ثم فهي عبودية خفية ،لأنها سلطان سري وراء الواجهة التي تتزين بالحريتين، سلطانين وهميين لإخفاء السلطان الحقيقي الذي هو لسدنة العجل الذهبي. 71
ولا يمكن التصدي لسلطان العجل الذهبي الخفي من دون السيادة عليه بما يحرر منه: لذلك فكل من يقابل هذا السلطان بالأخلاق العاجزة مسهم فيه بقدر. الأخلاق القادرة هي الجواب السوي.وذلك هو المشترك بين أصحاب السلطان المستمد من العجل حصرا فيه ،وأصحاب السلطان المتجاوز له بالسلطان عليه.فمن لم يكن سيدا في مجال الاستعمار في الارض يزدادا خضوعا للعجل الذهبي ،ومن يسود بتعمير الارض يصبح له الاستعداد لتجاوز الدنيا إلى ما يعلو عليها.عبقرية الجمع بين الدنيوي والديني في الإسلام هي اعتبار الدولة العاجزة في الحماية والرعاية فاقدة لشرط الإسلام لفقدانها شرط السمو للاستخلاف.ومعنى ذلك ،أن نظرية الدولة في الإسلام تشترك مع نظرية الدولة الحديثة في ضرورة تعمير الأرض بأسباب التعمير التي لا تكون إلا ثمرة للآية 53من سورة فصلت.فتوهم الاستخلاف في الأرض من دون التعمير ،يؤدي إلى ما وصفه ابن خلدون وينتج عن التبعية :من يصبح عالة ،وتفسد فيه معاني الإنسانية ،لا يعبد الله.من يعبد من يسد حاجته وحاجة الإنسان والدول للحماية والرعاية ،فأهلها يصبحون عبيدا ،ودولتهم لا تبقى دولة ،بل تتحول إلى محمية لسيد الأرض.لا بد هنا من فهم حقيقة \"دين العجل الذهبي\" ودلالة خواره .فهما رمزان دينيان اضطررت ،لتحديد دلالتهما ،إلى وضع نظرية نوعي فاعلية الرمز في السلطة.فالعجل الذهبي يرمز لفاعلية تترجم رمزيا بالعملة ،رمز الفاعلية الاقتصادية خاصة، والخوار يرمز لفاعلية تترجم رمزيا بالكلمة ،رمز الفاعلية الثقافية.سدنة العجل وخواره يتحكمون في الإنتاج المادي (الاقتصاد)والانتاج الرمزي (الثقافة) بالسلطان على رمز الفاعلية (العملة) وفاعلية الرمز(الكلمة).كل البشرية تصبح عبيدا للواقع الاقتصادي والمخيال الثقافي اللذين هما أداتا السيطرة الخفية على جميع البشر :أي البنك ،والبورصة ،والأدب ،وهوليوود. 72
والانتاجان متوالجان :فالثقافي يتحول إلى مصدر الإنتاج الخيالي للامتناهي الزائف ،أو لإنتاج الوجود الإدماني ،والاقتصاد يلهث لسد هذه الحاجات.وفيهما ،يشعر الإنسان ،المسيّر خفية من سدنة العجل الخوّار ،ببديلين من الحرية الروحية والحرية السياسية في مسرح دمى ،بديلا من الاستخلاف وعبادة الله.والمسلمون في دولتهم الفقهية لم يكونوا دون غيرهم في الدولة الحديثة خضوعا لهذه الآلية .وهم الآن أكثر منهم خضوعا ،إذ يعبدون الحامي والراعي.فالإسلام يدرك أن خضوع الإنسان لحاجاته المادية قد يحول دونه والسمو إلى حاجاته الروحية ،لذلك جعل من شروط فروضه الدينية تجاوز الحد الأدنى منها. -فلا زكاة دون نصاب (سد حاجة سنة)، -ولا حج دون الاستطاعة ،ولا صوم دون صحة ،ولها كلفة. -ولا صلاة دون نظافة ،ولها كلفة. -والشهادة التزام بالمشروط والشرط.ومن لم يفهم هذه العلاقة لا يمكن أن يفهم قصدي من أن قيم الحداثة -جزئيا طبعا-أقرب إلى قيم القرآن من قيم دولة الفقهاء التي أهملت هذا التلازم.فكل من يتوهم أن الإنسان يمكن أن يكون خليفة من دون الاستعمار في الأرض ناجحا، يزيف قيم الإسلام ،ومن ثم فالتصوف مناف تماما لأخلاق القرآن.ولما كانت كل علوم الملة الدينية قد عكست الآية 53من سورة فصلت ،فإنها توهمت الاستخلاف غنيا عن الاستعمار في الأرض بالعمل على علم بقوانين الطبيعة والتاريخ.والخلاف مع دين العجل يتمثل في أن سدنته يحكمون الإنسان بأدنى ما فيه ،والإسلام يريد أن يحرره من أدنى ما فيه بأسباب حتى يسمو لما يتعالى عليه.فالجنس ،والاقتصاد ،والعلم ،والحكم ،والدين ،ينظمها كلها حقائق لا جدال في دورهاالحاسم .والاعتراف بها من أخلاق الإسلام التي تحرر من توظيفها .وفي دين العجل الذهبيتتحول إلى أدوات استعباد للجميع ،لأنها تجعل المرأة والمال والعلم والحكم وحتى الدين وسائل ابتزاز دائم لاستعباد البشر. 73
وإذن لا توجد جماعة من دون دين ،سواء بعبادة الله أو بعبادة العجل الذهبي :ولنسم سدنة الأول فاتيكانا دينيا ،وسدنة الثاني فاتيكانا علمانيا.ومشكل الإسلام-السني على الأقل ومن حيث المبدأ-يعتبر السدانة بمجردها مظنة التوظيف الديني ،ومن ثم ألغاها ولم يبق منها إلا خدمة الحجيج المادية.فأصبح الإسلام دينا عديم الوساطة الروحية وعديم الحق الإلهي في الحكم من حيث المبدأ. لكن الواقع شيء آخر :الموقعان الخاليان ملأهما الأدعياء.فأما خانة سدنة الدين الخالية ،فقد ملأها المتصوفة الذين يمثلون الوساطة الروحية، وفشل الفقهاء في صدهم ،بل أصابتهم العدوى حتى حاربوا ابن تيمية.وأما خانة الحكم بالحق الإلهي الخالية ،فقد ملأها منطق الغلبة أو الحق الطبيعي للقوة، فأضطر الفقهاء لإضفاء الشرعية على نظام الحكم بالتغلب.وبذلك فإن حاجة الإسلام السني لحل المشكلتين :ما البديل ،من سدنة الوساطة الروحية ومن سدنة الحكم بالحق الإلهي؟ البديل الحقيقي لا المخادع.إذا قارنت إيران وإسرائيل ،فهمت دور السدانة في الحالتين :في إيران سدانة دينية مخادعة لأن الجميع يعلم أن الحكم بيد مافية الحرس المزعوم ثوريا.وفي إسرائيل السدنة يبدون وكأنهم من اختارهم الشعب بحرية ديموقراطية ،لكن الحكم بحق هو بيد سدنة العجل الذهبي العالمي الذي خلق إسرائيل نفسها.نوعان من الخداع لحل مشكل حاجة الدولة والفرد والجماعة للسدانة العلنية أو الخفية. والمسلمون اليوم يعملون بهذا القانون مباشرة وبصورة غير مباشرة.فبصورة غير مباشرة ،هم خاضعون للسدانة في أنظمة حماتهم ،ومباشرة هؤلاء اختاروا من عملائهم سدنة يسترذلون الدين والسياسة وكل القيم الإنسانية.وبتحليل هذه الخفايا ،يبدو الإسلام وكأنه يقترح علاجا مستحيل التحقيق ،لأنه ينتهي في الغاية إما إلى هذه البدائل ،أو إن طبق فعلا ،إلى الاناركية.لكن أزمة السدانتين ،أي سلطتي الخداع في الدولة الدينية والدولة الديموقراطية ،تثبت أن ما هو في أزمة ليس منظور الإسلام ،بل ما حذر منه وألغاه. 74
وكان أفلاطون نفسه قد لجأ لنظام سدانة خفي-مجلس الليل-حتى يتمكن العقل الفلسفي من الحكم بما لا يقبل الإعلان للعامة والحاجة للكذب :حاجة الدولة.الحاجة للكذب وتجاوز القانون أو \"رايزون ديتا\" تعبير عن الازدواج بين ظاهر الحكم وتبريراته ،وبين باطنه وحقائقه ،مشكل السياسة عامة والمعرفة خاصة.فغالبا ما يكون ظاهر الأشياء غير عاكس لحقائقها ،ومن هنا شبه التقابل التام بين الإدراك العلمي والإدراك العادي أو الغفل .ويتبين من المزيج الحيوي.فأرقى مستويات ذوق اللذة الجنسية مثلا ،مرتبطة مباشرة بأكثر محال البدن قذارة ،ولا يمكن الفصل بينهما إلا بغياب الوعي بأحدهما عند سيطرة الثاني.وعندما تقرأ القرآن ،تجد أن أسمى الفضائل وعمل الخير مرتبط بأكثر الأشياء تعلقا بسلطان العجل الذهبي :فالإنفاق من الرزق من أهم قيم القرآن.والرزق ،مهما حاول الإنسان جعله حلالا ،لا يمكن أن ينفصل عن قانون الانتخاب الطبيعي أي إن تحصيله صراع دائم حتى عند التعاون عليه لعسر الترفع فيه.ومعنى ذلك أن شروط الاستعمار في الأرض تبقى دائما رهن القانون الطبيعي ،وأنها بذلك شبه منافية لشروط الاستخلاف فيه .هذه المعادلة هي لغز الإسلام.والمسلمون معرضون للتخلي عن أحدهما لعسر العلاقة :إما عن الاستعمار في الارض من أجل الاستخلاف ،أو عن الاستخلاف من اجل الاستعمار في الارض.ولما كانوا قد جربوا العلاجين في ازدهار حضارتهم وانحطاطها ،فإن الاستئناف ينبغي أن يدرك شروط الجمع بين بعدي الإنسان :التعمير بأخلاق الاستخلاف.وبهذا يتبين أن علاقة الإسلام بالحداثة مضاعفة :فهو أسس شرطيها ،أي الحريتين ،وهو وضع علاج انحرافيهما .لكن ذلك يقتضي فشل حل الوجود الإدماني.والوجود الإدماني هو الوجود الخاضع للقانون الطبيعي ،وبديل من القانون الخلقي في عالم الخيال المبدع للامتناهي الزائف .وشباب العالم بدأ يتحرر منه.ثم إن الوجود الإدماني أصبح مستحيلا :فاللامتناهي الزائف يكاد يقضي على الأرض كلها شرط بقاء البشرية .لا بد للبشرية من النساء 1والحجرات .13 75
لا أؤمن بأن التاريخ يجري اتفاقا ودون نظام خفي ،لعله أشبه بالقضاء والقدر ،ولا اعتبر صراعنا مع إسرائيل وإيران ومن وراؤهما من الصدف ،بل فيه سر.فكلاهما يمثل عودة الماضي المتقدم على الإسلام من حيث الأهداف التي يسعيان إليها (امبراطورية فارس وداود) ،وكلاهما يحرف الدين والحداثة في آن.ونحن نبدو عاجزين أمامهما ،ليس لقوتهما أو لصحة مذهبيهما ،بل لأننا لم نحدد بعد سر علاقة التلازم الصادق بين التعمير والاستخلاف بدل خداعهما فيها.الخداع :إيران مثلا ،جمعت بين ديموقراطية شكلية (رئيس الجمهورية) وكنسية ظاهرة (الولي الفقيه) ،وإسرائيل بين ديموقراطية شكلية وسدنة العجل الخفية.لكن شباب إيران بدأ يثور على خدعة الفقيه ،لأن الحكم بيد مافية الحرس ،وشباب الغرب بدأ يثور على خدعة الديموقراطية لأن الحكم بيد مافية سدنة العجل.عملية الخداع التي تزين عمل الحكم الفعلي الذي تخفيه لعبة الحكم الديني (إيران) أو الحكم الديموقراطية (إسرائيل) ،تحيط بالإسلام قبله وبعده.والإحاطة بالإسلام بما قبله وما بعده ،تمثلها إيران وإسرائيل ،والانظمة العربية توابع لهما أولمن يستتبعهما ،أي روسيا وأمريكا ،بوصفها قلب المعادلة.ولا يمكن أن يكون كل هذا من الصدف ،بل لا بد أن في الأمر سرا :وهذا السر يشبه لحظة النشأة الأولى .فقد كان العرب قلب معادلة العالم على هامشها.نبدو الآن قلب المعادلة على هامشها .لكن شروط الاستئناف بدأت تبزغ :فالربيع العربي، بخلاف ما يظن ،أصبح في كل بيت عربي من بيوت الأنظمة المعادية.علة عداوة الأنظمة :لم يعد شباب العرب من الخليج إلى المحيط يؤمن بالوساطة الروحية (ضعف سدنة الدين) ولا بالوساطة السياسية (ضعف انظمة الحكم).فحتى ما يسمى بالميل إلى الإلحاد في بلاد العرب ،فإنه ليس بحق ميلا إلى الكفر بالدين بل هو بالأساس كفر بالسدانة وسعي مباشر يطلب الصدق الروحي.فكما سبق أن بينت ،لا أعتبر الإلحاد ممكنا إلا للاحتجاج باللسان :أما الوجدان ،فهو خاضع للمعادلة الوجودية التي هي بنية الوعي الإنساني الأصلية. 76
عندما يتحرر المسلم-كما يأمر القرآن-من وساطة السدنة الروحية ومن وساطة السدنة السياسية ،فيصبح حرا روحيا وسياسيا ،حينها يصدق إيمانه للواحد الأحد.أفلس العجل الذهبي والدين المحرف وحان أوان سلطان الواحد الأحد ،فأصبح الإسلام في مرحلة الاستئناف التي لا مرد لها :عودة كونية القيم القرآنية. 77
02 01 01 02تصميم الأسماء والبيان – المدير التنفيذي :محمد مراس المرزوقي
Search
Read the Text Version
- 1 - 14
Pages: