Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore في التماثل السطحي بين عالم الشهادة وعالم الغيب - أبو يعرب المرزوقي

في التماثل السطحي بين عالم الشهادة وعالم الغيب - أبو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2020-04-11 17:52:28

Description: في التماثل السطحي بين عالم الشهادة وعالم الغيب - أبو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪re nils frahm‬‬ ‫في التماثل السطحي‬ ‫بين عالم الشهادة‬ ‫وعالم الغيب‬ ‫الأسماء والبيان‬





‫المحتويات ‪2‬‬ ‫‪ -‬الفصل الأول ‪1 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثاني ‪10 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثالث ‪19 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الرابع ‪28 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الخامس ‪40 -‬‬ ‫‪ -‬ضميمة ‪53 -‬‬

‫‪--‬‬ ‫يمكن اعتبار الأزمة التي تعيشها البشرية بسبب كورونا فرصة للكلام في ما يتجاوز الدنيا‬ ‫فيضفي عليها معنى قد يساعد على فهم ثورة الإسلام ودورها في انقاذ الإنسانية ليس من‬ ‫الفيروس الطبيعي الذي يهدد مناعتها العضوية وحدها بل من الفيروس الحضاري الذي‬ ‫يهدد حصانتها الروحية‪.‬‬ ‫فالنوع الثاني من الفيروسات هو علة النوع الأول بسبب ما يحدثه من فوضى روحية هي‬ ‫علة التلويثين المادي والثقافي في حياة البشر‪ .‬وتلك هي ثمرة كل ما يتوهمه الإنسان لنفسه‬ ‫من \"السيادة على الطبيعة وملكيتها\" بلغة ديكارت أو \"حب التأله\" بلغة ابن خلدون‪.‬‬ ‫وإذن فهذه المحاولة شبه نقاهة روحية آمل أن تفيد في تحقيق غايتين‪:‬‬ ‫‪ .1‬الأولى فهم النخب العربية خاصة والإسلامية عامة ما فقدته من وعي بأهمية الثورة‬ ‫الإسلامية التي هي ثورة كونية تحرر الإنسان من الغرق في الفاني حتى يتعالى عليه فلا‬ ‫يخلد إلى الأرض دون اهمالها لأن الإنسان مستعمر في الأرض ومستخلف فيها‪ .‬وكلاهما‬ ‫ضروري لوجود الإنسان السوي بل هما متلازمان حتى لو كان الإنسان غير واع بهما‬ ‫وبدورهما في حياته العضوية والروحية‪.‬‬ ‫‪ .2‬الثانية فهم النخب التي تحارب الإسلام ‪-‬نخب الإسلاموفوبيا سواء منا أو ممن ليسوا‬ ‫منا‪-‬أن سجن الإنسان نفسه في عالم الشهادة وتوهمه مستغنيا عما يتعالى عليه هو أصل‬ ‫النوعين من الفيروسات التي تهدد حياة الإنسان وشروط بقائه أي الفساد في الأرض وسفك‬ ‫الدماء‪.‬‬ ‫نعم يوجد ما هناك وراء ما هنا بعكس ما يزعم هيجل والتاريخ ليس الحكم النهائي‪.‬‬ ‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪1‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ولعل أكثر المسائل المحيرة في فهم علاقة العالمين‪-‬عالم الشهادة وعالم الغيب‪-‬في القرآن‬ ‫الكريم هي التي تجعل قراءته العامية مضرة بسمو رؤيتيه الخلقية المعرفية إذا لم نكتشف‬ ‫السر المفهومي الذي يتجاوز التماثل السطحي بين العالمين الدنيوي والأخروي التماثل الذي‬ ‫يعلل في الظاهر محاكمة عالم الغيب بمعايير عالم الشهادة للخلط بين الغائب والغيب‪ .‬فهذا‬ ‫الخلط بينهما هو الذي جعل علم الكلام والدعاوى الخاصة بالماورائيات أمرين ممكنين‬ ‫لأنبائهما على مفهومين كلاهما دال على مصادرة على المطلوب‪:‬‬ ‫• المفهوم الأول هو قيس الغائب على الشاهد‪ .‬وهذا ممكن إذا كان الغائب ليس من الغيب‬ ‫بل من الشاهد‪ .‬فكل علم بالمجهول فيه قيس على المعلوم إذا كان المجهول من نفس الطبيعة‪.‬‬ ‫تطبيق هذه الطريقة في الكلام على الغيب مصادرة على المطلوب لأن مجرد قيسنا إياه على‬ ‫الشاهد هو اعتباره غائبا وليس غيبا‪.‬‬ ‫• المفهوم الثاني هو تأويل ما لا يطابق ما يصل إليه العقل من الوحي لرده إليه وهو في‬ ‫الحقيقة عين المفهوم الأول من منظور آلية تحقيقه المنهجية‪.‬‬ ‫فالقيس مشروط في التأويل وهو مثله مصادرة على المطلوب لأن الوحي لو كان قابلا للرد‬ ‫إلى العقل لكان منه ولكان العقل مغنيا عنه‪ .‬ومن ثم فلا معنى للزعم أنه غيره‪.‬‬ ‫ولا يمكن زعم المفهوم الثاني ممكنا إلا بشرطين‪ :‬أولهما يجعل العلم الإنساني محيطا حتى‬ ‫تكون معرفته مطابقة لحقيقة الموجود الشاهد وغائبه ناهيك عن الغيب‪.‬‬ ‫والثاني أن عمل الإنسان تام حتى يكون تقييمه مطابقا لحقيقة المنشود الشاهد وغائبه‬ ‫ناهيك عن الغيب‪.‬‬ ‫وإذن فالشرط الضمني هو رد عالم الغيب إلى عالم الشهادة والقول بوحدة الوجود‬ ‫ووحدة العالم أي بلغة هيجل لا وجود لـ\"ماهناك وراء ما هنا\"‪.‬‬ ‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪2‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وبهذا التمهيد أصل إلى الأمر المحير الذي أريد الكلام فيه اليوم وذلك في خمسة فصول‬ ‫للكلام على أتفه حجج الملحدين الساخرين من ثنائية العالم في الرؤية القرآنية وخاصة‬ ‫مما يبدو من تناظر بينهما جعل الكثير يعتبره دالا على التأويل التعويضي للدين وحتى‬ ‫التوظيفي له بوصفه في رؤيتهم \"أفيونا للشعوب\"‪.‬‬ ‫وسأبين أن الأفيون الحقيقي هو القول بوحدة العالم والإيهام بأن الإنسان يمكن أن يكتفي‬ ‫بالموجود الذي يغني عن المنشود في حين أن هذا التلازم بينهما هو جوهر كيانه لأنه يعيش‬ ‫هذا التوتر الوجودي الدائم بوصفه مشدودا إلى ما يتعالى على كل موجود‪ .‬فيكون عين‬ ‫وجوده هو هذا التعالي الدائم عن الحاصل من كيانه عضويا وروحيا وهو \"جوع وجودي\" لا‬ ‫علاج له من دون الدين‪.‬‬ ‫والسخرية الدال على السذاجة بخلاف ما يتوهم أصحابها السخرية من التناظر بين‬ ‫العالمين في الرؤية القرآنية هو مجال التطبيق الذي انطلق منه للكلام في المسألة باعتبارها‬ ‫من أهم مميزات القرآن الكريم بالقياس إلى الكتب السماوية الأخرى‪ .‬ولهذه العلة‬ ‫يستعمل هيجل هذه الخاصية ليفسر به رؤيته لما كان علماء الكلام المسيحيين في القرون‬ ‫الوسطى يعتبرونه من أكبر حجج التبخيس من أهم ثورتين كونيتين في الإسلام‪.‬‬ ‫• الثورة الأولى هي إيلاء أهمية كبرى للجنس وللعناية بكيان الإنسان العضوي نظافة‬ ‫وغذاء ورياضة حتى إن الصلاة فيه شبه يوجا‬ ‫• والثورة الثانية اعتبار الاقتصاد ذي ا لغاية الاجتماعية من شروط العبادة لاشتراط‬ ‫اشتراط النصاب في الزكاة والاستطاعة في الحج والصحة في الصوم والنظافة في الصلاة‬ ‫وكلها بحاجة إلى تنمية مادية هي الاستعمار في الارض‪.‬‬ ‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪3‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فأصبح الإسلام وكأنه دين يقدم الدنيوي على الاخروي بل ويعير الإنسان اخرويا بأفعاله‬ ‫دنيويا‪ .‬حتى كان لوثر يعتبر القرآن عملا للعقل الإنساني من وحي الشيطان والدجال‬ ‫(ضديد المسيح) ولا علاقة له بالوحي‪ .‬ويعتبر من أكبر الادلة على رأيه في القرآن أنه‬ ‫يعتبر الجزاء الأخروي معياره اعمال الأنسان في الدنيا وليس لطفا إلهيا‪.‬‬ ‫فكان يعتبر ذلك بدعة محمدية وخبثا إنسانيا لأنه يخضع الله فيقيس حكمه على الحكم‬ ‫المطلوب من الإنسان العادل والمفهوم الذي يعبر به عن حجته هو مفهوم العدل بمقياس‬ ‫العمل الإنساني ‪ Die Werkgerechtigkeit‬وليس بمقياس اللطف الإلهي‪.‬‬ ‫وظل علم الكلام المسيحي ينفي عن الإسلام كونه دينا سماويا منزلا ولا حتى هرطقة‬ ‫منحرفة من المسيحية كما كان يرى في بداية علاقتهم بالمسلمين لأنه عقلاني إلى أقصى‬ ‫الحدود بل وشيطاني حسب لغة لوثر حتى صار يعتبر لاحقا ممثلا للتنوير‪-‬بل إن هيجل‬ ‫سماه تنوير الشرق في الفصل الثاني من الباب الرابع من فلسفة التاريخ (باب العصر‬ ‫الجرماني)‪.‬‬ ‫وما ثورة هيجل على التنوير وتغييره مفهوم العقل تمييزا بين العقل الاستريائي ‪Der‬‬ ‫‪ Verstand‬الذي لم يتجاوزه التنوير ممثلا بكنط الذي يتهمه بكون رؤاه إسلامية وحتى‬ ‫يهودية والنهى ‪ Die Vernunft‬الذي لم يتحقق إلا عنده هو بوصفه قد وجد الحل‪-‬منطق‬ ‫الجدل أو التثليث‪ -‬الذي يبين أن المسيحية هي غاية الوحي والدين الخاتم والأتم‪.‬‬ ‫وقد اعتبر هيجل رؤية الإسلام للجنة وما فيها من متع جنسية وغذائية من علامات التعبير‬ ‫عن هم دنيوي هو علة ركون المسلمين للذة الجسدية وهو علة تخلهم عامة وحيوانية ذوي‬ ‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪4‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫السلطان منهم خاصة بعد انتهاء سنوات العظمة في العهد الأول من حكم العرب (الفصل‬ ‫الثاني من الباب الرابع من فلسفة التاريخ)‪.‬‬ ‫كما أن الكلام على ما في جهنم من عذاب كان شديد الإحراج لعلماء الإسلام أنفسهم لأنه‬ ‫يكاد يحول المسألة إلى سادية لا تليق برب العزة فضلا عن موقف نفاة البعث الجسدي‬ ‫واعتبار ما ورد في الكلام على الجنة نفسها ذا دلالات رمزية ولا تعني الجنس أو الأكل‬ ‫الموصوف فيه‪.‬‬ ‫وفي الحالتين فإن الأمر محير فعلا إذا ما انطلقنا من القول بالمطابقتين المعرفية والقيمية‬ ‫فتوهمنا ما ندركه من عالم الشهادة هو الحقيقة فنقيس عليه ما يقال عن عالم الغيب ثم‬ ‫نحاكمه بما نحاكم به هذا العالم‪.‬‬ ‫وطبعا حتى لو نفينا المطابقتين كما أفعل واعتبرنا العوالم متعددة ولكل منها معاييره حتى‬ ‫وإن كان الكلام عليهما بين البشر لا يمكن أن يكون بغير ما يفهمه البشر فإن الحيرة تبقى‬ ‫ما لم نجد طريقة في فهم علاقة العالمين بما في كيان الإنسان نفسه منهما باعتبارهما وجهين‬ ‫من كيف وجوده‪.‬‬ ‫فالشيء الثابت أن وجود عالم الغيب في كيان الإنسان الذي يعيه وهو في عالم الشهادة‬ ‫يشبه وجود عالم المثل أو عالم المعاني المجردة في كيان الإنسان الذهني التي من جنسها ما‬ ‫سماه ابن تيمية بالمقدرات الذهنية النظرية وما سميته بالمقدرات الذهنية العملية أعني‬ ‫شرطي العبارة عما يمكن أن نعلمه من الطبيعة بالأولى مع التجربة العلمية الطبيعية ومن‬ ‫التاريخ بالثانية مع التجربة العملية التاريخية‪.‬‬ ‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪5‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فرضيتي هي ان وجود عالم الغيب في كيان ا لإنسان الذي يعثه وهو في عالم الغيب يشبه‬ ‫وجود عالم المثل وقد صار محايثا بمعنى أن المعاني التي كانت مفارقة صارت حالة في كيان‬ ‫الإنسان العيني والتي من جنسها ما نراه من عذاب وآلام في عالمنا الذي نعيش فيه ولكن‬ ‫بصورة خالدة ومطلقة كما يصفها القرآن عندما يتكلم على الجنة وجهنم‪.‬‬ ‫فالوجه الأول أو الوجه الموجب من الخلود هو الحياة في الجنة‪ .‬ووصفها يكاد يكون أشبه‬ ‫ما يكون بوصف الحياة بحصول كل ما يتمناه الإنسان من نعيم في الأرض لحرمانه منه‪.‬‬ ‫وهو ما قد يجعل القراءة القائلة بأنه سردية تعويضية تبدو قراءة وجيهة حتى لو احترزنا‬ ‫بالقول إنها مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على بال بشر‪.‬‬ ‫وهي من أهم الحجج التي تبدو مطابقة لاعتبار الدين \"أفيون الشعوب\" أي تخديرا من‬ ‫أجل القبول بالظلم‪ .‬وحقيقة هذه الحجج هي أنها السردية التي تبدو معقولة إذا قبلنا‬ ‫القول بالمطابقتين وبوحدة العالم لنفي وجود عالم ثان حصرا للوجود في الشاهد منه ونفي‬ ‫الغيب‪.‬‬ ‫وهذه السردية هي سردية من وضع هيجل خاصة إذا اكتفينا بالفكر الفلسفي‪.‬‬ ‫لكنها في عمقها هي السردية الصوفية المتفلسفة القائلة بوحدة الوجود سواء كان مروحنة‬ ‫كما عند الصوفية التقليدية أو في ترجمتها الهيجلية المروحنة والسبينوزية المطبعنة‪.‬‬ ‫وبخلاف ما يتوهم المتعامقون فهذا الفهم هو بدوره فهم عامي‪ .‬إنه ليس فهما دينيا ولا‬ ‫فهما فلسفيا لأنه مبني على توهم المطابقة المعرفية في النظر والعقد من حيث العلاقة‬ ‫بالحقيقة الطبيعية وعلى توهم المطابقة القيمية في العمل والشرع من حيث العلاقة مع‬ ‫التاريخ‪ .‬وكلتا المطابقتين من أوهام العامة التي توصل إلى قول التصوف بأن المستبدين‬ ‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪6‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫بالحكم هم ظل قدرة الله في الأرض وأن المستبدين بالعلم هم ظل علم الله فيها‪ :‬وهذان‬ ‫الرؤيتان هما ما يسميه ابن خلدون بـ\"حب التأله\"‪.‬‬ ‫لكن إذا تجاوزنا هذه القراءة العامية التي يظنها الكثير فلسفية وصوفية أمكننا أن نفهم‬ ‫الدلالة العميقة للفصل بين العالمين في القرآن الكريم دون أن نجزم بأن هذه الدلالة التي‬ ‫نتكلم عليها عندما ما يتجاوز الإيمان إلى الاثبات العلمي للتناقض بين القول بنفي‬ ‫المطابقتين والزعم بأن اثبات ذلك علميا أمر ممكن‪.‬‬ ‫فما الدافع العميق لما نراه يحصل في الدنيا من تحقيق المفقود الذي يصبح مطلوبا للتعويض‬ ‫ما يعني أن هذا إن صلح اعتباره دافعا لإيجاد عالم الغيب أو العالم الثاني لا يتعلق بتعويض‬ ‫عن معدوم بذاته بل عن نزعة لإعدامه علتها الخوف من انعدامه الممكن‪ .‬فيكون الدافع‬ ‫ليس التعويض في الآخرة بعالم غيبي بل علاج لمرض في الدنيا علته ليس حقيقة فعلية بل‬ ‫ما ينتجه الخوف من الندرة التي ما كانت لتوجد لولا الخوف من امكان حصولها فيصبح‬ ‫الخوف هو الذي يوجدها‪ :‬وهذا هو العامل الأساسي لوجود الاقتصاد‪.‬‬ ‫وإذن فالعالم الأخروي ‪-‬في هذه الحالة‪ -‬يكون هدفه التحرير من الخوف في العالم‬ ‫الدنيوي وليس تعويضا عن معدوم فيه لأن الندرة علتها الخوف من إمكانها وليس من‬ ‫حصولها الفعلي‪.‬‬ ‫ولنا مثلا في التلهف على تخزين الغذاء والدواء في جائحة كورونا مثال ماثل أمامنا‪.‬‬ ‫فيكون الإيمان محررا من هذا الخوف ومن ثم فهو علاج لنزعة التخزين المسبب للندرة‬ ‫وليس تعويضا عن معدوم‪ .‬فالندرة في سد الحاجات العضوية والندرة في سد الحاجات‬ ‫الروحية ليست موجودة في عالم الشهادة بل هي موجودة في خوف الإنسان من عدم كفاية‬ ‫ما فيه‪.‬‬ ‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪7‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فتكون الجنة في عالم الغيب دليلا على أن التخلص لا يكون إلا بما يمثله الإيمان بالله في‬ ‫عالم الشهادة بوصف رؤية وجهه هي المعين الذي لا ينضب فوق ما يسد الحاجتين في عالم‬ ‫الشهادة كما يسدها في عالم الغيب لو آمن الإنسان بأن الرازق هو الله فتحرر من الخوف‬ ‫من الندرة التي هو سببها بلهفته للتحرر من الخوف منها‪ .‬فإذا فهمنا الرموز الواردة في‬ ‫وصفها القرآني هذا الفهم أمكن تحديد دور الإيمان في عالم الشهادة دوره الذي لا يمكن‬ ‫تدبير السياسة وتنظيم الحكم بدونه‪.‬‬ ‫وهذا التخلص ليس بمعنى التخلص من الحرمان بل بمعنى التخلص من عبادة ما تسد به‬ ‫الحاجة في عالم الشهادة مهما بلغ وهو معنى الإنسان \"رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف\"‬ ‫الخلدونية الذي هو وجه العبادة الله التي لأجلها خلق الإنسان كما جاء في قوله جل وعلا‬ ‫\"وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدو ِن\"‪.‬‬ ‫ولو كان هذا الشعور مقصورا على المحروم الفعلي أي الفقراء وكان الأغنياء منزهين عنه‬ ‫لصدقنا أن الأمر هو للتعويض‪.‬‬ ‫لكن ذلك شعور عام نجده عند المرزوق أكثر مما نجده عند المحروم بحيث إنهما كليهما لا‬ ‫يتحرران من هذا الشعور الذي يرمز إلى خوف أعمق هو الخوف من الموت المتعين في الخوف‬ ‫من نضوب شروط الحياة الدنيوية‪.‬‬ ‫فيكون الأصل هو الخوف من الفناء أو من عدم الحياة الأبدية للإنسان‪ .‬وكان يمكن أن‬ ‫نستنتج أن وعي الإنسان بأنه فان أو مائت هو علة الوعي بالخلود الأخروي والعلة الوحيدة‬ ‫للحاجة إليه لو تأكدنا من أن معرفتنا مطابقة لحقيقة الوجود وأن تقييمنا مطابق لقيمته‪.‬‬ ‫وإذن فالجزاء الأبدي ليس تعويضا عن عدم الحضور بل هو دليل الإيمان بالحضور الأبدي‬ ‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪8‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لما ي يمكن للإيمان به أن يزيل الخوف على نضوب شروط البقاء أو الخوف من الفناء‪ .‬كل‬ ‫المشكل هو إذن رهن وهم القول بالمطابقتين‪.‬‬ ‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪9‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لو تخلى الإنسان عن وهم العلم المحيط والعمل التام واعترف بأن علمه وتقييمه شديدا‬ ‫النسبية لما وقع في هذا الخوف الدائم من المجهول الذي يدعي أنه معلوم فيطلق عالم‬ ‫الشهادة ويستمد منه معيار الحكم الحاسم كما في فلسفة هيجل وماركس وفي تصوف كل‬ ‫القائلين بوحدة الوجود سواء كانت طبعانية (سبينوزا) أو روحانية (هيجل)‪.‬‬ ‫وبذلك نفهم التناظر بين مفهوم الخلود في الجنة والخلود في النار بوصفهما مفهومين‪:‬‬ ‫أحدهما يعبر عن حال من تحرر من هذا الخوف‪.‬‬ ‫والثاني يعبر عن حال الغارق فيه‪ .‬وكلاهما يعيش حاله في دنياه وفي أخراه‪.‬‬ ‫فعندنا جزاء أبدي سلبي هو الغياب الأبدي لما كان يخشى نضوبه في حياته الدنيا (جهنم)‬ ‫مناظر لجزاء أبدي إيجابي هو الحضور الأبدي (جنة) لما كان الإنسان يخاف نضوبه في حياته‬ ‫الدنيا‪:‬‬ ‫‪ .1‬حضور ما يرمز إلى \"المائدة\" أو شروط البقاء العضوي للفرد دون خوف من‬ ‫النضوب‪.‬‬ ‫‪ .2‬حضور ما يرمز إلى \"السرير\" أو شروط البقاء العضوي للنوع دون خوف من‬ ‫النضوب‪.‬‬ ‫‪ .3‬حضور ما يرمز إلى \"فن المائدة\" شرط السلطان المستمد من البقاء الروحي للفرد‬ ‫المتبادل‪.‬‬ ‫‪ .4‬حضور ما يرمز إلى \"فن السرير\" شرط السلطان المستمد من بقاء الجماعة‬ ‫المتواصلة الروحي‪.‬‬ ‫‪ .5‬حضور المؤثر الفعلي ورمزه رؤية وجه الله أي مصدر المدد المغني عن الخوف من‬ ‫النضوب‪.‬‬ ‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪10‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ومن ثم فالخلود يحصل لأن ما كان علة الخوف من فقدان شروطه انتهى إذ إن كل شيء‬ ‫موجود بلا حد ومعينه الذي لا ينضب حاضر‪ .‬والإيمان الصادق هو الإيمان بأن الله حاضر‬ ‫معنا في عالم الشهادة حضورا يحررنا من الخوف من النضوب والفناء‪.‬‬ ‫وهو يرانا ولا نراه لكأننا في الآخرة نراه كما يرانا عندما يصبح البصر حديدا (كما‬ ‫يصف القرآن ذلك)‪ :‬أي إن الإنسان يصبح مدركا للغيب معرفة وقيمة‪.‬‬ ‫وقد يكون كتاب المحاسبي في \"التوهم\" من الحدوس الدقيقة التي أدركت هذا المعنى وإن‬ ‫لم تفسره التفسير الذي يبدو لي وجيها‪ .‬فالمعنى العميق فيه هو أن الإنسان يصبح له ما‬ ‫يشبه قدرة \"كن\"‪.‬‬ ‫وفي المقابل فإن جهنم هي الخلود في هذا الخوف الذي انتقل من كونه خوفا من الممكن في‬ ‫الدنيا إلى صيرورته خوفا من الحاصل الفعلي في الآخرة‪.‬‬ ‫وهو النار التي لا تنطفئ والتي يمكن أن تكون خالدة‪.‬‬ ‫فالخالد في الغاية هو حال النفس المطمئنة في العالمين عالم الشهادة وعالم الغيب وحال‬ ‫النفس الفاقدة للاطمئنان فيهما‪ .‬ولا علاقة للأمر بالفقر والغنى لأننا بينا أن الأغنياء أشد‬ ‫خوفا من الفقراء مهما تراكمت ثروتهم لأنهم أقل إيمانا‪.‬‬ ‫لذلك فجنهم هي الخلود في هذه الحالة الروحية من عدم الاطمئنان لحضور الخوف‬ ‫الدائم من غياب ما رمزنا إليه بحضوره في الجنة‪:‬‬ ‫غياب المائدة بإطلاق الجوع العضوي الدائم‪.‬‬ ‫‪.1‬‬ ‫غياب السرير بإطلاق الجوع الجنسي الدائم‪.‬‬ ‫‪.2‬‬ ‫غياب فن المائدة بإطلاق أو الشعور بكل ضار يتبع الغذاء مع عدمه‪.‬‬ ‫‪.3‬‬ ‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪11‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪.4‬‬ ‫‪.5‬‬ ‫غياب فن السرير بإطلاق أو الشعوب بكل ضار يتبع الجنس مع عدمه‪.‬‬ ‫غياب رؤية وجه الله أي مصدر الخلود وشروط اللذين لا ينضبان‪.‬‬ ‫ويترتب على ذلك تناظر متعاكس بين الجنة والنار وبين عالم الشهادة وعالم الغيب‪.‬‬ ‫والتناظر ليس بين ما يظن من الأمور الموصوفة بل في ما يترتب على الإيمان من اطمئنان في‬ ‫العالمين وفي ما يترتب على عدمه من عدم الاطمئنان في العالمين‪ .‬كل ما في الأمر هو أن‬ ‫الاطمئنان وعدمه كانا حالا ظرفية في عالم الشهادة وصارا حالا خالدة في عالم الغيب بعد‬ ‫أن صار عالم شهادة بالبعث‪.‬‬ ‫ومعنى ذلك أن فكرة التعويض الخرافي للمحرومين سخيفة‪ .‬لأن المترفين أيضا لا يتحقق‬ ‫لهم الاطمئنان بما يحصلون عليه مهما تراكم كمه وتجود كيفه في عالم الشهادة بمقتضى ما‬ ‫يشبه مفهوم \"الجرب\" عند افلاطون او مفهوم \"اللامتناهي الزائف\" عند هيجل‪:‬‬ ‫‪ .1‬التناظر بين محدودية الكمال وإطلاقية النقص‪ :‬مصارعة الفناء لا تنتصر على‬ ‫الموت في علاقة بالطبيعة‪.‬‬ ‫‪ .2‬التناظر بين محدودية الكمال وإطلاقية النقص‪ :‬مصارعة الفناء لا تنتصر على‬ ‫الموت في علاقة بالحياة‪.‬‬ ‫‪ .3‬أن يكون معنى الجنة حضور الكمال دون نقص هو المعنى الذي يمكن أن يفهمنا‬ ‫استحالة رضا الإنسان بعالم الشهادة وحده‪.‬‬ ‫وهذه الحال فطرية وهي مما يذكر به القرآن لأن \"حب التأله\" أو الطغيان المعرفي واليمي‬ ‫ينسي الإنسان هذه الحال‪.‬‬ ‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪12‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫مثال ذلك أن نسيان الموت من العلل الرئيسية لكل تجبر وكل طغيان معرفي أو قيمي‬ ‫وخاصة عند طغاة الحكام‪.‬‬ ‫والحكم على هذا الرفض بكونه معبرا عن حقيقة فعلية أو عن \"وهم\" إنساني مرده إلى‬ ‫حسم ما لا يقبل الحسم‪.‬‬ ‫فمن يقول بالمطابقتين المعرفية والقيمية ‪-‬رغم العلم باستحالتهما‪-‬يعتبره وهما لأنه‬ ‫يتصور علمه وعمله مطلقين فيقو بما يقول به هيجل‪ :‬لا يوجد \"ما \"هناك وراء ما هنا\" وأن‬ ‫التاريخ هو الحكم النهائي ولا وجود لحياة الآخرة‪.‬‬ ‫لكن لما كان كلامه على المطابقة هو الوهم بعينه لأنه لا يوجد عاقل يمكن أن يصدق أن‬ ‫علمه محيط وأن الوجود يرد إلى ما ندركه منه أو أن عمله تام وأنه لا يوجد منشود‬ ‫يتجاوزه فإن قول هيجل بالمطابقة بين \"العقل\" و\"الواقع\" من أكبر أوهامه وعلة تحويل‬ ‫الفلسفة والدين إلى إيديولوجيا حمقاء تجعل الـأمر الواقع أمرا وجبا‪ .‬ورؤية ماركس‬ ‫أضعف من رؤية هيجل ولا تحتاج لمزيد رد‪.‬‬ ‫‪ .4‬أن يكون معنى جهنم حضور النقص المطلق والخالد دون كمال يكفي لفهمه قراءة‬ ‫الحوار الذي يجري أحيانا بين سكان الجنة وسكان النار في القرآن الكريم‪ .‬فهو يصفهما‬ ‫بمطالب الثانين من الأولين وردود هؤلاء على أولئك وتتعلق خاصة بالماء والغذاء اللذين‬ ‫هما رمز الحياة‪ .‬كما أن كلام القرآن على الغذاء والماء في جهنم بين‪ .‬والمهن هو عدم‬ ‫النضوب ووصف المحيط الطبيعي والروحي بالكمال وعدم النضوب‪.‬‬ ‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪13‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ولا كلام على الجنس لأنه مقصور على الجنة وكأن جهنم ليس فيها نساء أصلا‪ .‬والكلام‬ ‫عليه كان سيفيد اللذة القصوى في المنظور القرآني وهي اللذة التي لا يعلو عليها غير لذة‬ ‫رؤية وجه الله أي علة الخلود وعدم النضوب المشعر بالنقص وعلة الخوف من الفناء‪.‬‬ ‫‪ .5‬أن يبقى التناظران كلاهما ممكن دون دليل على الموجب ولا على السالب‪ .‬فمعنى‬ ‫رؤية وجه الله وعدم رؤيته هي المجهول المطلق في هذا التناظر وإن كان المعنى الناتج عن‬ ‫التناظرين هو حضور الوجود المطلق في الموجب بالنسبة إلى الجنة ورمزه الاستمتاع المطلق‬ ‫وحضور العدم المطلق في السالب بالنسبة إلى جهنم ورمزه العذاب المطلق‪.‬‬ ‫ولا يمكن أن نجزم اثباتا أو نفيا بخصوص حقيقة هذه الرؤية او عدم حقيقتها إلا إذا‬ ‫قلنا بالمطابقتين‪ .‬وقد بينت أنه لا يوجد عاقل مهما تدني مستواه العقلي يمكن أن يقول‬ ‫بالمطابقتين‪.‬‬ ‫ومن ثم فالحسم يصبح مسألة قرار خلقي هو جوهر حرية الإنسان وهي جوهر القدرة‬ ‫على \"التوجيه\" بالمعنى الوجودي للكلمة ويستعمل في منطق الجهات لكنه وجودي الطبيعة‪.‬‬ ‫فهو الذي يقرر التمييز بين الممكن والواجب والممتنع في الموجود والمنشود‪ .‬وتلك هي‬ ‫حقيقة الفرق بين الضرورة الطبيعية والحرية الخلقية‪ .‬وكلتاهما شرطية كما بينت في بحوث‬ ‫سابقة‪ .‬والنكوص الهيجلي والماركسي هو العودة إلى ما قبل العلاج الكنطي الذي يجعل‬ ‫التمييز بين الظاهرات والباطنات (العقليات) شرطا في فهم قابلة الإنسان للاستثناء من‬ ‫الضرورة الطبيعة التي من دونها لا يمكن تأسيس المعرفة العلمية‪.‬‬ ‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪14‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫والاستثناء شرط في تأسيس القيم الخلقية وأولها الحرية الإنسانية‪ .‬ومن هنا جاءت‬ ‫مسلمات كنط الثلاث الصريحة التي من دونها يستحيل استثناء الإنسان من قانون الطبيعة‬ ‫بالمعنى السبينوزي‪.‬‬ ‫والمسلمات الثلاث يترتب عليها مسلمتان ضمنيتان تعطيان للمسلمات دلالة دينية ولا‬ ‫تقتصر على الدلالة الفلسفية التي تعالج المشكل الأبستمولوجي في التمييز بين الطبيعي‬ ‫والإنساني من موضوعات المعرفة الإنسانية‪:‬‬ ‫المسلمات الكنطية الثلاث الصريحة‪:‬‬ ‫‪ .1‬أن الإنسان حر‬ ‫‪ .2‬أن الإنسان نفسه خالدة‬ ‫‪ .3‬أن الله موجود‪.‬‬ ‫المسلمتان الضمنيتان المترتبان على مسلمات كنط‪:‬‬ ‫‪ .4‬فمن المسلمة الثانية ينتج وجود آخرة لأن خلود الإنسان منفي في الدنيا‪.‬‬ ‫‪ .5‬ومن الثالثة ينتج أنه وجود حساب يوم الدين لأن العدل التام معدوم في الدنيا‪.‬‬ ‫إن أهم قضية تقض مضجع من يقرأ القرآن ‪-‬بعد وضع قضية الإيمان بكونه منزلا أو‬ ‫الإيمان بكونه غير منزل بين قوسين‪ -‬ليس لأنه القرآن أو لأنه كتاب الإسلام بل هي قضية‬ ‫تشمل كل كتاب يعتبره أصحابه منزلا وكلاما إلهيا بالمعنى غير الاستعاري للكلمة أي بكونه‬ ‫كلام الله مباشرة وليس ترجمة لما عاشه قائله بوصفه قد أوحي إليه هو ما في بعدي هذا‬ ‫التناظر من سؤال عميق يمكن صوغه كالتالي‪:‬‬ ‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪15‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .1‬هل سياسة عالم الغيب أو الأخرى بوعدها ووعيدها كما يقصها القرآن هي نموذج‬ ‫لسياسة عالم الشهادة أو الدنيا موجود فعلا فتكون سياسة عالم الشهادة والدنيا هي امتحان‬ ‫أهلية الإنسان للاستخلاف ووعد سياسة عالم الغيب ووعيدها؟‬ ‫‪ .2‬أم هي من نوع المقدرات الذهنية العملية تؤدي في نظام عالم الحرية والتاريخ‬ ‫الدور الذي تؤديه المقدرات الذهنية النظرية في نظام عالم الضرورة والطبيعة فنقع في‬ ‫الرؤية الهيجلية التي تنفي أن يكون وراء هذا العالم الذي نعيش فيه عالم يتعالى عليه‬ ‫وتؤكد أنه لا يوجد إلا عالم وحيد‪.‬‬ ‫والجواب عن هذا السؤال هو مشكل الإنسانية الحالي‪ .‬إنه الجواب المحدد لمستقبلها‪.‬‬ ‫ولذلك فالرهان لا يمكن ألا يكون رهان العالم كله مع الإسلام الذي يعرف نفسه بكونه‬ ‫رسالة كونية للإنسانية كلها في علاقتها بالعالم باعتبار الإنسان مستعمرا في الدنيا ومستخلفا‬ ‫فيها‪.‬‬ ‫وطبعا لو كنت في مستوى الإيمان لا أسلم بالحل الإسلامي والقرآني لما كتبت حرفا في دحض‬ ‫نظرية المعرفة القائلة بالمطابقة ‪-‬التي كانت سائدة قبل فكر المسلمين الفلسفي والكلامي‬ ‫(افلاطون وأرسطو) والتي عادت لتسود في عصر تصوروه بعده (هيجل وماركس وما انتهت‬ ‫إليها الأولى في فوضى علم الكلام في الله والثانية في فوضى ما بعد الحداثة التي هي عودة‬ ‫إلى علم كلام في الإنسان‪-‬ودحض نظرية القيمة القائلة بالمطابقة ولكنت هيجليا بل‬ ‫وماركسيا‪.‬‬ ‫ولهذه العلة فإن ما يجعلني اعتبر إيماني ليس عقديا بمعنى التسليم العجائزي بل هو‬ ‫مبني على اللاأدرية المعرفية والقيمة الناتجة عن اليقين بأن المطابقتين مستحيلتان على‬ ‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪16‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الإنسان‪ .‬ومن ثم فالخيار بين الإيمان وعدمه هو جوهر الحرية وجوهر تبين الرشد من‬ ‫الغي الذي هو في النهاية توفيق وهداية إلهية‪ .‬ذلك أن نفي المطابقتين الثابت يجعل القول‬ ‫بوحدة العالم عديم الأساس فلا يزيل إمكان وجود عالم فوقه يكون هو أحد علاماته دون‬ ‫أن ينحصر فيه‪.‬‬ ‫وهذه هي حال الحرية المطلقة التي تجعل غلبة المجهول على المعلوم في النظر وغلبة‬ ‫المجهول على المعلوم في العمل هما حقيقة منزلة الإنسان التي هي كونه حرا في اختيار عقده‬ ‫حتى بالنسبة إلى ذاته وإلى حقيقة ما يدركه بحواسه بالمقابل مع ما يتخيله بخياله‪.‬‬ ‫نحن الآن أمام المنزلة الوجودية للمقدرات الذهنية سواء كانت نظرية مثل الحقائق‬ ‫الرياضية التي لا يمكن أن يكون أي شيء منها قابلا للحس أو حتى لتحديد طبيعة وجودها‬ ‫عقليا أو عملية مثل القيم الخلقية التي لا يمكن أن يكون أي شيء منها قابلا للحس أو حتى‬ ‫لتحديد طبيعة وجودها عقليا‪.‬‬ ‫ومعنى ذلك أننا نتعامل مع أشياء لا نستطيع تحديد طبيعتها لكننا من دونها لا نستطيع‬ ‫أن نعلم الطبيعة من دونها تصويرا لما ندركه بحواسنا الخارجية بما فيها كياننا العضوي أو‬ ‫أن نعلم التاريخ من دونها تصوريا لما ندركه بحواسنا الباطنية بما فيها كياننا الروحي أي‬ ‫وعينا بذاتنا‪.‬‬ ‫فإذا وصلت ذلك بتعريف القرآن نفسه بكونه تذكيرا بأمر منسي مرسوم في الفطرة وليس‬ ‫تعليما لشيء مجهول سيكتسب أصبح من الواجب التساؤل عن هذا المذكر به ما طبيعته‪ .‬لما‬ ‫بحثت في القرآن وجدته‪.‬‬ ‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪17‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫يحدد الأول بكونه ما به تم الخلق بمعنى أن الطبيعة خلقت بقوانين الرياضيات التي‬ ‫نعلمها بوصفها تقديرات ذهنية نظرية تطبق على التجارب العلمية في الطبيعة لنعلم ما‬ ‫نعتبره قوانين الطبيعة (كل شيء خلقانه بقدر)‪.‬‬ ‫ويحدد الثاني بكونه ما به يتم الأمر بمعنى أن التاريخ يجري بسنن لا تتغير ولا تتبدل‬ ‫والتي نعلمها بوصفها تقديرات ذهنية عملية تطبق على التجارب السياسية في التاريخ‪.‬‬ ‫وقد يتصور البعض أني بهذا أزعم أن القرآن يتضمن اعجازا علميا‪ .‬وقد كتبت الكثير‬ ‫لدحض هذه الرؤية لأنها لأن أصحابها يخلطون بين العلم وشرطه دقة التحديد وبين‬ ‫المعاني العامة التي تقبل تأويلات لا يحد منها التحديد الدقيق‪ .‬فمن يتصور أن تأويل كلمة‬ ‫جاذبية مثلا فيها دلالة نظرية الجاذبية عندي مجنون‪.‬‬ ‫نظرية الجاذبية قانون علمي كلمة جاذبية مفهوم عامي قد ينطبق أول شيء على‬ ‫الجاذبية الجنسية‪.‬‬ ‫وكل معاني القرآن التي يتأولها ادعياء الاعجاز العلمي هي من جنس كلمة جاذبية وليست‬ ‫من جنس نظرية الجاذبية‪.‬‬ ‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪18‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫أعتبر خياري تصديق ما جاء في القرآن الكريم ليس عريا عن الدليل حتى إن كان في‬ ‫الغاية يستند إلى الإيمان لأن العلم هو بدوره غايته الاعتقاد في أنه بلغ إلى ما يتصوره‬ ‫الحقيقة بالقدر الممكن للإنسان‪.‬‬ ‫لذلك وصلت بين النظر والعقد‪ .‬وكل من له دراية بالفينومنولوجيا يعلم أن موقف رفع‬ ‫الحكم خلال البحث غايته التحرر من العقد الغافل للوصول إلى العقد الواعي‪ .‬والفرق‬ ‫بينهما هو شرط البحث العلمي في أي مجال‪.‬‬ ‫وكان أرسطو يقابل بين التعجب السابق عن معرفة العلة وهو العمل الغافل عن العلة‬ ‫والتعجب التالي عنها والعلم الذي اكتشف العلة‪ :‬ويضرب مثال التعجب من وجود الأعداد‬ ‫الصماء‪.‬‬ ‫وإذن فالمعرفة تبدأ بعقد غافل عن حجته وتنتهي إلى عقد واع بحجته‪.‬‬ ‫والحجة التي أبني عليها كلامي في المسائل التي لها صلة بالتحرر من الموقفين الفلسفيين‬ ‫اللذين أضرا بعلوم الملة الغائية الخمسة أعني موقف المطابقة في نظرية المعرفة والنظر‬ ‫وموقف المطابقة في نظرية القيمة تكررا مرتين‪:‬‬ ‫• الأولى ورثها فكرنا القديم عن أفلاطون نسبيا وأرسطو بإطلاق‪.‬‬ ‫• والثانية ورثها فكرنا الحديث عن هيجل نسبيا وماركس بإطلاق‪.‬‬ ‫لذلك فالأدلة التي اعتمدها ليست من الأدلة الكلامية بل هي على النقيض منها‪ .‬فهي‬ ‫مستمدة من استحالة المطابقتين أي استحالة العلم المحيط واستحالة العمل التام استحالتهما‬ ‫التي تحول دون نفي إمكانية تعدد العوالم ونفي القول بالمطابقتين سواء في شكلهما القديم‬ ‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪19‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫عند أفلاطون نسبيا وأرسطو بإطلاق أو في شكلهما الحديث عند هيجل نسبيا وماركس‬ ‫بإطلاق‪.‬‬ ‫ومعنى ذلك أن العلم نفسه هو الذي ينفي هذه الامكانية بل ويستمد قوته من هذا‬ ‫النفي‪ .‬فلا يوجد عالم اليوم يستطيع الزعم بجد أن علم الإنسان محيط أو عمله تام‪.‬‬ ‫وإذن فليس تصديقي بما في القرآن حول العالمين عالم الشهادة وعالم الغيب من جنس‬ ‫إيمان العجائز أو الإيمان الموروث‪.‬‬ ‫ومن يتصور الأديان من أساطير الأولين فهو الغارق في اساطير الآخرين‪.‬‬ ‫كما أن استدلالي ليس من جنس الرد على الملحدين لأن كل الردود عليهما مبينة على‬ ‫القول بالعلم المحيط والعمل التام وإن في الاتجاه المقابل‪ .‬رؤيتي موجبه رغم أنها شبيهة‬ ‫باللاأدرية التي تجعل الإيمان تفضيل اختياري لترجيح أكثر وجاهة من الترجيع الذي يلجأ‬ ‫إليها الملحدون‪.‬‬ ‫فالموقف اللاأدري عندما يتعلق الأمر بالماروئيات موقف قرآني لكون الحسم فيها متعال‬ ‫على المعرفة ونظرية القيمة الممكنتين للإنسان واللتين ليستا محيطيتين‪ .‬وهو علميا ضروري‬ ‫حتى في الدنيويات لأنه لا يوجد شيء يخلو من الغيب أو على الاقل مما ليس معلوما أو حتى‬ ‫مما لا يقبل الحسم فيه بعلم يقيني‪.‬‬ ‫وقد بنـى القرآن عليهما الارجاء في الحسم بين الأديان المتعددة من حيث هي أمر واقع‬ ‫في عالم الشهادة (البقرة ‪ 62‬والمائدة ‪ 69‬وحتى الحج ‪ )17‬رغم قوله بأنها واحدة بالجوهر‬ ‫عند الله لكن ذلك لن يحسم لإزالة ما اختلف فيه إلا في عالم الغيب‪ .‬وهذا الدين الواحد‬ ‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪20‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الذي يطلب منا القرآن الإيمان بأنه الإسلام باعتباره الديني في كل دين لن نعلم ما فيه من‬ ‫ماورائيات بيقين إلا يوم الدين‪.‬‬ ‫وذلك هو مفهوم الغيب الذي تتعلق به الآيات المتشابهة التي تأويلها يفيد زيغ القلوب‬ ‫وابتغاء الفتن والذي أمرنا بأن نؤمن به‪:‬‬ ‫‪ .1‬اللاأدرية المعرفية في الماورائيات هي التي تجعل العلم الإنساني اجتهاديا دائما‬ ‫لأنه غير محيط حتى بعالم الشهادة الذي لا يخلو من الغيب ناهيك عن عالم الغيب الذي‬ ‫لا نشهد إلا ثمراته‪.‬‬ ‫‪ .2‬اللاأدرية القيمية في الماورائيات هي التي تجعل العمل الإنساني جهاديا دائما لأنه‬ ‫غير محيط فلا يعلم أن ما قد يظنه شرا خير وما يظنه خيرا شر بسبب عدم خلوه من الغيب‬ ‫الذي لا نشهد إلا ثمراته‪.‬‬ ‫‪ .3‬والإنسان في الحالتين لا يدري هل هو يحقق ما يرضي الله بعلمه وعمله أو لم‬ ‫يحققه فيبقى دائما متواضعا في حكمه على علمه وعمله فلا يحسب أنه قد أثبت أهليته‬ ‫للاستخلاف فضلا عن التأله‪.‬‬ ‫‪ .4‬ومن ثم فسلوك الإنسان مع غيره ومع نفسه ينبغي أن يكون دائما محكوما بهذا‬ ‫التواضع الذي يحرره من الحكم القاطع معرفيا وقيميا على الغير خيرا أو شرا بل يعتبر‬ ‫عمله وعمله لا يعلم حقيقتهما إلا الله‪.‬‬ ‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪21‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .5‬وأخيرا فذلك هو معنى كونه مسلما بمعنى أنه يسلم أمره لربه دون أن يطغى أو‬ ‫يتجبر فيعامل الناس والاشياء بقيم الإسلام دون وحشية أو تكبر‪ :‬إنه إتمام مكارم الأخلاق‬ ‫وتمام الدين في القرآن‬ ‫لكن أهمية هذه اللاأدرية هي أنها شديدة الإيجابية‪ .‬فهي علة رد المعرفة والنظر إلى‬ ‫الاجتهاد الذي يثاب عليه الإنسان سواء أصاب أو أخطأ إلى حد ارجاء الحسم في ما تختلف‬ ‫فيه الأديان كما أسلفت بل وحتى الشرك فقد اعتبر من بينها (الحج ‪.)17‬‬ ‫وهي علة رد القيمة والعمل إلى الجهاد الخلقي الذي يثاب عليه الإنسان سواء أصاب أو‬ ‫أخطأ إلى حد رهن الحكم على النية والقصد وليس على النتيجة إذا توفرت شروط الأهلية‬ ‫والكفاءة‪.‬‬ ‫ولما كان الحسم في الاختلاف بين أهل الأديان مرجأ فمن باب أولى أن يكون مرجأ بين‬ ‫المرء ونفسه في الامتحان الدائم للإيمان إذا كان صادقا في التجربة الروحية التي هي جوهر‬ ‫حياة الوعي بمنزلته من حيث هو خليفة يطلب حال النفس المطمئنة‪ .‬والمعلوم أنه لا‬ ‫اطمئنان من دون اليقين‪ .‬واليقين ليس مسالة استدلال بل هو فوق الاستدلال الذي قد لا‬ ‫يوصل إليه بل يحول دونه‪.‬‬ ‫ويبقى الإشكال الجوهري في هذه المحاولة هو ما سعيت إلى بيانه من صلة بين معان قرآنية‬ ‫كانت غامضة ويحتج بها علماؤنا دون تحديد دقيق يساعد على جعلها حججا وجيهة وليست‬ ‫مهارب كلامية‪.‬‬ ‫والصلة التي أعنيها تتعلق بما انتهيت إليه في البحث عن طبيعة المعاني الكلية التي سماها‬ ‫ابن تيمية المقدرات الذهنية النظرية (الرياضيات ومنطق النظر) والتي قست عليها ما‬ ‫سميته المقدرات الذهنية العملية (الأخلاقيات ومنطق العمل)‪.‬‬ ‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪22‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وأغرب ما عجبت له في رؤية ابن تيمية نفيه للكلية والبرهانية في غير المقدرات الذهنية‬ ‫والمعاني الدينية ما يفيد وإن لم يقل ذلك صراحة أنه يعتبر هذه الأـخيرة من جنس تلك‬ ‫الأولى‪.‬‬ ‫وقد حاولت وصلهما بمفهومين مترابطين هما مفهوم التذكير ومفهوم الفطرة‪.‬‬ ‫فلا تذكير إلا بما كان معلوما ثم نسي‪.‬‬ ‫وما كان معلوما دون تعليم سابق في البدء لا يمكن ألا يكون ما رمز إليه القرآن بتعليم آدم‬ ‫الأسماء كلها وإذن بما فطره الله عليه‪.‬‬ ‫وهذه المعاني الكلية هي إذن المعاني الدينية التي جهز بها الإنسان ليكون قادرا على‬ ‫العلم وعلى العمل أي على ما بفضله يمكن أن يحقق مهمتيه اللتين هما الاستعمار في الأرض‬ ‫والاستخلاف فيها‪ .‬وهذه المعاني الدينية الكلية التي يطلب منا الإيمان بها ويكتفي القرآن‬ ‫بالتذكير بها لأنها مرسومة في ما فطرنا عليه والتي من دونها لا يمكن أن يحقق الإنسان‬ ‫مهمتيه ليست مما يتعين في الأعيان بل هي مما تعمل به الأذهان وما لا يمكن إدراكه‬ ‫بالحواس‪.‬‬ ‫وذلك هو معنى المقدرات الذهنية النظرية المشروطة في كل معرفة علمية والمقدرات‬ ‫الذهنية العملية المشروطة في كل عمل خلقي‪.‬‬ ‫وكلا النوعين من المقدرات الذهنية مرسومة في ما فطر عليه الإنسان أعني أن ما تذكر‬ ‫به الرسالة هو أن الفكر الإنساني لا يمكن أن يفكر إلا بالمعاني الرياضية ومنطق النظر‬ ‫وأن الإرادة الإنسانية لا يمكن أن تعمل إلا بالمعاني القيمية ومنطق العمل‪.‬‬ ‫وهذه المعاني الأربعة تنمو بنمو الإنسان فردا وجماعة وتحققه المتدرج فردا وجماعة‬ ‫جزئية (الأمم المختلفة) وكلية (أي الإنسانية كلها)‪.‬‬ ‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪23‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وهي تجهيز الإنسان الفطري الذي تذكر الرسالة الإنسان به‪.‬‬ ‫وهو تجهيز لا يمكن أن يكون كافيا إذا لم تكن في علاقة تناغم مع ما في الطبيعة والتاريخ‬ ‫من قابلية لكشف أسرارهما للإنسان بفضل ما توفره له من قدرة على فهم قوانين الأولى‬ ‫وسنن الثاني‪.‬‬ ‫فالإنسان من دون علم ومن دون عمل لا يمكنه أن يعمر الأرض وينظم التاريخ‪.‬‬ ‫فمن دون معرفة طبيعة قوانين الطبيعة وسنن التاريخ ومن دون عمله بهما لا يمكن‬ ‫للإنسان أن يعمر الأرض أو أن يستخلف فيها‪.‬‬ ‫وإذن فالتذكير القرآني لا يتعلق بالعلوم والاعمال العينية حتى يتكلم العلماء على‬ ‫الأعجاز العلمي بل هو تذكير بالمبادئ العامة التي يتكون منها جهاز الإنسان المعرفي والقيمي‬ ‫حتى يتمكن من كشف القوانين والسنن التي لا تعلم إلى عينيا خلال التجربة الطبيعية‬ ‫والتاريخية ولا يمكن أن توجد في نص القرآن‪.‬‬ ‫ولذلك فالقرآن ينبهنا بأن حقيقته لا تعلم إلا عندما يرى الانسان الآيات التي يريه الله‬ ‫إياها في الآفاق وفي الأنفس (فصلت ‪ )53‬أي في الطبيعة وفي التاريخ وفي أنفس البشر التي‬ ‫هي مؤلفة من الطبيعي عضويا ومن التاريخي روحيا‪.‬‬ ‫والمشكل ليس في كون هذه المعاني الكلية التي سياها ابن تيمية مقدرات ذهنية نظرية‬ ‫وحصر العلم البرهاني فيها والمقدرات الذهنية العملية التي قستها عليها وحصرت العمل‬ ‫التام فيها ليس في كونها موجودة في الأذهان فحسب بل في كونها موجودة خارج الأذهان‬ ‫وخارج عالم الشهادة أيضا‪.‬‬ ‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪24‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫أي إنها أربعتها ‪-‬الرياضيات ومنطق النظر والأخلاقيات ومنطق العمل وطبيعة قوانين‬ ‫الطبيعة وطبيعة سنن التاريخ ‪-‬ما تذكر به الرسالة بالإشارة إلى مظانه التي ينبغي البحث‬ ‫فيها لمعرفتها بتلك المبادئ مطبقة على التجربة في العلاقة بالطبيعة وبالتاريخ كلها من عالم‬ ‫آخر ليس للإنسان منه إلا كونها تمثل صلة الوصل بين عالم الشهادة وعالم الغيب‪.‬‬ ‫وإذن فالإيمان لا يتعلق بوجودها في الأذهان بل بوجودها في أعيان متعالية وجودا يعلل‬ ‫كونها مشروطة في علم الاعيان الشاهدة وفي قيمها حتى وإن لم تكن حاصلة في علمنا بل إن‬ ‫دورها في العالم الشاهد ماثل في الأعيان المحسوسة التي ندركها ونكتشف ما فيها من قوانين‬ ‫وسنن بالتدريج‪ .‬فكيف يمكن للإنسان أن يقدر ذهنيا كائنات لا وجود لها في عالمه الحسي‪.‬‬ ‫ولا يقدر عالمه العقلي أن يتصورها موجودة بتعين محدد في هذا العالم الشاهد لأنها غير‬ ‫قابلة للتحقق خارج تعريفها إلا إذا تصورنا أن التمثيل لفكرة هو الفكرة التي نمثل لها‬ ‫برسم مثلا على السبورة عندما نشرحها للمتعلمين أو عندما نرسمها لنصنع ما يمكن أن يتصف‬ ‫بما يقرب من صفاتها مع تحديد لقيم محدداتها‪.‬‬ ‫المشكل هو إذن هذه القدرة على التقدير الذهني لمعان ليست قابلة للحس وليست قابلة‬ ‫لأي تعين خارج تعريفها والتي ينساها الإنسان ويذكره بها القرآن‪ .‬والإنسان رغم أنه لا‬ ‫يستطيع تصور نوع وجودها لأنها لا تقبل الرد إلى ظاهرة نفسية في ذهنه حتى وإن أخطأ‬ ‫في تأويلها بحسب تجربته الغفلة‪.‬‬ ‫وهذه القابلية للتأويل التي أوهمت أصحاب نظرية الإعجاز من علل ما يبدو من قابلية‬ ‫للتصديق لأقوالهم لأنها فعلا تقبل ذلك التأويل‪.‬‬ ‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪25‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لكن ما يغيب عن بالهم هو أن التأويل لو كان دالا على الإعجاز لتحقق أمران ينفيانه‬ ‫ولا يثبتانه‪:‬‬ ‫‪ .1‬الأول أنه بعدي دائما بمعنى أن التأويل الذي يطبقونه لا يمكنهم من اكتشافات‬ ‫علمية بل الاكتشافات العلمية هي التي تكتشفه بمعنى أن ما يكتشفه العلماء بالبحث في‬ ‫الآفاق وفي الانفس هو الذي يمكن اكتشاف ما في القرآن من معجز فيكون نزول القرآن سدى‬ ‫لأن ما فيه يتحقق بدونه ولا يتحقق به‪.‬‬ ‫‪ .2‬الثاني وهو الأخطر لو كان ما في القرآن يؤثر في الذين آمنوا به بكونه اعجازا‬ ‫علميا لكان معنى ذلك أن عرب الجاهلية أدركوا ما يدركه أصحاب العجز العلمي أو لكان‬ ‫القرآن لا يؤثر بما فيه بل بما ليس فيه‪ .‬وإذا كان القرآن يؤثر بما ليس فيه من علوم فإن‬ ‫ما يؤثر به القرآن من طبيعة أهم وعلينا طلبها‪.‬‬ ‫وهذا هو الذي سميته \"السبابة\" القرآنية أعني أن النص القرآن يشير إلى هذه المعاني‬ ‫مطلقة التجريد‪ .‬إنه يشير علينا بما ينبغي النظر إليه ويعين محل وجودها الذي نستطيع‬ ‫باستعمالها فيه نحقق بما جهزنا به شروط بقائنا في علاقتنا بالطبيعة (المقدرات الذهنية‬ ‫النظرية) وفي علاقتنا بالتاريخ (المقدرات الذهنية العملية) وفي علاقتنا بما فينا من عضوي‬ ‫طبيعي و(وتتبع الطبيعة) من روحي تاريخي (وتتبع التاريخ)‪.‬‬ ‫وذلك هو معنى فصلت ‪.53‬‬ ‫فبها يرينا القرآن أين ينبغي أن نبحث عن آيات الله التي تتجلى في الآفاق وفي الأنفس‬ ‫شرطا في تبين حقيقة القرآن ونحقق بما توجهنا إليه إشاراتها الاستعمار في الأرض بالبحث‬ ‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪26‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫العلمي وتطبيقاته ونتمكن من تسخير الطبيعة وننظم ذلك بالاستخلاف فيها بالبحث القيمي‬ ‫وتطبيقاته فنتمكن من جعل هذا التسخير تعميرا لا تدميرا‪.‬‬ ‫وإذا كان يمكن أن نتكلم على الاعجاز في القرآن فينبغي ألا يكون متعلقا بما ينفي تعريف‬ ‫الإنسان بالحرية التي من شرطها أن يمتحن الإنسان في أهليته لها بما ينجزه في تعمير‬ ‫الأرض والاستخلاف فيها وليس بما يجده جاهزا في نص القرآن فيغنيه عن الاجتهاد العلمي‬ ‫والجهاد العملي‪.‬‬ ‫فلو ُوضع في القرآن علم وعمل ناجزين لفقد معنى حقيقة الإنسان من حيث هو مكلف‬ ‫بمهمتين تقيم أهليته للتكليف تحقيقهما باجتهاده النظري وجهاده العملي‪ .‬فالاستعمار في‬ ‫الأرض شرطه علمه بالطبيعي خارجة وفي ذاته وتطبيقاته والاستخلاف فيها شرطه عمله‬ ‫بالتاريخي خارجه وفي ذاته وتطبيقاته‪.‬‬ ‫فلو كان الشرطان متحققين بعد في القرآن لأصبحت الرسالة مناقضة لذاتها لأنها في حالة‬ ‫تضمنها من تطلب للإنسان القيام به تكون مغنية له عن الاجتهاد في النظر والجهاد في العمل‬ ‫لتحقيق مهمتيه اللتين ستقدر بهما اهليته للتكليف\" وعندئذ تصبح دلالة سورة العصر عدما‬ ‫إذ لا معنى اشتراط الاستثناء من الخسر‪.‬‬ ‫والاستثناء من الخسر يكون بالوعي به أولا أصلا للشروط الأربعة المترتبة على هذا‬ ‫الوعي أي الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق بحثا عن الحقيقة والتواصي بالصبر‬ ‫سعيا لتحقيق الممكن للإنسان منها علما وعملا‪.‬‬ ‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪27‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لا بد أن أفهم الجمع التيمي بين ما وصف به المقدرات الذهنية وما وصف به العقائد‬ ‫الدينية‪ :‬فهو يقصر الكونية والبدهية والذاتية والبرهانية والمحضية فيهما دون سواهما‬ ‫من الموجودات الخارجية التي يعتبرها بحاجة إلى التجربة العلمية التي لا بد لها من العودة‬ ‫إلى الحواس مهما كان بينها وبين الادراك العلمي من تجهيزات مثل الفلك الذي كانت بعض‬ ‫أدواته معلومة في عصره‪.‬‬ ‫ولا بد من فهم علة القول بالمطابقتين في القديم (أفلاطون وأرسطو) وفي الحديث (هيجل‬ ‫وماركس) وخطأ ما بني عليه من وهم شفافية الوجود نفاذ العقل المطلقين وهما ترتب عليه‬ ‫الفصل الجذري بين الفلسفي (في محاولة فهم النظر والعمل) والديني (في محاولة فهم‬ ‫العقد والشرع) الذي بدأ منذ قصيد بارمينيدس والتوحيد بين العقل والوجود والخرافة‬ ‫والعدم‪.‬‬ ‫فهذا التوحيد يضمر تأليه الإنسان أو التوحيد بين العقل بمعنى نظام الوجود (وهو‬ ‫المقصود بالنوس في اليونانية) والعقل بمعنى الإدراك العقلي الإنساني (وهو المقصود‬ ‫باللوجوس في اليونانية)‪ .‬فالنوس وإن استعمل احيانا للدلالة على عقل الإنسان يعني‬ ‫العقل الناظم للوجود‪ .‬ولما كان نظام الوجود لا يرد إلى ما ندركه منه فلا يمكن أن نرده‬ ‫إلى اللوجوس الذي هو عقل الإنسان ونطقه‪.‬‬ ‫فإذن فسر المطابقتين اللتين تدرج فيهما أفلاطون وأتمهما أرسطو ثم تخلص منهما كنط‬ ‫وعاد إليهما هيجل بتدرج وماركس ففعل مع هيجل ما فعل أرسطو مع أفلاطون سرهما بدا‬ ‫بهذا الخلط بين نظامين مطلق ونسبي والأول هو نظام الوجود والثاني هو ما ندركه منه‬ ‫بعقلنا‪ .‬وما أدعيه ‪-‬وسبق أن حاولت بيانه في عديد المحاولات‪-‬هو أن الإسلام حررنا بمفهوم‬ ‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪28‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫حد هو مفهوم الغيب من المطابقتين المتقدمتين عليه تاريخيا ويمكن أن يحررنا من المتأخرتين‬ ‫عنه تاريخيا‪.‬‬ ‫وبذلك فهو يعيد الوحدة بين الديني والفلسفي بمعنى البحث في ما لا بد منه لفهم عالم‬ ‫الشهادة الذي لا يكتفي بنفسه بما يقتضيه التأمل العقلي والتدبر الروحي من شروط تجعل‬ ‫نظام العالم ونظام كيان الإنسان وما بينهما مع تبادل التأثير والتأثر مفهومين للإنسان في‬ ‫حدود الممكن الذي يكون بالعلاج الترجيحي وليس بالحسم المطلق‪.‬‬ ‫وأبقى على الرؤى الدينية التي لم تعتمد ما يدركه الإنسان من نظام العالم مصدرا‬ ‫للاحتجاج بلكونها قدمت ما سيطر عليها من فكر الخوارق والمعجزات‪ .‬وهو يرويها ولا يجادل‬ ‫فيها حتى وإن كان دائما يسعى لتقديم ما يغني عنها بتفسير سأقدم منه مثالا عجيبا في‬ ‫الفصل الأخير متعلقا بما قاله الرسول الخاتم في سورة هود وأخواتها وأهمية فهم التوحيد‬ ‫بين الديني والفلسفي إذا تخلينا عن القول بالمطابقتين اللتين هما سر الفصل بينهما‪.‬‬ ‫لكن هذا التحرير لما صار قائلا بالمطابقتين بتأثير من فلسفة أرسطو خاصة تخلى ضمنيا‬ ‫عن المفهوم الحد مفهوم الغيب فانتهى إلى المطابقتين مثل اللتين تقدمتا عليه أو اللتين‬ ‫تأخرتا عنه كما هو بين من جل علوم الملة الغائية حتى وإن نفوا ذلك بالأقوال وهي لا‬ ‫تعنيني لأني أتكلم على الأفعال‪.‬‬ ‫ولعل أبرز مثال هو تكرار الفقهاء عبارة نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر‪.‬‬ ‫فهذا القول كان ينبغي أن يقتضي ألا يكون الحكم في هذه الحالة مطابقا لحكم الله بل‬ ‫كان ينبغي أن يراعي أن القاضي ليس له علم بالأسرار ومن ثم فينبغي أن يميز بين حكمه‬ ‫وحكم الله فلا يطبق أيا من العقوبات الواردة في النصوص بل يراعي فيها ما ينقصه من‬ ‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪29‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫علم بالسرائر فيعتبر كل المخففات الممكنة حتى لا يقرب من حدود الله لأن لا تقربوها‬ ‫ليست مقصورة على المتهم بل هي تشمل القاضي كذلك‪.‬‬ ‫عدم الفصل بين الديني والفلسفي باعتبار المشترك بينهما هو جوهر الديني والفلسفي‬ ‫في آن‪.‬‬ ‫وكلاهما لا يمكن أن يدرك الغيب‪.‬‬ ‫ومعنى ذلك أن الوحي نفسه لا يتضمن علما بالغيب لأنه لو تضمنه لكان معناه أن الرسل‬ ‫يعلمون الغيب فيتقابل العلمان الفلسفي والديني‪.‬‬ ‫وإذا صح ذلك صار الرسل قادرين على إعلام المرسل إليهم به فيصبح الغيب معلوما‬ ‫للجميع أو يصبح الرسل غير أمناء على الرسالة لأنهم يخفون ما يعلمونه عن غيرهم فلم‬ ‫يبلغوا الرسالة بأمانة‪.‬‬ ‫وذلك هو معنى التحرير الذي أتكلم عليه والذي ينفي أمرين عدم نفيهما هو علة ما‬ ‫حصل لعلوم الملة من انحراف جعله يقلب دلالة فصلت ‪ 53‬وآل عمران‪ 7‬بأن جعل الامر‬ ‫بالبحث في عالم الشهادة الطبيعي والتاريخي خارج الأنفس وفيهما في الأنفس أي مكوني‬ ‫كيان الإنسان (البدن والروح) وكأنه هو المنهي عنه وجعل تأويل المتشابه في نص القرآن‬ ‫وكأنه هو المأمور به‪.‬‬ ‫والعلاقة بين فصلت ‪ 53‬وآل عمران ‪ 7‬هي الفصل بين المتشابه والمحكم في التذكير‪ .‬فقول‬ ‫القرآن إن تبين حقيقته تكون في ما يرينه الله من آياته في الآفاق وفي الانفس يعني أن‬ ‫رؤيتها هي مجال البحث العلمي الممكن للإنسان وأن ما عدى هذه الآيات أي ما يتكلم في ما‬ ‫ورائها أي في ذات خالقها وآمرها وطبيعة فعلي الخلق والأمر هو موضوع المتشابه الذي نهينا‬ ‫عن تأويله‪.‬‬ ‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪30‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لكن الذي حدث هو العكس تماما أي إن آيات الله في الآفاق وفي الأنفس اهملت وتركز‬ ‫التأويل كله على ما وراءهما وأصبح البحث في آيات النص التي اعتبرت صندوق أدوات‬ ‫لعلوم الملة الغائية الخمسة واستغنى المسلمون عن البحث في الآيات التي نتبين بها حقيقة‬ ‫القرآن من حيث هو تذكير بما جهز به الإنسان لإنجاز مهمتيه وهما بعدا العبادة‪ :‬التعمير‬ ‫والاستخلاف‪.‬‬ ‫أجبت عن هذين المسألتين لأنهما مقدمتان المسالة المتعلقة بطبيعة ما يذكر به القرآن‬ ‫مضمونا لرسالته وتمييزه عن خرافة الاعجاز العلمي لا بد من حسم إشكالية العلاقة بين‬ ‫المقدرات الذهنية وهذا التذكير وكيف وصلتها بمفهوم التذكير والفطرة باعتبارها متعلقة‬ ‫بتجهيز الإنسان ليكون قادرا على القيام بمهمتيه اللتين هما معنى تعليل خلقه بعبادة الله‪.‬‬ ‫فالإسلام يعتبر مهمتي الإنسان استعمارا في الارض واستخلاف فيها عين العبادة‪.‬‬ ‫والمسلمون تخلفوا لما تصورا الاستخلاف ممكن من دون التعمير وكل من يريد التعمير من‬ ‫دون الاستخلاف يجعله تدميرا لا تعميرا‪.‬‬ ‫فقد حصرت التذكير بالعناصر الخمسة الواردة في القرآن وميزتها عن دعوى الاعجاز‬ ‫العلمي باعتبارها شروط تحقيق الإنسان لمهمتيه وهو تذكير بموجود في عالم الشهادة وليس‬ ‫بما يعلله في عالم الغيب‪ .‬وهذه العناصر الخمسة هي‪:‬‬ ‫‪ .1‬مبدأ الطبيعية‪ :‬كل شيء خلقناه بقدر بمعنى التقدير في القضاء والقدر و في‬ ‫تحديد المقدار‪.‬‬ ‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪31‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .2‬ونظرية علمها‪ :‬الجمع بين الصورة الرياضية والمضمون التجريبي العلمي‬ ‫الطبيعي‪ .‬وذلك هو القصد بالنظر والعقد‪ .‬فالنظر هو البحث العلمي‪ .‬والعقد يبدأ فرضيا‬ ‫فيكون أداة التجربة الطبيعية وحصيلتها التي تجعلنا نعتقد أن ما توصلنا إليه من المعرفة‬ ‫العلمية هو الحقيقة النسبية إلى علم الإنسان‪.‬‬ ‫‪ .3‬مبدأ التاريخ‪ :‬كل شيء أمره بسنن لا تتبدل ولا تتغير وهو بمعنى الأمر الغيبي‬ ‫والأمر الإنساني‪.‬‬ ‫‪ .4‬ونظرية عمله‪ :‬الجمع بين الصورة القيمية والمضمون التجريبي العملي التاريخي‪.‬‬ ‫وذلك هو القصد بالعمل والشرع‪ .‬فالعلم هو أفعال الإنسان في الطبيعة والحضارة والشرع‬ ‫يبدأ فرضيا فيكون أداة التجربة التاريخية وحصيلتها التي تجعلنا نعتقد أن ما توصلنا إليها‬ ‫من التقييم العملي هو الحقيقة النسبية إلى عمل الإنسان‪.‬‬ ‫‪ .5‬هذه الأبعاد الأربعة هي سعي الإنسان المستعمر في الارض والمستخلف فيها مع حزر‬ ‫في علمه وعمله هو مفهوم ذي بعدين معرفي وقيمي يجمع بينهما مفهوم واحد هو \"الغيب‬ ‫والعدل الإلهي\" اللذين بهما نفهم تعليل خلق الإنسان للعبادة‪.‬‬ ‫فهما عين المفهوم ا لحد الذي يضفي النظام والمعقولية على الوجود الذي يصبح مطلق‬ ‫التناقض لو كان الإنسان في نفس الوقت عاجزا عن الإحاطة ومطالب بما يقتضيها‪ .‬ولذلك‬ ‫فاعتبار الرسالة تذكيرا بهذه الشروط مع حرزها أمرا معقولا‪.‬‬ ‫إذ لا يمكن أن يحاسب الإنسان وهو لم يخلق نفسه على تلك الصفات التي تجعله محدود‬ ‫العلم والقدرة دون أن يكون محدود المسؤولية عما لا ذنب له فيه؟‬ ‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪32‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وعندئذ نفهم علة اعتبار العلم اجتهادا والعمل جهادا والحساب ليس بالنتائج بل بتقدير‬ ‫الجهد والنية والصدق في السعي‪.‬‬ ‫ولأذكر الآن بالمطابقتين المتقدمتين على الإسلام أي على نزول القرآن‪ .‬فقد أشرت إلى‬ ‫أن المطابقتين متدرجتان إذ هما عند أفلاطون دون ما هما عند أرسطو‪.‬‬ ‫ذلك أن أفلاطون لا يعتبر المثل مطابقة للأعيان التي تحاكيها والتي محاكاتها تبقى دائما‬ ‫دون المطابقة التامة معها رغم أن مدخل المطابقة عليها هو الإله الصانع الذي ينظر إلى‬ ‫المثل ويصنع مثلها في المادة المستعصية على التصوير المحقق للمطابقة (محاورة الطيماوس‬ ‫التي هي أكثر محاورات أفلاطون وصلا بين العالمين عن طريق الصوغ الرياضي لما يصنع‬ ‫منه العالم)‪.‬‬ ‫والمعلوم أن غاية هذه المحاورة هي نظرية الاجرام الخمسة الافلاطونية التي خصص لها‬ ‫اقليدس المقالة الثالثة عشرة من كتابه في الرياضيات لبنائها رياضيا ما يعني أن أفلاطون‬ ‫ومن بعده اقليدس وحتى بطليموس لاحقا حاولوا تطبيق الصوغ الرياضي للطبيعيات مع‬ ‫الاعتراف باستحالة المطابقة بين الصورة الرياضية والمادة الطبيعية حتى عندما يتعلق الامر‬ ‫بعامل ما فوق القمر الذي كان يعتبر أتم من عالم الكون والفساد الذي هو عالم ما دون‬ ‫القمر في نظرية العصر في الفلك‪.‬‬ ‫ولما كان ما يشذ عن المطابقة عند أفلاطون هو المادة وكانت المادة أصل الشر عنده لأن‬ ‫المثل هي أصل الخير فإن قوله بالمطابقة كان نسبيا ولم يكن مطلقا كما صار عند أرسطو‪.‬‬ ‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪33‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫صحيح أن أرسطو حافظ على ما يمكن أن يعتبر المثال الوحيد وهو مفهوم المحرك الذي‬ ‫لا يتحرك أو الرب في نظريته التي عرضها في المقالة الثانية عشرة ‪-‬مقالة اللام‪-‬لكن يعتبر‬ ‫أن كل عنصر من عناصر السماء له رب يحركه لكنه يتحرك محاكيا المحرك الأول‪.‬‬ ‫والأرباب كلها مفارقة‪.‬‬ ‫لكن الصورة التي تحدد ماهيات الأشياء ليست مجرد محاكاة للمثل كالحال عند أفلاطون‬ ‫بل هي محايثة فعليا للأشياء الطبيعية لأن المادة ليست إلى قوى على قابلية التصوير وليس‬ ‫ذات وجود مستقل ولا تمثل الشر كما في فلسفة أفلاطون‪.‬‬ ‫وتلك هي الغاية التي وصلت إليها المطابقتان المعرفية (الصورة) والقيمية (الخير‬ ‫والشر)‪.‬‬ ‫ولأمر الآن إلى المطابقتين المتأخرتين عن الإسلام وهما المسيطرتان في فكر الحداثيين‬ ‫ومن يحاكيهم من علماء الدين لأنهم الآن مثل سلفهم في الماضي يقولون بالمطابقتين حتى‬ ‫وإن لم يصل منهم إلى ما يترتب عليهما من قول بوحدة الوجود إلا غلاة الصوفية المتفلسفة‪.‬‬ ‫ويمكن القول إن النسبة بين هيجل وماركس مناظرة للنسبة بين أفلاطون وارسطو ولكن‬ ‫فارقين جوهريين‪:‬‬ ‫الفرق الأول هو أن هذين قالا بالمطابقتين بعد أن حصل عكس ما دفع الأولين إلى القول‬ ‫بهما‪ .‬فكنط حقق عكس ما حققه بارمينيدس‪.‬‬ ‫ذلك أنه دحض كل إمكانية للمطابقتين المعرفية والقيمة بأنه فصل بين النومان‬ ‫والفينومان واعتبر ذلك ليس لعلة ابستمولوجية فسحب بل لعلة أكسيولوجية لأن استثناء‬ ‫الإنسان من الضرورة الطبيعية هو شرط القيم وخاصة القيم الخلقية‪.‬‬ ‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪34‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ولا يمكن تأسيس الأخلاق من دون المسلمات الثلاث وهي تقتضي اثنتين اخريين كما بينت‬ ‫ما يجعل هذا الاستثناء هو في العمق جوهر الديني في علاقته بالفلسفي أو جوهر المشترك‬ ‫بينهما‪ :‬لا يمكن تأسيس القيم عامة والأخلاق خاصة من دون هذا المشترك الذي يحدد‬ ‫العلاقة بين الضرورة الطبيعية والحرية الإنسانية‪.‬‬ ‫والفرق الثاني هو أن هذين قالا بالمطابقتين بصورة أكثر وضوحا من ذينك‪.‬‬ ‫فهيجل يقول بها بمقتضى قوله بوحدة الوجود المروحنة كما يتبين من نقده لوحدة‬ ‫الوجود الطبعانية التي يقول بها سبينوزا الذي كان في بداية مشاركة هيجل في الفكر‬ ‫الألماني أهم موضوع للنقاش بين فلاسفة ألمانيا مثل لسنج وكنط ويعقوبي‬ ‫لكن ماركس ألغى هذه الروحنة بجعل الجدل ماديا خالصا وهو ما لا يتماشى حتى مع‬ ‫وحدة الوجود السبينوزية التي لم تكن فاقدة لشيء من الروحانية إذا لم ننس أنه يقول‬ ‫بما يقول به ديكارت من الصفتين الأساسيتين للوجود أي الفكر والامتداد حتى وإن كان لا‬ ‫يقصره عليهما لأنه يعتبر صفاته لا متناهية‪.‬‬ ‫وهو بذلك متقدم على هيجل وماركس لأن القول بلا تناهي الصفات يضفي النسبية على‬ ‫ما يعلمه الإنسان منها وهما الاثنتان الديكاريتان أي الامتداد والفكر‪.‬‬ ‫وأختم الفصل الرابع بأمر اساسي حتى نفهم أزمة الفكر الذي يسمى ما بعد حديث وكيف‬ ‫نشأ من الهيجلية والماركسية أساسا‪.‬‬ ‫ويمكن أن نعتبر حصول ذلك بمسارين يبدوان متقابلين لكنهما ضمنيان في فلسفتهما لأنهما‬ ‫يمثلان أحد التأويلين الممكنين‪:‬‬ ‫التأويل الأول يمكن اعتبار قمة مساره هو النيتشوية‪.‬‬ ‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪35‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ففلسفة هيجل وماركس يجمع بينهما قيس التاريخ الحضاري للإنسانية على التاريخ‬ ‫الطبيعي للكائنات الحية‪ .‬فكلاهما يعتبر الأمر متعلقا بصراع حيوي إما بين أرواح الشعوب‬ ‫أو بين طبقات المجتمعات‪.‬‬ ‫فإذا حولنا ذلك إلى صراعات الفاعل فيها هو الحي من حيث هو حي وما يميز الحي‬ ‫الإنسان من حيث هو إنساني كان لنا رؤية داروينية تعتمد نموذج الإبداع الفني باعتبار‬ ‫الإنسان حيوان رامز أو حيوان مبدع للفنون التي تصبح جوهر الوجود ويصبح الإنسان‬ ‫جوهر التطور الحيواني من حيث تطور الحيوان المرمز أو المبدع لذاته في تصوراته لها من‬ ‫حيث هي قوة حيوية‪.‬‬ ‫التأويل الثاني يمكن اعتبار قمة مسارة نظرية السرديات التي ليس لها مسرود غير ذاتها‬ ‫وهي بنحو مزايدة على النيتشوية وتتمثل في نوع من الابوفينومنيسم أي اعتبار الوجود‬ ‫وكأنه عالم ميثولوجي مطلق ليس وراء ابداع السرديات الإنسان علمية كانت أو عملية ما‬ ‫يتجاوزها‪.‬‬ ‫فلكأننا بعد نفي الشيء في ذاته في المثالية الالمانية للتخلص من ثنائية كنط لم يبق لنا إلى‬ ‫الفينومان وزال النومان‪ .‬وحينئذ فإن النسبوية تصبح مطلقة ويصبح كل إنسان حبيس‬ ‫تصوراته وكل حضارة حبيسة ثقافتها أي إن العالم الرمزي هو العالم الوحيد الذي يمكن‬ ‫للإنسان أن يتصوره وأن يفهمه في حدود نظامه الرمزي‪.‬‬ ‫وطبعا فهذا لو صبح لاستحال على الإنسان أن يفهم حتى ذاته ناهيك عمن يزعم مشاركا‬ ‫له في ثقافته‪ .‬فلا يوجد رمز يفيد نفس المعنى في لحظتين متواليتين إلا إذا اعتقدنا أن‬ ‫الرامز يبقى واحدا خلال تلكما اللحظتين‪ .‬فنكون على الاقل قد جوهرنا الرامز فضلا عن‬ ‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪36‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫المرموز والرمز‪ .‬وحتى لو سلمنا بأن ذلك ممكن في نفس اللحظة فإنه لا شيء يثبت أن‬ ‫التأويل الرمزي يمكن أن يحصل لحظيا إذ هو ينبغي أن يكون متزمنا‪.‬‬ ‫وتزمنه يعني توالي اللحظات‪ .‬فما الذي يصل بين لحظتين متواليتين؟‬ ‫إذا كانتا ماضيتين فهو التذكر وإذا كانا مستقبليتين فهو التوقع‪ .‬فمن يتذكر ومن يتوقع‬ ‫إذا لم يكون وراء الترميز \"شيء\" يرمز وشيء يرمز إليه دون ضرورة أن يكون الترمزي‬ ‫مطابقا لما في الشيء الرامز ذهنيا ولما في الشيء المرموز عينيا‪.‬‬ ‫القول بالمطابقتين علته الحاجة إلى ثنائية ما في الأذهان وما في الاعيان والحاجة إلى نفي‬ ‫الفرق‪ .‬فيكون المشكل في نفي الفرق‪.‬‬ ‫ونفي الفرق عندما يطلق يعني نفي الطابع المناظري للإدراك لكأننا قلنا إن الوجود يرد‬ ‫إلى الإدراك‪ .‬وذلك ما لو قلنا به لانتهينا إلى المطابقتين‪.‬‬ ‫وتلك هي العلة التي جعلتني أعتبر ابن خلدون قد انتهى إلى نفس ما انتهى إليه ابن‬ ‫تيمية‪.‬‬ ‫ولما كان لا شيء يثبت أنه قرأ أعمال ابن تيمة أو حتى سمع به فإني اعتبرا الرجل قد‬ ‫توصل إلى نفس النتيجة من خلال سعيه للتحرر من علل الصراع بين الفكرين الديني‬ ‫والفلسفي واثبات أن الإدراك الإنسان ليس مطابقا للوجود العياني بل هو منظور من‬ ‫المناظير اللامتناهية كما يرى ابن تيمية مع استحالة الاحاطة التي هي من أهم مبادي‬ ‫القرآن وهو معنى الإيمان بالغيب‪.‬‬ ‫ولأختم هذا الفصل قبل الأخير بالإشارة إلى أمر قد يبدو توقعا في غير محله‪ .‬اعتقد‬ ‫أن أزمة كورونا رغم هولها ستكون رحمة للإنسانية‪ .‬فهي حتما ستكتشف أن الانتصار على‬ ‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪37‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫علل الفواريس الطبيعية التي تصيب مناعة الكيان العضوي للإنسان فردا وجماعي شرطه‬ ‫الأساسي هو بالبدء بالحرب على الفواريس الحضارية التي تصيب خاصة الكيان الروحي‬ ‫للإنسان‪.‬‬ ‫وهذا الحل هو جوهر الإسلام كما سأبين في الفصل الأخير‪.‬‬ ‫كورونا ستكون أكبر مبشر بالعلاج الذي سيحرر الإنسانية من أدواء العولمة وسر تحقيق‬ ‫كونية الرسالة في التاريخ الفعلي كما هي مرسومة في الرؤية القرآنية‪.‬‬ ‫طبعا لست غافلا عن كون الجوائح لم تبدأ مع العولمة‪.‬‬ ‫لم يخل منها تاريخ الإنسانية قبلها‪ .‬ولا اعتقد أن الجوائح عقاب إلهي كما يتوهم بعض‬ ‫الحمقى‪.‬‬ ‫لكن بعضها ذو صلة بما يترتب على تعامل الإنسان مع ذاته ومع محيطه الطبيعي‬ ‫والثقافي‪.‬‬ ‫فتلويث الطبيعة والحضارة علته انحرافات اقتصادية وثقافية‪ .‬وما زاد الطينة بلة هو‬ ‫أن هذين التلويثين أصبحا من علامات التأله بالمعنى الخلدوني أو من علامات \"السيادة على‬ ‫الطبيعة وملكيتها\" بالمعنى الديكارتي‪.‬‬ ‫ثم صار ذلك إيديولوجيا يعبر عنها هيجل بنظرية القوة التي تقاس بتجليها الفعلي في‬ ‫تعينها الفعلي في التاريخ الفعلي وصارت مبنية على صراع أرواح الشعوب وهو الشكل الأول‬ ‫مما صار يسمى صدام الحضارات المتنافسة وضمن ذلك صراع الطبقات المتنافسة على الثرة‬ ‫والسلطة بحيث صار وصف الأمر الواقع في فلسفة هيجل وماركس ليس كشفا لمرض ينبغي‬ ‫علاجه بل تحويله إلى أمر واجب هو قانون التاريخ الذي يقدم على أنه علمي‪.‬‬ ‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪38‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وبدلا من اعتبار الكشف عن الداء بداية لعلاجه تحول هو عين الداء‪.‬‬ ‫وذلك ما سأحاول الكلام عليه في الفصل الخامس والأخير من المحاولة‪.‬‬ ‫سأحاول عرض كل الأدواء التي تعتبر علة التلويث الطبيعي والروحي في الجماعة‬ ‫الإنسانية محددة بالنص في سورة هود وأخواتها والتي وصفها الرسول بكونها قد شيبت‬ ‫رأسه‪ :‬فما علة هذا الوصف؟‬ ‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪39‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وصلنا الآن إلى بيت القصد من المحاولة كلها‪ .‬كيف أثبت أن الديني والفلسفي في القرآن‬ ‫هو المشترك بين نوعي العلاج الإنساني لكلامه في المتعاليات التي يعتبرها غاية ما يرد إليه‬ ‫النظر والعقد في المعرفة ومنطق العلم وغاية ما يرد إليه العمل والشرع في القيمة ومنطق‬ ‫العمل‪.‬‬ ‫والهدف هو بيان أن دلالة هذا المشترك هي عينها دلالة التلازم بين العالمين عالم الشهادة‬ ‫وعالم الغيب‪ .‬فالمتعاليات تحيل إلى عالم الغيب بإحالتها إلى نظام عالم الشهادة باعتباره‬ ‫شهادة أو قرينة على آثار عالم الغيب وأفعاله فيه‪.‬‬ ‫فلكأن عالم الشهادة هو قمة جبل الجليد الوجودي الذي يمثله عالم الغيب‪ .‬وذلك ما‬ ‫فهمت من فصلت ‪ 53‬التي تقول إن تبين حقيقة القرآن يحصل بما يرينه الله من آياته في‬ ‫الآفاق وفي الأنفس‪.‬‬ ‫والآية هنا تعني الرمز الذي يحيل إلى مرموز وراءه‪ .‬وكان ديكارت قد استعمل معنى‬ ‫قريب من ذلك ويسميه امضاء الخالق في المخلوق بحيث كان يعتبر كل موجود حاملا لإمضاء‬ ‫خالقه الدال على مخلوقيته‪.‬‬ ‫ولكن حتى تكون الحجة أقوى ما يمكن فإني لن أعتمد المدخل الفلسفي الذي عالجت به‬ ‫المسألة في عدة محاولات سابقة بل سأعتمد على أصل كل علوم الملة الغائية (أصل الفقه‬ ‫والتصوف في الفكر العملي والكلام والفلسفة في الفكر النظري) أعني التفسير‪.‬‬ ‫فقد كنت أعجب من كلام الرسول عن هود وأخواتها إذ قال إنها قد شبيت رأسه‪.‬‬ ‫وسأنطلق من هذه الإشارة النبوية العظيمة لأبحث في هذه العلاقة الملازمة لكلام القرآن‬ ‫أعني التذكير بالعلاقة بين العالمين عالم الشهادة وعالم الغيب‪.‬‬ ‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪40‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فهود وأخواتها تتضمن أهم الرسالات التي تتردد كثيرا في التذكير القرآني بهذه العلاقة‬ ‫التي هي مدارها‪ .‬والمعلوم أن هود قد ذكرت بالاسم في هذه الإشارة ومن ثم فلا خلاف‬ ‫حولها‪.‬‬ ‫لكن أخواتها توجد فيها روايات مختلفة‪ .‬وأرجح رواية هي التي تشير إلى السور التالية‪:‬‬ ‫الواقعة‬ ‫‪.1‬‬ ‫المرسلات‬ ‫‪.2‬‬ ‫‪.3‬‬ ‫النبأ‬ ‫‪.4‬‬ ‫التكوير‪.‬‬ ‫فتكون السور التي شيبت رأس الرسول الخاتم خمسا بحسبان هود التي ذكرت بالاسم‪.‬‬ ‫وسأضع هود في القلب وقبلها الواقعة والمرسلات وبعدها النبأ والتكوير رغم أنها الأولى‬ ‫في ترتيب سور القرآن‪ .‬وبين أني غني عن إيراد السور أو الإحالة النصية لما أتكلم فيه‪.‬‬ ‫فالمفروض أن المسلمين كلهم‪ -‬على الأقل الذين هم من الأجيال المتقدمة على ما حل‬ ‫بمنظومات التربية من نكبات جعلتها تلغي تدريس القرآن‪.‬‬ ‫ذلك أن الأجيال التي درست في عهد ابن علي في نظام التربية الذي يتبع القائلين بتجفيف‬ ‫المنابع قد خضعوا لتطبيق الرقابة على نص القرآن لتخليصه مما يعتبرونه غير \"متسامح\"‪.‬‬ ‫وقد ذهب محمد الشرفي إلى المطالبة بتنقية القرآن الذي يدرس مما يعتبره من هذا الجنس‬ ‫بل إنه اقترح على بوش بعد ‪ 11‬سبتمبر تقديم خبرته وتجربته في تحقيق ذلك عالميا‪.‬‬ ‫وأذكر أن الرسالة التي بعثها إليه نشرت في إحدى صحف أمريكا وقد اعطاني منها‬ ‫الأستاذ نجيب الشابي نسخة مصورة‪.‬‬ ‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪41‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ولا بأس من التذكير السريع بما يحتاج إلى شرح في علاقة بما أريد بيانه أعني المشترك‬ ‫بين الديني والفلسفي والعلاقة بين العالمين عالم الشهادة وعالم الغيب‪.‬‬ ‫فالوصل بين العالمين في العلاج الديني الذي يعتمده القرآن بوصفه رسالة تذكير يتعلق‬ ‫بمهمتي الإنسان وشروط انجازه إياها‪.‬‬ ‫ذلك أن الاستعمار في الارض والاستخلاف فيها والسعي لتحقيقهما هو عين العبادة ومجال‬ ‫اختبار أهليته لهما وهما مهمتاه في عالم الشهادة‪ .‬ولأجل هذا الاختبار أعطي آدم الفرصة‬ ‫الثانية في قصة تحدي ابليس لهذه الأهلية واخراجهما من الجنة بعد العصيان الذي وقعا‬ ‫فيه مع العفو عن آدم بعد أن تلقى كلمات فأتمهن‪.‬‬ ‫ومن اليسير حتى على من ليس على بينة من هذه السور أن يطلع عليها بسرعة بدءا‬ ‫بمضمون سورة هود حتى يستطيع متابعة تحليلها الذي سأحاول جعله أبسط ما يكون لأن‬ ‫التحليل لن يكون من جنس التفاسير التقليدية فلن أطلب منه إلا بيان هذه العلاقة بين‬ ‫العالمين وبيان أنه عين المشترك بين الفلسفي والديني في دراسة الشأن الإنساني‪.‬‬ ‫فما يعنيني من الرسالات المذكورة فيها وترتيبها وما له بها صلة حتى وإن لم يذكر فيها‬ ‫صراحة وينبغي افتراضه حتى تكتمل الصورة لا يتجاوز هذا الغرض المحدد في المحاولة‬ ‫بفصولها الخمسة‪ .‬فأسماء الرسل وأقوامهم المذكورين فيها هم بحسب الترتيب التالي‪.‬‬ ‫وذكر القوم يعني أن الرسالات في هذه الحالات كلها لم تكن مثل الإسلام موجهة للإنسانية‬ ‫كلها بل كانت أديانا قومية المخاطبين وكونية المضمون بما فيها من الديني ومن الفلسفي ولو‬ ‫كان متعلقا بإشكالية جزئية الحضور عند تلك الأقوام‪ .‬فالقرآن يميز بين نوعي الرسالات‬ ‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪42‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫رغم وحدة ما يرد فيها من الديني والفلسفي وإن كان مضمونه متعلقا بإحدى مشاكل‬ ‫الإنسانية وليس بكل مشاكلها كالحال في النوع الثاني‪:‬‬ ‫‪ .1‬نوع \"لكل أمة رسول بلسانها\" ويتعلق بمسائل جزئية من حيث صلتها بوضع تلك‬ ‫الأمة‪ .‬لكنها كونية من حيث علاجها باعتبارها أحد وجوه ما يحصل للإنسان من حيث هو‬ ‫إنسان‪.‬‬ ‫‪ .2‬ونوع \"الرسالة الفاتحة والخاتمة\" أي الإسلام الذي هو الديني فيها جميعا والذي‬ ‫يتميز بكونه منظومة مسائل الإنسانية كلها بصورة نسقية كما يتبين من منظومة هذه السور‬ ‫التي شيبت الرسول الخاتم‪ .‬ولنورد الآن قائمة الرسل وأقوامهم كما وردت في سورة هود‬ ‫بترتيبها فيها‪:‬‬ ‫نوح وقومه‬ ‫‪.1‬‬ ‫هود وقومه‬ ‫‪.2‬‬ ‫صالح وقومه ثمود‬ ‫‪.3‬‬ ‫ابراهيم وزوجته (لم يذكر قومه)‬ ‫‪.4‬‬ ‫لوط وقومه‬ ‫‪.5‬‬ ‫شعيب وقومه‬ ‫‪.6‬‬ ‫موسى وقومه‪.‬‬ ‫‪.7‬‬ ‫أما من لم يذكر صراحة لا هو ولا قومه لكنه من ضمائر السورة فهم أولا المخاطب‬ ‫بالرسالة أي الخاتم ثم الرسول المتقدم على نوح آي آدم والرسول المتأخر على موسى بينه‬ ‫وبين الرسالة الخاتمة أي عيسى عليه السلام‪ .‬كما لم تذكر امرأتان ذاتا علاقة بآدم وعيسى‬ ‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪43‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫أعني مريم وحواء لكن ذكرهما ذو صلة بهما وينبغي افتراضه ضميرا في القصة‪ .‬ومن‬ ‫يعرف ولو سطحيا القرآن الكريم يعلم أنه قد قارن عيسى بآدم من حيث الخلق غير المعتاد‬ ‫فيهما‪.‬‬ ‫وقد ورد ابراهيم وسط قائمة الأسماء المذكورة في سورة هود قبله ثلاثة وبعده ثلاثة‪.‬‬ ‫وطبعا محمد هو المخاطب الاول بالسورة التي عليه تبليغها للإنسانية‪.‬‬ ‫والعلاقة بين إبراهيم ومحمد معلومة في القرآن لأنها هي العلاقة بين الحنيفيتين‬ ‫الإبراهمية والمحمدية‪.‬‬ ‫وقد ذكرت حواء ومريم لأن المقارنة القرآنية بين آدم وعيسى من حيث المولد غير العادي‬ ‫تفترض المقارنة بين أميهما حتى وإن كان التأويل السائد أن آدم لا أم له بالزعم أنه هو‬ ‫النفس الواحدة التي خلقت منها الإنسانية‪.‬‬ ‫لكن الأعراف ‪ 189‬لا يمكن أن تقبل هذا التأويل الذي قد يحتمل في النساء ‪.1‬‬ ‫فالأعراف ‪ 189‬أولت بغرابة لا يقبلها عقل فجعلت النفس الواحدة هي آدم وصار آدم‬ ‫يحبل‪.‬‬ ‫إن التأويل السائد هدفه تأييد خرافة من الاسرائيليات تقول إن حواء خلقت من ضلع‬ ‫آدم الأعوج‪.‬‬ ‫ولن أدخل في نقاش حول دلالة القصص القرآني للكلام فيها بالإثبات أو بالنفي وكأنها‬ ‫كلام في حقائق بايولوجية أو تاريخية وليست رموزا لمعان روحية من الغيب الذي لا يعلم من‬ ‫دون شرط العلم المحيط الممتنع على الإنسان‪.‬‬ ‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪44‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫أطلب من القارئ أن يتابع خطة القراءة الحالية للسورة‪ .‬فليقارن في سلسلة السبعة‬ ‫المذكورين صراحة‪ .‬ولننطلق في المقارنة من الأول من البداية لندرس علاقته بالأول من‬ ‫الغاية‪.‬‬ ‫ثم ننطلق من الثاني ذهابا من البداية لندرس علاقته بالثاني عودة من الغاية‪.‬‬ ‫ثم ننطلق من الثالث من البداية وعلاقته بالثالث من الغاية‪.‬‬ ‫وتطبيق نفس العلاقة ليس محض صدفة كما سنرى‪.‬‬ ‫فهي ترمز إلى أن الحل الموجب والسالب في الإشكال يطرح في البداية ويعالج في الغاية‬ ‫بنفس القاعدة بحسب رد فعل القوم على الرسول‪.‬‬ ‫فإن كان موجبا كان الحل موجبا وإن كان سالبا كان الحل سالبا‪ .‬ولذلك فالأمر كله في صلة‬ ‫بتاريخ الرسلات وتاريخ الإنسانية تطبيقا أو تحريفا‪.‬‬ ‫وسيجد في هذه الحالات الست التلازم الدائم بين الرؤيتين الدينية والفلسفية في‬ ‫المشترك بينهما الذي هو عين المشترك بين العالمين عالم الغيب وعالم الشهادة وذلك على‬ ‫النحو التالي الذي يتكرر في الحالات الست الواردة في هود‪:‬‬ ‫نأخذ نوحا وموسى‪:‬‬ ‫كلاهما نجى قومه من أمر لا يبدو بينهما علاقة‪.‬‬ ‫لكن لو عمقنا النظر ولم نقف عند القراءة المقصورة على الدلالة الدينية بالمعنى‬ ‫التقليدي والتي تتعلق بالاستخلاف ونظرنا في ما يمكن أن يكون لرسالة نوح من علاقة‬ ‫بقراءة فلسفية تجمع بين الدلالة الدينية والدلالة الدنيوية والتي تتعلق بالاستعمار في‬ ‫الأرض ثم نعكس فننظر ما يمكن أن يكون لرسالة موسى من علاقة بقراءة فلسفية تتعلق‬ ‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪45‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫بالاستخلاف في الأرض‪ .‬فماذا سنرى؟ سنرى الأمرين التاليين بالجواب عن السؤالين‬ ‫التاليين‪:‬‬ ‫‪ .1‬ماذا طلب الله من نوح في الرسالة التي كلف بتبليغها لقومه؟‬ ‫ألم يطلب منه أن يصنع سفينة وأن يأخذ من كل زوجين اثنين؟‬ ‫فما دلالة ذلك؟‬ ‫أليست دلالته أن الله كلف الإنسان بأن يستعمل التقنية والزراعة أداتين للتحرر من‬ ‫طغيان الطبيعة عليه حتى يصبح منتجا ذاتيا لشروط بقائه التي تحرره من سلطانها عليه؟‬ ‫‪ .2‬ماذا طلب الله من موسى في الراسلة التي كلف بتبليغها لقومه؟‬ ‫ألم يطلب منه أن يهاجر مع قومه وأن يشق النهر لينجي قومه؟‬ ‫فما دلالة ذلك؟‬ ‫أليست دلالته أن الله كلف الإنسان بأن يهاجر إذا لم يستطيع التحرر من طغيان الدولة‬ ‫عليه حتى يصبح حرا سياسيا إذا لم يكن قادرا على التغيير بطريقة أخرى؟‬ ‫وسنرى أن ما شيب الرسول الخاتم هو أن ما طلب من الرسولين بخصوص قومهما صار مطلوبا‬ ‫منه أن يجعله شاملا للإنسانية كلها لما بين رسالته الخاتمة والرسالة الفاتحة المرسومة في ما‬ ‫فطر عليه الإنسان من حيث هو إنسان كما تحدده النساء ‪( 1‬الأخوة البشرية من نفس‬ ‫واحدة) ومن حيث وجود نفي كل تمييز بين البشر عدى التمييز بالتقوى عند الله‪.‬‬ ‫لكن هل يمكن التحرر من استبداد الطبيعة ومن استبداد السياسية وجعل التحررين‬ ‫كونيين يشملان الإنسان كلها إذا لم تتوفر شروط شبه قطاعية ليصبح الإنسان كما يعرفه‬ ‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪46‬‬ ‫الأسماء والبيان‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook