أبو يعرب المرزوقي re nils frahm في التماثل السطحي بين عالم الشهادة وعالم الغيب الأسماء والبيان
المحتويات 2 -الفصل الأول 1 - -الفصل الثاني 10 - -الفصل الثالث 19 - -الفصل الرابع 28 - -الفصل الخامس 40 - -ضميمة 53 -
-- يمكن اعتبار الأزمة التي تعيشها البشرية بسبب كورونا فرصة للكلام في ما يتجاوز الدنيا فيضفي عليها معنى قد يساعد على فهم ثورة الإسلام ودورها في انقاذ الإنسانية ليس من الفيروس الطبيعي الذي يهدد مناعتها العضوية وحدها بل من الفيروس الحضاري الذي يهدد حصانتها الروحية. فالنوع الثاني من الفيروسات هو علة النوع الأول بسبب ما يحدثه من فوضى روحية هي علة التلويثين المادي والثقافي في حياة البشر .وتلك هي ثمرة كل ما يتوهمه الإنسان لنفسه من \"السيادة على الطبيعة وملكيتها\" بلغة ديكارت أو \"حب التأله\" بلغة ابن خلدون. وإذن فهذه المحاولة شبه نقاهة روحية آمل أن تفيد في تحقيق غايتين: .1الأولى فهم النخب العربية خاصة والإسلامية عامة ما فقدته من وعي بأهمية الثورة الإسلامية التي هي ثورة كونية تحرر الإنسان من الغرق في الفاني حتى يتعالى عليه فلا يخلد إلى الأرض دون اهمالها لأن الإنسان مستعمر في الأرض ومستخلف فيها .وكلاهما ضروري لوجود الإنسان السوي بل هما متلازمان حتى لو كان الإنسان غير واع بهما وبدورهما في حياته العضوية والروحية. .2الثانية فهم النخب التي تحارب الإسلام -نخب الإسلاموفوبيا سواء منا أو ممن ليسوا منا-أن سجن الإنسان نفسه في عالم الشهادة وتوهمه مستغنيا عما يتعالى عليه هو أصل النوعين من الفيروسات التي تهدد حياة الإنسان وشروط بقائه أي الفساد في الأرض وسفك الدماء. نعم يوجد ما هناك وراء ما هنا بعكس ما يزعم هيجل والتاريخ ليس الحكم النهائي. ابو يعرب المرزوقي 1 الأسماء والبيان
-- ولعل أكثر المسائل المحيرة في فهم علاقة العالمين-عالم الشهادة وعالم الغيب-في القرآن الكريم هي التي تجعل قراءته العامية مضرة بسمو رؤيتيه الخلقية المعرفية إذا لم نكتشف السر المفهومي الذي يتجاوز التماثل السطحي بين العالمين الدنيوي والأخروي التماثل الذي يعلل في الظاهر محاكمة عالم الغيب بمعايير عالم الشهادة للخلط بين الغائب والغيب .فهذا الخلط بينهما هو الذي جعل علم الكلام والدعاوى الخاصة بالماورائيات أمرين ممكنين لأنبائهما على مفهومين كلاهما دال على مصادرة على المطلوب: • المفهوم الأول هو قيس الغائب على الشاهد .وهذا ممكن إذا كان الغائب ليس من الغيب بل من الشاهد .فكل علم بالمجهول فيه قيس على المعلوم إذا كان المجهول من نفس الطبيعة. تطبيق هذه الطريقة في الكلام على الغيب مصادرة على المطلوب لأن مجرد قيسنا إياه على الشاهد هو اعتباره غائبا وليس غيبا. • المفهوم الثاني هو تأويل ما لا يطابق ما يصل إليه العقل من الوحي لرده إليه وهو في الحقيقة عين المفهوم الأول من منظور آلية تحقيقه المنهجية. فالقيس مشروط في التأويل وهو مثله مصادرة على المطلوب لأن الوحي لو كان قابلا للرد إلى العقل لكان منه ولكان العقل مغنيا عنه .ومن ثم فلا معنى للزعم أنه غيره. ولا يمكن زعم المفهوم الثاني ممكنا إلا بشرطين :أولهما يجعل العلم الإنساني محيطا حتى تكون معرفته مطابقة لحقيقة الموجود الشاهد وغائبه ناهيك عن الغيب. والثاني أن عمل الإنسان تام حتى يكون تقييمه مطابقا لحقيقة المنشود الشاهد وغائبه ناهيك عن الغيب. وإذن فالشرط الضمني هو رد عالم الغيب إلى عالم الشهادة والقول بوحدة الوجود ووحدة العالم أي بلغة هيجل لا وجود لـ\"ماهناك وراء ما هنا\". ابو يعرب المرزوقي 2 الأسماء والبيان
-- وبهذا التمهيد أصل إلى الأمر المحير الذي أريد الكلام فيه اليوم وذلك في خمسة فصول للكلام على أتفه حجج الملحدين الساخرين من ثنائية العالم في الرؤية القرآنية وخاصة مما يبدو من تناظر بينهما جعل الكثير يعتبره دالا على التأويل التعويضي للدين وحتى التوظيفي له بوصفه في رؤيتهم \"أفيونا للشعوب\". وسأبين أن الأفيون الحقيقي هو القول بوحدة العالم والإيهام بأن الإنسان يمكن أن يكتفي بالموجود الذي يغني عن المنشود في حين أن هذا التلازم بينهما هو جوهر كيانه لأنه يعيش هذا التوتر الوجودي الدائم بوصفه مشدودا إلى ما يتعالى على كل موجود .فيكون عين وجوده هو هذا التعالي الدائم عن الحاصل من كيانه عضويا وروحيا وهو \"جوع وجودي\" لا علاج له من دون الدين. والسخرية الدال على السذاجة بخلاف ما يتوهم أصحابها السخرية من التناظر بين العالمين في الرؤية القرآنية هو مجال التطبيق الذي انطلق منه للكلام في المسألة باعتبارها من أهم مميزات القرآن الكريم بالقياس إلى الكتب السماوية الأخرى .ولهذه العلة يستعمل هيجل هذه الخاصية ليفسر به رؤيته لما كان علماء الكلام المسيحيين في القرون الوسطى يعتبرونه من أكبر حجج التبخيس من أهم ثورتين كونيتين في الإسلام. • الثورة الأولى هي إيلاء أهمية كبرى للجنس وللعناية بكيان الإنسان العضوي نظافة وغذاء ورياضة حتى إن الصلاة فيه شبه يوجا • والثورة الثانية اعتبار الاقتصاد ذي ا لغاية الاجتماعية من شروط العبادة لاشتراط اشتراط النصاب في الزكاة والاستطاعة في الحج والصحة في الصوم والنظافة في الصلاة وكلها بحاجة إلى تنمية مادية هي الاستعمار في الارض. ابو يعرب المرزوقي 3 الأسماء والبيان
-- فأصبح الإسلام وكأنه دين يقدم الدنيوي على الاخروي بل ويعير الإنسان اخرويا بأفعاله دنيويا .حتى كان لوثر يعتبر القرآن عملا للعقل الإنساني من وحي الشيطان والدجال (ضديد المسيح) ولا علاقة له بالوحي .ويعتبر من أكبر الادلة على رأيه في القرآن أنه يعتبر الجزاء الأخروي معياره اعمال الأنسان في الدنيا وليس لطفا إلهيا. فكان يعتبر ذلك بدعة محمدية وخبثا إنسانيا لأنه يخضع الله فيقيس حكمه على الحكم المطلوب من الإنسان العادل والمفهوم الذي يعبر به عن حجته هو مفهوم العدل بمقياس العمل الإنساني Die Werkgerechtigkeitوليس بمقياس اللطف الإلهي. وظل علم الكلام المسيحي ينفي عن الإسلام كونه دينا سماويا منزلا ولا حتى هرطقة منحرفة من المسيحية كما كان يرى في بداية علاقتهم بالمسلمين لأنه عقلاني إلى أقصى الحدود بل وشيطاني حسب لغة لوثر حتى صار يعتبر لاحقا ممثلا للتنوير-بل إن هيجل سماه تنوير الشرق في الفصل الثاني من الباب الرابع من فلسفة التاريخ (باب العصر الجرماني). وما ثورة هيجل على التنوير وتغييره مفهوم العقل تمييزا بين العقل الاستريائي Der Verstandالذي لم يتجاوزه التنوير ممثلا بكنط الذي يتهمه بكون رؤاه إسلامية وحتى يهودية والنهى Die Vernunftالذي لم يتحقق إلا عنده هو بوصفه قد وجد الحل-منطق الجدل أو التثليث -الذي يبين أن المسيحية هي غاية الوحي والدين الخاتم والأتم. وقد اعتبر هيجل رؤية الإسلام للجنة وما فيها من متع جنسية وغذائية من علامات التعبير عن هم دنيوي هو علة ركون المسلمين للذة الجسدية وهو علة تخلهم عامة وحيوانية ذوي ابو يعرب المرزوقي 4 الأسماء والبيان
-- السلطان منهم خاصة بعد انتهاء سنوات العظمة في العهد الأول من حكم العرب (الفصل الثاني من الباب الرابع من فلسفة التاريخ). كما أن الكلام على ما في جهنم من عذاب كان شديد الإحراج لعلماء الإسلام أنفسهم لأنه يكاد يحول المسألة إلى سادية لا تليق برب العزة فضلا عن موقف نفاة البعث الجسدي واعتبار ما ورد في الكلام على الجنة نفسها ذا دلالات رمزية ولا تعني الجنس أو الأكل الموصوف فيه. وفي الحالتين فإن الأمر محير فعلا إذا ما انطلقنا من القول بالمطابقتين المعرفية والقيمية فتوهمنا ما ندركه من عالم الشهادة هو الحقيقة فنقيس عليه ما يقال عن عالم الغيب ثم نحاكمه بما نحاكم به هذا العالم. وطبعا حتى لو نفينا المطابقتين كما أفعل واعتبرنا العوالم متعددة ولكل منها معاييره حتى وإن كان الكلام عليهما بين البشر لا يمكن أن يكون بغير ما يفهمه البشر فإن الحيرة تبقى ما لم نجد طريقة في فهم علاقة العالمين بما في كيان الإنسان نفسه منهما باعتبارهما وجهين من كيف وجوده. فالشيء الثابت أن وجود عالم الغيب في كيان الإنسان الذي يعيه وهو في عالم الشهادة يشبه وجود عالم المثل أو عالم المعاني المجردة في كيان الإنسان الذهني التي من جنسها ما سماه ابن تيمية بالمقدرات الذهنية النظرية وما سميته بالمقدرات الذهنية العملية أعني شرطي العبارة عما يمكن أن نعلمه من الطبيعة بالأولى مع التجربة العلمية الطبيعية ومن التاريخ بالثانية مع التجربة العملية التاريخية. ابو يعرب المرزوقي 5 الأسماء والبيان
-- فرضيتي هي ان وجود عالم الغيب في كيان ا لإنسان الذي يعثه وهو في عالم الغيب يشبه وجود عالم المثل وقد صار محايثا بمعنى أن المعاني التي كانت مفارقة صارت حالة في كيان الإنسان العيني والتي من جنسها ما نراه من عذاب وآلام في عالمنا الذي نعيش فيه ولكن بصورة خالدة ومطلقة كما يصفها القرآن عندما يتكلم على الجنة وجهنم. فالوجه الأول أو الوجه الموجب من الخلود هو الحياة في الجنة .ووصفها يكاد يكون أشبه ما يكون بوصف الحياة بحصول كل ما يتمناه الإنسان من نعيم في الأرض لحرمانه منه. وهو ما قد يجعل القراءة القائلة بأنه سردية تعويضية تبدو قراءة وجيهة حتى لو احترزنا بالقول إنها مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على بال بشر. وهي من أهم الحجج التي تبدو مطابقة لاعتبار الدين \"أفيون الشعوب\" أي تخديرا من أجل القبول بالظلم .وحقيقة هذه الحجج هي أنها السردية التي تبدو معقولة إذا قبلنا القول بالمطابقتين وبوحدة العالم لنفي وجود عالم ثان حصرا للوجود في الشاهد منه ونفي الغيب. وهذه السردية هي سردية من وضع هيجل خاصة إذا اكتفينا بالفكر الفلسفي. لكنها في عمقها هي السردية الصوفية المتفلسفة القائلة بوحدة الوجود سواء كان مروحنة كما عند الصوفية التقليدية أو في ترجمتها الهيجلية المروحنة والسبينوزية المطبعنة. وبخلاف ما يتوهم المتعامقون فهذا الفهم هو بدوره فهم عامي .إنه ليس فهما دينيا ولا فهما فلسفيا لأنه مبني على توهم المطابقة المعرفية في النظر والعقد من حيث العلاقة بالحقيقة الطبيعية وعلى توهم المطابقة القيمية في العمل والشرع من حيث العلاقة مع التاريخ .وكلتا المطابقتين من أوهام العامة التي توصل إلى قول التصوف بأن المستبدين ابو يعرب المرزوقي 6 الأسماء والبيان
-- بالحكم هم ظل قدرة الله في الأرض وأن المستبدين بالعلم هم ظل علم الله فيها :وهذان الرؤيتان هما ما يسميه ابن خلدون بـ\"حب التأله\". لكن إذا تجاوزنا هذه القراءة العامية التي يظنها الكثير فلسفية وصوفية أمكننا أن نفهم الدلالة العميقة للفصل بين العالمين في القرآن الكريم دون أن نجزم بأن هذه الدلالة التي نتكلم عليها عندما ما يتجاوز الإيمان إلى الاثبات العلمي للتناقض بين القول بنفي المطابقتين والزعم بأن اثبات ذلك علميا أمر ممكن. فما الدافع العميق لما نراه يحصل في الدنيا من تحقيق المفقود الذي يصبح مطلوبا للتعويض ما يعني أن هذا إن صلح اعتباره دافعا لإيجاد عالم الغيب أو العالم الثاني لا يتعلق بتعويض عن معدوم بذاته بل عن نزعة لإعدامه علتها الخوف من انعدامه الممكن .فيكون الدافع ليس التعويض في الآخرة بعالم غيبي بل علاج لمرض في الدنيا علته ليس حقيقة فعلية بل ما ينتجه الخوف من الندرة التي ما كانت لتوجد لولا الخوف من امكان حصولها فيصبح الخوف هو الذي يوجدها :وهذا هو العامل الأساسي لوجود الاقتصاد. وإذن فالعالم الأخروي -في هذه الحالة -يكون هدفه التحرير من الخوف في العالم الدنيوي وليس تعويضا عن معدوم فيه لأن الندرة علتها الخوف من إمكانها وليس من حصولها الفعلي. ولنا مثلا في التلهف على تخزين الغذاء والدواء في جائحة كورونا مثال ماثل أمامنا. فيكون الإيمان محررا من هذا الخوف ومن ثم فهو علاج لنزعة التخزين المسبب للندرة وليس تعويضا عن معدوم .فالندرة في سد الحاجات العضوية والندرة في سد الحاجات الروحية ليست موجودة في عالم الشهادة بل هي موجودة في خوف الإنسان من عدم كفاية ما فيه. ابو يعرب المرزوقي 7 الأسماء والبيان
-- فتكون الجنة في عالم الغيب دليلا على أن التخلص لا يكون إلا بما يمثله الإيمان بالله في عالم الشهادة بوصف رؤية وجهه هي المعين الذي لا ينضب فوق ما يسد الحاجتين في عالم الشهادة كما يسدها في عالم الغيب لو آمن الإنسان بأن الرازق هو الله فتحرر من الخوف من الندرة التي هو سببها بلهفته للتحرر من الخوف منها .فإذا فهمنا الرموز الواردة في وصفها القرآني هذا الفهم أمكن تحديد دور الإيمان في عالم الشهادة دوره الذي لا يمكن تدبير السياسة وتنظيم الحكم بدونه. وهذا التخلص ليس بمعنى التخلص من الحرمان بل بمعنى التخلص من عبادة ما تسد به الحاجة في عالم الشهادة مهما بلغ وهو معنى الإنسان \"رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف\" الخلدونية الذي هو وجه العبادة الله التي لأجلها خلق الإنسان كما جاء في قوله جل وعلا \"وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدو ِن\". ولو كان هذا الشعور مقصورا على المحروم الفعلي أي الفقراء وكان الأغنياء منزهين عنه لصدقنا أن الأمر هو للتعويض. لكن ذلك شعور عام نجده عند المرزوق أكثر مما نجده عند المحروم بحيث إنهما كليهما لا يتحرران من هذا الشعور الذي يرمز إلى خوف أعمق هو الخوف من الموت المتعين في الخوف من نضوب شروط الحياة الدنيوية. فيكون الأصل هو الخوف من الفناء أو من عدم الحياة الأبدية للإنسان .وكان يمكن أن نستنتج أن وعي الإنسان بأنه فان أو مائت هو علة الوعي بالخلود الأخروي والعلة الوحيدة للحاجة إليه لو تأكدنا من أن معرفتنا مطابقة لحقيقة الوجود وأن تقييمنا مطابق لقيمته. وإذن فالجزاء الأبدي ليس تعويضا عن عدم الحضور بل هو دليل الإيمان بالحضور الأبدي ابو يعرب المرزوقي 8 الأسماء والبيان
-- لما ي يمكن للإيمان به أن يزيل الخوف على نضوب شروط البقاء أو الخوف من الفناء .كل المشكل هو إذن رهن وهم القول بالمطابقتين. ابو يعرب المرزوقي 9 الأسماء والبيان
-- لو تخلى الإنسان عن وهم العلم المحيط والعمل التام واعترف بأن علمه وتقييمه شديدا النسبية لما وقع في هذا الخوف الدائم من المجهول الذي يدعي أنه معلوم فيطلق عالم الشهادة ويستمد منه معيار الحكم الحاسم كما في فلسفة هيجل وماركس وفي تصوف كل القائلين بوحدة الوجود سواء كانت طبعانية (سبينوزا) أو روحانية (هيجل). وبذلك نفهم التناظر بين مفهوم الخلود في الجنة والخلود في النار بوصفهما مفهومين: أحدهما يعبر عن حال من تحرر من هذا الخوف. والثاني يعبر عن حال الغارق فيه .وكلاهما يعيش حاله في دنياه وفي أخراه. فعندنا جزاء أبدي سلبي هو الغياب الأبدي لما كان يخشى نضوبه في حياته الدنيا (جهنم) مناظر لجزاء أبدي إيجابي هو الحضور الأبدي (جنة) لما كان الإنسان يخاف نضوبه في حياته الدنيا: .1حضور ما يرمز إلى \"المائدة\" أو شروط البقاء العضوي للفرد دون خوف من النضوب. .2حضور ما يرمز إلى \"السرير\" أو شروط البقاء العضوي للنوع دون خوف من النضوب. .3حضور ما يرمز إلى \"فن المائدة\" شرط السلطان المستمد من البقاء الروحي للفرد المتبادل. .4حضور ما يرمز إلى \"فن السرير\" شرط السلطان المستمد من بقاء الجماعة المتواصلة الروحي. .5حضور المؤثر الفعلي ورمزه رؤية وجه الله أي مصدر المدد المغني عن الخوف من النضوب. ابو يعرب المرزوقي 10 الأسماء والبيان
-- ومن ثم فالخلود يحصل لأن ما كان علة الخوف من فقدان شروطه انتهى إذ إن كل شيء موجود بلا حد ومعينه الذي لا ينضب حاضر .والإيمان الصادق هو الإيمان بأن الله حاضر معنا في عالم الشهادة حضورا يحررنا من الخوف من النضوب والفناء. وهو يرانا ولا نراه لكأننا في الآخرة نراه كما يرانا عندما يصبح البصر حديدا (كما يصف القرآن ذلك) :أي إن الإنسان يصبح مدركا للغيب معرفة وقيمة. وقد يكون كتاب المحاسبي في \"التوهم\" من الحدوس الدقيقة التي أدركت هذا المعنى وإن لم تفسره التفسير الذي يبدو لي وجيها .فالمعنى العميق فيه هو أن الإنسان يصبح له ما يشبه قدرة \"كن\". وفي المقابل فإن جهنم هي الخلود في هذا الخوف الذي انتقل من كونه خوفا من الممكن في الدنيا إلى صيرورته خوفا من الحاصل الفعلي في الآخرة. وهو النار التي لا تنطفئ والتي يمكن أن تكون خالدة. فالخالد في الغاية هو حال النفس المطمئنة في العالمين عالم الشهادة وعالم الغيب وحال النفس الفاقدة للاطمئنان فيهما .ولا علاقة للأمر بالفقر والغنى لأننا بينا أن الأغنياء أشد خوفا من الفقراء مهما تراكمت ثروتهم لأنهم أقل إيمانا. لذلك فجنهم هي الخلود في هذه الحالة الروحية من عدم الاطمئنان لحضور الخوف الدائم من غياب ما رمزنا إليه بحضوره في الجنة: غياب المائدة بإطلاق الجوع العضوي الدائم. .1 غياب السرير بإطلاق الجوع الجنسي الدائم. .2 غياب فن المائدة بإطلاق أو الشعور بكل ضار يتبع الغذاء مع عدمه. .3 ابو يعرب المرزوقي 11 الأسماء والبيان
-- .4 .5 غياب فن السرير بإطلاق أو الشعوب بكل ضار يتبع الجنس مع عدمه. غياب رؤية وجه الله أي مصدر الخلود وشروط اللذين لا ينضبان. ويترتب على ذلك تناظر متعاكس بين الجنة والنار وبين عالم الشهادة وعالم الغيب. والتناظر ليس بين ما يظن من الأمور الموصوفة بل في ما يترتب على الإيمان من اطمئنان في العالمين وفي ما يترتب على عدمه من عدم الاطمئنان في العالمين .كل ما في الأمر هو أن الاطمئنان وعدمه كانا حالا ظرفية في عالم الشهادة وصارا حالا خالدة في عالم الغيب بعد أن صار عالم شهادة بالبعث. ومعنى ذلك أن فكرة التعويض الخرافي للمحرومين سخيفة .لأن المترفين أيضا لا يتحقق لهم الاطمئنان بما يحصلون عليه مهما تراكم كمه وتجود كيفه في عالم الشهادة بمقتضى ما يشبه مفهوم \"الجرب\" عند افلاطون او مفهوم \"اللامتناهي الزائف\" عند هيجل: .1التناظر بين محدودية الكمال وإطلاقية النقص :مصارعة الفناء لا تنتصر على الموت في علاقة بالطبيعة. .2التناظر بين محدودية الكمال وإطلاقية النقص :مصارعة الفناء لا تنتصر على الموت في علاقة بالحياة. .3أن يكون معنى الجنة حضور الكمال دون نقص هو المعنى الذي يمكن أن يفهمنا استحالة رضا الإنسان بعالم الشهادة وحده. وهذه الحال فطرية وهي مما يذكر به القرآن لأن \"حب التأله\" أو الطغيان المعرفي واليمي ينسي الإنسان هذه الحال. ابو يعرب المرزوقي 12 الأسماء والبيان
-- مثال ذلك أن نسيان الموت من العلل الرئيسية لكل تجبر وكل طغيان معرفي أو قيمي وخاصة عند طغاة الحكام. والحكم على هذا الرفض بكونه معبرا عن حقيقة فعلية أو عن \"وهم\" إنساني مرده إلى حسم ما لا يقبل الحسم. فمن يقول بالمطابقتين المعرفية والقيمية -رغم العلم باستحالتهما-يعتبره وهما لأنه يتصور علمه وعمله مطلقين فيقو بما يقول به هيجل :لا يوجد \"ما \"هناك وراء ما هنا\" وأن التاريخ هو الحكم النهائي ولا وجود لحياة الآخرة. لكن لما كان كلامه على المطابقة هو الوهم بعينه لأنه لا يوجد عاقل يمكن أن يصدق أن علمه محيط وأن الوجود يرد إلى ما ندركه منه أو أن عمله تام وأنه لا يوجد منشود يتجاوزه فإن قول هيجل بالمطابقة بين \"العقل\" و\"الواقع\" من أكبر أوهامه وعلة تحويل الفلسفة والدين إلى إيديولوجيا حمقاء تجعل الـأمر الواقع أمرا وجبا .ورؤية ماركس أضعف من رؤية هيجل ولا تحتاج لمزيد رد. .4أن يكون معنى جهنم حضور النقص المطلق والخالد دون كمال يكفي لفهمه قراءة الحوار الذي يجري أحيانا بين سكان الجنة وسكان النار في القرآن الكريم .فهو يصفهما بمطالب الثانين من الأولين وردود هؤلاء على أولئك وتتعلق خاصة بالماء والغذاء اللذين هما رمز الحياة .كما أن كلام القرآن على الغذاء والماء في جهنم بين .والمهن هو عدم النضوب ووصف المحيط الطبيعي والروحي بالكمال وعدم النضوب. ابو يعرب المرزوقي 13 الأسماء والبيان
-- ولا كلام على الجنس لأنه مقصور على الجنة وكأن جهنم ليس فيها نساء أصلا .والكلام عليه كان سيفيد اللذة القصوى في المنظور القرآني وهي اللذة التي لا يعلو عليها غير لذة رؤية وجه الله أي علة الخلود وعدم النضوب المشعر بالنقص وعلة الخوف من الفناء. .5أن يبقى التناظران كلاهما ممكن دون دليل على الموجب ولا على السالب .فمعنى رؤية وجه الله وعدم رؤيته هي المجهول المطلق في هذا التناظر وإن كان المعنى الناتج عن التناظرين هو حضور الوجود المطلق في الموجب بالنسبة إلى الجنة ورمزه الاستمتاع المطلق وحضور العدم المطلق في السالب بالنسبة إلى جهنم ورمزه العذاب المطلق. ولا يمكن أن نجزم اثباتا أو نفيا بخصوص حقيقة هذه الرؤية او عدم حقيقتها إلا إذا قلنا بالمطابقتين .وقد بينت أنه لا يوجد عاقل مهما تدني مستواه العقلي يمكن أن يقول بالمطابقتين. ومن ثم فالحسم يصبح مسألة قرار خلقي هو جوهر حرية الإنسان وهي جوهر القدرة على \"التوجيه\" بالمعنى الوجودي للكلمة ويستعمل في منطق الجهات لكنه وجودي الطبيعة. فهو الذي يقرر التمييز بين الممكن والواجب والممتنع في الموجود والمنشود .وتلك هي حقيقة الفرق بين الضرورة الطبيعية والحرية الخلقية .وكلتاهما شرطية كما بينت في بحوث سابقة .والنكوص الهيجلي والماركسي هو العودة إلى ما قبل العلاج الكنطي الذي يجعل التمييز بين الظاهرات والباطنات (العقليات) شرطا في فهم قابلة الإنسان للاستثناء من الضرورة الطبيعة التي من دونها لا يمكن تأسيس المعرفة العلمية. ابو يعرب المرزوقي 14 الأسماء والبيان
-- والاستثناء شرط في تأسيس القيم الخلقية وأولها الحرية الإنسانية .ومن هنا جاءت مسلمات كنط الثلاث الصريحة التي من دونها يستحيل استثناء الإنسان من قانون الطبيعة بالمعنى السبينوزي. والمسلمات الثلاث يترتب عليها مسلمتان ضمنيتان تعطيان للمسلمات دلالة دينية ولا تقتصر على الدلالة الفلسفية التي تعالج المشكل الأبستمولوجي في التمييز بين الطبيعي والإنساني من موضوعات المعرفة الإنسانية: المسلمات الكنطية الثلاث الصريحة: .1أن الإنسان حر .2أن الإنسان نفسه خالدة .3أن الله موجود. المسلمتان الضمنيتان المترتبان على مسلمات كنط: .4فمن المسلمة الثانية ينتج وجود آخرة لأن خلود الإنسان منفي في الدنيا. .5ومن الثالثة ينتج أنه وجود حساب يوم الدين لأن العدل التام معدوم في الدنيا. إن أهم قضية تقض مضجع من يقرأ القرآن -بعد وضع قضية الإيمان بكونه منزلا أو الإيمان بكونه غير منزل بين قوسين -ليس لأنه القرآن أو لأنه كتاب الإسلام بل هي قضية تشمل كل كتاب يعتبره أصحابه منزلا وكلاما إلهيا بالمعنى غير الاستعاري للكلمة أي بكونه كلام الله مباشرة وليس ترجمة لما عاشه قائله بوصفه قد أوحي إليه هو ما في بعدي هذا التناظر من سؤال عميق يمكن صوغه كالتالي: ابو يعرب المرزوقي 15 الأسماء والبيان
-- .1هل سياسة عالم الغيب أو الأخرى بوعدها ووعيدها كما يقصها القرآن هي نموذج لسياسة عالم الشهادة أو الدنيا موجود فعلا فتكون سياسة عالم الشهادة والدنيا هي امتحان أهلية الإنسان للاستخلاف ووعد سياسة عالم الغيب ووعيدها؟ .2أم هي من نوع المقدرات الذهنية العملية تؤدي في نظام عالم الحرية والتاريخ الدور الذي تؤديه المقدرات الذهنية النظرية في نظام عالم الضرورة والطبيعة فنقع في الرؤية الهيجلية التي تنفي أن يكون وراء هذا العالم الذي نعيش فيه عالم يتعالى عليه وتؤكد أنه لا يوجد إلا عالم وحيد. والجواب عن هذا السؤال هو مشكل الإنسانية الحالي .إنه الجواب المحدد لمستقبلها. ولذلك فالرهان لا يمكن ألا يكون رهان العالم كله مع الإسلام الذي يعرف نفسه بكونه رسالة كونية للإنسانية كلها في علاقتها بالعالم باعتبار الإنسان مستعمرا في الدنيا ومستخلفا فيها. وطبعا لو كنت في مستوى الإيمان لا أسلم بالحل الإسلامي والقرآني لما كتبت حرفا في دحض نظرية المعرفة القائلة بالمطابقة -التي كانت سائدة قبل فكر المسلمين الفلسفي والكلامي (افلاطون وأرسطو) والتي عادت لتسود في عصر تصوروه بعده (هيجل وماركس وما انتهت إليها الأولى في فوضى علم الكلام في الله والثانية في فوضى ما بعد الحداثة التي هي عودة إلى علم كلام في الإنسان-ودحض نظرية القيمة القائلة بالمطابقة ولكنت هيجليا بل وماركسيا. ولهذه العلة فإن ما يجعلني اعتبر إيماني ليس عقديا بمعنى التسليم العجائزي بل هو مبني على اللاأدرية المعرفية والقيمة الناتجة عن اليقين بأن المطابقتين مستحيلتان على ابو يعرب المرزوقي 16 الأسماء والبيان
-- الإنسان .ومن ثم فالخيار بين الإيمان وعدمه هو جوهر الحرية وجوهر تبين الرشد من الغي الذي هو في النهاية توفيق وهداية إلهية .ذلك أن نفي المطابقتين الثابت يجعل القول بوحدة العالم عديم الأساس فلا يزيل إمكان وجود عالم فوقه يكون هو أحد علاماته دون أن ينحصر فيه. وهذه هي حال الحرية المطلقة التي تجعل غلبة المجهول على المعلوم في النظر وغلبة المجهول على المعلوم في العمل هما حقيقة منزلة الإنسان التي هي كونه حرا في اختيار عقده حتى بالنسبة إلى ذاته وإلى حقيقة ما يدركه بحواسه بالمقابل مع ما يتخيله بخياله. نحن الآن أمام المنزلة الوجودية للمقدرات الذهنية سواء كانت نظرية مثل الحقائق الرياضية التي لا يمكن أن يكون أي شيء منها قابلا للحس أو حتى لتحديد طبيعة وجودها عقليا أو عملية مثل القيم الخلقية التي لا يمكن أن يكون أي شيء منها قابلا للحس أو حتى لتحديد طبيعة وجودها عقليا. ومعنى ذلك أننا نتعامل مع أشياء لا نستطيع تحديد طبيعتها لكننا من دونها لا نستطيع أن نعلم الطبيعة من دونها تصويرا لما ندركه بحواسنا الخارجية بما فيها كياننا العضوي أو أن نعلم التاريخ من دونها تصوريا لما ندركه بحواسنا الباطنية بما فيها كياننا الروحي أي وعينا بذاتنا. فإذا وصلت ذلك بتعريف القرآن نفسه بكونه تذكيرا بأمر منسي مرسوم في الفطرة وليس تعليما لشيء مجهول سيكتسب أصبح من الواجب التساؤل عن هذا المذكر به ما طبيعته .لما بحثت في القرآن وجدته. ابو يعرب المرزوقي 17 الأسماء والبيان
-- يحدد الأول بكونه ما به تم الخلق بمعنى أن الطبيعة خلقت بقوانين الرياضيات التي نعلمها بوصفها تقديرات ذهنية نظرية تطبق على التجارب العلمية في الطبيعة لنعلم ما نعتبره قوانين الطبيعة (كل شيء خلقانه بقدر). ويحدد الثاني بكونه ما به يتم الأمر بمعنى أن التاريخ يجري بسنن لا تتغير ولا تتبدل والتي نعلمها بوصفها تقديرات ذهنية عملية تطبق على التجارب السياسية في التاريخ. وقد يتصور البعض أني بهذا أزعم أن القرآن يتضمن اعجازا علميا .وقد كتبت الكثير لدحض هذه الرؤية لأنها لأن أصحابها يخلطون بين العلم وشرطه دقة التحديد وبين المعاني العامة التي تقبل تأويلات لا يحد منها التحديد الدقيق .فمن يتصور أن تأويل كلمة جاذبية مثلا فيها دلالة نظرية الجاذبية عندي مجنون. نظرية الجاذبية قانون علمي كلمة جاذبية مفهوم عامي قد ينطبق أول شيء على الجاذبية الجنسية. وكل معاني القرآن التي يتأولها ادعياء الاعجاز العلمي هي من جنس كلمة جاذبية وليست من جنس نظرية الجاذبية. ابو يعرب المرزوقي 18 الأسماء والبيان
-- أعتبر خياري تصديق ما جاء في القرآن الكريم ليس عريا عن الدليل حتى إن كان في الغاية يستند إلى الإيمان لأن العلم هو بدوره غايته الاعتقاد في أنه بلغ إلى ما يتصوره الحقيقة بالقدر الممكن للإنسان. لذلك وصلت بين النظر والعقد .وكل من له دراية بالفينومنولوجيا يعلم أن موقف رفع الحكم خلال البحث غايته التحرر من العقد الغافل للوصول إلى العقد الواعي .والفرق بينهما هو شرط البحث العلمي في أي مجال. وكان أرسطو يقابل بين التعجب السابق عن معرفة العلة وهو العمل الغافل عن العلة والتعجب التالي عنها والعلم الذي اكتشف العلة :ويضرب مثال التعجب من وجود الأعداد الصماء. وإذن فالمعرفة تبدأ بعقد غافل عن حجته وتنتهي إلى عقد واع بحجته. والحجة التي أبني عليها كلامي في المسائل التي لها صلة بالتحرر من الموقفين الفلسفيين اللذين أضرا بعلوم الملة الغائية الخمسة أعني موقف المطابقة في نظرية المعرفة والنظر وموقف المطابقة في نظرية القيمة تكررا مرتين: • الأولى ورثها فكرنا القديم عن أفلاطون نسبيا وأرسطو بإطلاق. • والثانية ورثها فكرنا الحديث عن هيجل نسبيا وماركس بإطلاق. لذلك فالأدلة التي اعتمدها ليست من الأدلة الكلامية بل هي على النقيض منها .فهي مستمدة من استحالة المطابقتين أي استحالة العلم المحيط واستحالة العمل التام استحالتهما التي تحول دون نفي إمكانية تعدد العوالم ونفي القول بالمطابقتين سواء في شكلهما القديم ابو يعرب المرزوقي 19 الأسماء والبيان
-- عند أفلاطون نسبيا وأرسطو بإطلاق أو في شكلهما الحديث عند هيجل نسبيا وماركس بإطلاق. ومعنى ذلك أن العلم نفسه هو الذي ينفي هذه الامكانية بل ويستمد قوته من هذا النفي .فلا يوجد عالم اليوم يستطيع الزعم بجد أن علم الإنسان محيط أو عمله تام. وإذن فليس تصديقي بما في القرآن حول العالمين عالم الشهادة وعالم الغيب من جنس إيمان العجائز أو الإيمان الموروث. ومن يتصور الأديان من أساطير الأولين فهو الغارق في اساطير الآخرين. كما أن استدلالي ليس من جنس الرد على الملحدين لأن كل الردود عليهما مبينة على القول بالعلم المحيط والعمل التام وإن في الاتجاه المقابل .رؤيتي موجبه رغم أنها شبيهة باللاأدرية التي تجعل الإيمان تفضيل اختياري لترجيح أكثر وجاهة من الترجيع الذي يلجأ إليها الملحدون. فالموقف اللاأدري عندما يتعلق الأمر بالماروئيات موقف قرآني لكون الحسم فيها متعال على المعرفة ونظرية القيمة الممكنتين للإنسان واللتين ليستا محيطيتين .وهو علميا ضروري حتى في الدنيويات لأنه لا يوجد شيء يخلو من الغيب أو على الاقل مما ليس معلوما أو حتى مما لا يقبل الحسم فيه بعلم يقيني. وقد بنـى القرآن عليهما الارجاء في الحسم بين الأديان المتعددة من حيث هي أمر واقع في عالم الشهادة (البقرة 62والمائدة 69وحتى الحج )17رغم قوله بأنها واحدة بالجوهر عند الله لكن ذلك لن يحسم لإزالة ما اختلف فيه إلا في عالم الغيب .وهذا الدين الواحد ابو يعرب المرزوقي 20 الأسماء والبيان
-- الذي يطلب منا القرآن الإيمان بأنه الإسلام باعتباره الديني في كل دين لن نعلم ما فيه من ماورائيات بيقين إلا يوم الدين. وذلك هو مفهوم الغيب الذي تتعلق به الآيات المتشابهة التي تأويلها يفيد زيغ القلوب وابتغاء الفتن والذي أمرنا بأن نؤمن به: .1اللاأدرية المعرفية في الماورائيات هي التي تجعل العلم الإنساني اجتهاديا دائما لأنه غير محيط حتى بعالم الشهادة الذي لا يخلو من الغيب ناهيك عن عالم الغيب الذي لا نشهد إلا ثمراته. .2اللاأدرية القيمية في الماورائيات هي التي تجعل العمل الإنساني جهاديا دائما لأنه غير محيط فلا يعلم أن ما قد يظنه شرا خير وما يظنه خيرا شر بسبب عدم خلوه من الغيب الذي لا نشهد إلا ثمراته. .3والإنسان في الحالتين لا يدري هل هو يحقق ما يرضي الله بعلمه وعمله أو لم يحققه فيبقى دائما متواضعا في حكمه على علمه وعمله فلا يحسب أنه قد أثبت أهليته للاستخلاف فضلا عن التأله. .4ومن ثم فسلوك الإنسان مع غيره ومع نفسه ينبغي أن يكون دائما محكوما بهذا التواضع الذي يحرره من الحكم القاطع معرفيا وقيميا على الغير خيرا أو شرا بل يعتبر عمله وعمله لا يعلم حقيقتهما إلا الله. ابو يعرب المرزوقي 21 الأسماء والبيان
-- .5وأخيرا فذلك هو معنى كونه مسلما بمعنى أنه يسلم أمره لربه دون أن يطغى أو يتجبر فيعامل الناس والاشياء بقيم الإسلام دون وحشية أو تكبر :إنه إتمام مكارم الأخلاق وتمام الدين في القرآن لكن أهمية هذه اللاأدرية هي أنها شديدة الإيجابية .فهي علة رد المعرفة والنظر إلى الاجتهاد الذي يثاب عليه الإنسان سواء أصاب أو أخطأ إلى حد ارجاء الحسم في ما تختلف فيه الأديان كما أسلفت بل وحتى الشرك فقد اعتبر من بينها (الحج .)17 وهي علة رد القيمة والعمل إلى الجهاد الخلقي الذي يثاب عليه الإنسان سواء أصاب أو أخطأ إلى حد رهن الحكم على النية والقصد وليس على النتيجة إذا توفرت شروط الأهلية والكفاءة. ولما كان الحسم في الاختلاف بين أهل الأديان مرجأ فمن باب أولى أن يكون مرجأ بين المرء ونفسه في الامتحان الدائم للإيمان إذا كان صادقا في التجربة الروحية التي هي جوهر حياة الوعي بمنزلته من حيث هو خليفة يطلب حال النفس المطمئنة .والمعلوم أنه لا اطمئنان من دون اليقين .واليقين ليس مسالة استدلال بل هو فوق الاستدلال الذي قد لا يوصل إليه بل يحول دونه. ويبقى الإشكال الجوهري في هذه المحاولة هو ما سعيت إلى بيانه من صلة بين معان قرآنية كانت غامضة ويحتج بها علماؤنا دون تحديد دقيق يساعد على جعلها حججا وجيهة وليست مهارب كلامية. والصلة التي أعنيها تتعلق بما انتهيت إليه في البحث عن طبيعة المعاني الكلية التي سماها ابن تيمية المقدرات الذهنية النظرية (الرياضيات ومنطق النظر) والتي قست عليها ما سميته المقدرات الذهنية العملية (الأخلاقيات ومنطق العمل). ابو يعرب المرزوقي 22 الأسماء والبيان
-- وأغرب ما عجبت له في رؤية ابن تيمية نفيه للكلية والبرهانية في غير المقدرات الذهنية والمعاني الدينية ما يفيد وإن لم يقل ذلك صراحة أنه يعتبر هذه الأـخيرة من جنس تلك الأولى. وقد حاولت وصلهما بمفهومين مترابطين هما مفهوم التذكير ومفهوم الفطرة. فلا تذكير إلا بما كان معلوما ثم نسي. وما كان معلوما دون تعليم سابق في البدء لا يمكن ألا يكون ما رمز إليه القرآن بتعليم آدم الأسماء كلها وإذن بما فطره الله عليه. وهذه المعاني الكلية هي إذن المعاني الدينية التي جهز بها الإنسان ليكون قادرا على العلم وعلى العمل أي على ما بفضله يمكن أن يحقق مهمتيه اللتين هما الاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها .وهذه المعاني الدينية الكلية التي يطلب منا الإيمان بها ويكتفي القرآن بالتذكير بها لأنها مرسومة في ما فطرنا عليه والتي من دونها لا يمكن أن يحقق الإنسان مهمتيه ليست مما يتعين في الأعيان بل هي مما تعمل به الأذهان وما لا يمكن إدراكه بالحواس. وذلك هو معنى المقدرات الذهنية النظرية المشروطة في كل معرفة علمية والمقدرات الذهنية العملية المشروطة في كل عمل خلقي. وكلا النوعين من المقدرات الذهنية مرسومة في ما فطر عليه الإنسان أعني أن ما تذكر به الرسالة هو أن الفكر الإنساني لا يمكن أن يفكر إلا بالمعاني الرياضية ومنطق النظر وأن الإرادة الإنسانية لا يمكن أن تعمل إلا بالمعاني القيمية ومنطق العمل. وهذه المعاني الأربعة تنمو بنمو الإنسان فردا وجماعة وتحققه المتدرج فردا وجماعة جزئية (الأمم المختلفة) وكلية (أي الإنسانية كلها). ابو يعرب المرزوقي 23 الأسماء والبيان
-- وهي تجهيز الإنسان الفطري الذي تذكر الرسالة الإنسان به. وهو تجهيز لا يمكن أن يكون كافيا إذا لم تكن في علاقة تناغم مع ما في الطبيعة والتاريخ من قابلية لكشف أسرارهما للإنسان بفضل ما توفره له من قدرة على فهم قوانين الأولى وسنن الثاني. فالإنسان من دون علم ومن دون عمل لا يمكنه أن يعمر الأرض وينظم التاريخ. فمن دون معرفة طبيعة قوانين الطبيعة وسنن التاريخ ومن دون عمله بهما لا يمكن للإنسان أن يعمر الأرض أو أن يستخلف فيها. وإذن فالتذكير القرآني لا يتعلق بالعلوم والاعمال العينية حتى يتكلم العلماء على الأعجاز العلمي بل هو تذكير بالمبادئ العامة التي يتكون منها جهاز الإنسان المعرفي والقيمي حتى يتمكن من كشف القوانين والسنن التي لا تعلم إلى عينيا خلال التجربة الطبيعية والتاريخية ولا يمكن أن توجد في نص القرآن. ولذلك فالقرآن ينبهنا بأن حقيقته لا تعلم إلا عندما يرى الانسان الآيات التي يريه الله إياها في الآفاق وفي الأنفس (فصلت )53أي في الطبيعة وفي التاريخ وفي أنفس البشر التي هي مؤلفة من الطبيعي عضويا ومن التاريخي روحيا. والمشكل ليس في كون هذه المعاني الكلية التي سياها ابن تيمية مقدرات ذهنية نظرية وحصر العلم البرهاني فيها والمقدرات الذهنية العملية التي قستها عليها وحصرت العمل التام فيها ليس في كونها موجودة في الأذهان فحسب بل في كونها موجودة خارج الأذهان وخارج عالم الشهادة أيضا. ابو يعرب المرزوقي 24 الأسماء والبيان
-- أي إنها أربعتها -الرياضيات ومنطق النظر والأخلاقيات ومنطق العمل وطبيعة قوانين الطبيعة وطبيعة سنن التاريخ -ما تذكر به الرسالة بالإشارة إلى مظانه التي ينبغي البحث فيها لمعرفتها بتلك المبادئ مطبقة على التجربة في العلاقة بالطبيعة وبالتاريخ كلها من عالم آخر ليس للإنسان منه إلا كونها تمثل صلة الوصل بين عالم الشهادة وعالم الغيب. وإذن فالإيمان لا يتعلق بوجودها في الأذهان بل بوجودها في أعيان متعالية وجودا يعلل كونها مشروطة في علم الاعيان الشاهدة وفي قيمها حتى وإن لم تكن حاصلة في علمنا بل إن دورها في العالم الشاهد ماثل في الأعيان المحسوسة التي ندركها ونكتشف ما فيها من قوانين وسنن بالتدريج .فكيف يمكن للإنسان أن يقدر ذهنيا كائنات لا وجود لها في عالمه الحسي. ولا يقدر عالمه العقلي أن يتصورها موجودة بتعين محدد في هذا العالم الشاهد لأنها غير قابلة للتحقق خارج تعريفها إلا إذا تصورنا أن التمثيل لفكرة هو الفكرة التي نمثل لها برسم مثلا على السبورة عندما نشرحها للمتعلمين أو عندما نرسمها لنصنع ما يمكن أن يتصف بما يقرب من صفاتها مع تحديد لقيم محدداتها. المشكل هو إذن هذه القدرة على التقدير الذهني لمعان ليست قابلة للحس وليست قابلة لأي تعين خارج تعريفها والتي ينساها الإنسان ويذكره بها القرآن .والإنسان رغم أنه لا يستطيع تصور نوع وجودها لأنها لا تقبل الرد إلى ظاهرة نفسية في ذهنه حتى وإن أخطأ في تأويلها بحسب تجربته الغفلة. وهذه القابلية للتأويل التي أوهمت أصحاب نظرية الإعجاز من علل ما يبدو من قابلية للتصديق لأقوالهم لأنها فعلا تقبل ذلك التأويل. ابو يعرب المرزوقي 25 الأسماء والبيان
-- لكن ما يغيب عن بالهم هو أن التأويل لو كان دالا على الإعجاز لتحقق أمران ينفيانه ولا يثبتانه: .1الأول أنه بعدي دائما بمعنى أن التأويل الذي يطبقونه لا يمكنهم من اكتشافات علمية بل الاكتشافات العلمية هي التي تكتشفه بمعنى أن ما يكتشفه العلماء بالبحث في الآفاق وفي الانفس هو الذي يمكن اكتشاف ما في القرآن من معجز فيكون نزول القرآن سدى لأن ما فيه يتحقق بدونه ولا يتحقق به. .2الثاني وهو الأخطر لو كان ما في القرآن يؤثر في الذين آمنوا به بكونه اعجازا علميا لكان معنى ذلك أن عرب الجاهلية أدركوا ما يدركه أصحاب العجز العلمي أو لكان القرآن لا يؤثر بما فيه بل بما ليس فيه .وإذا كان القرآن يؤثر بما ليس فيه من علوم فإن ما يؤثر به القرآن من طبيعة أهم وعلينا طلبها. وهذا هو الذي سميته \"السبابة\" القرآنية أعني أن النص القرآن يشير إلى هذه المعاني مطلقة التجريد .إنه يشير علينا بما ينبغي النظر إليه ويعين محل وجودها الذي نستطيع باستعمالها فيه نحقق بما جهزنا به شروط بقائنا في علاقتنا بالطبيعة (المقدرات الذهنية النظرية) وفي علاقتنا بالتاريخ (المقدرات الذهنية العملية) وفي علاقتنا بما فينا من عضوي طبيعي و(وتتبع الطبيعة) من روحي تاريخي (وتتبع التاريخ). وذلك هو معنى فصلت .53 فبها يرينا القرآن أين ينبغي أن نبحث عن آيات الله التي تتجلى في الآفاق وفي الأنفس شرطا في تبين حقيقة القرآن ونحقق بما توجهنا إليه إشاراتها الاستعمار في الأرض بالبحث ابو يعرب المرزوقي 26 الأسماء والبيان
-- العلمي وتطبيقاته ونتمكن من تسخير الطبيعة وننظم ذلك بالاستخلاف فيها بالبحث القيمي وتطبيقاته فنتمكن من جعل هذا التسخير تعميرا لا تدميرا. وإذا كان يمكن أن نتكلم على الاعجاز في القرآن فينبغي ألا يكون متعلقا بما ينفي تعريف الإنسان بالحرية التي من شرطها أن يمتحن الإنسان في أهليته لها بما ينجزه في تعمير الأرض والاستخلاف فيها وليس بما يجده جاهزا في نص القرآن فيغنيه عن الاجتهاد العلمي والجهاد العملي. فلو ُوضع في القرآن علم وعمل ناجزين لفقد معنى حقيقة الإنسان من حيث هو مكلف بمهمتين تقيم أهليته للتكليف تحقيقهما باجتهاده النظري وجهاده العملي .فالاستعمار في الأرض شرطه علمه بالطبيعي خارجة وفي ذاته وتطبيقاته والاستخلاف فيها شرطه عمله بالتاريخي خارجه وفي ذاته وتطبيقاته. فلو كان الشرطان متحققين بعد في القرآن لأصبحت الرسالة مناقضة لذاتها لأنها في حالة تضمنها من تطلب للإنسان القيام به تكون مغنية له عن الاجتهاد في النظر والجهاد في العمل لتحقيق مهمتيه اللتين ستقدر بهما اهليته للتكليف\" وعندئذ تصبح دلالة سورة العصر عدما إذ لا معنى اشتراط الاستثناء من الخسر. والاستثناء من الخسر يكون بالوعي به أولا أصلا للشروط الأربعة المترتبة على هذا الوعي أي الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق بحثا عن الحقيقة والتواصي بالصبر سعيا لتحقيق الممكن للإنسان منها علما وعملا. ابو يعرب المرزوقي 27 الأسماء والبيان
-- لا بد أن أفهم الجمع التيمي بين ما وصف به المقدرات الذهنية وما وصف به العقائد الدينية :فهو يقصر الكونية والبدهية والذاتية والبرهانية والمحضية فيهما دون سواهما من الموجودات الخارجية التي يعتبرها بحاجة إلى التجربة العلمية التي لا بد لها من العودة إلى الحواس مهما كان بينها وبين الادراك العلمي من تجهيزات مثل الفلك الذي كانت بعض أدواته معلومة في عصره. ولا بد من فهم علة القول بالمطابقتين في القديم (أفلاطون وأرسطو) وفي الحديث (هيجل وماركس) وخطأ ما بني عليه من وهم شفافية الوجود نفاذ العقل المطلقين وهما ترتب عليه الفصل الجذري بين الفلسفي (في محاولة فهم النظر والعمل) والديني (في محاولة فهم العقد والشرع) الذي بدأ منذ قصيد بارمينيدس والتوحيد بين العقل والوجود والخرافة والعدم. فهذا التوحيد يضمر تأليه الإنسان أو التوحيد بين العقل بمعنى نظام الوجود (وهو المقصود بالنوس في اليونانية) والعقل بمعنى الإدراك العقلي الإنساني (وهو المقصود باللوجوس في اليونانية) .فالنوس وإن استعمل احيانا للدلالة على عقل الإنسان يعني العقل الناظم للوجود .ولما كان نظام الوجود لا يرد إلى ما ندركه منه فلا يمكن أن نرده إلى اللوجوس الذي هو عقل الإنسان ونطقه. فإذن فسر المطابقتين اللتين تدرج فيهما أفلاطون وأتمهما أرسطو ثم تخلص منهما كنط وعاد إليهما هيجل بتدرج وماركس ففعل مع هيجل ما فعل أرسطو مع أفلاطون سرهما بدا بهذا الخلط بين نظامين مطلق ونسبي والأول هو نظام الوجود والثاني هو ما ندركه منه بعقلنا .وما أدعيه -وسبق أن حاولت بيانه في عديد المحاولات-هو أن الإسلام حررنا بمفهوم ابو يعرب المرزوقي 28 الأسماء والبيان
-- حد هو مفهوم الغيب من المطابقتين المتقدمتين عليه تاريخيا ويمكن أن يحررنا من المتأخرتين عنه تاريخيا. وبذلك فهو يعيد الوحدة بين الديني والفلسفي بمعنى البحث في ما لا بد منه لفهم عالم الشهادة الذي لا يكتفي بنفسه بما يقتضيه التأمل العقلي والتدبر الروحي من شروط تجعل نظام العالم ونظام كيان الإنسان وما بينهما مع تبادل التأثير والتأثر مفهومين للإنسان في حدود الممكن الذي يكون بالعلاج الترجيحي وليس بالحسم المطلق. وأبقى على الرؤى الدينية التي لم تعتمد ما يدركه الإنسان من نظام العالم مصدرا للاحتجاج بلكونها قدمت ما سيطر عليها من فكر الخوارق والمعجزات .وهو يرويها ولا يجادل فيها حتى وإن كان دائما يسعى لتقديم ما يغني عنها بتفسير سأقدم منه مثالا عجيبا في الفصل الأخير متعلقا بما قاله الرسول الخاتم في سورة هود وأخواتها وأهمية فهم التوحيد بين الديني والفلسفي إذا تخلينا عن القول بالمطابقتين اللتين هما سر الفصل بينهما. لكن هذا التحرير لما صار قائلا بالمطابقتين بتأثير من فلسفة أرسطو خاصة تخلى ضمنيا عن المفهوم الحد مفهوم الغيب فانتهى إلى المطابقتين مثل اللتين تقدمتا عليه أو اللتين تأخرتا عنه كما هو بين من جل علوم الملة الغائية حتى وإن نفوا ذلك بالأقوال وهي لا تعنيني لأني أتكلم على الأفعال. ولعل أبرز مثال هو تكرار الفقهاء عبارة نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر. فهذا القول كان ينبغي أن يقتضي ألا يكون الحكم في هذه الحالة مطابقا لحكم الله بل كان ينبغي أن يراعي أن القاضي ليس له علم بالأسرار ومن ثم فينبغي أن يميز بين حكمه وحكم الله فلا يطبق أيا من العقوبات الواردة في النصوص بل يراعي فيها ما ينقصه من ابو يعرب المرزوقي 29 الأسماء والبيان
-- علم بالسرائر فيعتبر كل المخففات الممكنة حتى لا يقرب من حدود الله لأن لا تقربوها ليست مقصورة على المتهم بل هي تشمل القاضي كذلك. عدم الفصل بين الديني والفلسفي باعتبار المشترك بينهما هو جوهر الديني والفلسفي في آن. وكلاهما لا يمكن أن يدرك الغيب. ومعنى ذلك أن الوحي نفسه لا يتضمن علما بالغيب لأنه لو تضمنه لكان معناه أن الرسل يعلمون الغيب فيتقابل العلمان الفلسفي والديني. وإذا صح ذلك صار الرسل قادرين على إعلام المرسل إليهم به فيصبح الغيب معلوما للجميع أو يصبح الرسل غير أمناء على الرسالة لأنهم يخفون ما يعلمونه عن غيرهم فلم يبلغوا الرسالة بأمانة. وذلك هو معنى التحرير الذي أتكلم عليه والذي ينفي أمرين عدم نفيهما هو علة ما حصل لعلوم الملة من انحراف جعله يقلب دلالة فصلت 53وآل عمران 7بأن جعل الامر بالبحث في عالم الشهادة الطبيعي والتاريخي خارج الأنفس وفيهما في الأنفس أي مكوني كيان الإنسان (البدن والروح) وكأنه هو المنهي عنه وجعل تأويل المتشابه في نص القرآن وكأنه هو المأمور به. والعلاقة بين فصلت 53وآل عمران 7هي الفصل بين المتشابه والمحكم في التذكير .فقول القرآن إن تبين حقيقته تكون في ما يرينه الله من آياته في الآفاق وفي الانفس يعني أن رؤيتها هي مجال البحث العلمي الممكن للإنسان وأن ما عدى هذه الآيات أي ما يتكلم في ما ورائها أي في ذات خالقها وآمرها وطبيعة فعلي الخلق والأمر هو موضوع المتشابه الذي نهينا عن تأويله. ابو يعرب المرزوقي 30 الأسماء والبيان
-- لكن الذي حدث هو العكس تماما أي إن آيات الله في الآفاق وفي الأنفس اهملت وتركز التأويل كله على ما وراءهما وأصبح البحث في آيات النص التي اعتبرت صندوق أدوات لعلوم الملة الغائية الخمسة واستغنى المسلمون عن البحث في الآيات التي نتبين بها حقيقة القرآن من حيث هو تذكير بما جهز به الإنسان لإنجاز مهمتيه وهما بعدا العبادة :التعمير والاستخلاف. أجبت عن هذين المسألتين لأنهما مقدمتان المسالة المتعلقة بطبيعة ما يذكر به القرآن مضمونا لرسالته وتمييزه عن خرافة الاعجاز العلمي لا بد من حسم إشكالية العلاقة بين المقدرات الذهنية وهذا التذكير وكيف وصلتها بمفهوم التذكير والفطرة باعتبارها متعلقة بتجهيز الإنسان ليكون قادرا على القيام بمهمتيه اللتين هما معنى تعليل خلقه بعبادة الله. فالإسلام يعتبر مهمتي الإنسان استعمارا في الارض واستخلاف فيها عين العبادة. والمسلمون تخلفوا لما تصورا الاستخلاف ممكن من دون التعمير وكل من يريد التعمير من دون الاستخلاف يجعله تدميرا لا تعميرا. فقد حصرت التذكير بالعناصر الخمسة الواردة في القرآن وميزتها عن دعوى الاعجاز العلمي باعتبارها شروط تحقيق الإنسان لمهمتيه وهو تذكير بموجود في عالم الشهادة وليس بما يعلله في عالم الغيب .وهذه العناصر الخمسة هي: .1مبدأ الطبيعية :كل شيء خلقناه بقدر بمعنى التقدير في القضاء والقدر و في تحديد المقدار. ابو يعرب المرزوقي 31 الأسماء والبيان
-- .2ونظرية علمها :الجمع بين الصورة الرياضية والمضمون التجريبي العلمي الطبيعي .وذلك هو القصد بالنظر والعقد .فالنظر هو البحث العلمي .والعقد يبدأ فرضيا فيكون أداة التجربة الطبيعية وحصيلتها التي تجعلنا نعتقد أن ما توصلنا إليه من المعرفة العلمية هو الحقيقة النسبية إلى علم الإنسان. .3مبدأ التاريخ :كل شيء أمره بسنن لا تتبدل ولا تتغير وهو بمعنى الأمر الغيبي والأمر الإنساني. .4ونظرية عمله :الجمع بين الصورة القيمية والمضمون التجريبي العملي التاريخي. وذلك هو القصد بالعمل والشرع .فالعلم هو أفعال الإنسان في الطبيعة والحضارة والشرع يبدأ فرضيا فيكون أداة التجربة التاريخية وحصيلتها التي تجعلنا نعتقد أن ما توصلنا إليها من التقييم العملي هو الحقيقة النسبية إلى عمل الإنسان. .5هذه الأبعاد الأربعة هي سعي الإنسان المستعمر في الارض والمستخلف فيها مع حزر في علمه وعمله هو مفهوم ذي بعدين معرفي وقيمي يجمع بينهما مفهوم واحد هو \"الغيب والعدل الإلهي\" اللذين بهما نفهم تعليل خلق الإنسان للعبادة. فهما عين المفهوم ا لحد الذي يضفي النظام والمعقولية على الوجود الذي يصبح مطلق التناقض لو كان الإنسان في نفس الوقت عاجزا عن الإحاطة ومطالب بما يقتضيها .ولذلك فاعتبار الرسالة تذكيرا بهذه الشروط مع حرزها أمرا معقولا. إذ لا يمكن أن يحاسب الإنسان وهو لم يخلق نفسه على تلك الصفات التي تجعله محدود العلم والقدرة دون أن يكون محدود المسؤولية عما لا ذنب له فيه؟ ابو يعرب المرزوقي 32 الأسماء والبيان
-- وعندئذ نفهم علة اعتبار العلم اجتهادا والعمل جهادا والحساب ليس بالنتائج بل بتقدير الجهد والنية والصدق في السعي. ولأذكر الآن بالمطابقتين المتقدمتين على الإسلام أي على نزول القرآن .فقد أشرت إلى أن المطابقتين متدرجتان إذ هما عند أفلاطون دون ما هما عند أرسطو. ذلك أن أفلاطون لا يعتبر المثل مطابقة للأعيان التي تحاكيها والتي محاكاتها تبقى دائما دون المطابقة التامة معها رغم أن مدخل المطابقة عليها هو الإله الصانع الذي ينظر إلى المثل ويصنع مثلها في المادة المستعصية على التصوير المحقق للمطابقة (محاورة الطيماوس التي هي أكثر محاورات أفلاطون وصلا بين العالمين عن طريق الصوغ الرياضي لما يصنع منه العالم). والمعلوم أن غاية هذه المحاورة هي نظرية الاجرام الخمسة الافلاطونية التي خصص لها اقليدس المقالة الثالثة عشرة من كتابه في الرياضيات لبنائها رياضيا ما يعني أن أفلاطون ومن بعده اقليدس وحتى بطليموس لاحقا حاولوا تطبيق الصوغ الرياضي للطبيعيات مع الاعتراف باستحالة المطابقة بين الصورة الرياضية والمادة الطبيعية حتى عندما يتعلق الامر بعامل ما فوق القمر الذي كان يعتبر أتم من عالم الكون والفساد الذي هو عالم ما دون القمر في نظرية العصر في الفلك. ولما كان ما يشذ عن المطابقة عند أفلاطون هو المادة وكانت المادة أصل الشر عنده لأن المثل هي أصل الخير فإن قوله بالمطابقة كان نسبيا ولم يكن مطلقا كما صار عند أرسطو. ابو يعرب المرزوقي 33 الأسماء والبيان
-- صحيح أن أرسطو حافظ على ما يمكن أن يعتبر المثال الوحيد وهو مفهوم المحرك الذي لا يتحرك أو الرب في نظريته التي عرضها في المقالة الثانية عشرة -مقالة اللام-لكن يعتبر أن كل عنصر من عناصر السماء له رب يحركه لكنه يتحرك محاكيا المحرك الأول. والأرباب كلها مفارقة. لكن الصورة التي تحدد ماهيات الأشياء ليست مجرد محاكاة للمثل كالحال عند أفلاطون بل هي محايثة فعليا للأشياء الطبيعية لأن المادة ليست إلى قوى على قابلية التصوير وليس ذات وجود مستقل ولا تمثل الشر كما في فلسفة أفلاطون. وتلك هي الغاية التي وصلت إليها المطابقتان المعرفية (الصورة) والقيمية (الخير والشر). ولأمر الآن إلى المطابقتين المتأخرتين عن الإسلام وهما المسيطرتان في فكر الحداثيين ومن يحاكيهم من علماء الدين لأنهم الآن مثل سلفهم في الماضي يقولون بالمطابقتين حتى وإن لم يصل منهم إلى ما يترتب عليهما من قول بوحدة الوجود إلا غلاة الصوفية المتفلسفة. ويمكن القول إن النسبة بين هيجل وماركس مناظرة للنسبة بين أفلاطون وارسطو ولكن فارقين جوهريين: الفرق الأول هو أن هذين قالا بالمطابقتين بعد أن حصل عكس ما دفع الأولين إلى القول بهما .فكنط حقق عكس ما حققه بارمينيدس. ذلك أنه دحض كل إمكانية للمطابقتين المعرفية والقيمة بأنه فصل بين النومان والفينومان واعتبر ذلك ليس لعلة ابستمولوجية فسحب بل لعلة أكسيولوجية لأن استثناء الإنسان من الضرورة الطبيعية هو شرط القيم وخاصة القيم الخلقية. ابو يعرب المرزوقي 34 الأسماء والبيان
-- ولا يمكن تأسيس الأخلاق من دون المسلمات الثلاث وهي تقتضي اثنتين اخريين كما بينت ما يجعل هذا الاستثناء هو في العمق جوهر الديني في علاقته بالفلسفي أو جوهر المشترك بينهما :لا يمكن تأسيس القيم عامة والأخلاق خاصة من دون هذا المشترك الذي يحدد العلاقة بين الضرورة الطبيعية والحرية الإنسانية. والفرق الثاني هو أن هذين قالا بالمطابقتين بصورة أكثر وضوحا من ذينك. فهيجل يقول بها بمقتضى قوله بوحدة الوجود المروحنة كما يتبين من نقده لوحدة الوجود الطبعانية التي يقول بها سبينوزا الذي كان في بداية مشاركة هيجل في الفكر الألماني أهم موضوع للنقاش بين فلاسفة ألمانيا مثل لسنج وكنط ويعقوبي لكن ماركس ألغى هذه الروحنة بجعل الجدل ماديا خالصا وهو ما لا يتماشى حتى مع وحدة الوجود السبينوزية التي لم تكن فاقدة لشيء من الروحانية إذا لم ننس أنه يقول بما يقول به ديكارت من الصفتين الأساسيتين للوجود أي الفكر والامتداد حتى وإن كان لا يقصره عليهما لأنه يعتبر صفاته لا متناهية. وهو بذلك متقدم على هيجل وماركس لأن القول بلا تناهي الصفات يضفي النسبية على ما يعلمه الإنسان منها وهما الاثنتان الديكاريتان أي الامتداد والفكر. وأختم الفصل الرابع بأمر اساسي حتى نفهم أزمة الفكر الذي يسمى ما بعد حديث وكيف نشأ من الهيجلية والماركسية أساسا. ويمكن أن نعتبر حصول ذلك بمسارين يبدوان متقابلين لكنهما ضمنيان في فلسفتهما لأنهما يمثلان أحد التأويلين الممكنين: التأويل الأول يمكن اعتبار قمة مساره هو النيتشوية. ابو يعرب المرزوقي 35 الأسماء والبيان
-- ففلسفة هيجل وماركس يجمع بينهما قيس التاريخ الحضاري للإنسانية على التاريخ الطبيعي للكائنات الحية .فكلاهما يعتبر الأمر متعلقا بصراع حيوي إما بين أرواح الشعوب أو بين طبقات المجتمعات. فإذا حولنا ذلك إلى صراعات الفاعل فيها هو الحي من حيث هو حي وما يميز الحي الإنسان من حيث هو إنساني كان لنا رؤية داروينية تعتمد نموذج الإبداع الفني باعتبار الإنسان حيوان رامز أو حيوان مبدع للفنون التي تصبح جوهر الوجود ويصبح الإنسان جوهر التطور الحيواني من حيث تطور الحيوان المرمز أو المبدع لذاته في تصوراته لها من حيث هي قوة حيوية. التأويل الثاني يمكن اعتبار قمة مسارة نظرية السرديات التي ليس لها مسرود غير ذاتها وهي بنحو مزايدة على النيتشوية وتتمثل في نوع من الابوفينومنيسم أي اعتبار الوجود وكأنه عالم ميثولوجي مطلق ليس وراء ابداع السرديات الإنسان علمية كانت أو عملية ما يتجاوزها. فلكأننا بعد نفي الشيء في ذاته في المثالية الالمانية للتخلص من ثنائية كنط لم يبق لنا إلى الفينومان وزال النومان .وحينئذ فإن النسبوية تصبح مطلقة ويصبح كل إنسان حبيس تصوراته وكل حضارة حبيسة ثقافتها أي إن العالم الرمزي هو العالم الوحيد الذي يمكن للإنسان أن يتصوره وأن يفهمه في حدود نظامه الرمزي. وطبعا فهذا لو صبح لاستحال على الإنسان أن يفهم حتى ذاته ناهيك عمن يزعم مشاركا له في ثقافته .فلا يوجد رمز يفيد نفس المعنى في لحظتين متواليتين إلا إذا اعتقدنا أن الرامز يبقى واحدا خلال تلكما اللحظتين .فنكون على الاقل قد جوهرنا الرامز فضلا عن ابو يعرب المرزوقي 36 الأسماء والبيان
-- المرموز والرمز .وحتى لو سلمنا بأن ذلك ممكن في نفس اللحظة فإنه لا شيء يثبت أن التأويل الرمزي يمكن أن يحصل لحظيا إذ هو ينبغي أن يكون متزمنا. وتزمنه يعني توالي اللحظات .فما الذي يصل بين لحظتين متواليتين؟ إذا كانتا ماضيتين فهو التذكر وإذا كانا مستقبليتين فهو التوقع .فمن يتذكر ومن يتوقع إذا لم يكون وراء الترميز \"شيء\" يرمز وشيء يرمز إليه دون ضرورة أن يكون الترمزي مطابقا لما في الشيء الرامز ذهنيا ولما في الشيء المرموز عينيا. القول بالمطابقتين علته الحاجة إلى ثنائية ما في الأذهان وما في الاعيان والحاجة إلى نفي الفرق .فيكون المشكل في نفي الفرق. ونفي الفرق عندما يطلق يعني نفي الطابع المناظري للإدراك لكأننا قلنا إن الوجود يرد إلى الإدراك .وذلك ما لو قلنا به لانتهينا إلى المطابقتين. وتلك هي العلة التي جعلتني أعتبر ابن خلدون قد انتهى إلى نفس ما انتهى إليه ابن تيمية. ولما كان لا شيء يثبت أنه قرأ أعمال ابن تيمة أو حتى سمع به فإني اعتبرا الرجل قد توصل إلى نفس النتيجة من خلال سعيه للتحرر من علل الصراع بين الفكرين الديني والفلسفي واثبات أن الإدراك الإنسان ليس مطابقا للوجود العياني بل هو منظور من المناظير اللامتناهية كما يرى ابن تيمية مع استحالة الاحاطة التي هي من أهم مبادي القرآن وهو معنى الإيمان بالغيب. ولأختم هذا الفصل قبل الأخير بالإشارة إلى أمر قد يبدو توقعا في غير محله .اعتقد أن أزمة كورونا رغم هولها ستكون رحمة للإنسانية .فهي حتما ستكتشف أن الانتصار على ابو يعرب المرزوقي 37 الأسماء والبيان
-- علل الفواريس الطبيعية التي تصيب مناعة الكيان العضوي للإنسان فردا وجماعي شرطه الأساسي هو بالبدء بالحرب على الفواريس الحضارية التي تصيب خاصة الكيان الروحي للإنسان. وهذا الحل هو جوهر الإسلام كما سأبين في الفصل الأخير. كورونا ستكون أكبر مبشر بالعلاج الذي سيحرر الإنسانية من أدواء العولمة وسر تحقيق كونية الرسالة في التاريخ الفعلي كما هي مرسومة في الرؤية القرآنية. طبعا لست غافلا عن كون الجوائح لم تبدأ مع العولمة. لم يخل منها تاريخ الإنسانية قبلها .ولا اعتقد أن الجوائح عقاب إلهي كما يتوهم بعض الحمقى. لكن بعضها ذو صلة بما يترتب على تعامل الإنسان مع ذاته ومع محيطه الطبيعي والثقافي. فتلويث الطبيعة والحضارة علته انحرافات اقتصادية وثقافية .وما زاد الطينة بلة هو أن هذين التلويثين أصبحا من علامات التأله بالمعنى الخلدوني أو من علامات \"السيادة على الطبيعة وملكيتها\" بالمعنى الديكارتي. ثم صار ذلك إيديولوجيا يعبر عنها هيجل بنظرية القوة التي تقاس بتجليها الفعلي في تعينها الفعلي في التاريخ الفعلي وصارت مبنية على صراع أرواح الشعوب وهو الشكل الأول مما صار يسمى صدام الحضارات المتنافسة وضمن ذلك صراع الطبقات المتنافسة على الثرة والسلطة بحيث صار وصف الأمر الواقع في فلسفة هيجل وماركس ليس كشفا لمرض ينبغي علاجه بل تحويله إلى أمر واجب هو قانون التاريخ الذي يقدم على أنه علمي. ابو يعرب المرزوقي 38 الأسماء والبيان
-- وبدلا من اعتبار الكشف عن الداء بداية لعلاجه تحول هو عين الداء. وذلك ما سأحاول الكلام عليه في الفصل الخامس والأخير من المحاولة. سأحاول عرض كل الأدواء التي تعتبر علة التلويث الطبيعي والروحي في الجماعة الإنسانية محددة بالنص في سورة هود وأخواتها والتي وصفها الرسول بكونها قد شيبت رأسه :فما علة هذا الوصف؟ ابو يعرب المرزوقي 39 الأسماء والبيان
-- وصلنا الآن إلى بيت القصد من المحاولة كلها .كيف أثبت أن الديني والفلسفي في القرآن هو المشترك بين نوعي العلاج الإنساني لكلامه في المتعاليات التي يعتبرها غاية ما يرد إليه النظر والعقد في المعرفة ومنطق العلم وغاية ما يرد إليه العمل والشرع في القيمة ومنطق العمل. والهدف هو بيان أن دلالة هذا المشترك هي عينها دلالة التلازم بين العالمين عالم الشهادة وعالم الغيب .فالمتعاليات تحيل إلى عالم الغيب بإحالتها إلى نظام عالم الشهادة باعتباره شهادة أو قرينة على آثار عالم الغيب وأفعاله فيه. فلكأن عالم الشهادة هو قمة جبل الجليد الوجودي الذي يمثله عالم الغيب .وذلك ما فهمت من فصلت 53التي تقول إن تبين حقيقة القرآن يحصل بما يرينه الله من آياته في الآفاق وفي الأنفس. والآية هنا تعني الرمز الذي يحيل إلى مرموز وراءه .وكان ديكارت قد استعمل معنى قريب من ذلك ويسميه امضاء الخالق في المخلوق بحيث كان يعتبر كل موجود حاملا لإمضاء خالقه الدال على مخلوقيته. ولكن حتى تكون الحجة أقوى ما يمكن فإني لن أعتمد المدخل الفلسفي الذي عالجت به المسألة في عدة محاولات سابقة بل سأعتمد على أصل كل علوم الملة الغائية (أصل الفقه والتصوف في الفكر العملي والكلام والفلسفة في الفكر النظري) أعني التفسير. فقد كنت أعجب من كلام الرسول عن هود وأخواتها إذ قال إنها قد شبيت رأسه. وسأنطلق من هذه الإشارة النبوية العظيمة لأبحث في هذه العلاقة الملازمة لكلام القرآن أعني التذكير بالعلاقة بين العالمين عالم الشهادة وعالم الغيب. ابو يعرب المرزوقي 40 الأسماء والبيان
-- فهود وأخواتها تتضمن أهم الرسالات التي تتردد كثيرا في التذكير القرآني بهذه العلاقة التي هي مدارها .والمعلوم أن هود قد ذكرت بالاسم في هذه الإشارة ومن ثم فلا خلاف حولها. لكن أخواتها توجد فيها روايات مختلفة .وأرجح رواية هي التي تشير إلى السور التالية: الواقعة .1 المرسلات .2 .3 النبأ .4 التكوير. فتكون السور التي شيبت رأس الرسول الخاتم خمسا بحسبان هود التي ذكرت بالاسم. وسأضع هود في القلب وقبلها الواقعة والمرسلات وبعدها النبأ والتكوير رغم أنها الأولى في ترتيب سور القرآن .وبين أني غني عن إيراد السور أو الإحالة النصية لما أتكلم فيه. فالمفروض أن المسلمين كلهم -على الأقل الذين هم من الأجيال المتقدمة على ما حل بمنظومات التربية من نكبات جعلتها تلغي تدريس القرآن. ذلك أن الأجيال التي درست في عهد ابن علي في نظام التربية الذي يتبع القائلين بتجفيف المنابع قد خضعوا لتطبيق الرقابة على نص القرآن لتخليصه مما يعتبرونه غير \"متسامح\". وقد ذهب محمد الشرفي إلى المطالبة بتنقية القرآن الذي يدرس مما يعتبره من هذا الجنس بل إنه اقترح على بوش بعد 11سبتمبر تقديم خبرته وتجربته في تحقيق ذلك عالميا. وأذكر أن الرسالة التي بعثها إليه نشرت في إحدى صحف أمريكا وقد اعطاني منها الأستاذ نجيب الشابي نسخة مصورة. ابو يعرب المرزوقي 41 الأسماء والبيان
-- ولا بأس من التذكير السريع بما يحتاج إلى شرح في علاقة بما أريد بيانه أعني المشترك بين الديني والفلسفي والعلاقة بين العالمين عالم الشهادة وعالم الغيب. فالوصل بين العالمين في العلاج الديني الذي يعتمده القرآن بوصفه رسالة تذكير يتعلق بمهمتي الإنسان وشروط انجازه إياها. ذلك أن الاستعمار في الارض والاستخلاف فيها والسعي لتحقيقهما هو عين العبادة ومجال اختبار أهليته لهما وهما مهمتاه في عالم الشهادة .ولأجل هذا الاختبار أعطي آدم الفرصة الثانية في قصة تحدي ابليس لهذه الأهلية واخراجهما من الجنة بعد العصيان الذي وقعا فيه مع العفو عن آدم بعد أن تلقى كلمات فأتمهن. ومن اليسير حتى على من ليس على بينة من هذه السور أن يطلع عليها بسرعة بدءا بمضمون سورة هود حتى يستطيع متابعة تحليلها الذي سأحاول جعله أبسط ما يكون لأن التحليل لن يكون من جنس التفاسير التقليدية فلن أطلب منه إلا بيان هذه العلاقة بين العالمين وبيان أنه عين المشترك بين الفلسفي والديني في دراسة الشأن الإنساني. فما يعنيني من الرسالات المذكورة فيها وترتيبها وما له بها صلة حتى وإن لم يذكر فيها صراحة وينبغي افتراضه حتى تكتمل الصورة لا يتجاوز هذا الغرض المحدد في المحاولة بفصولها الخمسة .فأسماء الرسل وأقوامهم المذكورين فيها هم بحسب الترتيب التالي. وذكر القوم يعني أن الرسالات في هذه الحالات كلها لم تكن مثل الإسلام موجهة للإنسانية كلها بل كانت أديانا قومية المخاطبين وكونية المضمون بما فيها من الديني ومن الفلسفي ولو كان متعلقا بإشكالية جزئية الحضور عند تلك الأقوام .فالقرآن يميز بين نوعي الرسالات ابو يعرب المرزوقي 42 الأسماء والبيان
-- رغم وحدة ما يرد فيها من الديني والفلسفي وإن كان مضمونه متعلقا بإحدى مشاكل الإنسانية وليس بكل مشاكلها كالحال في النوع الثاني: .1نوع \"لكل أمة رسول بلسانها\" ويتعلق بمسائل جزئية من حيث صلتها بوضع تلك الأمة .لكنها كونية من حيث علاجها باعتبارها أحد وجوه ما يحصل للإنسان من حيث هو إنسان. .2ونوع \"الرسالة الفاتحة والخاتمة\" أي الإسلام الذي هو الديني فيها جميعا والذي يتميز بكونه منظومة مسائل الإنسانية كلها بصورة نسقية كما يتبين من منظومة هذه السور التي شيبت الرسول الخاتم .ولنورد الآن قائمة الرسل وأقوامهم كما وردت في سورة هود بترتيبها فيها: نوح وقومه .1 هود وقومه .2 صالح وقومه ثمود .3 ابراهيم وزوجته (لم يذكر قومه) .4 لوط وقومه .5 شعيب وقومه .6 موسى وقومه. .7 أما من لم يذكر صراحة لا هو ولا قومه لكنه من ضمائر السورة فهم أولا المخاطب بالرسالة أي الخاتم ثم الرسول المتقدم على نوح آي آدم والرسول المتأخر على موسى بينه وبين الرسالة الخاتمة أي عيسى عليه السلام .كما لم تذكر امرأتان ذاتا علاقة بآدم وعيسى ابو يعرب المرزوقي 43 الأسماء والبيان
-- أعني مريم وحواء لكن ذكرهما ذو صلة بهما وينبغي افتراضه ضميرا في القصة .ومن يعرف ولو سطحيا القرآن الكريم يعلم أنه قد قارن عيسى بآدم من حيث الخلق غير المعتاد فيهما. وقد ورد ابراهيم وسط قائمة الأسماء المذكورة في سورة هود قبله ثلاثة وبعده ثلاثة. وطبعا محمد هو المخاطب الاول بالسورة التي عليه تبليغها للإنسانية. والعلاقة بين إبراهيم ومحمد معلومة في القرآن لأنها هي العلاقة بين الحنيفيتين الإبراهمية والمحمدية. وقد ذكرت حواء ومريم لأن المقارنة القرآنية بين آدم وعيسى من حيث المولد غير العادي تفترض المقارنة بين أميهما حتى وإن كان التأويل السائد أن آدم لا أم له بالزعم أنه هو النفس الواحدة التي خلقت منها الإنسانية. لكن الأعراف 189لا يمكن أن تقبل هذا التأويل الذي قد يحتمل في النساء .1 فالأعراف 189أولت بغرابة لا يقبلها عقل فجعلت النفس الواحدة هي آدم وصار آدم يحبل. إن التأويل السائد هدفه تأييد خرافة من الاسرائيليات تقول إن حواء خلقت من ضلع آدم الأعوج. ولن أدخل في نقاش حول دلالة القصص القرآني للكلام فيها بالإثبات أو بالنفي وكأنها كلام في حقائق بايولوجية أو تاريخية وليست رموزا لمعان روحية من الغيب الذي لا يعلم من دون شرط العلم المحيط الممتنع على الإنسان. ابو يعرب المرزوقي 44 الأسماء والبيان
-- أطلب من القارئ أن يتابع خطة القراءة الحالية للسورة .فليقارن في سلسلة السبعة المذكورين صراحة .ولننطلق في المقارنة من الأول من البداية لندرس علاقته بالأول من الغاية. ثم ننطلق من الثاني ذهابا من البداية لندرس علاقته بالثاني عودة من الغاية. ثم ننطلق من الثالث من البداية وعلاقته بالثالث من الغاية. وتطبيق نفس العلاقة ليس محض صدفة كما سنرى. فهي ترمز إلى أن الحل الموجب والسالب في الإشكال يطرح في البداية ويعالج في الغاية بنفس القاعدة بحسب رد فعل القوم على الرسول. فإن كان موجبا كان الحل موجبا وإن كان سالبا كان الحل سالبا .ولذلك فالأمر كله في صلة بتاريخ الرسلات وتاريخ الإنسانية تطبيقا أو تحريفا. وسيجد في هذه الحالات الست التلازم الدائم بين الرؤيتين الدينية والفلسفية في المشترك بينهما الذي هو عين المشترك بين العالمين عالم الغيب وعالم الشهادة وذلك على النحو التالي الذي يتكرر في الحالات الست الواردة في هود: نأخذ نوحا وموسى: كلاهما نجى قومه من أمر لا يبدو بينهما علاقة. لكن لو عمقنا النظر ولم نقف عند القراءة المقصورة على الدلالة الدينية بالمعنى التقليدي والتي تتعلق بالاستخلاف ونظرنا في ما يمكن أن يكون لرسالة نوح من علاقة بقراءة فلسفية تجمع بين الدلالة الدينية والدلالة الدنيوية والتي تتعلق بالاستعمار في الأرض ثم نعكس فننظر ما يمكن أن يكون لرسالة موسى من علاقة بقراءة فلسفية تتعلق ابو يعرب المرزوقي 45 الأسماء والبيان
-- بالاستخلاف في الأرض .فماذا سنرى؟ سنرى الأمرين التاليين بالجواب عن السؤالين التاليين: .1ماذا طلب الله من نوح في الرسالة التي كلف بتبليغها لقومه؟ ألم يطلب منه أن يصنع سفينة وأن يأخذ من كل زوجين اثنين؟ فما دلالة ذلك؟ أليست دلالته أن الله كلف الإنسان بأن يستعمل التقنية والزراعة أداتين للتحرر من طغيان الطبيعة عليه حتى يصبح منتجا ذاتيا لشروط بقائه التي تحرره من سلطانها عليه؟ .2ماذا طلب الله من موسى في الراسلة التي كلف بتبليغها لقومه؟ ألم يطلب منه أن يهاجر مع قومه وأن يشق النهر لينجي قومه؟ فما دلالة ذلك؟ أليست دلالته أن الله كلف الإنسان بأن يهاجر إذا لم يستطيع التحرر من طغيان الدولة عليه حتى يصبح حرا سياسيا إذا لم يكن قادرا على التغيير بطريقة أخرى؟ وسنرى أن ما شيب الرسول الخاتم هو أن ما طلب من الرسولين بخصوص قومهما صار مطلوبا منه أن يجعله شاملا للإنسانية كلها لما بين رسالته الخاتمة والرسالة الفاتحة المرسومة في ما فطر عليه الإنسان من حيث هو إنسان كما تحدده النساء ( 1الأخوة البشرية من نفس واحدة) ومن حيث وجود نفي كل تمييز بين البشر عدى التمييز بالتقوى عند الله. لكن هل يمكن التحرر من استبداد الطبيعة ومن استبداد السياسية وجعل التحررين كونيين يشملان الإنسان كلها إذا لم تتوفر شروط شبه قطاعية ليصبح الإنسان كما يعرفه ابو يعرب المرزوقي 46 الأسماء والبيان
Search