Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore صحة المصحف العثماني، أو نظام القرآن المغني عن التشكيك الهذياني - أبو يعرب المرزوقي

صحة المصحف العثماني، أو نظام القرآن المغني عن التشكيك الهذياني - أبو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2019-07-23 19:25:28

Description: صحة المصحف العثماني، أو نظام القرآن المغني عن التشكيك الهذياني - أبو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪re nils frahm‬‬ ‫صحة المصحف العثماني‬ ‫أو نظام القرآن المغني عن‬ ‫التشكيك الهذياني‬ ‫الأسماء والبيان‬





‫المحتويات ‪2‬‬ ‫‪ -‬الفصل الأول ‪1 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثاني ‪8 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثالث ‪16 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الرابع ‪23 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الخامس ‪30 -‬‬ ‫‪ -‬الخاتمة ‪37 -‬‬

‫‪--‬‬ ‫كل من يرد على من يشكك في سلامة القرآن من التحريف بالقول إن القرآن فيه آية تفيد‬ ‫أن الله وعد بحفظه اعتبر رده ساذجا فضلا عن كونه لا يقبل ممن لا يؤمن بالقرآن‪ .‬فهو‬ ‫رد ساذج لأن المشكل هو التشكيك في صحة القرآن ومن ثم فالشاهد منه يعتبر مصادرة على‬ ‫المطلوب وغير المؤمن به لا يقنع الشاهد منه‪.‬‬ ‫فالشاهد من القرآن لا يستمد دوره الاقناعي من ذاته‪ ،‬بل من الإيمان بأن القرآن كلام‬ ‫الله وغير محرف‪ .‬وكلاهما هما موضع الخلاف مع المشكك في صحة القرآن‪ .‬لذلك فلا بد‬ ‫من الاستغناء عن هذين الحجتين القاصرتين في علاج الإشكال‪ .‬ولاتهم علة التشكيك أي‬ ‫وضعية الكتابين الآخرين التوراة والانجيل‪.‬‬ ‫والتشكيك في صحة الكتابين الآخرين بدأ بها القرآن نفسه وهو معنى التحريف بالزيادة‬ ‫والنقصان‪ .‬ومعنى ذلك فلكأن المشككين في سلامة القرآن من التحريف يعتمدون على حجتين‬ ‫تبدوان عقليتين‪:‬‬ ‫القرآن ليس استثناء فهو مثل الكتابين الآخرين وقع تحريفه بالزيادة النقصان‪.‬‬ ‫والأمر ليس جديدا فكبار علماء الصدر خاضوا في ما قد يوحي به ولم ينكروه‪.‬‬ ‫وكون خوضهم فيه لم يكن مدعاة لاتهامهم في دينهم أو التشكيك في إخلاصهم للقرآن هو‬ ‫لأن الباعث لم تشكيكا في مضمون الرسالة بل في تمام التحقيق للنص كما تلقاه الرسول‬ ‫والحرص على سلامته وصحته بخلاف التشكيك الحالي الذي يقرب من التشكيك الشيعي‬ ‫ويقصد تحريف الرسالة وليس تمام تحقيق النص‪.‬‬ ‫لكن الآية التاسعة من الحجر حتى وإن نزلت بخصوص القرآن فهي تتعلق به كذكر ومن ثم‬ ‫فهي تشمل كل الذكر الذي نزل على الرسل‪ .‬وذلك لم يمنع من حصول تحريفها‪ .‬ولم يكن‬ ‫ذلك ما كان يخشاه الصحابة لكن ذلك هو ما يتمناه اليوم أعداء القرآن والإسلام‪ .‬ولما كان‬ ‫الحكم على النوايا للتمييز بين العدو والصديق ليس مقبولا في هذه الحالة فإني سأنطلق من‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪1‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫اعتبار المشككين حاليا أو على الأقل بعضهم دافعه البحث العلمي في تحقيق النص وليس‬ ‫التشكيك الإيديولوجي في مضمون الرسالة‪.‬‬ ‫ولن أجادل في وزن الحجتين اللتين يعتمدهما المشككون لأنهما وازنتان فعلا إذا قبلنا بأن‬ ‫حجتي الرد الأوليين لا تقبلان لما فيهما من سذاجة ومصادرة على المطلوب‪ .‬والحجتان‬ ‫قويتان عقليا وتاريخيا‪:‬‬ ‫فأولاهما منطقية وتتمثل في عدم وجود حجة لاستثناء القرآن من قابلية التحريف مثله‬ ‫مثل الكتابين الآخرين في عصور كانت تعمه الأمية والشفوية‪.‬‬ ‫والثانية تاريخية وهي القائلة إن علماء الصدر وحتى الصحابة ومنهم السيدة عائشة‬ ‫تلكموا في الأمر‪ .‬وهي حجة لا يمكن القدح فيها من دون القدح في كل ما هو من المرويات‬ ‫والقرآن منها فيكون في هذه الحالة تشكيكا في كل شيء أي الحديث والقرآن ويكون المحتج‬ ‫لصحة القرآن من حيث لا يعلم يحتج عليها‪.‬‬ ‫والنتيجة هي أني لست مقتنعا بأي حجة استعملت لإثبات سلامة القرآن من التحريف ما لم‬ ‫تكون الرسالة الأصل هي التي تشهد للنص الحالي بأنه لا يمكن أن يكون قد طرأ عليه‬ ‫زيادة أو نقصان يغير جوهرها‪ .‬ولما كان التحريف مدلوله الحقيقي هو تعديل في أصل فإنه‬ ‫يفترض وجود الأصل في المحرف‪ .‬والقرآن له هذه الخاصية العجيبة وهو أنه يعرف هذا‬ ‫الأصل خلال نقده التحريف في الأديان السابقة فيعرف الأصل أو الديني في كل دين وهو‬ ‫الذي ينطلق منه في نقد التحريف‪.‬‬ ‫لذلك فأنا لا أصدق أن القرآن محرف لأنه حدد الأصل الذي نقد به الأديان الاخرى‬ ‫ونصه في المصحف لم يحد عنه قيد أنملة وكل اتهام له بالتحريف من جنس الاتهام الشيعي‬ ‫هو تحريفه وليس ما في المصحف‪ .‬وإذن فإيماني بسلامة القرآن من التحريف ليس لمجرد‬ ‫أني مسلم ولا لمجرد أني مؤمن ولا حتى لمجرد وجود الآية القائلة إن الله وعد بحفظ‬ ‫القرآن‪ .‬فهذه الآية بالذات تشكك في حفظ القرآن الآلي والحتمي‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪2‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ذلك أني أنزه الله أن يخص احدى رسالاته بالحفظ وكلها كلامه ووحي منه‪ .‬لكن القرآن‬ ‫هو نفسه يتكلم على تحريف التوراة والانجيل ويتهم بالذات من يتكلمون على تحريف‬ ‫القرآن بالقيام به أي رجال الدين والحكام من أجل أسباب دنيوية المال والسلطة‪ .‬وهما‬ ‫حجتا المشككين في صحة القرآن والحديث‪ .‬ومن ثم فإذا كان القرآن في المصحف وفيا لهذه‬ ‫المعايير التي استعملها في نقد التحريف فالمصحف ليس محرفا بالقياس إلى هذا الأصل‬ ‫ويبقى الكلام في الأصل كلاما في الديني من حيث هو دين كما حددته الرسالة (أي اتهام‬ ‫الإسلام بالتحريف) وليس في العلاقة بين المصحف (أي اتهام المصحف بتحريف الإسلام)‬ ‫والديني من حيث هو دين‪.‬‬ ‫ولا أريد في هذه المحاولة الذاهبة إلى الغاية في البحث بالمنهج الذي اعتمدته في قراءة‬ ‫القرآن فلسفيا أن أكرر ما كتبته في الرد المناسب لشخص معين من الماضغين لهذه الحجج‬ ‫للمقابلة بين النصين الشفوي (قبل توحيد النسخ) والكتابي (المصحف العثماني) لأن الرد‬ ‫على الحجج فعل سلبي وليس فعلا إيجابيا وهو كمن يستعمل الأجراء القانوني بمطالبة‬ ‫المدعي بالحجة على دعواه‪ .‬عملي سيكون بيان علل ثقتي في الصحة‪.‬‬ ‫أعلم أن المهمة الآن اعسر لأنها ليست ردا على مواقف بل بحث إيجابي في مسألة علمية هي‬ ‫كيفية إثبات سلامة الرسالة بتناسقها الذاتي وتطابقها مع ما تقوله عن نفسها وهما معياران‬ ‫لا يمكن أن يحصلا لو حصلت في أصلها زيادة ونقصان ما لم يكن المؤلف المحرف هو عين المؤلف‬ ‫الأصلي أو حاصلا على نفس الخصائص‪.‬‬ ‫ففي الرسم المزيف مثلا لا يمكن لمزيف الرسم مهما فعل ألا يقع في خطأ ما تدركه عين‬ ‫الخبير بالرسم‪ .‬وإذا استحال على الخبراء إدراك الفرق كان ذلك دليل على مجرد إعادة‬ ‫الرسم بنفس المواصفات فلا يكون الرسام الثاني مختلفا عن الرسام الأول لأن الرسم واحد‬ ‫في عين الخبراء ولا يمكن حينها الكلام على تحريف بل تزييف متقن لأن التحريف هدفه‬ ‫تغيير الأصل وليس المحافظة عليه إلى حد استحالة تبين الفرق بينه وبين المحرف‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪3‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وتلك هي العلة المهمة العلمية الحقيقة في اثبات ما اريد أثباته حتى لو قبلت بأن النص‬ ‫الكتابي غير شيئا في النص الشفوي وهو في الحقيقة بحث علمي سبق إليه القدامـى وقتلوه‬ ‫درسا استقرائيا وحلوه بذكر الفروق التي هي مادة القراءات بمعنى أن الروايات المختلفة‬ ‫دونت كما هي وهي جميعها لا تغير شيئا في مضمون الرسالة عند من يعتبر هذا المضمون هو‬ ‫الواحد في كل التنويعات التي أحصوها وأثبتوها ولم يخفوها‪.‬‬ ‫ومعنى ذلك أن القدامى عملوا ضمنا بالمنهج الذي أريد بيان مقوماته ولكن بترتيب‬ ‫مقلوب‪ .‬فقد أثبتوا أن كل الفروق الواردة في الروايات حافظت على أصل واحد لما بينوا‬ ‫طبيعتها التي لا مساس لها بوحدة مضمون الرسالة‪ .‬وأقول بترتيب معكوس لأنه لم يحددوا‬ ‫المضمون الذي بقي واحدا رغم التعدد في الروايات التي أحصوها في القراءات‪ .‬عملي إذن‬ ‫هو العودة الى الترتيب الذي كان ينبغي أن يتبع‪ :‬استخراج نظام الرسالة الذي يثبت‬ ‫سلامتها من الزيادة والنقصان ومن ثم الحدود التي يكون فيها التنوع الشكلي فاقدا للدلالة‬ ‫على تحريف ممكن قد حصل‪.‬‬ ‫لكن عمل القدامى هو حسب رأيي أول دليل علمي على أمانة ناقلي القرآن من الشفوي‬ ‫إلى الكتابي حيث إنهم حافظوا على كل التنويعات التي كانت موجودة والتي يثبت البحث‬ ‫الموضوعي أنها لا تحقق هذا الشرط الذي اشرت إليه وهي ثمرة علمية لم يقدرها حق‬ ‫قدرها السخفاء الذين ظنوا أنهم قد حققوا اكتشافا ثوريا لما وجدوا نسخا في اليمن وعملوا‬ ‫منها ضوضاء انتهت في الاخير إلى \"عيطة وشهود على ذبيحة قنفود\"‪.‬‬ ‫مولت \"مؤمنون بلا حدود\" أو \"المؤمنون بالنقود بلا حدود\" مجموعة من الدجالين يدعون‬ ‫في البحث الديني باعا وذراعا فتبين لهم أن كل ما اكتشفوه كان دون ما دونه علماء‬ ‫القراءات نسقية ودقة ومعرفة باللسان العربي وبالاختلافات التي كانت موجودة في الشفوي‬ ‫ونوقشت خلال الانتقال إلى الكتابي‪.‬‬ ‫وانتهت خرافتهم‪ .‬لكن ذلك لا يكفي لأن هو بدوره جزئيا من الحجج الوسطى بين السلبية‬ ‫إن ٍنظر إليها بوصفها عجز المدعي عن اثبات دعواه ومن الحجج الإيجابية إن نظر إليها‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪4‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫بوصفها ليست جديدة بل إن مدوني القرآن درسوها وبينوا طبيعة الفروق الواردة فيها‬ ‫وهي تعود إلى تعدد لهجات العرب المخاطبين‪.‬‬ ‫لكل ما ذكرت من العلل أردت أن أبحث في الأمر من رأس وألا أعامله بوصفي مسلما ومؤمنا‬ ‫بالقرآن بوصفي باحثا في ظاهرة سأعاملها كما أعامل أي ظاهرة أجهل حقيقة نظامها الذي‬ ‫يعلل ما فيها من أصلي وما أضيف إليه وما خصم منه إن اعتبرت انها أدخل عليها تغيير ما‬ ‫إضافة وحذفا‪.‬‬ ‫وقست ذلك على الطبيعة نفسها فالعالم عندما يريد أن يبحث عن نظامها يجد نفسه أمام‬ ‫الظاهرات الطبيعية وفيها ما أضافه إليها خيال الناس والعلماء قبله وما أنقصه منها ما لم‬ ‫يلحظوه فيها أو ما حذفوه منها باعتباره في ظنهم عديم الدلالة والضرورة لعلمها‪ .‬وليكن‬ ‫المصف العثماني هو هذه الظاهرة‪.‬‬ ‫ذلك هو منطلقي في محاولتي قراءة القرآن قراءة فلسفية المحاولة التي شرعت فيها سنة‬ ‫‪ 2003‬في كوالالمبور‪ .‬قلت في نفسي عندي المصحف العثماني وعندي الروايات الشيعية‬ ‫المشككة فيه والروايات السنية الواثقة فيه وعندي محاولات الباحثين المحدثين الذين‬ ‫يشككون في صحة القرآن لعلتين غير شيعية‪:‬‬ ‫فأما العلة الأولى فهي ضعيفة وهي قياس الكتب بعضها على البعض‬ ‫وعدم استثناء القرآن مما آل إليه امر التوراة والإنجيل رغم اعترافهم بالفروق التي‬ ‫ترجح التحريف في الأولين لأسباب تاريخية وتقلل منها بالنسبة إلى القرآن وتقصر تعليل‬ ‫التحريف بما يشبه المؤامرة السياسية مثل دعاوى التشيع‪.‬‬ ‫فقليل من المستشرقين يقبل بالتعليل التاريخي جنيس ما حصل للتوراة والانجيل في عملة‬ ‫التدوين لأن المصحف العثماني لم يدون تحت الاحتلال كما في حالة التوراة والإنجيل لأن‬ ‫خرافة التحريف الأموي وحتى بعد ذلك بكثير لا يصدقها عاقل من الباحثين في التاريخ‬ ‫القرآن‪ .‬وبقي التعليل السياسي الداخلي‪.‬‬ ‫لكن ذلك على متانته وموضوعيته لم يكفني ولم يقنعني لعلتين‪:‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪5‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لا يوجد دليل تاريخي يمكن أن يرضي العقل مهما كان دقيقا وتام الاستقراء لأنه يكفي‬ ‫أن تظهر وثيقة جديدة حتى نضطر لإعادة النظر في كل الادلة التي تصبح لها معان‬ ‫جديدة لم تخطر على البال رغم أن كل الاكتشافات إلى الآن لصالح المصحف‪.‬‬ ‫وأما العلة الثانية فهي أني أبحث عما يتضمنه المصحف نفسه من شهادة ذاتية عن طبيعة‬ ‫مضمونه كما تتضمن أي ظاهرة ذات وجود قائم بذاته ما يحدد طبيعتها تحديدا يجعل‬ ‫الباحث فيها لا يستطيع الولوج إليها من دون أن ينطلق من فرضية علمية حول هذه الطبيعة‬ ‫وتطبيقها عليها تطبيق أي نظرية على موضوعها‪.‬‬ ‫وبهذا المعنى فكل ما يقال عن المصحف ممن هم له أو ممن هم عليه لم يعد أمرا يعنيني‪.‬‬ ‫فلو حاول مثلا من أراد أن يحدد قوانين أي ظاهرة طبيعية أن يبحث فيها من خلال ما قيل‬ ‫في تفسيرها قبله وكأن البحث هو الأقوال وليس في الظاهرة نفسها فهو سيكون كمن يمخض‬ ‫الرغاوي ولن يصل إلى أي زبدة مهما مخض‪.‬‬ ‫وكلامي هذا لا يعني أني لا أعير اعتبارا لمن بحث في الامر قبلي‪ .‬لكني ‪-‬وهذا هو ما أتهم‬ ‫بأني أبالغ في الادعاء عندما أقوله‪-‬رأيت أن كل بحوث المسلمين في اشكالية القرآن ‪-‬وحدته‬ ‫وصحته‪-‬لم يكن فيها من الجدية العلمية والمنهجية ما يستحق الذكر‪ :‬فقد تعاملوا معه إما‬ ‫من حيث مادته أو توظيفاته‪.‬‬ ‫وغالبا ما أخضع الأول للثاني أي إن القرآن صار \"صندوق آلات\" في التوظيفات لوضع ما‬ ‫يسمونه علوم الملة في خدمة الدولة مباشرة أو بصورة غير مباشرة مثل الفقه والكلام‬ ‫(مباشرة) والتصوف والفلسفة (بصورة غير مباشرة) ومنها يأتي تحليل مادته اللسانية‬ ‫والبلاغية لأداء هذه الوظائف‪ :‬لم تحدد طبيعته‪.‬‬ ‫صحيح أنهم تكلموا على أنه وحي وأنه كلام الله وأنه مخلوق أو قديم إلخ‪ ...‬وكل ذلك‬ ‫كلام بين المؤمنين به وليس كلاما فيه كظاهرة لها طبيعة حددتها بصرف النظر عن الإيمان‬ ‫به أو عدمه تماما كما أن أي ظاهرة من حيث هي موجودة تتحدد بكيانها بصرف النظر عن‬ ‫موقف مشاهديها منها إيمانا أو كفرانا‪ .‬وتوجد مزية في القرآن وفي أي نص هي أنه بخلاف‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪6‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الظاهرات الطبيعية ظاهرة لها وجودان قائمان بالذات بصرف النظر عمن يشاهدهما من‬ ‫خارجهما‪:‬‬ ‫أولا هو شيء قائم بذاته في مادته أي كيانه اللساني والبلاغي وله دلالات قابلة للتحديد‬ ‫إذا نظر إليه نسقيا‪.‬‬ ‫عودته على ذاته معرفا نفسه وعلاقاته بغيره وكلامه على ذاته مع إشاراته إلى غيره‬ ‫بوصفه يعلم بما يوجد خارجه وذلك هو المحكم الوحيد فيه‪ .‬لكن علم ما يوجد خارجه ليس‬ ‫موجودا فيه بل في الآفاق والأنفس وكله متشابه كما بينت في تحديد معايير التمييز بين‬ ‫المحكم والمتشابه (محاولة سابقة)‪.‬‬ ‫والبعد الأول يشارك فيه النص الظاهرة الطبيعية أي إنه مثلها \"يتكلم\" بكيانه أو‬ ‫بأعراضه إن جمعنا بين كيان النص اللساني وكيان الطبيعة الفزيائي‪ .‬كلاهما \"يتكلم\" بلغة‬ ‫الأعراض التي تعبر عن الكيان الفيزيائي في الطبيعة والكيان اللساني في النصوص عامة‬ ‫وفي القرآن في حالتنا‪ .‬لكن النص بخلاف الطبيعة يعود على نفسه ليعرفها وتلك أهم خاصية‬ ‫في القرآن‪ .‬فكلامه على نفسه هو الوجه المحكم فيه‪.‬‬ ‫والافتراض في حالة الطبيعة يقتصر على محاولة لاكتشاف ما وراء الأعراض من علل كما‬ ‫في حالة المرض ننطلق من الأعراض ونفترض علة هي سبب المرض‪ .‬لكن في حالة النص لا‬ ‫نستطيع فعل ذلك بالاقتصار على الأعراض بل لا بد من اعتبار عودة النص على تعريف‬ ‫ذاته‪.‬‬ ‫وتلك هي علة كون العلوم الإنسانية أعسر من الطبيعية‪ :‬ففيها مستوى أول هو كيان‬ ‫الإنسان الطبيعي (وهو حينها جزء من التاريخ الطبيعي) وفيها مستوى ثان هو كيان‬ ‫الإنسان العائد على كيانه الطبيعي وعلى عودته على كيانه الطبيعي والثقافي بلا حد‬ ‫للعودة على الذات‪ .‬وهذا هو مجال البحث في العلوم الإنسانية ومنها مسألتنا الحالية‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪7‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لا شيء إذن يفرح أعداء الإسلام أكثر من الرد الساذج والمصادر على المطلوب بالقول‬ ‫إن الله قد ضمن حفظ القرآن لكأن ذلك يعني بالضرورة حفظ المصحف العثماني من‬ ‫التغيير الممكن‪.‬‬ ‫لو كان مخاطبك يؤمن بأن القرآن من الله وبأن الله ضامن حفظه وضامن ألا تقع‬ ‫محاولات تبديله لما وجد المشكل من أصله‪ .‬وتوهم حفظ القرآن بعني بالضرورة عدم وجود‬ ‫التبديل ينفي نصف القرآن الذي هو نقاش لعلل التحريف الديني في الرسالات السابقة‪.‬‬ ‫ولا يوجد دليل يثبت أن الحفظ متعلق بالقرآن دون سواه‪ .‬وللحفظ حدان أقصى وأدنى‪:‬‬ ‫الحفظ من التحريف والحفظ من التغيير الذي لا يمس الجوهر‪.‬‬ ‫فالقرآن لم يتلقه الرسول بكل القراءات التي نعلمها لأن جبريل يخاطب الرسول ولا‬ ‫يخاطب كل العرب بلهجاتهم حينها ولا بد إذن من افتراض أنها \"ترجمات\" الرسول لما تلقاه‬ ‫بحسب المخاطبين‪ .‬والأمانة العلمية اقتضت إيرادها كما حصلت‪ .‬ولا بد إذن من الانطلاق‬ ‫من البحث في المسألة بطلب الأصل الذي يقاس به التحريف وجودا وعدما دون اعتبار ذلك‬ ‫ردا على خصوم ودون اتهام النوايا‪.‬‬ ‫فالتشكيك حاصل حتى في الصدر ولكن ليس في القرآن بل في أمانة رواياته ونسخه‬ ‫المتعددة وخاصة خلال التدوين النهائي في المصحف العثماني‪ .‬وما كانت العملية تحصل لو‬ ‫لم تحصل خلافات‪ .‬فهي دليل قرار لحسم الخلافات وليست نفيا لوجودها‪.‬‬ ‫ولم يخف الصحابة الخلافات حول أشياء كثيرة لحظة كتابة المتن الختامي الذي وحد نسخ‬ ‫القرآن‪ .‬والأمانة العلمية جعلتهم يدونون كل تلك الخلافات وهي لا تثبت التحريف ولا‬ ‫التبديل بل بالعكس هي تثبت الأمانة العملية في إيرادها وبيان طبيعتها ويبقى إثبات أنها‬ ‫لا تمس الجوهر أعني الرسالة ومضمونها‪.‬‬ ‫والآن نصل إلى بين القصيد وهو أن أعداء الإسلام والقرآن هم بدورهم مضطرون بما‬ ‫ينفون أن يثبتوا الشيء الكثير‪ .‬فمن يدعي التبديل وحتى التحريف لا بد أن يكون له‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪8‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫صورة عن الأصل بالقياس إليه يدعيه‪ .‬فمن يتهم بعض الشيء بالانتحال لا بد أن يثبت‬ ‫بعضه الباقي أولا وأن يثبت وجود أصل بالقياس إليه ميز البعض الذي يشكك فيه‪.‬‬ ‫وهنا نبدأ البحث العلمي الجدي ليس للرد على أحد بل لحسم الأمر في ذاته دون انحياز‬ ‫مع موقف معين بدافع الإيمان أو الكفران‪ .‬فيمكن حصر المواقف الخمسة الممكنة عقلا من‬ ‫مسألة التشكيك في صحة المصحف العثماني‪ .‬إنها تنقسم إلى التشكيك وعدمه المطلقين‬ ‫وإلى التشكيك وعدمه النسبيين ولهذه المواقف الأربعة أصل تشترك فيه جميعها‪ .‬وهو أن‬ ‫كل أمر لا يمكن من وجهه التاريخي أن ينزه بصورة مطلقة من الشك عامة ولكن خاصة في‬ ‫عصر لم تكن فيه الكتابة والتسجيل ما هما عليه في عصرنا‪.‬‬ ‫ولنأت الآن إلى أصناف المواقف الاربعة التي تتلو عن هذا الأصل‪ .‬فلها مستوى أول فيه‬ ‫حدان أقصيان من المصحف في مجمله‪ .‬ولها مستوى ثان فيه حدان أقصيان من بعض مضمون‬ ‫المصحف‪ .‬فتكون المواقف الأربعة كالتالي‪:‬‬ ‫المصحف مطلق السلامة لم يتغير فيه شيء وهو كتابيا كما كان شفهيا إطلاقا لدلالة آية‬ ‫الحفظ‪.‬‬ ‫المصحف مطلق الوضع ولا شيء منه مطابق لما كان في زمن الرسول بل هل كتب لاحقا‪.‬‬ ‫بعض المصحف حول \"لغة\" نصه خلافات وردت في علم القراءات وهي لا مساس لها بأصل‬ ‫لا يغيره تغير لهجات العربية في عصر نزول القرآن‪.‬‬ ‫بعض المصحف حول \"مضمون\" نصه خلافات يدعيها التشيع في اعتبار التحريف متعلقا‬ ‫بالوساطة والوصاية التي ينفيها المصحف العثماني ويدعونها لجعل الوساطة الروحية‬ ‫والوصاية السياسة لآل البيت من مقومات الرسالة‪.‬‬ ‫ومثلما أنه لا أحد يصدق خرافة الكتابة المتأخرة قيسا للقرآن على الحديث ‪-‬وطلبا‬ ‫لأوجه التشابه مع الأناجيل والتوراة اللذين كان هذا مآلهما‪-‬فكذلك لا أحد يعتبر آية‬ ‫الحفظ كافية لنفي التغيير إمكانا ووجودا‪ .‬فالكتابان الأولان التوراة والانجيل بل وكل‬ ‫الرسالات التي سبقت القرآن في الوجود وحي إلهي مثل القرآن ومفهوم الحفظ الإلهي‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪9‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫يشملها لأن القرآن يحفظه الله لهذه العلة والعملية مطردة وإذن فكل ما هو حقيقي من‬ ‫الوحي والخطاب الإلهي محفوظ فيها وقابل للتمييز عن التحريف بمنطق التصديق‬ ‫والهيمنة القرآنيين‪.‬‬ ‫ولا أحد من ذوي العقل يأخذ الموقفين الأولين مأخذ الجد‪ .‬فالثاني يشكك في وجود‬ ‫القرآن من الأصل ويعتبره مثل الحديث نصا مكتوبا لاحقا من تأليف حكام المسلمين‬ ‫وعلمائهم‪ .‬والأول لا يقبل به حتى أشد المؤمنين تزمتا لأن الخلافات بصرف النظر عن‬ ‫طبيعتها بينة في مصنفات القراءات ولا شيء يثبت أنها كلها حصلت في حياة الرسول‪.‬‬ ‫كما أن الموقين الاخيرين حججهما غير متينة‪ .‬ولهذه العلة فالوعد بالحفظ لا يلغي‬ ‫التشكيك في المصحف العثماني ولا يصلح لإثبات صحة ما فيه أي لا يكفي لتبرئته من الزيادة‬ ‫والنقصان لكن الموقف الثالث غني عن الاستدلال لأن الخلافات موثقة وهي لا تغير مضمون‬ ‫الرسالة‪ .‬والموقف الرابع متناقض لأنه إن لم يصبح من جنس الموقف الأول الذي ينفي‬ ‫القرآن جملة وتفصيلا فهو يسير الدحض ولذلك فحل أصحابه الوحيد هو قرآن بديل سواء‬ ‫نسوبه إلى فاطمة أو إلى علي‪.‬‬ ‫وإلى حد الآن بينت أني استعمل الطريقة التي تبدأ بإثبات قوة حجج الخصوم رغم أنه‬ ‫لا أحد منهم استعمل هذه الحجج أو حتى فكر فيها أو تفطن إليها‪ .‬وهذه طريقة ابن تيمية‬ ‫الحكيمة‪ .‬وحتى أكون أكثر دقة التشكيك في صحة المتن العثماني لا يتنافى مع القول إن الله‬ ‫وعد بحفظ كتابه لأن الحفظ هنا لا يتعلق بحفظه في مدونة معينة بل في أمر علينا أن نبحث‬ ‫عنه‪ .‬وهو حسب رأيي ما لم يبحث عنه علماء الأمة فلم يتم استخراج نظام القرآن الذي‬ ‫يمكن من الحسم في الأمر‪.‬‬ ‫وفي الحقيقة القرآن حدد هذا النظام باعتباره الديني في كل دين والفلسفي في كل فلسفة‬ ‫واعتبر وظيفة الرسل ليس تعليمه كعلم جديد على الإنسان الذي يخاطب به بل تعليمه‬ ‫بـالتذكير به على طريقة التوليد السقراطي‪ .‬وها أنا الآن قد بينت قوة حجج المشككين‬ ‫بأكثر مما يحتجون به فأضفت إليهم ما لم يتفطنوا إليه رغم أني اعتقد أن حججهم كلها‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪10‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ناتجة عن ظنهم أن مضمون الرسالة التي يعتبرها القرآن واحدة والتي يتعلق بها وعد‬ ‫الحفظ ليس قابلا للتمييز عما يمكن أن يضاف إليه أو يستثنى منه من مفاعيل التحريف‪.‬‬ ‫فعلوم الطبيعة عندما بدأت تتأسس كان أول شيء عليها تحديده متمثلا في تحديد لغة‬ ‫الطبيعة ‪-‬اي كيف نفهم ما \"تقوله\" أو تدل عليه أعراضها التي هي الوحيدة التي ندركها‪.‬‬ ‫وقبل ذلك كان تفسير هذه الأعراض إما بالقياس إلى الخبرة العفوية أو بالقياس إلى‬ ‫القوى الغيبية لكأن ما يجري هو أفعال إيرادية وغائية لذات يتمثلها الفكر الإنساني‬ ‫بالقياس إلى ذاته مع إطلاقها بنسبة الخلق والأمر لها‪ :‬وذلك هو مصدر كل الأديان‬ ‫الطبيعية التي كانت فيزياء بدائية «تروحن» ا لطبيعة‪.‬‬ ‫لكن الطبيعة ليست ناطقة أي إن اكتشاف لسانها أو عبارتها عن دلالة أعراضها هي‬ ‫المرحلة الأولى في البحث العلمي الطبيعي‪ .‬أما البحث العلمي الإنساني‪-‬المقابلة بالألمانية‬ ‫هي علوم الطبيعة وعلوم الروح‪-‬فهي تجمع مع هذا البعد الأول ‪-‬لأنه كائن طبيعي أولا‪-‬‬ ‫وبعد ثان هو الأعسر هو عودته على ذاته‪.‬‬ ‫وإذن فالعلاقة بين أعراضه وعللها ذات خمسة مستويات‪ :‬عللها الطبيعية خالصة وجلها‬ ‫يجهلها وعللها الروحية الخالصة التي لا تقبل الرد إلى الطبيعية ثم ما يعلمه من الطبيعية‬ ‫ومن الروحية وهما مضمون عودته على ذاته‪ .‬فيكون الإنسان أكثر تعقيدا من الطبيعة‬ ‫ومن التاريخ لأنه مؤلف منهما ومن تفاعليهما‪.‬‬ ‫وكل العلوم القديمة والوسيطة لم تتجاوز هذه البداية لاكتشاف المبدأين وهما بداية‬ ‫اكتشاف اللسانين لسان الطبيعة الطبيعي الرياضي (الضرورة الشرطية) ولسان التاريخ‬ ‫السياسي الخلقي (الحرية الشرطية)‪ .‬ولما كان الإنسان جامعا بين الأول والثاني وتفاعلهما‬ ‫في الاتجاهين فنظامه أكثر تعقيدا منهما‪.‬‬ ‫وصلت الآن إلى بيت القصيد وإلى سر فشل كل علوم الملة في فهم القرآن الكريم والاكتفاء‬ ‫إما بمادته أو بتوظيفاته وعدم التفطن إلى نظامه‪ .‬فنظامه هو عين نظام الإنسان من حيث‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪11‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫هو حصيلة النظامين وتفاعليهما الذي يقتضي أن يكون ذا صلة بما وراء لهما كليهما أي ما‬ ‫وراء الطبيعة وما وراء التاريخ‪.‬‬ ‫ولنأخذ الآن المصحف العثماني‪ .‬كل ما لا يقبل ا لرد إلى هذه الأنظمة الخمسة‪-‬نظام‬ ‫الضرورة الشرطية ونظام الحرية الشرطية ونظام تأثير الأولي في الثانية ونظام تأثير‬ ‫الثانية في الأولى وتعين هذه الأنظمة كلها في الإنسان من حيث كيانه الطبيعي والروحي‬ ‫وعلاقتهما بما ورائهما ليس من القرآن‪ .‬وهذا هو الأصل الذي يسميه القرآن دين الله أو‬ ‫الديني في كل دين والذي به يدرس ما فيها من تحريف بمنهج التصديق والهيمنة لتحريرها‬ ‫منه أي لإرجاعها إلى نظامه باعتباره مثال الديني في الأديان والفلسفي في الفلسفات‬ ‫بمقياس منزلة الإنسان في الوجود‪.‬‬ ‫وحتى أسهل الأمر على القارئ العادي‪ .‬فليراجع كل استدلالات القرآن الكريم في كلامه‬ ‫على هذه الأنظمة إذا لم تعتمد عليها فهي ليست منه وأضيفت إليه‪ .‬وما غاب منها فيه إن‬ ‫حصل فهو ما حذف منه‪ .‬وأسارع بالقول إني لم أجد شيئا ذا بل من النوعين إضافة أو حذفا‬ ‫في المصحف العثماني من حيث الأنظمة المعتمدة في الخطاب‪.‬‬ ‫ولأبدأ بشرح معنى قانون الضرورة الشرطية وقانون الحرية الشرطية‪ .‬وهما قانونان‬ ‫يلتقيان في ما وراء الطبيعة وفي ما وراء التاريخ التقاء الخلق والأمر أو التقاء الباري للشيء‬ ‫والمخير بين عدة أشكال لجعلـه يكون على ما هو عليه‪ .‬فيكونان مختلفين عند الإنسان‬ ‫ومتحدين عند \"ما\" يؤدي دور الرب عند المؤمنيـن‪.‬‬ ‫لماذا استعملت \"ما\" في كلامي على الرب لم استعمل \"من\"؟ لان الرب يمكن أن يكون ذاتا‬ ‫تعرف بوصفها ذاتا مثلما نميز بين العاقل والجامد في الأديان المنزلة‪ .‬ولكن في الاديان‬ ‫الطبيعية الأولى كانت \"ما\" تعتبر ما يؤدي وظيفة الرب عندنا \"قوة\" طبيعية أو قوة سحرية‬ ‫تؤله وتعتبر علة الموجود وكونه كما هو‪.‬‬ ‫والمعلوم أن مفهوم الضرورة الشرطية مفهوم أرسطي ومعناه أن للأشياء غايات ونسبة‬ ‫عللها إليها هي نسبة الأداة المحققة للغاية‪ .‬فهي إذن مشروطة بالغاية والاشتراط هنا‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪12‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ضروري ومن أمثلة أرسطو على ذلك هو أنك لا تستطيع أن تكون منشارا من الخشب لقطع‬ ‫الحديد ‪-‬ولا تحتاج إليه لقتل الإنسان إذا اعتمدنا على مثال من تاريخنا الحديث في اغتيال‬ ‫الصحفيين‪.‬‬ ‫أما مفهوم الحرية الشرطية فأستطيع أن اسميه اكتشافا \"أشعريـا\" (تطوعا مني لأنهم لم‬ ‫يسموه بهذا الاسم بل سموه اكتسابا) في الرد على مفهوم الحرية الذي تقول به المعتزلة‪.‬‬ ‫ومعنى ذلك أن فعل الحرية فيه اختيار لكنه ليس مطلقا بل فيه شروط وهي التي لا بد أن‬ ‫تتوفر ليكون \"اكتساب\" الفعل ممكنا‪ .‬مفهوم الكسب الذي يعتبر عسير الشرح هذا هو معناه‬ ‫وتلك هي دلالته الفلسفية‪.‬‬ ‫وطبعا فالحل الأشعري هو الحل العقلاني الوحيد الممكن‪ .‬أما الحل المعتزلي فهو حل‬ ‫ايديولوجي لا يؤيده لا العلم ولا الدين‪ .‬علميا ذلك ما بدأت بشرحه عندما بينت أن‬ ‫الحرية هي اختيار الغاية لكن الغاية تحدد الوسيلة والعقل يفضل أقلها كلفة لكنها كلها‬ ‫فاعليتها خاضعة للضرورة الطبيعية وهي علمية وتقنية رغم أن المفاضلة بينها خاضع‬ ‫للحرية الخلقية‪ .‬ويلتقي النوعان‪.‬‬ ‫فإذا افترضنا ‪-‬وآمنا‪-‬بوجود ما وراء للطبيعة وما وراء للتاريخ وسلمنا بأن هذا المارواء‬ ‫‪-‬ذات شخصية‪ -‬لها علم محيط فإننا نعتقد أن الضرورة الشرطية والحرية الشرطية‬ ‫تتطابقان بالنسبة إليها‪ .‬بمعنى أن الله ‪-‬إن آمنا بوجوده‪ -‬مهندس مطلق العلم يصنع عالما‬ ‫بقوانين طبيعية اختارها وبقوانين خلقية تجري بحسب سنن تفاعلهما‪.‬‬ ‫ولذلك فسخافة الفكر الاعتزالي هي في اسقاط ما ينطبق على الإنسان على ما ينطبق‬ ‫على هذا المارواء إذا شخصناه فاعتبرناه ذاتا إلهية‪ .‬فلو صح أن الإنسان ذو علم محيط‬ ‫لصحت رؤيتهم ولكان الإنسان مطلق الحرية رغم كونه خاضعا للقوانين الطبيعية‪ .‬لكن لما‬ ‫كان الإنسان ليس هو صانع القوانين الطبيعية ولا السنن التاريخية فكل ما بنوه دليل حمق‬ ‫وليس علما‪ .‬وإذن فما يبدو من تناقضات في القرآن ليست منه بل من قرائه ‪-‬مثل المعتزلة‪-‬‬ ‫الذين يخلطون بين المستويين‪:‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪13‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫مستوى الطبيعة والتاريخ وما يعلمه الإنسان منهما ومن ذاته وهو قليل حتى من عالم‬ ‫الشهادة ناهيك عما فيه من الغيب‪.‬‬ ‫ومستوى ما بعد الطبيعة وما بعد التاريخ وما بعد الإنسان أي ما لا يعمله منهما ومن ذاته‬ ‫لتعلق ذلك بالغيب أي بما وراء ذلك كله‪.‬‬ ‫وما ينبه إلى ذلك هو مفهوم الغيب في القرآن وطبيعة حضوره فيه‪ .‬فالغيب في القرآن‬ ‫حاضر لكنه ليس معلوما حتى من البني‪ .‬ومعنى ذلك أن القرآن في إخبار بوجود الغيب‬ ‫وليس فيه علم بمضمونه‪ .‬وكل من يتوهم أن القرآن فيه علم بالغيب ينفي أن يكون القرآن‬ ‫رسالة والرسول مكلف بتبليغها وذلك لما سأبين‪.‬‬ ‫فمفهوم الرسالة يزول بمجرد أن يوجد فيها ما لا يفهمه المرسل إليه‪ .‬ولا يعقل أن يكون‬ ‫الله المرسل يرسل إلى الإنسان المرسل إليه شيئا يعلمه في نفس الرسالة أنه ليس معلوما من‬ ‫غير الله‪ .‬مفهوم الغيب هو إذن مفهوم حد يميز بين نوعين من العلم‪ :‬العلم الإنساني النسبي‬ ‫والعلم الإلهي المحيط‪.‬‬ ‫ولا يمكن أن يختار الله الرسول لأمانته وصدقه ثم يكلفه بتبليغ رسالة ويكون الرسول‬ ‫غير أمين فيخفي عن المرسل إليهم ما طلب منه تبليغه فلم يبلغه أي علم الغيب ولذلك فهو‬ ‫أعلن أنه لا يعلم ما الروح وأنها من أمر ربي وكفى‪ .‬والأمثلة كثيرة يعترف فيها الرسول‬ ‫بهذه الحقيقة حول نسبية علم الإنسان‪.‬‬ ‫وبذلك نصل إلى المرحلة الثانية في تحديد طبيعة القرآن كما هو في المدونة العثمانية من‬ ‫حيث هي رسالة فيها‪:‬‬ ‫مرسل هو الله‪.‬‬ ‫مرسل إليه هو الإنسان عامة‪.‬‬ ‫رسول أمين وصادق كلف بالتبليغ التذكيري فحس‪.‬‬ ‫منهج تبليغ حددته آيتان في الإسراء ‪ 105‬و‪.106‬‬ ‫مضمون مرسول في الفطرة لمهمة محددة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪14‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وأختم هذا الفصل بآخر عناصر الرسالة تدقيقا لمعنى المهمة المحددة المرسومة في الفطرة‬ ‫أي التي هي عين كيان الإنسان وعين شروط وجوده وقيامه من حيث كائن عضوي وروحي‪:‬‬ ‫مهمة تعمير الأرض (مستعمر في الأرض) وقد جهز الإنسان بما يمكنه من تحقيقها أعني‬ ‫بجهاز النظر والعقد وبجهاز العمل والشرع‪.‬‬ ‫مهمة الاستخلاف فيها (أي التعبير بقيم منزلة وجودية هي الإنسان خليفة في الأرض)‬ ‫وقد جهز الإنسان بنفس الجهازين في مستوى ثان هو تنظيم المستوى السابق وتنظيم ذاته‬ ‫بوصفه مستوى العودة على الذات بوصفها بين عالمين‪ :‬عالم فوقها تعتبر نفسها خليفة له‬ ‫وعالم دونها تعتبر نفسها سيدة عليه لأنها جهزت للاستفادة ما فيه مسخر لها‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪15‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫إذا كان مضمون الرسالة مرسوما في ما فطر عليه الإنسان أي إنه عين مقومات وجوده‬ ‫وشروطه من حيث إن حياته مرهونة بتعميره الأرض علة مادية (ما يسد حاجته العضوية‪:‬‬ ‫الاقتصاد خاصة) وباستخلافه فيها علة صورية (ما يسد حاجته الروحية‪ :‬الثقافة خاصة)‬ ‫فإن هذا المضمون محدد بدقة شبه مطلقة‪ .‬وهو إذن يعتبر معيارا موضوعيا وخارجيا يمكن‬ ‫أن نستند إليه في تحديد مضمون الرسالة بالقياس إلى هذه الفطرة وما فيها من مطابق‬ ‫وغير مطابق لهذين البعدين من قيام الإنسان‪ .‬ففيها تحديد لشرطين للشروط‪:‬‬ ‫الأول هو أن الكلام لا يتعلق بأمة محددة بل بالبشر كلهم لأنه أخوة كونية إذ الكل من‬ ‫نفس واحدة (النساء ‪ )1‬دون تمييز عرقي أو ديني أو طبقي أو جنسي إذ الكل متساوون‬ ‫ولا يتفاضلون عند ربهم إلا بالتقوى (الحجرات ‪.)13‬‬ ‫والثاني لا يتعلق بالموجب من الشروط أي التي تساعد على تحقيق المهمتين بل أيضا‬ ‫بالسالب منها أي ما يعوق تحقيقهما وهو التحريف المتعلق بما يتعارض مع هذين الشرطين‬ ‫الشارطين لكل ما عداهما من مقومات الوجود الإنساني التي تحددها الرسالة‪.‬‬ ‫ولا يوجد أحد له نزر من النزاهة والموضوعية يـمكن أن يدعي أنه يجد شيئا آخر في‬ ‫مضمون القرآن من حيث هو رسالة زائدا على ذلك أو ناقصا‪ .‬وطبعا هذا المضمون يبلغ‬ ‫بطريقة معينة من شخص معين يروي ما \"يقول\" إنه تلقاه وحيا ولا يعنيني كثيرا من يؤمن‬ ‫أو لا يؤمن بالوحي لأن المفهوم في حد ذاته في القرآن يتجاوز الأديان والأنبياء ويستعمل‬ ‫في الكلام على اتصال الله بكل المخلوقات كالنحل والسماوات والأرضين‪.‬‬ ‫وبذلك نصل إلى المستوى الثالث من التحديد‪ .‬فالتبليغ في القرآن له بعدان هما جوهر‬ ‫ما يسمى سياسة بالمعنى الفلسفي وليس بالمعنى العامي عند نخب عقاب الزمان‪:‬‬ ‫التربية التي تكون الإنسان بكل معاني التكوين ببعديه العضوي والروحي‪.‬‬ ‫والحكم الذي ينظم حياة الجماعة بكل معانيها أي الحماية والرعاية‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪16‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فمن لم ير ذلك في القرآن أو رأى غيره فهو أعمى البصر والبصيرة‪ .‬ذلك أن هذين‬ ‫البعدين في منهجية التبليغ ليسا متلازمين فحسب بل إن القرآن ينقسم إليهما من حيث‬ ‫التقديم والتأخير في التركز على هذا أو ذاك‪:‬‬ ‫فالمكي يقدم التربية المعدة للمدني‪.‬‬ ‫والمدني يقدم الحكم المطبق للمكي‪.‬‬ ‫ولا يوجد في الحالتين الفصل بينهما بل إن الصلة بينهما بينة في الأول بوصف الثاني فرعا‬ ‫وفي الثاني بوصف الأول أصلا‪ .‬فيكون الأمران متلازمين في التبليغ المحمدي تلازمهما في‬ ‫تحقيق شروط كيان الإنسان من حيث هو كائن روحي مدرك لكيانه العضوي وصاحب سلطان‬ ‫عليه‪.‬‬ ‫ثم إن للتبليغ إضافة إلى هذه العلاقة بين التربية والحكم ‪-‬ككل طريقة تبليغية‪-‬أسلوب‬ ‫تبليغ هو جوهر الثورة الإسلامية التي ليس لها مثيل في تاريخ الإنسانية لا قبلها ولا بعدها‪:‬‬ ‫فهو أسلوب حددته آيتان من الغاشية (‪ )22-21‬بمعيار العلاقة بالمخاطب مع العلاقة‬ ‫بالمضمون‪.‬‬ ‫وحددته آيتان من الإسراء (‪ )106-105‬بمعيار العلاقة بالمضمون مع العلاقة بالمخاطب‪.‬‬ ‫والعلاقتان لهما نفس الصلة التي في التربية والحكم والتي بدأنا بها في علاقة المكي‬ ‫بالمدني‪ .‬وسأكتفي بالآيتين الأوليين لأنهما تمثلان ثورة وهي لا تتعلق ببيداغوجيا التواصل‬ ‫بل بشرطي بقاء الإنسان إنسانا يحافظ على منزلة الخليفة المكلف بتعمير الأرض من حيث‬ ‫هو كائن حر ذو علاقة مباشرة بربه وليس المبلغ فيها وسيطا (إنما أنت مذكر) ولا وصيا‬ ‫(لست عليهم بمسيطر)‪ :‬تحرير الإنسان روحيا وسياسيا‪:‬‬ ‫\"فإنما أنت مذكر\" تعني أنك ليست وسيطا بين الله والإنسان ولا تعطي للإنسان علما‬ ‫يجهله بل تذكره بما يعلمه ونسيه‪ .‬وهو إذن تحرير من الكنسية‪.‬‬ ‫\"ولست عليهم بمسيطر\" تعني أنك لست مخولا للسيطرة عليهم في ثمرة ما تبلغه فتكون‬ ‫سلطة سياسية بالحق الإلهي في الحكم‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪17‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫تلكما هما بعدا ثورة الإسلام‪ .‬وهذا وحده كاف للدلالة على أن كل ما يقوله التشيع في‬ ‫القرآن وتحريفه يعني العكس تماما‪ .‬والقصد أن تحريف القرآن هو في نفي ما تقوله‬ ‫الآيتان أي الوساطة الروحية التي يزعمونها للمرجعيات والتي لم تكن حتى للرسول‬ ‫والوصاية السياسة التي يزعمونها للأيمة والتي ينفيها القرآن حتى عن الرسول‪.‬‬ ‫أما الأسلوب البيداغوجي ‪-‬لتقرأه على الناس على مكث‪-‬وأسلوب التذكير أي البشير‬ ‫والنذير فأمرهما بين لكل ذي عقل ولا يحتاج إلى طويل شرح لأنه من ضرورة سياسة‬ ‫التواصل أن تكون هادفة وأن تكون صبورة‪ .‬ولا علاقة للأمر بالتحريف لأنه ضروري سواء‬ ‫كان النص صحيحا أو منتحلا‪ .‬لذلك فلن أتكلم فيهما‪.‬‬ ‫وأمر الآن إلى المستوى الرابع من التحديد وسأتخطى الكلام في قلب معادلة الرسالة أي‬ ‫‪-‬الرسول‪-‬لأمر إلى ما قبلها كما تكلمت بعد على ما بعدها أي مضمون الرسالة ومنهد التبليغ‪.‬‬ ‫وما قبلها هما الإنسان المرسل إليه والله المرسل‪ .‬وهما المستوى الرابع من التعريف‪:‬‬ ‫انثروبولوجيا وثيولوجيا القرآن‪.‬‬ ‫فإذا انطلقنا من تحرير الإنسان من الوساطة الروحية (إنما أنت مذكر) ومن الوصاية‬ ‫السياسية (لست عليهم بمسيطر) يصبح الإنسان في علاقة مباشرة بربه وفي علاقة مباشرة‬ ‫بأمره أي بمهمتيه‪ :‬الاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها‪ .‬وهذه رؤية للإنسان جديدة‬ ‫وثورة لم يسبق لها حتى في الفلسفة ناهيك عن الأديان‪.‬‬ ‫فحتى أفلاطون وأرسطو رغم كونهما تلميذي سقراط الأول مباشرة والثاني بتوسط الأول‬ ‫فإنهما لم يبقيا على رؤيته للتربية التذكر بحق وعلى رؤيته للسياسة التي تتحرر من سلطان‬ ‫شبه كنسي ووصاية شبه حق إلهي في الحكم مع شيء أخطر وهو بناء الدولة على المقابلة‬ ‫حر عبد وعلى بنية النفس الطبيعية‪.‬‬ ‫والأخطر هو أن بناء نظام الدولة على بنية النفس الطبيعية يجعل منازل البشر متحددة‬ ‫بالقدرات الطبيعية للإنسان فيكون للعقل المنزلة الأعلى وللغضب المنزلة الوسطى وللشهوة‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪18‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫المنزلة الأدنى وأصحابها أشبه بالآلات والعبيد‪ .‬ومن فمفهوم المساواة بين البشر أو‬ ‫التفاضل بالتقوى لا معنى لهما في فلسفتهما‪.‬‬ ‫صحيح أنه توجد اختلافات طفيفة بين أفلاطون وأرسطو لكن أفلاطون نفسه أنهاها في‬ ‫النواميس التي هي دون الجمهورية مثالية فتوسط بين بنية النفس والدولة ما يشبه ما جعله‬ ‫أرسطو وسيطا أعني الأسرة التي هي في آن طبيعية وخلقية والتي جعلته يميل في الغاية إلى‬ ‫نظام سياسي مزيج متجاوز للتصنيف المعتاد‪.‬‬ ‫وهذه كلها مماثلة فلسفيا لما وصفناه دينيا من وساطة ووصاية (نظرية الدولة‬ ‫الأفلاطونية مبينة عليهما ولهما صبغة لا تختلف في شيء عن الكنسية ‪-‬مجلس الليل‪-‬وعن‬ ‫الحق الإلهي في الحكم (الملك الفيلسوف)‪ .‬كل ذلك أنهاه القرآن في رؤيته للإنسان مستعمرا‬ ‫في الارض وخليفة لا سلطان لغير الله عليه‪ .‬فأنثروبولوجيا القرآن‪-‬نظرية الإنسان‪-‬‬ ‫معتمدة على بعدين‪:‬‬ ‫البعد الأول المنزلة الوجودية التي يحددها تكليف بمهمتين هما عين كيانه وشروط بقائه‬ ‫أي الاستعمار في الأرض والاستخلاف‪.‬‬ ‫يتعلق بشرط بقائه ‪-‬العضوي ‪-‬وعلاقته بالعالم والضرورة‬ ‫وبشرط تعاليه عليه وبقائه الروحي وعلاقته بما وراء العالم والحرية‪.‬‬ ‫والبعد الثاني يتعلق كذلك بأمرين‪:‬‬ ‫كيف تربي الجماعة أجيالها لتكون مؤهلة لهذين المهمتين‬ ‫كيف تحكم الجماعة نفسها لتكون بحق مستقلة عن الوساطة والوصاية‪ .‬وإذن فنظام‬ ‫التربية ونظام الحكم هما البعد الثاني في الانثروبولوجيا القرآنية‪.‬‬ ‫وقد تكلمنا على التربية ونظام الحكم تحدده الشورى ‪ .38‬وكان من الطبيعي ألا يلتفت‬ ‫العلماء ‪-‬وخاصة علماء الأحكام السلطانية‪-‬لدلالة الشورى ‪ 38‬رغم أنهم حافظوا على‬ ‫شكليات تذكر بما تطلبه والذي هو نظير ما تطلبه التربية أعني التحرر من الوساطة‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪19‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الروحية في التربية والوصاية السياسة في الحكم‪ .‬لكن دلالتها حرفت تماما فجعلت عكس‬ ‫دلالتها القرآنية‪.‬‬ ‫فالآية تبدأ بالحرية الروحية ونفي الوساطة \"والذين استجابوا لربهم\" وليس لولي الأمر‬ ‫كما يزعم الفقهاء‪ .‬وتثني بتحديد طبيعة الحكم \"أمرهم\" يتعني أمر الجماعة التي استجابت‬ ‫لربها‪ .‬ولو ترجمنا الكلمة بالمصطلح الفلسفي المعروف في عصر نزول القرآن لكان \"راس=أمر‬ ‫ثم بوبليكا=الشعب\"‪ .‬إذن جمهورية‪.‬‬ ‫نظام الحكم في هذه الآية جمهوري في شعب ليس بينه وبين ربه وسيط أي في شعب حر‬ ‫روحيا ومن ثم فهو حر سياسيا‪ .‬لكن الآية لم تكتف بتعريف طبيعة النظام بل عرفت أسلوب‬ ‫عمله‪ .‬فالجماعة الحرة روحيا والحرة سياسيا هي التي تدبر أمرها بالشورى بينها‪ .‬وهذا‬ ‫هو تعريف أسلوب حكم الأحرار لأنفسهم‪ .‬والجمع بين الطبيعة والأسلوب يجعل النظام هو‬ ‫الجمهورية الشورية‪.‬‬ ‫وإذن فالآية تعرف البعد الثاني من تكوين الإنسان ‪-‬بعد التربية‪ -‬الحكم بكونه استنادا‬ ‫إلى تربية ذات حرية روحية بلا وساطة فيكون دولة ذات حرية سياسية بلا وصاية وهما‬ ‫آيتا الغاشية ‪ .22-21‬لكن الفقهاء جعلوا مشورة العلماء أو أهل الحل والعقد وليس أمر‬ ‫الجماعة كما تقول الآية وشوراها‪.‬‬ ‫وإذن فهذه الانثروبولوجيا ‪-‬نظرية الإنسان‪ -‬القرآنية لا يمكن فهمها من دون هذين‬ ‫العلاقتين المباشرتين للإنسان من سلطان عليه‪-‬الله‪-‬وسلطان له ‪-‬على العالم الطبيعي‬ ‫بوصفه مستعمرا في الأرض وعلى العالم التاريخي بوصفه مستخلفا فيها وهما علاقتان‬ ‫مباشرتان الأولى بلا وصاية والثانية بلا وساطة‪.‬‬ ‫وهذه هي الثورة التي أذهلت علماء الأمة فلم يستطيعوا لها فهما لأنها غير موجودة في‬ ‫أي نظام سابق‪ .‬فالجمهورية موجودة في روما لكنها لم تكن شورية عامة بحيث يكون الواجب‬ ‫السياسي فرض عين بل هو خاص بالبعض دون البعض‪ .‬والشورى ليست الديموقراطية لأن‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪20‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫هذه في الاصطلاح القديم تعتبر أفسد نظام على الأطلاق في منظومة الأنظمة التي عرفها‬ ‫أرسطو وأفلاطون إذ هي تمثل حكم الغرائز والدهماء‪.‬‬ ‫لذلك فذهول العلماء أبعدهم عن فهم سرها والبناء عليها‪ .‬لذلك فكل علومهم كانت‬ ‫تخريفا لأنها قلبت إشارة القرآن إلى حيث توجد حقيقته التي توجه إلى الإنسان إلى‬ ‫شروط تحقيق مهمتيه (فصلت ‪ )53‬وإشارته إلى ما ينبغي تجنه لأنه هو ما يحول دون تحقيق‬ ‫مهمتيه (آل عمران ‪.)7‬‬ ‫القرآن يقول لهم إن حقيقتي لا توجد في بل في ما يريكم الله من آياته في الآفاق‬ ‫(الطبيعة والتاريخ) وفي أنفسكم وهم أهملوا ذلك وشرعوا في البحث عن حقيقته في آياته‬ ‫النصية فكان أن وقعوا في المحظور الذي حددته آل عمران ‪ 7‬أي تأويل المتشابه وما يفيده‬ ‫من زيغ القلوب وابتغاء الفتن وهو ما حصل فعلا‪.‬‬ ‫فكانت علوم الملة الغائية الخمسة محرفة‪:‬‬ ‫العلم الأصل ثم العلوم الفرعية الأربعة أي‬ ‫الكلام‬ ‫الفلسفة‪.‬‬ ‫وهما العلمان النظريان العقديان‪.‬‬ ‫ثم‪:‬‬ ‫الفقه‬ ‫التصوف‪.‬‬ ‫وهما العلمان العمليان الشرعيان‪.‬‬ ‫فكانت كلها مبنية على تأويل المتشابه بل وعلى عدم تحديد معيار واضح للفصل بين‬ ‫المتشابه والمحكم‪ .‬وذلك ما خصصنا له بحثا مطولا سابق هدفه الفصل الواضح بينهما‬ ‫بمعايير مستمدة من القرآن نفسه وهي تختلف تماما عما توهمه علماء الملة فاضطروا إلى‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪21‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫التحيل على آل عمران ‪ 7‬بحجة الرسوخ في العلم وتأويلها بعكس ما تفيده بمقتضى قوانين‬ ‫اللسان العربي‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪22‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫تكلمت كثيرا في محاولات سابقة على نتائج هذا القلب لدلالة فصلت ‪ 53‬وآل عمران ‪7‬‬ ‫وما ترتبت عليه من تحريف نسقي للقرآن بمعنى أن نظامه ظل مجهولا بإطلاق ما حال دون‬ ‫الاستفادة من إشاراته إلى شروط النجاح في المهمتين ‪-‬التعمير والاستخلاف‪-‬وشروط‬ ‫الفشل‪ .‬والنظام بعده الأول هو تعريف الدينـي في الأديان والفلسفي في الفلسفات‪.‬‬ ‫و\"النظام\" الثاني الذي يسلبهما هو تحريفهما والتنبيه إليهما هو مضمون الرسالة‪.‬‬ ‫وهنا أجدني قد وصلت إلى غاية البحث أو المرحلة الأخيرة في تحديد طبيعة القرآن وهي‬ ‫التي اعتبرتها فرضية الانطلاق في قراءة القرآن قراءة فلسفية ليس من شرطها أن يكون‬ ‫القارئ والمخاطب مؤمنا به علما أن الإيمان به يقوي اليقين في نتائج البحث لأنه يجمع بين‬ ‫الفرقان علميا والوجدان شعوريا‪.‬‬ ‫ذلك أني في كلامي على الأنثروبولوجيا القرآنية (نظرية الإنسان) لا يمكن أن أفصل‬ ‫بينها وبين الثيولوجيا القرآنية (نظرية الله)‪ .‬فلا يمكن تعريف الإنسان إلا بهذه العلاقة‬ ‫التي تبدو وكأنها علاقة تمانع بين الذاتية الألهة والمألوهة والتي مدارها هي كيف يكون‬ ‫الإنسان فيها تابعا لسلطة فوقه ومتبوعا من سلطة دونه هي سلطة العالم قوانين العالم‬ ‫الطبيعي وسنن العالم التاريخي وله عليهما سلطة جهز بنوعي أدواتها وبمعايير السلطة التي‬ ‫فوقه حتى لو كان وثنيا أو ملحدا‪:‬‬ ‫جهاز النظر والعقد لمعرفة قوانين الطبيعة (نظام الخلق) وسنن التاريخ (نظام الأمر)‪.‬‬ ‫جهاز العمل والشرع لتنظيم تعامله مع الطبيعة بقوانينها أو بعلم نظام الخلق والتاريخ‬ ‫بسننه أو بعلم نظام الأمر‪.‬‬ ‫وفي الحقيقة فالفرق بين الملحد والوثني فرق اسمي ليس وراءه حقيقية‪ .‬فالوثني هو‬ ‫الذي يعتقد أن ما ينسبه المؤمن إلى الله يعود إلى قوة محايثة في الطبيعة نفسها‪ .‬والملحد‬ ‫يمكن أن يسمى تلك القوة الصدفة كما في نظرية التاريخ الطبيعي الدارويني‪ .‬وقد بينت‬ ‫أن الصدفة قد تفسر حصول التغير لكنها لا تفسر بقاء التغير المفيد إلا بغائية ضمنية‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪23‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وإذن فصدفة الملحد وثنية مضمرة تعني أن الطبيعة لها أهداف من أجلها تحافظ على ما‬ ‫يساعد على تحقيقها وتجعلها تنتقل من كونها مكتسبة إلى كونها وراثية‪ .‬ولذلك فلا معنى‬ ‫للفرق بين الإلحاد والوثنية‪ .‬وكلاهما فيها إيمان ما بنظام ما ذي علة ما‪ .‬ولما كانت الوثنية‬ ‫دينا طبيعيا بمعنى اعتقاد في قوى خفية ذات سلطان على ما يجري في العالم فهما دين متنكر‪.‬‬ ‫والقرآن يقول ما يشبه ذلك لأنه في الحج ‪ 17‬ضم الشرك إلى الأديان التي يجعل الفصل‬ ‫بينها مؤجلا إلى يوم الدين‪ .‬لكن ليس هذا ما يعنيني الآن‪ .‬فـما يعنيني هو أني وصلت إلى‬ ‫اكتشاف بداية التعريف الخامس والأخير للإسلام كما تعين في المصحف العثماني‪ .‬وهي‬ ‫بداية سميتها المعادلة الوجودية الكونية‪.‬‬ ‫وهنا يمكنني أن أزعم ‪-‬وفي ذلك أقدام قد ألام عليه‪ .‬فلو فرضنا أن العالم فني ولم يبق‬ ‫فيه إلا إنسان مسلم واحد وكان ذا عقل سوي لأمكن له انطلاقا مما فطر عليه بمنطوق‬ ‫القرآن أن يعيد اكتشاف نظام القرآن الذي هو عين نظام كيانه ونظام علاقته بالآفاق‬ ‫وبالأنفس التي يريه الله الله في الكون وفي ذاته رغم كل الاختلافات الممكنة في النص لأن‬ ‫النص تذكير بهما والقرآن يقول إن تبين حقيقته هو عين ما يرينا الله في آياته التي تتجلى‬ ‫في الآفاق وفي الأنفس‪ .‬وهذا وحده كاف لدحض كل ما يقال عن المصحف العثماني‪.‬‬ ‫والمنطلق في رسم هذه المعادلة هو العلاقة المباشرة بين الإنسان وربه‪ .‬فلنعتبر هذه‬ ‫العلاقة المباشرة قلب المعادلة الوجودية أو عين نظام القرآن وعين نظام الفطرة وعين‬ ‫نظام شروط وجود الإنسانية وبقائها وذلك هو مركزها‪ .‬ولنضع على يمينها علاقة الإنسان‬ ‫بالطبيعة مصدر حياته العضوية التابعة للطبيعة بالضرورة الشرطية‪ .‬وعلى يسارها علاقة‬ ‫الإنسان بالتاريخ مصدر حياته الروحية التابعة للتاريخ بالحرية الشرطية‪ .‬والسؤال‬ ‫الديني والفلسفي في آن هو‪ :‬هل يمكن أن نقف هنا أم يوجد ما وراء هذين الأفقين ونوعي‬ ‫الشرطية الضرورية والحرية \"شيء ما\" سواء افترضناه مفارقا لهما أو محايثا فيهما؟‬ ‫إنها معادلة وجودية بمعنى أنها تتضمن هذا الترابط الأزلي بين الانثروبولوجيا‬ ‫والثيولوجيا أو هذا \"الشيء ما\" الذي لا نستطيع الاستغناء عن افتراضه وراءهما لفهم‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪24‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫معنى الطبيعة والتاريخ ونظاميهما أي الضرورة الشرطية والحرية الشرطية نظامين لا‬ ‫نستطيع العيش من دونهما تصورا وممارسة‪.‬‬ ‫وهي معادلة كونية لأنه حتى من يزعم رفض الأديان يجد نفسه مضطرا إليها أو إلى ما‬ ‫هو هي وإن اختلقت الأسماء وحتى لو أصر على عدم إعلانها بلسانه رغم تيقنه منها بقلبه‬ ‫سواء كان وثنيا أو ملحدا أو لا أدريا متردد بين الوثنية والإلحاد والإيمان والاعتقاد‪ .‬وهي‬ ‫عين بنية القرآن والإنسان‪.‬‬ ‫والمنطلق في رسم هذه المعادلة هو العلاقة المباشرة بين الإنسان وربه‪ .‬وهي في الغالب شبه‬ ‫علاقة تمانع كما يصفها القرآن لأن العلاقة بين الذاتين دائمة التوتر في القرآن الكريم‪.‬‬ ‫لكنها مع ذلك علاقة مباشرة لأن الله أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد‪ .‬فلنعتبر هذه‬ ‫العلاقة المباشرة قلب المعادلة أو مركزها‪ .‬ولنضع على يمينها علاقة الإنسان بالطبيعة مصدر‬ ‫حياته العضوية بنظام الضرورة الشرطية وعلى يسارها علاقة الإنسان بالتاريخ مصدر‬ ‫حياته الروحية بنظام الحرية الشرطية‪ .‬فهل يمكن أن نقف هنا أم يوجد ما وراء العلاقتين‬ ‫كما أسلفنا؟‬ ‫بينا أن من يتوهم أنه يقف عند الطبيعة والتاريخ ولا يتجاوزهما إلى ما ورائهما هو في‬ ‫الحقيقة يجعل ما وراءهما محايثا لهما فيكون قد تخلى عن المفارقة لم يتخل عن الماوراء‪.‬‬ ‫فسواء اعتبرنا القوة المؤثرة محايثة أو مفارقة فإننا لم نستغن عن الماوراء إذ يبقى من‬ ‫جنس مقابلة كل القائلين بوحدة الوجود وأبرزهم في خصوص الطبيعة مقابلة الكثير من‬ ‫متصوفتنا بين ذات المتصوف وذات الله أو مقابلة سبينوزا بين الطبيعة الطابعة والطبيعة‬ ‫المطبوعة‪.‬‬ ‫وإذا التقت الطبيعة والتاريخ والضرورة الشرطية والحرية الشرطية سواء كان الماوراء‬ ‫مفارقا أو محايثا فإنهما ستلتقيان بما انطلقتا منه أي إن المارواء هو ما يؤدي دور الله وهو‬ ‫ما يؤدي دور الأنسان اللذين رأيناهما في العلاقة المباشرة التي تصبح غير مباشرة مرورا‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪25‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫بالطبيعة وبالتاريخ‪ .‬فتصبح المعادلة دائرة ذات قطبين أولهما مباشر قبل الطبيعة وقبل‬ ‫التاريخ والثاني بعدهما‪.‬‬ ‫وهذه المعادلة هي عين معادلة القرآن أو معادلة مضمون الرسالة وعين معادلة كيان‬ ‫الإنسان وعين المعادلة الوجودية التي لا يمكن للإنسان أن يرى شيئا في الوجود من دون‬ ‫المرور بها إما صراحة أو ضمنا‪ .‬فلو أخذنا فصلت ‪ 53‬فهي تقول إن تبين أن القرآن هو الحق‬ ‫تكون في آيات الله التي تتجلى في الآفاق وفي الأنفس‪.‬‬ ‫فأما الآفاق فهي إما الطبيعة أو التاريخ وهما أفقا الإنسان‪ .‬والأنفس هي الذات أو‬ ‫علاقة الإنسان بذاته وبغيره بما في ذلك الطبيعة كلها وبما يفترضه وراء الطبيعة ووراء‬ ‫التاريخ من قوانين تحكم الطبيعة هي قوانين الضرورة الشرطية وسنن تحكم التاريخ هي‬ ‫سنن الحرية الشرطية‪ .‬والإنسان يعتبر هذه القوانين والسنن إما ناتجة عن قوة محايثة‬ ‫أو عن قوة مفارقة‪.‬‬ ‫لذلك فالآية تتكلم على تجلي آيات الله التي تبين حقيقة القرآن \"في أنفسهم\" وليس في‬ ‫الآفاق فحسب وهي تؤخر آيات الله التي يريها للبشر في أنفسهم عن الآيات التي يريهم‬ ‫إياها الآفاق فتكون الآيات التي في الأنفس هي ما يناظر الآيات التي في الآفاق مناظرة ما‬ ‫للإنسان من تجهيز لتحقيق مهمتيه لما في الآفاق موضوعية يعلهما ويعمل بها‪.‬‬ ‫وهذا التناظر بين ما لدى الإنسان (في أنفسهم) من شروط الفاعلية للقيام بمهمتيه وما‬ ‫في العالم ( ٍالآفاق الطبيعية والتاريخية) من شروط موضوعية من دونها لا يمكن أن يحقق‬ ‫مهمتيه أي شروط وجوده وبقائه هو الذي يجعل هذه البنية هي عين الدائرة التي وصفت‪.‬‬ ‫وهي مباشرة في الأنفس وغير مباشرة في الآفاق‪ .‬وذلك ما يحول نهائيا دون قراءة هيجل‬ ‫للمسيحية ويبين أن الله لا يقوم في الإنسان بل هو ذو قيام مطلق الانفصال عن الإنسان‬ ‫وعن الطبيعة وعن التاريخ (راجع ما كتبته عن نظرية الصلح الهيجلي تأويلا للتحريف‬ ‫المسيحي)‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪26‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فإذا قرأت القرآن العثماني وجدته لا يتكلم إلا على هذه المعادلة وبالذات على ما جهز‬ ‫به الإنسان لتحقيق مهمتيه وما تحتوي عليه الطبيعة والتاريخ من شروط تحقيق المهتمين‬ ‫بفضل جهاز النظر والعقد لمعرفة قوانين الطبيعة وسنن التاريخ وبفضل جهاز العمل‬ ‫والشرع لتنظم حياته وسياستها فيهما‪.‬‬ ‫لماذا جمعت بين النظر والعقد في تجهيز الإنسان لعلاج علاقته بالقوانين والسنن شرطي‬ ‫التعمير‪ .‬النظر فكر مجرد لا يمكن أن يصل إلى نتيجة إذا لم ينطلق من العقد ولم ينته‬ ‫إليه‪ .‬فهو ينطلق من اعتقاد بأن الأشياء لها وجود وقوانين موضوعية وأن الإنسان يمكن‬ ‫أن يعلمها بما لديه من أدوات حسية وقدرات عقلية نظرية‪ .‬وهذا الجهاز من أهم ما يدور‬ ‫عليه خطاب القرآن للإنسان‪.‬‬ ‫لكن القرآن يقول له إن كل شيء خلق بقدر أي إن قوانينه رياضية وإن معرفتها تقتضي‬ ‫التجربة أي الاطلاع على المعطيات في الوجود الفعلي بالحواس ولا يكفي لمعرفتها الاكتفاء‬ ‫بالافتراضات النظرية‪ .‬فيكون النظر والعقد معتمدا ضرورة شرطية على الرياضيات‬ ‫والتجربة حتما وإلا فهو ليس علما بل أوهام مثل قال فلان وقال فلتان اللذين غرقت فيهما‬ ‫تخريف علوم الملة كلها‪.‬‬ ‫ولماذا جمعت بين العمل والشرع في تجهيز الإنسان الثاني لعلاج علاقته بهما من اجل‬ ‫الاستخلاف أو التنظيم القيمي للوجود الإنساني؟‬ ‫هل يمكن أن يتغير شيء في تعمير الأرض (علاقة بالطبيعة) أو في الاستخلاف فيها‬ ‫(علاقة بالتاريخ) من دون العمل المنظم بقيم معينة؟‬ ‫وهل يمكن أن يحصل عمل من دون قيم تنظمه؟‬ ‫وهذا هو التجهيز الثاني للإنسان حتى يحقق مهمتيه ليس بنظام العلم وحده بل وكذلك‬ ‫بنظام القيم؟‬ ‫فلا بعد الضرورة الشرطية لقوانين الطبيعة وسنن التاريخ من الحرية الشرطية ليكون‬ ‫التعمير بقيم الاستخلاف‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪27‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لكنك لن تجد في القرآن لا قوانين الطبيعة العلمية لأنها مطلوب اجتهاد التعمير الذي هو‬ ‫جزء من التكليف بتعمير الأرض ولا سنن التاريخ العملية لأنها مطلوب جهاد الاستخلاف‬ ‫لأنها مطلوب السياسة أي التربية والحكم‪ .‬وكل ذلك لا يتحقق إلا بالبحث العلمي‬ ‫وتطبيقاته اجتهادا وبالبحث العملي وتطبيقاته جهادا أسمى‪.‬‬ ‫وبذلك تسقط كل خرافات البحث عن الإعجاز العلمي في نص القرآن بما في ذلك حقيقة‬ ‫القرآن إذ هو بذاته يقول إن تبين أنه الحق لا يكون إلا في ما يتجلى من آيات الله في الآفاق‬ ‫وفي الأنفس والقرآن طبعا جزء منهما لكونه ذا قيام فعلي في الآفاق (نزل) وفي الانفس‬ ‫(ذكر بالفطرة)‪ .‬فليس في القرآن لا قوانين علمية ولا سنن تاريخي إلا فـي شكل إشارات‬ ‫لشروط الضرورة الشرطية في الطبيعة ولشروط الحرية الشرطية في التاريخ بمعنى أن‬ ‫العلم والعقد والعمل والشرع هما فعل الإنسان وليسا أمرين جاهزين يدركهما الإنسان‬ ‫بتفسير الآيات النصية وتأويل المتشابه‪.‬‬ ‫وبذلك وصلت إلى تحديد معايير التمييز بين المحكم والمتشابه في محاولة سابقة‪ .‬فكل‬ ‫كلام القرآن على نفسه بوصفه رسالة هو المحكم وكذلك إشاراته إلى مهمتي الإنسان‬ ‫والمعادلة الوجودية التي شرحت هنا‪ .‬أما ما يشير إليه أي الطبيعة والتاريخ والضرورة‬ ‫الشرطية والحرية الشرطية فهي كلها ما على الإنسان إنجازه ليثبت أنه جدير بالاستخلاف‪.‬‬ ‫وكلها من المتشابه مثل كل الموجودات القائمة بذاتها خارج النص‪.‬‬ ‫ولهذه العلة جازفت فسميت القرآن \"سبابة\" تشير والمشار إليه بها ليس حاصلا فيها بل‬ ‫هو ما على الإنسان تحصيله ليكون أهلا للاستخلاف بالنجاح في تحقيق شروط التعمير‬ ‫المعرفية والقيمية بفضل ما جهز به للنظر والعقد وللعمل والشرع وكل ذلك بقيم الخليفة‬ ‫أي بمن لا ينسى أنه ليس هو رب الكون وأن للكون قوانين وسنن لا نعمر الدنيا ولن نكون‬ ‫أهلا للاستخلاف إلا بالاجتهاد لعلمها والجهاد لعملها‪.‬‬ ‫لكن ما حصل في علوم الملة هو أن العلماء وقع معهم ما وقع لـذلك الشخص المذكور في المثل‬ ‫الصيني والذي بدلا من أن ينظر إلى ما يشير إليه معلمه بسبابته ترك المشار إليه وبقي‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪28‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ينظر إلى السبابة المشيرة‪ .‬وتلك هي علة ما آل إليه أمر الأكداس من اللغو الذي يسمى‬ ‫علوما وهو لا يصلح لا للتعمير ولا للاستخلاف‪.‬‬ ‫والغريب أن هذه العلوم التي تسمى علوم الملة المفروض أن تكون صالحة على الأقل‬ ‫للعمل والشرع أي للتربية والحكم‪ .‬لكنها لم تكن كذلك‪ .‬فلماذا؟ العلة بينة‪ :‬فالحساب يوم‬ ‫الدين يكون على أعمالنا في الدنيا أي على مهمتي التعمير والاستخلاف‪ .‬فكيف يعمر من‬ ‫يجهل قوانين الطبيعة وسنن التاريخ؟‬ ‫وكيف يكون خليفة من لا يعمر؟ فمن لا يعمر يكون عبدا لمن يعمر وليس لربه‪ .‬ولذلك‬ ‫فكل المسلمين اليوم عبيد للغرب مهما ادعوا من عنتريات‪ .‬فهم مدينون له في الرعاية وفي‬ ‫الحماية‪ .‬وكلما كان العربي \"غنيا\" ماديا كان أكثر تبعية لأنه لا يكتفي باستيراد شروط‬ ‫عيشه بل يحتاج لحمايته وحماية \"ثروته\"‪.‬‬ ‫وبهذا المعنى فكل علوم الملة التي تكلم عليها الغزالي في احياء علوم الدين لا معنى لها‬ ‫إذا لم تتضمن إحياء علوم الدنيا لأن الدين ليس العبادات التي هي جزء ضئيل من‬ ‫التربية‪ .‬ولأنهم لم يعملوا شيئا في البقية ضخموا العبادات متوهمين أنه يمكن للإنسان أن‬ ‫يكون خليفة بها وليس بشرط أن تكون قيم التعمير شرطه‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪29‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وصلت الآن إلى نهاية البحث في فصلها الخامس‪ .‬بدأت بمضمون الرسالة ومنهجية التبليغ‬ ‫بعد الرسول الذي جعلته قلب الرسالة ثم مررت إلى الانثروبولوجيا والثيولوجيا قبل أي‬ ‫المرسل والمرسل إليه وبه أختم الكلام في القرآن في شكله الحالي لأجيب عن سؤال هل فيه‬ ‫تحريف بالإضافة أو بالنقص أي عدم نسقية؟‬ ‫فإذا لم يكن المصحف العثماني نصا مطلق الاختلاف عن القرآن الشفوي وذا نسقية وضعها‬ ‫محرفو الشفوي خلال نقلته إلى الكتابي فإن ما فيه من نسقية لا تشكو من نقص ولا من‬ ‫زيادة غيرت النسقية حتى لو سلمنا بوجود شيء منهما لأن وجوده لم يكن مؤثرا في نسقيته‬ ‫ويصعب أن يكون المنتحلون لهم هذه العبقرية‪.‬‬ ‫هدف المحاولة هو الاستغناء عن الحجج الساذجة أو المصادرة على المطلوب بالاعتماد على‬ ‫الوعد بالحفظ فضلا عن كونه لا يؤثر إلا في المؤمنين بالقرآن وفضلا عن كون الحفظ لا‬ ‫يتعلق بالنص الذي يتضمنه المصحف لأن معارضيه يمكن أن يدعو أن الحفظ يتعلق المتن‬ ‫الذي لديهم (التشيع) أو بالنص الشفوي الذي حرف‪.‬‬ ‫وأصدقكم القول أني لو لم يكن القرآن بالصفات التي حاولت بيانها في قراءتي الفلسفة‬ ‫بعنوان \"استراتيجية التوحيد القرآنية ومنطق السياسة المحمدية\" ولم تكن الروايات التي‬ ‫تختلف عما في المصحف العثماني لا تتطابق مع النظام الذي يطابق ما يعرف به القرآن نفسه‬ ‫لصدقت حينها أن القرآن لم يأت بشيء جديد لو كان الصحيح هو الصورة التي يدعيها‬ ‫التشيع أو التي يدعيها علماء الملة ممن حولوه إلى \"صندوق صنعة في هذيان المؤولين\" أو‬ ‫التي يدعيها ناقديه ممن يتصورون المصفح العثماني قد طرأ عليه ما طرأ على متون‬ ‫الأديان الأخرى التي نقدها القرآن ‪.‬‬ ‫استراتيجية التوحيد القرآنية سواء فهمناها بمعنى توحيد الله أو بمعنى توحيد الإنسانية‬ ‫لا أعتقد أنه يوجد أحد يشكك في أن بنية القرآن هي هذه الاستراتيجية وأنها بنية يترتب‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪30‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫عليها أن يكون القرآن بالجوهر مشروعا سياسيا فعليا للعالم كله بهدف تحقيق ذلك في‬ ‫التاريخ الفعلي باستراتيجية التربية التي لا وساطة فيها والحكم الذي لا وصاية فيه‪.‬‬ ‫أي بالنموذجين المطبقين في المرحلة المكية وفي المرحلة المدنية لتكوين عينة تؤمن بكونية‬ ‫الرسالة وبمهمتي الإنسان اللتين وصفت أي التعمير والاستخلاف فرصة ثانية لآدم بعد‬ ‫العصيان وبديلا مما صار يسمى في التحريف المسيحي بالخطيئة الموروثة التي تقتضي‬ ‫الحاجة إلى وساطة شفيع تنوبه مؤسسة الوساطة الروحية تربويا والوصاية السياسية‬ ‫حكميا‪.‬‬ ‫ولذلك كان الجزء الثاني من العنوان \"منطق السياسة المحمدية\"‪ .‬فما كان الرسول الخاتم‬ ‫مكلف به ليس التبليغ فحسب بل التبليغ الذي يؤدي إلى إنشاء عينة من سياسة كونية تسعى‬ ‫إلى توحيد الإنسانية حول مهمتي الإنسان من حيث هو معمر في الأرض ومستخلف فيها‬ ‫يراعي في العمير قيم الاستخلاف‪.‬‬ ‫ولهذه العلة أفهم جيدا أن يقدم المتكلمون على الإسلام من حيث هو ممارسة عملية وليس‬ ‫من حيث هو رؤية نظرية السنة على القرآن لأن العينة النموذجية منها هي تطبيق الرسول‬ ‫نفسه لهذه الاستراتيجية‪ .‬والإنسان لا يقتدي في الممارسة بغير من يعتبره أفضل منجز‬ ‫للاستراتيجية السياسية في التربية وفي الحكم‪ .‬فيكون القرآن النظرية الاستراتيجية‬ ‫والسنة هي نموذج تطبيقها‪.‬‬ ‫لكن عيب تقديم السنة على القرآن هو نسيان نظام التعيير‪ .‬فلو كانت السنة (السيرة‬ ‫والحديث) موثوقة مثل القرآن لما رأيت في ذلك عيبا لعلمي أن الممارسة لا بد لها من قدوة‪.‬‬ ‫ولا توجد قدوة أفضل من الرسول نفسه‪ .‬لكن الشك الذي يحيط بهما يجعل ضرورة‬ ‫المحافظة على تقديم القرآن على السنة حتى في الممارسة العملية‪.‬‬ ‫ولأشرح الآن معنى الاصطفاء بالنسبة إلى الرسول الخاتم‪ .‬فكثيرا من نسمع الكلام على‬ ‫علامات عضوية مثل الخاتم أو شرح الصدر إلخ‪ ...‬لن أتكلم عليها لأنها لا تدل على شيء‬ ‫حقا‪ .‬فـما يدل حقا على الاصطفاء ينبغي أن يكون ذا صلة بما لأجله حصل الاصطفاء‪ .‬هو‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪31‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫في هذه الحالة مدى تحقق المعادلة الوجودية في كيان الرسول العضوي والروحي طيلة حياته‬ ‫كلها مربيا وحاكما وخاصة طبيعة الاستدلال القرآني إذ لو كان القرآن يعتمد على ما تعتمد‬ ‫عليه الرسالات السابقة كما وردت في القصص من خرق للنظام الطبيعي أو الضرورة‬ ‫الشرطية والتاريخي أو الحرية الشرطية لكان متناقضا مع طبيعة رسالته الخاتمة تعتمد‬ ‫على الواحد المشترك بين الديني والفلسفي‪.‬‬ ‫وقد لا أحتاج للكلام على صفات الرسول كمرب لأن ذلك مما لا يكاد يتطرق إليه الشك‬ ‫والاختلاف‪ .‬إنما المشكل هو في صفاته كحاكم إذ قد يتصور البعض أنه كان حاكما مطلقا‬ ‫لكأنه يعتمد على الوساطة والوصاية‪ .‬والمسألة تاريخية يعسر إثباتها‪ .‬لكن الأسئلة التالية‬ ‫كافية لفهم القصد منها‪ :‬فهل كونه رسولا أغناه عن الشرعية كما حددتها الشورى ‪38‬؟‬ ‫ألم يحصل على بيعة حرة؟ ألم يكن يعمل بالشورى مع شعبه وبأمر من القرآن نفسه؟‬ ‫ألم يبدأ الحكم بكتابة الدستور في شكل عقد سياسي واجتماعي يتعلق بالحماية والرعاية؟‬ ‫ألم يكن قائدا عسكريا كفئا لا ينفرد بالراي في الاستراتيجيا بحجة الوحي بدليل اعتماده‬ ‫على المشورة؟‬ ‫ألم يقد بنفسه أكثر من ‪ 60‬معركة عسكرية في عقد واحد ما يعني أنه ليس قائدا عن بعد‬ ‫بل كان داخل المعمعة؟ ألم يوحد العرب على عسر ذلك حتى اعتبرت الأمر من المعجزات؟‬ ‫ويكفي أن تعلم أنهم اليوم نسخة منحطة من الجاهلية فقدوا الوحدة الاسلامية ومعها‬ ‫الشهادة والرجولة الجاهلية‪ .‬واخيرا كما بينت ألم ينزل بنفسه لحفر الخندق فكان نزوله‬ ‫هو علة النصر الحقيقية وليس الخندق كما بينت في كلامي على الاستراتيجيا الحربية‪.‬‬ ‫وأخيرا ألم تكن صحابته مؤلفة من الأقوام الذين كانوا موجودين في ذلك العـصر في‬ ‫الجزيرة العربية أي العرب واليهود والفرس والروح وسودان افريقيا؟‬ ‫هل كان يميز بينهم أم هم صحابته كلهم على قدم المساواة (الحجرات ‪ )13‬رغم اختلاف‬ ‫الكفاءات والوظائف التي تقتضيه الدولة وخاصة الدولة الناشئة في شعب جله بدوي؟‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪32‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ولهذا وضعته في قلب المعادلة قبله المرسل والمرسل إليه وبعده طريقة التبليغ ومضمون‬ ‫الرسالة التي كلف بتبليغها‪ .‬فمنزلته في مقومات الرسالة الخمسة (المرسل والمرسل إليه‬ ‫والرسول ومنهج التبليغ ومضمون الرسالة) تناظر منزلة العلاقة المباشرة بين الله والإنسان‬ ‫في قلب المعادلة الوجودية التي تكلمنا عليها وبعده تحديد مهمتي الإنسان واستراتيجية‬ ‫إعداده لهما بالتربية والحكم‪ :‬منطق السياسة‪.‬‬ ‫وهو ليس قلب المعادلة مثل العلاقة المباشرة بين الله والإنسان بل هو كذلك مثل لقائهما‬ ‫بعد الطبيعة والتاريخ في القطب الثاني من المعادلة الوجودية وذلك من خلال التعمير‬ ‫والاستخلاف أو العلاقة بالطبيعة والعلاقة بالتاريخ‪ .‬فلا يوجد شيء في القرآن يستمد‬ ‫أدلته من غير علاقة الإنسان بالطبيعة وضرورتها الشرطية وعلاقة الإنسان بالتاريخ‬ ‫وحريته الشرطية لتوجيه الانتباه إلى ما بعدي الطبيعة والتاريخ‪.‬‬ ‫فيكون الرسول بكيانه وأفعاله ممثلا في آن للعلاقة المباشرة بين الله والإنسان وللعلاقة‬ ‫غير المباشرة بين الله ممثلا لما وراء الطبيعة والإنسان خليفته ممثلا لما وراء التاريخ‪.‬‬ ‫وتمثيل الإنسان لما وراء التاريخ ليس لقصد به أنه مثل الله من حيث الماورائية التاريخية‬ ‫خلقا وأمرا بل القصد من حيث دوره كخليفة في الاستعمار والاستخلاف‪.‬‬ ‫وبهذا أكون قد برهنت ‪-‬وإن بصورة فيها الكثير من المقدمات والنتائج الوسيطة بين‬ ‫البداية الغاية لأن الاستدلال على أمر بهذه الأهمية لا يكون بقال فلان وقال فلتان أو في‬ ‫الأمر أقوال أو قال العلماء وهم جرا من التخريف بل الاستدلال المبني على فرضية تثبتها‬ ‫فاعليتها التفسيرية لما فرضت له‪ .‬وقد برهنت على أمرين‪:‬‬ ‫الأول صحة فرضيتي حول طبيعة القرآن فهو\" استراتيجية التوحيد القرآنية ومنطق‬ ‫السياسة المحمدية (أي إن الرسول اتبع استراتيجية القرآن ولذلك فسياسته هي تطبيق‬ ‫نظرية استراتيجية قرآنية لتكوين انسان كوني يوحد البشرة لأنه يوحد الله بالديني في‬ ‫الأديان والفلسفي في الفلسفات)‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪33‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لكن الأهم من ذلك اكتشاف نظام القرآن العميق ومن ثم قابلية الحسم في مسألة صحته‬ ‫وعدم تحريفه بالزيادة أو بالنقصان لأن أيا منهما لو وجد منها قدرا مؤثرا لاستحال الابقاء‬ ‫على النسقية التي استخرجتها والتي ليس فيها أدنى انخرام في نسقية نظام القرآن من‬ ‫فاتحة المصحف العثماني إلى خاتمته‪.‬‬ ‫ولا مفر من أن يقع المشكك في القرآن في أحد محظورين أي منهما فضلا عنهما كليهما معا‬ ‫يجعله أضحوكة الباحثين الجديين‪:‬‬ ‫فإما أن يدعي أن الذين حرفوا القرآن كانون عباقرة فصنعوا قرآنا بديلا على القياس‬ ‫بحيث يطابق البنية التي تمثل جوهر رؤى الإسلام‪.‬‬ ‫أو أن يكذب كل التاريخ ووجود الرسول والصحابة كما اضطر إلى ذلك كل من اكتشف‬ ‫استحالة التشكيك في صحة المصحف العثماني فنفى وجوده أصلا‪.‬‬ ‫وغالبا ما يفر المشككون من الخلية الأولى لأنها تتنافى مع العقل السليم حتى من ليسوا‬ ‫مختصين‪ .‬لكنهم يلجؤون أحيانا للثانية لأن الكلام في التاريخ يصعب دحضه كما يصعب‬ ‫اثباته‪ .‬والقصد ليس الاثبات بل التشكيك فيكون الاستدلال بالوضع التاريخي أفضل طرق‬ ‫المشاكسين مثل نفي وجود الرسول والصديق والفاروق‪ .‬ولماذا لا يقول إن دولة فارس لم‬ ‫تسقط وأن مصر فلسطين والشام ولو يتجاوز جيش الفتح مصر متجها إلى المغرب‪.‬‬ ‫عندما كتبت الأجزاء الأولى من التفسير بعنوان \"استراتيجية التوحيد القرآنية ومنطق‬ ‫السياسة المحمدية\" لم يكن قصدي الرد على أحد من المشككين في القرآن كان هدفي البحث‬ ‫في علل تحريف علوم الملة التي أصابت الأمة بالعقم في مجالي مهمة الإنسان أي تعمير‬ ‫الأرض بجهاز النظر والعقد وتطبيقاته والاستخلاف فيها أو على الانحطاط بجهاز العمل‬ ‫والشرع وتطبيقاته‪ .‬واريد أن أختم بحثي بملاحظتين‪:‬‬ ‫واحدة منهما هي أكبر كذبة ولها نظيرتها في عصرنا‪ .‬وهي أن الفلاسفة كانوا مبدعين‬ ‫وأن رجال الدين هم سبب التخلف‪ .‬وهذه كذبة لأن الفلاسفة كانوا أكثر عقما من رجال‬ ‫الدين‪ .‬فهم لا يختلفون عن إيديولوجيي الحداثة العربية‪ :‬يرددون اجتهاد فلاسفة اليونان‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪34‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫التي تصوروها حقائق نهاية كمحفوظات قد بالغوا في جعلها لب بحوثهم والتنويع في الشروح‪.‬‬ ‫والرمز في ذلك قولة الفارابي الشهيرة التي طبقها ابن رشد حرفيا‪\" :‬بفضل ارسطو اكتمل‬ ‫العلم ولم يبق إلى يتعلم ويعلم\"‪ .‬ولذلك فابن رشد كان شارحا لأرسطو ليس بفكر نقدي‬ ‫بل هو يتعامل معه كنص مقدس‪ .‬ونفس الامر يتكرر اليوم‪ :‬هيجل وماركس عندهم مثل‬ ‫افلاطون وأرسطو عند القدامى من فلاسفتنا‪.‬‬ ‫والثانية تتعلق بأمرين حيراني كثيرا أولهما تعريف ابن خلدون للإنسان أو‬ ‫الانثروبولوجيا الخلدونية والثاني هو تعريف ابن تيمية للعلم المحض والكلي والقابل‬ ‫للبرهان الاتم‪ .‬وبان خلدون تجاوز الفلسفة اليونانية العملية بانثروبولوجيته وابن تيمية‬ ‫تجاوز النظرية بابستمولوجيته‪.‬‬ ‫قبل شروعي في تفسير القرآن الكريم لم أجد تعليلا لهذين الثورتين التيمية في النظر‬ ‫والعقد والخلدونية في العمل والشرع أي في الابستمولوجيا أو نظرية المعرفة وفي‬ ‫الأكسيولوجيا أو نظرية القيمة‪ .‬لكن محاولة فهم القرآن ساعدت في فهم سر الرجلين‬ ‫وطبيعة ثورتهما التي ما تزال مهملة إلى الآن‪.‬‬ ‫فكيف وصل ابن تيمية بين الانحطاط في الجماعات بمسالة النظر والعقد؟‬ ‫وكيف وصل ابن خلدون بين الانحطاط في الدول بمسألة العمل والشرع؟‬ ‫كيف فكر الأول في تغيير نظرية المعرفة والعلم اليونانية والثاني في تغيير نظرية القيمة‬ ‫والعمل اليونانية؟‬ ‫سأكتفي بابن خلدون في الأنثروبولوجيا لعسر ابن تيمية‪ .‬ومثال ابن خلدون مضاعف مثلما‬ ‫بينت في انثروبولوجية القرآن‪:‬‬ ‫فهو أولا سمى علمه بالكونية \"علم العمران البشري والاجتماع الإنساني\" لم ينسبه إلى‬ ‫إنسان أو حضارة أو دين معين وتلك هي بالكونية التي يقول بها القرآن‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪35‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ثم هو يعرف منزلة الإنسان بكونه \"رئيسا بطبعيه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\"‬ ‫جاعلا كيان الإنسان الطبيعي (رئيس بطبعه‪ :‬الضرورة الشرطية) تابعة لكيانه الروحي‬ ‫(بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له‪ :‬الحرية الشرطية)‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪36‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫تصورت الفصول الخمسة في صحة المصحف العثماني كافية‪ .‬لكن المحاولة ما تزال بحاجة‬ ‫إلى المزيد إذ يمكن أن يعترض معترض بأن طريقة اثبات صحته بنظامه تخفي دورا أي‬ ‫اثبات الشيء بنفسه‪ .‬وهو من المحظورات في الاستدلال‪ .‬لذلك أضيف هذه الخاتمة‪.‬‬ ‫وأبدأ بالقول إن هذا الاعتراض يبدو وجيها لكنه يخلط بين أمرين‪:‬‬ ‫‪ .1‬الدور الذي يثبت الشيء بنفسه عندما يكون المقدم عين التالي في الاستدلال‪.‬‬ ‫‪ .2‬وطريقة عرض الفرض للامتحان باستنتاج التالي منه واعتباره موضوع اثبات أو‬ ‫نفي بالاستنتاج‪.‬‬ ‫والأول طبعا لا يقبل في الاستدلال العلمي لكن الثاني يستحيل أي استدلال علمي من‬ ‫دونه‪ .‬فمدفع الدور يقبل لو كانت فرضيتي مأخوذة من المصحف العثماني لتثبت صحته بل‬ ‫هي بالعكس وضعت لامتحان القولين بصحته وبعدمها‪ .‬فما في المصحف من تمازج وتداخل‬ ‫بين مقوماته لا يبرز منها نظام معين هو الذي يمكن اتهام الفرضية بكونها ليست فرضية‬ ‫لامتحانه بل مسلمة تصادر على المطلوب‪.‬‬ ‫وطبعا فكل فرضية علمية تستوحى من فكرة تفسيرية تنطلق من ملاحظات عامة حول‬ ‫تجليات الموضوع المطلوب اختبار الفرضية في ضوئها لتفسير تجلياته ولا تقبل قبول \"الحقيقة‬ ‫العلمية\" إلا بقدر نجاحها في تفسير ما ينتظر منها تفسيره ولكن دائما بصورة مؤقتة إذ قد‬ ‫تتجلى ظاهرات أخرى تشذ عن هذا التفسير فيعاد النظر فيها إما جزئيا أو كليا‪.‬‬ ‫وهذه الطريقة هي الوحيدة التي ينطبق عليها بيان الصحة بالتكذيب بمعنى أن المعترض‬ ‫يمكن أن يكذب الفرضية إذا أثبت بمبدأ نقيض التالي الذي يترتب عليه نقيض المقدم‪.‬‬ ‫والمقدم هنا هو لفرضية والتالي هو ما وضعت لتفسير جامع لـما ينبغي أن يكون فيه ومانعة‬ ‫لما ليس فيه مما ينبغي ألا يكون فيه‪.‬‬ ‫فمن يريد مثلا أن يكذب الفرضية بالقول إن ما يدعيه التشيع ليس موجودا في مصحف‬ ‫عثمان لأنه حذف وهو موجود في القرآن‪-‬أي وساطة سلطة روحية ووصاية سلطة سياسية‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪37‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لآل البيت وهو مدار الاعتراض الأساسي على المصحف العثماني واتهامه بالتغيير لاستثناء‬ ‫حقوق آل البيت المزعومة‪-‬يكفي لبيان عجزه عن التكذيب أنه مناقض لباقي النص‪ .‬وعليه‬ ‫في هذه الحالة أن يدعي أن كل المصحف العثماني منتحل ولا شيء فيه من القرآن‪.‬‬ ‫لكن فرضيتنا تمكن حتى لو لم يبق المعترض إلى على أقل القليل من القرآن كما ورد في‬ ‫مصحف عثمان من إثبات أن هذا القليل يبين صحته الجملية‪-‬التي لا تستثني الفروق التي‬ ‫ذكرها علم القراءات‪ -‬ويمكن من استرداد ما عداه ليتم النسق حتى لو فرضناه نزع منه‬ ‫إما بالقصد أو حتى بخرافة العنز التي أكلت إحدى نسخه تحت سرير إحدى امهات المؤمنين‪.‬‬ ‫فمثلا لو فرضنا أنه لم يبق إلى على الاستخلاف فسيترتب كل مضمون المصحف‪.‬‬ ‫وطبعا فخرافة العنز التي أكلت النسخة يكذبها العقل لأن أمة تأسست على القرآن لا‬ ‫يمكن أن تضعه نساؤها تحت أسرتهن فتنام فوقه حتى لو كنا أمهات المؤمنين مهما افترضنا‬ ‫العرب متخلفين كما يحاول أصحاب هذه الرواية وصفهم تحقيرا من قريش سواء كانوا عربا‬ ‫أو غير عرب‪ .‬والكثير من الأحاديث الموضوعة هي من هذا الجنس هدفها التحقير حتى‬ ‫من آراء الرسول الخاتم ورآه‪.‬‬ ‫وأمة كتابها يأمر بكتابة أي أمر تافه يتعلق بالديون في أطول آية من قرآنها تعامل قرآنها‬ ‫بالإهمال الذي يجعله يبقى شفويا دون كتابة لعقود خاصة واسمه الكتاب ويرون ما كانت‬ ‫عليه طريقة اليهود والمسيحيين في حفظ كتابهم والعناية به‪ .‬كل ذلك من نتائج تحقير‬ ‫القبائل العربية الكبرى لقريش ‪-‬انظر ما يقول ابن خلدون في ذلك لتعليل الفتنة الكبرى‬ ‫في فصل البيعة من الباب الثالث من المقدمة‪.‬‬ ‫والحصيلة المنافية لكل هذه الخرافات هي أن القرآن جمع من نسخ مكتوبة وليس من‬ ‫صدور حفظته فحسب لأن هؤلاء جيء بهم ليس لحفظهم فحسب بل للتأكد من أمرين يثبتان‬ ‫أن جامعي القرآن في نسخته النهائية كانوا بحق رجال علم وأمانة لا مثيل لها‪:‬‬ ‫‪ .1‬الأول ليس للتأكد من حقيقة الموجود في النسخ التي اعتمدوا عليها لأنها كانت‬ ‫بيد الثقات بل من صحة قراءة النسخ بسبب بدائية الكتابة التي لم تكن مشكولة مثلا‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪38‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .2‬الثاني لتأكد من تطابق النسخ المختلفة المتعلقة بنفس النجوم القرآنية لأنه لا‬ ‫شيء يثبت أن كل نسخة كانت للقرآن كله ولا أن النسخ لا يكرر بعضها البعض‪.‬‬ ‫ولو فرض المعترض أنه لم يبق من القرآن إلا مفهوما الاستعمار في الأرض والتكليف\"‬ ‫بمعنى تحمل مسؤولية الأفعال التي هي معيار الحساب يوم الدين‪-‬علما وأنها أهم اعتراض‬ ‫لوثري على أن القرآن ليس وحيا بل هو عمل عقلي إذ كيف يقبل المؤمن بالوحي وليس‬ ‫بالعقل أن يكون الله ملزما بالحساب بمعيار أفعال الإنسان والحكم فيها بالعدل ‪Die‬‬ ‫‪ Werkgerechtigkeit‬وليس بلطفه‪.‬‬ ‫فهذه الخاصية هي التي تجعل الله ملتزما بالعدل بل ويكتب على نفسه كما يكتب على‬ ‫غيره جملة من المبادئ العامة وهي تعود كلها إلى الجزاء بمقتضى الأعمال (والأقوال)‬ ‫ومنه أن المسؤولية فرض كفاية وليست فرض عين ما يعني استحالة أن توحد سلطة وساطة‬ ‫روحية وسلطة وصاية سياسية على الإنسان من حيث هو مكلف (الحرية الشرطية)‪.‬‬ ‫وطبعا لا فائدة من الكلام في الفروق التي حددها علم القراءات والتي لم ينكرها أحد‬ ‫من علماء الإسلام‪ .‬وهي ليست مما يمكن أن يعتبر مبدلا للمعاني حتى وإن بدا فيه تبديل‬ ‫للمباني أو على الأقل للألفاظ إما بسبب الأخطاء الرسمية بسبب ما كانت عليه الكتابة من‬ ‫بدائية أو ‪-‬وهو الأهم ‪-‬بسبب تعدد اللهجات التي كانت متداولة في التعليم النبوي للقرآن‬ ‫خلال \"ترجمته\" مخاطبا الوفود العربية بلهجاتها‪ .‬ومن ثم فالموقفان الآخران لا معنى لهما‪:‬‬ ‫‪ .1‬موقف من ينفي التغير الذي من هذا الجنس بحجة ضمانة الحفظ‪.‬‬ ‫‪ .2‬والموقف الذي ينفي وجود المصحف كله جملة وتفصيلا‪.‬‬ ‫فالموقف الاول مبني على عقيدة لا تقنع إلا المؤمنين بها‪ .‬والموقف الثاني عقدي متخف‬ ‫لأنه يقيس القرآن على الحديث الدي كتب متأخرا حتى يثبت التماثل بين القرآن والكتابين‬ ‫الآخرين‪ .‬لذلك فهو يعتبر القرآن الكتابي غير الشفوي الذي ضاع‪.‬‬ ‫فيؤول الأمر إلى اعتراضين ليس من العسير دحضهما‪:‬‬ ‫‪ .1‬الاعتراض الشيعي لتأسيس السلطانين الروحي والسياسي عقديا‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪39‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .2‬القياس على الكتب الأخرى وهو لا يختلف عنه لقول الكتابين الآخرين بما يماثل‬ ‫القول الشيعي أي بالوساطة والوصاية‪ .‬وما تقول به الشيعة حول الأسرة المختارة تقول به‬ ‫اليهود حول الشعب المختار ويترتب عليه القول المسيحي حول الحاجة لأحد المختارين من‬ ‫الشعب المختار جعلوه ابن الرب وشفيعا يؤسس عليه السلطانان الروحي (الكنيسة)‬ ‫والزماني (الحكم بالحق الإلهي)‪ .‬وهما ما حاولت الحداثة الغربية الحد منه أو التخلص‬ ‫منه وتأسيسه على مبادئ أخرى درسناها في كلامنا على بعد دين العجل ودور العملة (مادة‬ ‫العجل) والكلمة (خوار العجل)‪..‬‬ ‫وبيان فساد الاعتراض الشيعي ذكرناه‪ .‬أما الاعتراض الذي يقيس القرآن على الكتابين‬ ‫الآخرين فيبدو لي دحضه أيسر من الاعتراض الشيعي‪ .‬فالقرآن الكثير من آياته خصصت‬ ‫لنقدهما وهم لم يبق لما يسمى بالنقد الحديث للأديان شيئا يذكر وهو مفهوم نقد التحريف‬ ‫بالتصديق والهيمنة‪ .‬وهو بريء مما نقده إذ لا يمكن أن يتأسس على ما نقده بصورة لا‬ ‫جدال في كونها من العناصر الأساسية لنصه‪.‬‬ ‫فكل ما اعتبره تحريفا وخاصة ما يترتب على الوساطة الروحية (الكنيسة) والوصاية‬ ‫السياسية (الحكم بالحق الإلهي) يلغي ما يمكن أن يظن قد استثني منه بتدخل من جامعي‬ ‫نسخ القرآن في المصحف العثماني لأنه استثناه من كل الأديان واعتبره تحريفا ومن ثم فلا‬ ‫يمكن أن ينسب إلى مدوني القرآن وإلا فينبغي أن نحذف كل النقد القرآني الموجه إلى‬ ‫كتابي الدينين المنزلين اليهودية والمسيحية‪.‬‬ ‫وهكذا يتبين أن فرضيتي ليست مستخرجة من المصحف العثماني لأني وضعتها حتى‬ ‫امتحنه وأخرج مما كنت أعانيه مما بدا لي فيه من فوضى وخاصة في طفولتي لما تعلمت‬ ‫القرآن في كتاب اسرتي وكنت أعيشه كمن ضل في غابة بكر لم يستطع اكتشاف طريق توصله‬ ‫للجواب عن أسئلته البريئة التي لم أجد لها جوابا يقنعني حتى في طفولتي‪.‬‬ ‫والفرضية التي توصلت إليها مؤخرا وخاصة في كوالالمبور عندما عدت إلى نفس الغابة‬ ‫البكر وحاولت بصورة جدية اكتشاف الطريق للخروج من الضلال في غابة المصحف‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪40‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫العثماني‪ .‬كان الدافع عقديا لا شك في ذلك‪ .‬لكن المسعى لم يكن بالطرق التي ربينا علينا‬ ‫والتي تؤسس الاطمئنان إلى القرآن على الوعد الإلهي بالحفظ واعتبار المصحف أمينا في‬ ‫إيصالها إلينا رغم تشكيك التشيع‪ .‬فالوعد بالحفظ لا يعني بالضرورة أمانة المصحف‬ ‫العثماني‪.‬‬ ‫ويمكن أن أقول دون أن أخاف تكذيبي من أحد يعرف ثقافتنا المغاربية وتأثير الدولة ا‬ ‫لفاطمية والمذاهب التي فرت إلى المغرب من المشرق للابتعاد عن قوة الدولة في فهي وتأثير‬ ‫الاختراق الصوفي للسنة وهو من أدوات الباطنية على الأقل المتأخر منه (راجع ابن خلدون‬ ‫فصل التصوف) أن وثنية شيعية جعلت عليا مقدما حتى على الرسول أو ملازما له في كل‬ ‫الادعية حتى في دعاء المرأة إذا جاءها المخاض‪.‬‬ ‫وما كنت لأفترض هذه الفرضية \"استراتيجية القرآن التوحيدية ومنطق السياسة‬ ‫المحمدية\" لو لم أتأكد من أمر عجيب ثمراته لا تتناهى وهو أن القرآن حتى لو بقيت منه‬ ‫آية واحدة لكان ذلك كافيا لاستخراج نظامه منها‪ .‬وبه فهمت لماذا يمكن أن يكون القرآن‬ ‫منجما ومحافظا على وحدته في آن رغم أنه قد نزل في ‪ 23‬سنة‪ .‬فكل نجم من القرآن يتضمن‬ ‫القرآن كله حتى لو كان آية واحدة‪.‬‬ ‫ما معنى يتضمنه كله؟ كل نجم من ا لقرآن لا يتضمن نصه بل هو يتضمن نظامه من حيث‬ ‫هو رسالة كونية‪ .‬ففيه تعريف دقيق لمقومات الرسالة الخمسة‪:‬‬ ‫‪ .1‬المرسل (الله)‪.‬‬ ‫‪ .2‬والمرسل إليه (الإنسان)‪.‬‬ ‫‪ .3‬والرسول (محمد)‪.‬‬ ‫‪ .4‬وطريقة التبليغ التذكيري (مذكر لا مسيطر)‪.‬‬ ‫‪ .5‬ومضمون الرسالة التعمير والاستخلاف (مهمتي الإنسان) والتجهيز الضروري‬ ‫لتحقيقهما والخصائص المحددة لمجال فعل الإنسان أي الطبيعة والتاريخ والأنفس بمفهومي‬ ‫قانون الضرورة الشرطية وسنة الحرية الشرطية‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪41‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لكن الأهم من ذلك أن القرآن لا يتوقف عن ترديد التحدي الذي ينبني عليه المنهج‬ ‫العلمي الكوني والذي يضع نفسه تحت الاختبار بإمكانية تبين حقيقته بمحاولات تكذيبه‪.‬‬ ‫وذلك هو مضمون الآية ‪ 53‬من فصلت ومنع خطأ التعامل مع الاختبار وذلك هو مضمون آل‬ ‫عمران ‪ .7‬ولا يمكن لمن يزيف القرآن أن يضع نفسه في خطر التكذيب الدائم فيتحدى‬ ‫البشرية كلها بامتحانه بطريقة القياس الشرطي الذي قانونه نقيض التالي يترتب عليه‬ ‫نقيض المقدم بمعنى أن القرآن يدعو الجميع إلى محاولة تكذيبه أو التسليم بصحته إذا‬ ‫عجزوا عن ذلك‪ .‬وهذا لم يزله المصحف العثماني‪ .‬وذلك ما تقوله فصلت ‪53‬؟‬ ‫إنها تقول أمرين أحدهما صريح والثاني ضمني‪:‬‬ ‫‪ .1‬ولنبدأ بالصريح‪\" :‬سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه‬ ‫الحق\"‪ .‬وإذن فاختبار حقيقة القرآن توجد في تجلي آيات الله أو أي في ثمرة أفعاله في الآفاق‬ ‫أي في الطبيعة وقوانينها وفي التاريخ وسننه وفي الأنفس أي في كيان الإنسان وتجهيزه‪.‬‬ ‫‪ .2‬ولنأت إلى الضمني‪ :‬إذا كان تبين حقيقة القرآن يكون برؤية آيات الله المتجلية‬ ‫في الآفاق وفي الأنفس فمعنى ذلك أنها لا تتجلى في نصه قبلهما أي إن فهم القرآن يكون‬ ‫بفهم الطبيعة وقوانينها وبفهم التاريخ وسننه وبفهم الإنسان وكيانه العضوي والنفسي‬ ‫وليس العكس بخلاف خرافات الاعجاز العلمي‪.‬‬ ‫ومعنى ذلك أن ما توهموه إعجازا علميا هو الظن بأن ما نستمده من فهوم تمدنا بها‬ ‫العلوم الطبيعة والعلوم التاريخية وعلوم الإنسان لآيات القرآن يفيد بأن هذه المعاني‬ ‫العلمية هي حقيقة القرآن خلطا بين تبين أنه الحق وبين ظن الحق هو تلك \"الحقائق\"‬ ‫العلمية التي هي دائما حقائق نسبية ومؤقتة ومتغيرة‪.‬‬ ‫فتبين أن القرآن حق عن طريق العلوم لا يعني أن حقه السرمدي بالجوهر هو حقيقة‬ ‫العلوم التاريخية بالجوهر بل يعني أن العلوم على نسبيتها يمكن اعتبارها امتحان التكذيب‬ ‫في امتحان المعرفة السوية أعني الامتحان الذي يعتمد على قانون الشرطية المتصلة قانونها‬ ‫القائل إن نقيض التالي يترتب عليه نقيض المقدم‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪42‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فلكأن القرآن بهذه الآية‪-‬فصلت ‪-53‬يشرح معنى التحدي الذي ظنه المتعجلون متعلقا‬ ‫باستحالة كتابة نص مثل نصه من حيث الخصائص اللسانية بلاغة وحبكة فيبين أنه تحد‬ ‫بامتحان التكذيب وليس شيئا آخر‪ :‬لكأنه قال دونكم والعالم فابحثوا فيه بعقولكم صادقين‬ ‫وسترون أنه لا يوجد فيه ما يمكن أن يكذب ما جاء في القرآن من إشارات هي في الحقيقة‬ ‫مقدمات كل استدلالاته على ما يقوله حول موضوعات الرسالة الخمسة أي المرسل والمرسل‬ ‫إليه والرسول وطريقة التبليغ التذكير ومضمون الرسالة‪.‬‬ ‫لكن هذا التحدي يضعنا أمام الخطر الذي وقعت فيه كل علوم الملة وهو توهم أن ما يصح‬ ‫على الطرد قابل لأن يصح في العكس ضرورة‪ .‬فظنوا التحدي طرديا وعكسيا‪ .‬ظنوا أنه‬ ‫إذا كان لا يمكن أن نصل بالعلم إلى ما يكذب القرآن فإذن يمكن أن نجد كل العلم فيه وأن‬ ‫نستخرجه بتأويل نصه‪ :‬وهو هو سر كل المخرفين بالإعجاز العلمي‪ .‬وهذه هي خرافة‬ ‫الاعجاز العلمي بالتأويل‪ .‬وفي هذه الخرافة خرافة \"الاعجاز العلمي بتأويل نص القرآن\"‬ ‫خطران على القرآن وعلى العلم في آن‪:‬‬ ‫‪ .1‬فإذا توهمنا إمكانية استخراج العلم بالتأويل المسبق أي قبل اكتشاف الحقيقة‬ ‫العلمية بالبحث العلمي الذي طلبته فصلت ‪ 53‬أدى ذلك إلى ظن الحقيقة العلمية مطلقة‬ ‫وليست تاريخية فيجمد العلم ويموت لأن حياة العلم هي في تطوره الدائم‪.‬‬ ‫‪ .2‬وإذا كان التأويل تاليا للاكتشاف العلمي بالبحث العلمي الذي يقوم به الباحثون‬ ‫في الآفاق وفي الأنفس أي العلماء بحق كما أشارت فصلت ‪ 53‬فإن التأويل مجرد تدجيل‬ ‫صرف‪ .‬فكلامهم لو كان صحيحا لأمكن لهم اكتشاف تلك القوانين بالتأويل قبل اكتشاف‬ ‫العلماء لها بالبحث العلمي وليس بتأويل النصوص‪.‬‬ ‫فعندما أقرأ تخريف الرازي في التفسير‪-‬وهو غاية المخرفين الأقصى‪-‬ومباهاته باستخراج‬ ‫ما لا يتناهى من الحقائق حتى من الفاتحة فإني أفهم غاية هذا العلم الزائف الذي ينطلق‬ ‫من آيات النص وليس من آيات الله في الآفاق وفي الأنفس كما نصح القرآن‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪43‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وقد حسم ابن تيمية الأمر ببيان استحالة علم شيء من النصوص من دون ما تحيل عليه‬ ‫ليس مع علم الكلام وحده بل مع الفلسفة القديمة والوسيطة كلها‪ .‬فالمعاني الكلية هي‬ ‫بدروها مثل الألفاظ اللغوية والكتابة رموز لا تفهم بذاتها بل بها وبأمرين آخرين‪:‬‬ ‫‪ .1‬الأول منزلتها في نظام الترميز لجماعة معينة ومن ثم أعاد النظر في نظرية اللغة‬ ‫سواء كانت طبيعية أو صناعية‪.‬‬ ‫‪ .2‬التناظر بين نظام الترميز ونظام المرموزات التي هي دائما أمور ملتبسة ومتشابهة‬ ‫وهي موضوعاتها أي الآفاق (الطبيعة والتاريخ) والأنفس‪.‬‬ ‫وبين ابن تيمية أن كل كلام على الكلام من دون هذين الشرطين هو ترجمة لكلام بكلام‬ ‫وهو إذا أراد أن يخرج من الكلام فيدعي علم موضوع الكلام بمجرد التأويل يكون مجرد‬ ‫دجل ولا يمكن أن يكون استعمال المنطق فيه إلا مضللا لأن المنطق في تلك الحالة يطبق ما‬ ‫لا يصدق إلا في التقدير الذهني الفرضي حتما ما لم يمتحن بالعرض على مراجعه التي‬ ‫يظن علما لها‪.‬‬ ‫وما يصدق على التقدير الذهني بإطلاق لا يمكن أن يصدق على الخارج إلا بنسبية وهذا‬ ‫من شرط المنطق نفسه‪ .‬فلا يمكن الانطلاق من مقدمات كلية إلا بالتقدير الذهني‪ .‬فقولي‬ ‫\"كل إنسان مائت\" لا أستطيع أن أتقدم لأقول سقراط إنسان وإذن فهو مائت‪ .‬فالكبرى‬ ‫تتضمن النتيجة بشهادة الصغرى‪ .‬فلو لم يكن سقراط من بين الناس الذي اعتبروا كلهم‬ ‫مائتين في الكبرى لاستحال أن تكون كلية‪.‬‬ ‫ويمكن أن أواصل بالانطلاق من أي آية أخرى‪ .‬ولتكن النساء ‪ 1‬أو الحجرات ‪ 13‬أو‬ ‫البقرة ‪ 256‬أو الغاشية ‪ 22-21‬أو البقرة ‪ 77‬أو أي آية نفترض أنها شذرة واحدة بقيت‬ ‫من القرآن لو تصورنا المغول لما رموا كتب الأمة في مياه النهرين في بغداد قضوا على كل‬ ‫نسخ القرآن‪ .‬أي منها كاف لأنها تتضمن كل القرآن‪.‬‬ ‫وأختم بالتي تتضمنه كله وتنوب عنه نيابة تامة بشهادة الشافعي وهو من هو‪ :‬سورة‬ ‫العصر‪ .‬فهذه فيها بعدا وجود الإنسان الروحي والسياسي‪ .‬فالروحي هو التقويم الأحسن‪-‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪44‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لكونه من الحرية الشرطية المهدد سياسيا ‪-‬في علاقة حرية الإنسان الشرطية بضرورة‬ ‫الطبيعة الشرطية العلاقة التي هي جوهر التاريخ وهو سياسي بالجوهر إذا فهمنا من‬ ‫السياسة كل أفعال الإنسان في هذه العلاقة بين الشرطيتين وهو المعنى القرآني للسياسة من‬ ‫حيث هي تربية وحكم يؤهلان الإنسان للتعمير والاستخلاف وهو الفلاح أو يحولان دون‬ ‫تأهيله لهما وهو الخسر‪-‬بالخسر أو بالصلاح والحل هو الوعي بذلك ثم التربية والحكم‬ ‫بالإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر‪.‬‬ ‫وبذلك نفهم علة تسميتي محاولتي في التفسير الفلسفي للقرآن الكريم \"استراتيجية‬ ‫القرآن التوحيدية ومنطق السياسة المحمدية\" لأن الإسلام رسالة كونية لسياسة العالم بهذا‬ ‫المعنى والسياسة المحمدية عينة من هذه السياسة‪ .‬لكن الرسالة القرآنية فهمت بعكس‬ ‫دلالتها كما بينت في كلامي على تحريف علوم الملة التي جعلت فصلت ‪ 53‬وكأنها نهي وآل‬ ‫عمران ‪ 7‬كأنها أمر فتركت المأمور به وعملت بالمنهى عنه‪ .‬فكانت علوما عقيمة بدلا من أن‬ ‫تحقق شروط التعمير والاستخلاف بما أمر به القرآن اكتفت بالثرثرة حول تفسير النص‬ ‫بالتأويل الذي لا مرجع له يحتكم إليه لاكتفائهم بالكلام على الغيب أو على \"الأمر الواقع\"‬ ‫الغفل أي المدارك العامية التي يسمونها \"فقه الواقع\"‪ .‬وهو من أسخف ما أسمع من فقهاء‬ ‫التحديث الخطابي الذي لا علاقة به بأي معنى من معاني القرآن الكريم‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪45‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪46‬‬ ‫الأسماء والبيان‬