أبو يعرب المرزوقيالفصل السابع الأسماء والبيان
فيم يتمثل تجاوز الميتافيزيقا والميتاتاريخ القديمين؟بين أن المسألة التي يضعها السؤال العاشر مسألة مضاعفة وشديدة التعقيد .لذلك فلا تعجبواإذا قال السفهاء الذين ممن لا يفقهون قيلا ويتفاقهون في كل قيل إن التعقيد من عيوب الكتابةوليس مما يترتب على طبيعة الموضوع المدروس .لكن لو كانت القضايا بسيطة أو قابلة للتبسيط الذييستجيب لرغبة الكسالى ما تقدم الفكر أو غاص إلى حقائق الاشياء بالقدر المستطاع للعقل البشريخاصة إذا كان يسعى إلى توضيح أمور هي في بداية نتوئها للوعي الذي يحاول أن يفهم ما حدث في تاريخ فكرنا ليكون على الحال التي كان عليها وآل إليها:-1فمن العسير على من لا يزال مدفونا في ثرثرات الكلام ومقولات الفكر المبتدي أن يدركواالقصد بالمميتافيزيقا الإضافية إلى حقبة من حقب العقل الإنساني فضلا عن أن يدركوا معنىتجاوزها .ولا يمكن خاصة أن يفهموا أن مثل هذا التجاوز يمكن أن ينسب إلى مفكرين مسلمين فضلاعن أن يكونوا من صنفوا بعد في صف الظلامية الموهومة من قبل المنتسبين إلى الحداثة المزعومة.والجواب عن هذه المسألة يتطلب أن نفهم القصد بتجاوز الميتافيزيقا وبتجاوز الميتاتاريخ القديميناللذين كانا ساريين في الفلسفتين القديمة والوسيطة أي إلى حدود التجاوز الذي تمكن من استكمالمحاولة الغزالي النقدية لهاتين الفلسفتين بتجاوزها عند فيلسوفينا من دون أن نبدأ فنحددهما بوصفهما الأرضية التي بالقياس إليها يمكن أن نؤرخ للفكر العربي الإسلامي إبجابا وسلبا. -2لنصل إلى تحديد الجديد في البديلين منهما طبيعة وترتيبا بالقياس إلى ما هما بديل منه فيصيغته المربعة التي مثلت ترميما للفنون الأربعة بمزيج علته محاولة تجاوز التصدعات التي نتجتعن الزلزال الذي أحدثه فكر ابن سينا إيجابا وفكر الغزالي سلبا بالقياس إلى الفلسفة القديمةأعني نقد تهافت الفلاسفة وفضائح الباطنية وإحياء علوم الدين ومشكاة الأنوان (راجع محاولةقصتي مع الغزالي) :أعني التخلص من فكر فلسفي متكلم (ابن رشد) وفكر فلسفي متصوف(السهروردي) وفي كلامي متفلسف (الرازي) وفكر صوفي متفلسف (ابن عربي) وهي المربع الذي 91
أعاد الفكر إلى حقبة متأخرة بالقياس إلى ابن سينا والغزالي ظنا أنه يعيد بناء الفلسفة الارسطيةوالأفلاطونية والكلام والتصوف المتفلسفين بخرافات عصر الانحطاط اليوناني الذي لم يتجاوزمعقولية نظرية الحقيقة المطابقة التي من شرطها رد الوجود إلى الإدراك واعتبار الإنسان مقياس كل شيء. -3ولا بد كذلك من الكلام على المآزق التي أدت إلى الأزمة التي اقتضى حلها هذا التجاوز فيمعترك الفنون الأربعة على أرضية أصلها جميعا :الفنين العمليين (الفقة والتصوف) وما بين القانونوالأخلاق من تنافر في الظاهر ما يجعل السياسة لم تتجاوز نظرية المدن الفاضلة والفنين النظريينوما بين العلم والإيمان من تنافر في الظاهر ما يجعل العقيدة لم تتجاوز نظرية التخريف الكلامي(الكلام والفلسفة) والأصل الذي هو علاقة التضايف والتفاعل بين النص المؤسس والوجود أعنيعلاقة التحليلي بالتأويلي سواء كان ذلك في النظر أو في العمل كما حاول علاج ذلك الغزالي دوننجاح يذكر بسبب ذلك الترميم الذي قضى نهائيا على عملية النقد المؤسسة للتجاوز الذي لم يكتمل (راجع محاولتنا في تأسيس السلفية المحدثة).-4لنرى الفهم الجديد لهذه الفنون وكيفية تحديد العلاقة بين القانون والأخلاق (مهمة المحاولةالخلدونية وتحديد العلاقة بين فلسفة الدين وفلسفة التاريخ) والعلاقة بين العلم والإيمان (مهمةالمحاولة التيمية وتحديد العلاقة بين فلسفة المعرفة وفلسفة الإيمان) الكيفيتين اللتين تجاوزتاالشكل الجامد للميتافيزيقا وللميتاتاريخ بوصلها من جديد بدورها المتمثل في الصوغ النظريللممارسات النظرية والعملية بما هي اجتهادات إنسانية .فكان ذلك محاولة تؤسس لمناخ ثقافي يمثلقفزة نوعية بالقياس إلى المناخ الذي كان سائدا والذي مثل أكبر عوائق الفكر في الحضارة التي تحولت إلى مدافن للإبداع في كل المجالات.لكن الحضارة الإسلامية نفسها كانت بعد قد أصبحت ضحية عد أن نكص فكرها بسبب هذا الترميمللفكر الميت الفلسفي والكلامي والفقهي والصوفي وتأسيسه على علاقة المتبادلة بين النص المرجعوالوجود إلغاء للوصل بين التحليلي والتأويل أو بين مفهوم التفسير في العلوم الطبيعية ومفهوم الفهمفي العلوم الإنسانية .فآل ذلك بسبب مبدأي قياس الشاهد على الغائب ورد التأويلي إلى التحليليبنفي الفارق بين الإنساني والطبيعي أو باعتباره من العرضي الذي لا يقبل العلم وذلك هو الموقفالمتنافي بإطلاق مع قيم الإسلام المشروطة في الحضارة الخلاقة والمبدعة كما نبين هنا وخاصة بسببفساد مؤسستي التربية والحكم اللتين أفقدتا الإنسان معاني الإنسانية بالمصطلح ابن خلدون بسبب الاستبداد والفساد). 92
-5لكن هذا المناخ الذي نجد بذرات تأسيس أركانه ومقوماته في نظرية النظر ونظرية العملوما يترتب عليهما في التربية والحكم نجدها في عمل ابن تيمية وابن خلدون دفن في موات تلكالفنون وعطالة تراثها فلم ينل حظه من العلاج العقلي الواعي لذلك نجد أنفسنا أمام أكثر المسائلتحييرا :لم تردى فكر ابن تيمية فأصبح رمزا للتعصب وقلة القدرة على التفكير الحر في أي من هذا المجالات التي ندعي أنه مؤسس لتجديدها بصورة ثورية؟تلك هي المسائل الخمس التي قد تتطلب كل واحدة منها أن تعتبر مادة لمصنف على حياله يخصصلدرس تفاصيلها .لكن التلخيص الذي وعدتكم به وظيفته إبراز المسائل في شكل عناوين إشكالية معبيان وجه الإشكال دون الدخول في الجزئيات والعلاج العيني .وتلك هي الطريقة التي ننوي بهاختم هذا التلخيص لفكر ابن تيمية الذي يبدو قد طال أكثر مما ينبغي ولعلنا نعود إلى تلخيص فكرابن خلدون الذي هضمناه حقه بالقياس إلى ما أوليناه لابن تيمية .لذلك فسنكتفي بالمسألة الأولىالتي تحتوي هذه العناصر الخمسة والتي تبين في آن طبيعة الثورة التي حدثت بفضل عمليتي النقد ومن أراد مزيد التحليل فليعد للضميمة التي قدمنا بها ترجمة المثالية الألمانية:-1النقد النظري وذلك هو جوهر ثورة ابن تيمية :إشكالة العلاقة بين فني الفلسفة والكلام وماأديا إليه من صراع بين العلم والإيمان لعدم إدراك طبيعة الفرق والعلة التي تجعل العلم يصبحالطريق إلى الإيمان ليس بصورة موجبة بل بصورة سالبه عندما يدرك حدوده لا ا بما يصل إليه من علم يطلقه مدعيا أنه يعلم الأشياء على ماهي عليه لكأن علمه هو العلم الإلهي.-2النقد العملي وذلك هو جوهر ثورة ابن خلدون :إشكالية العلاقة بين فني التصوف والفقه وماأديا إليه من صراع بين القانون والأخلاق لعدم إدراك طبيعة الفرق والعلة التي تجعل الأخلاقتصبح الطريق إلى القانون ليس بصورة موجبة بل بصورة سالبة عندما تدرك حدودها لا بما تصلإليه من عمل تطلقه مدعية أنه يقيم الأشياء على ما ينبغي أن تكون عليه لكأن عمله هو العمل الإلهي .فيكون المشكل في الحالتين:الفلسفة والكلام تصورا أن العلم الإنساني يمكن أن يلغي الفاصلة الكيفية بين المطلق والنسبيالمعرفي وبين الإيمان والعلم الوضعي فيصبح هو بدروه مطلقا لكأن الوجود مطلق الشفافية والعقل الإنساني مطلق القدرة على رؤيته على ما هو عليه.والتصوف والفقه تصورا أن العمل الإنساني يمكن أن يلغي الفاصلة الكيفية بين المطلق والنسبيالقيمي وبين الأخلاق والعمل السياسي فيصبح هو بدور مطلقا لكأن المنشود مطلق الشفافية والإرادة الإنسانية مطلقة القدرة على رؤيته على ما هو عليه. 93
لكن العلم بالحد من العلم الوضعي بالإيمان والعلم الحد من العمل السياسي بالأخلاق ذلك هوالعلم الإنساني الذي يحقق التوازن فينتخ مناخ الحرية التي لا تطلق سلطة المعرفة ولا سلطة الحكموتبقي للإنسان حرية الاجتهاد وحق الجهاد بما يتأسس لديه من وعي بدوره المعرفة القادرة علىإدراك قوانين التعامل مع الوجودين الطبيعي والتاريخي وبالقيم القادرة على صوغ قوانين التنظيمالسياسي للعمران بمقتضى هذين العلمين النسبيين اللذين يبقيان فسحة الاجتهاد النظري والجهادالعلمي وذلك هو مفهوم الدين الإسلامي لهذه العلاقات كما فهمه ابن تيمية في مستوى العقد والنظر وفهمه ابن خلدون في مستوى الشرع والعمل. المسألة الأولى :فرعها الأول الميتافيزيقا.ما المقصود بالميتافيزيقا والميتاتاريخ القديمين في شكلهما اليوناني أولا وفي شكلهما الهلنتسي ثانياإذ إن الثاني كان منطلق الفكر الفلسفي العربي الإسلامي والثاني كان غايته بمعنى أن هذا الفكر كان من البداية محاولة للتحرر من انحطاط الفكر اليوناني الأول في صورته الثانية.فالفكر الهلني كان أفضل من الفكر الهلنستي رغم وحدة الثقافة وأكثر علمية وأكثر تطورا فلسفيا.وبعبارة وجيزة لعل الكثير لم يدرك دلالة صلة هذا الموقف النقدي في فكرنا الفلسفي بالقرآنالكريم من حيث هو استعراض نقدي للفكر الديني المتقدم عليه .فالفكر الفلسفي العربي الإسلاميكان مثاله هذا المنهج النقدي للمتقدم عليه من جنسه .وأفق النقد الذي تتم العودة إليه هو مساءلة الطبيعة لنفي استقلالها بذاتها ونسبة نظامها إلى ما يعلو عليها بوصفه خالقها وخالق نظامها: ففي الدين كان هذا الأفق هو أسئلة إبراهيم عليه السلام بمعناه الديني. وفي الفلسفة كان هذا الأفق هو أسئلة سقراط عليه السلام بمعناه الفلسفي.والسؤالان يحددان الترجمة الدينية والفلسفية للمناخ الروحي والمعرفي الذي يمكن أن ندرج فيهاجوبة القرآن في تحديد الأفق الجديد للبشرية التي تستأنف دورة جديدة من فهم الوجودوالاندراج فيه .ورغم أن السؤالين كما هو بين من طبيعة واحدة ويتعلقان بغاية المعرفة الإنسانيةغايتها العملية فإن سؤال إبراهيم أكثر جذرية :إذ هو يبحث عن الإله وراء عبادة الأفلاك وسؤالسقراط يبحث عن العلم العملي وراء علم الطبيعة اليوناني .لكن القرآن والإصلاح الإسلامي وخاصةموقفه النقدي من هذه الترجمة لم يكن ذا صلة بالنصوص مجردة عن تعينها التاريخي بل هو كان ملاصقا لهذا التعين التاريخي في مناخ عصره الروحي. 94
فالجواب عن سؤال إبراهيم كما يعرضه النقد القرآني كان معروضا في التحريف الديني المترددبين عبادة العجل (تحريف دين موسى) ونفي الدنيا (تحريف دين عيسى) وكان الجواب عن سؤالسقراط معروضا في التحريف الفلسفي المتردد بين نفي العالم المادي (أفلاطون) وحصر المعلوم من العالم في المحايث للمادة فيما يشبه النفي التام للمتعاليات الغيبية (أرسطو).وإذ نسلم على إبراهيم وسقراط فلأن معنيي سلامنا يجمعهما الإسلام الفطري الذي هو الوعيبوحدة السلامين عقلا وروحا .لذلك كانت الحصيلة في النقد القرآني وفهمه التيمي الخلدوني هيتجاوز التقابل بين الفكرين وخاصة بعد أن تحقق الانتقال نهائيها من علم الكلام إلى كلام العلم فيالإنسانيات (ابن خلدون) وفي الطبيعيات (ابن تيمية) وفي الإلهيات التي لا تتجاوز التاريخياتوالنصيات مضمونا والوعي الكوني بالمتعاليات شكلا أعني أسئلة إبراهيم وسقراط .وحتى نيسرالعلاج فلنقل إن الإسلام كما تحقق في القرآن الكريم كان موقفا نقديا من الجوابين المتقدمين عليه الجوابين عن سؤالي إبراهيم وسقراط: الجواب الديني في شكله المحرف للفطرة الروحية والجواب الفلسفي في شكله المحرف للفطرة العقلية.ولما كنا نتكلم على الفلسفة فسنركز عليها دون أن نهمل المسألة الدينية لأن النقدين القرءانيينمن نفس الطبيعة .ولعل الجواب الديني هو الذي ينبهنا إلى نظام العقد في الجواب الفلسفي وهوفي الحقيقة في كل تاريخ البشرية مصدر القفزات النوعية في تحول الفكر الفلسفي مثله مثل الجوابالعلمي الوضعي لأن كليهما ينطلقان من المعطى الوضعي الروحي الذي يدركه الحدس الباطنبالنسبة إلى الدين من المعطى الوضعي الطبيعي الذي يدركه الحدس الظاهر بالنسبة إلى العلم .فالعلاقة بين موسى وعيسى في هذا الجواب النقدي هي عينها العلاقة بين أفلاطون وأرسطو فيترتيب معكوس بسبب العلاقة المعكوسة بين النظري والعملي في الدين وفي الفلسفة .فأفلاطونالمتقدم على أرسطو يناظر موسى المتأخر عن عيسى وأرسطو يناظر موسى بعكس العلاقة السابقة :إذنسبة أرسطو لمضمون الحدس الحسي هي عينها نسبة موسى لمضمون الحدس الروحي كلاهما يتعاملمعه بوصفه معطى وضعي يأتي من خارج الفكر وليس أمرا مثاليا كالحال عند أفلاطون وعيسى.والمناظرة الأولى هي الأهم لأنها تتعلق بإشكاليتنا مباشرة من حيث تحديد مفهومي ما بعد الطبيعةوما بعد التاريخ .ومن دون سر هذه العلاقة المتشاجنة بين الديني والفلسفي والمعطيى الحدسيالروحي بما هو وضعي (أي آت من خارج الذات) والمعطى الحدسي الطبيعي بما هو وضعي (آت من 95
خارج) لا يمكن فهم تطور الفكر الحديث والمراحل التي أنتجته بالنقد الذي بدأ خاصة مع الغزالي واكتمل مع ابن تيمية في النظر ومع ابن خلدون في العمل.ذلك أن الجواب عن سؤال سقراط المتعلق بالعودة إلى الخلقي في الفلسفة بمنطق العلوم الطبيعيةوالرياضية هو جوهر المضمون الوارد في كتاب الجمهورية والجواب عن سؤال إبراهيم المتعلق بالإلهيفي الدين بمنطق العلوم الروحية والتأويلية هو جوهر المضمون الوارد في كتاب الإنجيل :لذلكتطابقت المسيحية والافلاطونية في الأفلاطونية المحديثة إذ إن المسيحية كما قال نيتشة صادقا هيأفلاطونية شعبية .ولما كنا لا نريد أن ندخل في جدل ديني فسنكتفي بجملة موجزة تتمثل في المناظرةالعكسية بين موقفين الأول ينسبه المسيحيون لعيسى عليه السلام والثاني ينسبه القرآن الكريم لآدمعليه السلام مفاده نسبة الخطيئة الموروثة إلى الأول ونفيها إلى الثاني كما جاء في القرآن الكريم. ومن ثم فالموقف الإسلامي والمسيحي من وجود البشر الدنيوي مختلف تمام الاختلاف:أحدهما يعتبرها مهمة بريئة واختبار لأخلاق الأنسان المستخلف فيها والذي لن يجازى عن خطيئة موروثة بل على عمل دنيوي راعى أو لم يراع شرع الله.والثاني يعتبرها لعنة ينبغي التخلص منها ومن كل ما هو طبيعي كما يضع هيجل ذلك في نظريته التربوية وخاصة من أصل الحياة أي العلاقة الجنسية. المسألة الأولى :فرعها الثاني الميتاتاريخلكن هذه القضية تصبح أكثر وضوحا وشمولا في الوجه الفلسفي منها ،من خلال مثال ما يمكن أننطلق عليه اسم مطاريد أفلاطون الخمسة مطارديه من جمهوريته حتى تستجيب لطلب سقراط فتكون مؤسسة على العلم بالتناسق العقلي الكلي تأسس العالم الطبيعي عليه: -1الحس -2والملكية -3والمرأة -4والخيال -5والفردية.فأفلاطون يشترط لتحقيق دولة عادلة نموذجا مكبرا من النفس المعتدلة إلغاء هذه العناصر الخمسة التي يعتقد أنها تحول دونها والتحقق الفعلي: -العنصر الأول والرابع بمقتضى نظرية المعرفة يحولان دون نظرية المعرفة الفلسفية التي تؤسس لهذا النظام. 96
-والثانية والثالثة يحولان دون نظرية العمل التي يستند إليها تنظيم الحياة في هذه المدينةالعقلية لأنهما مصدر النزاع بين البشر (الملكية والمرأة) .والأخيرة ،الفردية ،تجمع بين حائل العملوحائل النظر لأن التخلص من الفردية هو الشرط الضروري والكافي حسب أفلاطون لكي يؤدي الكل واجبه ودوره وكأنه جزء من جهاز آلي يتحدد بوظيفته في الجهاز لا غير.وكل هذه العمليات الإلغائية للحوائل دون النظام العقلي في المدينة العادلة علته دعوى تحقيقالنظام الطبيعي والتاريخي بمقتضى العقل بمعياري التناسق المنطقي والتنظيم الرياضي .والمعلومأن القرآن الكريم أيضا يرى أن النظام الطبيعي والتاريخي منطقي ورياضي .لكنه مع ذلك يرفضمثل هذا الطرد الأفلاطوني بل ويعتبر هذه المطاريد الأركان الأساسية لكل نظام إنساني بخلافالنظام الآلي الطبيعي .وفهم هذه النظرة المخالفة للآلية الطبيعية البسيطة بالحذف أو بطردمقومات الظاهرة لجعلها ملائمة لمنطق ورياضيات بسيطة لم تصل إلى تعقيد الظاهرات الإنسانية، هو ما أنسبه إلى فيلسوفنا ابن تيمية وابن خلدون.ونحن نقتصر هنا على الكلام في دور ابن تيمية لأننا قدمنا الكلام على دور ابن خلدون في تلخيصسابق .والمعلوم أن أهم مقابلة بين الإسلام والمسيحية التي هي أفلاطونية شعبية تتعلق بطبيعة علاقةالإنسان بالطبيعة :فهل هي قطيعة مطلقة كما يتصوره هيجل مثلا ،أم هي ,كما يتصورها ابن خلدونعلنا وكما يستنتج تصورها من رفض ابن تيمية لمبدأي الفلسفة والكلام (قياس الغائب على الشاهدورد المنقول للمعقول بالتأويل) مثلا تهذيب للطبيعة مع الحرص على عدم قتلها تحت وطأة الثقافةالتي قد تتحول إلى قتل للحيوية بتدجين للإنسان إلى حد يفقده معاني الإنسانية بمصطلح ابن خلدون.وقبل تحديد العلاقة بين ثورة ابن تيمية وهذه المطاريد الخمسة (نظرية ابن تيمية السياسيةحتى وإن لم تتبين العلاقة تبينا فلسفيا لطابعها الخطاطي نظرية ذات صلة مباشرة بسورة النساءوهي بالذات دراسة نسقية لهذه المطاريد الخمسة لبيان سياسة التعامل معها :الحس والملكية والمرأةوالخيال أو الذوق والفردية) وعلة إرجاعها القرآني ,لا بد من دراسة هذه العناصر وبيان أهميتهافي النظر والعمل وطبيعة النظام الواصل بينها :فهي عقدة العقد في الوصل بين الكلي والجزئي وبين الصوري والمادي وبين الطبيعي والتاريخي وجودا ومعرفة.فهذ المخمس المطرود من جمهورية أفلاطون باعتباره عائقا لتحقيق النظام المتصف بالقيمالتقليدية الثلاث أعني الخير والجمال والحق ,تجعل هذا التحقيق حاصلا في الهدم لأنه ليس نظامالمقومات الوجود الجمعي بل هو مشروط بإزاحتها تبسيطا للوجود حتى يطابق الإدراك بدل العكس 97
أي تعقيد المعقول حتى يطابق الموجود فتكون المعرفة في سعي دائم نحو التجويد الذاتي حتى تتمكنمن إدراك تعقيدات الوجود الذي لا يمكن لأي علم أن يحيط به عدى العلم الإلهي (وهو ما يعنيهابن تيمية عندما ينفي العلم بالشيء على ما هو عليه عن كل علم إنسان ويقصر ذلك على العلم الإلهي) ,ولا يكون هذا النظام في هذه الحالة إلا نظاما استبداد وفساد .فكيف ذلك؟تمثل المرأة قلب المخمس إذ يتقدم عليها عاملان هما الحواس والملكية ويتأخر عنها عاملان هماالخيال أو الذوق والفردية .والمرأة جامعة لما تقدم عليها فعلا وانفعالا وهي منبع ما تأخر عنهاتأثيرا وإيحاء .وليس بالصدفة أن كانت سورة النساء هي السورة التي عالج فيها القرآن الكريمهذه المسائل الخمس :المرأة والملكية والحس والخيال والفردية ودورها جميعا في الحكم من حيث هوعدل وأمانة .فالمرأة هي في الحقيقة ملخص جميع هذه الأبعاد المقومة للعمران والاجتماع ومن ثمللمدينة أو الدولة :فأصل الوجود البشري والأخوة البشرية النفس الواحدة (الآية الأولى منالنسا) وهي أساس الوجود الجمعي تمثيلا لقوة الحياة (حواء) عضويا (صاحبة النصف مع وسطالحياة ومصدر قوامها العضوي) وروحيا (طبيعة علاقة الطفل به هي جوهر الكيان الروحيللإنسان) فضلا عن كونها محرك ذروة الحس مجموعا وملهمة الخيال .وهي المالك المستثني للشريكوالمملوك المستثنى عن كل شريك في آن .وبها في علاقتها بالملكية ومشكل الفرائض تبدأ السورة وفيها توضع قواعد العيش الأسري وتنظيم الحياة العاطفية للبشر.وحتى يلغي أفلاطون مفعول الملكية والمرأة بوصفهما اساس النزاعات بين البشر جعلهما أمرا مشاعابين العمال والحراس .واعتبر مدارك الحواس مصدر تزييف المعرفة ومنتجات الخيال مصدر تزييفالوعي ومن ثم فهما يمثلان خطرا أولاهما على معرفة الحقيقة والثانية على نقاء الوعي وتربيةالإرادة وحقيقة الجمال فجعل مبدعات الخيال خاضعة لمراقبة الدولة وفرض نوعا معينا من مضامينالتربية .والفردية تمثل عنده جملة كل هذه العوائق لتنافيها مع تلاحم الجماعة ومن ثم مع أحدأهم شروط سعادتها .لذلك فهو يريد أن يخلص الدولة من الفردية ويطالب الأفراد وخاصةالفلاسفة بأن يضحوا من أجل الجماعية بالتنازل المطلق عن حياتهم الخاصة أي عن كل المطاريدالأربعة السابقة حتى يكون مجرد قطعة في ماكينة الدولة التي تنتظم بحسب قوانين رياضية تنظمالثروة والسلطة والتناسل :وأهم تنازل هو العزوبية على الرعاة (ما يشبه واجب العزوبية على رجال الدين ونسائه في الكنيسة الكاثوليكية).وبين أن الفردية هي أهم أسس الإيمان في الدنيا لأنها شرط المسؤولية الخلقية والروحية ،ولذلكفهي اساس الجزاء في الآخرة :كلكم يأتينا فردا { يوم يفر المرء من أخيه وأمه وابيه وصاحبته وبينه 98
لكل أمرئ منهم شأن يغنيه} .كما أن المرأة والحياة الجنسية والعاطفية من أهم مقومات العمرانالإسلامي .والنبي وهو أسمى الرعاة لم يتبتل ولم يتعزب بل كان محبا للنساء وكان يعتبر ذلك منعلامات الحياة السوية بالنسبة إلى الإنسان .والإسلام يعتبر الرهبنة من علامات الفسق في الأغلب.كما أن الحواس والخيال (الذوق) والملكية هي من مقومات الاجتماع الإسلامي .والجامع لكل هذهالأمور هو طبيعة العلاقة بالطبيعة الخارجية والداخلية للإنسان وما تنبني عليها هذه الطبيعة مننفي لفكرة الخطيئة الموروثة وقول بالفطرة السليمة التي هي توافق أصلي بين ال ِخلقة وال ُخلق أعنيالمقابل التام للنظرية المسيحية كما يعرضها هيجل في فلسفة الدين :مفهوم البراءة الأصلية عندالعزالي أو بصيغة سلبية مفهوم النفي الأصلي الذي يستكمل ليصبح إيجابيا بتلقي البشر للرسالاتالتي تميز بين الخير والشر فتنقل الإنسان من النفي الأصلي أو البراءة الأصلية إلى معرفة المعروف والمنكر.ولعل أهم مقوم من مقومات هذه الثورة هو الانتباه إلى الخلط بين المقابلة حس عقل والمقابلة بينالعلم النسبي والعلم المطلق .فقد ظن الفلاسفة والمتكلمون بالتبعية أن تخليص العقل من تأثيرالحواس المغلط يجعله مدركا لحقائق الأشياء على ما هي عليه فيكون علمه مطلقا إطلاق علم اللهبها .وطبعا فهذا هو أساس نظرية الحقيقة المطابقة .لذلك كان موقف ابن تيمية حاسما في اعتبارهذه النظرية مجرد تعبير ملتبس عن النظرية السوفسطائية التي تعتبر الإنسان مقياس كل شيءوكان موقف ابن خلدون منها بعبارة أوضح يردها إلى القول برد الوجود إلى الإدراك وصلا بين القول الميتافيزيقي والقول السوفسطائي التي يقول بوحدة الوجود في الغاية.ويمكن الجمع بين الفهمين التيمي والخلدوني في عبارة وجيزة للغزالي هي المفهوم النقدي الأحدمفهوم \"طور ما وراء العقل” :العقل يدرك أن إدراكه محدود وأن الممكن من وراء إدراكه كما يفكرفي العقل الإنساني دون أن يعلمه يجله متواضعا ويقتضي أن يؤمن بنسبية علمه إلى علم مطلق ممكنليس في متناوله وذلك هو أساس الإيمان بالغيب وبما يتعالى على عقل الإنسان فيؤمن بأنه وإن كان من الخلوقات الشريفة فهو ليس ربا. 99
02 01 01 02تصميم الأسماء والبيان – المدير التنفيذي :محمد مراس المرزوقي
Search
Read the Text Version
- 1 - 16
Pages: