Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore علم السياسة، ما موضوعه؟ وما طرق علاجه؟ – أبو يعرب المرزوقي

علم السياسة، ما موضوعه؟ وما طرق علاجه؟ – أبو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2018-06-18 07:05:36

Description: علم السياسة، ما موضوعه؟ وما طرق علاجه؟ – أبو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫الأسماء والبيان‬



‫المحتويات‬ ‫‪1‬‬ ‫‪ -‬الفصل الأول ‪-‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثاني ‪-‬‬ ‫‪1‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثالث ‪-‬‬ ‫‪ -‬الفصل الرابع ‪-‬‬ ‫‪1‬‬ ‫‪ -‬الفصل الخامس ‪-‬‬ ‫‪7‬‬ ‫‪ -‬الفصل السادس ‪-‬‬ ‫‪13‬‬ ‫‪ -‬الفصل السابع ‪-‬‬ ‫‪19‬‬ ‫‪-‬الفصل الثامن ‪-‬‬ ‫‪25‬‬ ‫‪31‬‬ ‫‪ -‬الفصل الأول ‪-‬‬ ‫‪37‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثاني ‪-‬‬ ‫‪43‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثالث ‪-‬‬ ‫‪ -‬الفصل الرابع ‪-‬‬‫‪50‬‬ ‫‪ -‬الفصل الخامس ‪-‬‬ ‫‪ -‬الفصل السادس ‪-‬‬ ‫‪50‬‬ ‫‪ -‬الفصل السابع ‪-‬‬ ‫‪56‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثامن ‪-‬‬ ‫‪61‬‬ ‫‪66‬‬ ‫‪71‬‬ ‫‪77‬‬ ‫‪82‬‬ ‫‪87‬‬

‫القسم الأول‬‫لا أنفي أن لأحوال النفس في فهم أفعال البشر عامة والافعال السياسية خاصة دورا مهما‪.‬‬‫لكن حصر التحليل السياسي فيها لا يمكن أن يفيد علما حقيقيا‪ .‬فما الذي يجعل من يدعون‬‫الاختصاص في العلوم السياسية يتجاهلون ما للأحداث السياسية من طبائع تحدد مجراها ولا‬ ‫ترد إلى أحوال نفس القيمين عليها؟‬‫سأحاول فهم المسألة في ضوء ما سعيت لبيانه عند كلامي على \"العمل على علم\" وهي عبارة‬‫فيها تكرار غير ضروري (بليوناسم) لأن ما يحدث دون علم من الإنسان لا يمكن أن يسمى‬‫عملا ومن ثم فالعمل لا يكون عملا إلى على علم وإلا فهو تخبط كالحال في جل أعمال النخب‬ ‫العربية الخمس‪.‬‬‫وإذ سبق فصنفت النخب إلى خمسة أصناف فالأعمال مثلها خمسة أصناف‪-1 :‬نخبة الإرادة‬‫وهي السياسية خاصة ونخبة العلم وهي نخبة البحث العلمي خاصة ونخبة القدرة وهي نخبة‬‫الانتاج المادي والرمزي ونخبة الحياة وهي نخبة الفنون ونخبة الوجود وهي نخبة الرؤى‬ ‫الوجودية دينية كانت او فلسفية‪.‬‬‫وطبعا تحت كل صنف يوجد ما لا يتناهى من الأعمال كما يوجد في كل صنف من النخب‬‫ما لا يتناهى من الدرجات لأن جميع البشر يشاركون في الأعمال التي يجمعها الصنف لأن‬‫كل فرد إنساني له إرادة وله علم وله قدرة وله حياة وله وجود بمستويات مختلفة وبأقدار‬ ‫متفاوتة‪.‬‬‫وهذه الأعمال متوالجة ومتشاجنة وهي التي تمثل نسيج الحياة الجماعية التي تجعلها‬‫بمقتضى نظامها الأرقى أو صورتها المعبرة عنها إرادة وعلما وقدرة وحياة ووجودا تصبح‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪1‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫وكأنها ذات وحدة تعمل على علم في كل هذه المجالات فتكون الجماعة ذاتا لها رؤية وإرادة‬ ‫وعلم وقدرة وحياة ووجود‪.‬‬‫لكن العالم ليس فيه جماعة واحدة بل هو مؤلف من جماعات متجاورة في المكان ومتوالية‬‫في الزمان ومن ثم فهذا الذي وصفناه في الجماعة بمنظور الوضع الساكن ينبغي أن ينظر‬‫إليه في ذاته أولا وفي علاقاته بمن حوله في المكان وبمن قبله وبعده في الزمان بمنظور‬ ‫متحرك برؤية تتجاوز أحوال النفس‪.‬‬‫وما يحول دون تجاوز الرؤى التي تغلب أحوال النفس في التحليل هو سيطرة الرؤية‬‫الجدلية التي تعتبر كل شيء مبارزة بين طرفين متنافيين فيبحث المحلل عن طرفين ما وعادة‬‫ما يكون المقابلة بين القيادات في بلدين متعاديين ثم يبني تحليلاته وكأن الامر يتعلق‬ ‫بمبارزة بينهما كما يجري في بلاد العرب‪.‬‬‫فيرد كل شيء إلى علاقة صدام أو غرام بين قائدين مستبدين يجعلان العمل محكوما‬‫بأحوال نفسيهما فيغيران كل شيء من الكون إلى العدم أو من العدم إلى الكون دون أن‬‫يكون له قوانين تحكمه أو سنن تضبطه أو لكأن القائدين ليهما عصا سحرية والقدرة على‬ ‫الإيجاد بـ\"كن\" والاعدام بـ\"لاتكن\"‬‫وفي الحقيقة فإن من يشار إليهم باسم القائد في هذه الحالة لا يقود شيئا لأن القيادة إذا‬‫لم تكن عملا على علم فهي تخبط وليست قيادة‪ .‬ومن ثم فالقيادة إذا كانت قيادة بحق فهي‬‫لا تعتمد على أحوال النفس بل على نفس المكونات التي بينا أنها تتجلى خاصة في العمل‬ ‫المنتج لشيء سواء كان ماديا أو رمزيا‪.‬‬‫ولا يمكن أن يقع أي إنتاج سواء كان اقتصاديا أو ثقافيا من دون أن يتكون من خمس‬ ‫عوامل وخاصة في السياسة‪:‬‬ ‫‪ .1‬لا بد من فكرة‬ ‫‪ .2‬ومن مستثمر لتطبيقها‬ ‫‪ .3‬ومن ممول لتحقيقها‬ ‫‪ .4‬ومن عملية الإنجاز الفعلي للمنتج المادي أو الرمزي‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪2‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪ .5‬ومن مستهلكين للمنتج وطالبيه لسد حاجة فعلية للمنتج‪.‬‬ ‫فإذا طبقنا ذلك على السياسة كان الامر كالتالي‪:‬‬ ‫‪ .1‬لا بد من رؤية‬ ‫‪ .2‬واستراتيجية سياسية تستنتج منها تطبيقا ما‬ ‫‪ .3‬وقوة سياسية لها القدرة على تحقيقها بالمال والأعمال‬ ‫‪ .4‬وفريق منها يعمل على إنجاز المنتج المنتظر من تلك السياسة‬ ‫‪ .5‬وشعب ينتظر ذلك المنتج السياسي باعتباره تحقيقا لمصالحه بفضله‪.‬‬‫ولا فرق في ذلك بين أن يكون المنتج السياسي داخليا أو خارجيا‪ .‬وفي الحقيقة لا شيء في‬‫السياسة يمكن أن يكون داخليا دون أثر خارجي أو خارجيا دون أثر داخلي ومن ثم فالأمر‬‫كله تفاضل مؤقت بين الوجهين لأن ما هو داخلي عندك خارجي عند خصمك وما هو خارجي‬ ‫عندك داخلي عند خصمك‪.‬‬‫وقد يتوهم الكثير أن ذلك خاص بمرحلة العولمة من تاريخ الإنسانية لكنه في الحقيقة‬‫ملازم لهذا التاريخ في كل مراحله التي هي معولمة دائما وبمعنيين‪ :‬معولمة في المكان بين‬‫الأجوار المتعاصرين ومعولمة في الزمان داخليا بين أجيال نفس الجماعة وبين الجماعات‬ ‫المتوالية فأبعاد العمل الخمسة كونية‪.‬‬‫فلا خصوصي في الحضارات إلا الفلكلور بقدر ما لكن الإرادة والعلم والقدرة والحياة‬‫والوجود كلها مقومات كونية تتوارثها الأمم والحضارات زمانيا الأقرب فالأقرب وتتبادلها‬‫مكانيا الاقرب فالأقرب وخاصة بمناسبة الحروب لأن كل خصم يريد أن يفيد مما يعتبر‬ ‫خصمه قد تفوق عليه به‪.‬‬‫وحتى بصرف النظر عما يترتب على التنافس بين الأمم فإن ما تختلف به الإرادات‬‫والعلوم والقدرات والحيويات والوجودات مضموني وليس شكليا بمعنى أن الامم قد تختلف‬‫بحسب المراحل في المضامين لكن طلبها من حيث شكله ومنهجه إنساني بالجوهر‪ :‬كلنا نريد‬ ‫ونعلم ونقدر ونحيا ونوجد بنفس الأجهزة الكيانية‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪3‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫وكلنا نتعلم من بعضنا البعض دون الوقوف عند الحدود الحضارية لأي منا ما هو مكتسب‬‫في كيف نريد وكيف نعلم وكيف نقدر وكيف نحيا وكيف نوجد والمشترك غير المكتسب تابع‬‫لكياننا العضوي والروحي بمعنى أن الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود مرسومة‬ ‫فيهما بالطبيعة والفطرة‪.‬‬‫ولولا هذين المبدأين لاستحال على أي منا أن يفهم سلوك غيره فضلا عن أن يحلله‬‫فيستنتج منه علله وما يتوقعه من مآله ومآل العلاقة معه وذلك خاصة في الاستراتيجيات‬‫سواء التعاونية أو التحاربية بين الأمم‪ .‬ومنهما نستنتج ما سنحاول بيانه في الجواب عن‬ ‫سؤال‪ :‬ما موضوع ما يسمى بالعلوم السياسية؟‬‫وأول عناصر هذا السؤال يتعلق بالجمع المبهم في \"العلوم السياسية\"‪ .‬فلا شك أن كل علم‬‫يعد نقطة لقاء لكل العلوم بنحو ما سواء في الطبيعيات أو خاصة في الإنسانيات‪ .‬لكن ذلك‬‫لا ينبغي أن يبقى مبهما لأن نقطة اللقاء التي تلتقي فيها العلوم المسهمة في مسائله هي‬ ‫موضوعه ولا بد من تحديدها‪.‬‬‫ومرة أخرى يمكن اعتبار ثورة أبن خلدون في تأسيس علمه مثالا جيدا لبيان ذلك‪ :‬فمن‬‫ينفتح المقدمة يجدها وكأنها نقطة لقاء كل العلوم‪ .‬لكنه مع ذلك حدد موضوعه بدقة‬‫صارمة فلم يسمي علمه علوم كذا بل سماه علم كذا رغم أن كذا هو نقطة لقاء تلك العلوم‬ ‫المتدخلة في درسه للظاهرة كذا موضوع علمه‪.‬‬‫ولأن الظاهرة التي يدرسها علمه والتي هي نقطة لقاء ‪ Point de concours‬أو \"دوار\"‬‫‪ Rond-point‬هي في موضوعه ذات مستويين فقد سمى علمها بعلم العمران البشرية‬‫والاجتماع الإنساني‪ :‬مستوى سد الجماعة لحاجاتها المادية وسدها لحاجاتها الروحية‪.‬‬ ‫فيكون \"الواحد\" هو سد الحاجات والمتعدد أصناف الحاجات‪.‬‬‫وعلى نفس المنوال يصبح سؤالنا‪ :‬ما الواحد في دراسة الظاهرات السياسية قياسا على‬‫الواحد في درس الظاهرات العمرانية والاجتماعية‪ .‬وبصورة أدق كيف ننقل التعدد في‬‫\"علوم\" إلى علم بتوحيد الموضوع وإن تعددت مجالاته كما فعل ابن خلدون فبين وحدة‬ ‫العلم ووحدة الموضوع رغم ازدواج مجالات تطبيقه‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪4‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫وحدة الموضوع عند ابن خلدون هو \"سد الحاجات\" وتعدد مجالاته هو الحاجات بصنفيها‬‫المادي والروحي‪ .‬ولما كان المادي والروحي الذي تسد حاجاته هو عين كيان الإنسان فإن‬‫الموضوع يصبح \"العمل على علم الذي تقوم به الجماعة لتحقيق شروط قيام الإنسان ببعدي‬ ‫كيانه المادي والروح\"‪ .‬هذا هو موضوع علمه‪.‬‬‫هدفي من هذه المحاولة التي اعترف بأنها شديدة العسر هو تعريف علم السياسي بنفس‬‫الطريقة‪ :‬فالموضوع عمل ما (ما هو؟) على علم (ما هو) لسد حاجات (ما هي؟) يكون‬‫العامل فيه هو الدولة التي تمثل إرادة الجماعة وعلمها وقدرتها وحياتها ووجودها إما‬ ‫تمثيلا فعليا وشرعيا أو تمثيلا شكلي وغير شرعي‪.‬‬‫خمسة أسئلة إذا أجبنا عنها تمكنا من القيام بما يناظر ما قام به ابن خلدون في تعريف‬ ‫علمه‪:‬‬ ‫‪ .1‬ما العمل الذي هو موضوع علم السياسية؟‬ ‫‪ .2‬كيف يكون علم؟‬ ‫‪ .3‬لسد أي نوع من الحاجات؟‬ ‫‪ .4‬من الفاعل؟‬ ‫‪ .5‬وكيف تتدخل مقومات الإنسان في فعله‪.‬‬ ‫ذلك هو التعريف الجامع المانع‪.‬‬‫وكما يعلم كل من له دراية بمقدمة ابن خلدون فهو حصر العلوم التي تلتقي في علاج‬ ‫موضوع علمه بوصفه نقطة لقائها فسمى‪:‬‬‫‪ .1‬في الباب الأول علم تفاعل العاملين الطبيعي (الجغرافيا والمناخ) والثقافي (توقع‬‫المستقبل بخصوص شروط الحياة وما يتهددها) وأثرهما في فاعل العمران كبشر والاجتماع‬ ‫كإنسان‪.‬‬‫‪ .2‬ثم في الباب الثاني حدد مفهوما جديدا سماه \"نحل العيش\" التي هي حصيلة‬‫التفاعل بين العاملين الطبيعي والثقافي الذي حدده في الباب الأول ليصف به شكلها في‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪5‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫مراحل البداية للعمران والاجتماع‪ .‬وسمى ذلك العمران البدوي ويعرف بغلبة العامل‬ ‫الطبيعي على العامل الثقافي في تحقيق شروط قيام الإنسان‪.‬‬‫وفي الباب الثالث يدرس مفهوم الدولة وكيفية نشأتها وحياتها ومقومات فعلها التي‬‫يرجعها إلى شروط الشوكة وشروط الشرعية‪ .‬والشوكة تمثلها العصبية والشرعية تمثلها‬‫شروط خروج العصبية من كونها مفضية إلى الهرج إلى كونها محققة لما يحفظ الدولة أعني‬ ‫وظائفها التي من أهمها الأمن والعدل‪.‬‬‫وبذلك تتحقق شروط النوع الثاني من العمران أو العمران الحضري وفيه تتغير \"نحل‬‫العيش\" فيصبح الثقافي متقدما على الطبيعي في سد حاجات الإنسان أي إن ما يحتاج إليه‬‫الإنسان هو الذي ينتجه ولا يعتمد فيه على الإنتاج الطبيعي‪ .‬وينتج عن ذلك أن الطبيعة‬ ‫تصبح تابعة للثقافة والبدوي للحضري‪.‬‬‫وتكون التبعية أولا في الانتاج الذي يسد الحاجات المادية المباشرة أو التقنيات والصناعات‬‫وفي الجملة الاقتصاد وذلك هو موضوع الباب الخامس وهو يفترض أن الانتاج يصبح عملا‬‫على علم لكنه علم تقني وليس علما نظريا وهو انساق خبروية وتجريبية وليس بعد علما‬ ‫أنساقه نظرية التعليل والتحليل‪.‬‬‫والباب السادس والأخير هو الذي يتعلق بسد الحاجات الروحية وفيه العلوم النظرية‬‫الطبيعية والإنسانية ونظرية التربية واللغة ثم نظرية الذوق وخاصة ما يتعلق منها‬‫بالفنون التي مادتها اللسان أعني الشعر‪ .‬وهذه العلوم تعكس الاتجاه فيصبح من الثقافي‬ ‫إلى الطبيعي بعد أن كان من الطبيعي إلى الثقافي‪.‬‬‫فنعود من السادس إلى الخامس أو من العلوم إلى الاقتصاد فيصبح على علم ومنهما إلى‬‫المدينة التي تعتمد عليهما ومنها إلى الدولة التي تتعقلن ومنها إلى العمران البدوي الذي‬‫يستتبع ومنه إلى العلاقة بين الطبيعة والثقافة التي تجعل الإنسان أكثر تأثيرا في الطبيعة‬ ‫رغم كون البداية كانت العكس‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪6‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫لم يكن الاستطراد والكلام في ثورة ابن خلدون مجرد استعراض لقراءتي لابن خلدون‬‫بل هو ضرورة يقتضيها الكلام في \"علم السياسة\" لأن جوهر عمله هو اللبنة الاولى في هذا‬‫العلم كما سنبين لاحقا‪ .‬وقبل ذلك لا بد من استطراد آخر علته الغاية التي ختم بها ابن‬ ‫خلدون مقدمته‪ :‬دور الذوق في وجود الإنسان‪.‬‬‫مسألة علم السياسة الأعقد هي دور الخيارات الذوقية في كل ما هو سياسي لأن غايتها كما‬‫أسلفنا هي تحقيق الحماية والرعاية من أجل الغاية التي سماها ابن خلدون \"الأنس‬‫بالعشير\"‪ .‬فكل ما نسميه مصالح الدول يتحدد في الغاية بالغاية‪ :‬فما من أجله تتكون‬ ‫الجماعات لتحتمي وترتعي هو خياراتها الذوقية‪.‬‬‫والخيارات الذوقية هي الوجه القيمي من المفهوم الخلدوني الذي سماه \"نحلة العيش\"‪.‬‬‫كل الخلافات بين الأمم تعود في الغاية إلى الخلاف حول نحل العيش وأساليبه وهي في‬‫الجوهر خيارات قيمية ذوقية‪ .‬وما لم نفهم ذلك يمتنع أن نحلل علاقات الشعوب وحتى‬ ‫الاجيال في نفس الشعب بعضها بالبعض سلما وحربا‪.‬‬‫ولذلك فالتحليل العلمي والتحليل الخلقي وحدهما لما هو سياسي لا يكفيان بل لا بد من‬‫التحليل الذوقي‪ .‬وغالبا ما يكون الذوقي مقدما على الخلقي في المجتمعات البشرية وهو‬‫بالطبع مقدم على العلمي‪ .‬فالجميع يعلم أن التبغ قاتل لكن ما يصحبه من ذوق لا يعير‬ ‫للعلم أهمية في قرارات الإنسان السلوكية‪.‬‬‫وهذا هو العنصر الأكثر استعصاء على التحليل السياسي في العلاقات بين البشر عامة‬‫وبين ممثلي الجماعات في مؤسسات دولها سلمية كانت أو حربية وهما وجها السياسي سواء‬‫كان السياسي داخليا أو خارجيا لأن العامل الذوقي في حد ذاته وبصرف النظر عن الذائق‬ ‫عسير الضبط والتحديد‪.‬‬‫وهذا هو موضوع الاستطراد الثاني في المحاولة تمهيدا للجواب عن الاسئلة التي حددناها‬‫بدقة فائقة وهي كافية لتحديد القصد بعلم السياسة الذي ما يزال إلى الآن علما فاقدا‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪7‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫لشرطيه أعني تحديد طبيعة الموضوع وطبيعة العلاج الذي يكون علميا فيه التحليل الذي‬ ‫يقدر المواقف والوضعيات السياسية مثلا‪.‬‬‫وأول خطوة هي التمييز بين العلمي والذوقي في مصدرهما الثاني المشترك‪ .‬ذكرنا سابقا‬‫أن للعلمي والذوقي مصدرين مشتركين‪ .‬أحدهما هو التقدير الذهني والثاني هو المعطى‬‫الحسي الذي يصبح تجربة إذا اكتشفنا ما فيه من ثوابت مقومة تصاغ بما يبدعه الإنسان‬ ‫من مقدرات ذهنية من أحد النوعين‪.‬‬‫وبهما يتميز العلمي موضوع الإبستمولوجيا والقيمي موضوع الاكسيولوجيا‪ .‬والمقابلة هنا‬‫هي بين العلمي والقيمي عامة‪ .‬لكن القيمي كما بينا خمسة أنواع قيم الإرادة والمعرفة‬‫والقدرة والحياة والوجود‪ .‬فيكون الأبستمولوجي بنحو ما أحد أنواع القيم (الحقيقة‬ ‫والباطل في معرفة الوجود)‪.‬‬‫فقيم الإرادة شارطة لكل ما عداها كإمكان وهي الحرية والعبودية وقيم العلم هي‬‫الحقيقة والباطل وقيم القدرة هي الخير والشر وقيم الحياة أو الذوق هي الحمال والقبح‬‫وقيم الوجود أو الرؤى هي الجليل والذليل‪ .‬وكلها تنتسب إلى ما سميناه الخيارات التي‬ ‫تمثل الدافع الرئيس لكل سياسة حقا أو مظهرا‪.‬‬‫وسأبدأ بالذوقي الخالص أو قيم الحياة جمالا وقبحا لأنه أكثرها تعقيدا وأقلها قابلية‬‫للمعرفة الدقيقة حتى إن الحكم الشائع هو القائل بأن الذوق لا يفسر ولا يعلل ولا يمكن‬‫أن يتفق عليه اثنان‪ .‬ومع ذلك فهو المحدد الأساسي لكل مواقف البشر الفردية والجماعية‬ ‫ومن ثم فهو المؤثر في السياسة‪.‬‬‫ولعل أبرز تجلياته يمثلها دور المرأة في السياسة وخاصة في وسائلها اللطيفة التي هي شبه‬‫سلطان مواز لكل سلطان ظاهر في كل المجتمعات وفي كل الحضارات وفي كل مراحل التاريخ‬‫بل إن ما يسمى بالتاريخ الصغير وراء التاريخ الكبير لعله هو الاكبر من كل كبير في كل‬ ‫سياسة‪.‬‬‫وبصرف النظر عن دورها في السياسة فإن نموذج المرأة من حيث طبيعة دور الذوق يمثل‬‫أفضل طريقة للتمثيل لدوره الذوق عامة لأنها تمثل نوعي الجمالي (الاستيتيكي عامة)‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪8‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫أعني نوعيه الذي \"تصنعه\" الطبيعة والذي يصنعه العقل‪ :‬فهي لوحة فنية طبيعيا ولا‬ ‫تكتفي بذلك بل هي لوحة فنية بالمجملات الصناعية‪.‬‬‫وذلك على الاقل في مستوى إدراك الذوق من قبل الرجال‪ .‬وقد يكون لإدراك الذوق‬‫من قبل النساء ما يماثله في الرجال وإن كان البعد الصناعي أقل مشاركة فيه فيكون‬‫الجمالي في الرجال عند النساء بالعكس هو ما يغلب عليه الجمال الذي تصنعه الطبيعة‬ ‫لأنهن يرين في الصناعي عند الرجال تخنثا وليس جمالا‪.‬‬‫ومعنى ذلك أن للمقابلة أنوثة رجولة دورا كبيرا في معايير الذوق إذا تعلق بحامله‬‫البدني وسنرى لاحقا أن لحامله الروحي معايير مماثلة وأن الاصل في ذلك كله هو معايير‬‫من جنس التي تكلمنا عليها في المحاولة السابقة عندما تكلمنا على عين الرسام وأذن الموسيقي‬ ‫وأنف العطار ولسان الطباخ ومس اللماس‪.‬‬‫وفي الحقيقة فإن أصل عين الرسام وسمع الموسيقار وأنف العطار ولسان الطباخ كلها هو‬‫مس اللماس لأن كل الحواس تدرك باللمس واللمس هنا مذكور في متوالية من الأبعد إلى‬‫الأقرب إلى حدد المماسة التي هي تماس المدرَك والمد ِرك وأقصى درجاته بين مدرٍكين‪:‬‬ ‫ولهذا اعتبر رمز القرآن للجنس به‪.‬‬‫وقد اعتدنا أن نعتبر هذه المدارك مدارك ملكات ذات صلة بالمعرفة لكنها في الحقيقة من‬‫طبيعة ذوقية وليست من طبيعة معرفية وكل محاولة لردها إلى \"الملكة\" المعرفية تخطيء‬‫كثيرا حتى وإن كان لها بها صلة‪ .‬هي \"ملكة\" ذوقية‪ .‬والمطلوب ما يماثلها في القائد السياسي‬ ‫والقائد العسكري خاصة‪\" :‬الفلار\"‪.‬‬‫وهي من أسرار العبقرية في القيادة السياسية والقيادة العسكرية خاصة وفي كل قيادة‬‫عامة‪ .‬ومن شروطها المعرفة دون شك لكنها لا ترد إليها ولا تقتصر عليها خاصة‪ .‬والعلة أن‬‫المعرفة تقتضي وقتا يطول أو يقصر لتحليل القرارات الآنية كما يحصل لقائد المعركة في‬ ‫المعركة حيث لا يمكن انتظار التحاليل‪.‬‬‫وهذا \"الفلار\" تجوده وتلطفه التجربة لكنه ليس مكتسبا كملكة بل هو من علامات سرعة‬‫البداهة والإلمام السريع بأساسيات الوضعيات وهو ضروري في القيادة في الاقتصاد الذي‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪9‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫يمكن لأي تأخير في أخذ القرار وخاصة في الاقتصاد الحديث حيث للمعلومة والمضاربة الدور‬ ‫الأول والأخير في النجاح والفشل‪.‬‬‫والآن كيف تعلو هذه الملكة على المعرفة العقلية المجردة؟ سآخذ الحواس الخمسة وأبين‬‫ذلك لأعود لاحقا إلى مسألتنا للجواب عن الأسئلة الخمسة التي طرحناها بالقياس إلى‬‫تحديد ابن خلدون لأبعاد تعريف أي علم وخاصة في الإنسانيات التي هي أكثر تعقيدا من‬ ‫الطبيعيات‪ .‬وسأبدأ بالذوقي في كل حاسة‪.‬‬‫فالبصر يدرك الأشكال من حيث هي أشكال لكن الرسام يدركها كذلك ويدرك جمال‬‫أنسقها‪ .‬والسمع يدرك الأصوات والموسيقي يدركها كذلك ويدرك أنغمها‪ .‬والعطار يدرك‬‫الروائح كذلك ويدرك أطيبها والطباخ يدرك الطعوم كذلك ويدرك ألذها‪ .‬واللامس‬ ‫يدرك الملمس كذلك ويدرك ألطفها‪.‬‬‫والمستوى الاول من كل هذه المدارك معرفي خالص وهو مشترك بين جميع البشر‪ :‬كلنا‬‫نرى الشكل بأعيننا ونسمع الصوت بآذاننا ونشم الرائحة بأنوفنا ونذوق الطعام بألسنتنا‬‫ولهاتنا ونلمس الأجرام بأيدينا‪ .‬لكن الرسام والموسيقار والعطار والطباخ واللماس له أمر‬ ‫آخر لا يكفي فيه العلم‪.‬‬‫أو لنقل إن العلم فيه ليس صاحب الحكم الفصل حتى وإن كان من شروطه‪ .‬وهذا الذي‬‫يعلو على العلم الذي مصدره القدرة العقلية يمكن أن نعتبر القدرة التي يصدر عنها بكونها‬‫قدرة الحب أو الجاذبية بين المد ٍرك والمدرَك وهو جوهر الحياة نفسها عندما تصل إلى ذروة‬ ‫الإدراك لتجلياتها في هذه الحوامل‪.‬‬‫فذروة الحياة في إدراك التناسق المكاني للأشكال هو ما يتميز به الرسام وذروة إدراك‬‫التناغم الزماني للأصوات هو ما يتميز به الموسيقار وذروة إدراك مزيج الطيب هو ما يتميز‬‫به العطار وذروة إدراك مركب الطعوم هو ما يتميز به الطباخ وذروة الذرى هو التماس في‬ ‫التلامس‪.‬‬‫ولا يكون التماس في التلامس بين متلامسين من طبيعة واحدة إلا في العلاقة الجنسية وهو‬‫ما يعني أن الرسام والموسيقار والعطار والطباخ والملامس كلهم في علاقة شبيه بالعلاقة‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪10‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫الجنسية أو علاقة حب بالأشكال والأصوات والروائح والطعوم ومن هنا الطبيعة‬ ‫\"اللامعقولة\" في كل فن لأنه عين تجلي الحياة‬‫هو \"باسيون\" أو غرام جارف لا يمكن تفسيره بالعقل حتى وإن يحاول العقل أن يفسر‬‫التناسق الشكلي بالنسب الرياضية والنظام والتناغم الصوتي بالنسب الرياضية وامتزاج‬‫الروائح بالمقادير الكمية من مواد العطور وامتزاج الطعوم بالمقادير الكمية من مواد‬ ‫الطعام‪ .‬لكن الموضوعي لا يطابق الشعور الذاتي‪.‬‬‫ويتجلى ذلك خاصة في إدراك الجمال الانثوي عند الرجال والجمال الذكوري عند‬‫النساء‪ :‬ففيه إدراك الشكل لأن البدن شكل نحتي وليس رسمي لما فيه من تضاريس وفيه‬‫النغم (صوت الجنس المقابل) وفيه الرائحة وفيه الطعم وفيه خاصة المس في الملامسة‪ .‬فإذا‬ ‫أضفنا الجمع بين الطبيعي والصناعي تعقد الامر أكثر‪.‬‬‫و\"الفلار\" الإضافي عند من لهم هذا الفرق الإدراكي في السياسة عامة وفي كل عمل قيادي‬‫يقتضي إدراكا فوق الإدراك العادي الخاص بمجال القيادة‪ :‬فأي إنسان يرى الوضع‬‫السياسي أو وضع ساحة المعركة أو الوضع الاقتصادي إلخ‪ ..‬من مجالات القيادة بإدراك‬ ‫الوصف الموضوعي‪ :‬فهل هذا كاف لأخذ القرار؟‬‫المشكل أننا سمينا في المدارك الحسية ما يجانس الامر الذي نتكلم عليه في القيادة عامة‬‫لكننا لم نسمه إلى الآن رغم أنه ما به ميزنا في تصنيف النخب بينها من خلال غلبة المقوم‬‫الذي يغلب على المنتسبين إليها إرادة أو علما أو قدرة او حياة أو وجودا لأن أي إنسان له‬ ‫هذه المقومات بغلبة إحداها‪.‬‬‫ولتقريب المعنى فلكأن الرسام عين لا غير والموسيقار أذن لا غير والعطار أنف لا غير‬‫والطباخ لسان لا غير واللماس مس لا غير‪ .‬والقصد أن هذه القدرة الإدراكية عنده هي‬‫الغالبة عليه‪ .‬وذلك بخصوص المقومات‪ :‬فلكأن صاحب الإرادة إرادة لا غير إلخ‪ ..‬لكنهم‬ ‫جميعا لهم كل المقومات بغلبة إحداها‪.‬‬‫ونعود الآن إلى المرأة‪ :‬قلنا إنها لا تكتفي بالحامل الطبيعي للجمال شكلا (بدنها) ونغما‬‫(صوتها) وطيبا (رائحتها) وطعما (ريقها) ومسا(بشرتها) بل هي تضيف إلى ذك كله‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪11‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫مزينات ومجملات لكل واحد منها بمقتضى الموضة أو بحكم المرآن التي تجعلها هي الحكم في‬ ‫مظهرها الذي تعتبره عين وجودها وتأثيرها‪.‬‬‫وهذا هو بيت القصيد‪ :‬الدول والجماعات والسياسيات فيها ما هو حقيقي وهو إرادتها‬‫وعلمها وقدرتها وحياتها ووجودها كما هي في حقيقتها ثم الإيهام بما ليس حقيقيا فيها إما‬‫بحكم ما يشبه المرآة للمرأة من أجل التأثير في الذات وفي الغير أو بحكم القوة اللطيفة‬ ‫التي تعد بها حروبها العنيفة‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪12‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫والبعد الصناعي في الدولة والجماعة وحتى في الفرد طبعا ليس من جنس البعد الصناعي‬‫في الجماليات الذي بيناه من خلال مثال المرأة بل هو الإيهام بإرادة وعلم وقدرة وحياة‬‫وجود الذي لا تخلو منه دولة للتجميل في الداخل (إزاء الشعب) وللردع في الخارج (إزاء‬ ‫العدو المحتمل)‪ .‬وقد يكون صاحبها ضحيتها‪.‬‬‫أغلب الهزائم العربية هذه علتها‪ :‬يجهلون معنى الإرادة ومعنى العلم ومعنى القدرة‬‫ومعنى الحياة ومعنى الوجود فيضخمون كل شيء حتى يصبح من جنس دفتر الصكوك التي‬‫ليس لها رصيد أو التي رصيدها لا يقبل المقارنة مع هذا التضخيم خاصة عندما يتعلق الامر‬ ‫بالعلاقات مع القوى الاخرى لها رصيد فعلي‪.‬‬‫ولما كانت القوة تتحدد بإطلاق بوجودها الفعلي وبإضافة بوجودها في موازين القوى بين‬‫الجماعات فإني كنت ولا زلت اعتبر إيران نمرا من ورق وما قوتها إلى بالقياس إلى ضعف‬‫العرب أو تخاذلهم بخلاف إسرائيل لأن قوتها مستعارة وهي قوة الغرب كله ومن ثم فهي‬ ‫قوة حقيقية وليست تضخيما ذاتيا‪.‬‬‫ولو كانت إسرائيل بحد ذاتها هي التي تحارب العرب لكانت مثل إيران بمعنى لكانت قوتها‬‫ليست فعلية بل هي قوة بالقياس إلى ضعف العرب وتخاذلهم‪ .‬لكن إيران تخادع شعبها‬‫وشعوب الاقليم بالإيهام بأنها تقاوم إسرائيل والغرب يتركها تكذب لحاجته إلى تخويف‬ ‫الخائفين بالطبع من أنذال العرب وخونتهم‬‫وهذا هو تعريف البروباغندا التي هي في حالتنا مضاعفة‪ :‬فهم يتركون إيران تتضاخم‬‫وتتعنتر لأن ذلك مفيد لإسرائيل إزاء الغرب ولحكام الغرب إزاء شعوبهم في مواصلة تمويل‬‫إسرائيل التي تبدو وكأنها مهددة من قوة فعلية وهم يعلمون أن نجاد أكذب من عبد الناصر‬ ‫ومثل خامنئي و\"زورو\" إيران‪.‬‬‫ولذلك فعندما جد الجد وأصبحوا في غنى عنها بعد أن أفشلوا ثورة السوريين التي‬‫تخيفهم \"خنست\" إيران وقللت من العنتريات وبدأت تبحث عن مخرج حتى لا يظهر ضعفها‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪13‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫البنيوي‪ .‬وكنت دائما أشير إليه وأنبه المبالغين في تقدير ما تستطيعه وهي لا قوة لها إلا‬ ‫بخيانة ادواتها من المليشيات والأنظمة العربية‪.‬‬‫والمليشيات العربية صنفان‪ :‬مليشيات السيف ومليشيات القلم وأبرز أمثلتها حزب الله‬‫وأبواقه من بعض مسيحيي لبنان الذي يحقدون على الإسلام مثل الصفويين‪ .‬فقد سمعت‬‫أحدهم يتوعد بإخراج المسلمين من الشام ومن تركيا لأن هذه الارض هي أرض‬ ‫الامبراطورية البيزنطية تماما كما يفعل الصفويون‪.‬‬‫لكن هذا العامل الصناعي الذي يضخم القوة أو يغطي الضعف والذي يقاس على الماكياج‬‫عند المرأة لا تخلو منه دولة وأمة بحيث يمكن القول إن الدولة والأمة فيها شيء من الانوثة‬‫ولكن ليس للتجميل كما هو دور الماكياج عند المرأة إلا في الداخل لكنها للردع والحرب‬ ‫النفسية على العدو المحتمل في الخارج‬‫وأبرز مثال يقدمه ابن خلدون في كلامه على نظرية الحرب‪ .‬فهو يبين أن شهرة الأبطال‬‫والقيادات والشائعات حولهم تؤدي دورا كبيرا في الحروب الفعلية لأنها تعد الارضية في‬‫الحرب النفسية على العدو قبل الشروع في المعارك الفعلية فيكون العدو قد انهزم روحيا‬ ‫قبل الهزيمة المادية‪.‬‬‫لكن ذلك سرعان ما ينقلب على اصحابه إذا كان للعدو معلومات دقيقة على القوة الفعلي‬‫وراء سحب الدعاية والبروباغندا فيهاجم نقاط الضعف لأن أول ضربة مؤثرة يمكن أن‬‫تدخل الشك في القيادات والأبطال فتنهار الجبهات بالتوالي السريع كما حدث في معركة‬ ‫‪ 73‬بسبب ثغرة الديفارسوار‪.‬‬‫وإذا كان العامل الصناعي المضاف للعامل الطبيعي في جمال المرأة قد يخدع لكونه قد‬‫يكون إخفاء للقبح وليس إبرازا للجمال فإن العامل الصناعي المضاف للعامل الطبيعي في‬‫قوة الدول قد يخدع لكونه قد يخفي الضعف ولا يبرز القوة‪ .‬تكلمنا على جمال المرأة‬ ‫الطبيعي فما قوة الدولة الطبيعية؟‬‫واستكمالا لقيس الدولة على المرأة فإن القبيح منهما متجانس تجانس الجميل منهما‪.‬‬‫فالمرأة القبيحة تتزين للشارع وتظهر بشاعتها في البيت والدولة القبيلة تتزين لأسيادها‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪14‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫وتظهر بشاعتها في الداخل‪ .‬والمرأة الجميلة قد تطلب مزيد زينة في البيت وكذلك الدولة‬ ‫الصالحة قد تطلب مزيد صلاح في الداخل‪.‬‬‫ولا ينبغي للنساء أن ينزعجن من هذا القياس لأن الله خلقهن معيارا لكل شيء في الوجود‬‫بالنسبة إلى الرجال ولعل الرجال هم كذلك عندهن‪ .‬وهو أمر لا يعلمه غيرهن‪ .‬وكل في‬‫قضية الذوق لا يستطيع أن يتكلم بغير ما في وجدانه لأن الأمر كما أسلفت يتعلق بما يتعالى‬ ‫على المعرفة العقلية بل هو حدس ذوقي‪.‬‬‫وأعترف أني بهذا تحديت قاعدة ابن خلدون الذي يقول إن الوجدانيات هي مما لا‬‫ينقال‪ .‬لكني تحديت حكمه وحاولت قول الوجداني لأن كل الفنون وجدانية ذات قاعدة‬‫أساسية علمية‪ .‬وقد سبق فبينت أن هذه القاعدة الأساسية فطرية لما لها من صلة مبشرة‬ ‫بالحوادس في الحواس‪.‬‬‫والحوادس في الحواس لم يكن معلوما منها إلى ما تثبته المقابلة بين البصر والبصيرة‪.‬‬‫فالبصر حاسة والبصيرة حادسة‪ .‬وقياسا علينا وضعت السميعة للسمع والشميمة للشم‬‫والذويقة للذوق واللميسة للمس‪ .‬وكلها حوادس قد تصحب الحواس وقد تكون مفقودة‬ ‫مثل البصيرة‪ :‬غالب الناس عمي البصيرة‪.‬‬‫واعتقد أن النساء لن يغضبن مني لأني جعلتهن بهذا القياس الهادف للتمييز بين المعرفي‬‫والذوقي (من دون الدلالة الصوفية) وكأن كل امرأة رسامة وموسيقارة وعطارة وطباخة‬‫ولماسة بالمعاني التي شرعت في الفصل السابق أي إنهن يتميزن بالحوادس مع الحواس‪ :‬هن‬ ‫سر الوجود‪.‬‬‫وهذه مناسبة لدحض كل الخرافات التي تتكلم على الضلع الاعوج وعلى تأخرها في الخلق‬‫لكونها من آدم‪ .‬وهذا ينافي آيات القرآن الحكيم‪ :‬فأولا كل البشر من نفس واحدة والنفس‬‫أنثى وهي التي تغشاها زوجها فولدت‪ .‬ومن ثم فكل ما يقال غير ما يقوله القرآن في المسألة‬ ‫إما إسرائيليات أو خرافيات جاهلية‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪15‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫هُ َو الَّذِي خَ َل َق ُكم ِّمَن َّن ْف ٍس وَاحِ َدةٍ َوجَعَ َل مِ ْنهَا زَ ْو َج َها ِليَ ْسكُ َن ِإلَيْهَا ۖ فَ َلمَّا تَ َغشَّا َها َحمَ َل ْت‬‫َحمْ ًلا َخ ِفي ًفا َفمَرَّ ْت بِ ِه ۖ َف َل َّما أَثْ َق َلت دَّ َعوَا ال َّلهَ رَبَّهُ َما لَ ِئنْ آ َت ْيتَنَا َصا ِلحًا ّلَ َن ُكونَنَّ مِنَ‬ ‫ال َّشا ِكرِينَ‪.‬الاعراف ‪.189‬‬‫والدولة بدوريها ‪-‬الحماية والرعاية‪ -‬هما عين وظيفة الأم التي تحمي أسرتها وترعاها‬‫لأن الأب يجري وراء الرزق ويترك الأسرة لرعاية الام الصالحة‪ .‬وحتى وللرجال عليهن‬‫درجة أسيء فهمها عمدا‪ :‬فالفقرة الاخيرة من الآية ‪ 228‬البقرة تلغي هذا الفهم المحرف‬ ‫بقصد\"‬‫فهي تقول \"‪ ..‬وَ َل ُه َّن مِ ْثلُ الَّذِي َعلَ ْي ِه َّن ِبا ْل َمعْ ُروفِ ۖ وَ ِلل َّرِ َجا ِل عَ َليْهِ َّن َدرَجَ ٌة ۖ وَاللَّ ُه عَزِي ٌز‬‫حَكِي ٌم (‪ .)228‬الدرجة تتعلق بما لهم ويناظرها ما عليهم لأن المقدمة هي \"النساء لهن‬ ‫مثل الذي عليهن\"‪ .‬فما لهن هو ما على الرجال وما عليهن هو ما للرجال‪.‬‬‫وهذا من أساليب القرآن في الإيجاز المبني على الثقة في عقل الإنسان‪ .‬لان أي مطلع على‬‫دلالة \"لهن مثل ما عليهن «يفهم أن القصد حقوقهن وواجباتهن‪ .‬وحقوق الرجل هي‬‫واجبات المرأة إزاءه وحقوق المرأة هي وجبات الرجل إزاءها فيكون التساوي‪ .‬ضمير‬ ‫الجملة هو ولهن على الرجال درجة‪.‬‬‫فتكون الدلالة العميقة في الآية‪ :‬كلاهما يبجل الثاني فيقدمه على نفسه في الحقوق من‬‫خلال المضاعفة في القيام بالواجبات معزة ومحبة في الثاني‪ .‬لكن عادات الجاهلية وخاصة‬‫خرافات الإسرائيليات حرفت جل تأويلات آيات القرآن الكريم حتى تبرر الشناعات المنافية‬ ‫حول المرأة التي هي الاصل كما بينا‪.‬‬‫فتكون القوامة خدمة وليست سلطة‪ .‬وهذا هو المعنى الذي يعنيني من القياس‪ :‬فالدولة‬‫أم والقيمين عليها في خدمتها وليسوا أصحاب سلطان يعلو عليها فيستخدمونها بدل خدمتها‪.‬‬‫وهي أصل الجماعة صوريا والجماعة أصلها ماديا بمعنى أنها تتكون من الجماعة لكنها هي‬ ‫التي تصورها بنظام الرعاية والحماية‪.‬‬‫وحتى عضويا فمساهمة المرأة في تجدد الأجيال أضعاف مضاعفة من مساهمة الرجل‪:‬‬‫يتساويان في مقومي كيان الأطفال (الحيوان والبويضة) لكنها تغذي الطفل من لحمها ودمها‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪16‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫تسع أشهر وإذا كانت تؤمن بالرضاعة الطبيعية فهي تغذيه من بدنها سنتين وتسعة أشهر‬ ‫ودورها الروحي أكبر‪.‬‬‫وكذلك بالنسبة إلى الدولة فهي الأم والقيمون عليها إذا لم يكونوا في خدمتها فهم‬‫مغتصبيها وليسوا محبيها بالمعنى الإيجابي للحب دون دلالته الجنسية بمعنى مطابقة القيم‬‫على الوظيفة لشرطي أدائها التقني والخلقي أي الأمانة والعدل‪ .‬دور الدولة الرعاية‬ ‫والحماية من القيمين عليها حتى الشرعي منهم‪.‬‬‫أعتقد أني قد استوفيت الغرض من المقارنة بين الجماليات وقلبها المرأة والسياسيات‬‫وقلبها الدولة من حيث علاقة الذوقي والمعرفي فيهما لأن السياسة وهذا هو سر عسر الكلام‬‫فيها وعليها أنها تجمع بين غاية الموضوعي في الكلام على الفعل السياسي الذي يجمع بين‬ ‫العقل العلمي والحدس الذوقي‪.‬‬‫فالغايات فيها كلها من طبيعة ذوقية والأدوات كلها من طبيعة علمية‪ .‬وهذا قانون اكتشفه‬‫ابن خلدون وإن كان غير واع به‪ .‬فاسم علمه يعني بقسمه الاول \"العمران البشري\" سد‬‫الحاجات المادية وبقسمه الثاني \"الاجتماع الإنساني\" سد الحاجات الروحية‪ .‬وهذه غايات‬ ‫وتلك أدوات‪.‬‬‫وسد الحاجات المادية للكيان العضوي قابلة للتحديد العلمي الدقيق لكن الحاجات‬‫الروحية للكيان النفسي ليست خارج مجال العلم لكن فيها ما يتعالى على مجاله كما رأينا في‬‫عين الرسام وأذن الموسيقار وأنف العطار ولسان الطاهي ومس اللامس‪ .‬وهذه كلها رمزها‬ ‫ما في المرأة من أسرار الوجود‪.‬‬‫ويبقى أن نبين أمرين أن هذه الأسرار موجودة كذلك في السياسة وفي الدولة على وجه‬‫الخصوص‪ .‬فلها بدن هو جغرافيتها ولها روح هو تاريخها ولفعل جغرافيتها في تاريخها ثمرة‬‫هي التراث ولفعل تاريخها في جغرافيتها ثمرة هي الثروة وأصل ذلك كله هو \"النفس‬ ‫الواحدة\" أو المرجعية الروحية للجماعة‪.‬‬‫ومن دون هذه الأبعاد الخمسة لا تكون الدولة دولة تشبه كيان الإنسان وخاصة كيان‬‫المرأة من حيث إن بدنها هو جغرافية الحياة وروحها هي تاريخ الحياة وأثر الأولى في الثاني‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪17‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫هو رعايتها للاستمرار الحياة وأثر الثاني في الاولى هو حمايتها لاستمرار الحياة وهي النفس‬ ‫الواحدة كما بينا‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪18‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫نعود إلى أسئلتنا‪ :‬خمسة أسئلة إذا أجبنا عنها تمكنا من القيام بما يناظر ما قام به ابن‬ ‫خلدون في تعريف علمه‪:‬‬ ‫‪ .1‬ما العمل الذي هو موضوع علم السياسية؟‬ ‫‪ .2‬كيف يكون علم؟‬ ‫‪ .3‬لسد أي نوع من الحاجات؟‬ ‫‪ .4‬من الفاعل؟‬ ‫‪ .5‬وكيف تتدخل مقومات الإنسان في فعله‪.‬‬ ‫ذلك هو التعريف الجامع المانع‪.‬‬‫جواب السؤل ‪ :1‬موضوع علم السياسة دور القوى السياسية في تمثيل الدولة المعبرة عن‬‫إرادة الامة عامة في إدارة شؤونها عامة فرض كفاية بمشاركة كل المواطنين في عملها‬ ‫ومراقبته فرض عين‪.‬‬‫جواب السؤال ‪ :2‬يكون علاج هذا الموضوع علما‪ :‬بدراسة مدى صدق التمثيل وفاعليته‬ ‫والعلاقة بين الفرضين‬‫جواب السؤال ‪ :3‬سد حاجات الرعاية التكوينية والتموينية والحماية الداخلية‬ ‫والخارجية أي تحقيق وظائف الدولة‪.‬‬‫جواب السؤال ‪ :4‬من الفاعل أو حقيقة القوى السياسية وكيف تفعل الأحزاب أو القبائل‬ ‫أو الطوائف‪.‬‬‫جواب السؤال ‪ :5‬فاعلية الدولة هي تناغم فاعلية مقومات الإنسان وكأنها شخص‬ ‫فيزيائي واحد‪.‬‬‫أجملت الأجوبة في عبارات وجيزة‪ .‬لكن شرحها ليس بالأمر الهين ولا اليسير‪ .‬وسنبدأ‬‫إذن بأصل هذه المقومات التي تجعل ما ستسده السياسة من الحاجات موضوع علم كما جعل‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪19‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫ابن خلدون سد الحاجات الإنسانية موضوع علم العمران البشري والاجتماع الإنساني وهنا‬ ‫أيضا الحاجات صنفان‪ :‬الرعاية والحماية‪.‬‬‫موضوع علم السياسة هو مستويا وظيفة الدولة أو دور القيمين عليها من القوى السياسية‬‫فرض كفاية بمشاركة كل الجماعة فرض عين‪ :‬الحماية الداخلية والخارجية والرعاية‬‫التكوينية والتموينية للإنسان‪ .‬والغاية من هذين الدورين هو تحقيق شروط القدرة على‬ ‫البقاء والتجدد الدائم في إطار النظام الدولي‪.‬‬‫والنظام الدولي ليس ظاهرة حديثة ومثله العولمة‪ .‬فكلاهما ليس جديدا إلا في مستوى‬‫البروز والطغيان لكن الحضارة كانت ولا تزال كونية دائما لأنها حصيلة ما في المعمورة من‬‫جماعات متواصلة ومتفاصلة في تقاسم جغرافيتها وثمرتها وتاريخها وثمرته ورؤى الوجود‬ ‫المتماثلة وظيفيا وإن تعددت صيغها‪.‬‬‫وشرح هذه المسألة متقدم على الأسئلة لأنها تبدو غريبة بل ومنافية لظاهر التاريخ‪.‬‬‫فالمعتاد هو توهم الحضارات كانت منعزلة وحولها جدران من جنس جدار الصين‪ .‬ولا‬‫يدرون أن بناء الجدران دليل على صحة ما أدعيه وليس العكس‪ .‬فما كان الصينيون‬ ‫يحتاجون لجدار لو كانت الحضارات جزائر منفصلة‪.‬‬‫فكلما رجعنا إلى بدايات التاريخ كلما كان التواصل أكثر سلما وحربا لأن شروط الحياة‬‫كانت تستمد مما تنتجه الطبيعة مباشرة وكان الجميع تقريبا رحلا طلبا لهذه الشروط‬‫بحسب الفصول طلبا للماء والكلأ تماما كما نرى البشر اليوم طلبا للمواد الأولية والطاقة‬ ‫وحتى الاسواق دون ترحال‪.‬‬‫ولهذه العلة كانت السياسة دائما ومنذ أن انتظمت الجماعات حتى في شكل قبائل تتواسع‬‫كلما حصل تبادل وتزاوج خارجي ذات وجهين داخلي وخارجي لكأن الداخلي تمتين لحمة‬‫الجماعة الواحدة لتكون قادرة على رعاية ذاتها وحمايتها من الجماعات الأخرى التي‬ ‫تقاسمها نفس الشروط الضرورية للقيام‪.‬‬‫واستقرار الحدود بين الشعوب والأم ظاهرة جديدة وهي قابلة للتغير بمجرد أن يتغير‬‫توازن القوة والقدرة بين الأمم وأحيانا تزيد الحدود في نفس الجماعة بالتفتت أو تنقص‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪20‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫بالتكتل في عملية وصفها ابن خلدون في كلامه على العصبيات تكتيلا أو تفتيتا لها كالأمواج‬ ‫التي يحدثها رمى الحصوات في بركة ماء‪.‬‬‫وبمعيار نظرية ابن خلدون التي قدمنا موجزها في الاستطراد الاول فإن دور الطبيعة‬‫يتناقص ودور الثقافة يتزايد بتقدم التاريخ الإنسان‪ .‬والبداية هي حصول الاستقرار حول‬‫المياه والشروع في الزراعة التي تغني عن الترحال طلبا لـ\"نحل العيش\" المعتمدة على منتج‬ ‫الطبيعة جنيا وعلى الكلأ والماء للأنعام‪.‬‬‫وبين العمران البدوي والعمران الحضري ‪-‬دون أن يتوقف الأول عند نشأة الثاني‪ -‬لا‬‫بد من نشأة الدول بالمعنى الذي هو موضوع بحثنا بمعنى أن الدولة من حيث النشأة سابقة‬‫على المدينة التي هي أساس العمران الحضري والبداية الحقيقية لوظيفتي السياسة‬ ‫النظامية وتكوين مؤسسات الحماية والرعاية‪.‬‬ ‫وأهم مؤسستين شارطتين للحماية والرعاية مؤسسات الانتخابين‪:‬‬‫الانتخاب الاول الذي يلازم تكوين الإنسان وتموينه حتى يكون للجماعة عامة والدولة‬‫خاصة شروط تقسيم العمل ويعتمد على المنظومة التربوية التي تحقق شرطي العمل على‬ ‫علم‪ :‬التكوين التقني والتكوين الخلقي شرطيه الضروريين والكافيين‪.‬‬‫ويليه مؤسسة الانتخاب الثاني‪ :‬وهو ملازم لمؤسسة الحكم التي تحتاج إلى انتخاب ثان‬‫ممن تم انتخابهم في الانتخاب الاول ليكونوا القيمين على وظيفتي الدولة حماية ورعاية‬‫ولكل منهما خمسة فروع كما بينا‪ .‬لكن الانتخاب الأول مخمس ومثله الانتخاب الثاني‪.‬‬ ‫وبهما تكون الجماعة \"خالقة\" لذاتها \"كاوزا سوي\"‪.‬‬‫فالانتخاب الأول الذي يقع في التربية بصنفيها النظامي في المؤسسات التربية وفي بقية‬‫المؤسسات المجتمعية ككل (كالأسرة والمعمل والنوادي والجمعيات) يحدث في اصناف النخب‬‫الخمسة‪ :‬في نخبة الإرادة ونخبة العلم ونخبة القدرة ونخبة الحياة ونخبة الوجود‪ .‬ففي كل‬ ‫واحدة منها يحصل انتخاب تراتبي‪.‬‬‫وفي المجتمعات التي يكون أهلها حريصين على شروط البقاء والتجدد بقيم الاستقلال‬‫وعدم التبعية يكون هذا الانتخاب الاول صارما بمعياري الكفاءة في الاختصاص والأخلاق‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪21‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫في ممارسته حتى تكون حصيلة الانتخاب المعين الذي يجري فيه الانتخاب الثاني بنفس‬ ‫الحرص‪ .‬وهو كذلك في المقومات الخمسة‪.‬‬‫فالدول التي تؤطر الجماعة في إدارة شؤونها وتنوبها في ما هو من مجال فروض الكفاية‬‫لا يمكنها أن تحقق الحماية والرعاية بالحكم بمعنى السلطة السياسية الممثلة لإرادة الأمة‬‫فحسب بل لا بد لها من سلطة العلم وسلطة القدرة وسلطة الحياة وسلطة الوجود حتى تكون‬ ‫أفعالها متناغمة في العمل على علم‬ ‫وإذن فالأساس هو مستويان من الانتخاب هما شرط السياسة وثمرتها في آن‪:‬‬‫‪ .1‬الانتخاب في تكوين الإنسان وتموينه لأداء كل الوظائف التي تسد حاجات‬ ‫الجماعة المادية والروحية (موضوع علم ابن خلدون)‪.‬‬‫‪ .2‬والانتخاب في حكم الإنسان أو لرعاية سد نوعي الحاجات ورعايتها‪ .‬ويمكن أن‬ ‫يكون الانتخابان بالعكس‪.‬‬‫وذلك هو أصل وهن الدول والأمم‪ .‬وهو نتيجة ما يسميه ابن خلدون \"فساد معاني‬‫الإنسانية\" إذ إن التربية والحكم بقلب الانتخاب طردا لمن يتصفون بالكفاءة والأخلاق‬‫وجذبا لمن يتصفون بعكسهما فيفسد العمل الذي يصبح على جهل فلا تسد الحاجات بصنفيها‬ ‫وذلك هو مفهوم \"العالة\"‪.‬‬‫ومن هنا تصبح قيم المقومات هي المدار‪ :‬فالإرادة حرة أو عبدة والعلم حق أو باطل‬‫والقدرة خيرة أو شريرة والحياة جميلة أو قبيحة والوجود جليل أو ذليل‪ .‬القيم الموجبة‬‫لا تتحقق إلا في الدول ذات السيادة التي يكون يؤمن مواطنوها ويعلمون بالحرية والحقيقة‬ ‫والخير والجمال والجلال‪.‬‬‫أما في الحالة التي تفسد فيها معاني الإنسان فالرعايا يؤمنون ويعلمون بالعكس تماما‪:‬‬‫العبودة والباطل والشر والقبح والذل‪ .‬ولست بحاجة لضرب أمثلة فيكفي القارئ أن يلتفت‬‫حوله ويرى ما يجري في بلادنا العربية وجل بلاد المسلمين‪ :‬الرعايا عبيد يسيطر عليهم‬ ‫الباطل والشر والقبح والذل‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪22‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫ولهذه العلة كانت ثورة الشباب بجنسيه ثورة روحية قبل أن تكون سياسية‪ :‬والدليل‬‫شعارها المستمد من بيتي الشابي وهو شعار يعيد النظر في علة كل هذه الصفات السلبية لأن‬‫سوء فهم القضاء والقدر جعل حياة الجماعة تربية وحكما تؤدي بالضرورة إلى وساطة‬ ‫ووصاية تفسدان معاني الإنسانية‪.‬‬‫ولهذه العلة فكل تحليل سياسي يزعمه صاحبه مبنيا على \"العلوم السياسية\" لا يحدد قوة‬‫الدولة والجماعة على نظام انتخابيها ليس سياسيا ولا علميا بل هو مبني على أحوال‬‫النفس‪ .‬فالمحلل لا يرى من الظاهرة السياسية إلى أحوال نفس حكامها وبطانتهم أو‬ ‫معارضيهم وليس في المحددات المؤثرة حقا‪.‬‬‫ومن هنا يغلب على هؤلاء المحللين الخطب الوعظي والإرادوي لكأن الأمر رهن أحوال‬‫النفوس وليس له علل عميقة تعود في غاية التحليل إلى نظامي الانتخاب لأن السياسة لا‬‫تعمل بعصا موسى بل بما تحققه النخب بتناعم أفعالها نخبة الإرادة والعلم والقدرة والحياة‬ ‫والوجود من نتائج فعليه في مجالها‪.‬‬‫وليكن مثالنا أي دولة غربية متقدمة أو حتى إسرائيل‪ :‬فالسياسي فيها (ممثلا للإرادة)‬‫يستطيع أن يريد واثقا من نفسه لأن نخبة العلم (البحث العلمي) ونخبة القدرة (الاقتصاد‬‫والثقافة) ونخبة الحياة (الفنانون) ونخبة الرؤى (الاستراتيجيون والفلاسفة ورجال‬ ‫الدين) كل في مجاله يجعل الإرادة قدرة‪.‬‬‫لكن حتى لو افترضنا ساسة ذوي إرادة قوية دون أن يكون كلامهم مطابقا لإنتاج علمي‬‫واقتصادي وثقافي وفني واستراتيجي يحول الإرادة إلى قدرة سياسية فعلية فإن إرادته لن‬‫تتجاوز الأقوال فتكون عنتريات عديمة المفعول الإيجابي ويرتد على الامة مفعولها السلبي‬ ‫أو العيش على وهم قدرة معدومة‪.‬‬‫وتلك هي علة غلبة الخطاب الإنشائي في الجماعات التي لم تحقق هذا التناغم بين‬‫الإرادة السياسية والخلقية والعلم الطبيعي والإنساني والقدرة المادية والرمزية والحياة‬‫الفنية والجمالية والوجود الرؤيوي الديني والفلسفي ويكون فعلها مجرد أقوال فتتحول‬ ‫إلى ظاهرة صوتية لا تؤثر في التاريخ‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪23‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫وإذا كان الموضوع كلام والتحليل كلام على كلام فلست أفهم حينئذ دلالة \"علوم سياسية\"‪.‬‬‫ولست أفهم خاصة الجمع في \"علوم\" ليس لأني أنفي أن السياسة هي ملتقى بالمعنى الذي‬‫عرفته لكثير من العلوم لكن علم السياسة ليس جملتها بل ملتقاها وتكون هي علوما مساعدة‬ ‫لعلم ملتقاها كما عرفناه سابقا‪.‬‬‫فالملتقى كان عند ابن خلدون \"سد \"الحاجات المادية (العمران البشري) والروحية‬‫(الاجتماع الإنساني) فتصحب كل العلوم التي تسهم في سد نوعي الحاجات علوما مساعدة‬‫وليست موضوع علمه بالقصد الاول بل هي ما لا بد منه وكأنها علوم آله بالنسبة إلى علمه‬ ‫الذي هو ثورة لم يسبق إليها‪.‬‬‫فتجاوز بذلك الفلسفة القديمة (اليونانية) والفلسفة الوسيطة (الإسلامية والمسيحية)‬‫فلم يبق من منتسبا إلى البارادايم الأرسطي الأفلاطوني بل إلى بارادايم جديد لم يصبح‬‫ممكنا إلا بعد تجاوز نظرية المعرفة القائلة بالمطابقة في موضوع هو من إبداع الإنسان بل‬ ‫هو عين \"إنتاج\" الإنسان لشروط قيامه‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪24‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫تقدمنا خطوات في تعريف \"ملتقى\" العلوم التي تؤدي دورا في السياسة لا يختلف عن الدور‬‫الذي تؤديه العلوم المساعدة في درس موضوع جديد تعد تلك العلوم أدوات في علمه وليس‬‫هي علومه‪ .‬وبذلك ننتقل من علوم بالجمع إلى علم بالمفرد فاعتبرناه \"سد\" حاجات وظيفتي‬ ‫الدولة أي الرعاية والحماية بفروعهما‪.‬‬‫ثم خطونا خطوة أهم وهي سد حاجات الانتخابين الذي يتحقق بالتربية تكوينا وتموينا‬‫للإنسان بحسب كل التخصصات التي تحتاج إليها الجماعة في تقسيم العمل وبالحكم حماية‬‫داخلية وحماية خارجية للإنسان بحسب وظائف الدولة التي تكون بمن يشعلها قيمة فرض‬ ‫كفاية بمساهمة الجماعة ورقابتها فرض عين‪.‬‬‫ثم تقدمنا خطوة ثالثة لما حصرنا محالات الانتخابين بالاعتماد على نظرية تصنيف النخب‬‫فبينا أن هذا الانتخاب مبني على مقومات الإنسان التي هي في آن مكونات الجماعة ومكونات‬‫الدولة من حيث هي ممثلة للجماعة في كل أفعالها‪ :‬نخبة الإرادة ونخبة العلم ونخبة القدرة‬ ‫ونخبة الحياة ونخبة الوجود‪.‬‬‫ثم تقدمنا خطوة رابعة عندما بينا أن الدولة تكون شرعية وصالحة عندما تحقق المطلب‬‫الاساس في كل جماعة وهو شروط البقاء الحر والسيد وذلك بمعيار قيم المقومات الموجبة‬‫وبينا أن هذه القيم هي الحرية والحقيقة والخير والجمال والجلال ويمكن أن تنعكس بفساد‬ ‫الدولة والجماعة فيعملان بسوالبها‪.‬‬‫وقبل أن نصل إلى الخطوة الخامسة لا بد من وضع أهم سؤال لم نضعه إلى حد الآن‬‫وهو يتعلق بدور الانتخابين في مفهوم الدولة المطابقة لطبيعة وظائفها أو لفضيلتها بالمصطلح‬‫الفلسفي أي ما من دونه لا تسمى دولة‪ .‬وسأنطلق في الجواب من مقولة شهيرة \"الشخص‬ ‫المناسب\" رجلا أو امرأة\" في المكان المناسب\"‪.‬‬ ‫فهذه \"الحكمة\" إن صح التعبير فيها الكثير من المضمرات‪:‬‬ ‫‪ .1‬من يضع؟‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪25‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪ .2‬من الشخص المناسب؟‬ ‫‪ .3‬وما المكان المناسب؟‬ ‫‪ .4‬وما الشيء الذي تتحدد فيه الأماكن المناسبة‬‫‪ .5‬وما علاقة الأماكن المناسبة في الانتخاب الأول بالتي في الانتخاب الثاني‪ .‬وفي ذلك‬ ‫معضلتا الجماعة والدولة في كل زمان ومكان‪.‬‬ ‫فأما المعضلة الأولى فهي ازدواج كيان الدولة‪:‬‬‫‪ .1‬فهي من جهة أولى نظام أماكن أو خانات وظيفية أو مؤسسات تناسب بنظامها سد‬ ‫الحاجات التي لأجلها انشئت الدول‪.‬‬‫‪ .2‬وهي من جهة ثانية قيمون يملؤون تلك الخانات او الأماكن معياره أن يكونوا‬ ‫مناسبين للوظائف التي تؤديها تلك الخانات أو المؤسسات‪.‬‬‫والتناسب الأول تقني خالص لأن الدولة حينها تكون بنية مجردة خالية من قيمين عليها‬‫وهي تمثل بتناغم خاناتها بنية النظام المؤسسي الذي \"يصنع\" بالإرادة المشرعة ليكون مناسبا‬‫للوظائف الدولة التي تسد حاجتي الرعاية والحماية‪ .‬والثاني يضيف إليه الكفاءة‬ ‫والأخلاق شرطين لمن يملأها من القيمين عليها‪.‬‬‫وأما المعضلة الثانية فهي الانتظام الذاتي بمعنى أن الجماعات وخاصة دولها ذات خلق‬‫وانتظام ذاتيين \"كوازا سوي\" علة ذاتها‪ .‬فالعمليتان المتمثلتان في \"خلق\" جهاز الدولة‬‫المؤسسي من حيث هو نظام مؤسسي يحقق عند ملئه وظائف الدولة وفي ملئها بمن يناسبها‬ ‫كلتاهما خلق مستمر من الجماعة نفسها‪.‬‬‫وهكذا نجد أن الأسئلة التي وضعناها انطلاقا من عبارة \"الشخص المناسب في المكان‬‫المناسب\" واستخرجنا ضمائرها لم يبق فيها بغير تحديد إلى ما نعتره الخطوة الأخيرة في‬‫تحديد موضوعنا‪ :‬سؤال من يضع الرجل المناسب في المكان المناسب بالمعاني التي عرفناها في‬ ‫ما تقدم؟‬‫وطبعا لا يمكن أن نجيب عن سؤال \"من يضع\" من دون أن نحدد كيف يكون ذلك الوضع‬‫ومن أين يأتي الواضعون الذين يبدون وكأنهم يمثلون أصل الانتخابين الأول بالتربية‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪26‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫ويتعلق بوظائف الإنسان في تقسيم العمل في الجماعة والثاني بالحكم ويتعلق بوظائف‬ ‫الحماية والرعاية في كل جماعة (الدولة)‪.‬‬‫وهذا السؤال الذي يبدو مجرد مسألة سياسية متعلقة بمن ينتخب وكيف ينتخب من يناسب‬‫المكان المناسب في الجماعة أولا وفي الدولة التي تمثلها ثانيا هو من أهم مسائل نظرية العلم‬‫(الابستمولوجيا) ونظرية القيم (الأكسيولوجيا) وهو أهم خلاف بين أفلاطون وارسطو‬ ‫قديما وبين كنط وهيجل حديثا‪.‬‬‫وحتى لا أبتعد كثيرا سأكتفي بكنط وهيجل وطبيعة العلاقة بينهما لا تختلف كثيرا عن‬‫طبيعة العلاقة بين أفلاطون وأرسطو في هذه القضية‪ .‬كان هيجل يهزأ من أساس النقد‬‫الكنطي أعني من سؤاله عن المعرفة العلمية وشروط إمكانها وصحتها وحدودها من دون‬ ‫تعيين موضوع معين أي المعرفة بإطلاق‪.‬‬‫ومن الواضح أن اعتراض هيجل وحتى سخريته لا تعبر عن موقف صادق تماما كموقف‬‫أرسطو من أفلاطون عندما يسخر من نظرية التذكر ونظرية المثل المفارقة الافلاطونيتين‪.‬‬‫فهيجل يقول كنط ما لم يقله‪ .‬فكنط لم يزعم أن من ينقد المعرفة العلمية ليس ممن بلغ‬ ‫الغاية في علم الأشياء وكأنه يبدأ النقد من عدم‬‫فما ينطلق منه كنط هو حصيلة الممارسة العلمية السابقة التي يتم خلالها اكتشاف ما في‬‫معرفة علمية من قبليات ليست صادرة عن التجربة بل هي شروط حصولها‪ .‬والقبلي عند‬‫كنط هو معنى ما يتذكره الإنسان بوصفه بلغة ديكارت أفكارا فطرية (‪Idées innées‬‬ ‫)‪ :‬سقراط يساعد العبد في تذكر ما لديه من فطري‪.‬‬‫وما لدى العبد من فطري لا يمكن للعبد أن يتذكره من دون سقراط في دور القابلة التي‬‫تساعد العبد على \"الوضع\" بمعنى وضع الحامل لما تحمل بأيدي القابلة‪ .‬والقوابل في حالتنا‬‫هم من صاروا في أصناف النخب من اعترفت لهم الجماعة بكونهم يمثلون زبدة الانتخابين‬ ‫في مجال الاختصاص‪.‬‬‫ويحق لنا الآن أن نخطو الخطوة الخامسة‪ :‬فلنسم هؤلاء الذين يعترف لهم كل نوع من‬‫النخب الخمس بأنهم أفضل ما أفرزه الانتخابان في مجالهم أي في الإرادة والعلم والقدرة‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪27‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫والحياة والوجود بما يمكن تسميته بسقراط المجال أي قابلة الاجيال فيه فيكون لكل دولة‬ ‫مهما كانت متخلفة حقا أو وهما خمس قوابل‪.‬‬‫فالقابلة في نخبة الإرادة هي من يعتبره ممثلو الأمة في المجال الأدرى بقبليات الإرادة أي‬‫بشروط إمكانها وصحتها وحدودها‪ .‬والقابلة في نخبة العلم هي من يعتبره ممثلو الأمة في‬‫المجال الأدرى بقبليات العلم أي بشروط إمكانه وصحته وحدوده‪ .‬وهلم جرا في بقية‬ ‫المقومات القدرة والحياة والوجود‪.‬‬‫وليس لهؤلاء القوابل سلطان فعلي على المجال وأهله بل سلطانهم رمزي ومعنوي وهو ما‬‫به يميز ابن خلدون بين مفهوم \"الرئاسة\" ومفهوم السيادة‪ .‬فالرئاسة سلطان معنوي يجعل‬‫الجماعة هي التي تضفيه على صاحبه والسيادة سلطان مادي يفرض نفسه على الجماعة‪.‬‬ ‫فيكون أساس شرعية الدول هو هذا السلطان المعنوي‪.‬‬‫ذلك أن الدولة نفسها حتى وإن كانت بحاجة إلى الشوكة فإن الشوكة مهما كانت متحوشة‬‫لن تضمن لها البقاء ولا خاصة السلام فتكون من ثم كما وصف ابن خلدون العصبية مفضية‬‫للهرج لأنها شوكة أو عنف أعمى خالية من شروط الشرعية وأهمها هي هذه الرئاسات‬ ‫الخمس أو القوابل السقراطية الخمس‪.‬‬‫وبعبارة وجيزة يمكن القول إن العرب اليوم ليس لهم هذه القوابل السقراطية‪ .‬لذلك‬‫فالحابل مختلط بالنابل‪ .‬لم تتمايز المجالات والجماعات الجزئية التي لها رئاسات في مجالها‬‫تعترف بها دون أن يكون لهم سلطان مادي على أحد هم رئاسات معنوية تمثل الوعي بقبليات‬ ‫المجال لبلوغهم الغاية فيه في عصرهم‬‫ويمكن القول إن هؤلاء السقراطات الخمسة هم أصحاب الرؤى التي تهتدي بها الجماعات‬‫والدول في تحقيق مقومي المحافظة على الكيان تقوية وتجديدا أي الرعاية والحماية‪ .‬ذلك‬‫أن الدولة كيان معنوي حتى وإن كان يتعين في جهاز مؤسسي يملأه أشخاص بمعيار المناسبة‬ ‫في الكفاءة والخلق‪.‬‬‫وفي الجماعات التي لها هذه الرئاسات المعنوية أو القوابل السقراطية لا خوف عليها حتى‬‫إذا حصل خلل ظرفي في إحدى وظائف الدولة ‪-‬كالحال في أمريكا الآن بنجاح ترومب في‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪28‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫الرئاسة‪-‬لأن لها حروز ضد الخلل الجزئي بخلاف دولنا‪ :‬فلا فرق بين مراهق السعودية‬ ‫وترومب‪ .‬لكن الأول طامة لغياب الحروز‪.‬‬‫وما يصح على مثال ترومب في أمريكا يصح على كل \"ترومب\" ممكن في أي بلد غربي لأن‬‫مجتمعاتهم لها القوابل السقراطية في كل مجالات الاختصاص التي يمكن تصنفيها بنفس‬‫المعيار الذي صنفنا به النخب فتكون الاختصاصات اللامتناهية مردودة إلى الأصول الخمسة‬ ‫التي تصنف بها القابلات السقراطية‪.‬‬‫وما يصح على مراهق السعودية يصح على كل بلاد العرب من الماء إلى الماء بل وعلى جل‬‫بلاد المسلمين لأنها فاقدة للقوابل السقراطية وكل شيء فيها لا رئيس فيه بسبب الحابل‬‫والنابل أو الهرج بالمعنى الخلدوني الي يعم كل محالات الأنشطة والعمل اذ لا شيء فيها‬ ‫يعتبر عملا على علم‪.‬‬‫وما زاد الطين بلة هو التقدم التقني وخاصة في مجال التواصل‪ .‬ففيه بتوسط التويتر‬‫الفايس بوك إلخ‪ ..‬يكاد الجميع يدعي العلم اللدني لكأنهم يولدون علماء دون حاجة‬‫للتعلم الرصين والصبور والمديد حتى إن الإنسان اليوم يمكن أن يكتب الدكتوراه في أسبوع‬ ‫استنادا إلى شيخه \"جوجل\"‪.‬‬‫وفي هذه الحالة يغيب الشرطان‪ :‬النضوج الضروري بممارسة المجال والانتخاب الأمين في‬‫المستويين الأولين بالتربية وبالحكم‪ .‬والمجتمعات التي فيها الرئاسات الخمس بما يطابق‬‫القوابل السقراطية كل خلل في أي منها قابل للتدارك بفضل هذه القوابل‪ .‬لكن غيابها‬ ‫يجعل الانتخابين ينقلبان إلى العكس‬‫وسأضرب مثالين وأبدأ بتونس‪ :‬في عهد بورقيبة مهما قيل فيه كان النظام التربوي في‬‫تونس من أفضل الأنظمة حتى إننا كنا لما نذهب لإتمام الدراسة في فرنسا لا نجد فرقا يذكر‬ ‫بين مستوانا المعرفي والمنهجي ومستوى زملائنا من نخب فرنسا في مجال الاختصاص‪.‬‬‫والمثال الثاني ليس من التعليم بل من السياسة‪ .‬فعندما أنظر في طبيعة البطانة السياسية‬‫في حكومات الثورة المضادة لا أرى إلا مراهقين عابثين جعلوا السياسة العربية معارك أطفال‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪29‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫في الاحياء ويسمون هؤلاء مستشارين وهم أقصى ما يعلمونه قد لا يتجاوز خرافات مربياتهم‬ ‫المستوردات من آسيا‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪30‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫تمكنا بفصل هذه الخطوات الخمس من تحديد النقطة التي هي موضوع علم السياسة‬‫وأصبح بوسعنا أن نتكلم على علم السياسية وليس علوم السياسة‪ .‬فعلم السياسة بالقصد‬‫الأول ليس مجرد ملتقى علوم بل هو علم قائم بذاته مثلما أن علم ابن خلدون علم قائم‬ ‫بذاته رغم كونه نقطة لقاء علوم عديدة دورها فيه أداتي؟‬‫ومثلما أن علم العمران البشري والاجتماع الإنساني موضوعه الذاتي \"سد\" الحاجات‬‫بمستواها المادي (العمران البشري) وبمستواها الروحي (الاجتماع الإنساني) فإن‬‫السياسة‪-‬وهي من بين العلوم المساعدة في علم ابن خلدون ‪-Science auxiliaire‬‬ ‫موضوعها وظيفتي الدولة أي سد حاجات الرعاية أولا والحماية ثانيا‪.‬‬‫ويمكن الجمع بين المقومين هذين الرعاية والحماية فيم مفهوم واحد هو السيادة‪.‬‬‫موضوع علم السياسة الواحد هو السيادة وقد جمعتها الآية ‪ 60‬من الأنفال‪ .‬فهي رمزت‬‫إلى الرعاية بشرطها الأداتي القوة عامة أو رمزت إلى الحماية بشرطها الأداتي رباط‬ ‫الخيل‪ .‬ورمزت إليهما قريش بكناية البعض على الكل‪.‬‬‫وكما رمزت الأنفال ‪ 60‬بكناية العلة على المعلول رمز الأداة على ما هي أداة له القوة‬‫عامة للرعاية والقوة العسكرية للحماية رمزت قريش بكناية البعض على الكل رمز الغاية‬‫على ما هي غايته لأن الطعام هو اساس القوة العضوية والأمن هو أساس القوة الروحية أو‬ ‫عدم الخوف‪.‬‬‫فيكون موضوع علم ابن خلدون الواحد من شروط موضوعنا علمنا الواحد‪ :‬فمن دون سد‬‫الحاجات المادية (العمران) وسد الحاجات الروحية (الاجتماع) لا يمكن للدولة الممثلة‬‫لإرادة الجماعة وعلمها وقدرتها وحياتها ووجودها أن تكون دولة أصلا لأنها تصبح تابعة‬ ‫في الرعاية والحماية‪.‬‬‫ومن يفقد احداهما يفقد الثانية حتما‪ .‬فقد يظن أن \"أغنياء العرب\" لهم القدرة على‬‫الرعاية رغم قصورهم في الحماية وأن \"فقراء العرب\" لهم القدرة على الحماية رغم‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪31‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫قصورهم في الرعاية‪ .‬وكلاهما عاجز في كلتا الوظيفتين‪ .‬فأغنياء العرب لا يقلون فقرا من‬ ‫فقرائهم لأن ثروتهم الطبيعية ليست ملكا لهم‪.‬‬‫وهذا المعنى كان مسكوتا عنه قبل ترومب‪ .‬لكن ترومب صدقهم القول عندما قال لهم إن‬‫لم نأخذ منها كل ما نحتاج إليه كما نريد ‪-‬جزية‪-‬فنحن نتخلى عنكم أو نحتلكم صراحة لأن‬‫\"دولكم\" ليست دولا بل هي محميات ويمكن أن تتساقط كأوراق الخريف لو تخلينا عنكم‪.‬‬ ‫هذا من حيث علاقة الحماية بشرط الرعاية‪.‬‬‫فالرعاية شرطها ملك الثروة وفاقد الحماية لا يملك شيئا إلا في الظاهر بل المالك‬‫الحقيقي هو الحامي‪ .‬وظاهر الملكية في البلاد العاجزة عن الحماية هو لإخفاء الاستعمار‬‫غير المباشر وحاجته لعملاء يكونوا عسسا على ملكيته الخفية ويسمح لهم بأن يكونوا‬ ‫فضاضا غلاظا على شعوبهم عبيدا لهم وله‪.‬‬‫أما المعنى الجلي الذي لا يمكن إخفاؤه فهو مضاعف‪ :‬اكتشاف الثروة وانتاجها استخراجا‬‫وتحويلا بيده الحامي وشركاته وثمراتها أو المدخول الناتج عنها في بنوكه ويمكنه أن‬‫يجمدها متى ما شاء فتصبح الثروة المزعومة قيدا مطلقا على من هم \"أصحابها\" بالاسم لأن‬ ‫الحامي لا يعترف لهم إلا بالحياة النباتية‪.‬‬‫وإذن فموضوع علم السياسة هو الرعاية والحماية شرطي السيادة أو هو السيادة نفسها‬‫متعينة في الغاية والوسيلة لما تقوم به الجماعة من الأعمال على علم لتحافظ على بقائها‬‫وتنميته وتجديده الدائم‪ .‬والجماعة تحتاج إلى أداة تعبر عن ارادتها الجماعية وعلمها‬ ‫وقدرتها وحياتها ووجودها‪ :‬الدولة السيدة‪.‬‬‫قياسا على الفرد الذي يرعى ويحمي كيانه العضوي (البدن)وكيانه المعنوي (الروح)‬‫فإن للجماعة كيان بدني هو جغرافيتها أو ما يشغله عمرانها ومنه ثروتها شرط قيامها المادي‬‫وكيان معنوي هو تاريخها أو أفعال سكانها ومنه تراثها شرط قيامها الروحي‪ .‬وهذا هو ما‬ ‫ترعاه الجماعة وتحميه بدولتها السيدة‪.‬‬‫لكن الرعاية والحماية لا ينبغي أن تبقيا مفهومين غامضين لا يقبلان التحديد الكوني‬‫بمعنى التحديد الذي يبين أنهما عين الأعمال التي تقوم بها الدولة باسم الجماعة على‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪32‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫علم‪ .‬الدلالة هي منظومة المؤسسات التي تؤدي هذه الوظيفة من حيث هي خانات خالية‬ ‫بمن تملؤ بقيمين عليها ذوي كفاءة وخلق‪.‬‬‫لكنها قد تملؤ بقيمين ليست لهم الكفاءة والخلق وهو ما يعني أن الانتخابين اللذين تكلمنا‬‫عليهما قد عكسا فأصبحا دليلا على فساد الدولة والجماعة‪ .‬فساد الدولة حتى وإن بدا علة‬‫لفساد الجماعة فإن الحقيقة هي العكس‪ :‬وذلك هو مبدأ كيفما تكونون يولى عليكم‪ .‬فالعلة‬ ‫هي تخلي الجماعة عن دورها‬‫فالدولة التي تنوب الجماعة لا تعمل لوحدها إلى كفرض كفاية وهي بحاجة دائمة‬‫لفرض العين الذي يتمثل في مساهمة صاحب الامر مساهمة في عمل من ملئت به خانات‬‫الدولة أو مؤسساتها هي فرض عين وهي المعنى الأصيل للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‬ ‫بمعنى المراقبة الدائمة للقيمين المباشرين فرض كفاية‪.‬‬‫ومعنى ذلك أن ما كان للسيسي وبشار ومراهقي المحميتين اللتين تقودان الثورة المضادة‬‫باسم حاميهم ومستشاريهم منه الذين صاروا مكشوفين بخلاف ما كان مخفيا عند من سبقهم‬‫في نفس المهمة ما كانوا ليطغوا ويستبدوا كمافيات إجرامية لولا فساد نخب الإرادة والعلم‬ ‫والقدرة والحياة والوجود وتواطؤهم‪.‬‬‫وهذا الفساد ينخر وظائف الرعاية والحماية‪ .‬وسأبدأ بالحماية التي تصبح وظائفها‬‫معكوسة تماما في مثل هذه الحالة‪ :‬فالحماية الداخلية هي القضاء والامن وفسادهما يعني‬‫انعكاس وظائفهما إذ يصبحان ممثلين للظلم وعدم الأمن في الداخل ويصبح الفساد فاشيا‬ ‫فيهما عماده رشوة القوي واضطهاد الضعيف‪.‬‬‫فتنهار منظومة الحقوق والقوانين وتصبح أقل من الحبر على الورق لأن الشرطي يصبح‬‫أداة الاضطهاد والقاضي أداة التبرير‪ .‬وبهذا المعنى فالذروة تتحقق عندما يتحول الدين‬‫أداة تبرير تجاوزات القيمين على الدولة وتحويلها إلى أداة استعباد واذلال لشعبها‪ .‬والعلة‬ ‫هي غيبوبة الشعب وتواطؤ النخب‪.‬‬‫هذا في الداخل فلنأت الآن على الحماية في الخارج‪ .‬فالدفاع للخارج مثل الامن للداخل‬‫والدبلوماسية للخارج مثل القضاء للداخل ينعكس دورهما‪ .‬لن يكون دورهما حماية‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪33‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫الداخل من الخارج بل العكس خدمة الخارج ضد الداخل والدليل بين للعيان في كل بلاد‬ ‫العرب وإن كان شديد الجلاء في مصر وسوريا خاصة‪.‬‬‫فالجيش يصبح رديفا لجهاز الأمن في الداخل لاضطهاد العشب أكثر من الاستعمار نفسه‬‫لأنه خدمه والدبلوماسية تصبح وظيفتها خدمة النظام البوليسي وتلميع صورته ولا وظيفة‬‫لها غير ذلك لأنها لا ترى لشعوبها أهدافا أو مصالح تدافع عنها المهم الدفاع عن المستبد‬ ‫والفساد وترضية الحامي‪.‬‬‫لكن كل هذه الأدواء تبلغ ذراها في الجهاز العصبي لهذه الوظائف أعني نظام الاستعلام‬‫والإعلام أو المخابرات التي بدلا من أن تكون العين الساهرة على الأمن الحماية الداخلية‬‫والحماية الخارجية تتحول إلى العين الساهرة على جعل البلاد مستباحة لمخابرات الأعداء‬ ‫استعلاما ولاستراتيجيتهم إعلاما‪.‬‬‫ولذلك فأنت تجد الأعداء أحرص الناس على حماية هذه الأنظمة لأنها تمول حماية‬‫مصالحها من دم الشعوب التي تغزوها بأبنائها وبتمويل من شعوبها‪ .‬فالشعب المصري‬‫والشعب السوري يمول جيشا ودبلوماسية ومخابرات واعلام كلها في خدمة النظام الخادم‬ ‫وفي خدمة الاعداء بتوسطه بل ومباشرة‪.‬‬‫وما أقوله على مصر وسوريا ليس مقصورا عليهما حتى وإن بدوا المثالين الأبرز حاليا بل‬‫إن ذلك وإن بدرجات مختلفة يعم كل الحمايات الخارجية في كل بلاد العرب والمسلمين‪ .‬وما‬‫مثال الانقلاب الفاشل في تركيا إلى دليل على اكتشاف النظام ذلك في الوقت المناسب‬ ‫والتمكن منه‪.‬‬‫فتفهم حينئذ كيف أن الدول العربية لا يمكن أن تربح أي حرب تخوضها لأن أداة الحرب‬‫سواء كان لطيفة أو عنيفة منعدمة تماما فما من شيء \"يخطط\" له النظام العربي حتى لو‬‫فرضنا أنه يخطط يعلمه الأعداء ربما قبل أصحاب القرار في مطبخ القرار إن كان للدولة‬ ‫حقا قرار وليست تنفذ ما تؤمر به من خارج‪.‬‬‫وكلنا يعلم أن القمم العربية في جلساتها المغلقة كانت تصل أول بأول إلى إسرائيل‬‫وأمريكا من الزعماء رغم أن امريكا وإسرائيل تعلم أن هذه القمم لا يتجاوز القرار فيها‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪34‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫الكلام وليس الأفعال إذ لا قرار لتابع وإرادة لمحمي ولا علم ولا قدرة ولا حياة ولا وجود‬ ‫لمن هم دون القرود‪.‬‬‫ولست غافلا على أني بمثل هذا الكلام قد أبدوا شديد التطرف في الأحكام‪ .‬ولكن أي‬‫منصف يعلم امرين‪ :‬أن وصفي بالغ الموضوعية وأن بشاعة ما يقع لا يمكن لأي وصف مهما‬‫غالى أن بطابقها بل يبقى دونها بكثير‪ .‬ففي تونس مثلا عندنا أكثر من ‪ 200‬حزب وآلاف‬ ‫الجمعيات وهي كلها تتاجر بدكاكينها‪.‬‬‫فما الذي يجعل الدول الاستعمارية وإسرائيل وإيران ودول الثورة المضادة تمول هذه‬‫الدكاكين و\"جمعيات المجتمع المدني\" هل كل ذلك لوجه الله وخدمة للإنسانية أم هي عمليات‬‫مربحة للاستعلامات التي لو اعتمدوا على أعوان منهم لكلفهم ذلك أضعاف أضعاف الفتات‬ ‫التي يغذون به الخيانة والعمالة؟‬‫لكن الأهم من ذلك هو ما الذي يجعل القيمين على \"دولنا\" يتحولون إلى أعوان تيسير‬‫استباحة الجماعة التي من المفروض أن يكونوا ساهرين على حمايتها ورعايتها فيصبح‬‫دورهم عكس ذلك تماما أي شبه أدلا سياحة في كل نقاط ضعف الأمة ليسيروا استعبادها‬ ‫وجعلها ذليلة يتاجر بها أفسد نخبها؟‬‫هل كان ذلك يكون كذلك لولا فساد نظامي الانتخاب الأول في مستوى التأهيل التربوي‬‫كفائيا (التمكن من اختصاص معين في نظام تقسيم العمل) وخلقيا (القيم الأساسية للإنسان‬‫كإنسان وله كمواطن له غيرة على بلده) وفي مستوى التأهيل للمشاركة في ملء خانات‬ ‫الدولة والحكم الرشيد؟‬‫وجمعا لغاية التأهيلين ما الذي جعل الأمة في جل أقطار دارها تفقد المناعة المادية‬‫والروحية فتصبح مستباحة بأيدي أبنائها الذين صار أغلبهم يقدم العاجل على الآجل‬‫وأدنى المصالح الشخصية على أسمى المصالح الوطنية حتى صارت جل النخب مجرد سماسرة‬ ‫بأمن البلاد وسلامتها من أجل الروبافيكيا؟‬‫لما أردت أن أعالج موضوع \"علم السياسة\" لم يكن قصدي الاقتصار على تشوهات من‬‫يحللون الأحداث اليومية في بلادنا وفي العالم تحت مسمى \"علوم السياسة\" بل كان الهدف‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪35‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫بيان الموضوع الذي يدرسه علم السياسة ليس للتحليل الإعلامي فحسب بل لمعرفة مقومات‬ ‫الدولة وطبيعة العلاج السياسي لشؤون الإنسان‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪36‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫ولنأت الآن إلى الوظيفة الثانية وفروعها وهي في الحقيقة الوظيفة الاولى أعني وظيفة‬‫الرعاية وفروعها لكننا أخرناها وقدمنا وظيفة الحماية لأننا أردنا أن نبين نتائج عدم‬‫وجودها أولا وفساد الانتخاب فيها ثانيا وهما أمران يثبتهما ما يحل بالحماية الداخلية‬ ‫الخارجية مما وصفنا من الأدواء‪.‬‬‫ذلك أن ذهاب المناعة في الأمم يتبين من فساد وظيفة الحماية في دولتهم التي تحمي‬‫الكيان في الداخل ليكون العيش المشترك سلميا وأخويا بمبدأي الأمانة والعدل وفي الخارج‬‫بمبدأي السيادة أي الحماية الرادعة كما تبينها الأنفال ‪ 60‬من حيث الأدوات برمزي‬ ‫الأدوات وقريش برمزي الغايات الغذاء والامن‪.‬‬‫وكما رأينا عناصر وظيفة الحماية فلنر عناصر وظيفة الرعاية التي هي الغاية الأولى‬‫من وجود الجماعة والتي تحتاج إلى الحماية التي هي الأداة الأولى للمحافظة على وجود‬‫الجماعة‪ .‬والغاية الأسمى هي شرط حرية الإرادة وحقيقة العلم وخيرية القدرة وجمال‬ ‫الحياة وجلال الوجود أي كون الإنسان إنسانا‪.‬‬‫فمن دون الرعاية يفقد الإنسان \"معاني الإنسانية\" التي تفسد لأن فقدانها يلغي حرية‬‫الإرادة وحقيقة العلم وخير القدرة وجمال الحياة وجلال الوجود فتفسد معاني الإنسانية‬‫لأن الإنسان يصبح عبدا وجاهلا وشريرا وقبيحا وذليلا كما يصفه ابن خلدون الأفراد‬ ‫والجماعات التي استعبدت بعنف التربية والحكم‪.‬‬‫ولست مغاليا إذا قلت إن وضع العرب خاصة والمسلمين عامة منذ ‪ 14‬قرنا ‪-‬مباشرة بعد‬‫الفتنة الكبرى والانقلاب الدستوري ببعديه تربية وحكما‪-‬يطابق هذا الوصف الخلدوني‬‫لمفهوم \"فساد معاني الإنسانية\" وصيرورة الأمة عالة‪ .‬فمجرد البقاء المادي حتى في أزهى‬ ‫العهود ليس دليلا على تحقق قيم الإسلام‪.‬‬‫وتخصيصي العرب من بين المسلمين لأنهم الآن في أسوأ حال ويكفي أن ترى ما يحدث في‬‫الخليج العربي الذي استبعد كل أفاضله من نوعي نخبه التأصيلية والتحديثية واستبد به‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪37‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫الأنذال من العملاء حتى بت أعجب من هذا المستوى من التردي الذي أعاد العرب لنذالة‬ ‫التناهش القبلي قبل الإسلام وسفالته‪.‬‬‫ولو لم أكن أعلم أن الخليج فيه من الرجال والنساء من هم في مستوى عالمي دراية بما‬‫يجري في العالم وفهما لمصالح شعوبهم لكنهم لسوء الحظ مستبعدون من مافيات لا تقل بشاعة‬‫عن التي عرفناها في تونس ولا زلنا نعاني منها ومن ثم فأنا لا اعد الذباب والكلاب النابحة‬ ‫ضد ما أكتب ممثلين للسعودية‪.‬‬‫وهم ليسوا بدعا فعندنا في تونس من هم أسفل منهم وأرذل وخاصة بين يتامى اليسار‬‫والقومية‪ .‬إنما هم طبالة لا يعلمون شيئا أو هم منافقون مستعدون لبيع كل شيء من أجل‬‫قنينة خمر أو حتى \"كسكروت\" لفرط ما أخلدوا إلى الأرض يلهثون لهيث الكلاب حتى لو‬ ‫لم يحمل عليهم أحد‪ .‬وذكرهم لكونهم من أعراض المرض‪.‬‬‫وذكر هذه الأمثلة التي يراها القراء من حولهم هدفه المساعدة على الوصل بين البحث‬‫النظري الذي أقدمه وأعيان من الظاهرات التي يريد فهمها وتحليلها بوصفها من تعينات‬‫الأمراض الاجتماعية التي تنتج عن فساد سياسات التربية والحكم في بلاد العرب التي هي‬ ‫همنا الأول ولكن من منظور كوني‪.‬‬‫ولنعد الآن إلى الكلام على وظيفة الرعاية‪ .‬وأبدأ بالرعاية التكوينية التي هي في آن‬‫مجال الانتخاب الأول أعني خلال تكوين الاجيال وتأهيلها فنيا وخلقيا لدورها في تقسيم‬‫العمل على علم في الجماعة‪ .‬والتكوين بهذا المعنى يقع في منظومة المؤسسات التربوية‬ ‫النظامية في المجتمع ككل‪.‬‬‫ويمكن القول إن التربية في المجتمع ككل‪-‬من الأسرة إلى الموقع في تقسيم العمل‪-‬هي في‬‫محل التجربة للنظرية العلمية‪ .‬ومعنى ذلك أن خريج مؤسسات المنظومة التربوية النظامية‬‫يمتحن أو يختبر تكوينه الفني والخلقي في الممارسة العملية بداية من حياته الاسرية وغاية‬ ‫إلى حياته المهنية في تقسيم العمل‪.‬‬‫ولذلك فالانتخاب الأول والأساسي له مستويان‪ :‬تكوين \"نظري\" أو نسقي في المؤسسات‬‫التربوية وامتحان عملي لهذا المستوى الاول من الانتخاب في الممارسة الفعلية بوصفها عملا‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪38‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫على علم بما حصله الخريج من تكوين في المنظومة التعليمية‪ .‬والغريب أن أغلب ساسة‬ ‫العرب من الفاشلين في هذين المستويين‪.‬‬‫وإذن فالرعاية التكوينية مؤلفة من نظامين مؤسسين هما المنظومة التربوية النظامية‬‫والتربية العامة بمجرد العيش في الجماعة خلال ممارسة الحياة عامة والحياة المهنية خاصة‪.‬‬‫والتكوين التربوي عام ويشمل التغذية والبدنية والروحية لأن هدفها ربو الإنسان أو‬ ‫تنمية بدنه وروحه‪.‬‬‫وكلنا يعلم أن هذه المهمة شبه مهملة بأبعادها كلها‪ :‬كل شيء فيها متروك للعادات‬‫والتقاليد وليس فيها ما يمكن أن نسميه عملا على علم‪ .‬لكن المجتمعات التي تكون السياسة‬‫فيها عملا على علم أول مجالات تحقيق ذلك هو تكوين الاجيال بقانون جعل اللاحق أفضل‬ ‫من السابق بخلاف ما يجري عندنا‪.‬‬‫ومعنى ذلك أن منحنى التطور في المجتمعات التي تعمل على علم صاعد كل جيل لاحق‬‫يتجاوز الجيل السابق إلى ما هو أفضل من حيث التكوين الفني والتكورين الخلقي وهو في‬‫المجتمعات التي لا تعمل اصلا بل تتخبط المنحى فيها نازل فيكون العكس مما يجري في حالة‬ ‫العمل على علم‪.‬‬‫ولذلك ترى العقم عندنا وترى أي شاب من شبابنا يصادف الحظ فيهاجر وينظم إلى‬‫مراكز البحث في المجتمعات الغربية فيبدع مثله مثل زملائه في تلك البلدان‪ .‬ومن ثم‬‫فالمنظومة التربوية النظامية أو الرسمية والتربية في المجتمع ككل تمثل مناخا عقيما ومعقما‬ ‫للكفاءة والأخلاق‪.‬‬‫وهذا هو بالذات ما وصفه ابن خلدون بـ\"فساد معاني الإنسانية\" فسادا يرد إلى فقدان‬‫الكفاءة الفنية وفقدان السلامة الخلقية لأن فقدانهما صار شرطا في البقاء في مجتمع لا‬‫يحكمه إلى هذان الفسادان‪ :‬الغش والغدر والتخابث ونظام انتخاب كل معاييره مقلوبة‬ ‫لأن من بيده السلطان يحيط نفسه بالأراذل‪.‬‬‫فإذا كان من بيده تمثيل إرادة الأمة من الأراذل فهو لن يصعد من الباحثين في العلم إلا‬‫من هم أرذل منه ولن يمكن من ثروة البلاد إلى من هم أفسد منه ولن يزدهر من الفنانين‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪39‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫إلى أقبح منه ولن يصبح من دعاة الأصالة أو الحداثة إلى من كان أتفه منه فيصبح السلم‬ ‫مقلوبا الفوق تحت والتحت فوق‪.‬‬‫وطبعا هو ما كان ليستطيع ذلك لولا علتين‪ :‬أنه محمي من الخارج وأن الشعوب تربت‬‫على الذل والقبول بمناخ تكون فيه الجماعة عديمة الإرادة كالعبيد الجهل يعوض العلم‬‫والشر الخير والقبح الجمال والذل الجلال وإلا لما فهمنا كيف يحكم مصر السيسي وتونس‬ ‫ابن علي وسوريا كلب الفرس والسعودية مراهق ايفانكا‪.‬‬‫أما المستوى الثاني من الرعاية فهو تمويني وليس تكوينيا‪ .‬فالتربية للبدن والروح‪.‬‬‫والجماعة التي لا تنتج ما يغذي البدن وما يغذي الروح لا يمكن أن تكون أجيالها بدنيا‬‫وروحيا‪ .‬وإذن فالتموين هو الانتاج الاقتصادي والانتاج الثقافي وهما الفرعان الثانيان من‬ ‫الرعاية في أي جماعة فكلامنا كوني‬‫تلك هي الفروع الأربعة لوظيفة الرعاية في أي جماعة والتي تكون الدولة قيمة عليها‬‫دون أن تكون مسيطرة عليها لأنها عين عمل الجماعة من حيث سلطة مدنية مستقلة عن‬‫السلطة السياسية بل هي جوهر المجتمع الأهلي أو إن قبلنا بالمصطلح الحديث المجتمع‬ ‫المدني‪ .‬الدولة لا تربي ولا تنتج بدلا من الجماعة‪.‬‬‫الدولة تنظم نشاط الجماعة بوصفها إرادتها نائبة عنها بمن اختارتهم لملء خانات كيانها‬‫المجرد بالقيمين عليها ممن تثق في أمانتهم وعدلهم للشهر على نظام إرادتها وعلمها وقدرتها‬‫وحياتها ووجودها إذا كانت شرعية أي حاصل القيمون عليها على الثقة مع المراقبة الدائمة‬ ‫والنقد بالأمر والنهي‪.‬‬‫ومثلما أن فروع وظيفة الحماية الأربعة لا تكون عملا على علم من دون جهاز عصبي‬‫يمدها بما تحتاج إليه في الاطلاع على أحوال الجماعة الأمنية في الداخل والدفاعية في‬‫الخارج وهو جهاز الاستعلام والإعلام السياسيين فإن فروع وظيفة الرعاية الأربعة لها جهاز‬ ‫عصبي مركزي يؤدي نفس وظيفة أهم‪.‬‬‫إنه جهاز البحث والإعلام العلميان أعني العلوم التي تعالج العلاقتين العمودية بين‬‫الإنسان والطبيعة شرطا في سد الحاجات المادية والأفقية بين الإنسان والتاريخ شرطا في‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪40‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫سد الحاجات الروحية لأن التموين الذي يحتاج إليه التكوين لا يكون ممكنا من دون‬ ‫الانتاجين وشرطهما بالبحث العلمي وتطبيقاته‪.‬‬‫لكن في جماعات كل ذلك مستغنى عنه لأنها تصدر ما في أرضها من ثروات خام وتستورد‬‫ما في عمل غيرها من منتجات ليست شعوبا قادرة على الرعاية ولا على الحماية ومن ثم فهي‬‫شعوب من العبيد للحاجات المادية والروحية ولمن بيده مدها بها مقابل الاستحواذ على‬ ‫بلادها والاستبداد بشعوبها‪.‬‬‫وكم يضحكني بعض الأغبياء ممن يقولون مفاخرين ومنابزين‪ :‬أنت يا أبا يعرب تحسدنا‬‫على ما أنعم الله به علينا‪ .‬وهو ما اضطرني أحيانا للرد على بعضهم بأن الصومال على ما‬‫هي عليه من فقر وقهر تعد عندي ألف مرة أولى بالحسد من أصحاب هذا الرأي‪ .‬فأهلها‬ ‫على الأقل يعملون لتحصيل الرزق بعرق الجبين‪.‬‬‫فالشعوب والجماعات لا تعتبر إنسانية بالثروات الطبيعية التي هي من صدف الجغرافيا‬‫بل هي إنسانية بما أبدعته في تاريخها فلم تبق من عبيد الصدف الطبيعية‪ .‬فالعمق‬‫الحضاري للشعوب يقاس بهذا الاستقلال وليس بالعيش على بيع ثروات الطبيعة الناضبة‬ ‫بالطبع‪ .‬عدم فهم ذلك يخرجنا من التاريخ الحديث‪.‬‬‫لا يوجد عرب أغنياء وعرب فقراء ما ينبغي أن نسأل عنه هو‪ :‬هل يوجد عرب مبدعون‬‫ومنتجون أم لا يوجد‪ .‬والجواب معلوم‪ .‬لا يوجد عرب مبدعون ولا منتجون‪ .‬وهذا هو‬‫العقم الذي يتساوى فيه العرب ولا يمكن لأي منهم أن يحسد الآخر في شيء وكلهم في الهوى‬ ‫والغباء سواء‪.‬‬‫آمل أن أكون قد وفيت بما وعدت فوحدت الموضوع وصار بالوسع الكلام على \"علم\" لا‬‫\"علوم\" السياسة‪ .‬والموضوع هو شرطا السيادة أي الحماية والرعاية‪ .‬والهدف ليس الكلام‬‫و ثرثرات علماء السياسة في التلفزات تعليقا على الأحداث بغير علم بل العمل على علم‬ ‫لبناء مناعة الأمم الداخلية والخارجية‪.‬‬‫فإذا علمنا ذلك أمكننا عند تحليل الأحداث أن ننظر في جذورها وأسبابها تماما كما كان‬‫غرض ابن خلدون في الكلام على التاريخ‪ .‬انطلق من شروط الكلام على التاريخ بعلله‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪41‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫فانتهى إلى أن علله ليست في ظاهر الاحدث والأحاديث بل في علم موضوعه البنيوي قبل‬ ‫الكلام في أحداثه العرضية‪.‬‬‫والدولة بجهازها الآلي المؤلف من منظومة المؤسسات كخانات شاغرة وهي مكنة صنعتها‬‫الجماعة خلال نضوج وعيها بهذا المقوم الأول للدولة الممثلة لإرادة الأمة وعلمها وقدرتها‬‫وحياتها ووجودها تنظيما لعملها على علم تتحول إلى ذات حية وفاعلة بمن يشغل خاناتها‬ ‫من أبنائها باختيارها الحر وبمراقبتها‪.‬‬‫وهذا هو الانتخاب الثاني الذي يجعل الدولة صالحة إذا كان من يشغل الخانات هم بحق‬‫ممثلي حرية الإرادة وحقيقة العلم وخير القدرة وجمال الحياة وجلال الوجود‪ .‬وعلى كل‬‫فوجود هذا لمقوم الثاني حتمي في كل دولة لكنه إذا لم يكن بهذه الصفات وبإرادة الجماعة‬ ‫فهو عين فقدان السيادة ببعديها‪.‬‬‫ومشكلتنا اليوم مضاعفة‪ :‬فمستوى المشكلة كان خاضعا لمرض أول هو مرض شرعنة‬‫المتغلب النابع من الداخل بمقتضى صراع القوى فيه فيكون افرازا ذاتيا للقوى السياسية‬‫الاهلية هي عصبية مفضية للهرج لم تفقد بعد العصبية الحد الأدنى من الانتساب إلى‬ ‫الجماعة لكونها أهلية‪.‬‬‫لكنه اليوم صار جامعا بين العصبية المفضية للهرج وفقدان الانتساب إلى القوى السياسية‬‫الذاتية للأمة‪ .‬وهذا هو المستوى الثاني من مرض الدول التي لم تعد دولا أصلا بل هي‬‫محميات لأن من يفرض الحكام ليس صراع العصبيات الداخلي بل هو إرادة أجنبية عنها‬ ‫تفرض من تعده أقدر على خدمتها من أقلياتها‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪42‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫والآن فلنتكلم على الامتحان الاكبر والاختبار الأسمى الذي تتجلى فيه قوة الدول المادية‬‫والروحية‪ :‬ولا يتجلى إلا في العلاقات الدولية وخاصة في الردع بالقوة الذي يتعين بالفعل‬‫في الحرب التي هي يتجلى فيها ما لدى الدول من قوة ردع فعلية‪ .‬وتقدر في السلم بما‬ ‫للجماعة من حلفاء وما عليها من أعداء‪.‬‬‫لكن هذا التجلي لا يكون حقيقيا إلا إذا كان فيه تناظر بين الجماعة ومن يحالفها بمعنى‬‫إلا إذا كان الحليف بحاجة اليك بقدر ما أنت بحاجة إليه وهذا لا يتوفر إلا بشرطين‪:‬‬‫موجب‪ :‬ما يستفيده من بقائك معادلا لما تستفيده من بقائه في الصراعات الدولية وسالب‪:‬‬ ‫ما يخسره معادلا لما تخسره‪.‬‬‫أما إذا لم يكن الأمر كذلك فأحد الحليفين محمي والثاني حام‪ .‬وبهذه المعايير سنتكلم‬‫على دلالة النظام العالمي الذي هو دائما موجود وليس ظاهرة حديثة‪ .‬وهو سر تكون‬‫الجماعات الكبرى التي تتجاوز القبلية‪ .‬فالجماعات لا تصمد في تنافسها على ثروات المعمورة‬ ‫من أجل شروط البقاء من دون هذا القانون‪.‬‬‫فنظام العالم بمنطق القرابة الحضاري والمصلحي هو المحدد للجماعات الفاعلة فيه بمقدار‬‫ما لها من قوة تماسك أو من مقومات القوة الذاتية في الداخل وتتمثل في سمفونية العمل‬‫على علم للمقومات التي تعتمد عليها السيادة أي حرية الإرادة وحقيقة العلم وخير القدرة‬ ‫وجمال الحياة وجلال الوجود‪.‬‬‫فبهذا تشبه الجماعة السوية الكيان العضوي كما في عبارة \"كالجسد الواحد إذا اشتكى‬‫عضو تداعت له سائر الاعضاء‪ .\"...‬وطبعا فهذا غاية قلما تدرك إذ لا تخلو جماعة من‬‫العملاء للأعداء والخيانة والامر كله مسألة نسب‪ .‬فإذا كانت غالبية النخب الرئيسة لهذه‬ ‫المقومات سليمة منهما كان ذلك هو المطلوب‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪43‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫فلا يوجد بدن خال من الجراثيم والفيروسات الكامنة فيه ولا توجد جماعة خالية من‬‫العملاء والخونة‪ .‬ولذلك فكما أن البدن له مناعة ذاتية تجعله مع ذلك في صحة جيدة لأنه‬‫يقاوم بما لديه من مناعة فإن الأمم لها حصانة روحية ومناعة مادية جمعتهما الأنفال ‪:60‬‬ ‫القوة عامة والقوة العسكرية خاصة‪.‬‬‫وقد يكون الكثير من الناس عملاء وخونة بغير قصد إما بسبب سوء الفهم أو بسبب الجهل‬‫ووجود هؤلاء علته ليست فيهم فسحب بل هي في وظيفة الحماية وبالذات في وظيفة الجهاز‬‫العصبي لفروعها الاربعة أي في الاستعلام والاعلام السياسيين‪ :‬لا ينتبه إليهم ولا يوعيهم‬ ‫بما غرر بهم مثلا‪.‬‬‫ولهذا احتاجت كل الدول التي تخلص لجماعتها لهذا الجهاز العصبي المركزي الذي يسمى‬‫الاستعلامات والإعلام السياسيين أي الإحاطة قدر الإمكان بحال الأمة حتى يكون عملها‬‫الحمائي مبنيا على علم‪ .‬لكن لسوء الحظ فإن هذا الجهاز العصبي عندنا كسيح بل هو تحول‬ ‫إلى خدمة الأعداء واضطهاد الجماعة‪.‬‬‫ومن المفروض أن يكون هذا الجهاز العصبي المركزي للاستعلام والاعلام رغم كونه محدد‬‫الوظيفة السياسية التي هي الإحاطة بحال الأمة في الداخل والخارج إحاطة وظيفتها خدمة‬‫الحماية أن يكون تابعا للجهاز المركزي الأساسي الذي هو البحث والإعلام العلميين شرط‬ ‫علاج العلاقتين العمودية والافقية‪.‬‬‫فالجهاز المركزي الأصل هو البحث والإعلام العلميان يعالج علاقة الجماعة بالطبيعة‬‫اعتمادا على العلوم الطبيعية التي تسد بتطبيقها حاجات الجماعة المادية (العمران‬‫البشري) وعلاقة الجماعة بالتاريخ اعتمادا على العلوم الإنسانية التي تسد بتطبيقها‬ ‫حاجات الجماعة الروحية (الاجتماع الإنساني)‪.‬‬‫وبهذا المعنى فعلاج العلاقة العمودية بين الإنسان والطبيعة وبينه وبين التاريخ مسألة‬‫علمية خالصة في مستوى النظر والعقد لكنها مسألة عملية خالصة في مستوى العمل والشرع‪.‬‬‫ولا تتم الأولى حقا من دون علاج ما يترتب على التبادل والثانية من دون ما يترتب على‬ ‫التواصل داخل الجماعة وخارجها‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪44‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫وهذا هو المستوى الثاني من علل صراع الأمم في التسابق من أجل علاج العلاقتين بين كل‬‫منها والطبيعة وبين كل منها والتاريخ‪ .‬وذلك في الداخل والخارج‪ .‬ففي الداخل تقسيم‬‫العلم يقتضي التبادل والتبادل لا يكون سويا ما لم يكن عادلا ويقتضي التواصل والتوصل‬ ‫لا يكون سويا ما لم يكن صادقا‪.‬‬‫وإذن فالعدل شرط التبادل السوي والتبادل السوي شرط التعاون في تقاسم العمل وتقاسم‬‫العمل شرط التنمية المادية والثقافة في أي جماعة‪ .‬وبذلك يصبح دور الدولة من حيث هو‬‫وازع أجنبي أو الوزع القانوني ضروري ليتمم دور الضمير من حيث هو وازع ذاتي‬ ‫(مصطلحات خلدونية)‪.‬‬‫وهنا يأتي دور رمز الفعل (العملة) وفعل الرمز (الكلمة) والأول هو رمز التبادل والثاني‬‫هو رمز التواصل‪ .‬وقد نبه ابن خلدون إلى ضرورة جعل العملة مستقلة عن صاحب السلطة‬‫لتنفيذية فوضعها تحت مسؤولية الخليفة بوصفه سلطة معنوية وروحية‪ .‬لكن البشرية لم‬ ‫تشترط جعل الكلمة مستقلة مثلها عنه‪.‬‬‫ولذلك فالنظرية التي أنا بصدد وضعها لعلم السياسة تقتضي أن يوجد ما يناظر البنك‬‫المركزي للعملة المستقلة عن السلطة التنفيذية بنك مركزي للكلمة مستقل عن السلطة‬‫التنفيذية‪ .‬وهذا البنك المركزي للكلمة يحقق شرط التواصل الصادق كما تحقق العلمة‬ ‫شرط التبادل العادل‪.‬‬‫ولست غافلا عن كون الظلم لا ينتج عن التلاعب بالعملة وحده وعن كون الكذب لا ينتج‬‫عن التلاعب بالكلمة وحده فهذان لكن هذين التلاعبين في ما دون تلاعب السلطة التنفيذية‬‫بهما يبقيان محتملين وقابلين للعلاج‪ .‬أما إذا صارمن بيده هذه السلطة هو المتلاعب بهما‬ ‫ينهار الانتاجان الاقتصادي والثقافي‪.‬‬‫فالإنتاج الاقتصادي الذي يحقق التموين المادي لقيام الإنسان والانتاج الثقافي الذي يحقق‬‫التموين الروحي لقيام الإنسان محكومان بالتمثيل الأمين للقيم المادية في الجماعة‬‫وبالتمثيل الامين للقيم الروحية في الجماعة‪ .‬وهما معنى الأمانة والعدل في التبادل‬ ‫والتواصل فيها شرط السلم المدنية‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪45‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫وقد سبق فتكلمت عما سميته بالقوابل السقراطية في الجماعة‪ .‬وبينت أنها ضرورية‬‫للمقومات الخمسة أي للإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود من حيث هي أعمال على‬‫علم في الجماعة وهذا هو مستوى الدور السقراطي وهو ضروري للانتخابين‪ .‬والبنكان‬ ‫المركزيان سقراطيان أيضا‪.‬‬‫والقصد أن البنك المركزي لاستقلال العملة عن تلاعب السلطة التنفيذية والمؤسسة‬‫النظيرة التي اقترحتها لاستقلال الكلمة عن تلاعبها سلطتان معنويتان يكلف بهما خبراء‬‫عدول وأمناء في العلمة والمالية وفي الكلمة والإعلام لمنع صاحب السلطة التنفيذية من‬ ‫السيطرة على رزقي الجماعة المادي والروحي‬‫وبعبارة وجيزة فمن دون هذين المؤسستين تصبح الجماعة محكومة ببعدي العجل‪ :‬مادته‬‫هي العلمة وخواره هي الكلمة‪ .‬والعملة قد تصبح سلطانا على المتبادلين فلا تبقى أداة‬‫تبادل مجردة والكلمة قد تصبح سلطانا على المتواصلين فلا تبقى أداة تواصل مجردة‪ .‬ومن‬ ‫دون ذلك يسيطر دين العجل (أبيسيوقراطيا)‪.‬‬‫فنحن نقاوم مستويين من دين العجل‪ :‬المباشر وتمثله النخب التي حكمهم الاستعمار في‬‫رقاب الأمة بعد أن فتت جغرافيتها وكلفهم بتفتيت تاريخها بحثا عن شرعية للمحميات التي‬‫يسمونها دولا ثم غير المباشر وتمثله النخب الاستعمارية التي تحارب إرادة أمتنا وعلمها‬ ‫وقدرتها وحياتها ووجودها لاستعبادها‪.‬‬‫وما حرب العملاء من الحكام والنخب الدائرة في فلكهم على ثورة الشباب بجنسيه وقيمها‬‫وعلى تركيا الحالية التي تضامنت معهم والتي تمثل بالنسبة إلى اعداء الثورة بمستويي‬‫الحرب على الأمة النموذج الذي دحض ضرورة العلمنة شرطا للتنمية والتحديث مرتين‪:‬‬ ‫بنجاح لم تحققه قبل شروعها في استعادة ذاتها‪.‬‬‫فكلابهم النابحة ضد ما كتبته لبينان طبيعة حملة الأعداء على تركيا وعلى ثورة الشباب‬‫لأنهما تقضيان على ما بقي للعملاء من مصداقية وتنهي كذبتيهما‪ :‬التدرع بالإسلام الذي‬‫باتوا يتنكرون له والتدرع بالحداثة التي لا يمكن أن يحققها مربوطو الرأس من مافيات‬ ‫القبائل والعسكر المستبدة والفاسدة‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪46‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫وليس غريبا أن يجمع نوعا النخب العميلة التي تدعي التأصيل والتي تدعي التحديث‬‫على الربيع وعلى تركيا في حرب كلنا يعلم من يقودها من خلف واضطر بسبب فشلهم لأن‬‫يعلن صراحة عن قيادته لهذا الحرب‪ :‬يكفي قراءة الأدبيات التي تخرجها معاد بحثهم التي‬ ‫تحارب المسلمين ولا تريد لهم نهوضا‪.‬‬‫فالقومي واليساري في بلاد العرب يدعي مقاومة إسرائيل والإسلامي التقليدي يدعون‬‫مقاومة إيران لكنهم في الآن نفسه متحالفون ضد الربيع وتركيا‪ .‬وهو أمر بين الدلالة لأن‬‫الدعويين الاوليين كاذبتان‪ .‬فلا أولئك يعادون إسرائيل حقا ولا هؤلاء إيران حقا بل هم‬ ‫معهما على شروط النهوض والتحرر والتحرير‪.‬‬‫ومشكلهم مع الربيع أنه على مستوى مطالب الشعوب القيمية لحقوقهم المشروعه حتى وإن‬‫كانت في مستوى الرغبات لأن الثورة لم تحقق بعد أهدافها‪ .‬لكن مشكلهم مع تركيا أكبر‬‫لأنها فعلا أنجزت في أقل من عقدين ما عجزت عنه قبل نظامها الجديد وما عجزوا هم عنه‬ ‫ما يقرب من قرن‪.‬‬‫فهي إذن كما يرونها وكما هي حقا تخيفهم لأنها جمعت بين المطالب التي هي في مستوى‬‫القيم والغايات التي لم تدرك بعد وفي مستوى التحقيق الفعلي والإنجاز المبهر لهذه القيم‪.‬‬‫ولذلك فعندما أسمع كلاب الأنظمة العميلة والخائنة تتكلم على الفساد والاستبداد في تركيا‬ ‫أشكك في عقولهم وفي أخلاقهم‪.‬‬‫فلا يوحد ما هو أفسد من الانظمة العربية القبلية والعسكرية سياسيا وخلقيا واقتصاديا‬‫واجتماعيا ولا من هو أخون للإسلام والعروبة منهم ومن طباليهم من النخب سواء كانت‬‫تدعي حفظ التراث او تدعي الحداثة والثورة عليه‪ :‬فكلهم دون استثناء مخلدون إلى‬ ‫الأرض ربهم هواهم ومعبودهم دنياهم‪.‬‬‫وهكذا فهذه المحاولة سعت إلى هدفين آمل أن أكون قد اقتربت من تحديدهما أولا ومن‬‫تحديد السبل للتعرف عليهما وللسعي إليهما ما أمكن ذلك وخاصة بالنسبة إلى الأجيال‬ ‫المقبلة‪ .‬والهدفان هما‪:‬‬ ‫‪.1‬التأسيس النسقي لعلم السياسة للتحرر من المفاهيم الفضفاضة‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪47‬‬ ‫الأسماء والبيان‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook