ال أو الدولة والاخلاقالأسماء والبيان
أعود مرة أخرى لمسألة الدولة المستحيلة بحجج اخلاقوية المسألة التي أحاول فهمها علني أجد عذرا لما يدعي في فلسفة السياسة والأخلاق علما لدنيا.بينت في المحاولة السابقة أن الأخلاق لا تطلق على الحميد منها فحسب بل حتى الذميم يعد منها فضلا عن كون حمد الحمية و ذم الذميم موقفان ذاتيان منهما.صحيح أن الاستعمال العامي لمفهوم الأخلاق يقصرها على ما يعتبره حميدا منها بمقتضى عاداته وأعرافه .لكن ذلك ليس من علم الأخلاق فضلا عن فلسفتها. وصحيح أن التعيير العامي للدول يعتمد على هذا الفهم العامي للحميد من الأخلاق. لكن علم الأخلاق يبدأ باعتبار هذا الحكم نفسه حائلا دون علمية فهمها.ولهذه العلة فلا يوجد عاقل له دراية بمعنى \"دولة\" وبمعنى \"أخلاق\" يفهم الفصل بينهما إذا أخذا بمعنييهما اللذين يحددان فضيلتيهما أي وظيفتيهما.فالأخلاق الحميدة على فرض أن الإنسان خير بالطبع لا تعرف إلا بكونها حقيقة علائقية أي إنها صفة للتفاعل بين البشر المشتركين في حياة جماعية ما.وهي بهذا المعنى تمثل ما يسميه ابن خلدون بالوازع الذاتي في مقابل الوازع الأجنبي الذي يمثله القانون الرادع أي فعل دولة ذات نظام وسلطة رادعة.ولما كانت السلطة الرادعة مهما عمت لا يمكن أن تراقب كل علاقات البشر فإن فعلها مقصور على مخالفة شرائعها فتكون مكملة لعرف خلقي أو اخلاق موضوعية.ووصف هذه الأخلاق الموضوعية (أو المعروف) بالحميدة أو الذميمة حكم ذاتي إما من أحد صفوف الجماعة أو من جماعات اخرى وهو حكم خلقي في عادات خلقية. 51
فالقول إن الدولة الحديثة بحكم عدم خلقيتها مستحيلة ليس بإطلاق بل بالنسبة إلى المسلمين لخلقية دولتهم الماضية يجعلهم مخيرين بين أمرين أبسورد.لهم أن يختاروا بين حداثة بلا أخلاق أو أخلاق بلا حداثة فتكون أخلاقهم جامدة لا يمكن أن تتطور وتكون الحداثة ذات جوهر لا أخلاق فلا تتغير.وبذلك نفهم اعتماد حلاق على عبد الرحمن :فالأخلاق عنده ليست علاجا قيميا لشروط مقام الإنسان في العالم بل هي اختيار لحل يمكن من الهروب منه.فتكون ترجمة الاستحالة الحلاقية هي تصويف الاخلاق بدل اعتبارها الالتزام التاريخي بعمل صورة العمران (الدولة) سياسة له تضفي عليه قيمة خلقية. فتعريف السياسة منذ نشأ التفكير السياسي بوصفه جوهر التفكير الخلقي ولبه. فالدولة هي في كل العصور الجهاز الذي يهدف لتحقيق شروط الخلقية عامة.وبصورة أدق الدولة هي التعين المؤسسي لأخلاق الجماعة التي تنتج عن استكمال الوازع الذاتي(الضمير) بالوازع الأجنبي (القانون) .ولهما صلة بالدين.وصلتهما بالدين لا يعني أنهما دينيان بل أن لهما من الدين ما يمكن وصفه بالأسس المقدسة التي تعرف الحقوق والواجبات ونقائضها :المعروف والمنكر.فإذا عدت لمعنى الاستحالة التي بينت أنها تفيد تخيير المسلمين بين دولة حديثة بلا أخلاق أو أخلاق قديمة بلا دولة أستنتج :خروجنا من التاريخ.الأخلاق القديمة بلا دولة هي الطرقية الصوفية التي تعيد الأمة إلى رقص الهنود الحمر وهو ما يسعى إليه الكثير بدليل ملتقى الشيشان ورقاصي الذهان.وإذن فاختيار الأساس الخلقي النظري لم يكن بالصدفة منتسبا إلى القائل بالحل الصوفي علاج أدواء الامة والمحقر من الفعل السياسي أي جوهر الأخلاق. ولا أتهم الرؤية المسيحية.فالمسيح نفسه كان مصلحا سياسيا ولم يقتصر عمله على الإصلاح الديني ضد فقهاء الانحطاط اليهودي تحت الاستعمار الروماني. 52
والإصلاح الديني في اوروبا لم يكن فاصلا بين الخلقي والسياسي لأن تحرير الإنسان من سلطان الكنسية بداية غايتها تحريره من الحكم بالحق الإلهي.فالإسلام قبل ذلك بكثير حقق هذين الحريتين مبدئيا-الممارسة ألغتهما-باعتبارهما شرطي علاقة الخلقي من الديني بالسياسي فلم يقتصر على العبادات.وبهذا المعنى فالسياسة-التربية (لترشيد الوازع الذاتي) والحكم (لترشيد الوازع الأجنبي) -هي الأخلاق وقد تعينت في مؤسسات الدولة شرائع وأعراف.فإذا حاولنا الآن وصف الدولة الحديثة فإننا سنجد على الأقل من حيث المبدأ تعينا مؤسسا للأخلاق يحقق الحريتين الروحية والسياسية للفرد والجماعة.هذا من حيث البنية المجردة للدولة بوصفها منظومة مؤسسات تعتمد حرية الضمير (الحرية الروحية) وحرية الإرادة (الحرية السياسية) .وهذا هو دستورها.ثم هي جمعت بين الوظيفتين :كان دور الدولة ما قبل الحديثة مقصورا على الحماية ببعديها وكانت الرعاية ببعديها مسؤولية المجتمع الأهلي والدين.وكانت الرعاية لا تعتبر حقا بل تطوعا من الأوقاف فلا تسد الحاجة للجميع بالتساوي بل هي مقصورة على عمل الخير التطوعي. ذلك مهم لكنه غير كاف.وبإضافة ذلك إلى دور الدولة صارت الدولة أكثر خلقية مما كانت في القرون الوسطى وقبلها .وقد يتضاعف سلطانها :وظيفة المجتمع المدني الحديث يحد منه. أما دولة الفقهاء بخلاف راي حلاق فهي ليست دولة فضلا عن ان تكون دولة خلقية. هي ليست دولة لتخليلها عن نظام المؤسس :سلطانها بلا قانون ولا أخلاق.فعندما يكون الحكم للقوة ويكون صاحبه فوق القانون فإن عمله ليس عمل دولة وبالذات ليست عمل دولة يؤمن شعبها وحكامها بنظرية الدولة القرآنية.فإذا ما استثنينا عصر الراشدين وربما بعض فترات في كل تاريخ الإسلام كانت السياسة حربا على الدولة بمعناها الذي وصفنا أي لا دولة تربية وحكما. ويكذب من يدعي أن الفقهاء كان لهم سلطان حقيقي. 53
فهم جماعتان :إما مع نظرية الدولة فمبعدون عن حقيقة اللادولة أو مبررون للادولة واللاأخلاق.وفي الحقيقة مقدمة ابن خلدون وصف دقيق للادولة واللاأخلاق في التاريخ الإسلامي: المقابلة مع الدولة الحديثة قد تقبل بالقياس إلى العصر الراشدي.وعندئذ لن يبقى الكلام على الاستحالة مقبولا :ذلك أن محاولة تحقيق الحريتين في الصدر وإن لم تتجذر مؤسسيا تفتح للاستئناف إمكانات لا متناهية. لذلك عنونت فصل الأمس بالاستحالة الممتنعة.المسلمون يستأنفون دورهم في التاريخ العالمي كنشأتهم الأولى بأدوات الفعل السياسي تربية وحكما.وتلك هي الاخلاق أما أخلاق الدراويش التي قضت على حضارة الهنود الحمر فرجاء لا تستغفلوا الشباب لأنه لن يسمع لكم وسيستأنف دور الامة بأسبابه.وليس لأن بعض الدجالين يتكلمون في الأخلاق بسبب الموضة تصبح الأخلاق دروشة وإنما هي المعنى الذي يجعل فعل الإنسان يتحرر من القانون الطبيعي.والتحرر من القانون الطبيعي ممتنع من دون النظام المؤسسي الذي يربي الإنسان (أخلاق) ويحكمه (قانون) ليرتفع من قانون الانتخاب إلى قانون التقوىوقانون الانتخاب يحكمه صراع القوى -قانون الصدام-وقانون التفاضل بالتقوى يحرره من التفاضل العنصري والطبقي والطبعي (القوة) :تلك هي الاخلاق.فجوهر السياسة المتعينة في دولة ببنيتها الصورية (كما يحددها دستورها وضعيا كان أو دينيا) وبالقيمين عليها نيابة عن الجماعة هي أخلاق الجماعةولست بهذا الحكم أفاضل بين الفهم الهيجلي والفهم الكنطي للأخلاق فهما وجها الخلقي: فهيجل لا ينفي الذاتي من الاخلاق وكنط لا ينفي الموضوعي.بل كلاهما يعتبرهما متلازمين .أما من يعتبر الاخلاق خروجا من العالم ونضالاته باسم الانزواء الصوفي فلا هو هيجلي ولا هو كنطي بل مستقيل لا يجاهد أخلاق القرآن: 54
-1اجتهاد. -2جهاد. الاول معرفي خاصة والثاني خلقي خاصة. وخلقية الثاني مشروطة بعلمية الأول. وعلمية الاول مشروط بخلقية الثاني :وذلك مجال تكليف الإنسان.فلا يمكن للإنسان أن يكون خليفة إذا لم يعمر الأرض .ولا يعمرها من يهجرها فلا يناضل سياسيا بمعنى تحقيق القيم الخلقية في تاريخ الإنسانية الفعلي. 55
02 01 01 02تصميم الأسماء والبيان – المدير التنفيذي :محمد مراس المرزوقي
Search
Read the Text Version
- 1 - 12
Pages: