Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore إشارات القرآن، ما أمر به وما نهى عنه لفهمها – أبو يعرب المرزوقي

إشارات القرآن، ما أمر به وما نهى عنه لفهمها – أبو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2018-08-03 08:51:06

Description: إشارات القرآن، ما أمر به وما نهى عنه لفهمها – أبو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫أبو يعرب المرزوقي‬‫إشارات القرآن‬ ‫ما أمر به وما نهى عنه لفهمها‬ ‫الأسماء والبيان‬



‫المحتويات ‪1‬‬‫‪ -‬الفصل الأول ‪1 -‬‬‫‪ -‬الفصل الثاني ‪7 -‬‬‫‪ -‬الفصل الثالث ‪13 -‬‬‫‪ -‬الفصل الرابع ‪19 -‬‬‫‪ -‬الفصل الخامس ‪25 -‬‬

‫‪--‬‬‫قد أفهم أن يغضب البعض من قولي إن القرآن قد فهم على أنه \"صندوق آلات\" يأخذ منه‬‫كل علم من علوم الملة عتاده ليعمل به عمله المفسر أصلا‪ ،‬ثم الفقيه والمتصوف عمليا‪،‬‬‫والمتكلم والفيلسوف نظريا‪ ،‬فيصبح الفكر شبه مقصور على ما يسمونه فقه الواقع بالإدراك‬ ‫المباشر في ضوء علم اللسان العربي لفهم القرآن‪.‬‬‫خاصة وقد أكون أيدتهم في غضبهم من كلامي هذا عندما قلت إن القرآن يعرف نفسه‬‫بكونه رسالة خاتمة ولا يمكن أن يكون فيها ما لا يمكن أن يكون قابلا للفهم من المرسل إليه‪،‬‬‫وإلا لفقدت الرسالة معنى دلالتها وركزت خاصة على نفس الاعجاز العلمي سواء في الشاهد‬ ‫أو خاصة في الغيب‪.‬‬ ‫فبدا كلامي‪:‬‬‫‪ .1‬متناقضا أولا‪ -‬الرسالة مفهومة لكن لا تفهم مباشرة والرسالة لا تفهم مباشرة ولكن‬ ‫خالية من الإعجاز العلمي‬‫‪ .2‬ولم يبق شيئا يستفاد به من القرآن إذا كان فهمه المباشر غير صالح وليس فيه ما ليس‬ ‫معجزا فيتطلب الفهم غير المباشر‪ .‬هل يكون القرآن لا يصلح لا للعامة ولا للخاصة؟‬‫هذا هو الإشكال الذي أريد علاجه‪ ،‬ليس لأن التهمتين يمكن أن تخيفاني لأن أي إنسان‬‫يفكر قليلا يدرك أنهما دالان عن سوء فهم لمعنى خلو القرآن من الإعجاز العلمي ولمعنى أن‬‫مضمونه لا يدرك مباشرة‪ ،‬رغم كونه رسالة للإنسان من حيث هو إنسان‪ .‬والجواب عن‬ ‫التهمتين موجود في القرآن نفسه‪.‬‬ ‫فوصفه نفسه بكونه رسالة تذكير يعني أنه يوقظ الناسين‪.‬‬‫ولا يمكن إذن أن يفهم منه مباشرة إلا ما يحقق ايقاظ الناسين للأمور التي تتعلق بها‬ ‫الرسالة‪:‬‬ ‫‪ .1‬من المرسل إليه‬ ‫‪ .2‬من المرسل‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪1‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .3‬ما طبيعة العلاقة بين ‪ 1‬و‪2‬‬ ‫‪ .4‬ثم من دور الرسول المبلغ‬ ‫‪ .5‬ما الذي ينتج عن الإيقاظ لتحقيق شروط العلاقة بين ‪1‬و‪.2‬‬‫لذلك فما أنفيه من التلقي المباشر ليس ما يجعل الرسالة تتلقى وتفهم من حيث وظيفتها‬‫التذكيرية‪ ،‬بل ما يراد استمداده منها لعلاج العلاقة بين المرسل والمرسل إليه التي كلف بها‬‫الإنسان عند توجيه نظره إلى هذه العلاقة وشروط حصولها في العالمين الدنيوي والأخروي‬ ‫والعلاقة بين نوعي شروط العالمين‪.‬‬‫وما أنفيه من الأعجاز العلمي هو ما يتعلق بأعيان هذه الشروط وليس بالرؤية التي توجه‬ ‫إليها النظر والتي هي إشارة إليها وليست بديلا منها‪.‬‬‫ولذلك شبهت توجيه الرؤية بالسبابة التي توجه بصر الإنسان دون أن يكون ما توجه إليه‬ ‫البصر موجودا في السبابة‪.‬‬ ‫فهي إذن فتح أفق للرؤية وليست المرئي فيه‪.‬‬ ‫بعبارة أوضح‪:‬‬‫لا يمكن أن يفسر القرآن مباشرة‪ ،‬ولا أن يستمد منه الفقه والتصوف عمليا‪ ،‬والكلام‬‫والفلسفة نظريا مباشرة إذا‪ ،‬بل هو يوجه النظر والفكر إلى حيث ينبغي النظر لكي يحصل‬‫ذلك دون أن يكون المطلوب واردا فيها‪ ،‬يكفي فهم العربية لاستخراجه منه لكأنه يكفي‬ ‫الحواس لاكتشاف قوانين الطبيعة مثلا‪.‬‬‫فكان ينبغي أن أجد في القرآن نفسه تحديدا لشروط فهمه وكيفية استعماله من حيث هو‬‫سبابة تشير وتذكر ولا تعوض جهد الإنسان في علاج ما تقتضيه مهمته في الوجود التي بها‬‫تقدر أهليته للمنزلة الوجودية التي يذكره القرآن بها والتي هي عين كيانه ومقومات ذاته‬ ‫فعلا وانفعالا‪.‬‬ ‫ومعنى ذلك وبعبارة بسيطة‪:‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪2‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫القرآن‪ :‬مثل الدواء يصحبه وصف لطريقة استعماله ولما يحصل لمن يتخلص من النسيان‪،‬‬‫لينتقل من الحواس (البصر والسمع والشم والذوق واللمس) إلى الحوادس‪ ،‬التي تجعله‬‫يتنقل من الإدراك المباشر إلى الإدراك غير المباشر‪ ،‬حتى ينتقل من النظر الى السبابة‬ ‫إلى ما تشير إليه‪.‬‬‫فلأذكر في هذا الفصل الاول بهذين الأمرين اللذين خصصت لهما عدة محاولات سابقة‪:‬‬‫بينت أن القرآن أمر بأن نتبين حقيقته في فصلت ‪ 53‬ليس من شرح كلماته‪ ،‬بل من النظر‬‫إلى الآيات التي يرينها الله في الآفاق والانفس‪ .‬وذلك يعني أن القرآن يوجهنا للبحث عن‬ ‫آيات الله في العالمين الطبيعي والتاريخي‪.‬‬‫والدليل بين لأنه في كل استدلالاته لا يشرح آياته‪ ،‬بل يستدل إما بالنظام الطبيعي أو‬‫بالنظام التاريخي‪ ،‬وهو الكتاب الديني الوحيد الذي لا يستدل بالمعجزات حتى وإن كان لا‬‫يجادل في صحة معجزات الانبياء السابقين لأن ذلك لا فائدة فيه ولأن من مبادئ الإسلام‬ ‫قبول الأديان الأخرى كأمر واقع‪.‬‬‫وإذا كان ذلك لا يكفي دليلا على ما أقول‪ ،‬فلننظر سيرة الرسول نفسها التي هي تطبيق‬ ‫اجتهادي من الرسول لمعاني القرآن‪:‬‬‫فهو كان في كل حياته وفي تعاملاته مع الغير وعلاقات دولته السلمية والحربية وفي التجارة‬ ‫لا يستعمل معجزات أو يدعي الكرامات بل كان يعمل بسنن المجال ويستشير الخبراء‪.‬‬‫وهذا هو الوجه الموجب من الأمر الأول‪ ،‬أعني ما يشير إليه القرآن ممرا واجبا لتبين‬ ‫حقيقته‪ ،‬أو لما أسميه الوصول غير المباشر لما يمكن أن يبنى على الرؤية القرآنية‪.‬‬‫فهو لم يقل هي ذي آيات الله في الآفاق والانفس ليغنينا عن البحث فيها‪ ،‬بل اقتصر على‬ ‫تعريف مجالها‪-‬الآفاق والأنفس‪-‬وعلينا طلبها‪.‬‬‫ولما نصل ذلك بما يتعلق بها في كلامه على الخلق والامر نجده يعتبر الخلق خاضعا للقوانين‬‫الرياضية الثابتة أي القابلة للتقدير المحدد‪ ،‬والأمر خاضع للسنن السياسية الخلقية التي‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪3‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫لا تتبدل‪ .‬فتكون آيات الله في الآفاق من طبيعة رياضية تحصل بالملاحظة والتجربة‬ ‫والافتراض العلمي للقوانين الرياضية‪.‬‬‫وما يعني أن السلوك المأمور به معاكس تماما لخرافات الإعجاز العلمي‪ :‬لا نبحث عن‬‫القوانين في آيات القرآن النصية بل نبحث عن القوانين في الطبيعة‪ ،‬لأن ما في آيات القرآن‬ ‫النصية إشارات ورؤية وليس قوانين‪.‬‬ ‫فلا يوجد قانون يقال بكلام عام بل هو دائما محدد كما وكيفا في علاقات محددة‪.‬‬‫وعندما نكتشف قوانين بالبحث العلمي الإنساني‪ ،‬نكتشف أنها تؤكد الطبيعة الرياضية‬‫لقوانين الطبيعة عامة فنتبين حقيقة القرآن التي يعلمنا بها وهي أن النظام الطبيعي ثابت‬‫وأن له قوانين رياضية عامة وأن اكتشافها يكون بالملاحظة والتجربة والافتراض الإنساني‬ ‫المتغير دائما يصيب ويخطئ في التعيين‪.‬‬‫فيكون البحث العلمي مصدقا لما في القرآن من مبادئ عامة لبنية المخلوقات دون أن تكون‬‫فيه قوانين علمية لا يمكن اكتشافها إلا بالبحث العلمي الفعلي‪ ،‬وهي متغيره لأن اكتشافها‬‫هو عين تاريخ العلم المتطور بتجاوز نفسه‪ ،‬وهو إذن تاريخي الجوهر وبهذا المعنى يبقى‬ ‫القرآن متعاليا على المكان والزمان‪.‬‬‫أما السنن التاريخية‪ ،‬التي هي سياسية خلقية بمعنى أنها تتعلق بكفاءة العمل على علم‬‫وبقيمه‪ ،‬فالقرآن يحدد طبيعتها ويصلها مباشرة بمقومات كيان الإنسان‪ ،‬التي هي الإرادة‬‫التي هي حرة إن ذكرت ومضطرة إن نسيت‪ ،‬وبالعلم الذي هو حق إن صدق وباطل إن كذب‬‫وبالقدرة‪ ،‬التي هي خير إن حسنت‪ ،‬وشر إن ساءت‪ ،‬وبالحياة الذوقية التي هي جميلة إن‬‫جملت وقبيحة أن قبحت‪ ،‬وأخيرا بالوجود أو الرؤية الوجودية التي هي مؤمنة بالنظام‬‫الطبيعي والنظام الخلقي وهي رؤية القرآن‪ ،‬أو بالخرافات التي تجعل الإنسان غير جدير‬ ‫بأن يكون \"رئيسا بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له \"(ابن خلدون)‪.‬‬‫وهذه معان يعتبرها القرآن سننا لا تتحول ولا تتغير بمعنى أن الإنسان في تاريخه يحدد‬‫مصيره بهذه الخيارات وبدرجاتها وغلبة موجبها على سالبها‪ ،‬لأن حصيلة الافعال الإنسانية‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪4‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫في الدنيا شبيهة بحصيلتها في الآخرة أي إنها ميزانية الأعمال مقارنة بين الموجب والسالب‬ ‫والحصيلة هي النسبة بينهما‪.‬‬ ‫تلك هي شروط القرآن الموجبة لفهم رؤيته‪:‬‬‫لا يتفهم رؤيته من شرح كلماته المشيرة إشارة السبابة‪ ،‬بل مما تشير إليه أي من الآفاق‬ ‫والأنفس كما بينا‪.‬‬‫والآن نجد مع الامر هذا بوجهيه النهي بوجهيه لأن الإشارات القرآنية موجبة وسالبة‪.‬‬ ‫فيكون النظير السلبي لفصلت ‪ 53‬آل عمران ‪ .7‬ما ينبغي تجنبه‪.‬‬ ‫والعلة بينة‪.‬‬‫فالقرآن يضع مبدأ التمييز بين عالم الشهادة وعالم الغيب‪ .‬وإشاراته إلى عالم الشهادة‬‫حددت المرجعية التي يحتكم إليها الإنسان لمعرفة المشار إليه وهو ما بينا في التذكير بالأمر‬ ‫حول طريقة تبين حقيقة القرآن‪.‬‬ ‫لكن عالم الغيب لا نملك عنه أدنى مرجعية لمعرفة المشار إليه بالمتشابه‪.‬‬‫وطبيعي أن يكون ذلك كذلك‪ ،‬أي أن ننهى على الكلام في المتشابه أو في ما يشير إلى الغيب‬‫لأن تأويلاتنا إن أقدمنا عليها لا يوجد ما يمكن العودة إليه لحسم الخلافات‪ ،‬إذ لاوجود‬‫لمرجعية دلالية يحتكم إليها لحسم الاختلاف في الفهم فلا يبقى إلى ما أشارت إليها الآية‪:‬‬ ‫الفتن والاقتتال بين المؤولين‪.‬‬‫ولسنا فاقدين للمرجعيات الدلالية فحسب بمعنى أن الكلام في الغيب من جنس الأعمال‬‫التي ليس لها إحالة على وجود خارجي موضوعي يمكن علمه من خارج النص‪ ،‬بل نحن أيضا‬‫فاقدون لما يمكن أن يعوضه كالحال في الأديان التي لها سلطة روحية كنسية تعوض المرجعية‬ ‫الموضوعية هي المرجعية الذاتية‪.‬‬‫ففي الأديان التي فيها سلطة روحية أو مرجعية روحية وسيطة بين الله والمؤمن‪ ،‬يمكن‬‫للمؤمنين أن يحسموا خلافهم بالسماع إلى مرجعياتهم فيقل الخلاف ويبقى بين المرجعيات‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪5‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫فحسب‪ ،‬والمرجعيات في الغالب تتواطئ حتى لا تضعف سلطانها الروحي فيحصل نوع من‬ ‫التأويل الرسمي الذي يقلل الخلافات‪.‬‬ ‫ومع ذلك فالانشقاقات في الكنائس وبين المرجعيات بهذا المعنى ليس بالقليل‪.‬‬‫والذي حصل عدنا أن تعددها أكثر بسبب كون كل متكلم يصبح مرجعية‪ ،‬وكل مدرسة‬‫كلامية تصبح لها صيغ عقدية تكفر ما عدها من المدارس‪ .‬وهذا هو بالضبط ما قصدته آل‬ ‫عمران ‪ :7‬زيغ القلوب وابتغاء الفتن بين المؤولين‪.‬‬‫هذا في ما يتعلق بالخلق وما بعده أي بما أمر به القرآن لفهم ما يقوله في المخلوقات‪-‬عالم‬ ‫الشهادة‪ -‬وما ورائه عالم الخالق نفسه وأسرار الخلق العائدة إليه‪.‬‬‫القرآن اشار أمرا بضرورة البحث في الآفاق ونهى عن البحث في ما ورائها‪ .‬وعلماء الأمة‬ ‫عكسوا الامر والنهي فصار الامر نهيا والنهي أمرا‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪6‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫شرحنا آيات الله في الآفاق أو في الخلق الذي أشار القرآن إلى أنه من طبيعة رياضية‪،‬‬ ‫تعلم بالملاحظة والتجربة‪ ،‬دون أن يتضمن القرآن هذه القوانين بأعيانها‪.‬‬ ‫فما إشارة القرآن إلى الأمر؟‬ ‫\"ما في أنفسهم\" لها دلالتان‪:‬‬ ‫ما في الذوات عامة طبيعيها وغير طبيعيها‪ ،‬أي كيانا الإنسان البدني والروحي‪.‬‬‫ولا يوجد خلاف حول كون الكيان البدني للإنسان أو العضوي خاضع لقوانين الخلق‬ ‫والطبيعة‪.‬‬ ‫الإشكال في الكيان الروحي هل هو من جنسه وتابع له؟ أم إن له طبيعة ثانية؟‬‫المقابلة بين الخلق والامر تجعله مختلفا‪ .‬فالإنسان طبعا مخلوق ويخضع للضرورة الطبيعية‪،‬‬ ‫لكنه مأمور كذلك وهو مجال الحرية‪.‬‬ ‫وهذا هو مناط الإشكال الديني والخلقي‪.‬‬ ‫وهو إشكال فلسفي كذلك‪.‬‬‫ويحاول البعض فصل الخلقي عن الديني لتوهم الإشكال الخلقي وحتى يكون فلسفيا لا بد‬ ‫أن يقطع مع الدين‪.‬‬‫وهو تناقض لأنك إذا اخرجت الدين من الإشكالية أبقيت الطبيعة‪ ،‬والطبيعة لا تستثني‬ ‫الإنسان من قانونها أو الضرورة الكلية‪.‬‬‫استثناء شيء ما من الإنسان من حكم الضرورة الطبيعية مهما تحايلنا‪ ،‬يبقى نظرة دينية‬ ‫تعتبر الطبيعة نفسها خاضعة لما يتعالى عليها وفي ذلك تقديم للحرية على الضرورة‪.‬‬‫وحتى الفلسفة القديمة‪ ،‬وخاصة أكبر رؤيتيها الأفلاطونية والأرسطية‪ ،‬كلتاهما اضطرتا‬ ‫لمثل هذه الرؤية الدينية‪.‬‬ ‫ولعل أهم نص صريح في ذلك المقالة العاشرة من شرائع أفلاطون‪:‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪7‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫فهو يضع النوس فوق الطبيعة لأن الطبيعة من دونها ليس فيها خيار بين خير وشر‪ ،‬ولا‬‫مفاضلة في مجريات الطبيعة ما له غاية تغلو عليه وما ليس له غاية‪ ،‬فلا يبقى فيها إلا قانون‬ ‫صراع القوى ولا يحد بين قوتين إلا نسبة القوة بينهما‪.‬‬‫وهذا أساس مقابلته بين كاليكلاس وسقراط في فهم النظام السياسي الخاضع للقانون‬‫الطبيعي والنظام السياسي الخاضع للقانون الخلقي‪ .‬وأفلأطون يعمم ذلك حتى على النظام‬‫الطبيعي الذي هو خلقي بالصورة الرياضية‪ ،‬وما يشد عن الخلقي فيه راجع إلى ما في المادة‬ ‫من شر دون تصوير غائي أو عقلي (النوس)‪.‬‬‫وحل أرسطو أوضح وأكثر صراحة بأن الغاية‪ ،‬حتى في الطبيعة‪ ،‬متقدمة على الضرورة‪.‬‬‫ولذلك فهو يعتبر القوانين الطبيعية خاضعة لمبدأ \"الضرورة الشرطية\" بمعنى أنها \"صناعة\"‬‫أدواتها ضرورية‪ ،‬لكنها تعمل بمقتضى ما تقتضيه الغاية‪ .‬وفي مثال البايولوجيا‪ ،‬الوظيفة‬ ‫هي التي تحدد خاصيات العضو وليس العكس‪.‬‬‫ولذلك فهو أول من اعتبر التطور في العضويات ناتج عن \"شبه\" تجريب بايولوجي لحلول‬‫عضوية متطورة من أجل تحقيق نفس الوظيفة بحسب شروط عيش الكائنات الحية وتكيفها‬ ‫معها‪.‬‬‫وهو بهذا المعنى الاب الحقيقي لنظرية التطور في البايولوجيا ولم يقل بثبات الأنواع من‬ ‫حيث الأعضاء‪ ،‬بل من حيث الوظائف فحسب‪.‬‬‫وما لم يبرهن التطوريون الجدد أن المكتسب الوظيفي يمكن أن يصبح موروثا‪ ،‬لا يمكن‬‫تجاوز أرسطو الذي لا ينفي أن يكون المكتسب العضوي موروثا‪ ،‬إذ يمكن بيان العلاقة بين‬‫الجنين والبويضة والحيوان المنوي من اتصال كمي قابل للإثبات مع عدم تمكننا من إثبات‬ ‫ما بين الوظائف من تواصل كيفي‪.‬‬ ‫فهل للذكاء مثلا علاقة له بحجم البدن الإنساني؟‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪8‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫ويمكن ملاحظة علاقة حجم بدن الأبوين في علاقة بحجم بدن الأبناء لكن يعسر أن نثبت‬‫علاقة بين \"ذكاء\" الابوين \"وذكاء\" الابناء‪ .‬فإذا كان اليابانيون الحاليون أطول قامة من‬ ‫اليابانيين القدامى لتحسن الغذاء‪ ،‬فهل هذا يعني أنهم أذكى مثلا؟‬‫ففي كل اختصاص يمكن ان نقول إن ما لدى أي متعلم في الثانوية من معلومات أكثر مما‬‫كان لدى أفلاطون مثلا‪ .‬لكن كم المعلومات لا يجعله أقدر من أفلاطون على فهم إشكاليات‬‫الفلسفة والرؤية الرياضية للوجود الطبيعي والسياسية والخلقية للوجود التاريخي‪ .‬وهذا‬ ‫هو المعنى الثاني من \"وفي أنفسهم\"‪.‬‬‫وهذا الـ\"وفي أنفسهم\" هو ما يتعلق به الامر‪ .‬وهو في القرآن متعلق بالسنن التي لا تتبدل‬ ‫ولا تتحول‪ .‬وهي سياسية وخلقية وليس طبيعية‪.‬‬‫ولما كانت سياسية وخلقية وليست طبيعية فهي سنن ما يصحل بمقتضى قانون الحرية وليس‬ ‫بمقتضى قانون الضرورة‪ :‬المأمور هو المكلف المسؤول‪.‬‬‫وهذا النوع من سنن العالم التاريخي من الشاهد يخضع سنن سياسية خلقية تحكم الحرية‪،‬‬‫وهو الأمر في عالم الشهادة بخلاف النوع الأول من قوانين العالم الطبيعي من الشاهد الذي‬‫يخضع لقوانين رياضية تحكم الضرورة وهو الخلق في عالم الشهادة‪ .‬وهما المجال الوحيد‬ ‫القابل لعلم إنساني متطور وغير محيط‪.‬‬‫وكلى العلمين الطبيعي والتاريخي متطوران ولا يمكن للإنسان أن يجدهما إلى في الآفاق‬‫والانفس بالبحث العلمي الحقيقي‪ ،‬وليس بشرح نصوص القرآن التي توجهه إليها بصورة‬‫عامة ولا تحتوي على أي قانون أو سنة محددة يكفيها شرح كلمات القرآن لجعلها قانونا‬ ‫مباشرة أو ليسبق بها اكتشافها العلمي فيهما‪.‬‬‫تكلمنا إلى حد الآن على إشارات القرآن إلى شروط المعرفة العلمية لعالم الشهادة بنوعيه‬‫الطبيعي والتاريخي من حيث الموضوع الذي نريد علمه بالبحث العلمي الفعلي‪ ،‬وليس بشرح‬‫الكلام الوارد في القرآن‪ .‬ولم ننتقل إلى إشاراته إليها من حيث الذات التي يمكن أن‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪9‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫تدركها إذا تخلصت من النسيان‪ .‬فحددنا ما يقبل العلم وما لا يقبله‪ ،‬وحددنا الخصائص‬‫العامة للمعلوم ولعدم المعلوم‪ ،‬وفهمنا معنى الإشارة التي لا تتعلق بقوانين المشار إليه بل‬‫بطبيعتها التي من المفروض أن تكون طبيعة المطلوب فيها والتي لا تعلم إلا بطلبها منه‬ ‫بالبحث العلمي الحقيقي الذي هو جزء من مهمة الإنسان معمرا‪.‬‬‫ومن هنا جاء التمييز بين من يستعمل مداركه ليدرك الآفاق والأنفس‪ ،‬ومن لا يستعملها‬‫فيكون من نوع \"صم بكم عمي فهو لا يعقلون\"‪ .‬وهذا التمييز بين نوعين من الإدراك مقصور‬‫على الحواس ومتجاوز لها هو ما يناظر البحث في الآفاق والأنفس بدل الاكتفاء بشرح آيات‬ ‫الله في النص وآياته في الآفاق والانفس‪.‬‬‫وبهذا المعنى فإني لا أظلم أحدا إذا قلت إن من يطلب تبين حقيقة القرآن من آيات نصه‬‫مباشرة وليس من آيات الله في الآفاق وفي الانفس يمكن اعتباره المقصود بعبارة \"صم بكم‬‫عمي فهم لا يعقلون\" وخاصة إذا اجتمع مع ذلك عدم احترام آل عمران ‪ :.7‬ترك فصلت‬ ‫‪ 53‬والانشغال بما نهت عنه آل عمران ‪.7‬‬‫\"الصم والبكم والعمي والذين لا يعقلون\" هم من يطلب تبين حقيقة القرآن منه مباشرة‬‫وليس مما طلب من أن نبحث عنها فيه وخاصة إذا تركنا ما أمرنا به وما نهانا عنه في هذا‬ ‫البحث‪.‬‬‫ولسوء الحظ فذلك هو ما حصل في كل محاولات تأسيس علوم الملة الإسلامية على القراءة‬ ‫المباشرة لآيات القرآن النصية‪.‬‬‫وتلك هي علة حكمي شديد القسوة على علماء الملة الغائية الخمسة‪ :‬التفسير أصلا‬ ‫وفروعه أي الفقه‪ ،‬والتصور عمليا والكلام والفلسفة نظريا‪.‬‬‫وطبعا لو كان التاريخ لم يثبت أنها كانت نكبة على الأمة لأنها كلها دون استثناء استثنت‬ ‫أمر فصلت ‪ 53‬ولم تنشغل إلا بنهي آل عمران ‪.7‬‬‫فهي لم تكن تهدف إلى علم ما طلب من الإنسان علمه لتحريره من سلطان الطبيعة ومن‬‫سلطان التاريخ عليه حتى يكون حرا كريما‪ ،‬بل هي سعت إلى \"شبه علم\" يسيطر على‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪10‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫الإنسان روحيا بعلم الغيب الزائف في نظر يجعل قوانين الرياضة والطبيعة سندا روحيا‬ ‫لوصاية مادية على الإنسان الذي يجهل سنن السياسة والأخلاق‪.‬‬ ‫وبذلك فهي ليست علوما تمكن الإنسان من تحقيق بعدي كيانه ومنزلته الوجودية‪:‬‬ ‫‪.1‬فهي جردته من شروط تعمير الارض‬ ‫‪.2‬وجردته من شروط الاستخلاف فيها‪.‬‬ ‫فصار في الأولى عالة على غيره لا ينتج ما به يسد حاجة الرعاية والحماية‪.‬‬ ‫وصار في الثانية عبدا لغير الله لأن المحتاج للألى ليس حرا ولا كريما‪.‬‬‫من يتفطن إلى هذه العلاقات والنتائج التي لا جدال في كونها قد حصلت فعلا‪ ،‬لا يمكن‬‫أن يعتبر حكمي قاسيا‪ ،‬بل هو مجرد وصف لما حصل‪ .‬ويفهم من ثم ضرورة هذه المراجعة‬‫الجذرية وعلة استثنائي من هذا الحكم القاصي من سميتهم فلاسفة المدرسة النقدية‪:‬‬ ‫الغزالي نسبيا وابن تيمية وابن خلدون بصورة أتم‪.‬‬‫لكن ثلاثتهم‪ ،‬على أهمية دورهم ورغم استثنائي لهم من حكمي القاسي‪ ،‬يشتركون في عيب‬ ‫لم أفهم سره إلى الآن‪ :‬وهو أنهم تخلصوا مما وصفت لكنهم ختموه بالنتيجة العكسية‪.‬‬ ‫فثلاثتهم بقي يقول بمنطق سد الذرائع‪.‬‬‫اعتبروا الفلسفة وعلومها غير ضرورية‪ ،‬بل ضررها أكثر من نفعها لكأنها مثل الخمر‬ ‫والميسر‪.‬‬‫فحتى ابن خلدون على قدره‪ ،‬استنتج من كلامه على آراء الميتافيزيقيين في المابعديات أن‬‫الفلسفة والمنشغلين بها مفسدة‪ ،‬وأن الطبيعيات ليس مهمة ويمكن الاستغناء عنها‪ .‬وطبعا‬‫لو كنا معاصرين له ورأينا ما يختلط بالفلسفة وعلومها من بدع باطنية وسحر وتنجيم‬ ‫وسيمياء لفهمناه‪ .‬لكن سد الذرائع ليس حلا‪.‬‬‫والنتيجة التي تعنيني من هذه المحاولات ليس تقييم السابقين‪ .‬ففضلهم لا ينكره إلا‬ ‫جاهل‪ .‬لولاهم لما بقينا من نحن‪.‬‬ ‫هم حافظوا على شروط بقائنا حتى وإن لم يحافظوا على شروط بقائنا أحرارا‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪11‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫ما يعنيني هو أن ما حصل من خطأ‪ ،‬لم يكن من القرآن ورؤيته‪ ،‬بل بالعكس‪ ،‬كان من عدم‬ ‫إدراك أعماقه‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪12‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وعدم إدراك أعماق الرؤية القرآن لها علتان‪:‬‬‫الاولى ذاتية للرؤية نفسها بمعنى أن عسر رؤية الرؤية طبيعي في نفس ثوري حقا في‬‫مجاليه‪ ،‬أعني في النظر والعقد لعلاج العلاقة بالطبيعة والتبادل (تعمير الارض)‪ ،‬وفي‬‫العمل والشرع لعلاق العلاقة الأفقية بالتاريخ والتواصل (للاستخلاف)‪ :‬شرطي تحقيق‬ ‫التكليف‪.‬‬ ‫وعدم الغوص في أعماق العلاقة بين الرسالة والتكليف المضاعف‪:‬‬‫تعمير الأرض والاستخلاف علته عسر فهم العلاقة الجديدة بين التعمير والاستخلاف‪.‬‬‫فالعلة هي الرؤية الجديدة للعلاقة بين الشهادة والغيب‪ ،‬أو بين الأولى والآخرة‪ ،‬أو‬ ‫الفرصة الثانية لتقييم جدارة الإنسان بمنزلته الوجودية في رؤية القرآن‪.‬‬‫ففي الرؤية القرآنية الإنسان فشل في الامتحان الاول وندم فعفا عنه ربه‪ .‬واعطاه‬ ‫فرصة ثانية لكنها تختلف عن الفرصة الاولى‪:‬‬‫في الاولى لم يكن عليه أن يشقى ويكابد ليعيش‪ .‬كل شيء متوفر لكنه كفر النعمة‪.‬‬‫فأعطي الفرصة الثانية على أن يحقق بنفسه شروط عيشه تحقيقا يحافظ على منزلة‬ ‫الخليفة‪.‬‬‫لكن التشكيك في أهليته لهذه المنزلة الوجودية (خليفة) بقي موجودا‪ ،‬ورمز بقائه هو‬‫اصرار من رفض السجود‪ :‬ابليس‪ ،‬وكان من العدل أن يحسم الامر بعد الامتحان في الفرصة‬‫الثانية‪ .‬هذه هي الحبكة الرمزية لعلاقة الدنيا بالآخرة في الرؤية القرآنية للإنسان أو لما‬ ‫هو طبيعي وما بعد طبيعي في كيانه‪.‬‬‫ولو كانت الحبكة الرمزية تعتبر منزلة الاستخلاف غير طبيعية عند الإنسان وتقابل بين‬‫الطبيعي والروحي (بالمعنى الهيجلي الذي يعتبر الطبيعي مضاد للروحي) لاستحال أن‬ ‫يستخلف الإنسان‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪13‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫الاستخلاف يعني أن الإنسان كما يقول ابن خلدون \"رئيس بالطبع بمقتضى الاستخلاف‬ ‫الذي له\"‪ :‬الروحي فطري في القرآن‪.‬‬‫وهذه الفطرية صريحة في آيتي الميثاق أو شهادة أبناء آدم على أ نفسهم (الأعراف‬‫‪ )173-172‬وهي متنافية بإطلاق مع نظرية هيجل التي هي ترجمة فلسفية للرؤية‬‫المسيحية التي تعتبر الروحي منافيا للطبيعي‪ ،‬ومن ثم فالإنسان شرير بطبيعته وجسده‪،‬‬ ‫وخير بما بعد طبيعته وروحه‪ .‬الجسد من عالم والروح من عالم ثان‪.‬‬‫وهذا الموقف عند التعمق فيه‪ ،‬يعود إلى موقف إبليس الذي احتقر تراب آدم ناره ولم‬‫ير أن الإنسان يفضل بما جعل التراب أفضل من النار بالمنظور المادي‪ :‬بمعنى أن منزلة‬‫الإنسان ليس روحية فحسب‪ ،‬بل وكذلك بدنية‪ ،‬ومن ثم فمنزلة بدن الإنسان مقدس وهو‬ ‫المعبد الاول الذي بناه الله نفسه‪.‬‬‫ومن يريد أن يفهم موقف هيجل في ترجمته للرؤية المسيحية‪ ،‬فليقرأ رسائل بولص وما‬‫يقوله في الجسد واحتقاره وموقف الكنيسة من الجنس واحتقاره‪ ،‬وليقارنهما بموقف الإسلام‬‫منهما‪ .‬والمهم هو أن ما حصل في هذه العلة الأولى‪ ،‬أن علماء الإسلام حافظوا على رؤية‬ ‫الإسلام في الأقوال ومسحوها في الأفعال‪.‬‬‫ذلك أن إهمال شروط الاستعمار في الأرض يعني في النهاية إهمال ما به يكون كيان‬‫الإنسان العضوي مشبع الحاجات حتى لا يصبح عبدا للطبيعة فيسمو عليها بالسيادة على‬‫سلطانها‪ ،‬ليصبح بحق متجاوزا للفقر المادي وواعيا بالفقر الوجودي‪ ،‬أي بالحاجة إلى عبادة‬ ‫أصل كل القيم الله‪ :‬فيكون خليفة بحق‪.‬‬‫وبهذا المعنى‪ ،‬فلكأن الانحطاط مسح الإسلام والنهضة أسلمت المسيحية‪ .‬فنحن صرنا‬‫نحتقر الدنيا ولم نعد نعتبرها مطية الآخرة‪ ،‬وهم صاروا يحتقرون احتقار الدنيا فكادوا‬‫يصبحون أقرب إلى الإسلام منا لولا أنهم جعلوا الدنيا معبودا وليست مطية‪ .‬الإسلام يطلب‬ ‫السواد عليها مطية لا الإخلاد إليها قيمة‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪14‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫ولأمر الآن إلى العلة الثانية لعسر الفهم الذي حصل‪ .‬وهي العلة الظرفية التاريخية‪.‬‬‫وهي شبه معلومة حتى للإنسان العادي الذي ليس له الثقافة الفلسفية الضرورية للتعمق‬‫في التأثير التاريخي الذي يغير قيم الشعوب‪ .‬ويتبين ذلك من الموقف الاجماعي من المقابلة‬ ‫بين عصر الراشدين وما بعده‪.‬‬‫عندما أسمع \"عبارة هم رجال ونحن رجال\"‪ ،‬أقول لعل البعض يقولها عن حسن نية لأنه‬‫يتصور أن المقابلة علتها التشكيك في \"رجولة\" المعاصرين والمبالغة في \"رجولة\" السابقين وليس‬‫في مقابلة بين الموقف التأويلي المحدد للعلاقة بالثورة التي حدثت في الإسلام وحرفت بعد‬ ‫عصر الراشدين‪.‬‬‫والقول إن موقف التأويل أو أفق التأويل والفهم تغير‪ ،‬لا يعني مفاضلة بين العقول أو‬‫حتى الأخلاق‪ ،‬بل هو يعني تغير كيفي في فهم الرؤية الإسلامية من حيث هي ثورة في فهم‬‫\"الديني\" وعلاقته بالدنيوي\" لم يكن معهودا ولم يكن من الطبيعي أن يفهم الفهم الذي‬ ‫يقترب منه‪ ،‬بل كان سيؤدي حتما للابتعاد عنه‪.‬‬‫وذلك خاصة في الموقف التأويلي أو أفق التأويل لبعدي هذه الثورة‪ :‬كيف يمكن أن يفهم‬ ‫الناس نظاما دينيا من دون سلطة روحية أو كنسية أو مرجعية مسيطرة على الأذهان؟‬ ‫هذا الرسول يقول له ربه \"فذكر إنما أنت مذكر\" =‬ ‫‪ .1‬لست وسيطا بين الله والمؤمنين‪.‬‬ ‫ثم يضيف \"لست عليهم بمسيطر\"=‬ ‫‪ .2‬إنك لست وصيا عليهم‬ ‫ما هذا؟‬‫كيف يمكن أن يفهم الجاهلي أو من كان تحت الاستعمار الفارسي (المناذرة) ومن كان تحت‬‫الاستعمار البيزنطي (الغساسنة) هذا الدين الجديد الذي يقطع نهائيا مع النظامين‬‫اللذين ينظمان حياة الجماعات‪ ،‬أي التربية والحكم‪ ،‬ليعوضهما بأمر جديد لا سابق له في‬ ‫تاريخ الإنسانية؟‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪15‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫ولا أخفي أني شديد العجب من تمكن الرسالة الإسلامية السريع من القبول في البداية‪،‬‬ ‫فكونت أسس تحقيق مشروعها رغم أنها في قطيعة مطلقة مع أمرين‪:‬‬‫‪ .3‬مع النبوة نفسها إذ هذا رسول يخاطب الناس بالعقل والنظام وليس بالمعجزات‬ ‫والكرامات‬ ‫‪ .4‬مع أساسي النظام المعتادين وساطة التربية ووصاية الحكم‬‫كما لا أخفي كذلك أن النكوص إلى ما قبلها لم يتأخر كثيرا‪ ،‬إذ مباشرة بعد وفاة الرسول‬ ‫بدأ النكوص والفتنة الكبرى‪:‬‬ ‫قصة منا أمير ومنكم أمير‬ ‫ثم قصة الوصية‬ ‫ثم قصة الردة إلخ‪...‬‬‫ولولا الخلفاء الثلاثة الاول لما بقي أثر لدولة الإسلام طبعا مع التوفيق والوعد الإلهي‬ ‫بأن الإسلام سينتصر حتما‪.‬‬‫وهذا هو المقصود بالموقف التأويلي أو الأفق التأويلي الذي فقد والذي لا علاقة له‬‫برجولة من تقدم وعدم رجولة من تأخر‪ ،‬ولا بذكاء أولئك وغباء هؤلاء‪ .‬الرجال هم‬‫الرجال والعقول هي العقول‪ ،‬لكن الافق التأويلي أو المنظور الذي يدرك طبيعة الثورة‬ ‫الحاصلة هو الذي غاب بسبب الفتنة الكبرى‪ .‬ثم تدعم الآن بسبب الفتنة الصغرى‪.‬‬‫‪ .1‬فالأولى حاولت النكوص عن ثورة الإسلام إلى الثيوقراطيا التي يرفضها القرآن‬ ‫سواء كان على أساس الوصية في التشيع أو على أساس الغلبة في التسنن‪.‬‬‫‪ .2‬والثانية تتوهم تجاوز الإسلام بالعلمانية إلى الانثروبوقراطيا‪ .‬فتبين أنهما‬ ‫\"أبيسيوقراطيا\" كما عرفهما القرآن‪.‬‬‫ثورة الإسلام التي كان من العسير فهمها‪ ،‬رغم أن الخلفاء الثلاثة الأول سعوا إلى‬‫حمايتها بالممارسة دون القدرة على صوغها النظري‪ ،‬هي التي حرفت لما نجحت الفتنة الكبرى‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪16‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫فأدخلت الأمة في حروب أهلية دامت نصف قرن انتهت إلى الانتقال من الخلافة إلى الملك‬ ‫العضوض‪.‬‬ ‫والقائلون هم رجال ونحن رجال نوعان‪:‬‬ ‫‪ .1‬نوع هم أصل الانتقال إلى الملك العضوض وهم إلى الآن من توابعه‪.‬‬‫‪ .2‬ونوع ثاني هم أصل الانتقال من الخداع الثيوقراطي للأولين إلى الخداع‬‫الانثروبوقراطي لمن تصوروا أنهم حققوا ثورة على الثيوقراطيا فاتضح المشترك بينهما‪:‬‬ ‫الخداع الأبيسيوقراطي‪.‬‬‫والخداع الابيسيوقراطي أو دين العجل‪ ،‬هو وهم تحرير البشرية بجعلها كلها عبيدا‬‫لأصحاب المال (معدن العجل) ولأصحاب الإيديولوجيا (خوار العجل)‪ .‬العولمة وتوابعها من‬‫أنظمة العرب القبلية والعسكرية مجرد أدوات لمافيات تحكم العالم وتستعبد البشر بنظام‬ ‫البنوك والبورصات ونظام الاعلام والملاهي‪.‬‬‫يقولون إن الحداثة والعلمانية حررت البشر فإذا هما في الحقيقة استسلام لدين العجل‬ ‫أي لمعدنه ولخواره لاستعباد كل البشر مع وهم الحرية‪:‬‬ ‫لست أدري ما حرية من يرهن كل مستقبله ليكن رأسه في غرفة؟‬‫وما حرية عقل من يشرب ليلا نهارا خداع الإعلام ويهرب من ذاته للملاهي والمخدرات؟‬‫ما كانت تقوم الوساطة الكنيسة في التربية والحكم بالحق الإلهي في الحكم صارت تقوم‬‫به مؤسسات الإعلام والملاهي (كنيسة العصر) والحكم بالحق الطبيعي أي بالسلطان على‬‫المال وأكبر الادلة يوجد في أرقى ديموقراطية حالية نموذج الآخرين‪ :‬أمريكا يحكمها مافيات‬ ‫المال والملاهي وبهما تحكم العالم‪.‬‬‫وطبعا لا بد من عصا غليظة لهما علاقة بالرمزين العلمة والكلمة‪ .‬وتلك هي وظيفة‬‫القوة العسكرية والقوة الاستعلامية‪ .‬فيكون العالم محكوما بأربع قوى أصلها العجل‬‫الذهبي‪ :‬المعدن والخوار والمعدن مضاعف هو المال والسلاح والخوار مضاعف هو الاعلام‬ ‫والاستعلام‪ .‬والأصل الدنيا أم العجل‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪17‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ومن هو مطلع على القرآن الكريم يعلم دلالة رمز البقرة في سورة البقرة‪:‬‬‫كيف يكون ذبحها محييا للقتيل وللحقيقة التي ذهبت معه وكيف أن أصحاب العجل تلكأوا‬ ‫لئلا يذبحوها فذبحوها وما كادوا يفعلون‪.‬‬‫نحن اليوم أمام البقرة التي هي عبادة الدنيا والتي هي العولمة والتي تحكم الإنسانية‬ ‫ببعدي العجل‪.‬‬‫وإذا أنظمة الغرب لها القدرة على الخداع فتخفي دور بعدي العجل فتدعي أن الإعلام‬‫والاستعلام لمعرفة الحقيقة وليس لفرض الباطل‪ ،‬وأن النظام العالمي البنكي لتيسير‬‫التبادل‪ ،‬والكل يعلم كذب ذلك فإن حكامنا لأنهم متخلفون لا يستطيعون حتى اخفاء ذلك‪:‬‬ ‫هم يستعملون السلاح والمخابرات مباشرة‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪18‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫والآن لا بد من حسم مسألة تحررنا من الفتنتين الكبرى والصغرى‪.‬‬‫والتحرر من الصغرى أيسر لأنها عمت البشرية كلها‪ ،‬ومن ثم فالتحرر منها ليس مرتهنا‬‫بنا وحدنا‪ .‬فالجميع عون لنا عليها‪ ،‬لأن البشرية اليوم بدأت تفهم أنها صارت عبيد بعدي‬ ‫دين العدل معدنه وخواره‪ ،‬وأولهم الأمريكان كما هو بين‪.‬‬‫لكن الفتنة الكبرى ما تزال خاصة بنا‪ ،‬وهي أكبر فيروس مدمر للأمة الإسلامية‪ ،‬قصدت‬‫قضية الوساطة والوصية التي يستمد منها التشيع وتوظيفاته الحرب على الإسلام منذ‬ ‫نشأته إلى اليوم‪.‬‬‫وقبل أن أتكلم في خرافة تأسيسه على حديث الغدير‪ ،‬فلأبدأ بالأمور التي لا جدال فيها‬ ‫قرآنيا وتاريخيا‪.‬‬‫وسأبدأ بالتاريخي قبل القرآني لأن التاريخي احداث لا يكاد أحد يصدق في العناصر‬ ‫الخمسة التي تعتبر منافية لأساس القول بالوساطة والوصاية‪:‬‬ ‫‪ .1‬أن القرآن نزل على محمد‬ ‫‪ .2‬أنه هو الذي ربى وحكم‬ ‫‪ .3‬أن أبا بكر وحد الجزيرة العربية‬ ‫‪ .4‬أن عمر أسس التاريخ الهجري‬ ‫‪ .5‬أن عثمان وحد القرآن المدون والمحفوظ‬‫فهذه العناصر الخمسة التي لا يمكن تصور الإسلام موجودا بدونها فضلا عن أن يكون‬ ‫باقيا إلى اليوم من دونها‪.‬‬ ‫فالرسالة هي القرآن وفيها المشروع الإسلامي الكوني كله‪.‬‬‫وعمل الرسول تربية وحكما هو السنة ولا يزال جله بين أيدينا‪ .‬وتوحيد الجزيرة رمزه‬ ‫هزيمة المرتدين‪ .‬والتاريخ الهجري أسسه عمر‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪19‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫وتوحيد نص القرآن بجمع ما توفر من المكتوب والمحفوظ وبشهادة أكبر علمائه يعود‬ ‫لعثمان‪.‬‬‫والرسالة بذلك صارت ذات مؤسسات شبه تامة مشروعا وتطبيقا في التربية والحكم‬ ‫ووحدة جغرافيا وتأسيسا تاريخيا وتوحيدا للمرجعية‪.‬‬ ‫كل الموقف التأويلي أو مقومات الظرفية التأويلية حسمت ولم يعد تغييرها ممكنا‪.‬‬‫لو كان لحديث الغدير دلالة سياسية لكان استعمل حجة يوم اختلف الناس عمن يخلف‬‫الرسول في الحكم ولما قاسوه عمن استخلفه على الصلاة بحجة القادر على الأكثر أقدر على‬ ‫الاقل‪.‬‬‫ما استعمل للحسم كان إما العودة إلى القبلية (منا أمير ومنكم أمير) أو حديث آخر له‬ ‫دلالة سياسية وهو حديث الإمارة من قريش‪.‬‬‫لا أحد احتج بحديث الغدير‪ ،‬إذ حتى من فكر في علي لم يؤسسه رأيه عليه‪ ،‬بل على‬‫القرابة لأنه من قريش أولا‪ ،‬ولأنه من أقرب الناس إلى الرسول بالقبيلة وبالنسب (زوج‬ ‫ابنته)‪.‬‬‫لكن الأهم من ذلك كله حديث الغدير نفسه‪ :‬ففيه كما ينبغي أن يفهم وصية ليس بعلي‬ ‫حاكما‪ ،‬ولكن بعلي واسرة الرسول لحمايتها من بعده‪.‬‬‫وفي الوصية ترتيب بين وصية بالقرآن حتى لا يخالفه أحد وحتى لا يقدم عليه شيء بما‬‫في ذلك الوصية بعلي واسرة النبي ‪-‬وهو خلاف مطلق مع الفهم الشيعي‪-‬يليه وصية بموالاة‬ ‫علي والأسرة وليس بالوساطة والوصية التي فسر به مفهوم المولى في الحديث‪.‬‬ ‫والدليل هو أن الأحداث الخمسة ليس لعلي فيها دور‪.‬‬‫فلا علاقة لعلي بالوحي ولا بالسنة‪ ،‬والمعلوم أن دور عمر كمستشار حتى في بعض قرارات‬‫الرسول لا يشكك فيه أحد‪ ،‬ولا أحد يدعي أن لعلي دور في ذلك‪ .‬كما أنه ليس لنا علم بأن‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪20‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫عليا قاد أهم معارك التأسيس لا في حياة الرسول ولا بعده‪ ،‬وخاصة في المعارك الجوهرية‬ ‫الثلاثة المؤسسة للمكان والزمان والمرجعية‪.‬‬‫وعندي أن ما قاله الرسول يوم فتح مكة وما كلف به معاوية بعد ذلك‪ ،‬يدلان بصورة‬‫واضحة أن النبي كانت له فراسة على أن دولة الإسلام لن ينقذها إلا أقوى عصبية في‬‫قريش أي عصبية أبي سفيان وذريته‪ ،‬ذلك أنه لا يجهل أن ثورة الاسلام في التربية والحكم‬ ‫كما ربى عليها الصحابة الكبار‪ ،‬ما تزال هشة‪.‬‬ ‫وهشاشتها هي أنها لم تصبح بعد ذات مؤسسات متينة‪:‬‬‫هي متعينة في نص يعسر اكتشاف ما فيه من رؤية ثورية فضلا عن استيعابها وتحويلها إلى‬‫مؤسسات وفي قلة من الأبطال هم من ذكرت أي الخلفاء الثلاثة الأول الذي ثبتوا المكان‬ ‫والزمان والمرجعية وكانوا يمارسون الرؤية عمليا دون تنظير‪.‬‬ ‫كيف ذلك؟‬ ‫ولأبدأ بأبي يكر‪.‬‬‫من يقرأ القرآن‪ ،‬يعلم أن دولته ليست محددة المكان‪ ،‬بل هي تعتبر المعمورة كلها تابعة‬ ‫لها‪.‬‬‫فكان إذن لا بد من تحديد مركز أرضي لدولة الإسلام وذلك ما حققه أبو بكر لما خاض‬ ‫حرب الردة لتوحيد الجزيرة‪ ،‬ثم بعدها شرح في الفتح لتحقيق رؤية الإسلام الكونية‪.‬‬‫وهو أمر مركزي تردد فيه حتى الفاروق‪ ،‬لكن أبا بكر لم يتردد لأنه كان الأعلم‬ ‫بالمشروع‪.‬‬‫ولما ثبت أبو بكر المركز الجغرافي للمشروع‪ ،‬كان لا بد من تثبيت المركز الزماني للمشروع‬‫ويكون من جنسه‪ :‬فانتشار المشروع في المعمورة رمزه الهجرة الدائمة للإسلام بوصفه فاتحا‬ ‫وليس مستجيرا بغيره‪.‬‬ ‫وهذا يعني تأسيسا لتحقيب جديد للتاريخ الإٌنساني (الفاروق)‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪21‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫فاكتمل تركيز المشروع الكوني أي التعين المكاني والتعين الزماني لقلب الرسالة في الأرض‬‫(الجزيرة والهجرة إلى المدينة مع الفصل بين مركز الرؤية القديمة‪-‬مكة‪-‬ومركز الرؤية‬ ‫الجديدة‪ -‬المدينة)‪ .‬وختم عثمان بأصل المراكز‪ :‬تثبيت القرآن‪.‬‬‫خمس مؤسسات ثابتة لم يمسسها أدنى تغير يمس الجوهر مهما اختلفت التأويلات‪:‬‬ ‫‪ .1‬القرآن مشروع لتوحيد الإنسانية‬ ‫‪ .2‬السنة عينة من تربية بلا وساطة وحكم بلا وصاية‬ ‫‪ .3‬وحدة المركز الجغرافي‬ ‫‪ .4‬وحدة المركز التاريخي‬ ‫‪ .5‬وحدة المركز المرجعي‪.‬‬ ‫فاكتملت أركان المشروع‪.‬‬‫وهذا هو القصد بالمرحلة المثال الأعلى وليس شيئا آخر‪ ،‬والأمور التأسيسية لا تتكرر‪،‬‬‫وثباتها لا يعني أن اللاحق دون السابق‪ ،‬لأنها تخضع لما سماه برقلس في كلامه على فاعلية‬‫المبادئ بأن الاعم يبقى دائما مؤثرا في الأخص الذي يزيده قوة لأنه قوة جديدة تتضمن‬ ‫قوة ما تقدم عليها لانبنائها عليها‪.‬‬‫مثال ذلك أني عندما أعرف الإنسان بكونه حيوانا ناطقا‪ ،‬فلا يمكن تصور \"ناطقا\" من‬ ‫دون \"حيوانا\"‪.‬‬‫لكن الناطق يضيف إلى ما يستمده من الحيوانية ما تختص به الناطقية التي هي حيوانية‬‫تتميز بما يضيفه النطق للحياة‪ .‬وهذا هو ما كان منتظرا من المسلمين بعد أن اكتملت صياغة‬ ‫المؤسسات القاعدية‪.‬‬ ‫لكن ما حدث أمران هددا المؤسسات القاعدية‪:‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪22‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫‪ .1‬الأول هو جرثومة النكوص إلى سلطة روحية وسيطة باسم حديث الغدير وسلطة‬ ‫سياسية وصية بنفس الحجة وتلك هي بداية الفتنة الكبرى‪.‬‬‫‪ .2‬والثاني جرثومة النكوص إلى القانون الطبيعي أو سلطة الحكم بالتغلب التي‬ ‫تستتبع سلطة التربية فتكون في الأفعال مثل الأولى‪.‬‬‫ما يعني أن دولة الإسلام صارت مهددة بنكوصين إلى التقاليد الفارسية البيزنطية‬‫والتقاليد القبلية العربية‪ ،‬وكلا النوعين من التقاليد هما ما كان الإسلام في قطيعة معهما‬ ‫في بعدي السياسة‪ ،‬أي في التربية من دون وساطة وفي الحكم من دون وصاية‪.‬‬ ‫والثاني أرحم‪ :‬لم يغير المؤسسات القاعدية في الأقوال‪.‬‬‫لم يغير المشروع ولم يغير تجربة الرسول ولم يغير المركز الجغرافي إلا سياسيا ولم يغير‬‫المركز الزماني ولم يغير المرجعية في الاقوال‪ ،‬لكنه جعل الشرعية شكلا إسلاما وواقعا‬‫جاهلية وهو معنى الملك العضوض‪ .‬وصار النكوص إلى النموذج الفارسي والبيزنطي يعتبر‬ ‫التربية والحكم ثيوقراطيين عكس القرآن‪.‬‬‫وظلت الحال كذلك إلى أن فتتت الجغرافيا بعد الاستعمار على أساس اثني في ما يسمى‬‫بالدول القومية الحديثة وهي كذبة لأن الاستعمار لم يقتطع المحميات بمعيار القوميات بل‬‫بمعيار ما يحتاج إليه في الجيوسياسة وفي البحث عن مصادر الثروة والطاقة بحيث جعل كل‬ ‫محمية \"كوكتال مولوتوف\" كما نراها الآن‪.‬‬‫وجاء دور الفتنة الثانية أو الفتنة الصغرى للقضاء على الرابط الوحيد المتبقي بين‬ ‫المسلمين بعد أن قضوا على وحدة الجغرافيا ووحدة التاريخ‪.‬‬‫لكن كما أسلفت هذه الفتنة كونية ولا تقتصر على المسلمين‪ ،‬ومن ثم فهي لن تعمر كثيرا‬ ‫بعد أن أصبحت الدول الكبرى تخاف من تدخل الدول في الخيارات الروحية‪.‬‬ ‫هدف محاولاتي مضاعف‪:‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪23‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫‪ .1‬الوجه الاول منه هو الانطلاق من لحظة اكتمال بناء المؤسسات القاعدية إلى الآن‬‫للنظر في ما أضر بها من تأويلات لم تبق منها إلا الأقوال مع معارضتها التامة في الافعال‪.‬‬‫‪ .2‬الوجه الثاني العودة من اكتمالها في الممارسة دون صوغها ما يترتب عليها في‬ ‫التنظير‪.‬‬ ‫ذلك أن هذا الوجه الثاني هو الذي لو حصل لحال دون الوجه الاول‪.‬‬‫ومعنى ذلك أن تعين المؤسسات القاعدية في فعل فريد قام به شخص فريد‪-‬الرسالة‬‫والسنة وتوحيد الجزيرة وتوحيد التاريخ وتوحيد المصحف‪-‬كل ذلك لم يتحول إلى‬ ‫مؤسسات ذات فاعلية موضوعية متعالية على الأعيان‪.‬‬ ‫ما معنى شخص فريد؟‬ ‫المشروع القرآني كان فهمه العميق حكرا على الرسول‪.‬‬ ‫السنة في التربية والحكم فهمهما كان حكرا على ابي بكر والفاروق وعثمان‪.‬‬‫أبوبكر أكثرهم فهما بدأ بأساس الدولة الأول أو المركز المكاني‪ ،‬وبعد الفاروق بالمركز‬ ‫الزماني والأخير‪ ،‬اعتقد أكثرهم حنكة استدرك عليهم توحيد المرجعية‪.‬‬‫ولذلك فقد كان طبيعيا أن يكون هو المستهدف من دهاة المؤامرة الشعوبية اليهودية على‬ ‫الإسلام أو الفتنة الكبرى‪.‬‬‫وقد كان علي وأبنائه ضحاياها ولا يزال كل السنة العرب ضحاياها‪ ،‬لأنه لا يوجد خيار‬‫ثالث بين القول بالتشيع والتشكك في القرآن أو القول بالقرآن والتشكيك في تأويل حديث‬ ‫الغدير‪.‬‬‫وختاما لهذا الفصل المعقد أقول إن حديث الغدير صحيح‪ ،‬لكن تأويله هو أن الرسول‬‫كان يخاف على أسرته ومنها علي ‪-‬الذي كان سيستضعف مثل كل أسرة الرسول‪ ،‬لأن قوة‬‫هذه الاسرة تعتمد على قوة الرسول وليس لها عصبية قوية قد تحميها من القبلية العربية‪:‬‬ ‫هي وصية لحمايتهم وليس لتوليتهم على المسلمين‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪24‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫ولأني واثق بأن القرآن في شكله الحالي ‪-‬كما يضبطه المصحف العثماني‪-‬لا تشوبه‬‫شائبة‪ ،‬وأن ما يبدو عليه من \"فوضى\" دليل صحة وليس دليل تدخل يد غيرت فيه أو قدمت‬ ‫أو أخرت‪.‬‬‫فلو حصل لكان ذا نظام لا يحافظ على ما ينتج عن النسقية التي يصل إليها كل من يقرأه‬ ‫بما ينصح به القرآن نفسه ليكتشف نظامه‪.‬‬ ‫ويشبه الامر نظام العالم‪.‬‬‫فلا شيء أشد فوضى من العالم بالنسبة إلى من لم يكتشف نظامه بعد أن تقدمت العلوم‬ ‫التي بدأت بالتدريج تترقى لتصل إلى اكتشاف الكثير من علامات النظام فيه‪.‬‬‫وقد بدأت بأبرز مجال يتجلى فيه نظامه أعني علم الهيأة الذي أسسته الحضارات‬ ‫القديمة وبلغ شبه تمه مع اليونان‪.‬‬ ‫وأقول شبه تمه لأنه لا يوجد علم إنساني تام‪.‬‬‫التام هو أنهم اكتشفوا أن نظام السماء لا يمكن الاكتفاء فيه بالأرصاد‪ ،‬بل لا بد من‬‫ابداع نظام رياضي يمكن من وصل عناصره وصلا يجعل ما يجري في السماء قابلا للحساب‬ ‫الدقيق‪ ،‬وهو ما تم مع بطليموس حتى لو بني على فرضية تبين خطؤها‪.‬‬‫ولما عدلت بأن جعلت الشمس مركزا بدلا من الارض أصبح أقرب إلى ما نحن عليه الآن‬‫في صلتنا بالسماء مع فارق كبير وهو أن العالم تواسع إلى حد لم يدر بخلد بطليموس ولا‬ ‫كوبرنكوس ولا ما بينهما من مجالات في حضارتنا لتجاوز الأول والاعداد للثاني‪.‬‬ ‫المهم أن العالم ذو نظام صارم وراء الفوضى الظاهرة‪.‬‬‫القرآن عندي هو في هذه الوضعية‪ .‬لم نكتشف نظامه بعد واعتقد أن المسلمين لم‬ ‫يطرحوا هذا السؤال‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪25‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫فحتى الغزالي وهو أكثر علمائنا فهما لمعنى النظام المنطقي في الفكر القديم رغم أنه لم‬‫يكتب في الرياضيات لما بحث في القرآن اكتفى بمفاضلة بين آياته من منطلق هموم الفقهية‬ ‫والصوفية وربما الجمالية‪.‬‬‫صحيح أن نظام السماء عند القدامى وخاصة مصر وبابل كان البحث فيه لعلل نفعية هي‬‫النظام الزراعي خاصة وطبعا كان ذلك مخلوطا بهموم دينية وميتافيزيقية لكنه لم يخل من‬‫الصوغ الرياضي ولا زلنا نستعمل الكثير من فرضياتهم مثل القاعدة الستينية وعلاقتها‬ ‫بالمثلث متساوي الأضلاع وبعض الحلول الرياضية‪.‬‬‫وما يعنيني بيانه هو أن القرآن لم يتعامل معه بمنطق الافتراض العلمي حول بنيته‬‫الخفية والعميقة التي تمكن من اكتشاف نظامه ونسقه الذي يمكن من رد ما يبدو عليه من‬‫فوضى وتكرار والتقاء شبه اتفاقي بين القضايا التي يبحث فيها في نفس السورة أو في نفس‬ ‫النوع من السور وكأنه بلا منطق ونظام‪.‬‬‫وما زاد هذه الفوضى الظاهرية طغيانا هو تفتيت القرآن كل علم من علوم الملية الغائية‬‫الخمسة يقتطع منه ما يعنيه ولا يصله بالباقي حتى بلغ الأمر إلى قراءات من جنس الاعجاز‬‫العلمي أو من جنس آخر بدعة تسمى التفسير الموضوعي الذي يجعل القرآن \"صندوق\" عتاد‬ ‫لأصحاب صنعة كل في مجاله‪.‬‬‫ثم هجم عليه \"الدعاة\" وخاصة \"الجدد\" منهم أو تجار الفضائيات‪ ،‬فأصبح القرآن ماعون‬‫صنعة الحكم الشعبية والوعظ والإرشاد‪ ،‬ثم أصبح اسم \"العلماء\" بديلا من اسم رواة الملح‬‫والأشعار والأحاديث والخرافات وهلم جرا مما يتعلق بالكلام في ما لا يمكن الاحتكام فيه لما‬ ‫أمر القرآن بالاحتكام إليه‪.‬‬‫وقد حاولت جمع ذلك كله في قراءة معنى {صم بكم عمي فهم لا يعقلون}‪ .‬ذلك أننا لو‬‫قرأنا الظاهرات الطبيعية بحواسنا لبقينا حقا صما بكما عميا لا نعقل‪ .‬والقرآن يخاطب في‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪26‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫الظاهر وفي مستوى بنيته السطحية حواسنا خاصة باللسان الطبيعي وباللغة المسرحية‬ ‫الدرامية وعقولنا ذات الصلة بها بما يناسبها‪.‬‬‫لكن ذلك مثل قراءة الطبيعة بالحواس وبالعقل المؤسس عليها لا يمكن من تجاوز الفلك‬‫الغفل والفيزياء الغفلة ولا يسمح بإدراك بنية السماء والطبيعة كما تحقق ذلك لاحقا‬‫عندما فهم العلماء أن ذلك مستحيل من دون نوعي التقدير الذهني الخالص (الرياضيات‬ ‫العالية) والمطبق (الرياضيات التطبيقية)‪.‬‬‫وبهذا المعنى فهو إعادة وصل مع العلوم القديمة التي توقف استعمالها في الكتب الدينية‬‫‪-‬التوراة والأناجيل‪ -‬لعدم اعتمادها على النظام الرياضي التجريبي في الخلق والسياسي‬‫الخلقي في الأمر واقتصارها على خرافات نسجت حول تاريخ قبيلة بدائية هي يهود الشرق‬ ‫وورثتها في الأناجيل‪ :‬وليقرأهما من يشك‪.‬‬‫ولما كان المفسرون الأول عديمي الثقافة العلمية التي كانت حاصلة في ذلك الوقت عند‬‫اليونان مثلا فإنهم اكتفوا بالإسرائيليات والجاهليات من التمثلات البدائية وأصبح التفسير‬‫لا يتجاوز الأثر بهذا المعنى ومعه التعاليق اللسانية التي يمكن أن تفيد الشرح اللغوي لكنها‬ ‫لا تمس بنية القرآن العميقة‪.‬‬‫ومن يظن التفاسير البلاغية (الزمخشري) والتفاسير الكلامية وشبه الفلسفية‬ ‫(الرازي) تجاوزت البنية السطحية فهو لم يفهم القصد‪.‬‬‫فالبنية العميقة لا تتعلق بمعان عميقة لا يصلها نظام عميق بل بنظام عميق حتى لما ليس‬ ‫عميقا من المعاني‪ .‬فالمطلوب ليس المعاني بل ما يجعلها تلك المعاني بمقتضى النظام‪.‬‬‫ولما كان النظام المطلق من الغيب لا يعلمه إلا الله‪ ،‬فكل نظام نفترضه منطلقا لقراءة‬‫القرآن يبقى فرضيا دائما ككل نظرية علمية‪ .‬وهي معرضة للتغيير إما الترميمي‪ ،‬أو حتى‬‫الإلغاء إذا كثرت الشواذ في القرآن بالقياس إلى ذلك النظام المفترض‪ .‬مثال ذلك الكلام‬ ‫على العالم في ستة أيام‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪27‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫فلو كان اليوم في القرآن له دلالة واحدة هي اليوم الأرضي لعارضت الفرضية التي‬‫أنطلق منها في قراءة القرآن باعتباره استراتيجية توحيد البشرية‪ .‬فخلق العالم واعداده‬‫لجعل الحياة تكون ممكنة فيه وخاصة حياة الإنسان يحتاج إلى ما لا يعد من الالفيات وليس‬ ‫الأيام‪ .‬لكن تصور القرآن لليوم متعدد‪.‬‬‫فمن معاني اليوم‪ :‬اليوم الذي يساوي خمسين ألف سنة من زمانية الأرض‪ .‬وقد يكون‬‫اليوم الذي خلق فيه العالم يكون سكنا للحياة ‪-‬وهذه هي فكرة خلق العالم في القرآن‪-‬قد‬‫تطلب أياما أطول من خمسين ألف سنة من زمانية الارض‪ .‬ومجرد هذا الاحتمال يغنيني‬ ‫عن الشك في الآية لأنها تقبل ضمن النسق القرآني‪.‬‬‫وفرضيتي هي بيان أننا لو قرأنا القرآن واعتبرناه نظام تذكير للإنسانية بأمور تتأسس‬‫عليها استراتيجية توحيدها المحررة من الخضوع لنظام الانتخاب الطبيعي واستبداله بنظام‬‫التكامل الخلقي بمبدأي النساء ‪ 1‬والحجرات ‪ 13‬فإن كل ما فيه خلقا وأمرا بالتضايف مع‬ ‫تجهيز الإنسان ومهمته متناسق‪.‬‬‫ولنضرب مثلا موجبا‪ :‬كيف يمكن أن يكون الإسلام قائلا بأن من ليس بمسلم ليس على‬ ‫دين الله ومع ذلك يسمح بالتعدد الديني؟‬‫الفقهاء تصوروا ذلك متناقضا فاعتبروا كل ما يتعلق بعقائد غير المسلمين كفرا‪ .‬فحسموا‬‫في أمر الله نفسه حكم بأنه من باب الإرجاء‪ .‬وعلل ذلك بالتسابق في الخيرات (المائدة‬ ‫‪.)48‬‬‫اغفال الوصل بين حرية المعتقد (البرقة ‪ )256‬وإرادة التعدد القصدية من الله‬‫(المائدة ‪ )48‬ونظام الذمة ونظام النقد المعتمد على التصديق والهيمنة (علما وأن‬‫الهيمنة لا تعني التسلط بل السيادة على الشيء والمحافظة عليه في آن) حال دون فهم‬ ‫النظام المتناسق في السياسة الدينية القرآنية‪.‬‬‫وقد يكون أوضح مثال عن العجز في تبين نظام العقد في القرآن هو دور الزمان في كلامه‪.‬‬‫فهو يتكلم على الماضي وكأنه حاضر وعلى المستقبل وكأنه ماض وعلى جواب الشرط وعلى‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪28‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫الإنشاء وكأنه خبر ولا يمكن بعلم اللسان القديم وحتى بأبعاده الثلاثة في اللسانيات‬ ‫الحديثة أن يكفي لفهم لغة القرآن الكريم‪.‬‬‫كما أن البلاغة التقليدية حتى عند الجرجاني وهو الافضل على الأطلاق ليست كافية‬‫لفهم لغة القرآن العادية فضلا عن لغته الدرامية المسرحية‪ .‬ولذلك اضطررت لمضاعفة‬‫علم الدلالة بعلم المعنى وعلم التداول الدلالي بعلم التداول المعنوي مع الإبقاء على وحدة‬ ‫علم المبنى أو السنتاكس‪.‬‬‫فلو فهمنا الإشكالية المنطقية التي تميز بين الدلالة ‪Die Bedeutung‬والمعنى ‪Der‬‬‫‪ Sinn‬لزالت كل خرافات المقابلة بين الحشوية والتعطيلية‪ .‬فالدلالة مرجع خارجي وحد‬‫لرمز بين المتواصلين‪ ،‬والمعنى ليس له مرجع خارجي لرمز بين المتواصلين‪ .‬وقد يظن لا شيء‬ ‫لكنه موضوع كلام سليم بمعايير نحو اللغة‪.‬‬‫فإذا كنا لا نؤمن إلا بالعالم الحسي الطبيعي اعتبرنا المعنى الذي لا دلالة له فيه من‬ ‫الخيال‪.‬‬ ‫وإذا قسناه عليه كنا حشويين‪.‬‬ ‫وإذا نفينا عنه الدلالة أصلا وسميناه مجازا فنحن معطلون‪.‬‬‫وكل المعاني الماورائية مبدعات ذهنية في الفلسفة وهي في الدين معتقدات حول كيانات‬ ‫يتصورها المتدين موجودة حقا‪.‬‬ ‫فيكون عالم المعاني أوسع من عالم الدلالات‪.‬‬‫ولو لم يكن ذلك ممكنا لاستحال وجود الأدب والرياضيات‪ :‬فكلاهما يبدع عالما من المعاني‬‫ليس لها دلالات في العالم الخارجي لكنها أكثر حقيقة من العالم الخارجي الذي لا يفهم من‬ ‫دونها‪.‬‬ ‫والتداول نوعان بهذا المعنى‪ :‬بين الدلاليين والمعانيين‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪29‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫لو كان الرياضيون الكبار والأدباء الكبار أي الذين يبدعون معاني لا دلالة لها قبل أن‬‫تصبح موجودة بفضل إبداعهم‪ ،‬لاستحال تجاوز الرياضيات الطبيعيات والأدبيات‬ ‫التاريخيات‪.‬‬‫الفرق بين الأدب الأسمى والتاريخ وبين الرياضيات الأسمى والطبيعيات هو الفرق بين‬ ‫الدلالة والمعنى‪.‬‬‫لذلك فالديني والفلسفي لا يفهمهما من لا يفهم الأدبي الأسمى والرياضي الأسمى‪.‬‬‫والقرآن ديني وفلسفي وأدبي أسمى ورياضي أسمى وهو في آن رسم أسمى وموسيقي أسمى‬‫إذا أخذنا عبارته اللسانية وهو دراما أسمى وكوريوغرافيا أسمى هو أصل كل أبداع يخرج‬ ‫من عالم \"الواقع\" إلى عالم \"أصل كل واقع\"‪.‬‬‫وعالم أصل كل واقع هو الوحيد الذي يمكن أن يسع الإنسان‪ :‬فالإنسان لا يتوقف عند‬‫حد في تجاوز \"الواقع\" حتى بالنسبة إلى أقل الناس قدرة على التخيل‪ .‬لكن التخيل من‬‫جنس الأحلام بعضه دال على فساد المزاج وبعضه دال على سمو الروح‪ .‬ورؤى الأرواح‬ ‫السامية هي دلالة الاستخلاف وشرط التعمير‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪30‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪31‬‬ ‫الأسماء والبيان‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook