Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore ساعات معدودة

ساعات معدودة

Published by عادل الدعيس, 2023-07-20 10:27:49

Description: سيرة الشيخ حمد بن عبدالرحمن الحصيني رحمه الله

Search

Read the Text Version

‫‪1345‬هـ ‪ 1441 -‬هـ‬ ‫مراجعة الشيخ‪ /‬عبدالرحمن بن حمد الحصيني‬ ‫‪ 1441/5/28‬هـ‬ ‫الطبعة الثانية‬ ‫‪1444‬هــ‪2023/‬م‬



‫فهرس المحتويات‬ ‫شكر خاص ‪7‬‬ ‫إهداء ‪8‬‬ ‫الثواني الأولى ‪9‬‬ ‫أشيقر وتاريخ حافل ‪11‬‬ ‫الميلاد والطفولة وذاكرة المكا ن ‪13‬‬ ‫الالتفات نحو المستقبل ‪17‬‬ ‫رحلة العمل الأولى ‪18‬‬ ‫رحلة العمل الثاني ة ‪22‬‬ ‫مكة‪ :‬عبادة وهوية وتجار ة ‪24‬‬ ‫أول البشائر‪ :‬فرشة على الأرض! ‪27‬‬ ‫رحلة مثيرة لا تنسى! ‪30‬‬ ‫مرحباً بالتجارب الجديد ة ‪36‬‬ ‫الخطوة الجريئة نحو الشغ ف ‪38‬‬ ‫الزواج الأول ‪41‬‬ ‫التجارة‪ ...‬شغف يتجد د ‪34‬‬ ‫انطلاقة من الكويت ‪44‬‬ ‫قرار جريء آخ ر ‪48‬‬ ‫الهندي‪ ...‬ودخول عالم الزمن ‪50‬‬ ‫الدمام واسطة العقد ومنطلق التوس ع ‪45‬‬ ‫رحلة إلى أولى القبلتين ‪55‬‬ ‫خطوات فوق أرض غريبة! ‪59‬‬ ‫وتحقق الحلم ‪63‬‬ ‫وتمضي الساعات‪ ..‬بالنجاحات ‪66‬‬ ‫اليابان للمرة الثالثة ‪68‬‬ ‫التاجر الذي حافظ على فطرته ‪70‬‬

‫‪74‬‬ ‫خصال في التجارة والإدارة ‬ ‫‪76‬‬ ‫إطلالة على شخصية الشي خ‬ ‫‪78‬‬ ‫وقفات من حياة الشيخ حمد الحصين ي‬ ‫‪81‬‬ ‫‪82‬‬ ‫حياته الإجتماعي ة‬ ‫‪84‬‬ ‫الشيخ في رمضان ‬ ‫‪85‬‬ ‫‪94‬‬ ‫الأسرة أول اً‬ ‫‪97‬‬ ‫تربيته لأبنائه ‬ ‫‪98‬‬ ‫الشعر في حيات ه‬ ‫‪102‬‬ ‫الوقف حياة أخر ى‬ ‫‪104‬‬ ‫براعة الخير المؤسس ي‬ ‫‪105‬‬ ‫أمثلة على مشروعات الخير ‬ ‫‪106‬‬ ‫ساعة لا بد منها !‬ ‫ ‪116‬‬ ‫آخر دقيقة !‬ ‫‪118‬‬ ‫الملحقات – قالوا عن الشي خ‬ ‫مقتطفات من الأبناء والأحفاد للشيخ حمد الحصيني‬ ‫شجرة الحصيني ‬



‫إلى كل من من ساهم بجهد أو وقت في انجاز هذه السيرة بالمراجعة‬ ‫أو التدقيق أو الاشراف‪.‬‬ ‫ونخص مع كامل التقدير لباقي الجهود منهم ‪....‬‬ ‫الأستاذ ‪ /‬أحمد بن عبدالمحسن العساف لمساهمتة في اعادة الصياغة‬ ‫والتعديلات الجوهرية في النص المكتوب بقلمه السيال‬ ‫الشيخ ‪ /‬عادل بن حمد الحصيني ‪ -‬للمتابعة الدقيقة والحضور والنقاش‬ ‫الدائم وتأكيد بعض المعلومات في السيرة‬ ‫الأستاذ ‪ /‬ماجد بن حمد الحصيني ‪ -‬للتنسيق في مدينة اشيقر لتوثيق حياة‬ ‫الشيخ رحمه الله‬ ‫المهندس ‪ /‬تركي بن عبدالرحمن الحصيني ‪-‬للتنسيق والمتابعة في إعداد‬ ‫السيرة وترتيب عدد من اللقاءات‬ ‫الأستاذة ‪ /‬ريم بنت عادل الحصيني ‪ -‬لمراجعتها للصيغ اللغوية والسياق‬ ‫التاريخي‬

‫حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة‬ ‫إلى ذرية الشيخ وعموم أسرته عسى أن يكون أبوهم صالحاً فينتفعوا به‬ ‫ويقتفوا أثره‪.‬‬ ‫إلى كل ذي مال أو جاه أو موهبة عسى أن يدخر منها شيئاً بإحسان كي يفلح‬ ‫في آخرته‪.‬‬ ‫إلى جميع الساعين لنفع مجتمعاتهم وبلادهم‪.‬‬ ‫وإلى القارئ أينما كان‪...‬‬ ‫‪8‬‬

‫حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة‬ ‫الثواني الأولى‬ ‫الأرض والمكان مسرح تجري فيه الأحداث ويسطر عليها التاريخ‪ ،‬والإنسان مشارك في صنع‬ ‫ذلك التاريخ‪ ،‬والتفاعل مع تلك الأحداث فوق هذا المسرح الفسيح‪ ،‬ومن مجموع سيرة المكان‪،‬‬ ‫ومسير الإنسان‪ ،‬يمكن تفسير أمور كثيرة‪ ،‬وبناء تصور يقترب من الصحة عن طبائع الأجيال‪،‬‬ ‫وشخصية الإنسان‪ ،‬وسمة المكان‪ ،‬وسبر أحوال الزمان‪ ،‬والإبانة عن خبر التاريخ وعبره‪.‬‬ ‫لذلك رأينا أن ندون بين دفتي هذا الكتاب سيرة الشيخ حمد بن عبد الرحمن الحصيني‬ ‫(‪ )1441-1345‬بعد أن ُجمعت مادتها من مصادر متعددة‪ ،‬وأعيدت صياغتها وترتيبها بهدف‬ ‫التعرف على شيء من حياة الشيخ التي كانت نموذجاً حافل ًا بالطموح والإنجازات والمكارم‪ ،‬مع‬ ‫حسن الظ ّن بالله والتوكل عليه في دقيق الأمور وجليلها‪.‬‬ ‫إن حياة الشيخ المديدة تبدو من الخارج عادية‪ ،‬لكنها تحمل في تفاصيلها نسيجاً تشابكت‬ ‫خيوطه في نسق جميل‪ ،‬يتعانق الزمان فيه مع المكان‪ ،‬ويتقاطعان مع صنوف العمل‪ ،‬وصولاً‬ ‫إلى الثمرة التي أينعت وبقيت بفضل الله‪ ،‬وتظافرت هذه التفاصيل معاً لتصنع ذكريات لأيام‬ ‫عاشها رجل‪ ،‬نظر يو ًما ما إلى الأفق‪ ،‬بعيون يملؤها الطموح والأمل‪ ،‬ث ّم ابتدأ خطواته نحو‬ ‫أفقه المراد بجهد دؤوب‪ ،‬فلم يك ّل أو يم ّل‪ ،‬ولم يغب عن باله استصحاب الثقة بالله‪ ،‬فلم يخذله‬ ‫مولاه يوماً‪.‬‬ ‫لذلك فمسيرته ليست سرداً خبرياً يمتع القارئ فحسب‪ ،‬بل يمكن أن تكون قصته قدوة يُحتذى‬ ‫بها‪ ،‬ومشعل ًا مضي ًئا يستنير به من يريد أن يعرف الشيخ حمد بن عبدالرحمن الحصيني عن‬ ‫قرب‪ ،‬سواء في حياته الخاصة‪ ،‬أو مع الناس‪ ،‬وأينما أراد في العمل التجاري والمجتمعي؛‬ ‫ولعلّها أن تكون له ‪-‬وقد رحل عن دنيانا‪ -‬لسان صدق في الآخرين‪ ،‬ومن الأجر المدخر عند‬ ‫رب العالمين‪.‬‬ ‫ومع الحرص على أن نوفي الشيخ ح َّقه بعد أن استوفى نصيبه من الدنيا‪ ،‬وتوفي إلى رحمة‬ ‫الله كما نرجو‪ ،‬إاّل أن ما تحمله سطور هذا الكتاب لا تحيط بسيرته كاملة‪ ،‬فهي إشارات‬ ‫‪9‬‬

‫حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة‬ ‫لأحداث عبر بها طوال حياته‪ ،‬دون تفاصيل مسهبة حتى لا يطول السرد على القارئ‪ ،‬فضل ًا‬ ‫عن أن بعض الأحداث قد تراكمت عليه السنون المتعاقبة؛ فغدا استرجاعه أمراً عسيراً على‬ ‫الذاكرة‪ ،‬خاصة بعد أن غاب بعض أطرافه وغادروا الحياة الدنيا‪.‬‬ ‫وقد ُجمعت مادة هذا الكتاب من ذكريات الشيخ التي تحدث بها بين آونة وأخرى‪ ،‬ومن‬ ‫شهادات من عرفه بالشراكة أو الجوار أو العمل‪ ،‬فضل ًا عن بنيه وأسرته‪ ،‬واستغرق جمعها‬ ‫وترتيبها قريباً من عامين‪ ،‬وليست الغاية تبجيل راح ٍل لا ينتفع مما فيها من إطراء‪ ،‬وإنما لتبقى‬ ‫القدوات والفضائل حية حاضرة في مجتمعنا وأجيالنا‪ ،‬وعسى أن تكون من الأجر الأخروي‬ ‫الممتد لصاحبها ولمن شارك فيها‪.‬‬ ‫كما أن إيراد الفضائل والمناقب لا ينفي عن المرء صفة البشرية المعرضة للقصور والخطأ‪ ،‬بيد‬ ‫أن الغاية تتجاوز التقييم والفحص والموازنة بين الجرح والتعديل‪ ،‬إلى إيراد حسنات النموذج‬ ‫وما يمكن أن يكون منه موض ًعا للاعتبار والاهتداء بما فيه من قيم ومواقف؛ فليس الشيخ من‬ ‫رواة الأحاديث أو التاريخ حتى يُجرى عليه ما يفعله علماء الرجال بالرواة‪ ،‬وهو ليس من أهل‬ ‫السياسة والفكر كي نجعله تحت المجهر الدقيق‪.‬‬ ‫لأجل ذلك اقتصرنا في هذه السيرة على إيراد آثاره الميمونة في نفسه وأسرته وآله ومجتمعه‬ ‫وبلاده‪ ،‬وجعلتْها موضع الحديث ومجاله الأرحب؛ لثقتنا بأن القارئ يعلم يقي ًنا أن هذا الصنيع‬ ‫ليس تزكية مطلقة‪ ،‬ولا نف ًيا للوازم الانتساب لأبينا آدم عليه السلام‪ ،‬ولع ّل شيخنا الراحل أن‬ ‫يظفر من هذه المقدمة ومن عموم الكتاب بدعوة صادقة صالحة بالمغفرة‪ ،‬والقبول‪ ،‬ومضاعفة‬ ‫الحسنات‪ ،‬وتبديل السيئات‪ ،‬وما ذلك على الله بعزيز‪.‬‬ ‫وقبل ذلك وبعده‪ ،‬ستكون هذه السيرة المسطورة عبرة لبنيه وأحفاده الذين عاصروه‪ ،‬وشاهدوه‬ ‫مثااًل منظو ًرا أمام أعينهم‪ ،‬وستغدو تذكا ًرا للأحفاد وبقية أجيال العائلة‪ ،‬حتى تبقي فيهم‬ ‫الآثار الحميدة‪ ،‬والفعال الجميلة‪ ،‬وترسخ المبادئ التي سار عليها كبيرهم الراحل‪ ،‬وعسى أن‬ ‫تكون له أج ًرا عند ر ّب العالمين‪ ،‬ولسان صدق في الآخرين‪.‬‬ ‫‪10‬‬

‫حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة‬ ‫أشيقر وتاريخ حافل‬ ‫أشيقر بلدة تاريخية قديمة‪ ،‬ذكرها علماء بلدانيون‪ ،‬وشعراء‪ ،‬ورحالة‪ ،‬وغيرهم‪ ،‬وتقطنها أسر‬ ‫عريقة من قبائل عدة مثل بني تميم‪ ،‬وبني خالد‪ ،‬وباهلة‪ ،‬وسبيع‪ ،‬وشمر‪ ،‬وقحطان‪ ،‬والسهول‪،‬‬ ‫إضافة إلى أسر تنتمي للخزرج‪ ،‬و ُعرفت أشيقر بكثرة علمائها وقضاتها‪ ،‬ومنها خرج جد‬ ‫الشيخ المجدد محمد بن عبدالوهاب ‪-‬رحمه الله‪ -‬وع ّدها الشيخ عبد الله بن بسام ‪-‬رحمه‬ ‫الله‪ -‬في كتابه «علماء نجد خلال ستة قرون» المصدر العلمي الأول في نجد‪ ،‬وترجم لكثي ٍر من‬ ‫علمائها وقضاتها‪ ،‬ويشهد تاريخها بأنها كانت حاضرة علمية‪ ،‬وسو ًقا تجارية‪ ،‬ومقص ًدا لكثير‬ ‫من الناس‪.‬‬ ‫‪11‬‬

‫حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة‬ ‫ومما يروى أن الشيخ محمد بن مانع الذي كان مدي ًرا للمعارف قبل إنشاء وزارة المعارف زار‬ ‫مدينة أشيقر‪ ،‬وعندما ه ّم بمغادرتها تذكر ما مرت به من نهضة علمية فالتفت إلى بوابة‬ ‫السور وخاطبها قائاًًل‪ :‬الله أكبر! كم خرج من هذه الدروازة من عالم!‪ ،‬ويعني بذلك الكم الكثير‬ ‫من القضاة والعلماء والمعلمين والأدباء وطلبة العلم الذين خرجوا من أشيقر لنشر العلم أو‬ ‫للاستزادة في طلبه من البلدان الأخرى‪.‬‬ ‫بينما أشار الشيخ حمد الجاسر إلى العلم والعلماء فيها مبيناً أن مدينة أشيقر الواقعة في‬ ‫إقليم الوشم كانت في القرن العاشر من أبرز مدن نجد وأشهرها من حيث كثرة العلماء الذين‬ ‫تولوا مناصب القضاء في مختلف مدن وقرى نجد‪ ،‬وتتكاثر مثل هذه الكلمات والتعابير في‬ ‫عبارات المؤرخين الذين كتبوا عن تاريخ نجد وبلدانها بعد القرن الهجري العاشر‪ ،‬مما يؤكد‬ ‫على وجود تميز علمي في أشيقر‪.‬‬ ‫وكانت أشيقر قبل مئة عام تقريباً ‪-‬وهو الزمن الذي ولد فيه الشيخ حمد‪ -‬بلدة صغيرة من‬ ‫بلدان منطقة الوشم التي تقع في منطقة نجد الواسعة‪ ،‬ويطلق على الوشم رحم نجد بمعنى أن‬ ‫كثيرا من القبائل هاجرت منها إلى مدن متفرقة‪ ،‬ولما نشرت مجلة الفيصل في عددها لشهر‬ ‫صفر ‪ 1420‬ه الموافق مايو ‪1999‬م تحقيقا عن أشيقر وضعت عنوانه «أشيقر بلد العلماء‬ ‫والنخيل والأوقاف» وينتمي غالبية من يسكنها من الأسر إلى قبيلة بني تميم‪ ،‬ويعتمد أهلها‬ ‫على الزراعة‪ ،‬وتحدي ًدا زراعة القمح والنخيل‪ ،‬إذ لم تكن تربية المواشي آنذاك ذات نفع وفير‬ ‫يفي بحاجات الناس ومتطلباتهم‪ ،‬وفي هذه البيئة على الصفة التي ذكرنا جاء إلى الدنيا طفل‬ ‫أكمل مع من سبقه من أخوات وأخ منظومة البيت تحت جناح والديه‪.‬‬ ‫‪12‬‬

‫حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة‬ ‫الميلاد والطفولة وذاكرة المكان‬ ‫في أشيقر هذه البلدة العبقة بالعلم‪ ،‬المزدحمة بالمكارم‪ ،‬وداخل منزل طيني صغير في حي‬ ‫«العقدة» أحد مكونات بلدة «أشيقر» في إقليم الوشم بالمملكة العربية السعودية‪ ،‬أبصر حمد‬ ‫ابن عبدالرحمن الحصيني نور هذه الدنيا عام (‪1925=1345‬م)؛ فملأ بقدومه البيت بهجة‬ ‫وحبوراً‪ ،‬وسعدت به أسرته التميمية العريقة‪ ،‬التي كانت تنتظر مولودها كما لو كان الولد‬ ‫الأول‪ ،‬مع أنه الأخير بعد ثلاث بنات ه ّن‪ :‬هيلة‪ ،‬وحصة‪ ،‬وسارة‪ ،‬وعقب أخ واحد أكبر منه‬ ‫بسنوات هو شقيقه عثمان‪ ،‬ولا أصغر منه إاّل شقيقته نورة‪.‬‬ ‫لذلك فإن لمدينة أشيقر مكانة عميقة في نفس الشيخ حمد _ رحمه الله _ وكلما سنحت‬ ‫له الفرصة تردد عليها‪ ،‬فيزور مكان نشأته وطفولته وصباه‪ ،‬وبداية كفاحه في هذه الحياة‪،‬‬ ‫عسى أن يروي شي ًئا من حنينه لأرض استقبلته ولي ًدا‪ ،‬ولمرابع قضى فيها طفولته بجوار والديه‬ ‫وأسرته‪ ،‬وبين يدي مشايخها تعلّم وحفظ‪ ،‬ولا ش ّك أن الحنين لمراتع الصبا‪ ،‬والأماكن القديمة‪،‬‬ ‫دلي ٌل على الوفاء والأصالة؛ فليس المكان حي ًزا بلدانياً فقط‪ ،‬بل هو بشر وذكريات وحياة كاملة‪،‬‬ ‫فيها حنين وحب ووفاء‪.‬‬ ‫‪13‬‬

‫حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة‬ ‫وتبعاً لهذه المشاعر فقد اعتنى الشيخ حمد بالبيت ‪-‬بيت الصعيدة‪ -‬الذي ولد وعاش فيه‬ ‫هناك‪ ،‬بعد أن تهدمت كثير من أجزائه‪ ،‬فأعاد ترميمه ليحفظ ذكرى الماضي في الحاضر‬ ‫ولأجيال المستقبل‪ ،‬وليتخذ منه بين الفينة والأخرى محطة استرواح واسترجاع للحياة القديمة‬ ‫بهدوئها‪ ،‬وعبق الذكريات في جوارها‪ ،‬وكي يبقى للأحفاد أثرا شاهدا على حياة الأجداد وما‬ ‫فيها من صعوبة لا تخطر لهم على بال‪ ،‬ولعله يستنشق منها عبير أيام والديه‪ ،‬ويسترجع فيها‬ ‫لذائذ عصر الطفولة على ما فيها من مصاعب‪ ،‬وليس هذا فحسب؛ وإنما تولى بنفسه ترميم‬ ‫البيت على يديه بعد أن جلب المواد‪ ،‬وتعلم طريقة أهل الخبرة‪.‬‬ ‫وفي تلك البلدة المنسجمة مع العلم والمعرفة‪ ،‬الحاثة على طلبهما والجدية في ذلك‪ ،‬درس‬ ‫الطفل الصغير على يد المطوع ‪-‬والمطوع لفظ يطلق على معلم الناس آنذاك‪ -‬وكان المطوع‬ ‫وقتها معلماً ومؤدباً‪ ،‬موجهاً ومربياً‪ ،‬والطلاب يل َّقنون العلم والأدب في تلك الباحات الصغيرة‬ ‫التي تجمعهم معاً‪ ،‬والذي لا يحفظ يُعا َقب ويُؤ َّدب ويُضرب بالعصا‪ ،‬ومن يُتقن يتلقى التشجيع‬ ‫ويُكافأ بإعلاء شأنه‪ ،‬وهي طرق تعليمية وتأديبية أثمرت أجيالاً على قدر المسؤولية وأكبر‪.‬‬ ‫أما أول شيوخه الذين تلقى العلم عنهم فهما‪:‬‬ ‫• الشيخ عبدالعزيز بن محمد الفنتوخ رحمه الله‪.‬‬ ‫• الشيخ عثمان بن عبدالرحمن أباحسين رحمه الله‪.‬‬ ‫إذ حفظ عندهما سورتي البقرة وآل عمران إضافة إلى نصف القرآن الكريم في تلك الحلقات‬ ‫القرآنية‪ ،‬عن طريق كتابة الآيات على الألواح‪ ،‬ثم ترديدها على الشيخ الذي يستخدم الترغيب‬ ‫والترهيب ليضمن قوة الحفظ وبقاءه‪.‬‬ ‫‪14‬‬

‫حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة‬ ‫‪15‬‬

‫حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة‬ ‫واستمر الفتى يتلقى علوم القرآن‪ ،‬حتى بلغ أربعة عشر عاماً‪ ،‬لينتقل إلى الدراسة على يد‬ ‫الشيخ موسى إمام مسجد المفيلقية‪ ،‬لمدة قصيرة‪ ،‬مقارنة بما سبقها‪ ،‬ويصف الشيخ حمد‬ ‫– رحمه الله – هذه المدة‪ ،‬بأنها لم تكن دراسة حازمة‪ ،‬فالطلاب يفرون من أستاذهم‪ ،‬ولا‬ ‫ينتظمون كثيراً بين يديه‪ ،‬ويبدو أن الفرار من المدرسة‪ ،‬والهروب من ساحات العلم علّة قديمة‬ ‫تتجدد!‬ ‫كما حظي الشاب اليافع حمد برفقة طيبة في تلك المرحلة‪ ،‬ومن هؤلاء الرفاق‪ :‬الشيخ عثمان‬ ‫السبيعي‪ ،‬والشيخ عبدالله العياف‪ ،‬والشيخ محمد العياف‪ ،‬والشيخ عبدالله السماعيل‪،‬‬ ‫والشيخ عبدالكريم اللهيب؛ رحم الله من توفي منهم‪ ،‬وبارك في الأحياء‪ ،‬وبعد أن أخذ حمد‬ ‫قس ًطا من العلم والحفظ‪ ،‬قرر الفتى حمد أن يلتفت صوب المستقبل وهو لما يكمل الخامسة‬ ‫عشرة من عمره بع ُد آنذاك‪ ،‬ولربما أن جرأته أثارت استغراب أقرانه ونظرائه حينذاك‪.‬‬ ‫‪16‬‬

‫حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة‬ ‫الالتفات نحو المستقبل‬ ‫نظ ًرا لتدني مستوى المعيشة‪ ،‬اضطر الناس إلى الكد والكدح وتحمل المشاق ليكسبوا قوتهم وما‬ ‫يعيشون به هم وعائلاتهم‪ ،‬فالحاجة شبه عامة عند غالبية الأهالي‪ ،‬مما دفعهم إلى امتهان‬ ‫الزراعة‪ ،‬أو العمل مزارعين عند الآخرين بمقابل زهيد‪ ،‬ولم تكن التجارة رائجة يومها إاّل في‬ ‫أمور يسيرة تقوم عليها أسس الحياة في تلك البلدة‪.‬‬ ‫يصف الشيخ شيئاً من حياة أشيقر الاقتصادية‪ ،‬التي‬ ‫عاصرها في أول عمره فيقول‪ :‬كنت أنا وأخي عثمان‬ ‫– رحمه الله – نذهب مع الوالد لطلب الرزق‪ ،‬نتبعه في‬ ‫خطاه‪ ،‬ونأتمر بأمره وننتهي بنهيه‪ ،‬ونعينه في العمل‪ ،‬كنت‬ ‫أساعد والدي وأخي عثمان في نقل الحطب على الجمال‪،‬‬ ‫وفي حمل الكلأ و الدواب لبيعها‪،‬حتى قررت تغيير وجهتي‬ ‫والعمل خارج أشيقر حينما بلغت الرابعة عشرة‪ ،‬بحثاً عن‬ ‫مصدر رزق أكثر سخاء ووفرة‪ ،‬وهذا الخبر يدلنا على مقدار العناء ومدى خشونة العيش‪،‬‬ ‫ويشير إلى طموحات مبكرة لدى الفتى‪ ،‬ورغبة في تغيير الحال إلى الأحسن‪.‬‬ ‫ولأن لكل مجتهد نصيبا‪ ،‬والمغامرة والتجربة من عناصر النجاح في هذه الحياة‪ ،‬فقد حمل هذا‬ ‫الفتى الغ ّض آماله فوق كتفيه‪ ،‬وقرر أن يخوض معركة الحياة والعمل من أجل الأمل‪ ،‬وأوقدت‬ ‫معاناته شعلة الفتيلة الأولى‪ ،‬فليس من المقبول عنده أن يستمر العناء‪ ،‬أو يعيش بلا مصدر‬ ‫ثابت يضمن وجود أساسيات الحياة ومقوماتها‪ ،‬وعزز هذا الأم َر لديه كفا ُح والده وشقيقه من‬ ‫أجل لقمة محدودة يحصل بها الكفاف دون الاكتفاء‪.‬‬ ‫والحقيقة أن هذه سمة عامة في ج ّل أهل التأثير والتغيير‪ ،‬ذلك أنهم لا يركنون إلى الواقع‬ ‫ويرضون به‪ ،‬ولا يقبلون تضييع العمر بالتذمر والتفجع‪ ،‬وإنما ترمق أعينهم المستقبل مثل‬ ‫الصقر المحلّق في العلو كي يرى أبعد المسافات‪ ،‬وتخطو أقدامهم نحو الفرص بسرعة الفهد‬ ‫وتركيزه‪ ،‬فلا شيء يثنيه عن هدفه‪ ،‬ولا شيء إليه يسبقه‪.‬‬ ‫‪17‬‬

‫حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة‬ ‫رحلة العمل الأولى‬ ‫مضت سيارة ابن مرشد تش ّق الطريق من أشيقر إلى الرياض‪ ،‬محملة بفتية سلاحهم الطموح‬ ‫والأمل‪ ،‬ومع أن الطريق طويل‪ ،‬والسفر أرهق هؤلاء المكافحين‪ ،‬إاّل أن العزائم لم تضعف والهمم‬ ‫لم تك ّل‪ ،‬ولم يغب الهدف عن خيالهم حتى وإن كانوا صغار العمر‪ ،‬فهم يعرفون من البداية أن‬ ‫الحياة تستلزم التعب‪ ،‬وأن التوفيق لبذل الجهد يحتاج إلى توفيق وهداية من الله لنيل المطالب‬ ‫وتحقيق الأماني‪ ،‬وأصبحت هذه المسلّمات أكبر طاقة دافعة لهم نحو الإنجاز؛ وإن لم يحسنوا‬ ‫التعبير عنها آنذاك‪ .‬وعبر عنها المتنبي بقوله‪:‬‬ ‫لولا المش َّق ُة سا َد النا ُس كلُّهم الجو ُد ُيف ِق ُر والإقدا ُم ق ّتا ُل‬ ‫استمرت الرحلة يومين طويلين شاقين‪ ،‬مزدحمين بالأحداث والمواقف‪ ،‬التي ُحفرت في عقول‬ ‫أولئك الفتية لرحلة عملهم الأولى‪ ،‬فالطريق غير ممهد مما أفقدهم الراحة وهم ركوب على‬ ‫متن السيارة‪ ،‬بل تعرضوا لاهتزازات مؤذية من وعثاء الطريق واصطدامهم بجوانب السيارة‪،‬‬ ‫واعتادت عيونهم على الظلمة الموحشة في الليالي الحالكات لغياب الضوء‪ ،‬وكان المسير‬ ‫صعباً‪ ،‬والوقوف أصعب‪ ،‬فلم تكن السيارة ترتاح إاّل للتزود بالوقود‪ ،‬وتناول الطعام‪ ،‬الشحيح‬ ‫في الأصل‪.‬‬ ‫باختصار‪ ،‬كانت الرحلة متعبة‪ ،‬وتخلو تفاصيلها من التعقيدات لدرجة كبيرة؛ بحيث إن‬ ‫الانضمام إليها سهل عند من يملك العزيمة وثمن الركوب مع تحمل المشاق‪ ،‬والصبر على‬ ‫برودة الأجواء‪ ،‬أو لوافح الهجير‪ ،‬وسوافي الغبار‪ ،‬وقسوة الطريق‪ ،‬وقلة الموارد‪ ،‬وهذا كله لأجل‬ ‫هدف واحد‪ ،‬هو بلوغ الرياض بحثاً عن العمل‪.‬‬ ‫‪18‬‬

‫حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة‬ ‫فأصبحت هذه الرحلة بمثابة ميلاد ثا ٍن‪ ،‬وبدايات لحياة جديدة‪ ،‬وإن كانت مجهولة النهاية‬ ‫والمصير‪ ،‬وبعد أن وصلت المجموعة إلى الرياض‪ ،‬أبصر ركابها بصيصاً من نور هدفهم المنشود‬ ‫يلمع من بعيد‪ ،‬ويوحي بأن القادم ‪-‬بإذن الله‪ -‬مبشر بالخير ‪ ...‬وبالحياة‪ ...‬وبالتغيير للأحسن‪،‬‬ ‫ولأجل ذلك كان مخرجهم من بلدتهم‪ ،‬ومفارقتهم لأهاليهم‪.‬‬ ‫إنهم فتية أخرجهم الفقر من أشيقر متجهين إلى الرياض‪ ،‬وعندما وصلوا تشتتوا حسب‬ ‫معارفهم‪ ،‬وبات الفتى حمد أياماً عند سليمان الخراشي باحثاً عن عمل مناسب لشاب يافع‬ ‫صغير السن‪ ،‬ويبدأ بها مشوار كفاحه‪ ،‬فيسر الله له الأمر‪ ،‬وعمل في وظيفة مناسبة هي‪:‬‬ ‫عامل خدمة عند محمد القاضي وإخوانه‪ ،‬إذ يجلب لهم بعض مشتريات المنزل‪ ،‬ويقوم بتنفيذ‬ ‫بعض المطالب لمنازلهم‪ ،‬بمرتب يسير جداً‪ ،‬ومع ذلك فلم يستمر فيها أكثر من شهر ونصف‬ ‫تقريباً‪.‬‬ ‫‪19‬‬

‫حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة‬ ‫كان من عادة الفتى القادم من أشيقر أن يخرج لشوارع الرياض حتى يعيش أجواءها‪ ،‬ويتعرف‬ ‫على وجوه سكانها‪ ،‬وقد تردد بين السوق والمنزل والمسجد‪ ،‬فهو يعمل ويتعلم ويستكشف الحياة‬ ‫ويدرس البيئة المحيطة به‪ ،‬ومما تعلمه مبكراً مسؤوليته التامة عن نفسه في غربته ووحدته‪،‬‬ ‫وكيفية الحصول على المال مقابل الجهد الذي يبذله‪ ،‬وإن يوماً في الكفاح ومكابدة شؤون‬ ‫المعيشة‪ ،‬والتعاطي مع كبد العمل وكدر الناس‪ ،‬لأعظم أثراً على النفس من شهر أو شهور في‬ ‫بحبوحة الرخاء والكسل‪.‬‬ ‫ويبدو أن فحص الواقع ودراسة الأحوال خصيصة وجدت مبكرة لدى الشيخ‪ ،‬إذ كان وهو فتى‬ ‫في الرياض يراقب كل شيء‪ ،‬ويلاحظ الناس وماذا يفعلون وكيف يتصرفون! ويدرس أخلاقهم‬ ‫ومعادنهم التي تحكيها المواقف‪ ،‬ويتأمل الغادين في السوق والرائحين منه‪ ،‬المشتري منهم‬ ‫والبائع والمفاوض والمتفرج‪.‬‬ ‫ولن يُنسى أنه في تلك الحقبة شاهد رجل ًا يفترش الأرض‪ ،‬ويبسط عليها مجموعة من قروش‬ ‫الفضة «النجيمات»‪ ،‬وقد اتخذ موقعاً أمام دكاكين محمد القاضي وإخوته‪ ،‬أي أنه كان يعمل‬ ‫في الصرافة‪ ،‬وفيما بعد علم الفتى أن هذا الصيرفي هو الشيخ صالح الراجحي ‪-‬رحمه الله‪-‬‬ ‫‪ ،‬وكانت تلك أول تجارته‪.‬‬ ‫‪20‬‬

‫حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة‬ ‫عاش الفتى حمد زمناً في الرياض عند أسرة القاضي‪ ،‬وخلال هذه المدة واجهته الكثير من‬ ‫المواقف‪ ،‬التي ساهمت في بنائه وصقل شخصيته وتكوين معالمها‪ ،‬وكانت كنزاً مهنياً يقيس‬ ‫درجة تحمل الفرد وقدرته على التكيف مع كل جديد من أحوال وأمور‪ ،‬فالإنسان في هذه‬ ‫الحياة يولد صافي الذهن بلا خبرة كما لو أنه صفحات كتاب خالية من أ ّي سطر‪ ،‬فيتعلم‬ ‫ويخوض التجربة تلو التجربة‪ ،‬وهذه التجارب هي التي تدون السطور في صفحات الحياة‪،‬‬ ‫ليصبح الكتاب في النهاية مجموع خبراته ومهاراته التي اكتسبها مما واجهه من مواقف‬ ‫وحوادث وشخصيات‪.‬‬ ‫وبعد مضي شهر ونصف فقط من مغادرة حمد لبلدته أشيقر وأسرته من أجل العمل في‬ ‫الرياض‪ ،‬ل ّج عليه الحنين والشوق للوالدين وللحياة الدافئة في أشيقر‪ ،‬فعاد الفتى حمد يحمل‬ ‫تجربة أولية انطبعت في أعماق نفسه‪ ،‬وكسرت جزءاً من حاجز رهبة المغامرة‪ ،‬فغدت تجربة‬ ‫أولى غنية بالمشاهدات‪ ،‬ومليئة بمحاولة بناء التصورات عن واقع العمل في الرياض‪ ،‬وعاد‬ ‫يحمل في جيبه كنزاً من تسعة ريالات فرانسية كما تسمى‪ ،‬وهي أجرته إبان مغامرته التي‬ ‫كانت بداية طريق لم تتضح معالمه بعد‪ ،‬وأما بين جنبيه فيختزن همة وطاقة للمستقبل‪ ،‬بعد أن‬ ‫تفتحت آفاقه‪ ،‬وتصور عقله المشهد‪.‬‬ ‫ولعله رجع كي يستجمع نشاطه وقواه لمغامرة أطول وأكثر ثراء في المحتوى والناتج‪ ،‬فعاد‬ ‫لأشيقر حينما غلب عليه الشوق للعائلة وهدوء الحياة‪ ،‬خاصة مع صغر عمره وقلة خبرته‪،‬‬ ‫وأصبحت عودته استراحة فارس مشتاق‪ ،‬لم يعتد على فراق الأهل والأصحاب‪ ،‬والانقطاع عن‬ ‫التزود من العلم والمعرفة‪.‬‬ ‫فاهتبل فرصة مكوثه بين أهله وفي مغاني صباه‪ ،‬واغترف من الحنان الأسري ما يتزود به على‬ ‫المستقبل الآتي‪ ،‬وثنى ركبتيه طالباً للعلم مرة أخرى‪ ،‬يتلقى العلم ويدرسه على مشايخه‪ ،‬ومع‬ ‫رفاقه كما كان يصنع قبل خروجه الأول للرياض‪ ،‬فحفظ سورتي البقرة وآل عمران‪ ،‬ونهل من‬ ‫العلم قدراً مناسباً‪ ،‬ويالها من بركة حين يطوي المرء صدره على الزهراوين إضافة إلى نصف‬ ‫المصحف بداية من سورة الناس‪.‬‬ ‫‪21‬‬

‫حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة‬ ‫رحلة العمل الثانية‬ ‫الحماسة والرغبة في خوض مزيد من تجارب الحياة‪ ،‬كانا هما الحافز الأكبر في نفس حمد‬ ‫ابن الستة عشر عاماً‪ ،‬فما إن فرغ من تحصيل قدر من العلم حتى بدأ تفكيره يتجه مرة‬ ‫ثانية صوب العمل‪ ،‬فالبيئة المحدودة والحاجة الملحة‪ ،‬دعته لمغادرة أشيقر كرة أخرى بحثاً عن‬ ‫فرصة جديدة؛ فعاد إلى الرياض سعياً في طلب رزق حلال طيب‪.‬‬ ‫والتقى في أحد أيام بحثه عن عمل بشخصية لها نفوذ وسلطة‪ ،‬فبعد الانتهاء من الصلاة‬ ‫كان الشيخ حسن بن عمران‪ ،‬وهو أحد عمال الملك عبدالعزيز – رحمه الله – خارجاً من‬ ‫المسجد‪ ،‬فاتجه إليه حمد مصافحاً بحكم المعرفة السابقة بينهما‪ ،‬وبعد تبادل الأحاديث سأله‬ ‫ابن عمران متعجباً من غيابه الفترة الماضية؛ فأخبره أنه رجع إلى بلدته أشيقر ليتم دراسته‪،‬‬ ‫فاقترح عليه ابن عمران العمل معه إن لم يكن مرتب ًطا بشغل آخر‪ ،‬فوافق حمد على عرضه‪،‬‬ ‫وأصبح كات ًبا لديه ويدير شؤون الضيافة في مجلس ابن عمران‪.‬‬ ‫أثبت الشاب حمد بمرور الأيام جدارته في عمله بالج ّد والحرص على التفاصيل المهمة‪،‬‬ ‫والدقة والتفاني والالتزام‪ ،‬وهذه العلامات من أسس نجاح الموظف أياً كان موقعه الوظيفي‪،‬‬ ‫ومهما كانت طبيعة المهمة المكلف به‪ ،‬فمن يمنح عمله ك ّل ما تجود به نفسه‪ ،‬يعطيه مقابل ذلك‬ ‫تقدماً وظيفياً وحسن سيرة وسمعة‪ ،‬ومهما اختلف الزمن فإن لهذه العوامل أثرها الممتد على‬ ‫حياة الإنسان في سعيه فوق هذه الأرض‪.‬‬ ‫وفي أحد الأيام عزم ابن عمران على السفر إلى مكة المكرمة لأداء بعض المهام الموكلة إليه‬ ‫من قبل الملك عبدالعزيز‪ ،‬واختار الشاب حمد لمرافقته في تلك الرحلة مع مجموعة أخرى‬ ‫من العاملين معه‪ ،‬وكانت تلك هي زيارة حمد الأولى إلى مكة المكرمة‪ ،‬ويا له من شعور مهيب‬ ‫تردد صداه في أرجاء نفسه‪ ،‬ويا له من شوق ولهفة كانا يلازمانه لزيارة بيت الله الحرام وأداء‬ ‫مناسك العمرة‪.‬‬ ‫‪22‬‬

‫حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة‬ ‫ركب الرفقة في سيارة حكومية ُسلمت لابن عمران لأداء هذه المهمة‪ ،‬ولم تكن الطرق معبدة‬ ‫يومها‪ ،‬كما أن الأجواء ليست مثالية حينها؛ فحرارة صحراء الجزيرة العربية جعلت من الرحلة‬ ‫أكثر طولاً وأعظم مشقة‪ ،‬وأدرك كل منض ٍم إليها ما هم مقبلون عليه من صعاب قبل انطلاقها‪،‬‬ ‫وهو ما بات في حكم المؤكد بعد تحرك السيارة‪.‬‬ ‫فالوصول للهدف لا يتحقق إاّل بعد ثمانية أيام أو تسعة‪ ،‬على حسب الجد والهمة في المسير‪،‬‬ ‫وهم في رحلة يقطعون فيها الصحراء الموحشة ليل ًا ونهاراً‪ ،‬وإن تخللتها ذكريات عذبة في‬ ‫توزيع المهام وتنظيمها من قيادة‪ ،‬وطبخ‪ ،‬وإعداد الطعام‪ ،‬ضمن منظومة تعاون على قطع‬ ‫الطريق المرهق‪ ،‬وكان رفيق حمد وسميره في تلكم الرحلة صديقه العزيز عبدالله الفريح‪،‬‬ ‫وهي صحبة تخفف من لأواء الطريق ووعثاء السفر‪ ،‬فضل ًا عن أن وجهتهم هي مكة مهوى‬ ‫الأفئدة وغاية المرام‪.‬‬ ‫‪23‬‬

‫حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة‬ ‫مكة‪ :‬عبادة وهوية وتجارة‬ ‫لما وصلوا إلى قرب مكة‪ ،‬وفي قرية الشرايع بالتحديد‪ ،‬وهي الآن ضاحية من ضواحي البلد‬ ‫الحرام‪ ،‬أوقف بعض الحرس السيارة‪ ،‬وطلبوا من ركابها تسليم الهوية الشخصية التي كانت‬ ‫تسمى حينذاك «التابعية»‪ ،‬وفي الواقع لم يكن يملكها منهم إاّل اثنان‪ ،‬وعليه رجعت السيارة بمن‬ ‫فيها للنقطة المرورية التي قبلها كي يحصلوا على أوراق ثبوتية‪.‬‬ ‫فعادت القافلة الصغيرة من الطريق نفسه‪ ،‬وطلب الموظفون ممن لم تصدر له هوية شخصية‬ ‫النزول والدخول في مكان كبير عبارة عن حوش فيه غرفتان أو ثلاث غرف‪ ،‬وحين خيم الليل‬ ‫عليهم ناموا في المكان ليلتها‪ ،‬فلما استيقظوا في الصباح بدأ الموظفون بتنظيم الركاب للدخول‬ ‫على الأطباء في الغرفة الأخرى‪ ،‬ودخل حمد على الطبيب فطلب منه فتح فمه لع ّد أسنانه‬ ‫وتخمين عمره‪ ،‬وهذا هو الأسلوب المتبع حينها لمعرفة أعمار الأشخاص وإثباتها في الهوية‬ ‫الشخصية‪.‬‬ ‫وكان في الغرفة ثلاثة أطباء‪ ،‬يمر عليهم الجميع فيقررون بعد المشاورة كم عمر كل واحد منهم؛‬ ‫فقال أحدهم لحمد‪ :‬عمرك أربعة عشر عاماً وأنت من مواليد عام ‪1345‬هـ؟ فلما جاء ليسجل‬ ‫عمره قال له‪ :‬أنا أكبر من ذلك؟ أنا ولدت في عام ‪1343‬هـ‪ ،‬وكان الفتى غاضباً حينها لأنه‬ ‫يرى أنه أكبر من ذلك‪ ،‬فقال الطبيب‪ :‬كيف عرفت ذلك؟ فأجابه‪ :‬أخبرتني أمي وكذلك أبي!‬ ‫فضحك وقال‪ :‬زيدوا في عمره‪ ...‬يستاهل ‪...‬يستاهل‪.‬‬ ‫فسجل الطبيب أن حمد يبلغ من العمر ستة عشر عاماً‪ ،‬وكان الناس يحرصون على زيادة‬ ‫أعمارهم في ذلك الزمن حتى يتسن لهم التوافق مع شروط الحكومة في التنقل والعمل بشكل‬ ‫أوسع داخل البلاد وخارجها‪ ،‬ثم نُقلت المجموعة لشخص يلتقط صورة شخصية لكل واحد‬ ‫منهم‪ ،‬ويسجل اسمه واسم والديه بالكامل‪ ،‬ليضيفهما تحت الصورة مع تاريخ الميلاد المخ ّمن‬ ‫سلفاً‪ ،‬ويتسلّم في نهاية الأمر كل واحد من أفراد السيارة هويته الشخصية الخاصة به‬ ‫‪24‬‬

‫حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة‬ ‫‪ ،‬ورجعت المجموعة بعد ذلك لسيارتهم التي خرجوا منها بالأمس كي يدخلوا إلى مكة المكرمة‬ ‫بهويات شخصية مثبتة عند الحكومة‪.‬‬ ‫وصل الشيخ إلى مكة المكرمة‪ ،‬مهبط الوحي ومنبع الرسالة‪ ،‬ودخلها مع مجموعة من الرفاق‬ ‫منهم عبدالمحسن المغيرة وعبدالله الفريح وابن مسلم برفقة ابن عمران‪ ،‬ومشاعر الشوق‬ ‫والرغبة لزيارة بيت الله ورؤية الكعبة المشرفة تغمره‪ ،‬فطاف بالكعبة هو وابن عمران وليس‬ ‫معهم شخص ثالث؛ بينما يزدحم حول الكعبة الآن خلق كثير من بقاع المعمورة كافة‪ ،‬وكان‬ ‫يصلي في الحرم أربعة أئمة في ذلك الوقت‪ ،‬ك ّل مجموعة من المصلين يتبعون إماماً حسب‬ ‫مذهبهم الفقهي‪ ،‬والحمد لله أن ُجمع المصلون اليوم خلف إمام واحد‪.‬‬ ‫حرص الشاب على تحصيل رواتبه أولاً بأول مما أثار تعجب ابن عمران الذي نصحه بحفظها‬ ‫له‪ ،‬وتسليمه إياها في الرياض‪ ،‬بيد أنه رفض‪ ،‬وقرر وهو في مكة شراء بضائع ليبيعها في‬ ‫الرياض‪ ،‬وهي مغامرة كبيرة من شاب صغير‪ ،‬لكن الشغف والجرأة وحب التجارة بذرة تنمو في‬ ‫نفس الفتى المقبل على مرحلة الشباب بعزم وقوة‪ ،‬ويبدو أن حمد أغرم بعمليات البيع والشراء‬ ‫حسب قدرته وتوافر المال معه بعد أن لاحظها في الرياض‪ ،‬وتتابعت صورها أمام ناظريه حول‬ ‫البيت الحرام‪.‬‬ ‫وكان التجار حينها يعمدون إلى شراء السلع الرئيسية من أرز وسكر وقهوة ونحوها من‬ ‫سوق الجودرية‪ ،‬وهو واحد من أقدم أسواق مكة التجارية المركزية وأشهرها‪ ،‬ويع ُّج بالناس‬ ‫من التجار والزوار والحجاج والمعتمرين‪ ،‬ويمتاز تجاره بأخلاقيات رفيعة في التعامل تعكس‬ ‫الصورة المُش ّرفة للتاجر المسلم‪ ،‬فهو مكان نابض بالحياة‪ ،‬شاهد على الخلق الرفيع‪.‬‬ ‫وفي ذلك الزمن وإن كان المسعى في الأصل للتعبد وإتمام مناسك الحج والعمرة إاّل أنه يموج‬ ‫بالحركة التجارية والمصرفية‪ ،‬وتقع المباني السكنية والمحلات التجارية على جانبي مسار‬ ‫المسعى ومحيط الحرم‪ ،‬ومن المظاهر العجيبة فيه أن السيارات كبيرها وصغيرها تعبر‬ ‫المسعى ذهاباً وإياباً ما بين سوق ال َق َشا ِش َّية والسوق الصغير! وهذه المظاهر جميعها اختفت‬ ‫بعد مشروعات التوسعة الحكومية الضخمة‪.‬‬ ‫‪25‬‬

‫حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة‬ ‫أما حمد فبعد أن دخل السو َق‪ ،‬وراقب ‪-‬جر ًيا على عادته في دراسة الأوضاع‪ -‬حرك َة البيع‬ ‫والتجارة‪ ،‬فكر فيم يبدأ تجارته؟ وما هي قدرته على المنافسة؟ فخطر بذهنه شراء ما لم يكن‬ ‫يشتريه أحد وقتها بشكل ملحوظ‪ ،‬وما لا يتوافر في أسواق الرياض بكثرة‪ ،‬ويفوت كثير من‬ ‫التجار التركيز على شرائه‪ ،‬فاقتنى الطواقي والنظارات والعطور‪ ،‬آمل ًا أن يوفق في بيعها‬ ‫خاصة وغيره منشغل ببضائع أخرى‪.‬‬ ‫نعم هي مغامرة جريئة‪ ،‬وآمال عريضة‪ ،‬وتوقعات تجارية فطرية دعته للشراء بكامل المبلغ‬ ‫الذي يمتلكه وقدره ألفا ريال‪ ،‬لكنها فرصة قد يكون من بعدها فأل خير بفضل الله ورزقه‬ ‫الوفير‪ ،‬حتى لو تأخر ذلك قليل ًا لأنه لا نهوض في عالم الطموح دون سقوط وعثار‪.‬‬ ‫في ذلك اليوم‪ ،‬دون الشيخ في سجل خبراته أول صفقة تجارية عقدها وهو في شبابه المبكر‪،‬‬ ‫وتميزت بالتحدي والمخاطرة‪ ،‬ففيها الكثير من المجازفة المقرونة بحسن الظن بالله والسعي‬ ‫إلى تيسيره وتوفيقه‪ ،‬فالتاجر مفطور على الخوض في معترك سوق البيع والشراء‪ ،‬وعليه أن‬ ‫يتحلى بروح الإقدام‪ ،‬حتى إذا لم تكن النهايات أمامه واضحة‪ ،‬خاصة في تلك الأزمان التي‬ ‫لم تعتمد على دراسة جدوى المشاريع‪ ،‬فمن يرغب بالتجارة فعليه أن يُق ِدم ويتقدم‪ ،‬فينجح‬ ‫ويكسب‪ ،‬أو يخسر فيتعلم كيف يقود دفة النجاحات صاعداً إلى العلياء بنفسه‪.‬‬ ‫لقد كانت تلك الصفقة المكية خطوة مباركة‪ ،‬حتى من قبل أن تتضح نتائجها؛ لأنها أصبحت‬ ‫الشرارة الأولى التي أوقدت في قلب ذلك الشاب العزيمة على المضي في دروب التجارة‬ ‫والعمل دون تردد‪ ،‬فما الذي حصل حينها؟ وكيف غدت صفقته الأولى تلك بداية لنجاحات‬ ‫متتالية؟ كيف مرت الأيام والأشهر بعد ذلك؟ هل كانت تجارة بعد تجارة؟ أم قطعتها تقلبات‬ ‫الحياة المفاجئة؟ هذا ما سوف تجليه الصفحات القادمة‪.‬‬ ‫‪26‬‬

‫حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة‬ ‫أول البشائر‪ :‬فرشة على الأرض!‬ ‫تحتاج كل مغامرة في بدايتها إلى شجاعة فائقة‪ ،‬فالخطوة الأولى دائما تكون مصحوبة‬ ‫بالحذر‪ ،‬ولكن وجود الرغبة والحماسة يضمنان الاستمرار في الخطوة تلو الأخرى‪ ،‬ليصل‬ ‫صاحبها إلى النجاح بعون من الله وتأييد‪ ،‬فخطوة مع أخرى تكملان خطاً طويل ًا من الطريق‬ ‫نحو العلياء وتحقيق الأماني‪.‬‬ ‫هذه المفاهيم كانت تتناقلها الأجيال واقعاً يقضون به أيامهم‪ ،‬وخطوات ضمن معاركهم في هذه‬ ‫الحياة‪ ،‬دافعهم الأكبر هو البحث عن الاستقرار ومصدر الدخل الذي تعيش به الأسرة‪ ،‬لذلك‬ ‫كانت لك ٍ ّل قصته في الوصول إلى نجاحه الخاص‪ ،‬ولك ٍ ّل فرصته التي يحاول أن تكون الأكثر‬ ‫ربحاً في تلك المعركة الحياتية الواجبة‪.‬‬ ‫فقد تحتاج إلى مرشد يعينك ويوضح لك معالم الطريق ويخبرك بمدى صواب ما تفعله‪ ،‬ولكن‬ ‫ماذا لو كنت لا تجد هذا المرشد‪ ،‬ولا تعرف كيف تصل إليه‪ ،‬فحتماً ستبدأ بالتجربة لتكون أنت‬ ‫مرشد نفسك‪ ،‬وتصبح الأيام والحوادث والمواقف هي من يعلمك ويرشدك‪ ،‬وستخط الطريق‬ ‫منفرداً وتكون الطالب والمعلم في الوقت ذاته‪.‬‬ ‫وهذا هو ما كان يدور في ذهن الشاب حمد خلال طريق عودته إلى الرياض برفقة ابن عمران‬ ‫وصحبه‪ ،‬فكان طريقاً طويل ًا مليئاً بأحلام عريضة‪ ،‬وأمنيات واسعة‪ ،‬مع كثير من الرجاء‬ ‫والدعاء لله بأن يفتح باب الرزق والخيرات‪ ،‬وأن ييسر أمر تصريف البضاعة التي معه فتباع‬ ‫بربح لا خسارة فيه‪.‬‬ ‫لقد فطرت تلك القلوب على الإيمان بأن الله هو الميسر والموفق والرزاق الكريم‪ ،‬لكن النجاح‬ ‫ليس هبة أو موهبة‪ ،‬والسماء لم تكن لتمطر ذهباً‪ ،‬فمنذ بدأت الخليقة والناس يسعون بحثاً‬ ‫عن الرزق‪ ،‬مؤمنين بأنهم لن يأخذوا إاّل ما كتبه الله لهم‪ ،‬ولكن بعد السعي والجد والكد‬ ‫للوصول للهدف‪.‬‬ ‫‪27‬‬

‫حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة‬ ‫فبعد أيام من عودة الشاب حمد إلى الرياض اتجه إلى سوق قيصرية آل س ّيار (يقع وسط‬ ‫أسواق الديرة بالقرب من الصفاة) وبدأ بالبيع‪ ،‬ففرش بساطه‪ ،‬ووضع بضاعته المتنوعة على‬ ‫الأرض‪ ،‬ووقف بجانبها ينتظر رواداً‪ ،‬ويبحث في أعين الساعين ع ّل واحداً منهم يلتفت إلى‬ ‫بساطه الصغير الذي تتناثر عليه مجموعة من الطواقي والعطور والنظارات وأدوات العطارة‪،‬‬ ‫وأشياء أخرى من الكماليات اليسيرة‪ ،‬التي لم تكن رائجة في الرياض أو حتى معروفة آنذاك‪،‬‬ ‫ولم تكن مح ّل اهتمام التجار القادمين من مكة‪ ،‬لأنهم منشغلون ببيع السكر والأرز والهيل‬ ‫والبن؛ ونحو ذلك مما يشيع التنافس فيه بين تجار ذلك الزمان‪.‬‬ ‫وبدأ أهل الرياض بالتوافد على السوق‪ ،‬والبحث عن قوافل العائدين من مكة وما يحملونه من‬ ‫البضائع؛ فموعد قدومهم يترقبه الناس ويحسبون له العدة‪ ،‬ويقصدونه للتزود باحتياجاتهم‬ ‫واقتناء الجديد من البضائع التي وصلت من بلدان بعيدة عبر مكة‪ ،‬فمكة مقصد الحجاج‬ ‫والمعتمرين والتجار‪ ،‬وسوقها كان ولايزال الأكثر ريادة ومنافسة وتنوعاً على مر الأزمان‪.‬‬ ‫مر صباح يتبعه صباح ويوم يعقبه آخر‪ ،‬وحمد واقف أمام بساطه ير ّوج لبضاعته‪ ،‬التي أخذت‬ ‫تلفت نظر العابرين من رواد السوق‪ ،‬فما بين واقف يتفحصها إلى سائل عن سعرها‪ ،‬ومن‬ ‫مستحسن لها إلى مشت ٍر أعجبته بعض القطع فاقتناها‪ ،‬وربما اشترك غالبهم في العجب منها‬ ‫واستطرافها‪ ،‬ومع تعاقب الأيام وتتابعها ازداد البيع وإقبال الناس حتى انتهى نصفها؛ ليشتعل‬ ‫في نفس التاجر الجديد المزيد من الحماسة مع ظهور بوادر الربح الأولى التي تضاعفت إلى‬ ‫‪.%100‬‬ ‫‪28‬‬

‫حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة‬ ‫إنها بشائر الخير التي تبهج القلب وتسعد الروح‪ ،‬ففتح الله عليه في تلك المحاولة وبيعت ك ّل‬ ‫البضائع المعروضة بفضل الله ومنته‪ ،‬لتكون صفقته الأولى في عالم التجارة الشاسع رابحة‬ ‫مبشرة بخير عميم‪ ،‬وصنعت لديه شعو ًرا يحتاجه كي يصبر على شدائد هذا المجال ويتحمل‬ ‫مغامراته‪ ،‬ويسعى فيه سعياً حثيثاً حتى يصل إلى هدفه وطموحاته‪.‬‬ ‫إن هذا الظفر بالربح والنجاح في الصفقة الأولى فاق تخ ّيل الشاب‪ ،‬الذي اتخذ قراره منفرداً‬ ‫دون مساعدة من أحد بأن يدخل في عالم ال ّتجارة‪ ،‬دافعه إلى ذلك حبه للبيع والشراء‪ ،‬فكانت‬ ‫الصفقة الناجحة سبباً للتفكير والتخطيط لمستقبله التجاري‪ ،‬طالباً من الله التوفيق فيه‪،‬‬ ‫وآمل ًا بغ ٍد مشرق من خلال البيع والشراء بنفس الطريقة التي بدأ بها‪.‬‬ ‫ولكن الحياة لا تأتي دائما بما نشتهيه‪ ،‬ولا تمضي وفق تصوراتنا المرسومة في أذهاننا‪ ،‬فهي‬ ‫تقدم الكثير من الخيارات المحيرة أحياناً‪ ،‬وعليك أنت أن تختار أنسبها لك لصقل خبراتك‬ ‫وإنضاج تجاربك؛ من أجل تحقيق حلمك وأهدافك‪ ،‬وما تريده بما يتوافق مع أحوالك وقدراتك‪،‬‬ ‫والموفق من عزم على الرشد بعد الاستشارة والاستخارة‪.‬‬ ‫‪29‬‬

‫حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة‬ ‫رحلة مثيرة لا تنسى!‬ ‫استمر الشاب حمد على ما كان عليه في العمل مع ابن عمران الذي ُكلف مرة أخرى من قبل‬ ‫الملك عبدالعزيز ‪ -‬طيب الله ثراه‪ -‬بالسفر إلى وادي الدواسر لتفقد أحوالها‪ ،‬وإعانة فقرائها‪،‬‬ ‫والبحث في شؤونهم خلال شهر رمضان المبارك‪ ،‬ورصد الملك لإعانة فقراء وادي الدواسر‬ ‫والمحتاجين فيها مبلغاً كبيراً من المال في حدود عشرة آلاف ريال‪ .‬فاختار ابن عمران الشاب‬ ‫حمد ضمن فريقه‪ ،‬وهذه هي تجربة السفر الثانية مع العمل في حياة حمد‪ ،‬بعد سفره لمكة‬ ‫قبل عام‪.‬‬ ‫فانطلقت السيارة من نوع «لوري» إلى هناك‪ ،‬وهي تُق ّل على ظهرها مجموعة من الرجال برفقة‬ ‫حسن بن عمران‪ ،‬ومعهم حمد الذي كانت وظيفته منحصرة في تسجيل كشوف المستفيدين من‬ ‫العوائل‪ ،‬ممن تتم زيارتهم وتقديم الدعم والمساعدة لهم حسبما أمر الملك وتوجيهه‪.‬‬ ‫لما وصلت تلك المجموعة بعد رحلة شاقة‪ ،‬واستقر الحال بهم في مدينة وادي الدواسر‪ ،‬بدأت‬ ‫جولاتهم بزيارة المساجد والالتقاء بأئمتها والتعرف عليهم وعلى أصحاب البيوت المحتاجة‪،‬‬ ‫ممن كانوا يأتون إلى المسجد طلباً للمعونة بين آونة وأخرى‪ ،‬وكان الإمام في ذلك الزمن يجمع‬ ‫من خلال معرفته بأهل الحي الذي يقطنه المال والغذاء والكساء‪ ،‬ث ّم يوزعه على الفقراء‪.‬‬ ‫بعد حصر الأسماء تسجل المبالغ الموزعة على المستفيدين منهم في كشوف ورقية لضبط العدد‬ ‫وعدم التكرار‪ ،‬وضمان وصول المساعدة لكل محتاج‪ ،‬وهذا هو صلب وظيفة الشاب حمد‪ ،‬إذ‬ ‫كان يدون أسماءهم ومقدار المعونات المقدمة لهم من مال وأرزاق وأغذية وأكسية‪ ،‬في زمن‬ ‫كانت العملة المستخدمة فيه هي «الريال الفرانسي»‪ ،‬ث ّم يجمع العدد والتكلفة الإجمالية لمعرفة‬ ‫الاحتياج بشكل دقيق‪ ،‬وحتى يستطيع ابن عمران توصيل أحوال المنطقة للملك عبدالعزيز‬ ‫ومعاونيه بدقة ووضوح‪ ،‬وربما يستفاد منها في الاستعداد لزيارات مستقبلية أخرى‪.‬‬ ‫‪30‬‬

‫حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة‬ ‫انتهز ابن عمران فرصة وجوده في الوادي‪ ،‬وصحب معه مجموعة من الراغبين في العمل‬ ‫تحت إمرته‪ ،‬بعد الاتفاق معهم على مقابل معين نظير أعمالهم التي سيلتحقون بها‪ .‬وكان مما‬ ‫لفت نظر حمد وجود مجموعة كبيرة من الأخشاب الكبيرة المساعدة في البناء التي تســــــمى‬ ‫باللهجة المحلية «السواكيف»‪ ،‬وهي أعمدة خشبية متينة مما يصعب توافرها في الرياض‬ ‫وما حولها من القرى‪ ،‬فالناس يستخدمون الخشب في عمارة المنازل وبنائها‪ ،‬لذا فإنها توجد‬ ‫بكميات كبيرة في الوادي‪ ،‬فحمل ابن عمران معه منها ما يقارب عشرين عمودا‪ ،‬ووضعها‬ ‫في السيارة التي قدم بها‪ .‬ويبدو أن هذه الملاحظة من قبل حمد قد زادت من حاسة التيقظ‬ ‫للفرص واستثمارها؛ حتى أصبحت سمة راسخة في عقل الشاب التجاري‪.‬‬ ‫ولع ّل انتهاز «ابن عمران» الفرصة لاصطحاب مجموعة من الموظفين معه كانت نتيجة لمعرفته‬ ‫العميقة بأنه لا يخرج من وادي الدواسر للعمل في الرياض إاّل قليل من الأفراد‪ ،‬وذلك لأن‬ ‫التواصل بين المنطقتين مرتهن بقدوم سيارة محملة بما يحتاجه الأهالي الذين يقطنون الوادي‬ ‫آنذاك من المصروفات الموجهة من الملك عبدالعزيز رحمه الله شخصياً‪.‬‬ ‫ولكن خلال العودة إلى الرياض‪ ،‬طال عليهم طريق الرجوع‪ ،‬وزاد الأمر صعوبة وحرجاً العطل‬ ‫الذي لحق بالسيارة التي تق ّل ابن عمران ومن معه بعد أداء مهمتهم‪ ،‬وهو عطل سيجعلهم‬ ‫عرضة للبقاء في صحراء موحشة غير مطروقة‪ ،‬وأماكن ليست سالكة للمسافرين‪ ،‬ولذا‬ ‫حفظت حادثة تعطل السيارة الكثير من المواقف والعبر والذكريات العص ّية على النسيان‪.‬‬ ‫حين تعطلت السيارة أول مرة استُبدل الإطار التالف بآخر جيد‪ ،‬وسارت سيارتهم الثقيلة‬ ‫مدة من الزمن على طرق صحراوية غير ممهدة ث ّم أصابها العطل من جديد وقد ح ّل المساء‬ ‫الدامس‪ ،‬وأظلمت القفار‪ ،‬وأُجهد القوم من المسير في الصحراء‪ ،‬ولم يكن أمامهم من خيار‬ ‫إاّل الاستجابة لدواعي النوم والراحة‪ ،‬حتى يكملوا البحث عن سبيل للخلاص في صباح اليوم‬ ‫الذي يليه‪ ،‬فباتوا على قلق من جهة‪ ،‬وأمل بالفرج من جهة أخرى‪.‬‬ ‫‪31‬‬

‫حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة‬ ‫وكان مما يزيد في واقعهم حرجاً ومشقة أن يوم الغد هو أول يو ٍم من أيام شهر رمضان المبارك‪،‬‬ ‫مما يعني الحاجة لإعداد وجبتين للسحور والفطور‪ ،‬مع الاضطرار لاستخدام كميات من الماء‪،‬‬ ‫ولكن الأوضاع لا تسمح بالسعة في تناول الطعام والشراب مع عدد الرجال الكبير ج ًدا‪ ،‬فأصر‬ ‫ابن عمران على الجميع أن يصوموا‪ ،‬وأاّل يترخص أحد منهم بالفطر حفاظاً على مخزون‬ ‫الغذاء والشراب‪ ،‬وهذا من حكمته وإدارته الموقفية للحدث‪.‬‬ ‫و ُق ّدم لأعضاء الرحلة التمر المعجون بالطحين والماء بما يشبه العصيد على مائدة السحور‬ ‫والإفطار من اليوم الذي يليه‪ ،‬لكون التمر من الأغذية التي تمد الجسم بالطاقة لمدة طويلة‪،‬‬ ‫ولأنه لا يوجد في حقيقة الأمر بديل يكفي حاجة القوم سواه‪ ،‬فهو طعامهم الوحيد الذي‬ ‫يبقيهم على قيد الحياة‪ ،‬ويمنحهم الطاقة‪.‬‬ ‫مر اليوم الثاني صعباً على الجميع‪ ،‬فالعدد كبير ومخزون الطعام قليل‪ ،‬والماء يتناقص‪،‬‬ ‫والصحراء مقفرة لا تبشر بقادم ينقذهم‪ ،‬فقرر خمسة من الرجال بعد مشاورات مع ابن‬ ‫عمران أن يغادروا المجموعة‪ ،‬بح ًثا عن أ ّي قرية يظنون أنها قريبة منهم لإنقاذ أنفسهم من موت‬ ‫محقق‪ ،‬وإنقاذ البقية لو كتب لهم الوصول إلى أرض بها حياة أو قوم عندهم مدد يسعفون به‬ ‫المجموعة المنقطعة في الصحراء‪.‬‬ ‫إنه لأمر صعب أن تنتظر الموت وأنت ترى ك ّل دلائله تحوم حولك‪ ،‬بل من الصعب أن ترى‬ ‫طاقتك وهي تذوي دون أن تحاول استثمارها لتزيد من أيامك في هذه الحياة‪ ،‬لم يكن قرار‬ ‫محاولة الوصول إلى أقرب مساعدة بقطع الصحراء المقفرة على الأقدام وبقليل من الماء أمراً‬ ‫سهل ًا‪ ،‬لكن الأصعب منه هو انتظار موت محقق يزحف إلى جمع من الناس لا حيلة لهم ولا قوة‬ ‫حتى يتخطفهم واحداً تلو الآخر‪.‬‬ ‫‪32‬‬

‫حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة‬ ‫أعطى ابن عمران الرجال الخمسة صلاحية مفتوحة في الحصول على أ ّي سيارة أو دابة‬ ‫تأتي لإنقاذ الجميع مهما كان المقابل المادي‪ ،‬بل حتى لو أجبروا مالكها على البيع‪ ،‬كما أعطاهم‬ ‫الصلاحية في أخذ أ ّي سيارة يجدونها غصباً لو رفض صاحبها التعاون معهم‪ ،‬وجعل هذا‬ ‫القرار تحت مسؤوليته‪ ،‬فقد كانت حياته وحياة رفاقه هي هاجسه الأول‪ ،‬خاصة بعد أن لاحظ‬ ‫الضعف الذي سرى بينهم‪ ،‬وشرع يغتال النفوس قبل الأجسام‪ ،‬وفي النهاية ستعود السيارة‬ ‫لصاحبها بعد إنقاذ الرفقة المنقطعين‪.‬‬ ‫ثلاثة أيام كاملة‪ ،‬مرت ثقيلة بلياليها دون أن يتناول الرجال أ ّي طعام فلو أكلوا لطلبوا شرب الماء‪،‬‬ ‫والماء قد نفد!! فما الحل؟ لم يكن هناك من طريقة سوى الانتظار ببطون خاوية‪ ،‬وأفواه جافة‪،‬‬ ‫ونفوس ليس لها بعد رجاء الله إاّل أن تنتظر الموت‪ ،‬وفي تلك المواقف يعظم الرجاء والأمل في‬ ‫الله‪ ،‬ويوقن المرء أن لا ملجأ له إاّل ربه الذي خلقه‪ ،‬ويالها من حال تزيد في الضراعة‪ ،‬والإيمان‪،‬‬ ‫والرجاء‪.‬‬ ‫ولما اشتد الأمر عليهم‪ ،‬وبلغت القلوب الحناجر‪ ،‬وقف رجل منهم بجانب السيارة‪ ،‬متكئاً على‬ ‫مقدمتها يكتب على قطعة ورقية بالية‪ ،‬وقد غشاه الهم وأبانت ملامحه عن حزن عميق؛ فأقبل‬ ‫حمد باتجاه ذلك الرجل مع مجموعة من رفاقه يستفسرون عن الأمر الذي يفعله؛ فكان جوابه‬ ‫المروع بأنه يكتب وصيته؛ ففراق الدنيا أصبح أمام عيونهم‪ ،‬والموت يقترب منهم روي ًدا روي ًدا!‬ ‫نعم لقد وصل الحال بهم إلى هذا الح ّد‪ ،‬وكل منهم بدأ يعبر بطريقته الخاصة عن لحظاته‬ ‫التي يظن أنها الأخيرة قبل مفارقة الحياة ووداع الدنيا‪ ،‬ويالها من مشاعر كئيبة حينما ينتظر‬ ‫المرء الموت وهو منقطع في الصحراء‪ ،‬ولا شيء يلوح في الأفق لانتشالهم من هذا الرحيل‬ ‫الحزين البعيد عن الأهل والخلان‪.‬‬ ‫على الجانب الآخر‪ ،‬كان الرجال الخمسة الذين انطلقوا لطلب المساعدة في أحوال صعبة‬ ‫أيضاً‪ ،‬حيث عجز اثنان منهم عن إكمال المسير! فتوقفوا في الصحراء الخالية بعد أن كلّت‬ ‫عزائمهم‪ ،‬وتلاشت طاقتهم‪ ،‬واستسلموا لتقبل أقدارهم‪ ،‬وأكمل الثلاثة الباقون المسير على‬ ‫أمل أن تزيد أيامهم في هذه الحياة؛ كي يحفظوا حياتهم وحياة رفقتهم المنتظرة‪.‬‬ ‫‪33‬‬

‫حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة‬ ‫سار الرجال الثلاثة على الطريق الذي يظنون أنه موصل لأقرب تجمع من الناس‪ ،‬ومن فضل‬ ‫الله عليهم أن وجدوا بعيراً استأجروه من صاحبه‪ ،‬فساروا بالتناوب في الركوب عليه حتى‬ ‫وصلوا إلى بلدة الأفلاج‪ ،‬فانتعشت أرواحهم وغمرهم أمل عظيم بأن يصلوا إلى ابن عمران‬ ‫ومن معه بالمساعدة قبل فوات الأوان‪ ،‬لذا طلبوا الغوث العاجل بإرسال برقية إلى الرياض‬ ‫لطلب المساعدة‪ ،‬والعون المباشر‪ ،‬ث ّم قفلوا مسرعين إلى السيارة المتعطلة في عرض الصحراء‪.‬‬ ‫وعندما جاء مغرب اليوم الرابع دون منقذ أو عابر‪ ،‬شارف الرجال المنتظرون على الهلاك‪،‬‬ ‫وأخذت الأفكار المتشائمة تراودهم‪ ،‬بيد أنهم أبصروا نوراً قادماً من بعيد‪ ،‬يجري نحوهم‬ ‫فيتخبط يمنة ويسرة في عرض الصحراء‪ ،‬ويبحث بغير هدى عن القافلة الضائعة‪ ،‬ولم يكن‬ ‫مصدر الضوء بالنسبة لابن عمران ومن معه معروفاً‪ ،‬فهوية السيارة القادمة لا تدل على‬ ‫شيء معين‪ ،‬لكنها كانت بالنسبة لهم أياً كان من فيها البشارة بالحياة بعد الموت‪ ،‬والنجاة بعد‬ ‫الهلاك‪ ،‬وكأنهم ولدوا من جديد‪ ،‬وكأ ّن بصيص النور الذي أقبل عليهم هي الحياة التي كاد أن‬ ‫ينطفئ نورها بعد تلك الأيام العصيبة التي مرت بهم‪.‬‬ ‫وتبين أن السيارة القادمة تقصدهم بذاتهم‪ ،‬وعلى متنها ثلاثة من أصحابهم الخمسة‪ ،‬وقد‬ ‫جاءت محملة ببراميل من الماء وبالكثير من الطعام واللحم والكساء‪ ،‬فم ّن الله عليهم بالنجاة‬ ‫من موت أكيد‪ ،‬وغدت تلك الرحلة واحدة من القصص التي لا تُمحى من الذاكرة أبداً مهما‬ ‫تطاول عليها الزمان‪ ،‬أو زاحمتها الأحداث‪.‬‬ ‫بعد أن روي القوم من عطش‪ ،‬وشبعوا من جوع‪ ،‬وأمنوا من خوف الهلاك‪ ،‬انتعشت أرواحهم‪،‬‬ ‫والتقطوا أنفاسهم‪ ،‬وناموا ليلتهم تلك وقد قرت أعينهم بنجاة أرواحهم‪ ،‬ث ّم انطلقوا عائدين‬ ‫بعد أن أصلحوا الخلل الذي كان في سيارتهم الأولى‪ ،‬وذهبوا إلى الرجلين الذين كانا قد عجزا‬ ‫عن إكمال المسير لينقذوهما‪ ،‬فأدركوهما قبل أن يموتا بفضل من الله وحده‪ ،‬ورجع رفاق‬ ‫الرحلة كلهم لم تتخرم المنون أحداً منهم بعد أن تربصت بهم‪ ،‬وطافت حولهم‪.‬‬ ‫‪34‬‬

‫حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة‬ ‫غدت رحلة العودة هذه؛ من أصعب الأيام التي مرت على صاحب الترجمة‪ ،‬الذي خاض كثيراً‬ ‫من التجارب‪ ،‬بيد أنها لم تكن مثل هذه التجربة العصيبة في أدق تفاصيلها‪ ،‬فوضعت هذه‬ ‫الحادثة لبنة في شخصيته الاجتماعية‪ ،‬خاصة أنها كانت في مرحلة التكوين والإعداد‪ ،‬فمثل‬ ‫هذه الوقائع المبكرة تزرع في روع أفرادها اليقين من ناحية‪ ،‬وقوة الشكيمة والجسارة من‬ ‫ناحية أخرى‪.‬‬ ‫كما أن المهام التي تقلدها في مسيرة عمله‪ ،‬و ُكلف بها في رحلة وادي الدواسر أ ّثرت كثيراً على‬ ‫شخصيته‪ ،‬وأكسبته القدرة على تحمل المسؤولية‪ ،‬وصقلت بداخله صفات الجدية في العمل‪،‬‬ ‫والتفاني للوصول لأفضل النتائج مع صغر سنه وحداثة عهده بالعمل والسفر والغربة‪.‬‬ ‫فخلطته مع ابن عمران ورفاقه منحته كثيراً من الخبرات بشكل مباشر أو غير مباشر‪ ،‬كما أن‬ ‫تلك الرحلات بمسافاتها الطويلة وصعابها وتجاربها أضافت إلى رصيد خبراته الكثير من‬ ‫المعرفة‪ ،‬فالسفر يسفر عن أخلاق الرجال وطبائعهم‪ ،‬ويكشف حقيقة معادنهم‪ ،‬ويربيهم على‬ ‫تحمل المشاق والقدرة على التكيف مهما صعبت وقائعها‪ ،‬ومن الفوائد الأخـــــرى لهذه الرحلة‬ ‫أن أوقفته أمام الفقر المدقع‪ ،‬والحاجات الملحة‪ ،‬التي رآها في الآخرين‪ ،‬ولربما أنها ألقت في‬ ‫قلبه الرحمة بالفقراء والمعوزين‪.‬‬ ‫ومع أن مدة عمله كانت قصيرة‪ ،‬والمهام التي كلف بها يسيرة‪ ،‬إاّل أ ّن ثمارها كانت بارزة الوضوح‪،‬‬ ‫حتى إنها أ ّهلته للانتقال والعمل في وظيفة أخرى‪ ،‬بتزكية ممن تفرسوا فيه النجابة‪ ،‬وعرفوا‬ ‫جديته ومثابرته ورغبته في تقديم الأداء الأكمل‪ ،‬وفوق ذلك وجدوا منه التعاون و ُحسن العشرة‬ ‫والرفقة‪.‬‬ ‫‪35‬‬

‫حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة‬ ‫مرحباً بالتجارب الجديدة‬ ‫بعد أن عاد الشاب حمد‪ ،‬من وادي الدواسر‪ ،‬مختزناً تلك التجربة الثرية‪ ،‬حانت الفرصة‬ ‫لانتقاله إلى عمل آخر‪ ،‬بعد تزكية الشيخ عبدالله بن إبراهيم الفريح له للعمل عند حمد بن‬ ‫قباع وإشادته بجودة أدائه لمهامه الموكلة له‪ ،‬والتزامه وحرصه على العمل‪ ،‬فهو شاب لديه‬ ‫الحماسة والقدرة على العمل؛ ويتطلع دائماً لعمل أفضل‪ ،‬وعطاء أجزل‪ ،‬وخبرة أكثر تزيد من‬ ‫كفاءة إنجازه‪.‬‬ ‫وكان يصرف ما يحصل عليه من راتب زهيد مقابل عمله على أسرته في أشيقر‪ ،‬ثم يعود‬ ‫للعمل متطل ًعا نحو فرصة أنسب‪ ،‬فممارسة التجارة ما زالت تجربة وليدة بالنسبة له‪ ،‬ولم‬ ‫تنضج بعد في ذلكم الوقت‪ ،‬وهي تجربة وحيدة لا تكفي لاتخاذ القرار بالسير في هذا الطريق‬ ‫المحفوف بالاحتمالات كافة‪ ،‬وكان يحتاج إلى مزيد من العزم‪ ،‬وربما الاستعداد بطريقة أكبر‪،‬‬ ‫مادياً ومعنوياً‪.‬‬ ‫كانت سمعة حمد الجيدة في عمله مع ابن عمران طريقاً لتزكيته للعمل عند «استاد» ومهندس‬ ‫البناء والتعمير حمد بن قباع‪ ،‬الذي كان وكيل ًا للملك عبدالعزيز ‪ -‬طيب الله ثراه ‪ -‬ومشرفاً على‬ ‫بناء القصور الملكية‪ ،‬فضل ًا عن مسؤوليته عن تخطيط الرياض وتثمين أراضيها ومزارعها‪،‬‬ ‫وهو من أشهر الرجال المؤثرين في الآخرين‪ ،‬ومن الموهوبين في الفلاحة والبناء‪ ،‬إلى جانب‬ ‫ما يتمتع به من الصدق في القول والإخلاص في العمل‪ ،‬والأمانة وتح ّمل المسؤولية‪ ،‬مما أهله‬ ‫لنيل ثقة الملك عبدالعزيز‪.‬‬ ‫فكلف الملك ابن قباع أول الأمر ببناء قصر الغراوية‪ ،‬إضافة إلى تكليفه ببناء قصر المربع‬ ‫التاريخي‪ ،‬الذي يمثل إنجازاً حضارياً عظيماً‪ ،‬لما له من رمزية تاريخية جعلت مكانته باقية‬ ‫حتى وقتنا الحاضر‪ ،‬وهو القصر الذي اتخذه الملك ديواناً له ومقراً لعمله‪ ،‬وأصدر داخله‬ ‫مجموعة من القرارات التي ساهمت في بناء المملكة العربية السعودية الحديثة‪.‬‬ ‫‪36‬‬

‫حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة‬ ‫كما أنه أشرف على بناء قصر الخديمي‪ ،‬وقصر العود‪ ،‬وقصور الناصرية‪ ،‬وقصور الفوطة‪،‬‬ ‫ومجموعة كبيرة من قصور الأمراء‪ ،‬وبعدها كلف بتخطيط الرياض وتثمين أراضيها وتوزيعها‬ ‫على المواطنين‪ ،‬تحت إشراف وتوجيه من الملك عبدالعزيز _رحمه الله _ بنفسه‪ ،‬كما أوكل‬ ‫إليه تثمين المزارع والنخيل وحسم المنازعات في النخيل والمسايل‪ ،‬والخلاصة أن إسهاماته في‬ ‫البناء والتعمير كثيرة تشهد حتى الآن على ف ّن البناء‪ ،‬وروعته‪ ،‬وجودة التنفيذ‪ ،‬وفق المقاييس‬ ‫المعمارية السائدة آنذاك‪ ،‬فضل ًا عن أنه يُع ُّد واحداً من أشهر الأطباء الشعبيين في تجبير‬ ‫الكسور‪.‬‬ ‫لذلك انتقل الشاب حمد للعمل مع ابن قباع تحت مسمى «كاتب»‪ ،‬وتنحصر وظيفته في تدوين‬ ‫الحضور والغياب يومياً للعاملين في بناء القصور الملكية وستة قصور للأمراء‪ ،‬فمن يحضر‬ ‫توضع إشارة عند اسمه‪ ،‬ومن لا يحضر يلغى اسمه بوضع خط عرضي عليه‪ ،‬دلالة على غيابه‬ ‫فيخصم من راتبه‪ ،‬ولاشك أن هذه المهمة أثرت في شخصية الشاب من جانبين هما ضرورة‬ ‫الانضباط‪ ،‬ووجوب معاملة الجميع بالعدل‪.‬‬ ‫وكان من رفقاء تلك المرحلة صديقه عبدالله الفريح‪ ،‬الذي عمل في نفس المقر‪ ،‬إاّل أنه كان‬ ‫موظفاً في المستودع الخاص بمواد البناء‪ ،‬وبالطبع ارتفع راتب حمد ليحصل على خمسة عشر‬ ‫ريالاً في الشهر‪ ،‬مقارنة بالمبلغ الزهيد الذي كان يتقاضاه عند ابن عمران‪ ،‬والخمسة عشر‬ ‫ريالاً كانت مبلغاً مالياً كبيراً ومجزياً في ذلك الزمن‪.‬‬ ‫فأصبحت تلك التجربة امتداداً لتجارب تميزت بالكفاح في حياة حمد‪ ،‬وواصل الاستمرار‬ ‫على سابق عهده بالعمل صباحاً والدراسة مساء في المدرسة القريبة من مكان عمله‪ ،‬التي‬ ‫تقع بين قصر المربع وقصر الفوطة‪ ،‬ويديرها الأستاذ الفاضل صالح الرزيزاء‪ ،‬فعمل حمد هنا‬ ‫ودرس هناك في الوقت ذاته‪ ،‬واستمر الحال على ذلك حتى أتم حمد دراسة المرحلة المتوسطة‪.‬‬ ‫‪37‬‬

‫حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة‬ ‫الخطوة الجريئة نحو الشغف!‬ ‫نال الشاب حمد خبرة كبيرة بعمله مع ابن قباع‪ ،‬وأثبت جدارته واكتسب مزيداً من السمعة‬ ‫الحسنة‪ ،‬لكنه لم يستطع الصبر على العمل أكثر‪ ،‬فقد أشرب قلبه بحب التجارة‪ ،‬لذا قرر أن‬ ‫يعود إلى البيع والشراء من جديد‪ ،‬وعزم على الذهاب لمكة المكرمة لجلب البضائع بعد أن افتتح‬ ‫دكاناً صغيراً استأجره في قيصرية آل سيار ليعرض فيه ما سيحضره من بضائع وكماليات‪،‬‬ ‫فعاود الرحلة الشاقة إلى مكة المكرمة مرة أخرى‪ ،‬مخترقاً الصحاري ومجتازاً الصعاب‪ ،‬بهمة‬ ‫أكثر عزماً ومضياً‪.‬‬ ‫واستخدم حمد المال الذي كان حصيلة عمله مع ابن عمران وابن قباع في توسيع تجارته‬ ‫الجديدة‪ ،‬التي بدأت بمجموعة من الكماليات‪ ،‬وفي ذلك الوقت لم يكن حمد يسير وفق خطة‬ ‫معينة‪ ،‬كما أنه لم يدرس جدوى مشروعه التجاري تحت الإنشاء حينها‪ ،‬وكانت هذه التجارب‬ ‫اليسيرة في مظهرها العميقة في جوهرها تصنع شخصيته‪ ،‬والممارسة العملية في السوق‬ ‫تكسبه الخبرة والمهارة‪ ،‬فالتجربة الأولى علمته دروساً ادخرها للتجربة الثانية‪ ،‬وتعلّم من‬ ‫التجربة الثانية ما يعتقد أنه سيستفيد منه لاحقاً‪ ،‬عندما تتسع تجارته ويغوص في بحر‬ ‫التجارة العميق‪.‬‬ ‫عقد التاجر الجديد صفقة تتبعها صفقة‪ ،‬واشترى بضاعة تعقبها أخرى‪ ،‬ونال ربحاً يلحقه‬ ‫ربح‪ ،‬وهكذا قضى الشاب الهميم زمناً متوسعاً وممتداً‪ ،‬تتقد بين جنبيه روح الإقدام والمخاطرة‪،‬‬ ‫بقلب شاب وخبرة رجل قلبته الحياة بين أشطرها‪ ،‬وأشربته من خبراتها‪ ،‬حتى استطاع بناء‬ ‫علاقات متينة ومتشعبة مع تجار مكة المكرمة‪ ،‬واشترى سيارة «ونيت»‪ ،‬ينقل عليها البضائع‬ ‫في رحلاته المتكررة‪.‬‬ ‫ذات مرة‪ ،‬وصل حمد إلى مكة المكرمة‪ ،‬ومعه مبلغ كبير من المال‪ ،‬فاشترى به أنواعاً مختلفة من‬ ‫العطر والطيب وبعض مستلزمات العطارة‪ ،‬وأشياء مما يقبل عليه الناس كالطواقي والنظارات‬ ‫التي بدأ تجارته بها ولكن بكميات كبيرة جداً هذه المرة‪ ،‬وبعد أن حمل على سيارته جميع ما‬ ‫‪38‬‬

‫حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة‬ ‫اشتراه كي يسافر به للرياض‪ ،‬أوقفه في السوق ثمانية رجال وطلبوا منه توصيلهم لمكان يبعد‬ ‫عن مكة مسافة غير قصيرة!‬ ‫في مثل هذه المواقف يلزم الإنسان الحذر الشديد‪ ،‬إذ إنه ليس من السهل أبداً أن تصطحب‬ ‫ثمانية رجال معك‪ ،‬وأنت لا تعرفهم وهم عنك غرباء‪ ،‬فذلك أمر يحتاج إلى قرار مدروس‪،‬‬ ‫فدارت كثير من الأفكار في رأس الشاب التاجر‪ ،‬الذي يقف في نهاية السوق وأمامه مجموعة‬ ‫من الغرباء يطلبون منه المساعدة‪ ،‬فهل يستجيب لهم؟ أم يلزم جانب الحذر ويحاول صرفهم‬ ‫والاعتذار منهم بك ّل هدوء؟! خاصة أنه يحمل مبلغاً كبيراً من المال‪ ،‬فضل ًا عن تشكيلة البضائع‬ ‫التي اشتراها لتوه‪ ،‬وهو وحيد‪ ،‬وهم ثمانية‪ ،‬وسيكونون معاً في طريق ربما يخلو من السائرين‬ ‫والمسافرين!‬ ‫وبعد التفكير توكل حمد على الله واتخذ قراره بالاستجابة لهم‪ ،‬إذ كانت روح المساعدة وتقديم‬ ‫العون للآخرين تدفعه إلى ذلك‪ ،‬وربما تكون هذه الروح واحدة من أخلاقيات البيئة التي نشأ‬ ‫وترعرع فيها‪ ،‬فما كان منه إاّل أن استعان بالله‪ ،‬وحزم بضاعته ومشترياته في صندوق كرتوني‬ ‫كبير‪ ،‬ث ّم أذن لهم بالركوب معه‪ ،‬ولن يضيع العرف عند الله والناس‪.‬‬ ‫كان الطريق المؤدي إلى منطقتهم طويل ًا بالنسبة لحمد‪ ،‬مع قربه النسبي على أرض الواقع‪،‬‬ ‫لكن شخصاً يحمل مبلغاً كبيراً من المال‪ ،‬وبضاعة ضخمة في سيارته‪ ،‬وبرفقته بضعة رجال‬ ‫غرباء لا يعرف عنهم أكثر من أسمائهم‪ ،‬أمر يُشعر الإنسان بالتوتر والقلق وكثير من الارتباك‪،‬‬ ‫فأصبح شديد الحذر طوال الطريق‪ ،‬يراقب أدق حركاتهم‪ ،‬ويرقب صندوقه المليء بالمشتريات‪،‬‬ ‫وقد وضع المال تحته وجلس عليه دون أن يشعرهم بذلك‪ ،‬مع أن المال يصدر صوتاً كلما ازداد‬ ‫اهتزاز الطريق‪ ،‬حتى أوصلهم لبغيتهم وهو يثني على الله أن سلّمه وحفظ له مروءته‪ ،‬وماله‬ ‫وبضاعته‪.‬‬ ‫‪39‬‬

‫حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة‬ ‫ولع ّل هذا الموقف يعكس الكثير من القيم التي تربى عليها حمد‪ ،‬والمبادئ التي غرست فيه‬ ‫منذ أيام طفولته الأولى وشبابه الغ ّض مع والديه ‪-‬رحمة الله عليهما‪ -‬فالمرء يسير في‬ ‫الحياة ويتصرف وفق ما تعلمه ونشأ عليه‪ ،‬وأبرز ما يظهر لنا في هذا الموقف هو حب الشيخ‬ ‫للمساعدة‪ ،‬ورغبته في تقديم العون‪ ،‬والحكمة في التصرف وقياس الأمور‪ ،‬واتخاذ القرار‬ ‫بمعطيات حرجة‪ ،‬والمضي فيه مع التوكل بعد فعل الأسباب‪.‬‬ ‫وحين وصل إلى الرياض باع بضاعته هذه المرة بأسلوب الجملة في سوق المقيبرة وهو أشهر‬ ‫سوق في الرياض آنذاك‪ ،‬ليدخل في صنف آخر من أنواع البيع التجاري‪ ،‬ويبدو أن البيع بنظام‬ ‫الجملة وافق مرام الشيخ ومبتغاه فاتخذه نهجاً يسلكه‪ ،‬وبذلك ازداد تردده على مكة المكرمة‬ ‫يشتري البضائع ويبيعها‪ ،‬مرة تلو الأخرى‪ ،‬حتى رست علاقاته وازداد توسعها‪ ،‬وتعرف على‬ ‫تجار مكة وعرفوه‪ ،‬وارتفعت أرباح التاجر الشاب إلى عشرين ألف ريال‪ ،‬وهو رقم كبير بل كبير‬ ‫جداً حينذاك‪.‬‬ ‫‪40‬‬

‫حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة‬ ‫الزواج الأول‬ ‫قرر حمد زيارة أشيقر يدفعه الشوق والحنين إلى والدته وإخوته‪ ،‬ولتنتعش روحه بعد فراق‬ ‫طويل في سبيل بناء النفس والاعتماد عليها بالكسب الحلال الطيب‪ ،‬وكان قد بلغ عامه‬ ‫الحادي والعشرين‪ ،‬وعزم على الزواج وتكوين الأسرة‪ ،‬فدواعي الفطرة يجب تلبيتها‪ ،‬ومن‬ ‫الخطأ مقاومتها‪ ،‬أو تعسير سبلها الحلال‪.‬‬ ‫ولتكوين الأسرة في تلك الأزمان حكايات كثيرة‪ ،‬تبدأ بالتعاون مع الوالدة والأخوات في البحث‬ ‫عن الشريكة المناسبة ذات الدين والحسب والنسب والخلق الرفيع لإكمال مشوار الحياة معها‪،‬‬ ‫حيث تنضم للأسرة الكبيرة وتكون واحدة من نسائها الكريمات‪.‬‬ ‫فتولت والدته الأمر وبحثت عن مواصفات الزوجة التي يرغب ابنها حمد في الاقتران بها‪،‬‬ ‫حتى وصلت إلى مراده وحصل الوفاق‪ ،‬ليتم الزواج المبارك ويكمل الشاب العشريني نصف‬ ‫دينه بزواجه‪ ،‬ولتستقر حياته بامتلاك بيت يأوي إليه‪ ،‬وزوجة تسكن إليها نفسه‪.‬‬ ‫‪41‬‬

‫حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة‬ ‫وفي العام الذي تزوج فيه‪ ،‬عاد مرة أخرى للعمل الحكومي‪ ،‬وكأنما توقف عن التجارة برهة‬ ‫يسيرة‪ ،‬تشبه استراحة محارب لا يرى مكانه في غير المعترك‪ ،‬بيد أنه أراد أن يسترد خلالها‬ ‫أنفاسه‪ ،‬ويقيس مدى نجاحه في مجالات أخرى‪.‬‬ ‫فبعد أن طلب ابن عمران لقاءه لأمر مهم بعد أن أصبح ابن عمران أميراً لبلدة مرات‪ ،‬وعرض‬ ‫عليه العمل معه مرة أخرى ولكن في إمارة مرات‪ ،‬التي تبعد حوالي خمسين كيلومتراً عن‬ ‫مدينة أشيقر‪ ،‬وبعد تأمل وتفكير وتقليب للأمر‪ ،‬قبل الشيخ حمد الالتحاق بالعمل في الإمارة‬ ‫مع صاحبه الأول ابن عمران‪ ،‬خاصة أنه سبق له ممارسة التجارة في مرات مع أخيه عثمان‪.‬‬ ‫اختلفت طبيعة العمل عن كل عمل سابق التحق به‪ ،‬إذ عمل كاتباً للبرقيات التي تبعث لمناطق‬ ‫مختلفة من المملكة عن طريق الإمارة‪ ،‬وهذه الوظيفة أكسبته خبرة في معرفة لغة البرقيات‬ ‫وف ّك رموزها‪ ،‬فكتابة البرقيات تحتاج إلى تعلم من نوع خاص‪ ،‬إذ كانت في ذلك الزمن عبارة‬ ‫عن شفرات تحتاج لفكها وترجمة رموزها‪ ،‬ومن ث ّم تقدم للأمير كي يرد عليها‪ ،‬فتعلّمها وأتقن‬ ‫فك شفراتها حتى تميز فيه‪.‬‬ ‫ث ّم قرر حمد أن يتوسع تجارياً ويفتتح هو وأخوه عثمان في تلك المنطقة‪ ،‬محل ًا لبيع وقود‬ ‫السيارات (البنزين)‪ ،‬وقطع غيار السيارات الدارجة في ذلك الوقت‪ ،‬وكانت أول بداية لهما عبر‬ ‫بيع البنزين‪ ،‬إذ كانا يملكان ستة عشر برميل ًا‪ ،‬وبعد أن ينتهي حمد من العمل في الإمارة يلتحق‬ ‫بأخيه في الدكان‪ ،‬ويمارسان معاً البيع والتجارة‪.‬‬ ‫‪42‬‬

‫حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة‬ ‫التجارة ‪...‬شغف يتجدد‬ ‫ترك حمد العمل عند ابن عمران في مكتب الإمارة بمرات‪ ،‬ليس لشيء إاّل بسبب ولعه وشغفه‬ ‫بالتجارة‪ ،‬ذلك الشغف الذي يلقي به في أتون الحنين لها من جديد كلما ابتعد عنها‪ ،‬فهو‬ ‫يؤمن بأن أطيب الكسب والرزق في التجارة‪ ،‬كما في قول الله تعالى‪َ { :‬ف ِإ َذا ُق ِض َي ِت ال َّصل َاةُ‬ ‫َفانتَ ِش ُروا ِفي الأَ ْر ِض َوابْتَ ُغوا ِمن َف ْض ِل اللَّ ِه‪[ }......‬الجمعة‪ ]10 :‬وكما ورد في الأحاديث الشريفة‬ ‫(‪ ،)1‬والمرء بطبعه يميل لأعمال معينة تكون أقرب لاهتماماته ولشخصيته وطباعه‪ ،‬وقد كانت‬ ‫التجارة أقرب لاهتمامات حمد وشخصيته‪ ،‬فالمتتبع لمسيرته منذ بدايتها يدرك عمق ارتباطه‬ ‫بالتجارة‪ ،‬وهذا ما جعله يعود لها من جديد‪ ،‬بنفس الحماسة القديمة‪ ،‬وبنفس الحب المتجذر‬ ‫داخله تجاهها‪.‬‬ ‫فسافر إلى مكة متاجراً؛ عند بلوغه عامه الخامس والعشرين‪ ،‬وعاد لممارسة شغفه من‬ ‫جديد‪ ،‬ولكن على نطاق أكثر اتساعاً من السابق‪ ،‬إذ كان يشتري البضائع ويرسلها إلى الرياض‬ ‫لتسويقها‪ ،‬فأخذت تجارته بالتوسع‪ ،‬ليدفعه هذا التوسع إلى اتخاذ قرار بأن يعقد شراكة مع‬ ‫ابن أخته وصديقه محمد بن سليمان اليحيى؛ لتسويق البضائع في الرياض عن طريقه‪ ،‬بعد‬ ‫أن تصل إليه من خاله حمد في مكة‪.‬‬ ‫وهكذا بدأت تجارته تكبر يوماً بعد يوم‪ ،‬وتكون لديه رأس مال كبير جداً‪ ،‬ومنه بدأت ترد عليه‬ ‫الأفكار للبحث عن بيئة تجارية أكثر نشاطاً وأوسع رواجاً من سوق مكة‪ ،‬وحينها كانت دولة‬ ‫الكويت هي وجهة التجار ومقصدهم الغني بالربح والجديد والإثارة‪ ،‬وهي المكان الذي يقصده‬ ‫من يريد السبق والانفتاح على العالم‪.‬‬ ‫(‪ )1‬منها ما في مسند الإمام أحمد‪ِ :‬قي َل‪ :‬يَا َر ُسو َل اللَّ ِه‪ ،‬أَ ُّي ال َكس ِب أَط َي ُب؟ َقا َل‪َ « :‬ع َم ُل ال َّر ُج ِل ِب َي ِد ِه‪َ ،‬و ُك ُّل بَيْ ٍع َمبْ ُرور» ومنها ما في البخاري‪َ « :‬ما أَ َك َل أَ َح ٌد‬ ‫َط َعا ًما َق ُّط َخي ًرا ِمن أَن يَأ ُك َل ِمن َع َم ِل يَ ِد ِه‪َ ،‬و ِإ َّن نَ ِب َّي اللَّ ِه َدا ُو َد عليه السلام َكا َن يَأ ُك ُل ِمن َع َم ِل يَ ِد ِه»‪ ،‬وفي رواية‪ِ « :‬إ َّن أَ ْط َي َب َما أَ َكلْتُ ْم ِم ْن َك ْس ِب ُك ْم»‪.‬‬ ‫‪43‬‬

‫حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة‬ ‫انطلاقة من الكويت‬ ‫(‪1373‬هـ‪1383-‬هـ) ( ‪1954‬م ‪1964 -‬م )‬ ‫التجارة قرينة المغامرة‪ ،‬وتستلزم اتخاذ القرارات الجريئة والقوية القادرة على تح ّمل الطريق‬ ‫الوعر المليء بالمخاطر‪ ،‬فالكثير من القرارات تحتاج إلى شجاعة تدفع للمضي قدماً‪ ،‬وخوض‬ ‫المغامرة التي يدرك صاحب القرار أنها غير مضمونة النتائج أبداً‪ ،‬لكنها أمر حتمي في حياة‬ ‫التاجر‪ ،‬بل هي واحدة من أسباب النجاح حتى ولو لم ينجح صاحبها في بداياته‪.‬‬ ‫ففي العام ‪1373‬هـ ‪1954 /‬م اتخذ حمد الحصيني أحد أكثر القرارات جرأة وشجاعة وعزماً‪،‬‬ ‫بعد تفكير طويل ودراسة متأنية‪ ،‬وبعد قياس الأمور المحيطة به‪ ،‬حيث توجه إلى دولة الكويت‬ ‫بحثاً عن سوق تجارية أخرى غير التي عهدها في المملكة العربية السعودية‪ ،‬بعد أن صنع‬ ‫شراكة تجارية مع أخيه عثمان وصديقه محمد اليحيى الذي أدخل أخاه عبدالله شريكاً معهم‪.‬‬ ‫‪44‬‬

‫حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة‬ ‫ولا غرو فالكويت هي مقصد كثير من تجار ذلك الزمان‪ ،‬لما امتازت به من موقع حيوي على‬ ‫الخليج العربي المتفرع على منافذ متعددة من دول العالم‪ ،‬وكان ميناء الكويت غنياً بالبضائع‬ ‫والسلع المختلفة‪ ،‬مما و ّسع مجالات الرزق لأهل الكويت ولمن تاجر فيها من دول الجوار‪ ،‬وساهم‬ ‫هذا الحراك التجاري في نهضة أسواقها وشؤونها التجارية حتى صارت مقصداً للمستثمرين‬ ‫وبيئة مناسبة للفرص‪ ،‬ويضاف لذلك كثرة ما في الكويت من وكالات للشركات‪ ،‬وبحث هذه‬ ‫الشركات الدؤوب عن وسطاء أو وكلاء محليين‪.‬‬ ‫في تلك الأزمنة نشأت كثير من الأسواق التجارية‪ ،‬حمل كل منها اسماً اشتهر به‪ ،‬ولا يزال‬ ‫بعضها محتفظاً به حتى الآن‪ ،‬ومنها سوق الغربللي‪ ،‬وسوق التجار‪ ،‬وسوق المناخ‪ ،‬وساحة الصفاة‪،‬‬ ‫وسوق الفرضة وسوق واقف للنساء‪ ،‬وسوق بن دعيج‪ ،‬وسوق الطحين‪ ،‬وسوق الساعات‪ ،‬وسوق‬ ‫الجت‪ ،‬وسوق التمر‪ ،‬وغيرها الكثير‪ ،‬ومن أشهرها سوق المباركية الذي سكن حمد فيه‪ ،‬وهو‬ ‫يقع الآن بالقرب من سوق المناخ المجاور لمسجد الحداد‪.‬‬ ‫‪45‬‬

‫حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة‬ ‫‪46‬‬

‫حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة‬ ‫بدأ حمد بالبحث عن فرصة للمتاجرة في سلعة جديدة وجيدة وجذابة‪ ،‬يستطيع من خلالها‬ ‫أن يحقق مكسباً طيباً‪ ،‬لكن المشكلة التي كانت تواجهه آنذاك أن الأسواق كثيرة ومتنوعة‬ ‫ومختلفة‪ ،‬وربما لم تكن مشكلة بقدر ما كانت نقطة تحتاج لشخص حصيف يقرر من أين‬ ‫سينطلق‪ ،‬وبم سيبدأ مشواره المتجدد‪ ،‬وكيف سيصل لبغيته‪.‬‬ ‫صار حمد يخرج كل يوم ويمر على الأسواق واحداً تل َو الآخر‪ ،‬يستطلع ويتفحص المبيعات‪،‬‬ ‫ويرقب المشترين ومدى إقبالهم‪ ،‬ويبحث عن المختلف منها‪ ،‬ليستطيع المتاجرة به هناك في‬ ‫الرياض‪ ،‬وبعد بحث وتأمل في السوق وأحواله وبضائعه ونقاط قوته وضعفه‪ ،‬وبعد أن‬ ‫استقرأ الحال الاقتصادية قبل أن يدخل في مغامرة تجارية شجاعة‪ ،‬قرر أن يتاجر بالأجهزة‬ ‫الكهربائية!‬ ‫كان هذا القرار شجاعاً لرجل لم يجرب من قبل تجارة بهذا الحجم‪ ،‬ولا بهذا النوع من‬ ‫البضائع‪ ،‬لكن التجارة مغامرة‪ ،‬والتاجر يتميز عن أصحاب المهن بح ّس التحدي مع النفس‬ ‫للوصول للطموح المرج ّو مع الخوض في بحر المنافسة التجارية‪ ،‬وطبعاً لا يكون ذلك بغير‬ ‫حسن التقدير‪ ،‬وقبل ذلك كله نشدان التوفيق من رب العالمين‪.‬‬ ‫فخطط أن يشتري الأجهزة الكهربائية من الكويت ويبيعها في الرياض‪ ،‬ومن هنا كانت‬ ‫الانطلاقة التجارية في دولة الكويت‪ ،‬فبدأ على هذا النحو زمناً ليس باليسير‪ ،‬حيث تباع‬ ‫الأجهزة في الرياض عن طريق الجملة بعد أن ينتقيها حمد ويرسلها بأعداد كبيرة من الكويت‪،‬‬ ‫ويتم البيع بواسطة محمد اليحيى‪ ،‬الذي يستقبلها ويبدأ بتسويقها في مح ّل بساحة الصفاة‬ ‫التاريخية (الديرة)‪ ،‬التي تقع قبالة جامع الإمام تركي بن عبدالله حالياً‪.‬‬ ‫‪47‬‬

‫حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة‬ ‫قرار جريء آخر‬ ‫تعلم حمد منذ بداية عهده بالتجارة أاّل يستعجل تحصيل الربح أبداً‪ ،‬وقد علمته التجارب‬ ‫السابقة منذ بداياته في مكة قبل أعوام أن التجارة محفوفة بالمخاطر‪ ،‬وأنها قرينة للمشاق‪،‬‬ ‫موجبة للصبر والتحمل‪ ،‬وتدرب جيداً على كل ذلك‪ ،‬بالخبرة التي اكتسبها مع مرور الزمن‪،‬‬ ‫ومن التجارب التي خاضها‪ ،‬وكانت في ذلك الوقت مهمة بالنسبة له‪ ،‬مع أنها لا تقارن مع‬ ‫التجارب التي خاضها فيما بعد‪ ،‬وأعانته هذه الخبرة على أن يمضي قدماً حتى تشربت‬ ‫شخصيته العزم والإقدام‪.‬‬ ‫لقيت البضائع القادمة من الكويت رواجاً في سوق الرياض‪ ،‬فاستمر في بيع الأجهزة الكهربائية‬ ‫زمناً ليس باليسير في محله بساحة الصفاة التاريخية التي تقابل الجامع الكبير كما يسمى‬ ‫آنذاك‪ ،‬ويتم البيع عن طريق عثمان الأخ الأكبر لحمد وابن أخته محمد اليحيى‪ ،‬واختصت‬ ‫المبيعات بمجموعة من العلامات التجارية المعروفة آنذاك‪ ،‬وأكثرها من شركة (‪.)J.V.C‬‬ ‫ث ّم توسعت تجارة حمد وشركائه (شقيقه عثمان وأبناء أخته محمد وعبدالله اليحيى)‪ ،‬خاصة‬ ‫حينما قرر حمد فتح فرع في مكة ومثل هذا القرار بالتوسع التجاري وفتح فرع آخر في مدينة‬ ‫أخرى بعيدة أمر ليس يسيراً‪ ،‬فيجب أولاً اختيار الموقع بعناية‪ ،‬وانتقاء المدير المؤهل المأمون‬ ‫الذي سيتولى شؤون الفرع الجديد‪ ،‬وضمان سلاسة طرق التواصل معه في زمن لم تكن فيه‬ ‫وسائل التقنية متاحة ويسيرة‪ ،‬إضافة إلى حسم كثير من التفاصيل المتعلقة بالبائعين وبعملية‬ ‫البيع والشراء نفسها‪.‬‬ ‫فذهب الشيخ حمد إلى مكة المكرمة‪ ،‬واختار محل ًا في شارع الملك فيصل‪ ،‬في منطقة سوق‬ ‫(المُدعى) المشهور منذ القدم‪ ،‬الذي اكتسب اسمه من دعاء الحجاج إذا بلغوه وشاهدوا الكعبة‬ ‫عن بُعد‪ ،‬ويقع في الناحية الشمالية للمسجد الحرام عند باب السلام وهو الآن ضمن‬ ‫‪48‬‬

‫حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة‬ ‫التوسعة الشمالية الأخيرة التي بدأت في عهد الملك عبدالله– رحمه الله تعالى ‪.‬‬ ‫وجاء الاختيار بعد أن درس نشاط السوق التجاري المحيط بتلك المنطقة‪ ،‬واتفق مع الشخص‬ ‫المناسب لإدارة المحل‪ ،‬وتولي أمور البيع والحساب فيه‪ ،‬فلما أرسى القواعد هناك واطمأن‬ ‫على أدق التفاصيل‪ ،‬عاد إلى الكويت‪ ،‬وشرع يرسل البضائع من الأجهزة الكهربائية إلى مكة‬ ‫المكرمة‪.‬‬ ‫وفي جدة عام ‪1978‬م‪ ،‬حيث البركة والخير الوفير‪ ،‬اختار حمد الأخوين أحمد العفيفي وعمر‬ ‫العفيفي ليكونا موزعين للبضائع‪ ،‬وأوكل إلى عمر باباسط إدارة العمل‪ ،‬وبعد ذلك تولى عبدالله‬ ‫بن عثمان أمر هذه المحلات‪ ،‬وتوسع في العمل بالمنطقة الغربية من المملكة كاملة‪.‬‬ ‫ومع تعاقب السنوات‪ ،‬صار من المتحتم على حمد أن يستقر زمناً طويل ًا في الكويت لتنجح‬ ‫تجارته‪ ،‬فقد أتعبه التنقل من الكويت إلى الرياض ثم إلى مكة‪ ،‬فأصبح لزاماً عليه أن يركز‬ ‫جهوده في تجارته ويستقر هناك؛ فالكويت وقتها تستورد البضائع من ك ّل مكان‪ ،‬وهي بيئة‬ ‫تجارية خصبة محفزة لخوض منافسة تجارية جادة‪ ،‬إذ يقدم عليها كثير من السعوديين آنذاك‬ ‫للبحث عن فرص تجارية‪ ،‬وهي مكتظة بالآسيويين الذين يستوردون البضائع‪ ،‬ويروجون لها‬ ‫في أسواق الكويت العامرة‪.‬‬ ‫فما كان من حمد إلا أن استأجر له منزلاً هناك‪ ،‬وبدأ بترتيب أموره للعيش فيها‪ ،‬وقرر الزواج‬ ‫مرة أخرى‪ ،‬واستقرت إحدى زوجاته معه في الكويت‪ ،‬نظراً لارتباطه بتجارته فيها‪ ،‬بينما بقيت‬ ‫الزوجة الأخرى في بيت أشيقر مع أبنائه ترعى شؤونهم بالتراضي والتفاهم مع زوجها‪ .‬وإن‬ ‫تصور وضعه لكفيل بمعرفة مدى المعاناة التي قاساها‪ ،‬فسفره المتكرر بين بلدين وعدة مدن‬ ‫بوسائل لم تكن مريحة وسريعة مثل اليوم‪ ،‬وتركه لأسرتيه مدة قد لا تكون قصيرة دون وجود‬ ‫وسائل تواصل لحظي كما هو حادث الآن‪ ،‬كل ذلك يصف لنا حجم المعاناة التي تغلب عليها‬ ‫بفضل من الله‪.‬‬ ‫‪49‬‬

‫حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة‬ ‫الهندي‪ ...‬ودخول عالم الزمن‬ ‫في صباح أحد الأيام اتجه التاجر حمد الحصيني إلى السوق كما يصنع يومياً‪ ،‬وكعادة سوق‬ ‫الكويت كان مليئاً بكل أنواع السلع‪ ،‬حيث بدأ حمد يتنقل بين أنحاء السوق من زاوية إلى أخرى؛‬ ‫حتى لمح رجل ًا من الهند وكان اسمه «كاجيريا» واقفاً في متجر يبيع فيه مجموعة من السلع‪،‬‬ ‫ومن بين ما لفت نظره في سلع الهندي الساعات‪.‬‬ ‫وقف حمد أمام تلك الساعات يقلبها وينظر فيها‪ ،‬فاشترى واحدة لنفسه وجربها ث ّم رجع‬ ‫بعد عدة أيام كي يشتري كمية منها ليبيعها في دكانه‪ ،‬وليرى مدى إقبال الناس على شرائها‪،‬‬ ‫فاشترى خمس ساعات‪ ،‬ووضعها في جيبه ليعرضها هناك للزبائن والمتسوقين‪.‬‬ ‫أراد الشيخ حمد أن يجرب بنفسه كيف يق ِّيم الناس هذا النوع من الساعات‪ ،‬فاستقبل أول‬ ‫المتبضعين الذي استفهم عن تلك الساعات‪ ،‬وعن صناعتها‪ ،‬فالعادة جرت بأن يشتري الزبائن‬ ‫الساعات السويسرية‪ ،‬وهذه الساعات يابانية الصنع‪ ،‬وتحمل اسم العلامة التجارية «سيكو»‪،‬‬ ‫لذلك تساءل الزبائن باستغراب عنها‪ ،‬فهي ليست من العلامات التجارية التي يعرفونها‬ ‫والمشتهرة بالجودة‪.‬‬ ‫كذلك قرر حمد أن يرسل عدداً من الساعات إلى الرياض ليرى مدى إقبال الناس عليها‬ ‫هناك‪ ،‬فذهب لنفس الرجل الهندي الذي باعه إياها‪ ،‬وتعرف عليه‪ ،‬فاشترى منه خمس‬ ‫ساعات أخرى‪ ،‬وبعثها إلى متجر الرياض الذي يديره ابن أخته وصديقه محمد اليحيى‪.‬‬ ‫وكم كانت دهشة الصديق والشريك محمد اليحيى كبيرة‪ ،‬عندما ذهب لتسلم دفعة جديدة‬ ‫من البضائع‪ ،‬ليكتشف أن إحداها أصغر حجماً بكثير مما اعتاد على تسلمه‪ ،‬وما إن بدأ بفرز‬ ‫البضائع حتى عرف أن البضاعة الجديدة هي مجموعة قليلة من الساعات التي ليس لهم‬ ‫سابق عهد بنوعها‪.‬‬ ‫أخذ محمد اليحيى الساعات وبدأ بتقليبها وهاله أنها ليست ساعات سويسرية! وإنما ساعات‬ ‫لها علامة تجارية مختلفة‪ ،‬ويابانية الصنع‪ ،‬فما كان منه إاّل أن عرضها للبيع مع مجموعة‬ ‫‪50‬‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook