1345هـ 1441 -هـ مراجعة الشيخ /عبدالرحمن بن حمد الحصيني 1441/5/28هـ الطبعة الثانية 1444هــ2023/م
فهرس المحتويات شكر خاص 7 إهداء 8 الثواني الأولى 9 أشيقر وتاريخ حافل 11 الميلاد والطفولة وذاكرة المكا ن 13 الالتفات نحو المستقبل 17 رحلة العمل الأولى 18 رحلة العمل الثاني ة 22 مكة :عبادة وهوية وتجار ة 24 أول البشائر :فرشة على الأرض! 27 رحلة مثيرة لا تنسى! 30 مرحباً بالتجارب الجديد ة 36 الخطوة الجريئة نحو الشغ ف 38 الزواج الأول 41 التجارة ...شغف يتجد د 34 انطلاقة من الكويت 44 قرار جريء آخ ر 48 الهندي ...ودخول عالم الزمن 50 الدمام واسطة العقد ومنطلق التوس ع 45 رحلة إلى أولى القبلتين 55 خطوات فوق أرض غريبة! 59 وتحقق الحلم 63 وتمضي الساعات ..بالنجاحات 66 اليابان للمرة الثالثة 68 التاجر الذي حافظ على فطرته 70
74 خصال في التجارة والإدارة 76 إطلالة على شخصية الشي خ 78 وقفات من حياة الشيخ حمد الحصين ي 81 82 حياته الإجتماعي ة 84 الشيخ في رمضان 85 94 الأسرة أول اً 97 تربيته لأبنائه 98 الشعر في حيات ه 102 الوقف حياة أخر ى 104 براعة الخير المؤسس ي 105 أمثلة على مشروعات الخير 106 ساعة لا بد منها ! 116 آخر دقيقة ! 118 الملحقات – قالوا عن الشي خ مقتطفات من الأبناء والأحفاد للشيخ حمد الحصيني شجرة الحصيني
إلى كل من من ساهم بجهد أو وقت في انجاز هذه السيرة بالمراجعة أو التدقيق أو الاشراف. ونخص مع كامل التقدير لباقي الجهود منهم .... الأستاذ /أحمد بن عبدالمحسن العساف لمساهمتة في اعادة الصياغة والتعديلات الجوهرية في النص المكتوب بقلمه السيال الشيخ /عادل بن حمد الحصيني -للمتابعة الدقيقة والحضور والنقاش الدائم وتأكيد بعض المعلومات في السيرة الأستاذ /ماجد بن حمد الحصيني -للتنسيق في مدينة اشيقر لتوثيق حياة الشيخ رحمه الله المهندس /تركي بن عبدالرحمن الحصيني -للتنسيق والمتابعة في إعداد السيرة وترتيب عدد من اللقاءات الأستاذة /ريم بنت عادل الحصيني -لمراجعتها للصيغ اللغوية والسياق التاريخي
حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة إلى ذرية الشيخ وعموم أسرته عسى أن يكون أبوهم صالحاً فينتفعوا به ويقتفوا أثره. إلى كل ذي مال أو جاه أو موهبة عسى أن يدخر منها شيئاً بإحسان كي يفلح في آخرته. إلى جميع الساعين لنفع مجتمعاتهم وبلادهم. وإلى القارئ أينما كان... 8
حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة الثواني الأولى الأرض والمكان مسرح تجري فيه الأحداث ويسطر عليها التاريخ ،والإنسان مشارك في صنع ذلك التاريخ ،والتفاعل مع تلك الأحداث فوق هذا المسرح الفسيح ،ومن مجموع سيرة المكان، ومسير الإنسان ،يمكن تفسير أمور كثيرة ،وبناء تصور يقترب من الصحة عن طبائع الأجيال، وشخصية الإنسان ،وسمة المكان ،وسبر أحوال الزمان ،والإبانة عن خبر التاريخ وعبره. لذلك رأينا أن ندون بين دفتي هذا الكتاب سيرة الشيخ حمد بن عبد الرحمن الحصيني ( )1441-1345بعد أن ُجمعت مادتها من مصادر متعددة ،وأعيدت صياغتها وترتيبها بهدف التعرف على شيء من حياة الشيخ التي كانت نموذجاً حافل ًا بالطموح والإنجازات والمكارم ،مع حسن الظ ّن بالله والتوكل عليه في دقيق الأمور وجليلها. إن حياة الشيخ المديدة تبدو من الخارج عادية ،لكنها تحمل في تفاصيلها نسيجاً تشابكت خيوطه في نسق جميل ،يتعانق الزمان فيه مع المكان ،ويتقاطعان مع صنوف العمل ،وصولاً إلى الثمرة التي أينعت وبقيت بفضل الله ،وتظافرت هذه التفاصيل معاً لتصنع ذكريات لأيام عاشها رجل ،نظر يو ًما ما إلى الأفق ،بعيون يملؤها الطموح والأمل ،ث ّم ابتدأ خطواته نحو أفقه المراد بجهد دؤوب ،فلم يك ّل أو يم ّل ،ولم يغب عن باله استصحاب الثقة بالله ،فلم يخذله مولاه يوماً. لذلك فمسيرته ليست سرداً خبرياً يمتع القارئ فحسب ،بل يمكن أن تكون قصته قدوة يُحتذى بها ،ومشعل ًا مضي ًئا يستنير به من يريد أن يعرف الشيخ حمد بن عبدالرحمن الحصيني عن قرب ،سواء في حياته الخاصة ،أو مع الناس ،وأينما أراد في العمل التجاري والمجتمعي؛ ولعلّها أن تكون له -وقد رحل عن دنيانا -لسان صدق في الآخرين ،ومن الأجر المدخر عند رب العالمين. ومع الحرص على أن نوفي الشيخ ح َّقه بعد أن استوفى نصيبه من الدنيا ،وتوفي إلى رحمة الله كما نرجو ،إاّل أن ما تحمله سطور هذا الكتاب لا تحيط بسيرته كاملة ،فهي إشارات 9
حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة لأحداث عبر بها طوال حياته ،دون تفاصيل مسهبة حتى لا يطول السرد على القارئ ،فضل ًا عن أن بعض الأحداث قد تراكمت عليه السنون المتعاقبة؛ فغدا استرجاعه أمراً عسيراً على الذاكرة ،خاصة بعد أن غاب بعض أطرافه وغادروا الحياة الدنيا. وقد ُجمعت مادة هذا الكتاب من ذكريات الشيخ التي تحدث بها بين آونة وأخرى ،ومن شهادات من عرفه بالشراكة أو الجوار أو العمل ،فضل ًا عن بنيه وأسرته ،واستغرق جمعها وترتيبها قريباً من عامين ،وليست الغاية تبجيل راح ٍل لا ينتفع مما فيها من إطراء ،وإنما لتبقى القدوات والفضائل حية حاضرة في مجتمعنا وأجيالنا ،وعسى أن تكون من الأجر الأخروي الممتد لصاحبها ولمن شارك فيها. كما أن إيراد الفضائل والمناقب لا ينفي عن المرء صفة البشرية المعرضة للقصور والخطأ ،بيد أن الغاية تتجاوز التقييم والفحص والموازنة بين الجرح والتعديل ،إلى إيراد حسنات النموذج وما يمكن أن يكون منه موض ًعا للاعتبار والاهتداء بما فيه من قيم ومواقف؛ فليس الشيخ من رواة الأحاديث أو التاريخ حتى يُجرى عليه ما يفعله علماء الرجال بالرواة ،وهو ليس من أهل السياسة والفكر كي نجعله تحت المجهر الدقيق. لأجل ذلك اقتصرنا في هذه السيرة على إيراد آثاره الميمونة في نفسه وأسرته وآله ومجتمعه وبلاده ،وجعلتْها موضع الحديث ومجاله الأرحب؛ لثقتنا بأن القارئ يعلم يقي ًنا أن هذا الصنيع ليس تزكية مطلقة ،ولا نف ًيا للوازم الانتساب لأبينا آدم عليه السلام ،ولع ّل شيخنا الراحل أن يظفر من هذه المقدمة ومن عموم الكتاب بدعوة صادقة صالحة بالمغفرة ،والقبول ،ومضاعفة الحسنات ،وتبديل السيئات ،وما ذلك على الله بعزيز. وقبل ذلك وبعده ،ستكون هذه السيرة المسطورة عبرة لبنيه وأحفاده الذين عاصروه ،وشاهدوه مثااًل منظو ًرا أمام أعينهم ،وستغدو تذكا ًرا للأحفاد وبقية أجيال العائلة ،حتى تبقي فيهم الآثار الحميدة ،والفعال الجميلة ،وترسخ المبادئ التي سار عليها كبيرهم الراحل ،وعسى أن تكون له أج ًرا عند ر ّب العالمين ،ولسان صدق في الآخرين. 10
حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة أشيقر وتاريخ حافل أشيقر بلدة تاريخية قديمة ،ذكرها علماء بلدانيون ،وشعراء ،ورحالة ،وغيرهم ،وتقطنها أسر عريقة من قبائل عدة مثل بني تميم ،وبني خالد ،وباهلة ،وسبيع ،وشمر ،وقحطان ،والسهول، إضافة إلى أسر تنتمي للخزرج ،و ُعرفت أشيقر بكثرة علمائها وقضاتها ،ومنها خرج جد الشيخ المجدد محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله -وع ّدها الشيخ عبد الله بن بسام -رحمه الله -في كتابه «علماء نجد خلال ستة قرون» المصدر العلمي الأول في نجد ،وترجم لكثي ٍر من علمائها وقضاتها ،ويشهد تاريخها بأنها كانت حاضرة علمية ،وسو ًقا تجارية ،ومقص ًدا لكثير من الناس. 11
حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة ومما يروى أن الشيخ محمد بن مانع الذي كان مدي ًرا للمعارف قبل إنشاء وزارة المعارف زار مدينة أشيقر ،وعندما ه ّم بمغادرتها تذكر ما مرت به من نهضة علمية فالتفت إلى بوابة السور وخاطبها قائاًًل :الله أكبر! كم خرج من هذه الدروازة من عالم! ،ويعني بذلك الكم الكثير من القضاة والعلماء والمعلمين والأدباء وطلبة العلم الذين خرجوا من أشيقر لنشر العلم أو للاستزادة في طلبه من البلدان الأخرى. بينما أشار الشيخ حمد الجاسر إلى العلم والعلماء فيها مبيناً أن مدينة أشيقر الواقعة في إقليم الوشم كانت في القرن العاشر من أبرز مدن نجد وأشهرها من حيث كثرة العلماء الذين تولوا مناصب القضاء في مختلف مدن وقرى نجد ،وتتكاثر مثل هذه الكلمات والتعابير في عبارات المؤرخين الذين كتبوا عن تاريخ نجد وبلدانها بعد القرن الهجري العاشر ،مما يؤكد على وجود تميز علمي في أشيقر. وكانت أشيقر قبل مئة عام تقريباً -وهو الزمن الذي ولد فيه الشيخ حمد -بلدة صغيرة من بلدان منطقة الوشم التي تقع في منطقة نجد الواسعة ،ويطلق على الوشم رحم نجد بمعنى أن كثيرا من القبائل هاجرت منها إلى مدن متفرقة ،ولما نشرت مجلة الفيصل في عددها لشهر صفر 1420ه الموافق مايو 1999م تحقيقا عن أشيقر وضعت عنوانه «أشيقر بلد العلماء والنخيل والأوقاف» وينتمي غالبية من يسكنها من الأسر إلى قبيلة بني تميم ،ويعتمد أهلها على الزراعة ،وتحدي ًدا زراعة القمح والنخيل ،إذ لم تكن تربية المواشي آنذاك ذات نفع وفير يفي بحاجات الناس ومتطلباتهم ،وفي هذه البيئة على الصفة التي ذكرنا جاء إلى الدنيا طفل أكمل مع من سبقه من أخوات وأخ منظومة البيت تحت جناح والديه. 12
حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة الميلاد والطفولة وذاكرة المكان في أشيقر هذه البلدة العبقة بالعلم ،المزدحمة بالمكارم ،وداخل منزل طيني صغير في حي «العقدة» أحد مكونات بلدة «أشيقر» في إقليم الوشم بالمملكة العربية السعودية ،أبصر حمد ابن عبدالرحمن الحصيني نور هذه الدنيا عام (1925=1345م)؛ فملأ بقدومه البيت بهجة وحبوراً ،وسعدت به أسرته التميمية العريقة ،التي كانت تنتظر مولودها كما لو كان الولد الأول ،مع أنه الأخير بعد ثلاث بنات ه ّن :هيلة ،وحصة ،وسارة ،وعقب أخ واحد أكبر منه بسنوات هو شقيقه عثمان ،ولا أصغر منه إاّل شقيقته نورة. لذلك فإن لمدينة أشيقر مكانة عميقة في نفس الشيخ حمد _ رحمه الله _ وكلما سنحت له الفرصة تردد عليها ،فيزور مكان نشأته وطفولته وصباه ،وبداية كفاحه في هذه الحياة، عسى أن يروي شي ًئا من حنينه لأرض استقبلته ولي ًدا ،ولمرابع قضى فيها طفولته بجوار والديه وأسرته ،وبين يدي مشايخها تعلّم وحفظ ،ولا ش ّك أن الحنين لمراتع الصبا ،والأماكن القديمة، دلي ٌل على الوفاء والأصالة؛ فليس المكان حي ًزا بلدانياً فقط ،بل هو بشر وذكريات وحياة كاملة، فيها حنين وحب ووفاء. 13
حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة وتبعاً لهذه المشاعر فقد اعتنى الشيخ حمد بالبيت -بيت الصعيدة -الذي ولد وعاش فيه هناك ،بعد أن تهدمت كثير من أجزائه ،فأعاد ترميمه ليحفظ ذكرى الماضي في الحاضر ولأجيال المستقبل ،وليتخذ منه بين الفينة والأخرى محطة استرواح واسترجاع للحياة القديمة بهدوئها ،وعبق الذكريات في جوارها ،وكي يبقى للأحفاد أثرا شاهدا على حياة الأجداد وما فيها من صعوبة لا تخطر لهم على بال ،ولعله يستنشق منها عبير أيام والديه ،ويسترجع فيها لذائذ عصر الطفولة على ما فيها من مصاعب ،وليس هذا فحسب؛ وإنما تولى بنفسه ترميم البيت على يديه بعد أن جلب المواد ،وتعلم طريقة أهل الخبرة. وفي تلك البلدة المنسجمة مع العلم والمعرفة ،الحاثة على طلبهما والجدية في ذلك ،درس الطفل الصغير على يد المطوع -والمطوع لفظ يطلق على معلم الناس آنذاك -وكان المطوع وقتها معلماً ومؤدباً ،موجهاً ومربياً ،والطلاب يل َّقنون العلم والأدب في تلك الباحات الصغيرة التي تجمعهم معاً ،والذي لا يحفظ يُعا َقب ويُؤ َّدب ويُضرب بالعصا ،ومن يُتقن يتلقى التشجيع ويُكافأ بإعلاء شأنه ،وهي طرق تعليمية وتأديبية أثمرت أجيالاً على قدر المسؤولية وأكبر. أما أول شيوخه الذين تلقى العلم عنهم فهما: • الشيخ عبدالعزيز بن محمد الفنتوخ رحمه الله. • الشيخ عثمان بن عبدالرحمن أباحسين رحمه الله. إذ حفظ عندهما سورتي البقرة وآل عمران إضافة إلى نصف القرآن الكريم في تلك الحلقات القرآنية ،عن طريق كتابة الآيات على الألواح ،ثم ترديدها على الشيخ الذي يستخدم الترغيب والترهيب ليضمن قوة الحفظ وبقاءه. 14
حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة 15
حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة واستمر الفتى يتلقى علوم القرآن ،حتى بلغ أربعة عشر عاماً ،لينتقل إلى الدراسة على يد الشيخ موسى إمام مسجد المفيلقية ،لمدة قصيرة ،مقارنة بما سبقها ،ويصف الشيخ حمد – رحمه الله – هذه المدة ،بأنها لم تكن دراسة حازمة ،فالطلاب يفرون من أستاذهم ،ولا ينتظمون كثيراً بين يديه ،ويبدو أن الفرار من المدرسة ،والهروب من ساحات العلم علّة قديمة تتجدد! كما حظي الشاب اليافع حمد برفقة طيبة في تلك المرحلة ،ومن هؤلاء الرفاق :الشيخ عثمان السبيعي ،والشيخ عبدالله العياف ،والشيخ محمد العياف ،والشيخ عبدالله السماعيل، والشيخ عبدالكريم اللهيب؛ رحم الله من توفي منهم ،وبارك في الأحياء ،وبعد أن أخذ حمد قس ًطا من العلم والحفظ ،قرر الفتى حمد أن يلتفت صوب المستقبل وهو لما يكمل الخامسة عشرة من عمره بع ُد آنذاك ،ولربما أن جرأته أثارت استغراب أقرانه ونظرائه حينذاك. 16
حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة الالتفات نحو المستقبل نظ ًرا لتدني مستوى المعيشة ،اضطر الناس إلى الكد والكدح وتحمل المشاق ليكسبوا قوتهم وما يعيشون به هم وعائلاتهم ،فالحاجة شبه عامة عند غالبية الأهالي ،مما دفعهم إلى امتهان الزراعة ،أو العمل مزارعين عند الآخرين بمقابل زهيد ،ولم تكن التجارة رائجة يومها إاّل في أمور يسيرة تقوم عليها أسس الحياة في تلك البلدة. يصف الشيخ شيئاً من حياة أشيقر الاقتصادية ،التي عاصرها في أول عمره فيقول :كنت أنا وأخي عثمان – رحمه الله – نذهب مع الوالد لطلب الرزق ،نتبعه في خطاه ،ونأتمر بأمره وننتهي بنهيه ،ونعينه في العمل ،كنت أساعد والدي وأخي عثمان في نقل الحطب على الجمال، وفي حمل الكلأ و الدواب لبيعها،حتى قررت تغيير وجهتي والعمل خارج أشيقر حينما بلغت الرابعة عشرة ،بحثاً عن مصدر رزق أكثر سخاء ووفرة ،وهذا الخبر يدلنا على مقدار العناء ومدى خشونة العيش، ويشير إلى طموحات مبكرة لدى الفتى ،ورغبة في تغيير الحال إلى الأحسن. ولأن لكل مجتهد نصيبا ،والمغامرة والتجربة من عناصر النجاح في هذه الحياة ،فقد حمل هذا الفتى الغ ّض آماله فوق كتفيه ،وقرر أن يخوض معركة الحياة والعمل من أجل الأمل ،وأوقدت معاناته شعلة الفتيلة الأولى ،فليس من المقبول عنده أن يستمر العناء ،أو يعيش بلا مصدر ثابت يضمن وجود أساسيات الحياة ومقوماتها ،وعزز هذا الأم َر لديه كفا ُح والده وشقيقه من أجل لقمة محدودة يحصل بها الكفاف دون الاكتفاء. والحقيقة أن هذه سمة عامة في ج ّل أهل التأثير والتغيير ،ذلك أنهم لا يركنون إلى الواقع ويرضون به ،ولا يقبلون تضييع العمر بالتذمر والتفجع ،وإنما ترمق أعينهم المستقبل مثل الصقر المحلّق في العلو كي يرى أبعد المسافات ،وتخطو أقدامهم نحو الفرص بسرعة الفهد وتركيزه ،فلا شيء يثنيه عن هدفه ،ولا شيء إليه يسبقه. 17
حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة رحلة العمل الأولى مضت سيارة ابن مرشد تش ّق الطريق من أشيقر إلى الرياض ،محملة بفتية سلاحهم الطموح والأمل ،ومع أن الطريق طويل ،والسفر أرهق هؤلاء المكافحين ،إاّل أن العزائم لم تضعف والهمم لم تك ّل ،ولم يغب الهدف عن خيالهم حتى وإن كانوا صغار العمر ،فهم يعرفون من البداية أن الحياة تستلزم التعب ،وأن التوفيق لبذل الجهد يحتاج إلى توفيق وهداية من الله لنيل المطالب وتحقيق الأماني ،وأصبحت هذه المسلّمات أكبر طاقة دافعة لهم نحو الإنجاز؛ وإن لم يحسنوا التعبير عنها آنذاك .وعبر عنها المتنبي بقوله: لولا المش َّق ُة سا َد النا ُس كلُّهم الجو ُد ُيف ِق ُر والإقدا ُم ق ّتا ُل استمرت الرحلة يومين طويلين شاقين ،مزدحمين بالأحداث والمواقف ،التي ُحفرت في عقول أولئك الفتية لرحلة عملهم الأولى ،فالطريق غير ممهد مما أفقدهم الراحة وهم ركوب على متن السيارة ،بل تعرضوا لاهتزازات مؤذية من وعثاء الطريق واصطدامهم بجوانب السيارة، واعتادت عيونهم على الظلمة الموحشة في الليالي الحالكات لغياب الضوء ،وكان المسير صعباً ،والوقوف أصعب ،فلم تكن السيارة ترتاح إاّل للتزود بالوقود ،وتناول الطعام ،الشحيح في الأصل. باختصار ،كانت الرحلة متعبة ،وتخلو تفاصيلها من التعقيدات لدرجة كبيرة؛ بحيث إن الانضمام إليها سهل عند من يملك العزيمة وثمن الركوب مع تحمل المشاق ،والصبر على برودة الأجواء ،أو لوافح الهجير ،وسوافي الغبار ،وقسوة الطريق ،وقلة الموارد ،وهذا كله لأجل هدف واحد ،هو بلوغ الرياض بحثاً عن العمل. 18
حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة فأصبحت هذه الرحلة بمثابة ميلاد ثا ٍن ،وبدايات لحياة جديدة ،وإن كانت مجهولة النهاية والمصير ،وبعد أن وصلت المجموعة إلى الرياض ،أبصر ركابها بصيصاً من نور هدفهم المنشود يلمع من بعيد ،ويوحي بأن القادم -بإذن الله -مبشر بالخير ...وبالحياة ...وبالتغيير للأحسن، ولأجل ذلك كان مخرجهم من بلدتهم ،ومفارقتهم لأهاليهم. إنهم فتية أخرجهم الفقر من أشيقر متجهين إلى الرياض ،وعندما وصلوا تشتتوا حسب معارفهم ،وبات الفتى حمد أياماً عند سليمان الخراشي باحثاً عن عمل مناسب لشاب يافع صغير السن ،ويبدأ بها مشوار كفاحه ،فيسر الله له الأمر ،وعمل في وظيفة مناسبة هي: عامل خدمة عند محمد القاضي وإخوانه ،إذ يجلب لهم بعض مشتريات المنزل ،ويقوم بتنفيذ بعض المطالب لمنازلهم ،بمرتب يسير جداً ،ومع ذلك فلم يستمر فيها أكثر من شهر ونصف تقريباً. 19
حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة كان من عادة الفتى القادم من أشيقر أن يخرج لشوارع الرياض حتى يعيش أجواءها ،ويتعرف على وجوه سكانها ،وقد تردد بين السوق والمنزل والمسجد ،فهو يعمل ويتعلم ويستكشف الحياة ويدرس البيئة المحيطة به ،ومما تعلمه مبكراً مسؤوليته التامة عن نفسه في غربته ووحدته، وكيفية الحصول على المال مقابل الجهد الذي يبذله ،وإن يوماً في الكفاح ومكابدة شؤون المعيشة ،والتعاطي مع كبد العمل وكدر الناس ،لأعظم أثراً على النفس من شهر أو شهور في بحبوحة الرخاء والكسل. ويبدو أن فحص الواقع ودراسة الأحوال خصيصة وجدت مبكرة لدى الشيخ ،إذ كان وهو فتى في الرياض يراقب كل شيء ،ويلاحظ الناس وماذا يفعلون وكيف يتصرفون! ويدرس أخلاقهم ومعادنهم التي تحكيها المواقف ،ويتأمل الغادين في السوق والرائحين منه ،المشتري منهم والبائع والمفاوض والمتفرج. ولن يُنسى أنه في تلك الحقبة شاهد رجل ًا يفترش الأرض ،ويبسط عليها مجموعة من قروش الفضة «النجيمات» ،وقد اتخذ موقعاً أمام دكاكين محمد القاضي وإخوته ،أي أنه كان يعمل في الصرافة ،وفيما بعد علم الفتى أن هذا الصيرفي هو الشيخ صالح الراجحي -رحمه الله- ،وكانت تلك أول تجارته. 20
حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة عاش الفتى حمد زمناً في الرياض عند أسرة القاضي ،وخلال هذه المدة واجهته الكثير من المواقف ،التي ساهمت في بنائه وصقل شخصيته وتكوين معالمها ،وكانت كنزاً مهنياً يقيس درجة تحمل الفرد وقدرته على التكيف مع كل جديد من أحوال وأمور ،فالإنسان في هذه الحياة يولد صافي الذهن بلا خبرة كما لو أنه صفحات كتاب خالية من أ ّي سطر ،فيتعلم ويخوض التجربة تلو التجربة ،وهذه التجارب هي التي تدون السطور في صفحات الحياة، ليصبح الكتاب في النهاية مجموع خبراته ومهاراته التي اكتسبها مما واجهه من مواقف وحوادث وشخصيات. وبعد مضي شهر ونصف فقط من مغادرة حمد لبلدته أشيقر وأسرته من أجل العمل في الرياض ،ل ّج عليه الحنين والشوق للوالدين وللحياة الدافئة في أشيقر ،فعاد الفتى حمد يحمل تجربة أولية انطبعت في أعماق نفسه ،وكسرت جزءاً من حاجز رهبة المغامرة ،فغدت تجربة أولى غنية بالمشاهدات ،ومليئة بمحاولة بناء التصورات عن واقع العمل في الرياض ،وعاد يحمل في جيبه كنزاً من تسعة ريالات فرانسية كما تسمى ،وهي أجرته إبان مغامرته التي كانت بداية طريق لم تتضح معالمه بعد ،وأما بين جنبيه فيختزن همة وطاقة للمستقبل ،بعد أن تفتحت آفاقه ،وتصور عقله المشهد. ولعله رجع كي يستجمع نشاطه وقواه لمغامرة أطول وأكثر ثراء في المحتوى والناتج ،فعاد لأشيقر حينما غلب عليه الشوق للعائلة وهدوء الحياة ،خاصة مع صغر عمره وقلة خبرته، وأصبحت عودته استراحة فارس مشتاق ،لم يعتد على فراق الأهل والأصحاب ،والانقطاع عن التزود من العلم والمعرفة. فاهتبل فرصة مكوثه بين أهله وفي مغاني صباه ،واغترف من الحنان الأسري ما يتزود به على المستقبل الآتي ،وثنى ركبتيه طالباً للعلم مرة أخرى ،يتلقى العلم ويدرسه على مشايخه ،ومع رفاقه كما كان يصنع قبل خروجه الأول للرياض ،فحفظ سورتي البقرة وآل عمران ،ونهل من العلم قدراً مناسباً ،ويالها من بركة حين يطوي المرء صدره على الزهراوين إضافة إلى نصف المصحف بداية من سورة الناس. 21
حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة رحلة العمل الثانية الحماسة والرغبة في خوض مزيد من تجارب الحياة ،كانا هما الحافز الأكبر في نفس حمد ابن الستة عشر عاماً ،فما إن فرغ من تحصيل قدر من العلم حتى بدأ تفكيره يتجه مرة ثانية صوب العمل ،فالبيئة المحدودة والحاجة الملحة ،دعته لمغادرة أشيقر كرة أخرى بحثاً عن فرصة جديدة؛ فعاد إلى الرياض سعياً في طلب رزق حلال طيب. والتقى في أحد أيام بحثه عن عمل بشخصية لها نفوذ وسلطة ،فبعد الانتهاء من الصلاة كان الشيخ حسن بن عمران ،وهو أحد عمال الملك عبدالعزيز – رحمه الله – خارجاً من المسجد ،فاتجه إليه حمد مصافحاً بحكم المعرفة السابقة بينهما ،وبعد تبادل الأحاديث سأله ابن عمران متعجباً من غيابه الفترة الماضية؛ فأخبره أنه رجع إلى بلدته أشيقر ليتم دراسته، فاقترح عليه ابن عمران العمل معه إن لم يكن مرتب ًطا بشغل آخر ،فوافق حمد على عرضه، وأصبح كات ًبا لديه ويدير شؤون الضيافة في مجلس ابن عمران. أثبت الشاب حمد بمرور الأيام جدارته في عمله بالج ّد والحرص على التفاصيل المهمة، والدقة والتفاني والالتزام ،وهذه العلامات من أسس نجاح الموظف أياً كان موقعه الوظيفي، ومهما كانت طبيعة المهمة المكلف به ،فمن يمنح عمله ك ّل ما تجود به نفسه ،يعطيه مقابل ذلك تقدماً وظيفياً وحسن سيرة وسمعة ،ومهما اختلف الزمن فإن لهذه العوامل أثرها الممتد على حياة الإنسان في سعيه فوق هذه الأرض. وفي أحد الأيام عزم ابن عمران على السفر إلى مكة المكرمة لأداء بعض المهام الموكلة إليه من قبل الملك عبدالعزيز ،واختار الشاب حمد لمرافقته في تلك الرحلة مع مجموعة أخرى من العاملين معه ،وكانت تلك هي زيارة حمد الأولى إلى مكة المكرمة ،ويا له من شعور مهيب تردد صداه في أرجاء نفسه ،ويا له من شوق ولهفة كانا يلازمانه لزيارة بيت الله الحرام وأداء مناسك العمرة. 22
حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة ركب الرفقة في سيارة حكومية ُسلمت لابن عمران لأداء هذه المهمة ،ولم تكن الطرق معبدة يومها ،كما أن الأجواء ليست مثالية حينها؛ فحرارة صحراء الجزيرة العربية جعلت من الرحلة أكثر طولاً وأعظم مشقة ،وأدرك كل منض ٍم إليها ما هم مقبلون عليه من صعاب قبل انطلاقها، وهو ما بات في حكم المؤكد بعد تحرك السيارة. فالوصول للهدف لا يتحقق إاّل بعد ثمانية أيام أو تسعة ،على حسب الجد والهمة في المسير، وهم في رحلة يقطعون فيها الصحراء الموحشة ليل ًا ونهاراً ،وإن تخللتها ذكريات عذبة في توزيع المهام وتنظيمها من قيادة ،وطبخ ،وإعداد الطعام ،ضمن منظومة تعاون على قطع الطريق المرهق ،وكان رفيق حمد وسميره في تلكم الرحلة صديقه العزيز عبدالله الفريح، وهي صحبة تخفف من لأواء الطريق ووعثاء السفر ،فضل ًا عن أن وجهتهم هي مكة مهوى الأفئدة وغاية المرام. 23
حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة مكة :عبادة وهوية وتجارة لما وصلوا إلى قرب مكة ،وفي قرية الشرايع بالتحديد ،وهي الآن ضاحية من ضواحي البلد الحرام ،أوقف بعض الحرس السيارة ،وطلبوا من ركابها تسليم الهوية الشخصية التي كانت تسمى حينذاك «التابعية» ،وفي الواقع لم يكن يملكها منهم إاّل اثنان ،وعليه رجعت السيارة بمن فيها للنقطة المرورية التي قبلها كي يحصلوا على أوراق ثبوتية. فعادت القافلة الصغيرة من الطريق نفسه ،وطلب الموظفون ممن لم تصدر له هوية شخصية النزول والدخول في مكان كبير عبارة عن حوش فيه غرفتان أو ثلاث غرف ،وحين خيم الليل عليهم ناموا في المكان ليلتها ،فلما استيقظوا في الصباح بدأ الموظفون بتنظيم الركاب للدخول على الأطباء في الغرفة الأخرى ،ودخل حمد على الطبيب فطلب منه فتح فمه لع ّد أسنانه وتخمين عمره ،وهذا هو الأسلوب المتبع حينها لمعرفة أعمار الأشخاص وإثباتها في الهوية الشخصية. وكان في الغرفة ثلاثة أطباء ،يمر عليهم الجميع فيقررون بعد المشاورة كم عمر كل واحد منهم؛ فقال أحدهم لحمد :عمرك أربعة عشر عاماً وأنت من مواليد عام 1345هـ؟ فلما جاء ليسجل عمره قال له :أنا أكبر من ذلك؟ أنا ولدت في عام 1343هـ ،وكان الفتى غاضباً حينها لأنه يرى أنه أكبر من ذلك ،فقال الطبيب :كيف عرفت ذلك؟ فأجابه :أخبرتني أمي وكذلك أبي! فضحك وقال :زيدوا في عمره ...يستاهل ...يستاهل. فسجل الطبيب أن حمد يبلغ من العمر ستة عشر عاماً ،وكان الناس يحرصون على زيادة أعمارهم في ذلك الزمن حتى يتسن لهم التوافق مع شروط الحكومة في التنقل والعمل بشكل أوسع داخل البلاد وخارجها ،ثم نُقلت المجموعة لشخص يلتقط صورة شخصية لكل واحد منهم ،ويسجل اسمه واسم والديه بالكامل ،ليضيفهما تحت الصورة مع تاريخ الميلاد المخ ّمن سلفاً ،ويتسلّم في نهاية الأمر كل واحد من أفراد السيارة هويته الشخصية الخاصة به 24
حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة ،ورجعت المجموعة بعد ذلك لسيارتهم التي خرجوا منها بالأمس كي يدخلوا إلى مكة المكرمة بهويات شخصية مثبتة عند الحكومة. وصل الشيخ إلى مكة المكرمة ،مهبط الوحي ومنبع الرسالة ،ودخلها مع مجموعة من الرفاق منهم عبدالمحسن المغيرة وعبدالله الفريح وابن مسلم برفقة ابن عمران ،ومشاعر الشوق والرغبة لزيارة بيت الله ورؤية الكعبة المشرفة تغمره ،فطاف بالكعبة هو وابن عمران وليس معهم شخص ثالث؛ بينما يزدحم حول الكعبة الآن خلق كثير من بقاع المعمورة كافة ،وكان يصلي في الحرم أربعة أئمة في ذلك الوقت ،ك ّل مجموعة من المصلين يتبعون إماماً حسب مذهبهم الفقهي ،والحمد لله أن ُجمع المصلون اليوم خلف إمام واحد. حرص الشاب على تحصيل رواتبه أولاً بأول مما أثار تعجب ابن عمران الذي نصحه بحفظها له ،وتسليمه إياها في الرياض ،بيد أنه رفض ،وقرر وهو في مكة شراء بضائع ليبيعها في الرياض ،وهي مغامرة كبيرة من شاب صغير ،لكن الشغف والجرأة وحب التجارة بذرة تنمو في نفس الفتى المقبل على مرحلة الشباب بعزم وقوة ،ويبدو أن حمد أغرم بعمليات البيع والشراء حسب قدرته وتوافر المال معه بعد أن لاحظها في الرياض ،وتتابعت صورها أمام ناظريه حول البيت الحرام. وكان التجار حينها يعمدون إلى شراء السلع الرئيسية من أرز وسكر وقهوة ونحوها من سوق الجودرية ،وهو واحد من أقدم أسواق مكة التجارية المركزية وأشهرها ،ويع ُّج بالناس من التجار والزوار والحجاج والمعتمرين ،ويمتاز تجاره بأخلاقيات رفيعة في التعامل تعكس الصورة المُش ّرفة للتاجر المسلم ،فهو مكان نابض بالحياة ،شاهد على الخلق الرفيع. وفي ذلك الزمن وإن كان المسعى في الأصل للتعبد وإتمام مناسك الحج والعمرة إاّل أنه يموج بالحركة التجارية والمصرفية ،وتقع المباني السكنية والمحلات التجارية على جانبي مسار المسعى ومحيط الحرم ،ومن المظاهر العجيبة فيه أن السيارات كبيرها وصغيرها تعبر المسعى ذهاباً وإياباً ما بين سوق ال َق َشا ِش َّية والسوق الصغير! وهذه المظاهر جميعها اختفت بعد مشروعات التوسعة الحكومية الضخمة. 25
حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة أما حمد فبعد أن دخل السو َق ،وراقب -جر ًيا على عادته في دراسة الأوضاع -حرك َة البيع والتجارة ،فكر فيم يبدأ تجارته؟ وما هي قدرته على المنافسة؟ فخطر بذهنه شراء ما لم يكن يشتريه أحد وقتها بشكل ملحوظ ،وما لا يتوافر في أسواق الرياض بكثرة ،ويفوت كثير من التجار التركيز على شرائه ،فاقتنى الطواقي والنظارات والعطور ،آمل ًا أن يوفق في بيعها خاصة وغيره منشغل ببضائع أخرى. نعم هي مغامرة جريئة ،وآمال عريضة ،وتوقعات تجارية فطرية دعته للشراء بكامل المبلغ الذي يمتلكه وقدره ألفا ريال ،لكنها فرصة قد يكون من بعدها فأل خير بفضل الله ورزقه الوفير ،حتى لو تأخر ذلك قليل ًا لأنه لا نهوض في عالم الطموح دون سقوط وعثار. في ذلك اليوم ،دون الشيخ في سجل خبراته أول صفقة تجارية عقدها وهو في شبابه المبكر، وتميزت بالتحدي والمخاطرة ،ففيها الكثير من المجازفة المقرونة بحسن الظن بالله والسعي إلى تيسيره وتوفيقه ،فالتاجر مفطور على الخوض في معترك سوق البيع والشراء ،وعليه أن يتحلى بروح الإقدام ،حتى إذا لم تكن النهايات أمامه واضحة ،خاصة في تلك الأزمان التي لم تعتمد على دراسة جدوى المشاريع ،فمن يرغب بالتجارة فعليه أن يُق ِدم ويتقدم ،فينجح ويكسب ،أو يخسر فيتعلم كيف يقود دفة النجاحات صاعداً إلى العلياء بنفسه. لقد كانت تلك الصفقة المكية خطوة مباركة ،حتى من قبل أن تتضح نتائجها؛ لأنها أصبحت الشرارة الأولى التي أوقدت في قلب ذلك الشاب العزيمة على المضي في دروب التجارة والعمل دون تردد ،فما الذي حصل حينها؟ وكيف غدت صفقته الأولى تلك بداية لنجاحات متتالية؟ كيف مرت الأيام والأشهر بعد ذلك؟ هل كانت تجارة بعد تجارة؟ أم قطعتها تقلبات الحياة المفاجئة؟ هذا ما سوف تجليه الصفحات القادمة. 26
حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة أول البشائر :فرشة على الأرض! تحتاج كل مغامرة في بدايتها إلى شجاعة فائقة ،فالخطوة الأولى دائما تكون مصحوبة بالحذر ،ولكن وجود الرغبة والحماسة يضمنان الاستمرار في الخطوة تلو الأخرى ،ليصل صاحبها إلى النجاح بعون من الله وتأييد ،فخطوة مع أخرى تكملان خطاً طويل ًا من الطريق نحو العلياء وتحقيق الأماني. هذه المفاهيم كانت تتناقلها الأجيال واقعاً يقضون به أيامهم ،وخطوات ضمن معاركهم في هذه الحياة ،دافعهم الأكبر هو البحث عن الاستقرار ومصدر الدخل الذي تعيش به الأسرة ،لذلك كانت لك ٍ ّل قصته في الوصول إلى نجاحه الخاص ،ولك ٍ ّل فرصته التي يحاول أن تكون الأكثر ربحاً في تلك المعركة الحياتية الواجبة. فقد تحتاج إلى مرشد يعينك ويوضح لك معالم الطريق ويخبرك بمدى صواب ما تفعله ،ولكن ماذا لو كنت لا تجد هذا المرشد ،ولا تعرف كيف تصل إليه ،فحتماً ستبدأ بالتجربة لتكون أنت مرشد نفسك ،وتصبح الأيام والحوادث والمواقف هي من يعلمك ويرشدك ،وستخط الطريق منفرداً وتكون الطالب والمعلم في الوقت ذاته. وهذا هو ما كان يدور في ذهن الشاب حمد خلال طريق عودته إلى الرياض برفقة ابن عمران وصحبه ،فكان طريقاً طويل ًا مليئاً بأحلام عريضة ،وأمنيات واسعة ،مع كثير من الرجاء والدعاء لله بأن يفتح باب الرزق والخيرات ،وأن ييسر أمر تصريف البضاعة التي معه فتباع بربح لا خسارة فيه. لقد فطرت تلك القلوب على الإيمان بأن الله هو الميسر والموفق والرزاق الكريم ،لكن النجاح ليس هبة أو موهبة ،والسماء لم تكن لتمطر ذهباً ،فمنذ بدأت الخليقة والناس يسعون بحثاً عن الرزق ،مؤمنين بأنهم لن يأخذوا إاّل ما كتبه الله لهم ،ولكن بعد السعي والجد والكد للوصول للهدف. 27
حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة فبعد أيام من عودة الشاب حمد إلى الرياض اتجه إلى سوق قيصرية آل س ّيار (يقع وسط أسواق الديرة بالقرب من الصفاة) وبدأ بالبيع ،ففرش بساطه ،ووضع بضاعته المتنوعة على الأرض ،ووقف بجانبها ينتظر رواداً ،ويبحث في أعين الساعين ع ّل واحداً منهم يلتفت إلى بساطه الصغير الذي تتناثر عليه مجموعة من الطواقي والعطور والنظارات وأدوات العطارة، وأشياء أخرى من الكماليات اليسيرة ،التي لم تكن رائجة في الرياض أو حتى معروفة آنذاك، ولم تكن مح ّل اهتمام التجار القادمين من مكة ،لأنهم منشغلون ببيع السكر والأرز والهيل والبن؛ ونحو ذلك مما يشيع التنافس فيه بين تجار ذلك الزمان. وبدأ أهل الرياض بالتوافد على السوق ،والبحث عن قوافل العائدين من مكة وما يحملونه من البضائع؛ فموعد قدومهم يترقبه الناس ويحسبون له العدة ،ويقصدونه للتزود باحتياجاتهم واقتناء الجديد من البضائع التي وصلت من بلدان بعيدة عبر مكة ،فمكة مقصد الحجاج والمعتمرين والتجار ،وسوقها كان ولايزال الأكثر ريادة ومنافسة وتنوعاً على مر الأزمان. مر صباح يتبعه صباح ويوم يعقبه آخر ،وحمد واقف أمام بساطه ير ّوج لبضاعته ،التي أخذت تلفت نظر العابرين من رواد السوق ،فما بين واقف يتفحصها إلى سائل عن سعرها ،ومن مستحسن لها إلى مشت ٍر أعجبته بعض القطع فاقتناها ،وربما اشترك غالبهم في العجب منها واستطرافها ،ومع تعاقب الأيام وتتابعها ازداد البيع وإقبال الناس حتى انتهى نصفها؛ ليشتعل في نفس التاجر الجديد المزيد من الحماسة مع ظهور بوادر الربح الأولى التي تضاعفت إلى .%100 28
حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة إنها بشائر الخير التي تبهج القلب وتسعد الروح ،ففتح الله عليه في تلك المحاولة وبيعت ك ّل البضائع المعروضة بفضل الله ومنته ،لتكون صفقته الأولى في عالم التجارة الشاسع رابحة مبشرة بخير عميم ،وصنعت لديه شعو ًرا يحتاجه كي يصبر على شدائد هذا المجال ويتحمل مغامراته ،ويسعى فيه سعياً حثيثاً حتى يصل إلى هدفه وطموحاته. إن هذا الظفر بالربح والنجاح في الصفقة الأولى فاق تخ ّيل الشاب ،الذي اتخذ قراره منفرداً دون مساعدة من أحد بأن يدخل في عالم ال ّتجارة ،دافعه إلى ذلك حبه للبيع والشراء ،فكانت الصفقة الناجحة سبباً للتفكير والتخطيط لمستقبله التجاري ،طالباً من الله التوفيق فيه، وآمل ًا بغ ٍد مشرق من خلال البيع والشراء بنفس الطريقة التي بدأ بها. ولكن الحياة لا تأتي دائما بما نشتهيه ،ولا تمضي وفق تصوراتنا المرسومة في أذهاننا ،فهي تقدم الكثير من الخيارات المحيرة أحياناً ،وعليك أنت أن تختار أنسبها لك لصقل خبراتك وإنضاج تجاربك؛ من أجل تحقيق حلمك وأهدافك ،وما تريده بما يتوافق مع أحوالك وقدراتك، والموفق من عزم على الرشد بعد الاستشارة والاستخارة. 29
حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة رحلة مثيرة لا تنسى! استمر الشاب حمد على ما كان عليه في العمل مع ابن عمران الذي ُكلف مرة أخرى من قبل الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه -بالسفر إلى وادي الدواسر لتفقد أحوالها ،وإعانة فقرائها، والبحث في شؤونهم خلال شهر رمضان المبارك ،ورصد الملك لإعانة فقراء وادي الدواسر والمحتاجين فيها مبلغاً كبيراً من المال في حدود عشرة آلاف ريال .فاختار ابن عمران الشاب حمد ضمن فريقه ،وهذه هي تجربة السفر الثانية مع العمل في حياة حمد ،بعد سفره لمكة قبل عام. فانطلقت السيارة من نوع «لوري» إلى هناك ،وهي تُق ّل على ظهرها مجموعة من الرجال برفقة حسن بن عمران ،ومعهم حمد الذي كانت وظيفته منحصرة في تسجيل كشوف المستفيدين من العوائل ،ممن تتم زيارتهم وتقديم الدعم والمساعدة لهم حسبما أمر الملك وتوجيهه. لما وصلت تلك المجموعة بعد رحلة شاقة ،واستقر الحال بهم في مدينة وادي الدواسر ،بدأت جولاتهم بزيارة المساجد والالتقاء بأئمتها والتعرف عليهم وعلى أصحاب البيوت المحتاجة، ممن كانوا يأتون إلى المسجد طلباً للمعونة بين آونة وأخرى ،وكان الإمام في ذلك الزمن يجمع من خلال معرفته بأهل الحي الذي يقطنه المال والغذاء والكساء ،ث ّم يوزعه على الفقراء. بعد حصر الأسماء تسجل المبالغ الموزعة على المستفيدين منهم في كشوف ورقية لضبط العدد وعدم التكرار ،وضمان وصول المساعدة لكل محتاج ،وهذا هو صلب وظيفة الشاب حمد ،إذ كان يدون أسماءهم ومقدار المعونات المقدمة لهم من مال وأرزاق وأغذية وأكسية ،في زمن كانت العملة المستخدمة فيه هي «الريال الفرانسي» ،ث ّم يجمع العدد والتكلفة الإجمالية لمعرفة الاحتياج بشكل دقيق ،وحتى يستطيع ابن عمران توصيل أحوال المنطقة للملك عبدالعزيز ومعاونيه بدقة ووضوح ،وربما يستفاد منها في الاستعداد لزيارات مستقبلية أخرى. 30
حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة انتهز ابن عمران فرصة وجوده في الوادي ،وصحب معه مجموعة من الراغبين في العمل تحت إمرته ،بعد الاتفاق معهم على مقابل معين نظير أعمالهم التي سيلتحقون بها .وكان مما لفت نظر حمد وجود مجموعة كبيرة من الأخشاب الكبيرة المساعدة في البناء التي تســــــمى باللهجة المحلية «السواكيف» ،وهي أعمدة خشبية متينة مما يصعب توافرها في الرياض وما حولها من القرى ،فالناس يستخدمون الخشب في عمارة المنازل وبنائها ،لذا فإنها توجد بكميات كبيرة في الوادي ،فحمل ابن عمران معه منها ما يقارب عشرين عمودا ،ووضعها في السيارة التي قدم بها .ويبدو أن هذه الملاحظة من قبل حمد قد زادت من حاسة التيقظ للفرص واستثمارها؛ حتى أصبحت سمة راسخة في عقل الشاب التجاري. ولع ّل انتهاز «ابن عمران» الفرصة لاصطحاب مجموعة من الموظفين معه كانت نتيجة لمعرفته العميقة بأنه لا يخرج من وادي الدواسر للعمل في الرياض إاّل قليل من الأفراد ،وذلك لأن التواصل بين المنطقتين مرتهن بقدوم سيارة محملة بما يحتاجه الأهالي الذين يقطنون الوادي آنذاك من المصروفات الموجهة من الملك عبدالعزيز رحمه الله شخصياً. ولكن خلال العودة إلى الرياض ،طال عليهم طريق الرجوع ،وزاد الأمر صعوبة وحرجاً العطل الذي لحق بالسيارة التي تق ّل ابن عمران ومن معه بعد أداء مهمتهم ،وهو عطل سيجعلهم عرضة للبقاء في صحراء موحشة غير مطروقة ،وأماكن ليست سالكة للمسافرين ،ولذا حفظت حادثة تعطل السيارة الكثير من المواقف والعبر والذكريات العص ّية على النسيان. حين تعطلت السيارة أول مرة استُبدل الإطار التالف بآخر جيد ،وسارت سيارتهم الثقيلة مدة من الزمن على طرق صحراوية غير ممهدة ث ّم أصابها العطل من جديد وقد ح ّل المساء الدامس ،وأظلمت القفار ،وأُجهد القوم من المسير في الصحراء ،ولم يكن أمامهم من خيار إاّل الاستجابة لدواعي النوم والراحة ،حتى يكملوا البحث عن سبيل للخلاص في صباح اليوم الذي يليه ،فباتوا على قلق من جهة ،وأمل بالفرج من جهة أخرى. 31
حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة وكان مما يزيد في واقعهم حرجاً ومشقة أن يوم الغد هو أول يو ٍم من أيام شهر رمضان المبارك، مما يعني الحاجة لإعداد وجبتين للسحور والفطور ،مع الاضطرار لاستخدام كميات من الماء، ولكن الأوضاع لا تسمح بالسعة في تناول الطعام والشراب مع عدد الرجال الكبير ج ًدا ،فأصر ابن عمران على الجميع أن يصوموا ،وأاّل يترخص أحد منهم بالفطر حفاظاً على مخزون الغذاء والشراب ،وهذا من حكمته وإدارته الموقفية للحدث. و ُق ّدم لأعضاء الرحلة التمر المعجون بالطحين والماء بما يشبه العصيد على مائدة السحور والإفطار من اليوم الذي يليه ،لكون التمر من الأغذية التي تمد الجسم بالطاقة لمدة طويلة، ولأنه لا يوجد في حقيقة الأمر بديل يكفي حاجة القوم سواه ،فهو طعامهم الوحيد الذي يبقيهم على قيد الحياة ،ويمنحهم الطاقة. مر اليوم الثاني صعباً على الجميع ،فالعدد كبير ومخزون الطعام قليل ،والماء يتناقص، والصحراء مقفرة لا تبشر بقادم ينقذهم ،فقرر خمسة من الرجال بعد مشاورات مع ابن عمران أن يغادروا المجموعة ،بح ًثا عن أ ّي قرية يظنون أنها قريبة منهم لإنقاذ أنفسهم من موت محقق ،وإنقاذ البقية لو كتب لهم الوصول إلى أرض بها حياة أو قوم عندهم مدد يسعفون به المجموعة المنقطعة في الصحراء. إنه لأمر صعب أن تنتظر الموت وأنت ترى ك ّل دلائله تحوم حولك ،بل من الصعب أن ترى طاقتك وهي تذوي دون أن تحاول استثمارها لتزيد من أيامك في هذه الحياة ،لم يكن قرار محاولة الوصول إلى أقرب مساعدة بقطع الصحراء المقفرة على الأقدام وبقليل من الماء أمراً سهل ًا ،لكن الأصعب منه هو انتظار موت محقق يزحف إلى جمع من الناس لا حيلة لهم ولا قوة حتى يتخطفهم واحداً تلو الآخر. 32
حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة أعطى ابن عمران الرجال الخمسة صلاحية مفتوحة في الحصول على أ ّي سيارة أو دابة تأتي لإنقاذ الجميع مهما كان المقابل المادي ،بل حتى لو أجبروا مالكها على البيع ،كما أعطاهم الصلاحية في أخذ أ ّي سيارة يجدونها غصباً لو رفض صاحبها التعاون معهم ،وجعل هذا القرار تحت مسؤوليته ،فقد كانت حياته وحياة رفاقه هي هاجسه الأول ،خاصة بعد أن لاحظ الضعف الذي سرى بينهم ،وشرع يغتال النفوس قبل الأجسام ،وفي النهاية ستعود السيارة لصاحبها بعد إنقاذ الرفقة المنقطعين. ثلاثة أيام كاملة ،مرت ثقيلة بلياليها دون أن يتناول الرجال أ ّي طعام فلو أكلوا لطلبوا شرب الماء، والماء قد نفد!! فما الحل؟ لم يكن هناك من طريقة سوى الانتظار ببطون خاوية ،وأفواه جافة، ونفوس ليس لها بعد رجاء الله إاّل أن تنتظر الموت ،وفي تلك المواقف يعظم الرجاء والأمل في الله ،ويوقن المرء أن لا ملجأ له إاّل ربه الذي خلقه ،ويالها من حال تزيد في الضراعة ،والإيمان، والرجاء. ولما اشتد الأمر عليهم ،وبلغت القلوب الحناجر ،وقف رجل منهم بجانب السيارة ،متكئاً على مقدمتها يكتب على قطعة ورقية بالية ،وقد غشاه الهم وأبانت ملامحه عن حزن عميق؛ فأقبل حمد باتجاه ذلك الرجل مع مجموعة من رفاقه يستفسرون عن الأمر الذي يفعله؛ فكان جوابه المروع بأنه يكتب وصيته؛ ففراق الدنيا أصبح أمام عيونهم ،والموت يقترب منهم روي ًدا روي ًدا! نعم لقد وصل الحال بهم إلى هذا الح ّد ،وكل منهم بدأ يعبر بطريقته الخاصة عن لحظاته التي يظن أنها الأخيرة قبل مفارقة الحياة ووداع الدنيا ،ويالها من مشاعر كئيبة حينما ينتظر المرء الموت وهو منقطع في الصحراء ،ولا شيء يلوح في الأفق لانتشالهم من هذا الرحيل الحزين البعيد عن الأهل والخلان. على الجانب الآخر ،كان الرجال الخمسة الذين انطلقوا لطلب المساعدة في أحوال صعبة أيضاً ،حيث عجز اثنان منهم عن إكمال المسير! فتوقفوا في الصحراء الخالية بعد أن كلّت عزائمهم ،وتلاشت طاقتهم ،واستسلموا لتقبل أقدارهم ،وأكمل الثلاثة الباقون المسير على أمل أن تزيد أيامهم في هذه الحياة؛ كي يحفظوا حياتهم وحياة رفقتهم المنتظرة. 33
حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة سار الرجال الثلاثة على الطريق الذي يظنون أنه موصل لأقرب تجمع من الناس ،ومن فضل الله عليهم أن وجدوا بعيراً استأجروه من صاحبه ،فساروا بالتناوب في الركوب عليه حتى وصلوا إلى بلدة الأفلاج ،فانتعشت أرواحهم وغمرهم أمل عظيم بأن يصلوا إلى ابن عمران ومن معه بالمساعدة قبل فوات الأوان ،لذا طلبوا الغوث العاجل بإرسال برقية إلى الرياض لطلب المساعدة ،والعون المباشر ،ث ّم قفلوا مسرعين إلى السيارة المتعطلة في عرض الصحراء. وعندما جاء مغرب اليوم الرابع دون منقذ أو عابر ،شارف الرجال المنتظرون على الهلاك، وأخذت الأفكار المتشائمة تراودهم ،بيد أنهم أبصروا نوراً قادماً من بعيد ،يجري نحوهم فيتخبط يمنة ويسرة في عرض الصحراء ،ويبحث بغير هدى عن القافلة الضائعة ،ولم يكن مصدر الضوء بالنسبة لابن عمران ومن معه معروفاً ،فهوية السيارة القادمة لا تدل على شيء معين ،لكنها كانت بالنسبة لهم أياً كان من فيها البشارة بالحياة بعد الموت ،والنجاة بعد الهلاك ،وكأنهم ولدوا من جديد ،وكأ ّن بصيص النور الذي أقبل عليهم هي الحياة التي كاد أن ينطفئ نورها بعد تلك الأيام العصيبة التي مرت بهم. وتبين أن السيارة القادمة تقصدهم بذاتهم ،وعلى متنها ثلاثة من أصحابهم الخمسة ،وقد جاءت محملة ببراميل من الماء وبالكثير من الطعام واللحم والكساء ،فم ّن الله عليهم بالنجاة من موت أكيد ،وغدت تلك الرحلة واحدة من القصص التي لا تُمحى من الذاكرة أبداً مهما تطاول عليها الزمان ،أو زاحمتها الأحداث. بعد أن روي القوم من عطش ،وشبعوا من جوع ،وأمنوا من خوف الهلاك ،انتعشت أرواحهم، والتقطوا أنفاسهم ،وناموا ليلتهم تلك وقد قرت أعينهم بنجاة أرواحهم ،ث ّم انطلقوا عائدين بعد أن أصلحوا الخلل الذي كان في سيارتهم الأولى ،وذهبوا إلى الرجلين الذين كانا قد عجزا عن إكمال المسير لينقذوهما ،فأدركوهما قبل أن يموتا بفضل من الله وحده ،ورجع رفاق الرحلة كلهم لم تتخرم المنون أحداً منهم بعد أن تربصت بهم ،وطافت حولهم. 34
حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة غدت رحلة العودة هذه؛ من أصعب الأيام التي مرت على صاحب الترجمة ،الذي خاض كثيراً من التجارب ،بيد أنها لم تكن مثل هذه التجربة العصيبة في أدق تفاصيلها ،فوضعت هذه الحادثة لبنة في شخصيته الاجتماعية ،خاصة أنها كانت في مرحلة التكوين والإعداد ،فمثل هذه الوقائع المبكرة تزرع في روع أفرادها اليقين من ناحية ،وقوة الشكيمة والجسارة من ناحية أخرى. كما أن المهام التي تقلدها في مسيرة عمله ،و ُكلف بها في رحلة وادي الدواسر أ ّثرت كثيراً على شخصيته ،وأكسبته القدرة على تحمل المسؤولية ،وصقلت بداخله صفات الجدية في العمل، والتفاني للوصول لأفضل النتائج مع صغر سنه وحداثة عهده بالعمل والسفر والغربة. فخلطته مع ابن عمران ورفاقه منحته كثيراً من الخبرات بشكل مباشر أو غير مباشر ،كما أن تلك الرحلات بمسافاتها الطويلة وصعابها وتجاربها أضافت إلى رصيد خبراته الكثير من المعرفة ،فالسفر يسفر عن أخلاق الرجال وطبائعهم ،ويكشف حقيقة معادنهم ،ويربيهم على تحمل المشاق والقدرة على التكيف مهما صعبت وقائعها ،ومن الفوائد الأخـــــرى لهذه الرحلة أن أوقفته أمام الفقر المدقع ،والحاجات الملحة ،التي رآها في الآخرين ،ولربما أنها ألقت في قلبه الرحمة بالفقراء والمعوزين. ومع أن مدة عمله كانت قصيرة ،والمهام التي كلف بها يسيرة ،إاّل أ ّن ثمارها كانت بارزة الوضوح، حتى إنها أ ّهلته للانتقال والعمل في وظيفة أخرى ،بتزكية ممن تفرسوا فيه النجابة ،وعرفوا جديته ومثابرته ورغبته في تقديم الأداء الأكمل ،وفوق ذلك وجدوا منه التعاون و ُحسن العشرة والرفقة. 35
حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة مرحباً بالتجارب الجديدة بعد أن عاد الشاب حمد ،من وادي الدواسر ،مختزناً تلك التجربة الثرية ،حانت الفرصة لانتقاله إلى عمل آخر ،بعد تزكية الشيخ عبدالله بن إبراهيم الفريح له للعمل عند حمد بن قباع وإشادته بجودة أدائه لمهامه الموكلة له ،والتزامه وحرصه على العمل ،فهو شاب لديه الحماسة والقدرة على العمل؛ ويتطلع دائماً لعمل أفضل ،وعطاء أجزل ،وخبرة أكثر تزيد من كفاءة إنجازه. وكان يصرف ما يحصل عليه من راتب زهيد مقابل عمله على أسرته في أشيقر ،ثم يعود للعمل متطل ًعا نحو فرصة أنسب ،فممارسة التجارة ما زالت تجربة وليدة بالنسبة له ،ولم تنضج بعد في ذلكم الوقت ،وهي تجربة وحيدة لا تكفي لاتخاذ القرار بالسير في هذا الطريق المحفوف بالاحتمالات كافة ،وكان يحتاج إلى مزيد من العزم ،وربما الاستعداد بطريقة أكبر، مادياً ومعنوياً. كانت سمعة حمد الجيدة في عمله مع ابن عمران طريقاً لتزكيته للعمل عند «استاد» ومهندس البناء والتعمير حمد بن قباع ،الذي كان وكيل ًا للملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه -ومشرفاً على بناء القصور الملكية ،فضل ًا عن مسؤوليته عن تخطيط الرياض وتثمين أراضيها ومزارعها، وهو من أشهر الرجال المؤثرين في الآخرين ،ومن الموهوبين في الفلاحة والبناء ،إلى جانب ما يتمتع به من الصدق في القول والإخلاص في العمل ،والأمانة وتح ّمل المسؤولية ،مما أهله لنيل ثقة الملك عبدالعزيز. فكلف الملك ابن قباع أول الأمر ببناء قصر الغراوية ،إضافة إلى تكليفه ببناء قصر المربع التاريخي ،الذي يمثل إنجازاً حضارياً عظيماً ،لما له من رمزية تاريخية جعلت مكانته باقية حتى وقتنا الحاضر ،وهو القصر الذي اتخذه الملك ديواناً له ومقراً لعمله ،وأصدر داخله مجموعة من القرارات التي ساهمت في بناء المملكة العربية السعودية الحديثة. 36
حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة كما أنه أشرف على بناء قصر الخديمي ،وقصر العود ،وقصور الناصرية ،وقصور الفوطة، ومجموعة كبيرة من قصور الأمراء ،وبعدها كلف بتخطيط الرياض وتثمين أراضيها وتوزيعها على المواطنين ،تحت إشراف وتوجيه من الملك عبدالعزيز _رحمه الله _ بنفسه ،كما أوكل إليه تثمين المزارع والنخيل وحسم المنازعات في النخيل والمسايل ،والخلاصة أن إسهاماته في البناء والتعمير كثيرة تشهد حتى الآن على ف ّن البناء ،وروعته ،وجودة التنفيذ ،وفق المقاييس المعمارية السائدة آنذاك ،فضل ًا عن أنه يُع ُّد واحداً من أشهر الأطباء الشعبيين في تجبير الكسور. لذلك انتقل الشاب حمد للعمل مع ابن قباع تحت مسمى «كاتب» ،وتنحصر وظيفته في تدوين الحضور والغياب يومياً للعاملين في بناء القصور الملكية وستة قصور للأمراء ،فمن يحضر توضع إشارة عند اسمه ،ومن لا يحضر يلغى اسمه بوضع خط عرضي عليه ،دلالة على غيابه فيخصم من راتبه ،ولاشك أن هذه المهمة أثرت في شخصية الشاب من جانبين هما ضرورة الانضباط ،ووجوب معاملة الجميع بالعدل. وكان من رفقاء تلك المرحلة صديقه عبدالله الفريح ،الذي عمل في نفس المقر ،إاّل أنه كان موظفاً في المستودع الخاص بمواد البناء ،وبالطبع ارتفع راتب حمد ليحصل على خمسة عشر ريالاً في الشهر ،مقارنة بالمبلغ الزهيد الذي كان يتقاضاه عند ابن عمران ،والخمسة عشر ريالاً كانت مبلغاً مالياً كبيراً ومجزياً في ذلك الزمن. فأصبحت تلك التجربة امتداداً لتجارب تميزت بالكفاح في حياة حمد ،وواصل الاستمرار على سابق عهده بالعمل صباحاً والدراسة مساء في المدرسة القريبة من مكان عمله ،التي تقع بين قصر المربع وقصر الفوطة ،ويديرها الأستاذ الفاضل صالح الرزيزاء ،فعمل حمد هنا ودرس هناك في الوقت ذاته ،واستمر الحال على ذلك حتى أتم حمد دراسة المرحلة المتوسطة. 37
حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة الخطوة الجريئة نحو الشغف! نال الشاب حمد خبرة كبيرة بعمله مع ابن قباع ،وأثبت جدارته واكتسب مزيداً من السمعة الحسنة ،لكنه لم يستطع الصبر على العمل أكثر ،فقد أشرب قلبه بحب التجارة ،لذا قرر أن يعود إلى البيع والشراء من جديد ،وعزم على الذهاب لمكة المكرمة لجلب البضائع بعد أن افتتح دكاناً صغيراً استأجره في قيصرية آل سيار ليعرض فيه ما سيحضره من بضائع وكماليات، فعاود الرحلة الشاقة إلى مكة المكرمة مرة أخرى ،مخترقاً الصحاري ومجتازاً الصعاب ،بهمة أكثر عزماً ومضياً. واستخدم حمد المال الذي كان حصيلة عمله مع ابن عمران وابن قباع في توسيع تجارته الجديدة ،التي بدأت بمجموعة من الكماليات ،وفي ذلك الوقت لم يكن حمد يسير وفق خطة معينة ،كما أنه لم يدرس جدوى مشروعه التجاري تحت الإنشاء حينها ،وكانت هذه التجارب اليسيرة في مظهرها العميقة في جوهرها تصنع شخصيته ،والممارسة العملية في السوق تكسبه الخبرة والمهارة ،فالتجربة الأولى علمته دروساً ادخرها للتجربة الثانية ،وتعلّم من التجربة الثانية ما يعتقد أنه سيستفيد منه لاحقاً ،عندما تتسع تجارته ويغوص في بحر التجارة العميق. عقد التاجر الجديد صفقة تتبعها صفقة ،واشترى بضاعة تعقبها أخرى ،ونال ربحاً يلحقه ربح ،وهكذا قضى الشاب الهميم زمناً متوسعاً وممتداً ،تتقد بين جنبيه روح الإقدام والمخاطرة، بقلب شاب وخبرة رجل قلبته الحياة بين أشطرها ،وأشربته من خبراتها ،حتى استطاع بناء علاقات متينة ومتشعبة مع تجار مكة المكرمة ،واشترى سيارة «ونيت» ،ينقل عليها البضائع في رحلاته المتكررة. ذات مرة ،وصل حمد إلى مكة المكرمة ،ومعه مبلغ كبير من المال ،فاشترى به أنواعاً مختلفة من العطر والطيب وبعض مستلزمات العطارة ،وأشياء مما يقبل عليه الناس كالطواقي والنظارات التي بدأ تجارته بها ولكن بكميات كبيرة جداً هذه المرة ،وبعد أن حمل على سيارته جميع ما 38
حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة اشتراه كي يسافر به للرياض ،أوقفه في السوق ثمانية رجال وطلبوا منه توصيلهم لمكان يبعد عن مكة مسافة غير قصيرة! في مثل هذه المواقف يلزم الإنسان الحذر الشديد ،إذ إنه ليس من السهل أبداً أن تصطحب ثمانية رجال معك ،وأنت لا تعرفهم وهم عنك غرباء ،فذلك أمر يحتاج إلى قرار مدروس، فدارت كثير من الأفكار في رأس الشاب التاجر ،الذي يقف في نهاية السوق وأمامه مجموعة من الغرباء يطلبون منه المساعدة ،فهل يستجيب لهم؟ أم يلزم جانب الحذر ويحاول صرفهم والاعتذار منهم بك ّل هدوء؟! خاصة أنه يحمل مبلغاً كبيراً من المال ،فضل ًا عن تشكيلة البضائع التي اشتراها لتوه ،وهو وحيد ،وهم ثمانية ،وسيكونون معاً في طريق ربما يخلو من السائرين والمسافرين! وبعد التفكير توكل حمد على الله واتخذ قراره بالاستجابة لهم ،إذ كانت روح المساعدة وتقديم العون للآخرين تدفعه إلى ذلك ،وربما تكون هذه الروح واحدة من أخلاقيات البيئة التي نشأ وترعرع فيها ،فما كان منه إاّل أن استعان بالله ،وحزم بضاعته ومشترياته في صندوق كرتوني كبير ،ث ّم أذن لهم بالركوب معه ،ولن يضيع العرف عند الله والناس. كان الطريق المؤدي إلى منطقتهم طويل ًا بالنسبة لحمد ،مع قربه النسبي على أرض الواقع، لكن شخصاً يحمل مبلغاً كبيراً من المال ،وبضاعة ضخمة في سيارته ،وبرفقته بضعة رجال غرباء لا يعرف عنهم أكثر من أسمائهم ،أمر يُشعر الإنسان بالتوتر والقلق وكثير من الارتباك، فأصبح شديد الحذر طوال الطريق ،يراقب أدق حركاتهم ،ويرقب صندوقه المليء بالمشتريات، وقد وضع المال تحته وجلس عليه دون أن يشعرهم بذلك ،مع أن المال يصدر صوتاً كلما ازداد اهتزاز الطريق ،حتى أوصلهم لبغيتهم وهو يثني على الله أن سلّمه وحفظ له مروءته ،وماله وبضاعته. 39
حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة ولع ّل هذا الموقف يعكس الكثير من القيم التي تربى عليها حمد ،والمبادئ التي غرست فيه منذ أيام طفولته الأولى وشبابه الغ ّض مع والديه -رحمة الله عليهما -فالمرء يسير في الحياة ويتصرف وفق ما تعلمه ونشأ عليه ،وأبرز ما يظهر لنا في هذا الموقف هو حب الشيخ للمساعدة ،ورغبته في تقديم العون ،والحكمة في التصرف وقياس الأمور ،واتخاذ القرار بمعطيات حرجة ،والمضي فيه مع التوكل بعد فعل الأسباب. وحين وصل إلى الرياض باع بضاعته هذه المرة بأسلوب الجملة في سوق المقيبرة وهو أشهر سوق في الرياض آنذاك ،ليدخل في صنف آخر من أنواع البيع التجاري ،ويبدو أن البيع بنظام الجملة وافق مرام الشيخ ومبتغاه فاتخذه نهجاً يسلكه ،وبذلك ازداد تردده على مكة المكرمة يشتري البضائع ويبيعها ،مرة تلو الأخرى ،حتى رست علاقاته وازداد توسعها ،وتعرف على تجار مكة وعرفوه ،وارتفعت أرباح التاجر الشاب إلى عشرين ألف ريال ،وهو رقم كبير بل كبير جداً حينذاك. 40
حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة الزواج الأول قرر حمد زيارة أشيقر يدفعه الشوق والحنين إلى والدته وإخوته ،ولتنتعش روحه بعد فراق طويل في سبيل بناء النفس والاعتماد عليها بالكسب الحلال الطيب ،وكان قد بلغ عامه الحادي والعشرين ،وعزم على الزواج وتكوين الأسرة ،فدواعي الفطرة يجب تلبيتها ،ومن الخطأ مقاومتها ،أو تعسير سبلها الحلال. ولتكوين الأسرة في تلك الأزمان حكايات كثيرة ،تبدأ بالتعاون مع الوالدة والأخوات في البحث عن الشريكة المناسبة ذات الدين والحسب والنسب والخلق الرفيع لإكمال مشوار الحياة معها، حيث تنضم للأسرة الكبيرة وتكون واحدة من نسائها الكريمات. فتولت والدته الأمر وبحثت عن مواصفات الزوجة التي يرغب ابنها حمد في الاقتران بها، حتى وصلت إلى مراده وحصل الوفاق ،ليتم الزواج المبارك ويكمل الشاب العشريني نصف دينه بزواجه ،ولتستقر حياته بامتلاك بيت يأوي إليه ،وزوجة تسكن إليها نفسه. 41
حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة وفي العام الذي تزوج فيه ،عاد مرة أخرى للعمل الحكومي ،وكأنما توقف عن التجارة برهة يسيرة ،تشبه استراحة محارب لا يرى مكانه في غير المعترك ،بيد أنه أراد أن يسترد خلالها أنفاسه ،ويقيس مدى نجاحه في مجالات أخرى. فبعد أن طلب ابن عمران لقاءه لأمر مهم بعد أن أصبح ابن عمران أميراً لبلدة مرات ،وعرض عليه العمل معه مرة أخرى ولكن في إمارة مرات ،التي تبعد حوالي خمسين كيلومتراً عن مدينة أشيقر ،وبعد تأمل وتفكير وتقليب للأمر ،قبل الشيخ حمد الالتحاق بالعمل في الإمارة مع صاحبه الأول ابن عمران ،خاصة أنه سبق له ممارسة التجارة في مرات مع أخيه عثمان. اختلفت طبيعة العمل عن كل عمل سابق التحق به ،إذ عمل كاتباً للبرقيات التي تبعث لمناطق مختلفة من المملكة عن طريق الإمارة ،وهذه الوظيفة أكسبته خبرة في معرفة لغة البرقيات وف ّك رموزها ،فكتابة البرقيات تحتاج إلى تعلم من نوع خاص ،إذ كانت في ذلك الزمن عبارة عن شفرات تحتاج لفكها وترجمة رموزها ،ومن ث ّم تقدم للأمير كي يرد عليها ،فتعلّمها وأتقن فك شفراتها حتى تميز فيه. ث ّم قرر حمد أن يتوسع تجارياً ويفتتح هو وأخوه عثمان في تلك المنطقة ،محل ًا لبيع وقود السيارات (البنزين) ،وقطع غيار السيارات الدارجة في ذلك الوقت ،وكانت أول بداية لهما عبر بيع البنزين ،إذ كانا يملكان ستة عشر برميل ًا ،وبعد أن ينتهي حمد من العمل في الإمارة يلتحق بأخيه في الدكان ،ويمارسان معاً البيع والتجارة. 42
حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة التجارة ...شغف يتجدد ترك حمد العمل عند ابن عمران في مكتب الإمارة بمرات ،ليس لشيء إاّل بسبب ولعه وشغفه بالتجارة ،ذلك الشغف الذي يلقي به في أتون الحنين لها من جديد كلما ابتعد عنها ،فهو يؤمن بأن أطيب الكسب والرزق في التجارة ،كما في قول الله تعالىَ { :ف ِإ َذا ُق ِض َي ِت ال َّصل َاةُ َفانتَ ِش ُروا ِفي الأَ ْر ِض َوابْتَ ُغوا ِمن َف ْض ِل اللَّ ِه[ }......الجمعة ]10 :وكما ورد في الأحاديث الشريفة ( ،)1والمرء بطبعه يميل لأعمال معينة تكون أقرب لاهتماماته ولشخصيته وطباعه ،وقد كانت التجارة أقرب لاهتمامات حمد وشخصيته ،فالمتتبع لمسيرته منذ بدايتها يدرك عمق ارتباطه بالتجارة ،وهذا ما جعله يعود لها من جديد ،بنفس الحماسة القديمة ،وبنفس الحب المتجذر داخله تجاهها. فسافر إلى مكة متاجراً؛ عند بلوغه عامه الخامس والعشرين ،وعاد لممارسة شغفه من جديد ،ولكن على نطاق أكثر اتساعاً من السابق ،إذ كان يشتري البضائع ويرسلها إلى الرياض لتسويقها ،فأخذت تجارته بالتوسع ،ليدفعه هذا التوسع إلى اتخاذ قرار بأن يعقد شراكة مع ابن أخته وصديقه محمد بن سليمان اليحيى؛ لتسويق البضائع في الرياض عن طريقه ،بعد أن تصل إليه من خاله حمد في مكة. وهكذا بدأت تجارته تكبر يوماً بعد يوم ،وتكون لديه رأس مال كبير جداً ،ومنه بدأت ترد عليه الأفكار للبحث عن بيئة تجارية أكثر نشاطاً وأوسع رواجاً من سوق مكة ،وحينها كانت دولة الكويت هي وجهة التجار ومقصدهم الغني بالربح والجديد والإثارة ،وهي المكان الذي يقصده من يريد السبق والانفتاح على العالم. ( )1منها ما في مسند الإمام أحمدِ :قي َل :يَا َر ُسو َل اللَّ ِه ،أَ ُّي ال َكس ِب أَط َي ُب؟ َقا َلَ « :ع َم ُل ال َّر ُج ِل ِب َي ِد ِهَ ،و ُك ُّل بَيْ ٍع َمبْ ُرور» ومنها ما في البخاريَ « :ما أَ َك َل أَ َح ٌد َط َعا ًما َق ُّط َخي ًرا ِمن أَن يَأ ُك َل ِمن َع َم ِل يَ ِد ِهَ ،و ِإ َّن نَ ِب َّي اللَّ ِه َدا ُو َد عليه السلام َكا َن يَأ ُك ُل ِمن َع َم ِل يَ ِد ِه» ،وفي روايةِ « :إ َّن أَ ْط َي َب َما أَ َكلْتُ ْم ِم ْن َك ْس ِب ُك ْم». 43
حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة انطلاقة من الكويت (1373هـ1383-هـ) ( 1954م 1964 -م ) التجارة قرينة المغامرة ،وتستلزم اتخاذ القرارات الجريئة والقوية القادرة على تح ّمل الطريق الوعر المليء بالمخاطر ،فالكثير من القرارات تحتاج إلى شجاعة تدفع للمضي قدماً ،وخوض المغامرة التي يدرك صاحب القرار أنها غير مضمونة النتائج أبداً ،لكنها أمر حتمي في حياة التاجر ،بل هي واحدة من أسباب النجاح حتى ولو لم ينجح صاحبها في بداياته. ففي العام 1373هـ 1954 /م اتخذ حمد الحصيني أحد أكثر القرارات جرأة وشجاعة وعزماً، بعد تفكير طويل ودراسة متأنية ،وبعد قياس الأمور المحيطة به ،حيث توجه إلى دولة الكويت بحثاً عن سوق تجارية أخرى غير التي عهدها في المملكة العربية السعودية ،بعد أن صنع شراكة تجارية مع أخيه عثمان وصديقه محمد اليحيى الذي أدخل أخاه عبدالله شريكاً معهم. 44
حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة ولا غرو فالكويت هي مقصد كثير من تجار ذلك الزمان ،لما امتازت به من موقع حيوي على الخليج العربي المتفرع على منافذ متعددة من دول العالم ،وكان ميناء الكويت غنياً بالبضائع والسلع المختلفة ،مما و ّسع مجالات الرزق لأهل الكويت ولمن تاجر فيها من دول الجوار ،وساهم هذا الحراك التجاري في نهضة أسواقها وشؤونها التجارية حتى صارت مقصداً للمستثمرين وبيئة مناسبة للفرص ،ويضاف لذلك كثرة ما في الكويت من وكالات للشركات ،وبحث هذه الشركات الدؤوب عن وسطاء أو وكلاء محليين. في تلك الأزمنة نشأت كثير من الأسواق التجارية ،حمل كل منها اسماً اشتهر به ،ولا يزال بعضها محتفظاً به حتى الآن ،ومنها سوق الغربللي ،وسوق التجار ،وسوق المناخ ،وساحة الصفاة، وسوق الفرضة وسوق واقف للنساء ،وسوق بن دعيج ،وسوق الطحين ،وسوق الساعات ،وسوق الجت ،وسوق التمر ،وغيرها الكثير ،ومن أشهرها سوق المباركية الذي سكن حمد فيه ،وهو يقع الآن بالقرب من سوق المناخ المجاور لمسجد الحداد. 45
حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة 46
حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة بدأ حمد بالبحث عن فرصة للمتاجرة في سلعة جديدة وجيدة وجذابة ،يستطيع من خلالها أن يحقق مكسباً طيباً ،لكن المشكلة التي كانت تواجهه آنذاك أن الأسواق كثيرة ومتنوعة ومختلفة ،وربما لم تكن مشكلة بقدر ما كانت نقطة تحتاج لشخص حصيف يقرر من أين سينطلق ،وبم سيبدأ مشواره المتجدد ،وكيف سيصل لبغيته. صار حمد يخرج كل يوم ويمر على الأسواق واحداً تل َو الآخر ،يستطلع ويتفحص المبيعات، ويرقب المشترين ومدى إقبالهم ،ويبحث عن المختلف منها ،ليستطيع المتاجرة به هناك في الرياض ،وبعد بحث وتأمل في السوق وأحواله وبضائعه ونقاط قوته وضعفه ،وبعد أن استقرأ الحال الاقتصادية قبل أن يدخل في مغامرة تجارية شجاعة ،قرر أن يتاجر بالأجهزة الكهربائية! كان هذا القرار شجاعاً لرجل لم يجرب من قبل تجارة بهذا الحجم ،ولا بهذا النوع من البضائع ،لكن التجارة مغامرة ،والتاجر يتميز عن أصحاب المهن بح ّس التحدي مع النفس للوصول للطموح المرج ّو مع الخوض في بحر المنافسة التجارية ،وطبعاً لا يكون ذلك بغير حسن التقدير ،وقبل ذلك كله نشدان التوفيق من رب العالمين. فخطط أن يشتري الأجهزة الكهربائية من الكويت ويبيعها في الرياض ،ومن هنا كانت الانطلاقة التجارية في دولة الكويت ،فبدأ على هذا النحو زمناً ليس باليسير ،حيث تباع الأجهزة في الرياض عن طريق الجملة بعد أن ينتقيها حمد ويرسلها بأعداد كبيرة من الكويت، ويتم البيع بواسطة محمد اليحيى ،الذي يستقبلها ويبدأ بتسويقها في مح ّل بساحة الصفاة التاريخية (الديرة) ،التي تقع قبالة جامع الإمام تركي بن عبدالله حالياً. 47
حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة قرار جريء آخر تعلم حمد منذ بداية عهده بالتجارة أاّل يستعجل تحصيل الربح أبداً ،وقد علمته التجارب السابقة منذ بداياته في مكة قبل أعوام أن التجارة محفوفة بالمخاطر ،وأنها قرينة للمشاق، موجبة للصبر والتحمل ،وتدرب جيداً على كل ذلك ،بالخبرة التي اكتسبها مع مرور الزمن، ومن التجارب التي خاضها ،وكانت في ذلك الوقت مهمة بالنسبة له ،مع أنها لا تقارن مع التجارب التي خاضها فيما بعد ،وأعانته هذه الخبرة على أن يمضي قدماً حتى تشربت شخصيته العزم والإقدام. لقيت البضائع القادمة من الكويت رواجاً في سوق الرياض ،فاستمر في بيع الأجهزة الكهربائية زمناً ليس باليسير في محله بساحة الصفاة التاريخية التي تقابل الجامع الكبير كما يسمى آنذاك ،ويتم البيع عن طريق عثمان الأخ الأكبر لحمد وابن أخته محمد اليحيى ،واختصت المبيعات بمجموعة من العلامات التجارية المعروفة آنذاك ،وأكثرها من شركة (.)J.V.C ث ّم توسعت تجارة حمد وشركائه (شقيقه عثمان وأبناء أخته محمد وعبدالله اليحيى) ،خاصة حينما قرر حمد فتح فرع في مكة ومثل هذا القرار بالتوسع التجاري وفتح فرع آخر في مدينة أخرى بعيدة أمر ليس يسيراً ،فيجب أولاً اختيار الموقع بعناية ،وانتقاء المدير المؤهل المأمون الذي سيتولى شؤون الفرع الجديد ،وضمان سلاسة طرق التواصل معه في زمن لم تكن فيه وسائل التقنية متاحة ويسيرة ،إضافة إلى حسم كثير من التفاصيل المتعلقة بالبائعين وبعملية البيع والشراء نفسها. فذهب الشيخ حمد إلى مكة المكرمة ،واختار محل ًا في شارع الملك فيصل ،في منطقة سوق (المُدعى) المشهور منذ القدم ،الذي اكتسب اسمه من دعاء الحجاج إذا بلغوه وشاهدوا الكعبة عن بُعد ،ويقع في الناحية الشمالية للمسجد الحرام عند باب السلام وهو الآن ضمن 48
حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة التوسعة الشمالية الأخيرة التي بدأت في عهد الملك عبدالله– رحمه الله تعالى . وجاء الاختيار بعد أن درس نشاط السوق التجاري المحيط بتلك المنطقة ،واتفق مع الشخص المناسب لإدارة المحل ،وتولي أمور البيع والحساب فيه ،فلما أرسى القواعد هناك واطمأن على أدق التفاصيل ،عاد إلى الكويت ،وشرع يرسل البضائع من الأجهزة الكهربائية إلى مكة المكرمة. وفي جدة عام 1978م ،حيث البركة والخير الوفير ،اختار حمد الأخوين أحمد العفيفي وعمر العفيفي ليكونا موزعين للبضائع ،وأوكل إلى عمر باباسط إدارة العمل ،وبعد ذلك تولى عبدالله بن عثمان أمر هذه المحلات ،وتوسع في العمل بالمنطقة الغربية من المملكة كاملة. ومع تعاقب السنوات ،صار من المتحتم على حمد أن يستقر زمناً طويل ًا في الكويت لتنجح تجارته ،فقد أتعبه التنقل من الكويت إلى الرياض ثم إلى مكة ،فأصبح لزاماً عليه أن يركز جهوده في تجارته ويستقر هناك؛ فالكويت وقتها تستورد البضائع من ك ّل مكان ،وهي بيئة تجارية خصبة محفزة لخوض منافسة تجارية جادة ،إذ يقدم عليها كثير من السعوديين آنذاك للبحث عن فرص تجارية ،وهي مكتظة بالآسيويين الذين يستوردون البضائع ،ويروجون لها في أسواق الكويت العامرة. فما كان من حمد إلا أن استأجر له منزلاً هناك ،وبدأ بترتيب أموره للعيش فيها ،وقرر الزواج مرة أخرى ،واستقرت إحدى زوجاته معه في الكويت ،نظراً لارتباطه بتجارته فيها ،بينما بقيت الزوجة الأخرى في بيت أشيقر مع أبنائه ترعى شؤونهم بالتراضي والتفاهم مع زوجها .وإن تصور وضعه لكفيل بمعرفة مدى المعاناة التي قاساها ،فسفره المتكرر بين بلدين وعدة مدن بوسائل لم تكن مريحة وسريعة مثل اليوم ،وتركه لأسرتيه مدة قد لا تكون قصيرة دون وجود وسائل تواصل لحظي كما هو حادث الآن ،كل ذلك يصف لنا حجم المعاناة التي تغلب عليها بفضل من الله. 49
حمد بن عبدالرحمن الحصيني ساعات معدودة الهندي ...ودخول عالم الزمن في صباح أحد الأيام اتجه التاجر حمد الحصيني إلى السوق كما يصنع يومياً ،وكعادة سوق الكويت كان مليئاً بكل أنواع السلع ،حيث بدأ حمد يتنقل بين أنحاء السوق من زاوية إلى أخرى؛ حتى لمح رجل ًا من الهند وكان اسمه «كاجيريا» واقفاً في متجر يبيع فيه مجموعة من السلع، ومن بين ما لفت نظره في سلع الهندي الساعات. وقف حمد أمام تلك الساعات يقلبها وينظر فيها ،فاشترى واحدة لنفسه وجربها ث ّم رجع بعد عدة أيام كي يشتري كمية منها ليبيعها في دكانه ،وليرى مدى إقبال الناس على شرائها، فاشترى خمس ساعات ،ووضعها في جيبه ليعرضها هناك للزبائن والمتسوقين. أراد الشيخ حمد أن يجرب بنفسه كيف يق ِّيم الناس هذا النوع من الساعات ،فاستقبل أول المتبضعين الذي استفهم عن تلك الساعات ،وعن صناعتها ،فالعادة جرت بأن يشتري الزبائن الساعات السويسرية ،وهذه الساعات يابانية الصنع ،وتحمل اسم العلامة التجارية «سيكو»، لذلك تساءل الزبائن باستغراب عنها ،فهي ليست من العلامات التجارية التي يعرفونها والمشتهرة بالجودة. كذلك قرر حمد أن يرسل عدداً من الساعات إلى الرياض ليرى مدى إقبال الناس عليها هناك ،فذهب لنفس الرجل الهندي الذي باعه إياها ،وتعرف عليه ،فاشترى منه خمس ساعات أخرى ،وبعثها إلى متجر الرياض الذي يديره ابن أخته وصديقه محمد اليحيى. وكم كانت دهشة الصديق والشريك محمد اليحيى كبيرة ،عندما ذهب لتسلم دفعة جديدة من البضائع ،ليكتشف أن إحداها أصغر حجماً بكثير مما اعتاد على تسلمه ،وما إن بدأ بفرز البضائع حتى عرف أن البضاعة الجديدة هي مجموعة قليلة من الساعات التي ليس لهم سابق عهد بنوعها. أخذ محمد اليحيى الساعات وبدأ بتقليبها وهاله أنها ليست ساعات سويسرية! وإنما ساعات لها علامة تجارية مختلفة ،ويابانية الصنع ،فما كان منه إاّل أن عرضها للبيع مع مجموعة 50
Search
Read the Text Version
- 1
- 2
- 3
- 4
- 5
- 6
- 7
- 8
- 9
- 10
- 11
- 12
- 13
- 14
- 15
- 16
- 17
- 18
- 19
- 20
- 21
- 22
- 23
- 24
- 25
- 26
- 27
- 28
- 29
- 30
- 31
- 32
- 33
- 34
- 35
- 36
- 37
- 38
- 39
- 40
- 41
- 42
- 43
- 44
- 45
- 46
- 47
- 48
- 49
- 50
- 51
- 52
- 53
- 54
- 55
- 56
- 57
- 58
- 59
- 60
- 61
- 62
- 63
- 64
- 65
- 66
- 67
- 68
- 69
- 70
- 71
- 72
- 73
- 74
- 75
- 76
- 77
- 78
- 79
- 80
- 81
- 82
- 83
- 84
- 85
- 86
- 87
- 88
- 89
- 90
- 91
- 92
- 93
- 94
- 95
- 96
- 97
- 98
- 99
- 100
- 101
- 102
- 103
- 104
- 105
- 106
- 107
- 108
- 109
- 110
- 111
- 112
- 113
- 114
- 115
- 116
- 117
- 118
- 119
- 120