إذ يسـهل جذبهـم إلى الجيـد والـيء ،فلـم لا يتـم جذبهـم إلى هـذا الجانـب الأدبي الثقافي، ليقـودوا هـم سـفينة الكلمـة في المسـتقبل ،هنـاك أمـر يتجاهلـه دون قصـد معظـم الأدباء ولاسـيما الشـعراء ،نحـن نكـر وبـدأت أعـراض وأمـراض الشـيخوخة تظهـر علينـا ،لا بـد أن نعطـي الفرصـة للشـباب والأطفـال ،والعمـل على ذلـك سـهل وغـر مكلـف فقـط يحتـاج بعـض الوقـت. أقــرح إشراك المــرأة الأديبــة في كل الأنشــطة الــي يقيمهــا الاتحــاد والتركــز عليهــا أكـر مـن ذي قبـل ،فـإن لـم نـدرك نحـن السـوريون بأننـا نعـاني مـن أزمـة تسـى أزمـة المـرأة فلـن نتجاوزهـا ،نحـن نقتـل نصفنـا الآخـر ،ندمـر نصـف طاقتنـا ،ندفـن نصـف إنجازنـا ،تـرى لمـاذا؟. اتحاد الكتاب والأدباء السوريين الأحرار 101 مجلة ورق | العدد الثاني -نيسان ٢٠٢١م
ساد ًسا دراسات أدبية ونقدية مجلة ورق | العدد الثاني -نيسان ٢٠٢١م 102اتحاد الكتاب والأدباء السوريين الأحرار
ف ُّن الق َّص ِة القصير ِة القاص عبد الغني حمادة أ ّولاً :ما ه َي الق َّص ُة؟!. الق َّصـ ُة هي سر ٌد واقـ ٌّي أو خيـال ٌّي لأفعـا ٍل أو أحـدا ٍث ،قـ ْد تكـو ُن بطريقـ ٍة نثر ّيـ ٍة أو وإمتـا ُع إثـارةُ ُ شـعر ّي ٍة، السـامعي َن. أو القـ ّراءِ الاهتمـا ِم منهـا الهـدف ـ ِة، ال ّرواي ابنـ ُة وهي الأدب ّيـ ِة، الكتابـ ِة فنـو ِن ـن م ً تعتـ ُر المدخـ ِل بهـذا فالق َّصـ ُة نـوعا والملحمـ ِة. ـ ِة والخراف الأس ـطورة ِ ـ ُة ابن هي ّ وال ـي في الق َّصــ ِة تتمحــو ُر الأحــدا ُث ،وتتصــار ُع ال ّشــخص ّيا ُت في زمــ ٍن محــ َّد ٍد ،وغال ًبــا يكــو ُن ال ّزمـ ُن قصـراً ،قـ ْد يكـو ُن سـاع ًة أو دقائـ َق أو ر ّبمـا أيّا ًمـا .وتـدو ُر الأحـدا ُث في مـا ٍن مح ّد ٍد. لا بُــ َّد مــن التّنويــ ِه إلى نقطــ ٍة مه ّمــ ٍة ،يجــ ُب الانتبــا ُه إليهــا ،وخا ّصــ ًة لدى ال ُك ّتــا ِب الق َّصـ ُة ّ أنّـ ُه الفشـ ِل. إلى تع ّر َضـ ِت وتف ّر َعـ ْت، الأحـدا ُث تعـ ّد َد ِت كلمـا وهي، ألا ال ّشـبا ِب، لذلـ َك يجـ ُب أ ْن تعتمـ َد الق َّصـ ُة القصـر ُة على بطـ ٍل واحـ ٍد ،تـدو ُر حـو َلُ الأحـدا ُث. قبـ َل الخـو ِض في أنـوا ِع الق َّصـ ِة ،لا بُـ َّد مـن ذكـ ِر بعـ ِض ر ّوا ِدهـا الأجانـ ِب ،مثـل :إدغار آلان بـو ،مـو باسـان ،إميـل زولا ،تورغينيـف ،تشـيخوف ،غوغـول ،وغيرهـم. َو ِم َن ال ّر ّوا ِد العر ِب :يوسف إدريس ،زكريا تامر ،محمود تيمور ،وابن المق ّفع. ولا بُـ َّد مـن ذكـ ِر الك ّتـا ِب ا ّليـ َن كتبـوا نـو ًع مـن الق َّصـ ِة يـدعى (المذ ّكـر َة)َ ،وتُ ْك َت ُب على لسـا ِن صاحبِهـا بصيغ ِة الــ (أنـا) ،وهي نوعا ِن: اتحاد الكتاب والأدباء السوريين الأحرار 103 مجلة ورق | العدد الثاني -نيسان ٢٠٢١م
1.واقع ّي ٌة :حي ُث يقو ُم الكات ُب بسر ِد سيرتِ ِه ال ّذات ّي ِة ،كأد ِب ال ّرحلا ِت وغي ِر ذل َك. وكأنّــ ُه ً لســانِها على فيــر ُد شــخص ّي ًة، الكاتــ ُب يتخ ّيــ َل أ ْن وهي 2.خيال ّيــ ٌة: أحداثــا، يكتـ ُب عـن حياتِـ ِه. وغالبًا ما كانَ ْت تل َك المذ ّكرا ُت تتّس ُم بالسخري ِة ،أو الكوميديا السودا ِء. ِمـ ْن أبـر ِز َمـ ْن كتـ َب هـذا الفـ َّن ِمـ َن الأدبـاءِ العـر ِب ،طـه حسـن وكتابُـ ُه (الأيّـام)، والمـازن ُّي وكتابُـ ُه (صنـدو ُق ال ّدنيـا). ثان ًيا :أنوا ُع الق َّص ِة: ُت ْق َس ُم أنوا ُع الق َّص ِة إلى نو َعي ِن رئي َس ْ ِي ،حس َب الموضو ِع ،وحس َب البنا ِء الف ّ ِّن. 1.حســ َب الموضــو ِع :ق َّســ َم الأدبــا ُء وال ّن ّقــا ُد الق َّصــ َة القصــر َة إلى عــ ّدةِ أنــوا ٍع: الاجتماعيــ ُة ،ال ّتاريخيــ ُة ،ال ّدينيــ ُة ،ال ّذاتيــ ُة أو النّفســ ّي ُة ،ال ّرومانســ ّي ُة ،السياســ ّي ُة، والق َّصــ ُة ال ّســاخر ُة. -2حس َب البناءِ الف ّ ِّن :وهي :الواقع ّي ُة والخيال ّي ُة وال ّرمز ّي ُة والبوليس ّي ُة ،وقص ُص الأطفا ِل. ثال ًثا :الأسلو ُب: َمـ ْن فهنـا َك وخاتمـ ٍة، وعـر ٍض لمق ّدمـ ٍة تحتـا ُج لا أ ْي ً ً لي َسـ ْت الق َّصـ ُة إنشـائيا، موضـوعا شــ ِل على يكت ُبهــا أو اعترافــا ٍت، أو يوم ّيــا ٍت أو ّ شــ ِل على الق َّصــ َة يكتــ ُب مذكــرا ٍت تصويـ ٍر واقـ ٍّي يقـر ُب ِمـ ْن أسـلو ِب ال ّتقريـ ِر الصحـ ِّي. مجلة ورق | العدد الثاني -نيسان ٢٠٢١م 104اتحاد الكتاب والأدباء السوريين الأحرار
ـا ِل وإيص ـ ِة للكتاب وأدواتِـ ِه أسـلو َب ُه ـا َر يخت ـأ ْن ب ـ ٌّر ح ـا ُّص فالق ـلو ُب ُه، أس ـا ٍّص ق ِّ ل ـل فكــرةِ الق َّصــ ِة والهــد ِف منهــا للقــار ِئ حســ َب مــا يرتــي ِمــ ْن تشــوي ٍق ودهشــ ٍة. لسـا ِن على أو ّ أو الغائـ ِب الحـائ ِّي، الـ ّرد ِّي المـاضي بصيغـ ِة الق َّصـ ُة تُ ْك َتـ ُب المتكلـ ِم، شـخ ٍص رأى الحـد َث كشـاه ِد عيـا ٍنَ ،وتُ ْك َتـ ُب بصيغـ ِة المضـار ِع (الغائـ ِب أو المخا َط ِب). تتنـ ّو ُع أسـالي ُب القا ّصـ َن بمدخـ ِل الق َّصـ ِة أو ببدايتِهـا ،فقد يتت ّبـ ُع التّسلسـ َل ال ّزمن َّي، بدايـ َة حـد ٍث ،ثـ َّم الحبكـ َة ،وأخـ ًرا القفلـ َة ،أو ال ّنهايـ َة ،أو يبد ُؤهـا مـن النّهايـ ِة لتحقيـ ِق عنـ ِر المفاجـأةِ أو الإثارةِ. راب ًعا :أدوا ُت الق َّص ِة: الكتابـ ِة ،وأريـ ُد أ ْن أنـ ّو َه إلى الك ّتـا ِب ال ّشـبا ِب، 1.ا َلو ُألّلْغِفــ ُة َتالن ّسظـ َرل ُهيـم ْمُة:إل(ىوههـَيذأه ّوا ُللّناشحريـو ِةِ،ط وأنص َح ُهـ ْم بضرورةِ عـر ِض كتاباتِهـم ونصو ِصهم ّ ُي ْن ِقــ ُص قبــ َل باللغــ ِة مــن لا الأمــ ُر وهــذا ينشروهــا، أ ْن العرب ّيــ ِة المخت ّصــ َن على وتم ّرسـاً ً َقـ ْدرِ الكتابـ ِة. في وخـرةً وتواضعـا ورفعـ ًة قيمـ ًة يزيـ ُد ُه بـل الكاتـ ِب، 2.الهـد ُف :حيـ ُث يجـ ُب على ك ِّل ق ّصـ ٍة أن تتض ّمـ َن هدفًـا أو رسـال ًة أو حكمـ ًة أو غايـ ًة أو توجي ًهـا أو إشـار ًة لظاهـر ٍة مـا. أنج َح. الق َّص ُة كانَ ِت قوي ًة الحبك ُة كانَ ِت ّ 3.الحبك ُة: كلما 4.الحـد ُث :في ك ِّل ق ّصـ ٍة يجـ ُب أ ْن يكـو َن هنـا َك حـد ٌث يحـ ّر ُك ال ّشـخصيا ِت ،ليتاب َعهـا القـار ُئ ويتفاعـ َل مـع ذلـ َك الحـد ِث. 5.الحـوا ُر :الحـوا ُر يزيـ ُد المتعـ َة في الق َّصـ ِة ،ومـن خـل ِاِ يتعـ ّر ُف القـار ُئ على الأبطـا ِل ومسـتوى وعيِهـم وثقافتِهم. اتحاد الكتاب والأدباء السوريين الأحرار 105 مجلة ورق | العدد الثاني -نيسان ٢٠٢١م
خــل ِاِ مــن ليقــر َب العا ّم ّيــ ِة ّ الحــوا َر يكتــ ُب الك ّتــا ِب بعــ ُض ملاحظــة: باللهجــ ِة مـن قارئِـ ِه أكـ َر ،إ ْن تض ّمـ َن الحـوا ُر بعـ َض الكلمـا ِت بالعام ّيـ ِة لا بـأ َس مـن ذلـ َك ،على ّ للكتابـ ِة حاجـ َة فـا ذلـ َك يكـ ْن لـم وإ ْن الق َّصـ َة، وتخـد َم ج ّيـ ًدا، تو َّظـ َف أ ْن باللهجـ ِة العا ّم ّيـ ِة ال ّدارجـ ِة (وخا ّصـة إ ْن لـم تكـ ْن مفهومـ ًة). بعيـ ًدا ـر َض الغ ـؤ ّدي ت ـي ّ ـ ِة الفصيح ـرِ والتعاب ـردا ِت بالمف ـ ٌة غن ّي ـ ُة العرب ّي ـ ُة ّ ال واللغ ـرب ِّي. الع ـ ِن الوط في ـى ُ ولا ُت َعـ ُّد لا ـي ّ ـ ِة العا ّم ّي ـا ِت ّ ـ ِن َع ت ال اللهج خام ًسا :عناص ُر الق َّص ِة: 1.الأفكا ُر( :رئي َس ٌة أو ثانو ّي ٌة أو فكر ٌة عا ّم ٌة). 2.الشــخص ّيا ُت( :أي ًضــا هنــا َك شــخص ّي ٌة محور ّيــ ٌة رئيســ ٌة ت ّتكــ ُئ على شــخص ّيا ٍت ثانو ّيــ ٍة في أحــدا ِث الق َّصــ ِة). 3.الأحــدا ُث :قــد تتض ّمــ ُن الق َّصــ َة أحيانًــا حد َثــ ْ ِن متراب َطــ ْ ِن يص َّبــا ِن في صلــ ِب الموضـو ِع ،ولكـ ْن على الأقـ ِّل يجـ ُب أ ْن يكـو َن هنـا َك حـد ٌث واحـ ٌد في ك ِّل ق ّصـ ٍة، كي لا تتحـ ّو َل الق َّصـ ُة إلى موضـو ٍع إنشـائ ٍّي وصـ ٍّي. 4.المكا ُن :ذك ُر المكا ِن في الق َّص ِة يزي ُد ال ّتوثي َق والمصداق ّي َة ،ويق ّر ُب الكات َب من ق ّرائِ ِه. 5.ال ّزما ُن :يفي ُد ذك ُر ال ّزما ِن أو الطق ِس في زيادةِ المتع ِة والموضوع ّي ِة لدى القا ِّص والقار ِئ. المك ّثفــ ُة ّ وتتط ّلــ ُب والحكايــ ِة، ال ّروايــ ِة رحــ ِم مــن ُو ِ َل أدب ٌّي فــ ٌّن فالق َّصــة اللغــة الق َّصـ ِة بدايـ ُة كانَـ ْت ّ الجـز ِل، البـاغ ِّي الأسـلو ِب واسـتخدا َم ال ّصـو ِر، واسـتحضا َر وكلمـا ينهيهـا، حـ ّى َ لـ ْن بحيـ ُث بهـا، وتم ّسـ َك أكـ َر، القـار ِئ بذهـ ِن َعلِ َقـ ْت تشـويق ّي ًة يتركهـا نهايـ َة أ ّن وأرى المسـتم ِع، أو القـار ِئ لدى أكـ َر الانتبـا َه أثـا َر ِت غري ًبـا الحـد ُث كا َن ّ وكلمـا مجلة ورق | العدد الثاني -نيسان ٢٠٢١م 106اتحاد الكتاب والأدباء السوريين الأحرار
ونقطـ ُة القصـرةِ للق ّصـ ِة الفقـر ُّي العمـو ُد هي ّ غـ ِر القفلـ َة أو المدهشـ ِة، الق َّصـ ِة المتوقعـ ِة القـ ّوةِ فيهـاَ ،و ُت ْع َتـ َ ُر ال ّنهايـ ُة كإشراقـ ِة ال ّشـم ِس في ال ّصبـا ِح. اتحاد الكتاب والأدباء السوريين الأحرار 107 مجلة ورق | العدد الثاني -نيسان ٢٠٢١م
تناغــم بيــن الفــن الروائــي والفــن التشــكيلي فــي روايــة اللحــاف للكاتــب أيمــن ناصــر بقلم عفاف الرشيد صهيــ ُل الغربــة يهــز جوانيــات النفــس ً البشريـة ،ويمنحهـا ثباتـا فـوق الأرض ،ويعـزز الحالــة العاطفيــة في تواصلهــا مــع الأخريــن بشـفافية الوجـدان ودفء المشـاعر الإنسـانية، هكــذا دارت أحــداث الروايــة الــي بــدت بسـيطة بـن مجموعـة مـن المعلمـن المغتربـن بحياتهــم الروتينيــة. لغــ ُة الكاتــ ِب الــي أتقنــ ْت وصــف جوانيــات الشــخصيات بدقــ ٍة منحــ ْت الروايــة صبغــة فلســفية تطــرح كثــراَ مــن القيــم الإنســانية والأخلاقيــة. َ الروايـة متعـددة المناخـا ِت متنوعـة التضاريـس منسـجمة تمامـا مـع وعـورة الاغتراب وقسـوته ،تضـج بلواعـج الحنـن إلى الأوطان. يطــرح الكاتــب أيمــن نــاصر في روايتــه (اللحــاف) الصــادرة عام 2008عــن اتحــاد الكتــاب العــرب ذات ال /277/صفحــة مــن القطــع الكبــر عــدة قضايــا إنســانية واجتماعيــة ترصــ ُد حيــاة مجموعــة مــن المعلمــن المغتربــن مــن عــدة دول عربيــ ٍة يجمعهــم معهــد تعليــي في مدينــة (حــوث) التابعــة لمدينــة صنعــاء باليمــن. مجلة ورق | العدد الثاني -نيسان ٢٠٢١م 108اتحاد الكتاب والأدباء السوريين الأحرار
ًَ للوهلـ ِة الأولى يبـدو عنـوان الروايـة توريطـا وربمـا جاذبـا للفضـو ِل ،لكـن بعـد الدخـول إلى عالـم الروايـة نلاحـظ أنـه يقـد ُم الكثـر مـن الانتصـارات لصالـ ِح فكـرةِ ََ الحكايـة ،خادمـا للحـد ِث منسـجما مـع الحبكـة. مـن (مريبـط) المدينـة المغمـورة في ريـف الرقـة السـورية إلى (أم درمان) في السـودان ثـم إلى لنـدن فصنعــاء فدمشــق ..أفــاق مـن التضاريـ ِس الجغرافيـ ِة المتناثـرة انحـرت في مدينــة (حــوث) باليمــن ولمــدة زمنيــة لا تتجــاوز التســعة أيــام ،رغــم أن معظــم فيهـا تن ّقـل متسـعة عوالـم فاحتضنـت ً مسرحهـا خـارج تمـت الروايـة أحـداث جغرافيـا بطـي الروايـة (حمـزة وسـيد) الأساسـيين بفيـ ٍض مـن تدفـ ِق شـا ِل ذكرياتهمـا بـكل مـا فيهـا مـن شـجو ٍن وانكسـارا ٍت طحنتهـا رحى الغربـة ،وتجلـت لغـة السر ِد ببسـاطتها وشــفافيتها ،لغــ ٌة مفعمــ ٌة بالمشــاعر الوجدانيــة المؤثــرة في المتلــي الذي يــزداد انجذابــا بفضـ ِل تأثـر لغـة النـص ،ثـم وصفـه الحـدث الذي رسـ َم ملامـح أقـدار الشـخصيتين في غمـ ِر مـو ٍج متلاطـ ٍم مـن الاغـراب. فلسفة المكان والزمان في الرواية: تنقـ َل الكاتـ ُب بأدواتـه السرديـة بـن عـدة أماكـن جغرافيـة مختلفـة مـن خـال َ تنظيمـه لهيكليـ ِة الروايـة وتنسـيق أحداثهـا ،فـان الفضـاء الخـارجي متسـعا أكـر مـن المـان الذي انحـرت بـه أحـداث الروايـة داخـل المعهـد ،واتسـاع أفـق الفضـاء الخـارجي َ حتـي لـل روايـة لأنهـا حكايـة طويلـة تسـتغرق زمنـا يتسـع لأكـر مـن جيـل. مــا يمــز روايــة اللحــاف أن الأحــداث الــي اعترضــت ســيد وحمــزة الحمــداني في َ الفضـاء والزمـان الخـارجي لمـرح الروايـة مؤثـرة تركـت بصماتهـا بحياتهمـا نفسـيا اتحاد الكتاب والأدباء السوريين الأحرار 109 مجلة ورق | العدد الثاني -نيسان ٢٠٢١م
َ واجتماعيـا وكانـت قائـدة إلى الحبكـة مبـاشرة وبدقـة وخصوصـا بطـل الروايـة سـيد. لعـب الكاتـ ُب بالزمـن كمـا لـو أنـه بـدأ الروايـة مـن الوسـط ،حيـث كانـت بدايـة الروايــة في زمــن ناضــ ٍج مــن أحــدا ٍث عاصرهــا الشــخو ُص ،برؤيتــه حــدد البدايــة في المعهــد ثــم انتقــل بالزمــ ِن إلى المــاضي وعاد ليكمــ َل الحــاضر ،ثــم يرجــع ويعــود ومــن خـال هـذه الحركـة الزمانيـة لـم تفلـ ْت مـن القـارئ فكـرة أو تغمـ ُض عليـه جملـة، لدقـة لغتـه السرديـة وتنظيـم بنائـه الزمـي. وتـأتي المرحلـة الأخـرى مـن الزمـن الرتيـب وهي ثمانيـة أيـام متتاليـة تـم تنظيـم ً عشريــن على الكاتــب مــ ّر ثــم بوضــوح، الروايــة فصــول خــال مــن بهــا الــرد عامــا ليجعــل اليــوم التاســع في الروايــة هــو اليــوم الأخــر والختــام. لـل كاتـب أسـلوبه في هندسـة بنـاء الروايـة وفي أدواتـه التعبيريـة اللغويـة ،لكـن مقـدار الإنجـاز الجيـد يظهـر بتمكنـه مـن جـذب القـارئ وعـدم إضاعتـه بـن مفـارق الزمـن الـروائي. رغـم بسـاطة الحـدث وسـيطرة أسـلوب سرد السـرة الذاتيـة على لسـان الـراوي الذ ي وظفـه الكاتـب بشـخصية (حمـزة الحمـداني) تلـك الشـخصية المفرطـة بالانتبـاه والحدس والمتيقظـة باتقـاد ذكاءِ شـا ٍب مرهـف الحـس ،يعشـق الأدب والفـن التشـكيلي. كانـت الروايـة جاذبـة تشـد القـارئ ليدخـل فصولهـا وزمانهـا وهـذا لا يتحقـق إلا بإحسـا ٍس صـاد ٍق ولغـة سرد تصويريـة تشـكيلية ،ترسـم خارطـة نفسـية لـل شـخصية بدقـة متناهيـة كي تـؤدي دورهـا المخطـط لهـا بدقـ ٍة تواكـ ُب تطـور الحـد ِث والحبكـ ِة ثـم النهايـة ،فاتسـاع مسـاحة الـرد للسـرة الذاتيـة كان له مـرره و لـم يعرقـل تنظيـم سـر ً أكـر بصـورة الكاتـب فكـرة ترسـ ُل تعبيريـ ٍة بطاقـا ٍت أركانهـا شـد بـل الأحـداث، تأثـرا، مجلة ورق | العدد الثاني -نيسان ٢٠٢١م 110اتحاد الكتاب والأدباء السوريين الأحرار
لأنـه عاش الحـدث وتـذوق طعـم المعانـاة فكلمـا كان الكاتـب معـاصراَ للحـدث كلمـا كان ََ تأثـر الـرد مشـوقا ومحرضـا للمشـاعر الإنسـانية. باعتبـار أن الشـخصية تحتـ ُل مكانـ ًة مهمـة في بنيـة الشـل الـروائي ،فـي وسـيلة للقيـ ِم المختـر ُ الـر ِد، عنـاصر كل حولهـا تتحلـ ُق رؤيتـ ِه، عـن للتعبـر الـروائي وتشـل ً الإنسـاني ِة الـي يتـم نقلهـا مـن الحيـاة إلى داخـل النـ ِص ،كان ناجحـا بانتقـاء شـخوصه منه ـا ـاَ جاع له ـروق ت ـات بصف حم ـزة ـخصية ش ـار اخت ـم. له الجوانيـ ِة ـه بقراءات َ دقيق ـا الـراوي ليرسـ َل مـن خلالهـا رسـالته الفنيـة بـكل خصوصياتـ ِه كنحـا ٍت وفنان تشـكيلي َ الإنسـانية تجربتـه الشـخصية خلالهـا مـن أيضـا أرسـ َل كمـا تمـزه، الـي مدرسـته له الحقيقيـة في مجتمـ ٍع يقمـ ُع الفكـر ويغتـا ُل الحريـات ،ويسـتبد بالإنسـان ،كمـا أضـاف إليهـا تجربتـه في الاغـراب. شـخصية (حمـزة الحمـداني) مدروسـة بدقـة ومحـدد لهـا مسـارها مـن خـال نضـج الــرد المترافــق مــع وقــع الأحــداث والمونولــوج الداخــي ،أمــا الشــخصية الرئيســية الثانيـة هي (سـيد) مـدرس اللغـ ِة الإنجليزيـة السـوداني الذي عاش تجربتـه الفاشـلة في لنـدن وهـو ابـن المجتمـع الـرقي المحافـظ بتقاليـده الإسـامية الاجتماعيـة ،تلاعبـت بمشــاعره امــرأة غربيــة اســتغلت بــراءة طينتــه وصفــاء نفســه فدمرتــه حــى أصبــح ًَ خليطـا مـن انكسـار ونهـوض ،لكنـه جبـار بإرادتـه تمامـا (كحمـزة الحمـداني) كمـا أنـه يحمـ ُل ثقافـة تليـق بطموحـات الـراوي ،ويمتلـك شـخصية ذات حضـور أبـوي جميـل منـح (حمـزة) الكثـر مـن مشـاعر أبويـ ٍة افتقدهـا بسـبب الغربـة ،ممـا حقـق للكاتـب أهدافـه بتنظيـم حـوا ٍر وسر ٍد ومونولـو ٍج داخـ ّي رائـع ،تمـز بتناغـ ِم الثقافتـن العربيـة الأسـيوية والعربيـة الأفريقيـة ،وتناغـ ِم المشـاع ِر الـي أ ّججهـا الاغـراب والحنـن ،فتألق الحـوار بـن الشـخصيتين بمخزونـ ِه الثقـافي الوجـداني ،وعمـ ِق تأثـره النفـي ،بلغـ ٍة اتحاد الكتاب والأدباء السوريين الأحرار 111 مجلة ورق | العدد الثاني -نيسان ٢٠٢١م
بليغـ ٍة جاذبـ ٍة للقـارئ ،فيهـا الكثـر مـن الفلاشـات والمنولوجـات الوجدانيـة ،فنجـح ََ نجاحـا كبـرا في إثـارة عنـر التشـويق بمهارتـه الـي تجلـت في حسـن تحكمـ ِه بـإدارةِ خيـوط الروايـة ،وتحريكهـا بانسـجا ٍم وتناغـ ٍم وتماسـ ٍك . َ وهكــذا كان اختيــاره لبــاقي الشــخصيات الــي كانــت منســجمة بصفاتهــا شــكلا ََ ومضمونـا وثقافـة وأخلاقـا مـع الحـدث و الحبكـة ،وظـف أدوارهـا بمـا يخـدم فكـرة النـ ِص وغاياتـه الأخلاقيـة ،كـذكا ِء زوجـة (سـيد) وقـوة شـخصيتها الـي تمكنـت مـن احتضـان انكسـارات (زوجهـا) فهـو شـخصية معقـدة صنعتهـا ظـروف غـر عاديـة مـن الصعـب أن تحتويـه امـرأة سـاذجة ،و ّظفهـا الكاتـ ُب منـذ بدايـ ِة الحـد ِث وهي طفلـة لتصبـح سـيدة الحبكـة النهائيـة للروايـة بقرارهـا الحاسـم بحـرق الميـدوزا (اللحـاف) شـ ّدني تمكـن الكاتـب مـن دخـول عالـم القـارئ النفـي ،وهـذا الإنجـاز يحسـب لصالــح النــص ،ومحصــ ُت في أدواتــه الــي اســتخدمها فلاحظــت عنايتــه بوصــف شـخصياته بدقـة شـكلاً ومضمونـاً ،فجذبـي نحـو شـخصية سـيد مـن خـال قـراءتي للمقطـع الأول في الروايـة ،كان يؤكـ ُد بمهارتـه أن الشـخصيات تتشـ ُل بالـرورة عـر مقومـا ٍت نفسـي ٍة عاطفيـ ٍة تخـر ُق سـياق الروايـة و ترافقهـا منـذ البدايـة حـى النهايـة، فـان لا بـد مـن طـرح تفاصيـل جسـمانية ترسـم الانطبـاع العـام حـول الشـخصية َ المـراد توطينهـا في النـص ،وقـد جعـ َل شـخصية سـيد غريبـة الأطـوا ِر ،غامضـة أحيانـا بهـدف تحريـك كل عنـاصر الروايـة وتحريـض عنـر التشـويق بذكائـه اللغـوي بالوصـ ِف المخـز ِل والبليـغ المحـرض للخيـال. فلنلحــظ هــذا الوصــف لشــخصية (ســيد) ((فاجــأني بســمرته الغامقــة وبيــاض أسـنانه المتراصعـة حـن دفـع بـاب الحجـرة ودخـل ،بريـق عينيـه أرغمـي على رفـع رأسي مجلة ورق | العدد الثاني -نيسان ٢٠٢١م 112اتحاد الكتاب والأدباء السوريين الأحرار
لأتأمــل وجهــه المنحــوت بعنايــة إلاهيــة لا تــرقى إليهــا يــد مخلــوق ،مــا كان لأحــد أن يتجـاوز طـوله الفـارع وضخامـة جسـده كمـارد ُقـ َّد مـن ليـل ،فلـولا انحنـاءة خفيفـة مـن رأسـه لاصطدمـت عمامتـه بسـقف البـاب)). لوحـة تشـكيلية رسـمها الكاتـب بالوصـف والتشـبيه والاسـتعارة تجسـد ْت كألـوا ِن الريشـ ِة وكأني أمـا َم لوحـة زيتيـ ٍة . تعـددت اللوحـات في الروايـة بصبغـة كاريكاتيريـة سـاخرة مثـا شـخصية الشـيخ للــر َ بســخرية أخلاقيــة رســائل يرســ ُل وهــو الديانــة مــادة مــدرس (عبــدو) رافضــا والانتهازي ـة. تقنيــة الــرد اعتمــدت على التأثــر النفــي بلغــ ٍة مبهــر ٍة في الوصــف والتشــبيه والاسـتعارة وجميـع أدوات البلاغـة والبيـان كأدوا ٍت فنيـ ٍة توصـل أفـار الـراوي فيشـ ُد المتلـي إلى عوالـم الروايـة و الشـخصيات ،كمـا يجـذب العمـل الفـي متلقيـ ِه وناظـره فيدخــل إلى فكــرة العمــل التشــكيلي ،ويطــو ُر بخيــاله احتمــالات التأويــ ِل والرمزيــ ِة، حـى أني غادرت مـاني ووجدتـي أتجـو ُل في عوالـم الروايـة زر ُت الرقـة ،وتمشـيت على ضفـاف الفـرات ،ورأيـت (الهام ّيـة) الأسـطورة وشـاهد ُت بـاب المغـارة ثـم انتقلـت إلى (حـوث) تجولـت في المعهـد ،اسـتوقفتني غرفـة حمـزة وسـيد وجدرانهـا وزواياهـا والمنضدة والكتـب وال َمرسـم و(الميـدوزا) ذات الأفـاعي المتناثـرة فـوق رأسـها ،كل شيء وصفـه بدقـة تُرسـ ُخ المشـهد بخيـال القـارئ ،شـعرت بمـرارة غربـة البطلـن ودخلـ ُت أحـزان ذلـك المعلـم السـوداني فترسـخت صورتـه في قـرارة نفـي.. شــعرت بأحــزان حمــزة ذاك الطفــل الذي شــهد اعتقــال والده ،وانكســار روح أمــه أمـام ذاك القهـر الإنسـاني المؤلـم ،وهـو يكتـ ُز كل هـذا الألـم لسـنوا ٍت طويلـ ٍة حـى اتحاد الكتاب والأدباء السوريين الأحرار 113 مجلة ورق | العدد الثاني -نيسان ٢٠٢١م
شـاءت الأقـدار أن يلتـي بالمعلـم السـوداني ويضـخ له مـن خـال بـو ٍح عميـ ٍق مؤثـ ٍر كل هـذا الحجـم مـن الحـزن . للأســطورة مســاحة منتظمــة في النــص بــا مبالغــات ،وهي أحــد روافــد الإبــداع الـروائي بتوثيـق ثقافـات الشـعوب ،وطرحهـا بثقافتـن مختلفتـن شرقيـة وغربية فوصف لهـا ليـس ً مفتوحتـان بومـة وعينـا تيـس قرنـا لهـا ((الهام ّيـة الفـرات: أسـطورة دائمـا، أجفـان كعيـون السـمك وصـوت يشـبه صـوت الماعـز ،شـعرها طويـل أسـود تخـرج ليـاً مـن النهـر أوقـات الـرد الشـديد والفيضـان تـأكل الأولاد الذيـن يأتـون للسـباحة في مثـل هـذا الوقـت)) وتنــاول أســطورة الميــدوزا المنبثقــة عــن ثقافــة يونانيــة قديمــة مرتبطــة بالآلهــة، ُ تســد الــراع بــن الخــر والــر ،فكانــت الميــدوزا جميلــة لكنهــا أغضبــت الآلهــة فحولـت شـعرها إلى ثعابـن ،وبمـا أن الأسـاطير توثـق ثقافـات ومعتقـدات الشـعوب لذا منحـ ْت النـص بعـداَ ثقافيـاَ واجتماعيـاَ لصالـح تقييـم الروايـة. أفـ وق احليـخيـثا ألنأ املـار اواليقــةاركتئ،عنرليـاحـف لظغأـونيرواهييـ نةـاللرحخـياـافليأ يُضافكـتـت إبلبىأسخـيلـاولبالمسترلدـ ٍيييفصـسوـرُاحَ تشـكيلية متمـز ًة بمهـارة الكاتـ ِب الذي أضـاف إلى النـص خبراتـه وموهبتـه في النحـت ُ والتشـكيل الـي تتسـب لصالـح تقييـم العمـل الـروائي. لم َ الشـخصيا ُت خدمـ ْت أدوارهـا بدقـ ٍة ،والـر ُد شـيقا بجمـل رشـيقة قصيرة متتاليـ ٍة يعرقـل النـص بالترهـل ،أمـا الحـوار المختـر بلغـة بسـيطة دونمـا تكلـف ورد معظمـه ً باللهجـة العاميـة مقتربـا أكـر نحـو البيئـة المحليـة وهـو أمـر محبـذ في الروايـة . ََ َ الحبكـة المتماسـكة توجتهـا نهايـة مبهـرة ،محققـا ركنـا مهمـا في النهايـة الـي لـم مجلة ورق | العدد الثاني -نيسان ٢٠٢١م 114اتحاد الكتاب والأدباء السوريين الأحرار
تكــن روتينيــة إضافــة إلى تتويــج النهايــة برســائ ٍل ثقافيــ ٍة لهــا دورهــا الاجتمــاعي إضافــة إلى إتقــا ِن بنــاء هيكليــ ِة تنظــم الأحــدا ِث والزمــن. لـن ننـى القيمـة الإنسـانية والأخلاقيـة للنـص ،طـرح قضيـة الاغـراب بـكل انكسـاراتها ،وتطـرق للقهـ ِر السـياس ّي والاجتمـاعي ،وعـرض بعـض المعتقدات الشـعبية الخرافيـة وعالجهـا مـن خـال توصيـل فكرتـه للمتلـي بحتميـة خلـود القيـم النبيلـة في الإيثـار والتضحيـة والوفـاء ،يمكننـا الجـزم بـأن مـن يقـرأ الروايـة سـيعلق في ذهنـه الكثـر مـن أحداثهـا ،بفضـل لغـة الكاتـب المتمكنـة ذات البعـد النفـي العميـق الأثـر اسـتخدمها بمهـارة فنـان تشـكيلي متمـز . اللحــاف عمــل روائي واقــي بامتيــاز أضــاف إلى الأدب الــروائي المعــاصر نصــاَ له تقييمـه الفـي بلغـة تشـكيلية أنجـزت التناغـم بـن الفـن الـروائي والفـن التشـكيلي ودمغــت بصمــة واضحــة في ســاح ِة الأدب الــروائي المعــاصر . اتحاد الكتاب والأدباء السوريين الأحرار 115 مجلة ورق | العدد الثاني -نيسان ٢٠٢١م
إلماعات نقد ّية في مجموعة (ال ّشعب يريد) للقا ّصة جهان سيد عيس ى بقلم ال ّناقد محمد بشير الخلف مق ّدمة: تنـدرج مجموعـة (ال ّشـعب يريـد) للقا ّصـة (جهـان سـ ّيد عيـى) الصـادرة عـن دار موزاييـك 2019م مـن حيـث ال ّتجنيـس الأدب ّي في سـياق الـ ّرد القصـي المصنـف تحـت عنـوان القصـة والق ّصـة القصـرة جـ ّداً ،وقراءتنـا مقصـورة على القصـرة جـداً. الأخــرى، الأدب ّيــة الأجنــاس على ً القصــر الجنــس هــذا عمــر مــن وبال ّرغــم قياســا يكــون أن الكتابــة مــن ّ هــذا ويــكاد ناصيتــه، امتــاك القا ّصــة اســتطاعت اللــون الأقــرب إلى نفســ ّية الكاتبــة باضطرابهــا وقلقهــا وكثافــة ال ّشــحن بأبعــاده المختلفــة، ّ والي تعامـد مـع واقـع شـديد الاضطـراب والقلـق والحركـة ،فكانـت ثلاثيـة متناغمـة منســجمة؛ (واقــع +طبيعــة القا ّصــة +قــ ّص مواكِــب لذبذبــات تفاعــل القاصــة مــع الحــدث بــالآن واللحظــة). البناء الحكائ ّي: اسـتطاعت القا ّصـة مـن خـال توظيفهـا لعنـاصر الق ّصـة القصـرة جـ ّداً مـن حـدث وزمــان ومــان وشــخوص موظفــة في ســياقات ومســارات هــذه الق ّصــص أن تعطينــا مجلة ورق | العدد الثاني -نيسان ٢٠٢١م 116اتحاد الكتاب والأدباء السوريين الأحرار
والإنسـان ّية الاجتماع ّيـة الجوانـب غ ّطـت ّ الحكائ ّيـة، لموضوعاتهـا بانورام ّيـة صـورة والـي والوطن ّيــة ،فقــوس قزحهــا واســع ال ّطيــف والأبعــاد؛ حيــث أنّهــا ببصيرتهــا ال ّنافــذة ـة ومك ّثف ـزة ورام ً أحيان ـاشرة مب ـة بلغ ـا حكاياته تفاصي ـل أد ّق ـل تنق أن ـتطاعت اس ـا، فيهـا: القا ّصـة تقـول الـي أدوار) (تبـادل ق ّصـة لذلـك مثـاً أخذنـا ولـو أخـرى، ً أحيانـا (لـم يـو ّزع الأب العيديّـة على أطفـاله في هـذا العيـد كعادتـه ،بـل هـم ..مـن و ّزعـوا ...عيـد.)!!.. وهدايـا حلـوى مـن ً ال ّصبـاح في عليـه أشـاءهم قطعـا بنـاء حكاياتهـا يماثـل بنـاء ال ّطيـور الوادعـة لأعشاشـها ،أمكنتهـا مختلفـة ،وأزمنتهـا ال ّطيـور تباغتهـا ـبب س لأ ّي ـدري ت لا ً ً ـون مختلف وشـخوصها مختلفـة، وأحجامـا، ألوانـا الجارحـة غفلــة منهــا ،فتتركهــا للأحــزان ،والبحـث عــن أماكــن أكــر أمانــاً ،فهــذه ق ّصـة (ثلاثـة وحـوش): مــ ّرة َحلُــم ببيــت مفتــوح ال ّشــبابيك ،وعصفــورة تغــ ّي ك ّل صبــاح، ّ ونافـورة مـاء ...فجـأة وجـد ثلاثـة وحـوش يدقـون عليـه بـاب الحلـم... دفعـوا بأقدامهـم بوابـة رأسـه ،ودخلـوا بأحذيتهـم العسـكر ّية ،داسـوا في طريقهــم على كثــر مــن الأفــار والأحــام ،بعضهــا كان مــازال براعــم صغــرة َف ُســ ِح َقت ،وبعضهــا كان في طريــق الاكتمــال ،أكملــوا طريقهــم ّ ك ّبلــوا ال ّصــدئ، الفــولاذ ّي قيدهــم معصميــه على وضعــوا الحلــم باتــاه مرم ًّيــا حل ًمــا كان ـل ّ انتصــف وعندمــا ... ومضــوا بالحديــد، قدميــه اللي ّ على قارعـة طريـق ،على ظهـره أثـر سـياط ،ومـن جوفـه تتـدل عصفـورة مخنوقــة ،وبقايــا بيــت مكــ ّر ال ّشــبابيك ،ونافــورة تــزف دمــاء دمــاء... اتحاد الكتاب والأدباء السوريين الأحرار 117 مجلة ورق | العدد الثاني -نيسان ٢٠٢١م
هربـت ّ المخ ّيمـات، حـول الـراري طيـور بأعشـاش ال ّضـواري هـذه تلحـق وقـد الـي مــن أشــجار المــدن إلى حيــث الفضــاء ال ّرحــب ،وال ّنجــاة مــن ال ّصخــب وغــدر تلــك ال ّضـواري ،تقـول في ق ّصـة (نـزوح): تشـ ّبث ْت بهـم ...حاولـ ْت ال ّذهـاب معهـم ،لكـ ّن البـاص لـم يتّسـع لهـا، كان مزدح ًمـا بـك ّل أولئـك الهاربـن مـن ال ّذبـح المحقـق لهـم إن هـم بقـوا في المدينـة فقـط لارتكابهـم جريمـة المطالبـة برحيـل ال ّرئيـس ...نهروهـا ودمـوع حرقـة تشـتعل في مآقيهـم ...انتزعـوا أرجلهـم مـن بـن أصابعهـا المتشـ ّبثة بهـم ،وانطلقـوا مسرعـن ...وحـن وصولهـم وجـدوا آثـار طـن ـاش قم ـة قطع في ـوه جمع ـن، ال ّط ـوا فرك ـم... بناطله ّ ح على ـا أصابعه ـواف ق ّصوهــا مــن قميــص طفــل مــات معهــم في الطريــق جــو ًع وبــر ًدا ،ثــ ّم كتبـوا عليهـا بقايـا وطـن... إرادتـه، يكـر كي ال ّشـعب على بإنـزاله النّظـام تفـ ّن ّ الإجـرام ك ّل مـن وبال ّرغـم الي قوى مـن له ّ مـا بـك ّل ال ّسـور ّي لل ّشـعب النّظام تحـ ّدي خـال مـن جل ّيـاً ظهـر وقـد توفر ماديّـة وقـوى معنو ّيـة إلاّ أ ّن اسـتجابة ال ّثـوار كانـت بزخـم أكـر بال ّرغـم مـن تضحياتـه ورددوا قبورهـم مـن نهضـوا الشـهداء حـى يـر ّدد ال ّشـعب وبـي ق ّدمهـا، ّ الجسـام الـي (ال ّشـعب يريـد إسـقاط النّظـام). أخرجـوا الجميـع مـن المدينـة ،لـم يُبقـوا فيهـا أحـداً ،حـى العصافـر ـى ح ـه أنّ ـمعوا س ق ـد ـم فه ـات، والحيوان ّ ـاس ال ّن أخرجوه ـا... والمس ـلحين حيواناتهـم تـرخ «الشـعب يريـد إسـقاط ال ّنظـام» ...كـروا أعلامهـم مجلة ورق | العدد الثاني -نيسان ٢٠٢١م 118اتحاد الكتاب والأدباء السوريين الأحرار
الخـراء ،ومسـحوا كل عبـارات الحريـة المكتوبـة على الجـدران ...أربعـة أعـوام وهـم يحلمـون باسـتعادتها ،وهـا هـم اليـوم قـد اسـتعادوها ،وأخرجوا أهلهــا وأحرارهــا منهــا ...رقصــوا وشربــوا وعربــدوا ورفعــوا أعلامهــم المل ّطخـة بالأحمـر ،وعندمـا انتصـف ليلهـم وبلـغ سـكرهم مـداه تو ّزعـوا بيـوت أهـل المدينـة وأس َّرتَهـا ونامـوا ،وعنـد الفجـر اسـتيقظوا على أصـوات تهــدر في الشــوارع «ال ّشــعب يريــد إســقاط ال ّنظــام» ...ظ ّنــوا ال ّصــوت ال ّصــوت لكــ ّن نومهــم، وأكملــوا عيونهــم عركــوا ً بــل ً كابوســا... حلمــا، صــار أقــوى ...فزعــوا ووثبــوا مــن أس ّرتهــم المسروقــة ...فتحــوا الأبــواب فـإذا ال ّشـوارع تغـ ّص بجثـث ال ّشـهداء ،قـد خرجـوا مـن قبورهـم وملـؤوا ال ّشـوارع وهـم يهتفـون « ...ال ّشـعب يريـد إسـقاط النّظـام ...ال ّشـعب يريد إسـقاط ال ّنظـام». تقنيات الق ّص : يــكاد التّكثيــف أن يكــون المــزة الأشــهر ،والأكــر اتّفاقــاً عليهــا بعــن ال ّن ّقــاد فل ـو الخاص ّيـة، ـذه له القا ّصـة ـاك امت ً كان وكذل ـك ـ ّداً، ج ـرة القص ـة الق ّص في واضح ـا 85 عددهـا لوجدنـا دون، فمـا صفحـة النّصـف تتجـاوز لـم ّ القصـص مثـاً أخذنـا الـي ق ّصـة مـن أصـل 125ق ّصـة ،أي أكـر مـن ال ّثلثـن. ولا أعـي أ ّن القصـص الباقيـة ليـس فيهـا تكثيـف ،وإنّمـا أرد ُت هنـا أ ّن القا ّصـة لهـا إمكان ّياتهـا الإبداع ّيـة ،وخبرتهـا في تكثيـف النّـ ّص بأبلـغ احتياجاتـه ،فهـو رسـالة مـن تسـتدعي فـي والإشـارات، بال ّرمـوز المكتـز ال ّلغـو ّي بال ّشـحن زاخـرة ّ إلى الملـي المتلـي، اتحاد الكتاب والأدباء السوريين الأحرار 119 مجلة ورق | العدد الثاني -نيسان ٢٠٢١م
ذلـك ـال مث القصـرة، ال ّرسـائل هـذه ـفرة ش ـ ّك ف على القـدرة لديـه مث ّقفـاً ً ً أيض قارئـا ـا فيهـا: جـاء ّ (حصـان)، وق ّصـة (دمعـة)، ق ّصـة مـن الـي امتطى نخوته ومضى ...وعندما أصيب حصانه سقط. ـة القا ّص ـة الأديب ـد عن ـ ّص الق ـات جمالي ـا عليه اتـ ّكأت ـي ّ ال ّثانيـة ـة التّقني ـا أ ّم ال (جهــان) ،فــي المفا َرقــة؛ وهي ســمة جمال ّيــة يســتعين بهــا القــا ّص ليضــي جمال ّيــة على الق ّصــة، نهايــة أو القفلــة إلى ّ بحبــال القــا ّص إمســاك على تقــوم فــي ق ّصتــه، المتلــي وتكـون على عكـس مـا رسـم القـا ّص ،أو بـأد ّق مـن ذلـك؛ مـا أوهـم القـا ّص القـارئ بـأ ّن نهايـة الق ّصـة سـوف تكـون هكـذا ،وإذ بهـا فجـأة تكـون غـر ذلـك ،وهنـا يحقق ّّ ّ الإدهـاش ،والغرابـة لدى المتلـي ،الي يحـس بجمـال لـم يكـن يتوقعـه ،وقـد أجـادت القا ّصــة (جهــان) بهــذه ال ّســمة ،ومثــال ذلــك قصــص كثــرة مثــل (دفء ،انتقــام، كـولاج ،رأس ،أناقـة مـوت). وتقول في ق ّصة (أناقة موت): ك ّل مـن ـق ّ ودمـاء تـن... ـال وأطف رؤوس ـا وبقاي وحجـارة ـار غب تتدف مــان ...رمــاد حرائـق وبــكاء ...دخــان تــ ّزه ،جثــ ٌث ن ُ ِســ َفت مدافنهــا، فتناثــر منهــا المــوت ...صراخ وعويــل ،طفــل يحــاول الهــرب ،فتغــوص أقدامـه في لزوجـة ج ّثـة ...كان ذلـك كفيـاً أن يلـ ّوث يديـه الغارقـة في تفاصيـل المـوت ،لولـم يكـن المـوت أمامـه سـوى لوحـات مصـ ّورة يرتّبهـا بأناقـة على جـدار ال ّصالـة ال ّذهـ ّي اسـتعداداً لمعـرض اليـوم. مجلة ورق | العدد الثاني -نيسان ٢٠٢١م 120اتحاد الكتاب والأدباء السوريين الأحرار
وفي ق ّصــة (معركــة) تتو ّضــح أكــر ،إلى جانــب ال ّســخرية فيهــا تقنيــات القــ ّص الأخـرى الـي نجدهـا مبثوثـة في ثنايـا القصـص مـن ال ّشـعر ّية إلى التّضمـن إلى البلاغـة، الإطالة وخشـية القا ّصـة، عنـد القـ ّص جمال ّيـات مـن زادت ّ والإضمـار، والاختصـار، الـي ً ألمحنـا إليهـا إلماحـا. إضافية مـزة تعتـر ّ الكاتبـة، قصـص مـن والإملائ ّيـة ال ّنحو ّيـة الأخطـاء نـدرت والـي (ملؤوا)، لفظـة هـو إليه نشـر ّ الوحيـد والخطـأ القـ ّص، لأسـاليب إتقانهـا معايـر في الي وال ّصحيـح أن تُك َتـب بهـذا ال ّشـل (ملأوا). الخاتمة : صحيــح أ ّن مجموعــة (ال ّشــعب يريــد) هي باكــورة مــداد القا ّصــة (جهــان ســ ّيد عيـى) ،غـر أنّهـا مجموعـة امتلكـت ك ّل عنـاصر القـ ّص وتقنياتـه بفن ّيـة عاليـة ،تنبـئ عــن موهبــة وخــرة ثــ ّرة ،وعواطــف شــعور ّية ناضجــة تنســاب في أوصــال شــخوص بينه ـم ـل تفص ـن اللذي الأش ـخاص ـس ولي ـداث، بالأح ـوم تق ـي ّ هي ـا وكأنّه قصصه ـا، ال مسـاحات الواقـع ،ويجمـع بينهـا وبينهـم ال ّصـدق والإخـاص في بنـاء النّـ ّص المعجـون اللّغـو ّي. ال ّنـ ّص وهي ال ّدنيـا ـ ّص ن ـم ُه ـة، ّ المتح ّرقـة ـا وروحه وأعصابهـا، ـا، بدمه والمتوثب اتحاد الكتاب والأدباء السوريين الأحرار 121 مجلة ورق | العدد الثاني -نيسان ٢٠٢١م
ال ُبعد الاجتماعي في رواية (هنا ترقد الغاوية) للروائي اللبناني محمد إقبال حرب بقلم الروائي محمد فتحي المقداد مدخل: الـ ّراع ِسـم ُة الوجـود الإنسـان ّي في هـذا الكـون منـذ بـدء الخليقـة ،وتتشـابه حالاتـه ال ّرغبــات.. ّ الحيــاة حركــة دوافــع والمــان. ال ّزمــان بفــارق ُمعطياتــه مــن كثــر في ولت الأحاســيس ..الآمــال ..الأحــام ..الدمــوع ..الأحــزان ،ولــم تــزل راســخة ســاكنة في واقــع ال ُمجتمعـات البشر ّيـة؛ منـذ جيلهـا الأ ّول بـن هابيـل وقابيـل أبنـاء سـيدنا آدم عليه ال ّسـام. روايـة (هنـا ترقـد الغاويـة) تُعتـر ببنيتهـا ال ّسديّـة قـد أخـذت المسـار الاجتمـاع ّي ال ُمـو ّش ببعـض التلميحـات السياسـ ّية ،وهـذا لا بـ ّد منـه لتكامل ّيـة أ ّي عمـل روائ ّي مهمـا كان ،أثنــاء ُمتابعــي لأحداثهــا قــراءة؛ ظننــ ُت نفــي أمــام (نجيــب محفــوظ) و(عبــد السـام العجيـي) ،وهمـا مـن سـادة المدرسـة الواقع ّيـة الاجتماع ّيـة. العنوان: جـاء العنـوان بكلماتـه الثـاث بأبعادهـا الدلال ّيـة؛ لتأكيـد القضايـا الـي عالجتهـا روايـة (هنـا ترقـد الغاويـة). مجلة ورق | العدد الثاني -نيسان ٢٠٢١م 122اتحاد الكتاب والأدباء السوريين الأحرار
(-هنـا) وهي اسـم إشـارة دا ّل على المـان القريـب ال ُمشـاهد؛ ال ُمؤ ّكـد بواقـع تلتمسـه الأحاسـيس ،وهـو لخطـاب آخـر يُعايـن ببـره ،ويسـتمع بأذن ْيـه لصـوت القائـل ،مـع ّ اشـتغال الأحاسـيس الـي لا تظهـر تفاعلاتهـا إل بمتابعـة الحديـث. (-ترقــد) كلمــة بصيغــة فعليــة تفيــد الحــاضر والاســتمرار أي الفعــل ال ُمضــارع. فيــه. أو بــه ً يُنتــ ُج حــدث، ضمــن فاعــل مــن له بُــ ّد لا والفعــل مفعــول ومــن نــام رقــد في فراشــه ،ومــن اســتلقى تحــت شــجرة أو في غرفــة أو إلى حا ّفــة ال ّرصيـف ،أو في أ ّي مـان لأخـذ قسـط مـن ال ّراحـة ،لـن يكتمـل المعـى ال ُمـراد مـن ّ كلمــة (ترقــد) في العنــوان إل بانضمــام الكلمــة الثالثــة لهــا ،لتشــكيل مفهــوم يتكامــل معنــاه في ذهــن ال ُمتلــ ّي ســل ًبا وإيجابًــا. ّ فقـد الشـيطان أغـواه فمـن وغاوي؛ (غـوى) ثُلاث ّيهـا إلى بالرجـوع (-الغاويـة) أضلـه، ور ّبمـا يُمعـن في متاهـات الضـال .وبالتحـ ّري ال ُمعجـ ّي لاسـتجلاء د ّقـة المعـى ال ُمـراد و ِغوايـ ًة، و َغ َوايـ ًة َغ ًّيـا ْ يَغـ ِوي، (غـ َوى الروايـة: عنـوان في الكلمـة هـذه توظيـف مـن اغـ ِو، فهـو غا ٍو ،و َغـ ِو ّي ،و َغ ّيـا ُن والجمـعُ :غـ َوا ٌة ،وغا ُوون ،وهي غاويـ ٌة والجمع :غاويـا ٌت والمفعول َم ْغـ ِو ّي – لل ُم َتعـ ِّدي). بالغـوص في دروب اسـتطرادات المعـاني ال ُمتـو ّلة تت ّضـح الصـورة ببهـاء ،كمـا اشـتهى وأراد الـروائ ّي (محمـد إقبـال حـرب) بإيـراد بعـض الأمثلـة[ :ال َّشـا ُّبَ :أ ْم َعـ َن ِف ال َّضـاَل َْ َأ َضلَّـ ُه، ـن ع ح ـاد َغـ َوى: ـ َرا ُه، أغ ـ ْي َطا ُن: ال َّش ـ َوا ُه َغ َغـ َوى)، ـا َو َم ـ ْم َصا ِح ُب ُك َضـ َّل ـا ( َم َأكـ َ َر ُ و َف َسـ َد ا َّ َتـم حـى ـاع ال َّرض مـن الرضيـ ُع: َغـ َوى ـواه، ه إلى ومـال ال َحـ ّق جوفـه[.. وبالتوفيـق بـن الكلمـات الثـاث؛ بـإعادة التركيـب بعـد التفكيـك اللغـو ّي الدلال ّي، يبـدو العنـوان (هنـا ترقـد الغاويـة) يفتـح فضـاء العتبـة الروائ ّيـة ،لتت ّسـع رؤيـة القارئ اتحاد الكتاب والأدباء السوريين الأحرار 123 مجلة ورق | العدد الثاني -نيسان ٢٠٢١م
بإثــارة التســاؤلات ،في محاولــة مبدئ ّيــة لتفســر أبعــاد العنــوان ،مــن خــال التأويــل برسـم صـورة ُمتخيلـ ّة لمـا وراءه. أ ّمـا وقـد أخـذ العنـوان ال ّرئيـس للروايـة ،أحـد العناويـن الداخليـة في الروايـة .لتـأتي الإجابـة الشـافية الكافيـة على لسـان (صابريـن) بطلـة الروايـة الـي دارت عليهـا محـاور الحـدث الـرد ّي حـ ّى نهايـة الروايـة ،ومـن أولى صفحاتهـا ،وبعدما قالـت بفصيـح العبارة ضريـي على النـاس ف ُيكتـب أمـو َت؛ أن (أخـاف والتأويـل: للتخمـن ً لنـا تـرك لـم مجـال هنـا ترقـ ُد الغاويـة ،غاويـ ٌة ُتيـ ُك ِغ ّيهـا كالأرملـة ال ّسـوداء .لا بـل سـيكتبون «هنـا ترقـد ال ّزانيـة» نعـم ..لـن يكتبهـا شـخص واحـد ..بـل كلهـم سـيكتبون معـه بإفكهـم :هنـا ترقد الزانيـة) ص .١٢٥و(زانيـة شريفـة يـا لحكمـة الأقـدار !!..شريفـ ٌة تو ِصـ ُم وجودهـا بعـا ٍر لـم ترتكبـه ،ت ًّبـا لعهـ ٍد أصبحـت فيـه الشريفـة ركـن مهانـة )!..ص.١٢٦ المنظومـة الاجتماع ّيـة ذات المفاهيـم ال ّراسـخة بسـيطرتها لا تتزحـزح قيـد أنملـة في أذهـان الأفـراد ،وت ُشـ ّل بأناهـا الأعلى تابُو ًهـا ُمق ّد ًسـا ممنـوع الاقتراب منـه أبـ ًدا .ويُنافس ً الاجتمـاع ّي ال ُعـرف وصـرورة منهـا. ال ِق َيـم الدينيـة الحقيقيـة ،ويطمـس الكثـر بديـا لل َهـ ْدي السـماو ّي. الشخصيات الروائية: الحـدث الـروائ ّي امتـ ّدت مسـاحته مـا بـن مـر في الـرق الأوسـط ،والولايـات الم ّتحـدة الأمريك ّيـة ،لكـن مرتكـز الأمـر قـام على عـدد محـدود مـن الشـخص ّيات الـي اِنْبَـى عليهـا العمـل بأكملـه. وفي ك ّل عمـل هنـاك الشـخص ّيات ال ّرئيسـة والثانو ّيـة ،وكثـر مـن الأعمـال الروائ ّيـة مجلة ورق | العدد الثاني -نيسان ٢٠٢١م 124اتحاد الكتاب والأدباء السوريين الأحرار
قامـت تراتب ّياتهـا على البطـل الأوحـد .بينمـا في روايـة (هنـا ترقـد الغاويـة) قامـت على تقاسـم تشـاركي للبطولـة. عائلــة (تامــر) وأختــه (صابريــن) وفيمــا بعــد جــاء دور ابنتــه (هنــادي) .وجــاء دور (آدم – غسـان) و(حـوده) رغـم أنّـه شرارة انطـاق ق ّصـة المأسـاة عندمـا اغتصـب صابريــن في مــر فقــد كان دوره مغمــو ًرا ،وكأنــ ّه ُمكمــل للحــدث .هــؤلاء بــدأ بهــم الحــدث في مــر ،وانتقلــوا لظروفهــم إلى أمريــكا ،ليمتــ ّد إكمــال حيث ّياتــه هنــاك. (د .جـون) الطبيـب النفـي المعالـج لصابريـن ،وتابعهـا حـى مرحلـة شـفائها ،و(د. منصـور) دورهمـا ثانـو ّي للـرورة القصص ّيـة .حيـث أن د .منصـور جـاء في الأخـر؛ لإضفـاء صيغـة رؤيـة ابتكرهـا د .جـون. سردية الرواية: منـذ أيـام (رفاعـة الطهطـاوي) في منتصـف القـرن الثامـن عـر ،عندمـا ظهـر كتابـه (المرشـد الأمـن في تربيـة البنـات والبنـن) ،ومـازال موضـوع تحريـر المـرأة يأخـذ أبعــا ًدا مختلفــة .الروايــة رصــدت جــز ًءا مــن تعالقــات الحيــاة الاجتماع ّيــة في الــ ّرق ال ُمحافــظ ،وتشــابكات طبيعــة العلاقــات القائمــة في مجتمعــات شرق ّيــة تتشــابه في الكثـر منهـا ،وتختلـف أي ًضـا في الكثـر الآخـر. العــادات والتقاليــد راســخة في يوميــات النّــاس؛ فأصبحــت قانونًــا ُمق ّد ًســا ،لا يمكـن اختراقـه بالخـروج عليـه ،لأ ّن المنظومـة ُم َّتفقـة على ذلـكُ ،متكافلـة ُمتضامنـة في ال ِا ْسـتحذاء ُخضـو ًع للأقـوى .مـن هنـا تظهـر أن قـ ّوة الأقويـاء مـن ضعـف الضعفـاء. والأقويـاء يفرضـون شروطهـم بالقـ ّوة والإكـراه. اتحاد الكتاب والأدباء السوريين الأحرار 125 مجلة ورق | العدد الثاني -نيسان ٢٠٢١م
وقضايا الشرف تُعتبر ق ّمة التعاطي مع أ ّي أمر باختراقها على أنه جريمة لا تُغ َت َفر. فالنسـاء حـرم ُمقـ ّدس كالعبـادة ،وال ِعـ ْرض رديـف الأرض في المفهـوم العـا ّم تُـراق مـن أجلـه ال ّدمـاء أنهـا ًرا إذا مـا ان ُت ِهـك .وجرائـم الاغتصـاب مـن هـذا الصنـف مـن الجرائـم، فـي الأعـراف العشـائرية :تُقتـل المجـي عليهـا ،ويُم ّجـد الجـاني بمـا اقترفـت يـداه. مـع أن ال ّشيعـة ُتـ ّرم الفاعـل والمفعـول بـه ك ٌّل حسـب العقوبـة المنصـوص عليهـا. كمـا أن القوانـن القائمـة على قاعـدة الأحـوال الشـخص ّية والمدن ّيـة؛ ُتـ ّرم القائـم بالفعـل في حـالات الاغتصـاب القـر ِّي في حـال الا ّدعاء مـن المجـي عليـه. -كيفيـة سرد الروايـة جـاءت على محمـل الذكريـات الموجعـة في بـاد الاغتراب ،بعـد مغادرة الوطــن ،لل ِّدراســة ولتحســن الظــروف المعاشــ ّيةَ ،كــ ْون الــرق يــود لــو كان باســتطاعته الارتحــال إلى الغــرب؛ فقــد ورد( :اختلــط الواقــع بالخيــال ،الذكــرى بالصــورة ،والصــورة بالدمـوع) ص .١٨و(ارتطـم الطفـل في داخلـه بمـدار الذكـرى ُمتر ّنًـا ،وسـقط) ص.١٩ منـذ البدايـة أفصحـ ْت محامـل الروايـة عـن نفسـها ،حيـث أ ّن مسـاحات الذكريـات للحـدث في حـ ّز مـاني ُمـ َّدد ،تفتـح آفا ًقـا واسـعة متأن ّيـة بـوعي لتقييـم الأمـر ،وتقليبه على ضـوء التفكير الهـادئ وال َّسـليم. -قضايـا الفقـر نتيجـة الفسـاد ،والدكتاتور ّيـات العسـكرية عندمـا أحالـت الحيـاة جحي ًمـا .تتعـالى تواث ًبـا أشـواق الهجـرة ال َّدائمـة مـن الأوطـان العاجـزة عـن تقديـم ال ّرفـاه للهجـرة، وجهـد قُـ َّوة مـن أوتـوا مـا بـك ِّل سـاعين َّ يفتـؤون لا الذيـن لأبنائهـا يتطلعـون للعمـل في َجـ ْ َي ال ُّصحـون في المطاعـم الأجنب ّيـة .والبطـل غ ّسـان ،وفيمـا بعـد هجرتـه لأمريـكا تسـ ّى بـآدم( :تأر ّجـح بـن ِم َن ّصـة المـاضي والحـاضر ،حـاول الوقـوف ثانيـة؛ ليــؤ ّدي دو ًرا جديــ ًدا .دونمــا يــأس أو شــكوى ُمكابــ ًدا الفشــل ،حــ ّى نجــح في مســعاه، مجلة ورق | العدد الثاني -نيسان ٢٠٢١م 126اتحاد الكتاب والأدباء السوريين الأحرار
ووقــف بشــموخ) ص ،٢٠و(ســى لمزيــد مــن النَّجــاح في ُمه َّمــة صعبــة ،أقــى آمالهــا الوصــول) ص.٢٠ فعـا أقـى الأمنيـات الوصـول إلى حافـة حيـاة كريمـة ،تليـق بالإنسـان هنـاك أش ـعاره ـب كت الخلي ـج. في ـش يعي كان ـان ُّي ُّ ـاعر ال َّش ـك ذل وآدم الاغ ـراب. ـاد ب في اللبن في محبوبتـه ،وبقيـت ط ّي دفاتـره وأوراقـه ،بعـد هجرتـه عاد إلى ذكريـات تُداعـب قلبـه ّ وفكـره ،ولـم يكـن يخطـر ببـاله أن يلتـي بمحبوبتـه ثانيـة .هنـاك افترقـا ..وكان اللقـاء َر َمــق في َّ جــاء أجلهــا، مــن ُكتِ َبــت الــي الأشــعار صاحبــة صابريــن، مــع هنــا اللقــاء حياتـه الأخـر ،بعـد ذهـاب ال َّشـباب ول ّذتـه. -حـد ُس الأنـى غالبًـا لا يخيـب؛ فقـد تـر َّدد تهديـد (حـودة) بالعـودة لاغتصابهـا مـن جديـد ،وقتلهـا ،رغـم تباعـد ال َّزمـان والمـان بينهمـا .صابريـن أصيبـت بحالـة عصب ّيـة مـن الضغـط النفـي مـن التَّخييـات ،والعـذاب النفـي ممـا تعر ّضـت له مـن اغتصاب، نظـرة المجتمـع القاتلـة لهـا ،وتأنيـب الضمـر ،ومـا بـن صـوت العقـل ..ونظـرة أخيهـا تامـر في الانتقـام لتبييـض شرف العائلـة ،ومحـو العـار ،أصيبـت بحالـة هـوس اكتئـاب ٍّي أ َّدت بهـا إلى مزيـد مـن الهلوسـات والفـزع ،واختـال نظامهـا الحيـات ِّي ،إلى أن نُ ِقلَـت إلى َمص َّحـة نفسـية بعـد حـادث أليـم قـى على أخيهـا تامـر. ومـا منعـه مـن قتلهـا ،والانتقـام لشرفـه المزعـوم منهـا :هـو رغبتـه بالحصـول على الجنسـ ّية الأمريك ّيـة. -موضــوع الروايــة الأســاس ِّي والأبــرز ،قض ّيــة جرائــم الــ َّرف في الــرق عمو ًمــا، البنـت صابريـن تع ّرضـت لحـادث اغتصـاب في بيـت ع ّمهـا؛ أثنـاء إقامتها معهـم لظروف ال ِّدراسـة في المدينـة ،عندمـا ق ِدمـت مـن القريـة. اتحاد الكتاب والأدباء السوريين الأحرار 127 مجلة ورق | العدد الثاني -نيسان ٢٠٢١م
ممـن الأيتـام، رعايـة دور جـ ًدا، ُم ِهـ ٍّم اجتمـاع ِّي موضـوع على الضـوء َّ -الروايـة سـلطت الانحـراف التربيـة، وأسـس ال ّنسـب، ومجهـولي ال ّسـفاح، وأبنـاء وأمهاتهـم، آبائهـم َ فقـدوا إلى الإجـرام ،وربـط ذلـك مـع الفقـر. ومثـال ذلـك الصـي (حـودة) ،الذي جلبـه عـ ُّم صابريـن مـن دار الرعايـة وتب َّنـاه، بقصـد أن يُر ِّبيـه ،ويعمـل معـه في مهنتـه. -تفاعـات الحـدث جـرت في مـر ،والظـروف عمو ًمـا هنـاك لا تسـمح بالحديـث والنقـاش ،والإصغـاء لصـوت العقـل؛ فـان ذلـك على أرض أمريك ّيـة في مدنهـا وقُراهـا ومنتجعاتهـا ومقاهيهـا. -هنـادي ابنـة تامـر أخ صابريـن ،جـاء حـ ّل عقـدة الروايـة ،وتفسـر الحـدث على يديْهــا .مــوت أبيهــا ســاهم في حلحلــة المشــلة القائمــة ،وكانــت هي مفتــاح مســاعدة ع َّمتهـا صابريـن .لقاؤهـا بـآدم كان السـبب في لقـاء بعيـد المنـال لآدم مـع حبيبتـه الـي مـا برحـت خيـاله ،وكان لقـاء ال ّسـحاب. -لقــاء الأح ّبــة ..مــوت (حــودة) بعــد محاولتــه القــذرة ثانيــة باغتصــاب صابريــن، ودخـول العجـوز آدم المفـاجئ؛ فأنقـذ الجميـع؛ ليـورق الحـ ُّب مـن جديـد في قلوبهـم، وال َّدهشــة ال َّصادمــة لهنــادي ،ولقــاء د .جــون .ود .منصــور ،وزيارتهمــا المشــركة إلى صابريـن للاطمئنـان عليهـا .كانـت آخـر فصـول روايـة (هنـا ترقـد الغاويـة) .وأهميـة ال ِّروايــة كونهــا لــم تســتطرد ُخرو ًجــا عــن فكــرة الانتقــام للــ َّرف ،وقضايــا القتــل تبيي ًضــا للعــرض (جرائــم الــرف) .و ًقــ َّوة قانــون ال ُعــرف العشــائر ِّي. ( -أخـ ًرا ركعـت هنـادي على قدم ْيهـا ،ونظـرت إليـه قائلـة« :يُمكنـ َك تقبيـل العروس ً رأسـه تهـادى كلماتهـا. س ّر أدركـت خلايـاهُ أ ّن رغـم (آدم) غسـان يرهـا لـم الآن.. ثقيـا مجلة ورق | العدد الثاني -نيسان ٢٠٢١م 128اتحاد الكتاب والأدباء السوريين الأحرار
في حضـن قصائـد صابريـن ال ُمتد ّلـة مـن شـعرها الكسـتنائ ّي ،فيمـا أناملهـا البيضـاء تُغلـق جفن ْيـه ،بينمـا يركـ ُب قطـار المـوت).ص.٢١٨ نهايـة تراجيديَّـة :عاش طيلـة حياتـه على أمـل لقـاء جديـد مـع صابريـن ،لـم يحصـل الأخـرة. صورتهـا ت َ ْسـ َتملي بنظـرات أنفاسـه، آخـر خـروج مـع ال ّرمـق في ّ إل الخاتمة: لا شــ ّك لل ُمتابــع للأعمــال الأدب ّيــة الروائ ّيــة؛ فقــد رصــدت مزيجًــا لجوانــب الحيــاة السياسـ ّية والاجتماع ّيـة والاقتصاديّـة .ونحـن بخصـوص رصـد ال ُبعـد الاجتمـاع ِّي لروايـة (هنـا ترقـد الغاويـة) ،وإذا مـا أدرجناهـا في القائمـة الطويلـة للأعمـال الروائ ّيـة العرب ّيـة المشـهورة وخلافهـا ،بإمكاننـا الإشـارة بيقـن تـا ٍّم إلى مصطلـح الأدب الاجتمـاع ِّي ،الذي رصـد بمرآتـه الكاشـفة لل َمخـ ِّي والمسـكوت عنـه ،تحـت دواعي العيـب والفضيحـة وكلام النَّــاس ،والتقــط القــارئ رســالة هــذه الروايــة بيــر وســهولة ،ووضــوح ال ُّرؤيــة لدى الـروائي (محمـد إقبـال حـرب) في التفريـق مـا بـن العـادات والتقاليد والأعـراف الشـعب ّية، ومـا بـن أحـام ال ِّديـن الحنيـف ،وأظهـر بمهـارة واقتـدار الخلـط النَّاجـم عنـد كثـر قِ َيمـه ّ ال ُمتباعـد الإلـ ِّي وبـن وقوانينـه، الشـعب ِّي بـن والمفكريـن ال ُك ّتـاب مـن بكافـة ال َّثابتـة عـن الشـعب ّي ،الذي يميـل في كثـر مـن جوانبـه إلى الغوغائيـة والانتقائ ّيـة. ع ّمان – الأرد ّن 2021/2/١١ اتحاد الكتاب والأدباء السوريين الأحرار 129 مجلة ورق | العدد الثاني -نيسان ٢٠٢١م
ساب ًعا شهداء الثورة مجلة ورق | العدد الثاني -نيسان ٢٠٢١م 130اتحاد الكتاب والأدباء السوريين الأحرار
الشهي ُد الأديب عبد الهادي قاشيط (2013 -1967م) تحرير عبد القادر حمود بــن الــولادةِ والمــو ِت مح َّطــا ٌت كثــر ٌة ،وك ُّل مح َّطــ ٍة لهــا مــا لهــا وعليهــا مــا عليهــا، وسـتذه ُب مح َّطـا ٌت كثـر ٌة إلى ال َعـ َد ِم ،إنَّمـا ث َّمـ َة مح َّطـا ٌت سـ ُي ْك َت ُب لهـا الخلـود ،وفي رحلـ ِة الأديـ ِب ال َّشـهي ِد عبـد الهـادي قاشـيط مح َّطـا ٌت ومح َّطـا ٌت ،ولعلَّـ ُه لـم يكـ ْن يـدري ولـم نكـن نحـ ُن الآخريـ َن نـدري بأنَّهـا ماضيـ ٌة في طريـ ِق الخلـود. ماذا عن الشهيد: (أكتـ ُب كي أكـو َن حيـ ُث الكتابـ ُة في دمي وكينونـي ،فـي البـد ِء كانـ ِت الكلمـ ُة ،أكتـب لأ َّن الكلمـ َة تخيـ ُف ال ُّطغـاة أكـر مـن رصاصـ ٍة ،أكتـ ُب مـن أجـ ِل الحيـاةِ ،الخـ ِر ،الحـ ِّب، يكــو َن ال ِق َيــ ِم ك َّل َيــز ُن َّ كي أكتــ ُب داخلــه، في النَّبيلــ ِة هــذهِ الي والإنســا ِن الجمــا ِل، قالهـا كلمـا ٌت المـو ِت)، ِص ْنـ ُو وتركهـا الحيـاة... ِص ْنـ ُو الكتابـ َة لأ َّن أكتـ ُب ً الإنسـا ُن إنسـانا، فقـد فيـه ً قـا َل لمـا وف َّيـاً كان ولأنَّـ ُه 2008م، عام في قاشـيط الهـادي عبـد الشـهي ُد وصادقـا لهـا. ً وروحـه حياتـه قـ َّدم الذي الشـهيد عـن الحكايـة مفتـا َح الكلمـات هـذه أصبحـت ثمنـا إنَّـه عبـد الهـادي قاشـيط ،حلـ ُّي ال َّسـ َك ِن والإقا ِمـة ،إدلـ ُّي الأصـو ِل ،إذ تعـو ُد أصـو ُل عائلتـه إلى مدينـة (الدانـا) القريبـة مـن معـ ِر بـاب الهـوى الحـدود ِّي مـع ترك ِّيـا ،وهـو مــن مواليــد مدينــ ِة حلــب عام 1967م ،وكانــت إقامتــه فيهــا وفي ح ِّي العزيزيــة خلــف ً المركـز الثقـافي تحديـدا. اتحاد الكتاب والأدباء السوريين الأحرار 131 مجلة ورق | العدد الثاني -نيسان ٢٠٢١م
بكـ ٍّم ً وحما َسـ ُه الطـاغي اندفا َعـ ُه ال َّشـهي ِد الأديـ ِب في الأبـر ُز ال ِّسـ َم ُة وكانـ ِت مدفـوعا ألعــا ِب لبيــع صغــر متجــ ٍر في ً له اتخــذ لقــد الدؤوب، ال َّشــاب طاقــة مــن كبــ ٍر عمــا الأطفـال وبعـض الأدوات المنزليـة وبعـض الصحـف ،وكان المتجـ ُر الذي تعـو ُد ملكيتـه لـوالد الشـهيد أسـفل البنـاء الذي تسـكنه العائلـة ،ولقـد اهت َّم ال َّشـهيد بـالأدب مـن ب َّوابة الأدب ِّي بالنقـد المهت ّمـة المقـالات بعـض ونـر ً القصـرة والق َّصـة القصـرة الق َّصـة جـدا، والمـرح ِّي ،قبـ َل أ ْن ينطلـ َق إلى عالـ ِم ال ّصحافـة مـن خـال بعـض ال ّصحـف الخاصـة الـي بـدأت تنتـر في منتصـ ِف ال َع ْقـ ِد الأ َّول مـن القـرن الحـالي. كان يتنــاول مواضيعــه بجــرأة تصــل إلى حــ ِّد التهــو ِر ،وأظ ُّنهــا بلغتــه ،غــر عابــئ بمـا يجـ ّر عليـه ذلـك مـن نتائـج ،فقـد كان عـدواً للفسـاد بشـ ٍل عا ٍّم ،ولـم يكـن في البــاد فســاداً يفــوق فســا َد ال ُّســلطة ،وفي هــذه المســاحة بــال ّذات كان ال َّشــهي ُد قــد تجــاوز الخــ َّط الأحمــر. كتــب عــن طوابــر الخــ ِز ،وعــن الفســا ِد في قطــاع الخدمــات بشــ ٍل عا ٍّم ،الشهيد الأديب عبد الهادي قاشيط وكتـب عـن أشـياء كثـرة أزعجـ ْت ال ّسـلطة ،وكأنـه يحمـل في داخلـه أمـراً يه ِّيئـه ليـو ٍم قـاد ٍم سـتكون فيـه ثـورة في البـاد ويكـون هـو أحـد فرسـانها ومـن ثم أحـد شـهدائها، ً وحقيقـة الأمـر لـم يكـن ذلـك باديـا عليـه لمـا امتـاز بـه مـن بسـاطة وعفويـة ،فالجرأة َّ لديـه كانـت نابعـة عـن صـدق أكدتـه الأيـام فيمـا بعـد. مجلة ورق | العدد الثاني -نيسان ٢٠٢١م 132اتحاد الكتاب والأدباء السوريين الأحرار
لقـد أصبحـ ِت ال َّثـورةُ حقيقـة ،ورافـ َق ذلـك متغـ ِّرا ٌت كثـر ٌة في الواقـع العـا ِّم لمدينـة أدب ٌّي مشـه ٌد ث َّمـ َة كا َن ولكـ ْن ال َّثـورة، بركـ ِب الالتحـاق عـن نسـب ّياً تأ َّخـر ْت ّ حلـب الـي جديــ ٌد يرتســم ،وبــد َء يطفــو على المشــه ِد مــا نســ ِّمي ِه الــولا ُء لل َّثــورة ،ولكــ َّن الأمــو َر كانـ ْت تسـ ُر بحَـ َذ ٍر ،فـا يُمكـ ُن الإفصـا ُح عـن ذلـك والبـ ُد على مـا هي عليـه ،إنَّمـا كا َن للأديــ ِب ال َّشــهي ِد رأ ٌي آخــر ،فقــد ســار َع بإعــا ِن نف ِســ ِه ُمنــاصراً لثــورة الح ِّريَّــ ِة والكرامــ ِة غــر عابــئ بمــا يجــ ُّر ذلــك مــن تَبِعــا ٍت ،وذلــك برغــم إقامتِــ ِه وعملِــ ِه في منطقـ ٍة بق َيـ ْت تحـت سـيطرة ال ّنظـام عندمـا تحـ َّرر ْت أكـ ُر أجـزاء المدينـة ،ولـم تنفـ ْع عــن الحديــث على حــ ّى ُمــ ِ ّراً كا َن فقــد اندفاعــه مــن لل َّتهدئــ ِة المحــاولا ِت ُّ معــه كل ال َّثـورة ووصـ ِف جـ َّزا ِر سـوريا الأكـر وشـ ّبِ ْي َحتِ ِه بأقـذ ِر ال ِّصفـا ِت ،وذلـ َك بصـو ٍت قـو ٍّي ً بمظاهـر ٍة يقـوم بالفعـل وكأنـه متجـره، عـن نسـبيا بعيـد ٍة مسـاف ٍة مـن ربمـا مسـمو ٍع وحـ َده ،وكان لا يتو َّقـ ُف عـن كلا ِمـ ِه و َع ْر ِضـ ِه لمـا يتحـ َّد ُث بـه حـى وإن دخـل (زبـون) م ـا. أمـ ٍر ـن ع ال ُّسـؤال أو التسـ ُّوق ـ ِل أج م ـن ـ ِر المتج إلى هو ّيَتـ ُه ُ َن ْع لا ـار ٌئ ط ـ ِرف قصة استشهاده: العــام أواخــر في اعتقــ ُل الهــادي عبــد ال َّشــهي َد إ َّن تقــول ِّ المعلومــات إ َّن المتوفــرة 2012م أو أوائـل العـام 2013م على الأغلـب ،وفُ ِقـ َد ْت آثـاره حـ َّى أعلنـ ْت إحـدى المح ّطـات التلفزيونيـة (حلـب اليـوم) نبـأ استشـها ِدهِ تحـ َت التَّعذيـ ِب في أقبيـ ِة فـر ِع الأمـ ِن الجـو ِّي بحلـب ،ومـن ثـم ورد خـر استشـهاده في مواقـع عديـدة وقـد حـ َّددت تاريـخ استشـهاده قوائـ ِم في ً اسـمه ورد وقـد تحديـداً، العـاشر الشـهر وفي 2013م، العـام أواخـر في ً أيضـا غالبـا المـو ِت في سـجو ِن النِّظـام في عام 2018م. اتحاد الكتاب والأدباء السوريين الأحرار 133 مجلة ورق | العدد الثاني -نيسان ٢٠٢١م
نبذة أدبية عن الشهيد: كمـا أسـلفنا فقـد اهتـ َّم الشـهي ُد عبـد الهـادي قاشـيط بفـ ّن الق َّصـ ِة بشـ ٍل خـا ٍّص، فكتـ َب الق َّصـ َة القصـرة والق َّصـ َة القصـر َة جـ ّداً (ق .ق .ج) ،وقـد شـار َك في العديـ ِد مـن الأمســيا ِت والمهرجانــا ِت والملتقيــا ِت الأدب ّيــ ِة ،وبخا َّصــ ٍة في ملتقيــا ِت الق َّصــ ِة القصــرةِ جــ ّداً الــي اســتضاف ْت منهــا مدينــ ُة حلــب ر َّبمــا ثمانيــة ملتقيــات ،وقــد صــدر ْت له مجموعــ ٌة قصص َّيــ ٌة واحــد ٌة بعنــوان (تداعيــات في حــرة ال َّضمــر) ،صــدر ْت عــن دار المقدســ َّية للطباعــ ِة وال ّنــ ِر والتَّوزيــع في ســورية في عام 2002م ،كمــا كان له عــدد مــن المشـاركات في بعـض أجـزاء سلسـلة (قطـوف قلـ ٍم جـر ْي) في (ق .ق .ج) والـي صـدر ْت عـن دار الثريـا بحلـب مواكبـ ًة للملتقيـات الخا َّصـة بذلـك الفـ ّن ،هـذا وكان قـد نـا َل الجائـز َة الأولى لاتحــاد الكتـاب العـرب عــن ق َّصتــه (رســالة إلى ال َّسـيد المديـر العـام) وذلــك عام 1998م. يقــو ُل القــا ُّص (عبــد الهــادي قاشــيط) عــن مجموعتِــ ِه القصص َّيــ ِة (تداعيــات في حــرة الضمــر): ً شـكلاً المجموعـة عن ال ِّرضـا ك َّل ً أكـ ْن لـم الحقيقـة في ومضمونا، راضيـا وهــذا مــا دفعــي إلى التر ّيُــ ِث بإصــدا ِر مجمــوعا ٍت أخــرى ،بالإضافــ ِة إلى ظـرو ِف الحيـاةِ القاسـي ِة وخاصـ ًة الماديَّـ ِة الـي تقـف حجـ َر عـر ٍة في وجـ ٍه المبـدع أو على الأقـ ِّل تحـ ُّد مـن نشـاطه. مجلة ورق | العدد الثاني -نيسان ٢٠٢١م 134اتحاد الكتاب والأدباء السوريين الأحرار
وعن مواصفا ِت الق َّص ِة الناجح ِة يقول: مـن حيـث الفـ ّن القصـ ّي أرى بـأ َّن مقومـا ِت النَّجـا ِح معروفـ ٌة أه ُّمها التَّشـوي ُق والإثـارةُ والمفاجـأ ُة والاختصـا ُر والتَّصعيـ ُد والإدهـا ُش ،ولكـ ْن مـن حيـث المضمـون أجـ ُد بـأ َّن النَّجـا َح والفشـ َل لفظـان نسـب َّيان لا يُفه ُم أحدهمــا إلا بالنســبة للآخــر ،بمعــى أنَّهمــا لا يحتمــان الإطــاق ،فــا فشـ ٌل مطلـ ٌق ولا نجـا ٌح مطلـ ٌق ،فالقـا ُّص الذي يفشـ ُل نسـب ّياً في الحـوار عا َّمـ ٌة خطـو ٌط ث َّمـة العمـوم وعلى الـ َّرد، أو الفكـرة في ً ينجـ ُح ـد ق نسـبيا أساسـ َّي ٌة يجـ ُب أ ْن ترتكـ َز عليهـا الق َّصـ ُة لتكـو َن أقـر َب لل َّنجـاح ،وهي أن تعـ ِّ َر عـن ضمـر الأ َّمـة والكاتـب ،وتنتـي إلى بيئـ ِة الكاتـب ،وتبتعـ َد مـا أمكـ َن عـن ال ِّشـعارات الجوفـاء ،وأن يـأت َي الكاتـ ُب بمـا لـم يـأ ِت أو مـا لـم يجـر ْؤ أبنـاء جيلـه على الإتيـان بـه. بع ُض ما قِ ْي َل و ُكتِ َب عن ال َّشهيد: يقــو ُل الأديــ ُب ال ُّســور ُّي المعــروف نجــ ُم ال ِّديــن ال َّســمان بحســ ِب مــا َو َر َد في موقــ ِع العـرب ِّي الجديـ ِد متح ِّدثـاً عـن الشـهيد عبـد الهـادي قاشـيط الذي كان على معرفـ ٍة ج ِّيد ٍة بـه( :كان شـابّاً طيبـاً وذا ثقافـ ٍة ،بـى ن ْف َسـ ُه مـن لا شي َء تقريبـاً ،كان يعمـ ُل بـد َّك ٍن تعو ُد ملك َّي ُتــ ُه لــوالده َح ْســ َب مــا أذكــ ُر ويعيــ ُش منــه ،وانطلــ َق بمحــاولا ِت الكتابــ ِة ُهنــا و ُهنـاك ،وصراحـ ًة لـم نكـ ْن نتو َّقـ ُع ِم ْنـ ُه هـذا الموقـ َف الجـري َء والحمـاس َّي في ال َّثـورةِ ضــ َّد النَّظــام ،وكا َن لموق ِفــ ِه هــذا ثمــ ٌن كبــ ٌر دف َعــ ُه رحمــ ُه الله) ،ويتابــ ُع الأديــ ُب نجــم ال ِّديـن ال َّسـمان قائـاً( :هكـذا موقـف مـن هـذا ال َّشـخص بمدينـ ِة حلـ َب المنقسـم ِة على اتحاد الكتاب والأدباء السوريين الأحرار 135 مجلة ورق | العدد الثاني -نيسان ٢٠٢١م
نف ِسـها لـم يكـ ْن سـهلاً ،وهـو انحـا َز للفقـرا ِء والمه َّمشـن فيهـا ليقـو َل كلمتـه ،وأعلـ َن موق َفـ ُه ضـ َّد ال ُّسـلطة عندمـا كان أغلـ ُب النـاس يخونـون مواقفهـم ،لأسـبا ٍب متعـ ِّد َد ٍة منهـا الخـوف). وكتــ َب القــا ُّص خليــل العجيــي على صفحتِــ ِه في فيســبوك متح ِّدثــاً عــن ال َّشــهي ِد ومجموعتِـ ِه ال َقصص َّيـ ِة( :تداعيـات في حـرة ال َّضمـر)( :المجموعـ ُة القصص َّيـ ُة اليتيمـ ُة للقـا ِّص عبدالهـادي قاشـيط /أبـو حسـام، /رحمـه الله شـهي ِد الكلمـ ِة الحـ َّرة ،ال ُّصحـ ِّي ال ُّشــجا ِع الجــري ِء ،العفــو ِّي ،البســي ِط ،الفقــ ِر ،المكافــح ،كان يكتــ ُب عــن رغيــ ِف الخـ ِز ،يكتـ ُب عـن البسـطاءِ ،كان يفضـ ُح ال َفسـا َد قبـ َل وأثنـا َء ال َّربيـع ،قـى في أقبيـ ِة المخابــرا ِت الجو ِّيــ ِة في حلــب ،عبدالهــادي لــم يحمــ ِل ال ِّســا َح لك َّنــه كان يحمــ ُل منــ ُذ زمـ ٍن مـا هـو أخطـ ُر مـن ال َّرصاصـ ِة على النِّظـام ،صديـي ورفيـي وزميـي في الق َّصـ ِة عبدالهــادي قاشــيط شــهيداً للكلمــ ِة ال ُحــ َّرةِ رحمــ َك الله وأســكن َك في رحــا ِب ج َّنتِــه).. وعلى صفحتــه في الفيســبوك كتــب الأديــب عبــد الغــي ح ّمــادة( :الرحمــ ُة لشــهي ِد الكلمـ ِة ال ُحـ َّرةِ الأديـ ِب القـا ِّص عبـد الهـادي قاشـيط الذي استشـه َد تحـ َت التَّعذيـ ِب في المخابـرا ِت الج ِّو َّيـة بحلـب ،كان ال َّشـهي ُد مـن أصدقـائي وقـد شـاركنا في أمسـيا ٍت أدب َّيـ ٍة في المراكـز الثقاف َّيـ ِة بحلـ َب وخاصـة بملتـى حلـ َب ال َّسـنو ّي للق َّصـ ِة القصـرةِ جـ ّداً الذي كانـت تُديـ ُر ُه لجنـ ٌة مـن الأدبـاء برئاسـ ِة الدكتـور محمـد جمـال ط ّحـان. اشـته َر الأديـ ُب بكتابـ ِة المقالـ ِة والتحقيقـا ِت ال ّصحف ّيـ ِة الميدان ّيـة والق َّصـ َة القصـرةِ وق .ق .ج ،ويُ ْعـ َر ُف عنـه أنَّـ ُه ِمـ َن المشـاغبي َن ِم ْنـ ُذ أن امتهـ َن العمـ َل الصحـ َّي الريـاض َّي أولاً ثـ َّم الكتابـ َة الأدب َّيـ َة ،ر ِحـ َم الل ُه شـهي َد الكلمـ َة الحـ َّرةِ عبـد الهـادي قاشـيط وال َّصـ ُر وال ُّسـلوا ُن لذويـه). مجلة ورق | العدد الثاني -نيسان ٢٠٢١م 136اتحاد الكتاب والأدباء السوريين الأحرار
اتحاد الكتاب والأدباء السوريين الأحرار 137 مجلة ورق | العدد الثاني -نيسان ٢٠٢١م
ثام ًنا أقلام واعدة مجلة ورق | العدد الثاني -نيسان ٢٠٢١م 138اتحاد الكتاب والأدباء السوريين الأحرار
انتماء بقلم :جنى الغانم ورد في المعجـ ِم العـرب ِّي تعريـف الانتمـا ُء بأنـه (علاقـ ٌة منطق َّيـ ٌة بـ َن الفـرد والصنـف الذي يدخـ ُل في مـا ص َّدقـه) أ ْن تنتـي هـو أ ْن ترتـا َح ،تنغمـ َس في كـورا ٍل مـن الانسـجا ِم ال ُم ْطلَـ ِق بـا حـدو ٍد ُ َّ أم لحــز ٍب أهــو الانتمــاء، عــن تعــرف مــاذا الضالــ ِة، نفســ ِك إلى انظــ ْر معوقــا ٍت، ولا لحاكــ ٍم أم....؟. تتخب ُط في صرا ٍع داخل ٍّي مب َّج ٍل ،لا هرو َب من واق ِع ِه ال َّشنيع... (ح ُّظ َك ناك ٌص يا خالتي) ،لا انتما َء لك! شـتا ُت فكـ ِر َك يـكاد ُي ْغـ ِر ُق روحـ َك في غيبوبـ ٍة ثقيلـ ٍة ،لعلَّـ َك إ ْن علقـ َت في جـو ِف د َّوا َمتِهـا وجـد َت نف َسـ َك ولـو قليـاً... تُ ْص َنــ ْع لــم شــوارع في تمــي لــ َك، تُ ْك َتــ ْب لــم وتواقيــ َع بحــرو ٍف ً تحمــ ُل أوراقــا لخطواتــك ،تجلــ ُس على مقاعــد لا تتح َّمــ ُل وزنــك... جـز ٌء مـن وجدانـك ُيَلِّـ ُق بعيـداً عـن هنـا ،في مـر ِج زيتـو ٍن ينتظـ ُر أيـادي غائبـ ًة كي تخ ِط َفـ ُه بعيـداً عـن غ ْصنِـ ِه ،ومـن ثـ َّم إلى ريـم وجهـك ،...جـ َّف كيانُـ ُه وتقـ َّو َس ظهـ ُر ُه مـن طـو ِل الانتظـار ،حـ َّى ال َّصـر نفسـ ُه تخـ َّى عنـه لأنَّـ ُه َض ِجـر... اتحاد الكتاب والأدباء السوريين الأحرار 139 مجلة ورق | العدد الثاني -نيسان ٢٠٢١م
أنـ َت مثـ ُل قطعـ ٍة مـن قطـ ِع الأحـاجي ،تنـا ُم في مكانِهـا المعهـود ،وأنـ َت تبقي تسـتجدي على أطــراف ال ُّصندوق... وهمسـا َت روتينـ َك سـطح َّي َة أ َّن تظـ ُّن ً الأبلـه؟، دما ِغـ َك خـداع على تـ ُّر لمـاذا أحقـا دنيـا َك مـن ال ُمفـر ِض أ ْن تُنسـي َك أنَّـك ليـ َس مر َّحبـاً بـ ِك هنـا ولا هنـاك... حـ ّى وإ ْن فتحـ َت أبـوا َب ال َّسـما ِء لتنتـي غربـ َة ال ِّسـنينَ ،شـ ُّم الفـرا ِق قـد قـا َم بالفت ِك بخلايـا جسـ ِد َك ،امـز َج الحـاض ُر بالمـاضي البعيـ ِد ليصنـ َع أعجوبـ ًة ...لا تعـر ُف الانتماء. مجلة ورق | العدد الثاني -نيسان ٢٠٢١م 140اتحاد الكتاب والأدباء السوريين الأحرار
مأساة سعيد بقلم محمد رمضان ســعيد هنــاك ،على تلــك الشرفــة في الدار القديمــة ،بــن طــراوة أمســيات الصيــف العذبــة ،نســما ٌت حــار ٌة تداعــب خصــات شــعره برفــق ،أشــجا ُر الزيتــون مــن حــوله ّ تظللـه إنـه المسـاء الذي تملـؤه العاصفـة في قلـب الصيـف ،يجلـس وتحوطـه بحفيـف وريقاتهــا الرقيــق .كمناديــل الــوداع البيــض ،تســافر الغيــوم وتمــي بهــا الريــ ُح نحــو فضـا ٍء بعيـ ٍد. ســعي ٌد مطــر ٌق في تلــك الأمســية ،يُلــي بشــباك خواطــره إلى الطبيعــة المضطربــ ِة، يتسـاء ُل في سره منتظـراً هـدوء الليـل« :مـاذا نسـي العواصـف حـن تنتـي؟» .يباغتـه شـعور بـأن يـأوي إلى الحلـم ،لعلّـه يجـد إجابـة ،وينعـم بالسـام. يعـاني وكان نـادراً، ّ يتكلـم ولا كثـراً، الحقـو َل يجـو ُل والسـكين ِة، العزلـ ِة إلى يميـ ُل كان إل مـن ال ُّعـرات أو متلازمـة توريـت (كمـا ندعوهـا اليـوم) ولـم تصـل قريتـه المتواضعـة إلى هـذه المرحلـة مـن العلـم للتعامـل مـع هـذا المـرض ،اعتبرتـه والدتـه ككل سـان القريـة وصـوله وعنـد الخامسـة، سـن حـى النطـق في تأخـ َر أنـه خاصـ ًة العقـل، وضعيـ َف ً مريضـا إلى المرحلـة الثانويـة ،مرحلـة الشـباب الغـارق في الخيـال والمـ ّرات والحائـم قـرب السـحاب بالآمـال والأمـاني ،متناسـن واقعهـم ،تبـددت هـذه الشـكوك لأن سـعيداً أظهـر كفـاء ًة في بنظرهم، ً يعـد فلم القريـة، أهـل فاجـأ وهـذا بنهـ ٍم، العلـم على ُمقبـاً وكان دراسـته، مريضـا و أصبـح الشـاب الوديـع متوقـ َد الذكاء ،رغـم التشـنجات العصبيـة الـي تحصـل معـه. اتحاد الكتاب والأدباء السوريين الأحرار 141 مجلة ورق | العدد الثاني -نيسان ٢٠٢١م
كانوا يسألونه لم تحر ْك وجهك بهذه الطريقة؟ و تعـرض للتنمـر عـدة مـرات ،في البدء كان سـعيد يتألـم من كلام زملائـه ،ويتمكن الشـجن بقلبـه الصغـر ،فيعـو ُد بعـد المدرسـ ِة إلى الحقـ ِل قـرب مـزله ،وينتحـ ُب تحـت ظـ ِّل شـجرةِ البرتقـال إلى أن يحـ َل المسـا ُء ،فتواسـيه الفراشـا ُت والزهـو ُر ،وتصـد ُح مـن أجلـه أورا ُق الأشـجارِ وت ّكـر جـر َة حزنـ ِه الريـ ُح العاصفـ ُة ،عندهـا فقـط يرجـ ُع إلى ُ البيـت بقلـ ٍب مـي ٍء بنغمـات الحـزن ،وعينـان أنهكهمـا طـوف الدمـ ِع. عليـه، تؤثّـ َر ولـن طبيعتـه، مـن ً تغـ َر لـن المضايقـات هـذه أن مؤخـراً أدر َك شـيئا فأصبـح يتجاهلهـا ،ولـم يعـ ْد يكـرث بهـا. وطالمــا حلــ َم بالذهــا َب إلى المدينــ ِة الكبــرةِ ،حيــث التطــور ،وناطحــات الســحاب، والطعــام السريــع ،ودور الســينما والمكتبــات ،والبحــر الذي تمــى طيلــة حياتــه أن يـزوره ،لـم يسـتط ْع أن يتخيـل كيـف أن البحـر بأحرفـه الثلاثـة يمكنـه أن يحضـن كل هـذا المـاء فيـه ،هـذا البحـر سـما ٌء ثانيـة ،تسـبح فيـه الأسـماك ،و يعانـق موجـه الأفـ َق ويمـزج مـع السـماء ،لازورد ٌّي كفراشـ ٍة الغـروب ،عميـ ٌق ،غامـ ٌض ،يحفـظ بداخلـه أسرار الكــون. وفي مطلـع فجـر يـو ٍم مـن أيـام أيلـول ،اتجـه نحـو المطبـخ المطـل بشـباكه على الحديقة، حيـث عرائـش العنـب والفراولـة وبعـض زهـور البنفسـج ،رأى والدتـه هنـاك تـروي نباتـات الغاردينيـا بأكـر حنـا ٍن يمكنـك أن تتخيلـه ،حـى الغاردينيـا استسـلم ْت لـل هـذه الرقـة. -أمي هل صحيح أن رغباتنا يجب أن تروى بالندى؟ مجلة ورق | العدد الثاني -نيسان ٢٠٢١م 142اتحاد الكتاب والأدباء السوريين الأحرار
-بلى وإلا لذبلنا مثل هذه الأزهار ،نحن نحتاج لمن يهتم بنا ،لكن أخبرني هل تنوي تركنا؟ كانت تعرف ما يجول بخاطره. -كل الذيـن يدرسـون يذهبـون إلى الجامعـة في النهايـة ،لذا يجـب أن أرحـل ،ثـم شـعر بالخجـل مـن أمـه وأردف : أعدك بأن أجلب معي ورود د ّوار الشمس التي تعجبك في كل زيارة . في خيبة أم ٍل تأملت ُه ،ثم تنهد ْت ،وأردفت أخبرني في أي فرع من الجامعة سوف تسجل ؟ -في علـم الفلـك ،أريـد أن أدرس النجـوم والكواكـب ،فهنـاك تكمـن أحلامنـا وإلى هنـاك تحلـق أمانينـا. ً -حسنا ألن تودع خالك؟ بالطبع! في نهاية هذا الشهر ،سأذهب إليه ومن ثم أتوجه إلى المدينة. ارتسـ َم شـب ُح ابتسـام ٍة على وجههـا وهي تنظـر إليـه ،وهي تقـول في نفسـها :لقـد كبر َت بسرعـة يـا سـعيد ،سـتذهب بعيـداً عـي ،وكيـف يُعـ ُد طعامـه بنفسـ ِه ،يغسـ ُل ملابسـ ُه ً جاهـ ٌز هـو هـل بنفسـه، مـزله ينظـ ُف بنفسـه، حقا؟ كي دموعـه، إخفـاء محـاولاً عائلتـه سـعي ٌد و ّدع الانتظـار، هـو آخـراً ً يحمـ ُل ألـ ٌم الـودا ُع ألمـا تكبـ َت أن والدتـه تسـتط ْع لـم الآخـر، الطـرف على أمـا تماسـكه.، ويثّبـ َت ً يبـدو لا ضعيفـا، دموعهـا ،واشـت َد نحيبهـا ،وأجهشـت بالبـاء .وكذلـك والده الذي غلبتـه دمعـة أو اثنتـن. ً مـى متجهـا نحـو قريـة خـاله ،وهـو يفكـر بالمدينـ ِة وبالمسـتقب ِل الذي ينتظـره ،كان خـاله مـن أعـ ِز أقربائـه عليـه ،لطالمـا جلـ َب له الهدايـا عندمـا كان صغـراً ،واصطحبـه اتحاد الكتاب والأدباء السوريين الأحرار 143 مجلة ورق | العدد الثاني -نيسان ٢٠٢١م
ّ في نزهـا ٍت إلى حقـول القمـ ِح و السـناب ِل ،وعلمـه الأحـرف لأنـه كان المتعلـم الوحيـد في العائلـة ،كان يقطـ ُن في قريـ ٍة بعيـد ٍة عـن قريتهـم ،عندمـا وصـل إلى قريـ ِة خـالهِ ،بعـد جهـد جهيـد ،لـم يجـده ،أخـره أهـل القريـة أنـه ذهـب إلى المدينـة ،وربمـا يعـود بعـد يــوم أو يومــن ،قــرر أن ينتظــر في مــزل خــاله إلى حــن يرجــع ،اســتلقى على السريــر المهـرئ ،وغلبـه النـوم مـن شـدة الإرهـاق ،وكانـت ليلـ ٌة مـن دون أحـام. قبـل بـزوغ الشـمس بفـرة وجـزة اسـتيقظ ،جلـس على طـر ِف الفـراش متأمـاً ضــوء ال َّســ َحر المندلــ ِع مــن النافــذة الصغــرة ،فــر َك عينيــه وأحــ ّس بألــم طفيــف في ـذة الناف ـو نح ـه اتج ـرا ُه، اع ـ ٌم مبه ـعو ٌر ش خ ـاله، ـيء م ـر يتنظ ـه أن ـر ّ ـم ث رجلي ـه، تذك المطلـة على الشـارع والحقـول المحيطـة بـه كانـت مـن بـن أشـجار الصنوبـر القاتمـة تتـرب الريـاح ،كل شي ٍء يـوحي بأنـه يـوم عادي ،لـم يقـر ْر سـعيد بعـد مـاذا سـيفعل، وبينمـا هـو هكـذا ،دوى صـوت انفجـا ٍر شـدي ٍد هـ َز أرجـا َء القريـ ِة ،تلتـه صيحـا ٌت مـن ً ً انفجـاراً سـم َع يلبـ ْث الرجـا ُل وضجـ ٌة ثـم وثالثـا، ثانيـا، أن لـم والنسـا ُء. أحدثهـا الأولاد، خـرج ـ ِب. والرع ـ ِة الرهب ـر ِط ف مـن يرتجـ ُف ـدأ وب أذنيـ ِه، في ً ّ ـمع يس يعـد لـم طنينـا إل مـن البيـت بجنـو ٍن ،فأصابتـه الرجفـة مـن هـول المشـهد ،د ٌم يُغـر ُق الطرقـات ،أنـا ٌس يصيحـون ويهرعـون إلى أبنائهـم أو بيوتهـم أو أي مـا ٍن آمـ ٍن ،فجـو ٌة هائلـ ٌة في الأر ِض، بقربهـا مـا يشـبه الأشـاء ،هـ ّم سـعيد بالركـ ِض لسـبب مجهـو ٍل ،ربمـا غريـز ُة البقـا ِء، دفعتـه ولا يعـرف إلى أيـن يذهـب ،كان يرتعـ ُد ويتعرقـ ُل في كل خطـوة« ،هـل أحلـم؟» لا وقت للسؤا ِل الآن! يجب أن أجد مكاناً يأويني. شــظي ٌة اندفعــت ســعيد، مــن ً المــرة هــذه كان بأكملهــا، القريــة خــ ّض رابــ ٌع دو ٌي قريبــا وأصابـ ْت ذراعـ ُه فتلـ ّوى ألمـاً وكاد أ ّن يسـق َط ،لكنـه أكمـل طريقـه بمشـق ٍة جاهـاً أيـن يذهب. مجلة ورق | العدد الثاني -نيسان ٢٠٢١م 144اتحاد الكتاب والأدباء السوريين الأحرار
أن دون ـ َد صع كتفـ ِه. مـن يفـو ُر والد ُم ـا إليه فركـ َض ً أش ت ّحمـ ُل ـ ًة عرب أبـر ـخاصا، يعلـم وجهتهـا أو مـن فيهـا ،انطلقـت الحافلـة خـار َج القريـ ِة ،فيهـا سـبعة أشـخا ٍص ، رجـ ٌل لاحـظ شيء، كل مـن ً العربـة إلى طريقهـم وجـدوا غربـا ٌء أنهـم الواضـح مـن هربـا الدم الذي يندفـق مـن كتـ ِف سـعي ٍد ،فقـ ّدم له قطعـة مـن الملابـس الـي جلبهـا معـه، وســاعده على ربطهــا لمحاولــة وقــف النزيــف ،لــم يتفــوه أحــ ٌد بكلمــ ٍة ،كان الجميــع ً سـرجعون هـل حقيقـة، كان للتـ ٍو حـدث مـا أن أحـ ٌد يصـد ْق لـم جـرى، ممـا مصدومـا إلى قريتهـم مجـدداً؟ مـاذا عـن خـا ِل سـعيد؟ مـاذا عـن عائل ِة سـعيد؟ مـاذا عن مسـتقبل سـعي ٍد؟ مـاذا عـن سـعي ٍد نفسـه؟ يبـدو أن كل هـذا قـد ضـاع وتحطـم ،ويبـدو أن الأمور لـن ترجـ َع كمـا كانـت أبـداً. إنهـا سـاعة الرحيـ ِل ،السـاعة الأليمـة والبـاردة الـي ُيضعهـا الليـل لـل المواعيـد، بعـد سـاعا ٍت عديـد ٍة مـن الذهـاب إلى وجهـ ٍة مجهولـ ٍة ،وأمـ ٍل كاذ ٍب في العـودةِ إلى القريـ ِة، َعلِـم مـن في العربـة أنهـم سـوف يذهبـون إلى مـا ٍن ليبيتـوا فيـه بضعـة أيـا ٍم ،ليجمعـوا شـتاتهم المبعـر ،ويسـتوعبوا مـا حصـل ،ومـن ثـم ينطلقـون إلى مـا ٍن آخـر ،مجهـو ٍل. بعدمــا وصلــوا ،رأوا المــان ،مجموعــ ٌة مــن الخيــام المصطفــة قــرب بعضهــا ،أنــا ٌس آخــرون يبــدو أنهــم عانــوا نفــس الفاجعــ ِة ،أولا ٌد يجوبــون هنــا وهنــاك ،غــر داريــن بحقيقــة كل هــذا ،إنــه المخيــم . سر ْت رعـد ٌة في كيـان سـعي ٍد عندمـا أيقـن أنـه خـر كل شيء ،مكـث الجميـع في هـذا المخيـم مـا يقـارب الثلاثـة أيـام ،كان سـعي ٌد يشـارك خيمـ ًة مـع رجلـن آخريـن وأدرك جيـداً أن لا عـودة ،وأن المخيـم هـو مصـره. اتحاد الكتاب والأدباء السوريين الأحرار 145 مجلة ورق | العدد الثاني -نيسان ٢٠٢١م
مـ ّر ْت سـن ٌة عصيبـ ٌة على سـعيد في المخيـم ،لـم يسـمع فيهـا أي أخبـا ٍر عـن عائلتـه أو خـاله أو قريتـه .وفي أحـد الأيـام ،أتـت إلى المخيـم عـدة سـيارا ٍت خـرج منهـا أنـا ٌس أتضـح أنهـم مـن منظمـة خيريـة ،غايتهـا افتتـاح مدرسـة للأطفـال ،وقـع الاختيـار على ســعيد ليكــون أحــد المدرســن؛ فــرح لأنــه كان يريــد أن يمــي وقتــه في شيء غــر الانتظ ـار، ً ً فيهـا يواجـه الـي الأولى المـرة إنهـا ، ذاكرتـه في محفـوراً النهـار ذلـك بـي جديـا شـيئا لوحـده ،على الهوينـا كان يجـوب شـوارع المخيـم الـي غطاهـا الـردم والغبـار ،يسـر والحز ُن يعتـر قلبـه ،كان المـاضي يطفـو مجـدداً كرواسـب منصهـرة ،وكان ينتقـل مـن ذكـرى إلى ذكـرى .هـل في الحيـاة أسـخف مـن أن تـدعى سـعيد؟ بعـد سـن ٍة أخـرى مـن التدريـس ،بغـض النظـر عـن أسـئلة الأطفـا ِل حـول حـركات ً وجهـه الغريبـة ،عرضـت عليـه المنظمـة منصبـا أعلى؛ لأنـه كان مـن أفضـل المدرسـن، ولإظهــاره كفــاءةً عاليــ ًة في عملــه ،وتقــد منصبــاً رفيعــاً في المنظمــة ،وأصبــح يتلــى وتصريـ َح ـف ٍر س ـواز ج له أح ـروا فق ـد ـم، المخي ـارج خ ـش للعي وانتق ـل ـداً، جي ً راتب ـا خـرو ٍج مـن البـد ،في هـذا الوقـت تلـى خـر وفـاة خـاله قـرب قريته...لطالمـا ً كان غارقـا في التفكـر بعائلتـه ،وخـاله والأسـوأ مـن كل هـذا ،أنـه لـم يكـن يعلـم إن كانـوا على قيـد الحيـاة ،أم لا ،هـوى بـه الحـزن ،وتمكـن مـن روحـه. بعدمـا خـرج مـن المخيـم ،حصـل على جـواز سـف ٍر خـاص بـه ،وتـزوج ورزق بطفلـ ٍة ً ً رجـاً ً سـيار ًة بـه، مـر الذي كل فرغـم معروفـا، ناجحـا وأصبـح وبيتـا. واشـرى جميلـ ٍة، بالإضافــة إلى مرضــه افتتــح شركتــه الخاصــة وغــدا رجــل أعمــا ٍل مشــهو ٍر .واســتثمر معظـم مـاله في مسـاعدة الأطفـال والمي ّتمـن في المخيمـات والمـاجئ .،فقـد افتتـح لهـم مجلة ورق | العدد الثاني -نيسان ٢٠٢١م 146اتحاد الكتاب والأدباء السوريين الأحرار
بهـا، يحـ ْظ لـم كالـي حيـا ًة لهـم ليوفـر يمكنـه مـا أقـى وعمـل للرعايـة، ودوراً ً مدارسـا كان يريـد أن تكـون لهـم فـر ٌص ومسـتقب ٌل كي لا يعانـوا مثلمـا عانى. لـم يصلـه أي خـ ٍر عـن عائلتـه ،ولا عـن قريتـه .هـل نسـوه؟ هـل يغفـرون له مـا فعـل؟ هـل خذلهـم؟ لـم يُـرد سـعيد أن يعلـم الحقيقـة .فيكـي أن خـاله قـد تـوفي وهـو لـم يـره ،لهـذا لـم يسـتطع أن يسـأل أحـداً عـن عائلتـه؛ لأنـه لا يريـد لهـم أن يكونـوا مجـرد خـر وفـاة. ريـاح الكآبـة لا تـزال تجرفـه ،أعاصـر الأحـام لا تـزال تنهـال عليـه .يسـمع صوتهـم في صوتـه المتألـم ،ضحـات أمـه القديمـة ،أحاديـث والده القديمـة ،بـكاء إخوتـه ،حمـل ابنتـه إلى السـيارة ،متقبـاً الواقـع الذي سـوف يصدمـه بالحقيقـة ،أورا ٌق جافـ ٌة خريفيـ ٌة في ـرق يح ذهـو ٌل مـن لهـ ٌب غـره، يجـد لـم الذي ابنتـه بحـب ً روحـه. في ـوم تح متشـبثا ذاتـه ،ذهـب سـعيد إلى قريتـه آمـاً أن يلـى هنـاك مـن يعيـد له سـعادته. اتحاد الكتاب والأدباء السوريين الأحرار 147 مجلة ورق | العدد الثاني -نيسان ٢٠٢١م
جاهد بصمت واستشهد بصمت نور الهدى سيد عيسى في رحــاب ذلــك البيــت العــربي القديــم ،وفي غرفــ ًة مــن غرفــه ال َّصغــرة ،المفعمــة برائحـة الأجـداد والياسـمين و الجـدرا ِن الطينيـ ِة ،ومـع إشراقـة يـو ٍم شـتو ٍّي بـار ٍد ،وفي سـاعات الفجـ ِر الأولى ُو ِل طفـ ٌل ملائكـ ُّي ال ّطلـ ِة ،في وجهـه إشراقـ ُة حيـاة ،وفي قسـماته ملامـ ُح رجولـ ٍة مبكـر ٍة ،هـو أصغـ ُر أطفـا ِل تلـك العائلـ ِة وآخـ ُر العنقـو ِد ،كمـا كانـوا يطلقـون عليـه. كان طفـ ٌل جميـ ُل ال ُمح ّيـا ،بـ ّي الطلعـ ِة ،ظهـرت عليـه آيـا ُت ال ُرشـ ِد منـذ الصغـر، ُ ذكا ًء. عينــاه تتــألأ ً مـا إن بلـغ ال َّسـنتين حـ َّى تـوفي والده بعـد صرا ٍع طويـ ٍل مـع المـر ِض ،فعـا َش يتيمـا بـن أفـراد أسرتـه المشـبعة بالحزن والحرمـان ،لـم يفتـه دلال عائلتـه ومحاولاتهـم ال َدائمة لتعويضـه عـن مـرارة الفقـد ،مـى على طريـق اليتـم يحـاول جـر قسـوته ،لكـ َّن اليتـم كان أقـوى منـه إذ أطبـق عليـه دائرتـه عندمـا انـزع أمـه منـه وهـو على أعتـاب دراسـته الثانويـة ،بينمـا كان يحـاول فتـح بـاب مسـتقب ٍل جديـ ٍد ينسـيه قهـ َر الأيـام ،لك َّنـه كان أقــوى مــن أ ّن يستســل َم لهــا ،جــ َّد ودرس وتفــ َّوق إلى أن نــال ال َّشــهادة الثانويــة بــأعلى درجاتهــا ،فاختــار دراســة اللغــة الإنكليزيــة الفــرع الذي طالمــا حلُــم بــه ،التحــق بالجامعـة وتفـوق في سـنواتها الأولى وعندمـا بـي له عام واحـد فقـط لتحقيـق الحلـم والتخـرج ،ثـارت براكـن ال َّثـورة في بـده تنـادي بالحريـة وإسـقاط نظـام الاسـتبداد، مجلة ورق | العدد الثاني -نيسان ٢٠٢١م 148اتحاد الكتاب والأدباء السوريين الأحرار
عـا صـوت الحـ ِّق ،وانطلقـت المظاهـرات الشـعبية ،فـان مـن أوائـل المشـاركين فيهـا، تحـ َّدى المـوت مـرا ٍت عديـدة ،وواجـه بطـش ال َظل َمـ ِة بروحـه وجسـده ،ولكـ َّن اليـد إذ حمتـه مـن المـوت في ك ّل مـرة ،بـدأ خـوف أهلـه ً عليـه الإلهيـة كانـت تحميـه دائمـا، لاسـ َّيما أنَّـه ابـن أسر ٍة مناضلـ ٍة ومعروفـ ٍة بكرههـا لهـذا النظـام المسـتبد منـذ سـنوات ً طويلـة ،لـم يكـن الخـوف عليـه مـن المـوت ،بـل كان خوفـا مـن اعتقـال مرعـ ٍب ،يخسر فيـه الإنسـان ك ّل شيء قبـل أن يخـر روحـه ،وبعـد مشـاورا ٍت طويلـة قامـت عائلتـه حـ َّى وجـد عمـاً ممتـازاً ،وأجـوا ًء رائعـ ًة في بـ ٍد آخـ ٍر ،لكـ َّن الجميـع كان يشـكر إن وصـل عـرب ٍي مجـاو ٍر ،ومـا بتهريبـه إلى بـ ٍد أصبح ـت مـن قلـب العائلـة للعيـ ِش .قطعـ ٌة الله على نجاتـه مـن الاعتقـال ،لـم يطـل شـعو ُر العائلـة بالراحـة لأجلـه ،فهاتـف مـن رقـم غريـب لأختـه سرق فرحتهـم ،كانـت المكالمـة كصاعقـ ٍة أخبرهـم فيهـا أنَّـه عاد إلى سـورية ،وفسـطاط المسـلمين ،سـألته أختـه :مـا السـبب؟ فأجابها بك ّل شجاعة ومروء ٍة وثق ٍة: و هــل يليــق بي أن أتــرك الشــباب في بــدي يُقتلــون بــد ٍم بــار ٍد ،و النســاء تعتقــ ُل وتغتصــ ُب ،والأطفــا ُل يُذبحــون لأعيــش بعيــداً في هنــاء ٍة وسرور؟!! «، ً ســاد الصمــت وســيطر الخــوف على الجميــع ،جادلــوه ،قالــوا « :مازلــت شــابا في مقتبـل الحيـاة ،شـبابك يسـتحق السـعادة والأمـان» ،فـان ر َّده الوحيـد « :السـعادة سـعادة الثـورة والربـاط» ،رفـض بعـض أفـراد أسرتـه تصرفـه ،لك َّنهـا إرادة الله أرادت ً له أن يســر في طريــق الحــق والنضــال ،منــذ أن خــرج مــن بيتــه مــودعا طفولتــه، وسـنوات شـبابه القصـرة ،وذكريـات المـاضي ،لـم يـره أحـ ٌد مـن أفـراد عائلتـه ،ك ّل ما كان يصلهـم منـه صـوت متقطـع فيـه الكثـر مـن الشـوق والحنـن ،والأمـل بلقـاء اتحاد الكتاب والأدباء السوريين الأحرار 149 مجلة ورق | العدد الثاني -نيسان ٢٠٢١م
قريــب بعــد تحقيــق الحلــم المنتظــر لشــع ٍب أتعبتــه ســنوات طويلــة مــن الظلــم والقهـر والخنـوع. أصبـح الحلـم بعودتـه هاجـس أسرتـه ومؤنـس لياليهـم ،تخيلـوه دائمـا عائـداً إليهـم أرض في رفاقـه مـع ج َّسـدها الـي والتضحيـ ِة البطولـ ِة قصـص لهـم يـروي بينهـم ً جالسـا الغوطــة الحــرة ،لكــ َّن الحلــم طــال أربعــة أعــوام ،وفي ليلــة مباركــة ،حــدث مــاكان تخشـاه قلوبهـم فتدفـع خاطـره عنهـا مذعـورة مسـتعيذة، جـاء البشـر إلى أهلـه ليخبرهـم أن ولدهـم فـذة كبدهـم قـد نـال شرف الشـهادة على جبهـة مـن جبهـات العـزة والكرامـة في ح ّي جويـر الدمشـي ،هـو وخمسـ ٌة مـن رفاقِـه في طريـق الجهـاد ،وأن مقـرة جماعيـة في زملـا ض َّمـت جسـده الغـض مـع الآخريـن. علـت صيحـات التَّكبـر في البيـت ،و نمـت زنابـق الحيـاة مضرجـ ًة بدمـاء الكرامـ ِة والعـزةِ ،وبقـدر مـا كان الحـزن عظيمـاً كان الفخـ ُر بـه أعظـم ،لـم يكـن استشـهاده بـا رحـل أنَّـه الوحيـد حزنهـم الشـهيد، أهـل فهـم لعائلتـه، ً عيـداً كان بـل ً وعرسـا مؤلمـا قـ ٍر يمكنهـم زيارتـه كلمـا اشـتعلت نـار الاشـتياق. مجلة ورق | العدد الثاني -نيسان ٢٠٢١م 150اتحاد الكتاب والأدباء السوريين الأحرار
Search
Read the Text Version
- 1
- 2
- 3
- 4
- 5
- 6
- 7
- 8
- 9
- 10
- 11
- 12
- 13
- 14
- 15
- 16
- 17
- 18
- 19
- 20
- 21
- 22
- 23
- 24
- 25
- 26
- 27
- 28
- 29
- 30
- 31
- 32
- 33
- 34
- 35
- 36
- 37
- 38
- 39
- 40
- 41
- 42
- 43
- 44
- 45
- 46
- 47
- 48
- 49
- 50
- 51
- 52
- 53
- 54
- 55
- 56
- 57
- 58
- 59
- 60
- 61
- 62
- 63
- 64
- 65
- 66
- 67
- 68
- 69
- 70
- 71
- 72
- 73
- 74
- 75
- 76
- 77
- 78
- 79
- 80
- 81
- 82
- 83
- 84
- 85
- 86
- 87
- 88
- 89
- 90
- 91
- 92
- 93
- 94
- 95
- 96
- 97
- 98
- 99
- 100
- 101
- 102
- 103
- 104
- 105
- 106
- 107
- 108
- 109
- 110
- 111
- 112
- 113
- 114
- 115
- 116
- 117
- 118
- 119
- 120
- 121
- 122
- 123
- 124
- 125
- 126
- 127
- 128
- 129
- 130
- 131
- 132
- 133
- 134
- 135
- 136
- 137
- 138
- 139
- 140
- 141
- 142
- 143
- 144
- 145
- 146
- 147
- 148
- 149
- 150
- 151
- 152