Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore البراديغم التونسي

البراديغم التونسي

Published by AmineMurad, 2020-10-25 15:09:08

Description: مقومات النظر ومآلات العمل

Keywords: tunis politics

Search

Read the Text Version

‫البراديغم التونسي‪..‬‬ ‫مقومات النظر ومآلات العمل‬ ‫تأليف‪ :‬محمد أمين الهبيري‬ ‫‪1‬‬

‫الفهرس‬ ‫المقدمة‬ ‫الإصلاح المحمدي‪ ،‬زمن الربيع الأول‬ ‫السنن التاريخية‪ ،‬في فهم أسباب الانحطاط وعوامل الارتقاء‬ ‫شروط النهضة‪ ،‬استراتيجيا الاقلاع الحضاري‬ ‫الإنحطاط القيمي‪ ،‬علة النكوص إلى الجاهلية‬ ‫تغيير النفوس‪ ،‬جوهر إرادة الشعوب‬ ‫معضلة التجديد‪ ،‬شرط الاستئناف الحضاري‬ ‫مدنية الدولة‪ ،‬بين تكلس التأصيل وتحجر التحديث‬ ‫معالجة أزمة الهوية‪ ،‬لفهم خصوصية الثقافة التونسية‬ ‫سردية الثورة‪ ،‬الانتقال الديمقراطي العسير‬ ‫الدولة‪ ،‬عوامل القوة وعلل الضعف‬ ‫التخلف‪ ،‬تشخيص الداء وتحليل الدواء‬ ‫النظام السياسي‪ ،‬غموض الهوية وعسر التكريس‬ ‫المؤسسات الدستورية‪ ،‬دعام المنظومة الديمقراطية‬ ‫الشباب‪ ،‬كيف لهم أن ينخرطوا في السلطة ؟‬ ‫القوة الإستخباراتية‪ ،‬لمواجهة التهديدات الارهابية‬ ‫الإتحاد المغاربي‪ ،‬حلم محال في واقع مضطرب‬ ‫معضلة الفساد‪ ،‬أصل الكساد ومعطل الإعمال‬ ‫التخطيط الاستراتيجي‪ ،‬رافد التنمية وقاطرة الإزدهار‬ ‫عوامل الإعتمار لتحقيق قوة الإعمار‬ ‫توازنات الدولة‪ ،‬سياسات اقتصادية فاشلة‬ ‫محركات التنمية‪ ،‬ثروة الموارد وافتقار الخيال‬ ‫المساجد‪ ،‬من ركيزة العهد النبوي إلى انتكاسة العصر الحديث‬ ‫الخاتمة ‪ :‬من سنوات التيه إلى سنوات التشييد‬ ‫‪2‬‬



















































‫معالجة أزمة الهوية‪ ،‬لفهم خصوصية الثقافة التونسية‬ ‫ترتبط الهوية والخصوصية الثقافية بعلاقة ديالكتية تتجاوز مج ّرد علاقة النسبي بالكلي‪ .‬ذلك أن الإشارة إلى الخصوصية‬ ‫الثقافية تتضمن تسليما بوجود هويّة محددة سواء كانت على أساس المكان أو العرق أو الطائفة أو الديانة أو اللغة وغيرها‪،45‬‬ ‫من هنا فإ ّن الهو ّية الثقاف ّية لمجتم ٍع ما تعتبر القدر الثابت والجوهري والمشترك من المميّزات أوالسمات العامة التي تميّز كل‬ ‫حضار ٍة أو مجتمعٍ عن آخر‪.‬‬ ‫ك ّل فر ٍد يستمد إحساسه بالانتماء والهويّة‪ ،‬ويشعر بأنه ليس مج ّرد فكرةً نكرة‪ ،‬وإنما هو يشتر ٌك مع مجموع ٍة كبيرة من‬ ‫الأفراد في عد ٍد من المعطيات والأهداف‪ ،‬إضافةً لانتمائه إلى ثقاف ٍة مركبة ( تمتزج فيها الحضارات المتعاقبة على البلاد)‪.‬‬ ‫وفي حالة انعدام هذا الشعور بالانتماء من قبل الفرد نتيجة عد ٍد من العوامل‪ ،‬سواء كانت داخل ّية أو خارجيّة‪ ،‬فإنه ينشأ في‬ ‫أعماقه ما يطلق عليه اسم أزمة الهو ّية والتي ينتج عنها أزمة وعي تؤدي إلى ضياع تلك الهويّة بشك ٍل نهائي معلنةً نهاية‬ ‫وجوده‪.‬‬ ‫تظهر الهويّة على أنها تتغذى بالتاريخ لتشكل استجابةً مرنة متحولة مع تح ّول الأوضاع التاريخ ّية والاجتماعيّة فالهويّة‬ ‫نسب ّية متغيرة مع حركة التاريخ والانعطافات التي تتع ّرض لها الدولة‪ ،‬مما جعل المف ّكر المغربي محمد عابد الجابري يؤكد‬ ‫على أن الهويّة ليست أمرا سرمديا أو ثابتا‪ ،‬بل هي مرتبطة بكافة المؤثرات الخارجية ( سواء كانت علمية‪ ،‬ثقافية‪ ،‬توازنات‬ ‫دولية ‪46)..‬في هذا السياق‪ ،‬تأتي الثورة كعامل أساسي من عوامل حركة التاريخ التي تؤدي بالضرورة إلى إعادة تشكيل‬ ‫هوية الشعب بما يتوافق ورؤية النخب الفكرية التي تأخذ بعين الاعتبار خصوصية الشعب الثقافية والانفتاح على الكونية‬ ‫القيمية التي تحيل إلى القواسم المشتركة بين البشر على اختلافهم العرقي والثقافي فتكون بذلك هوية الشعب متأصلة في‬ ‫القدم ومعت ّزة بتاريخها ومنفتحة على الحداثة ومط ّورة للمستقبل‪.‬‬ ‫كانت الثورة‪ ،‬التي لا تكتفي بإسقاط النظام السياسي فقط بل تسقط النظام الإجتماعي والثقافي السائد في المجتمع وتعيد انتاجه‬ ‫بما يتوافق مع رؤية النخبة الفكرية والسياسية من خلال المشاحنات المتداولة والمتتالية‪ ،‬سببا أساسيا في انبثاق النقاش حول‬ ‫قيم الشعب ومرتكزاته‪ .‬ولو أن النخب اعتمدت فكر الحركة الإصلاحية وجعلتها مرجعية الشعب وهويته لربحت الكثير من‬ ‫الوقت المهدور في الانتقال الديمقراطي‪.‬‬ ‫وقد انكشف طغيان التيار العلماني‪ ،‬الداعي للتحديث على الطريقة الغربية ونفي كل رواسب الحضارة العربية الشرقية داخل‬ ‫الذات العربية‪ ،‬من خلال تحكمهم بأجهزة الدولة كالقضاء والإدارة وحتى الإعلام حيث جعل من هذه المنصات أداة لضرب‬ ‫التيارات الأخرى فقد تربت نخب اليوم داخل منظومة الأمس القائمة أساسا على الفكر الاقصائي‪.‬فأسمى غاية النخب هي أن‬ ‫تعادي القديم المتمثل في الدين وتطلق عليه صفة الرجعية‪ ،‬لا أن يكون غايتها بناء مشروع فكري إصلاحي مشترك بين كافة‬ ‫التيارات المختلفة‪ .‬وتأكد أنه لا يمكن للمجتمع العربي أن يستأنف دوره الحضاري بدون برنامج ثقافي مشترك واضح المعالم‬ ‫بين النخب الفكرية والسياسية‪.‬‬ ‫تعد أزمة الهوية‪ ،‬بما هي مخاض فكري وسياسي واجتماعي‪ ،‬أهم العوامل التي تي ّسر الانفراج الثقافي‪ ،‬فمعلوم أن لكل أزمة‬ ‫حل ولا يمكن لهذه الأزمة أن تنفرج إلا في صورة اشتدادها وتشعبها ولذلك فهي تعتبر فأل خير على البلاد على عكس ما‬ ‫يتصوره البعض من أنها فأل شؤم على البلاد والعباد‪.‬‬ ‫‪ .45‬مسألة تغيير الوعي في الفكر الإسلامي المعاصر والراهن‪ ،‬عبد الباسط الغابري صفحة ‪.21‬‬ ‫‪ .46‬موضوع‪ ،‬موقع إلكتروني‪ ،‬مفهوم الهوية‪.‬‬ ‫‪28‬‬

‫يأتي حديثنا عن أزمة الهوية بعد أن أقدمت لجنة الحقوق والحريات على تقديم تقرير حول الحريات الفردية والمساواة وهو‬ ‫عبارة عن مشروع لمجتمع ذي أساسين‪ :‬المساواة المطلقة والآنية بين الرجل والمرأة في كل المجالات‪ ،‬والحرية المطلقة‬ ‫والتامة للأفراد في جميع المجالات‪ .‬يستند هذا التقرير إلى التحولات الهامة التي حصلت منذ إصدار مجلة الأحوال‬ ‫الشخصية في الوضعية القانونية والأدوار التي يمكن للمرأة التونسية الرائدة أن تلعبها في المجتمع المتحضر في القرن‬ ‫الواحد والعشرين‪ ،‬وإن كان يبالغ في تقدير مدى غلبة الأسرة النووية ( الفردية )على حساب العائلة الموسعة (الجماعية )‬ ‫ومدى بروز الفرد المستقل عن الجماعة التقليدية بما يتيح إعادة بناء نمط مجتمعي قائم على الفردية وكسر مفهوم‬ ‫الجماعة‪47.‬‬ ‫يدافع التقرير عن تمكين المرأة ومساواتها بالرجل ودعم مكانتها داخل العائلة‪ ،‬وهو هدف لا يمكن لكل تونسي مستنير إلا أن‬ ‫يقاسمه‪ .‬ولكن تبقى كيفية تجسيم هذه الغاية المشروعة مطروحة مع الحفاظ على تماسك المجتمع وتوازنه وجعله يقبل‬ ‫بالتغيير مع الإطمئنان لهويته وثوابته‪ .‬وهنا يكمن الإشكال‪.‬وعلى سبيل المثال‪ ،‬فإن التقرير يأخذ بالاعتبار دور العوامل‬ ‫الاقتصادية والاجتماعية متمثلة في تنامي دور المرأة في الإنفاق على العائلة وإرتفاع مستواها التعليمي‪ ،‬و لكنه تجاهل وزن‬ ‫ودور الانتماء الديني والموروث الثقافي والأخلاقي‪ .‬هو يبحث لامحالة عن شرعية لمقاربته ومقترحاته في رؤية دينية‬ ‫مقاصدية‪ ،‬لكن قارئه يكتشف أن المحتوى الأساسي لتأويله المقاصدي عبارة عن قيم تعتبرها النخب الحداثية عموما ذات‬ ‫طابع كوني‪ .‬إذ يذهب المتطرفون في هذا المنحى‪ ،‬ومنهم أبرز عناصر اللجنة التي وضعت التقرير إلى اعتبار منظومة‬ ‫الحريات الفردية والمساواة كما تجسدها المواثيق الدولية أسمى وأعلى من أي مرجعية دستورية وقانونية وطنية‪ .‬هو تعسف‬ ‫يتناسى كون هذه القيم نتاج التطور التاريخي للغرب وثقافته‪ ،‬وأن من حق البلدان والمجالات الحضارية الأخرى أن توفق‬ ‫بينها وبين ما تعتبره ثوابت وخصوصيات ثقافية ودينية‪.‬‬ ‫إن المقترحات التي تتميز بتغيير جذري في نمط عيش معين لا ينبغي لها أن تناقش وراء جدران البرلمان بصفته سلطة‬ ‫تشريعية صاحبة الشرعية‪ ،‬بل وجب رفع الأمر لمن يعطي الشرعية نفسه أي الشعب فهو الذي يقرر إن كان يريد تغيير نمط‬ ‫عيشه أم لا‪ ،‬إذ أنه من الناحية القانونية لا يمكن لا لرئيس الدولة ولا للجنة الحريات أن تلزم شعبا بأكمله على اتباع قانون لا‬ ‫يتماشى ومرجعياته الفكرية والدينية وثقافته‪ .‬الأمر الذي يطرح موضوع المحكمة الدستورية التي ترفض بعض النقاط‬ ‫الجوهرية في تقرير اللجنة ( مشروع القانون المستقبلي )‪ .‬أما الحل العملي الديمقراطي الذي لم ولن يقبل به أعضاء اللجنة‬ ‫التي تدّعي الحداثة والقيم الكونية‪ ،‬لا لشيء إلا لأنهم يدركون أنه لا قيمة لهم في سوق الصناديق الانتخابية فهم أقلية الأقلية‬ ‫وهو مشروع يخل بالنظامين السياسي والقانوني وحتى بالنظامين الاقتصادي الأسري المباشر والتعاقدي‪.‬‬ ‫سياسيا وظيفة رئيس الدولة هي قبل كل شيء‪ ،‬وبالنص الدستوري‪ ،‬الحرص على حفظ النظام القانوني بتوسط الرقابة‬ ‫الدستورية التي يمكن أن يدعوها لذلك (المحكمة عند إيجادها)‪ ،‬وحفظ النظام السياسي بالرقابة السياسية‪ .‬هذا التقرير قدم‬ ‫بوصفه مبادرة من رئيس الدولة‪ ،‬هادف لتحقيق التناسق التشريعي مع مبدأي المساواة والحرية الواردين في الدستور‬ ‫الحالي‪ ،‬وفي نفس الوقت‪ ،‬مواصلة جهد الإصلاح التشريعي البورقيبي‪ ،‬والحال أنه لو كان بورقيبة نفسه ما يزال حيا لتبرأ‬ ‫من هذا التقرير السخيف وذلك لتداعياته السلبية على المجتمع التونسي‪.‬‬ ‫أما خيانة الأمانة القانونية‪ ،‬فلا تحتاج للتدليل لأن مجرد قفزه على البند الأول كاف‪ ،‬فضلا عن توطئته التي اعتبرها الدستور‬ ‫أحد عناصره التشريعية‪ .‬ومعلوم أن الإصلاح القانوني ‪-‬التشريعي‪-‬الذي هو من الضرورات الدائمة في كل المجتمعات الحية‬ ‫‪ .47‬مفهوم الجماعة؛ وحدة اجتماعية تتكون من مجموعة من الأفراد (اثنين فما فوق) يربط بينهم تفاعل اجتماعي متبادل‪ ،‬وعلاقات صريحة‪ ،‬بحيث‬ ‫يتحدد فيها دور الأفراد‪ ،‬وتحكمها مجموعة من المعايير‪ ،‬والقيم الخاصة التي تحدد سلوك أفرادها‪ ،‬سعياً لتحقيق هدف مشترك‪ ،‬وبصورة يكون فيها‬ ‫وجود الأفراد مشبعاً لبعض حاجات ك ّل منهم‪.‬‬ ‫‪29‬‬

‫يكون مشروعا بارتكازه على ثوابت وقيم متعارف عليها في المجتمع‪ ،‬إلا أن التقرير المقدم لا يمت للإصلاح القانوني بصلة‬ ‫ذلك أنه لا يمثل مرجعية أغلبية الشعب بل إنها تجنح إلى الأقلية‪)4(48.‬‬ ‫الاقتصادي الأسري؛ إذ أن توسيع التزاوج في هذه الحالة سيتوقف إذا كانت الأسرة المالكة ستصبح متساوية مع اسرة‬ ‫النسيب الذي سيدخل في الشراكة ندا وليس بسهم لا يلغي أولوية الأسرة المالكة التي منها البنت والتركة‪.‬ومن ث ّم‪ ،‬فما‬ ‫سيحصل حتما هوأحد أمرين؛ إما مضاعفة العنوسة لئلا تتفتت الملكية أو تفتت الشركات الأسرية‪ ،‬لأن الصهر الذي سيصبح‬ ‫مساويا لصهره في رأس المال – في مثال أخ وأخت ورثا أب – فيفضل أن يشارك أخوته بدل مشاركة صهره‪ ،‬فينفرط عقد‬ ‫الأسرة لأن زوجته تريد العكس وتزداد الخلافات‪)5(.49‬‬ ‫عموما ‪ ،‬من الضروري أن ندرك ما مقصد رئيس الدولة من إثارة موضوع كهذا يعد من ثوابت الدين أن يجعله من‬ ‫المواضيع المثارة في وقت عصيب تمر به البلاد التونسية‪ .‬فالكل يعلم أن تونس تعاني من أزمة اقتصادية خانقة حيث بلغت‬ ‫نسبة المديونية ‪ 70‬بالمائة وعديد الإحصائيات التي تنبئ بخطر يتهدد تونس في المجال الاقتصادي‪ .‬لذلك يقول نعوم‬ ‫تشومسكي‪\":‬استراتيجية الإلهاء هي عنصر أساسي في التحكم بالمجتمعات‪ ،‬تتمثل في تحويل انتباه الرأي العام عن‬ ‫المشاكل الهامة والتغييرات التي تقررها النخب السياسية والاقتصادية‪ ،‬يتم ذلك عبر وابل متواصل من الإلهاءات‬ ‫والمعلومات التافهة \"‪50.‬‬ ‫كشفت لنا الثورة عقم النخب الفكرية عن إدراك اللحظة التاريخية مما أدى إلى تجاوز الشباب الثائر هذه النخبة المتكلّسة‬ ‫برواسب الماضي وأصنام الأفكار والإيديولوجيات وقام بثورته لنيل حريته المكدّسة للثروة المادية (اقتصاد) والرمزية‬ ‫(الفن) أما اليوم فالرهان الحضاري لدى النخب يتمثل في تحديد هوية للشعب مما طفحت جدلية الأصالة والمعاصرة على‬ ‫السطح كاشفة بذلك حمق النخب وعدم فهمها لدرس الثورة‪.‬‬ ‫‪ .48‬مبادرة الرئيس تخل بالنظامين القانوني والسياسي ‪ ،‬أبو يعرب المرزوقي ‪https://abouyaarebmarzouki.wordpress.com/‬‬ ‫‪ .49‬مبادرة الرئيس تخل بالنظامين الإقتصادي الأسري المباشر والتعاقدي‪ ،‬أبو يعرب المرزوقي ‪https://abouyaarebmarzouki.wordpress.com/‬‬ ‫‪ .50‬استراتجيات التحكم و التوجيه و التضليل العشر‪ ،‬تشومسكي (نعوم)‪،‬‬ ‫‪30‬‬

‫سردية الثورة‪ ،‬أو الانتقال الديمقراطي العسير‪51‬‬ ‫سميت ثورات شعوب البلدان العربية بالربيع الديمقراطي العربي‪.‬وتدل هذه التسمية على شوق هذه الشعوب إلى الحرية‬ ‫السياسية التي تكرس مفهوم سيادة الشعب أو حكم الشعب لنفسه‪ .‬فيكون هومصدر السلطة وأساس مرجعية القرار المتخذ‬ ‫فيها‪ .‬وهو ما يكرس دمقرطة الدولة ابتداء (السلطة السياسية) ودمقرطة المجتمع انتهاء (المجتمع المدني) ‪.‬‬ ‫تقوم فلسفة الثورة على قانونين رئيسيين توفرا في طرفي العلاقة السياسية { الحاكم والمحكوم }‪ .‬أما بالنسبة للأول فهو‬ ‫قانون تراكم القهر المسبب من طرف الحاكم‪ ،‬أي أنه يطنب في تعذيب شعبه واضطهاد حريته وقمع رأيه وهو تراكم كمي‬ ‫يطال جميع رعيّته‪ ،‬سواء كان ذلك في التطرف باسم الإله أي الحكم الديني أو باسم الطبيعة أي الحكم الطبيعي‪ .‬وقديكون‬ ‫تراكم القهر من طرف الطغاة (طغيان السلطة السياسية) أو من طرف الغزاة (طغيان المستعمر على المستعمر)‪ ،‬ولا يمكن‬ ‫البتة أن يثور الشعب على هذا الطغيان إلا إذا توفر تراكم الوعي بالقهر في صفوفه وهو يمثل القانون الثاني في معادلة‬ ‫الثورة أي أن الشعب غيرالواعي بقضاياه‪ ،‬وذلك إما من خلال فتاوى شيوخ السلطان أولا استنادا إلى ما قاله ابن تيمية‪:‬‬ ‫\"ستون سنة من إمام جائر أصلح من ليلة واحدة بلا سلطان\"‪ 52‬أو تجهيل الشعب بغرس أفكار خاطئة ومغلوطة من خلال‬ ‫الإعلام ثانيا‪.‬‬ ‫الأول أسيء فهمه من جانبين؛ فالحداثيون اليوم يؤسسون فكرهم ألإقصائي من منطلق أن أمثال ابن تيمية قد أ ّصل للقمع‬ ‫وللاستبداد جاعلا من السلطان الظالم خيارا محتوما على الشعب المقهور‪ ،‬وأما طائفة من الإسلاميين اتخذوا من هذه المقولة‬ ‫مصدرا لشرعية الطغاة ومثال ذلك الحركةالوهابية فيالسعودية التي ما انفكت تتحف الجميع‪ ،‬صغارا كبارا‪ ،‬عامة ونخبا‬ ‫بفتاوى تكرس ظلم السلطة لمن صدعوا بالحق‪ .‬والغريب أن المتدبر في مقولة ابن تيمية يدرك تأكيده على أهمية إرساء‬ ‫الدولة وتفعيل نظامها حتى يمكن للمجتمع الإنساني أن يعيش في مجموعات متلاحمة لا أن يعيش أفرادا متفرقين وذلك تحت‬ ‫مظلة أعراف أو قوانين تحكمهم وتؤطرهم وفي غياب سلطان القانون ينعدم سلطان الوجود وهو ما يفضي إلى الفوضى‬ ‫العارمة وهذا مقصده‪.‬‬ ‫الثاني دور الإعلام في بناء وعي المجتمع بقضايا سامية وبقيم عليا إن توفر فيه شروط النزاهة والحياد وفي المقابل يمكن‬ ‫للإعلام أن يساهم في انحطاط المجتمع ثقافيا وأخلاقيا عبر برامج تافهة لا ترقى لسلم البرامج الإعلامية تقدم للرأي العام‬ ‫فتساهم بنشر الرذيلة بدرجة أولى لدى فئة الشباب الذين يمثلون عمود المجتمع وجذوره‪ .‬وكما هو معلوم فإن الإعلام لا يؤثر‬ ‫على الوعي فقط‪ ،‬بل يؤثر كذلك على اللاوعي وكما يقول سيجموند فرويد ‪ ،‬مؤسس علم النفس التحليلي‪\":‬يُمكن للاوعي‬ ‫الإدراكي ال ُمصاحب للعقل البشري أن يتعامل مع بني البشر دون أن يمر عبر بوابة الوعي الإدراكي\"‪ 53‬وهو تفسير مبدئي‬ ‫يُخبرنا بإمكانية حدوث غز ٍو للأفكار الكامنة في العقل الباطن (اللاوعي) نحو تلك التي ترقُد في العقل الظاهر (الوعي)‪،‬‬ ‫لدرجة قد تدفع تلك الأفكار الباطنة ال ُمختزنة في اللاوعي البشري في التح َّكم في زمام العقل بأسر ِه ومنها إلى سائر ال َجسد‪.‬‬ ‫والأدهى في ذلك أن ما َسلف ذكره يحدث دون ح ّس إدراكي من العقل الظاهري لأ ّنَه تحت َصو َلة العقل الباطني وسطوته‪54.‬‬ ‫‪ .51‬أ‪ .‬الطلابي (محمد)‪ ،‬حلقة تحديات الإنتقال الديمقراطي‪ ،‬شركة رؤية للثقافة والإعلام على اليوتوب‬ ‫‪ .52‬ابن تيمية ‪ ،‬مجموع الفتاوى ‪28/290‬‬ ‫‪ .53‬فرويد (سيجموند)‪،‬‬ ‫‪ .54‬منصور (إسلام)‪ ،‬مقال بعنوان زراعة فكرة في العقل البشري منشور في موقع مدونات الجزيرة‪.‬‬ ‫‪31‬‬

‫يمكن إذا التحكم في المجتمع من خلال وسائل الإعلام سواء المقروءة أو المسموعة أو المرئية كما أن المسلسلات والأفلام‬ ‫تعطي إمكانية التأثر بالشخصيات المستوحاة إما من الخيال ( تمثل أفلام هوليوود التي يكون محورها أبطال خارقون الأكثر‬ ‫إيرادا ماليا والأكثر استمتاعا جماهيريا ضمن قائمة أصناف الأفلام ) أو من قصص واقعية وهو ما يح ّمل مسؤولية إضافية‬ ‫على عاتق المنتج في اختياره للصنف وللقصة أو السيناريو فهو إما سيبني قيما أو سيهدم مثلا‪.‬‬ ‫ينتج عن إتحاد القانونين { تراكم القهر وتراكم الوعي بالقهر } قيام الثورة التي تخ ّول للشعب المطالبة بالكرامة المتو ّلدة من‬ ‫قيمة العزة والشموخ التي تقود العقل والقلب وذلك لأن قيمة العزة تتفجر في وجدان الشعوب فتقودهم إلى تكريس قيم الحرية‬ ‫والعدل كما تخوله من هدم النظام القمعي ثم إعادة بناء نظام ديمقراطي قادر على تحقيق الأمن والاستقرار السياسي‬ ‫والتطور الاقتصادي والرخاء الاجتماعي والنهوض الحضاري‪.‬‬ ‫إذا أردنا تلخيص مقاصد الثورات أو علة قيامها وهي من بين تحديات الإنتقال الديمقراطي للدول التي حصلت فيها الثورات‬ ‫فيمكن حينها أن نق ّسمها إلى أربع مقاصد كبرى ‪:‬‬ ‫‪ -1‬إنتاج السلطة وإعادة توزيعها (أو الثورة السياسية)‬ ‫وذلك من خلال استرداد الشعب صاحب السلطة سلطته وإعادة توزيعها توزيعا عادلا بين مختلف القوى السياسية باعتماد‬ ‫معايير الديمقراطية التي تخلق من وهن القهر‪ ،‬قوة العدل ولا تكون هذه الثورة إلا من خلال تشبيب نخبة الإرادة (السياسة)‬ ‫وهو ما يتوافق مع ثورة الشباب خاصة وهي الثورة التي أراد من خلالها الشباب أن يستعيد سلطته بصفة عامة ويستعيد‬ ‫وطنه بصفة خاصة‪.‬‬ ‫تجدر الإشارة ها هنا إلى أن نجاح الثورة السياسية هي التي تخ ّول النجاح في بقية الثورات المتتالية وفي فشلها أو انتكاستها‬ ‫تتع ّطل عملية الإنتقال الديمقراطي وهو ما يتسبب في إضاعة الوقت في أمور قد لا تنفع الحاضر ولاالمستقبل‪.‬‬ ‫‪ -2‬إنتاج الثروة وإعادة توزيعها (أو الثورة الاقتصادية)‬ ‫لا تكون إعادة إنتاج الثروة إلا من خلال تطبيق العدالة الاجتماعية في السياسة الجبائية مثلا وفي توزيع الثروة‪ .‬كما أن‬ ‫الحرية الاقتصادية قد تلعب دورا في نمو اقتصاد البلدان وتطويرها إضافة إلى ذلك نجد أن الخوصصة‪ ،‬في صورة ما إذا‬ ‫كانت في صالح الدولة فإنها تدر عليها أرباحا طائلة‪ .‬أما إذا كانت هذهالخوصصة قائمة على المحسوبية فهي تعزز حينها‬ ‫الأوليغارشيا الاقتصادية‪.‬‬ ‫‪ -3‬إنتاج القيم الحاكمة وإعادة توزيعها (أو الثورة الأخلاقية)‬ ‫تمثل الثورة الأخلاقية إحدى دعائم المنظومة الديمقراطية بما تمكن من خلق إيتيقا اجتماعية تسعى من خلالها إلى تكريس‬ ‫التقوى بالتعبير القرآني أو القيم الكونية الفاضلة بالمنظور الفلسفي وبإنتاجها والسعي إلى إعادة توزيعها يمكن للمجتمع الثائر‬ ‫أن يؤطر تلك القيم تأطيرا قانونيا (التشريع) حتى ينال كل مخالف العقاب المستحق دون محاباة وهو ما يكرس العدل داخل‬ ‫المجتمع‪.‬‬ ‫‪ -4‬إنتاج المرجعية الفكرية وإعادة توزيعها (أو الثورة الفكرية)‬ ‫إن المرجعية الفكرية بما تمثله من مقومات الدولة أو صورة العمران بالتعبير الخلدوني لن نتمكن من بلورتها إلا في صورة‬ ‫ما اهتدينا للتدبر في مقولة \" الدنيا مطية الآخرة \" فلو أخذناها في سياق تاريخي (الانتقال من الدنيا إلى الآخرة) فإننا لن نفقه‬ ‫مقصدها‪ ،‬بل لا بد أن نأخذها في سياقها الغائي‪ ،‬وهو أن أعمال الناس في الدنيا خلال الحياة يجب أن ترتقي لأن تكون‬ ‫موضوعا للجزاء بمعايير الآخرة‪55.‬‬ ‫‪ .55‬المرزوقي (أبو يعرب)‪ ،‬مقال بعنوان الدنيا أو مطية الآخرة ‪ ،‬منشور في موقعه الرسمي‪.‬‬ ‫‪32‬‬




































Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook