كيف نقوم أثر الأعلام بالتاريخ المديد؟
1 القسم الاول 8 القسم الثاني 8 المقدمة 58 المسرحية التاريخية المديدة 10 السرديتان التأصيلية والتحديثية 12 13 الحرية والكرامة شرطا التحرر من الاستضعاف والاستتباع 14 التأصيلي الاستئصالي والتحديثي الاستئصالي10 15 15 الشرعيات الكاذبة للأنظمة القبلية والعسكرية الاستئناف وثورة الإسلام الحقيقية 17 24 الخاتمة :استهداف الغرب للأسسين التاريخي وما بعد التاريخي 24 القسم الثالث15 24 القسم الرابع 26 مقدمة 28 منظومة الابعاد الخمسة لتصنيف النخب وعلاقتها بالمعادلة الوجودية 30 32 مقارنة بين كاريكاتورا التأصيل والتحديث في تونس ومصر ثورة الشباب تجسيد لكرامة الانسان وكيانه20 33 تلازم التحرر والتحرير: 33 خاتمة 34 35 القسم الخامس 3725 38 المقدمة 41 علة فشل الجيل الأول في القيادة التناظر بين علاقة الوجود بالإرادة وعلاقة الفن بالمعرفة 41 42 علاقة الاستعمار بانحطاط التربية والمعرفة مقارنة بين التربيتين التأصيلية والتحديثية القسم السادس المقدمة شروط السيادة
43 علاقة الافقين التأصيلي والتحديثي بشروط الانتاجين 45 ثورة الصدر 46 48 مقومات السيادة :الابداعان المادي والرمزي5 49
أما وقد هدأت الزوبعة التي ثارت حول الرئيس بورقيبة بين مستغليه ومستغلي خصومهسياسيا فإن الكلام عليه يمكن ان يعود إلى معايير تقويم أثره التاريخي .وقد سبق لي أن تكلمت عليه أربع مرات اثنتين بالكتابة واثنتين شفويتين.وقد رأيته عن قرب مع عبد الناصر وبن بلة في بنزرت وتكلمت عن ذلك أول مرة سنة .2004كانت نوازع شعوري الغائم قد اجتمعت فيهم ممثلين للتحديث (بورقيبة) ولثورة التحرير (بن بلة) وللطموح العربي (عبد الناصر) :لم أكن اميز بين ظاهر وباطن.وكانت الثانية بمناسبة جائزة رئاسة الجمهورية في الباكالوريا في ساحة دار المعلمين العلياسنة .1966ومن جنسها مرة أخرى بمناسبة جائزة الإجازة سنة .1969ففي الحقيقة الثانيةوالثالثة من طبيعة واحدة ولذلك تكلمت على مرتين لا على ثلاث .وكان كلامي عليهما شفويا في حصص متلفزة.بقيت المرتان الكتابيتان سابقة وهذه .والسابقة هي التي لخصت فيها طبيعة موقفي منرؤساء تونس الخمسة :من بورقيبة إلى السبسي مرورا بابن علي والمبزع والمرزوقي دون تقويم لأثر البورقيبية في التاريخ.لذلك سأخصص هذه المرة الرابعة في الجملة والثانية كتابيا لهذا الغرض .وطبعا لا ينبغيأن يكون الكلام تعبيرا عن موقف لا يتجاوز أحوال النفس .ولا بد من البدء بتحديدمعايير تقويم أثر الأعلام في التاريخ حتى لا يكون الحكم على نواياهم بل على أفعالهم وعلاقتها بأقوالهم عبارة عنها.ولو كان الكلام مقصورا على تقويم أثر بورقيبة وحده لكانت المسألة محلية ولما كلفتنفسي جهد الكتابة في المسألة .همي يتعدى تونس لأني لا أنشعل بالأقطار بل بالأمة وبالذات تلك اللحظة العربية الإسلامية التي تحدد فيها دور البورقيبية. 50 1
لذلك كان أول كلام لي على بورقيبة في حادثة عشتها شابا بمناسبة حفل تحرير بنزرتسنة 1963بحضور بورقيبة وابن بلة وعبد الناصر :وهم رموز خاصية اللحظة .والمعلوم أنيلست مؤرخا كما أن كلامي يتجاوز أحوال النفس -وذلك ما لم يتجاوزه من تكلموا له أو عليه في هذه الزوبعة.كلامي يتعلق بفلسفة التاريخ المديد لتحديد دلالة اللحظة التي يمكن بالقياس إليهامعرفة دور البورقيبية وما يجانسها .فهذه اللحظة من التاريخ المديد هي اللحظة التي فتحتبسقوط الخلافة بعيد الحرب العالمية الأولى والشروع في الشكل السياسي الحديث (الاحزاب) وختمت بثورة الشباب والشروع في الشكل الثوري الحديث (الشعوب).وقد عايشت جيلين فشلا في تحقيق الصلح بين التأصيل والتحديث .اللحظة التي أتوجهلأصحابها حاليا -شباب الثورة بجنسيه-تجاوزت التداول بين هذين الجيلين اللذينعايشتهما إلى التساوق بين آثارهما تساوقا آل في المجمل إلى الحرب الاهلية .وهذه الحرببلغت ذروتها في قطري الخلافة الأوسطين وهي تسعى إلى توريط قطري الخلافة الأول والأخير في حرب واضحة الهدف :منع الاستئناف.من ينكر أن العرب خاصة والمسلمين عامة يعيشون حربا أهلية بسبب فشل المصالحة بين التأصيل والتحديث؟من ينكر أن هذا الفشل لا يمكن أن يقتصر تفسيره على رد حقيقة اللحظة إلى تضخيم دور العامل الخارجي.والـمعلوم أن مفهوم التاريخ المديد موضوعا لفلسفة التاريخ مفهوم وضعه ابن خلدونعندما اعتبر التاريخ الكوني مؤلفا من لحظات مديدة يفصل بينها انقلاب كيفي شاملواعتبر المقدمة محاولة في صوغ اللحظة التي يعتبرها نهاية حقبة سابقة وبداية حقبة لاحقة.لا يمكن الكلام على بورقيبة وأمثاله في الإقليم من دون تحديد طبيعة اللحظة التي عملفيها وترك أثرا هو ما ينبغي تقويمه للحكم له أو عليه .وحتى أيسر تعريف اللحظة التي 50 2
ختمت لحظة بورقيبة وأمثاله-لحظة نتجت عن ثورة الشباب-فيمكن أن أقول إنها لحظة استبطنت فيها الأمة صدام الحضارات وأدركت ضرورة تجاوزه.الحرب الأهلية العربية والإسلامية الحالية حرب اهلية تجمع بين الفتنة الكبرى (سنةشيعة) والفتنة الصغرى (علمانية أصولية) بصدام حضاري داخلي .والصدام الحضاريصدام مع الإسلام ومحاولات التبرؤ من حضارته وتراثه وقيمه :إما بالسعي لإحياء ما تقدمعليه (علة الفتنة الكبرى العميقة) أو لاستنبات ما تأخر عنه (علة الفتنة الصغرى العميقة).فبؤرة صدام الحضارات داخلية بعد أن استبطنت هذين الخروجين على الإسلام إما بماتقدم عليه (علة الفتنة الكبرى) أو بما تأخر عنه (علة الفتنة الصغرى) تأسيسا للدولالقطرية التي هي محميات غربية أنشأها الاستعمار أو لإحياء امبراطوريات متقدمة على الإسلام كسروية أو صهيونية أو أرثودوكسية.لحظة الحرب الأهلية العربية بين نخب الأمة ليست سياسية فحسب بل هي حضاريةكذلك :ليست حربا لخلاف حول برامج سياسية بل حول محددات كيانية أعمق .إنها صدامحضاري إما بين الإسلام وما تقدم عليه (قبل الفتح) أو بينه وبين ما تأخر عنه (بعد الاستعمار) :حرب تهدف لإلغاء ما بين السابق واللاحق.والحرب الأهلية الداخلية بوصفها صداما حضاريا داخليا تجري في مناخ حرب أهلية كونيةهي صدام حضاري مع ما يعتبر أهم عائق للتنميط العالمي :الإسلام .واللحظة التي تحددخصائص البورقيبية تتنزل بين بداية نهاية التأصيل (حركة النهضة والتحرر من الاستعمار) وبداية نهاية التحديث (الموروثة عن الاستعمار) :مشتركة لكل الأقاليم.وخصائص هذه اللحظة تبين أن الكثير مما ينسب إلى البورقيبية ليس خاصا بها بل هومن خصائص اللحظة في مجالات الإرادة (السياسة) والمعرفة (الثقافة النظرية) والقدرة (الاقتصاد) والحياة (الثقافة الفنية) والوجود (رؤى العالم).وقد تعينت صفات هذه اللحظة في النخب ممثلة الإرادة (السياسيون) والمعرفة(العلماء)والقدرة (الاقتصاديون) والحياة (الفنانون) والوجود (الرؤى). 50 3
فماذا حدث بين سقوط الخلافة وثورة الشباب؟ أثر البورقيبية يتحدد بخصائص اللحظةالتي عرفناها بالتداول بين جيلين التأصيلي الذي قاد حرب التحرير والتحديثي الذي نصبه الاستعمار لإفشال التحرير الحضاري.وقد انتهى الأمر انتهى إلى الحرب الاهلية الحالية .وبخلاف السائد فالبورقيبية أقربمن اليوسفية إلى فكر جيل التأصيل لميله إلى التحديث الغربي التقليدي ورفضه المعسكر الشرقي والقومية العربية.فحركة الثعالبي لا تختلف كثيرا عن حزب الوفد المصري والتحديث في إطار الغربالتقليدي لم يكن يدعي الثورية والقطع معه تربية وحكما وتسييسا .والجامعات المصريةعلى سبيل المثال قبل الناصرية كانت في علاقة وطيدة بجامعات الغرب عامة وفرنسا خاصة وعلى نفس المنوال سعى بورقيبة في تونس.وكذلك واصل المغرب الاقصى وليبيا السنوسية .ومن ثم فالجزائر بسبب ظروف المقاومةكانت خيارا شاذا في تلك اللحظة خيارا تابعا للناصرية والمعسكر شرقي ولا يندرج في حركة التحرير التقليدية كما في مصر وتونس قبل عبد الناصر.فبين سقوط الخلافة وثورة الشباب اتصفت اللحظة بتضاؤل دور خيار التأصيل وسيطرخيار التحديث بنخب ذات حداثة سطحية تخلت عن الأول دون شروط الثاني .والنتيجةهي تحديث مستبد فرض تغييرا سطحيا عنيفا في السياسة والمعرفة والاقتصاد والفنون والرؤى وبقي العمق الثقافي والاجتماعي بطيء التغيير ومديده.وما حدث في الحقيقة هو إنشاء فترينات حداثية في تعابير ثقافية واجتماعية لقلة غيرتالأنظمة التي كانت أقرب لوجدان الشعوب بنزعة ثورية سطحية .فكانت الانقلابات فيتونس ومصر والعراق وسوريا وليبيا إلخ بدعوى بناء أنظمة جمهورية لم تضف إلى عدم الشرعية التقليدية ومن ثم الحاجة إلى العنف.فهذه البلاد كلها كانت ملكية شبه دستورية أي إنها لم تكن مطلقة مثل بدائلها الجمهوريةالمتأثرة بفاشية ما بين الحربين غربية كانت أو شرقية .ولما تضاعف ذلك بسبب التقابل بين 50 4
النموذجين السوفياتي والرأسمالي والاحتماء بالقوتين العظميتين تضاعفت عناصر التبعية في المجالات الخمسة.وبدأت ارهاصات الحرب الأهلية بين انظمة الإسلام التقليدي والغرب التقليدي من جهةوأنظمة الانقلابات العسكرية التي تدعي الثورية الاشتراكية .ولذلك فالمقابلة بينالبورقيبية واليوسفية ليست مقابلة على أرضية الإسلام بل هي مقابلة على أرضيةالمعسكرين ونموذجي التحديث الغربي الرأسمالي والشرقي الاشتراكي .والدليل القاطعأن بورقيبة كان حليف الإسلام التقليدي ضد الأنظمة التي تدعي القومية الناصرية والبعثية رغم موقفه الأتاتركي من الماضي الإسلامي.لكن المعيار الأوضح هو ما يستنتج من المآلات :فمآل السياسة البورقيبية أنتج ظاهرتينعجيبتين :دور شباب تونس في ظاهرتي رمز التحديث والتأصيل؟ فثورة الشباب انطلقت منتونس ونسبتهم في الحركات الجهادية إلى جميع أقطار الأمة هي الأكبر وهما ظاهرتان تبدوان متناقضتين لكنهما من نفس الطبيعة.ولعل وجه الشبه بين البورقيبية والأتاتركية في هذه المآلات أهم من وجه الشبه فيالبدايات :من ذلك عودة تركيا إلى التأصيل بعد سطحية التحديث .ولولا اختلاف الحجمينلكانت نسبة تونس الحالية إلى اللحظة التي نصف عين نسبة تركيا إليها :ففيهما ستحسم معركة التأصيل والتحديث بسياسة سلمية.كلتاهما تعيد الامة إلى التوازن بين التأصيل والتحديث فتعتبران شبه استثناء حول مابينهما من أقطار تمر بحرب أهلية لها نفس غاية الثورة الشبابية .فالثورة جمعت بينالمطالب الحداثية (الحرية والكرامة) والمطالب التأصيلية (الهوية والسيادة) ومن ثم فهي تحيي في الأمة شرط الطموح الامبراطوري.فبالتحديث يكون المطلوب التحرر من الاستبداد والفساد داخليا وبالتأصيل يكون المطلوبالتحرر من الاستضعاف والاستتباع :وشرطهما هو شرط السيادة .ومن ثم فنحن قد وصلناإلى لحظة الحسم في الفتنتين اللتين لهما نفس الإشكالية :كيف تكون الدولة محققة لشروط الحماية والرعاية نظاما وحجما؟ 50 5
والجامع بين النظام (لتحقيق الحرية والكرامة) والحجم (لتحقيق السيادة حمايةورعاية) هو التحرر مما بدأت منه المرحلة ومما انتهت به وتجاوز لحظتها .وقد فهمت الثورةالمضادة وسندها الغربي ذلك :فأعلنوا الحرب على السنة العربية والتركية بتجنيد الفرس والكرد وتشويه الإسلام السني وثرة الشباب.وما يسمى البورقيبية المحدثة (النداء والجبهتين والقوميين) ينتسبون إلى الثورةالمضادة وحاميها الاستعماري والاسرائيلي وأداتيهما الفرس والكرد .ولذلك فحربهم هيحرب على الإسلام وعلى ثورة الشباب وتركيا وقلة من سنة العرب يحاول مساعدة ثورة الشباب في الهلال (لأنهم ما زالوا في حرب اهلية)الانقلاب الأخير على تركيا (أمريكا وإسرائيل وإيران والأكراد) فشل لكنه متواصلعسكريا (مع الأكراد) واقتصاديا (مع أوروبا) مثل غاية الحرب الأولى .ذلك أن الغربيعلم أن العرب فقدوا الطموح الامبراطوري من قديم وأن الأتراك هم الذين واصلوا طموح الإسلام الامبراطوري شرط العظمة والمناعة.وتركيا تعلم أن العرب لن يستردوا هذا الطموح حتى تتحالف معهم فيجتمع ما به بدأالإسلام وما به صمد في التاريخ من دون نجاح ثورة الشباب الحالية .فيكون أثر البورقيبيةالإيجابي مثله مثل الأتاتوركية النتيجة السلبية لمشروعهما :فبغلوهما في التحديث السطحي مكنا شعبيهما من الوعي الدقيق بإدراك الحل.التردد بين الغلوين التأصيلي والتحديثي كان ينبغي أن يصل إلى لحظة الحسم لتحقيقالقيم المشتركة بين الحداثة والأصالة :مطالب الثورة وشروطها .وهذه الشروط التيينبغي تحقيقها هي المطالب المباشرة للثورة على الاستبداد والفساد داخليا وغير المباشرة على الاستضعاف والاستتباع خارجيا.والمطالب المباشرة هي جوهر الحكم الديموقراطي والمطالب غير المباشرة هي شر طالسيادة التي شروط القدرة على حماية الأمة ورعايتها الذاتيتين .وهذه الشروط المباشرةوغير المباشرة هي ما يقتضي السياسة الحديثة للجماعة والحكم الكافي لتحقيق المناعة :من هنا ضرورة الخروج من لحظة بورقيبة. 50 6
لحظة بورقيبة وأمثاله تبينت خصائصها بمآلها :فمآلها تحقق ذروة الاستبداد والفساد(ابن علي مبارك بشار إلخ )...وذروة الاستضعاف والاستتباع .فكانت الثورة على الأولينمباشرة ثم أدرك الثوار شرطهما أعني الثورة على الثانيين وقد شاركتها في ذلك الثورة المضادة وحماتها في الإقليم والعالم.والحماة في الإقليم هم إيران وإسرائيل والثورة المضادة هم ممولوا الانقلابات والتعثيرالذي جعل الثورة تتحول إلى حرب أهلية غايتها استئناف الدور .وإذن فأهم أثر للبورقيبيةوالأتاتركية بالنموذج الغربي التقليدي-ومثلهم كل الانظمة العسكرية بالنموذج الشرقي التقليدي -هو نقيض ما سعيا إليه.ومن ثم فهما -ومثلهما الأنظمة العسكرية والقبلية العربية-يمثلان غاية اللحظة التيحاولت تحديدها بوصفها الإطار المديد والمعيار الدقيق للتقويم .لا يهمني بورقيبة ولاأتاتورك ولا الأنظمة العسكرية والقبلية العربية بل ما يهمني هو الإطار التاريخي العام بلغة ابن خلدون الذي يفهمنا أثرهما.وهذا الإطار هو العلاج السطحي الذي لم يستطع رغم كل جهده القضاء على أعماقثقافة الشعب وسعيه للتحرر من الاستبداد والفساد والاستضعاف والاستتباع .إن الاثر لايعود لا إلى بورقيبة ولا إلى أتاتورك ولا إلى الأنظمة العربية العسكرية والقبلية بل غايةمجريات معركة الاستئناف بين التأصيل والتحديث .وهذه الغاية التي لم يكن أحد يقصدهاهي ما تمخض عنه التخاصب التاريخي الكوني بين حضارتين :واحدة تستأنف دورها وأخرى تتلكأ في الاعتراف المتبادل. 50 7
لما حاولت تطبيق نظرية ابن خلدون في التاريخ المديد لفهم ظاهرة السياسة في الحقبةالتي حددتها بما بين سقوط الخلافة وثورة الشباب كان قصدي فهم ظاهرة عامة اتصفت بها هذ الحظة من تاريخنا لتحديد شروط تجاوزها.لم يكن قصدي الكلام على البورقيبية ولا على خصومها لأنهما في تاريخ الإسلام منالمفاعيل الثانوية التي كان تأثيرها بعكس ما قصده صاحباهما وهذا التأثير العكسي هو ما يعنيني.فالتاريخ المديد لا يتحدد بما يريده من يبدون أبطالا في التاريخ القصير .إنما هؤلاءمجرد ممثلين في مسرحية مؤلفها يبقى مجهولا وتحديده هو مطلوبي .إن أحداث المسرحيةالتاريخية المديدة هي معركة الجيلين المتداولين -على التحرير الحضاري التأصيلي والحصاد السياسي التحديثي في أمة بدأت تنهض.فالجيل التأصيلي هو جيل المؤمنين بالاستئناف الحضاري للأمة في حبكة انتسجت مثل الأدب الشعبي دون مؤلف محدد في تاريخ العالم منذ نزول الإسلام.ولم يكن أمام هذا الجيل حل غير تجريب خدمة هذا النزوع العام بأدوات حديثة لاتتخلى عن فعل الاستئناف بعد سقوط الخلافة الرمز الحي لوجهي الحال .فالخلافة كانترمز ما يراد استئنافه وكان سقوطها رمز ما يحول دونه أي وضعية المسلمين في هذه الحبكة العالمية :أثر الحضارة الغالبة وجيل التحديث .ولنبدأ فنحدد العناصر التي نريد إبرازها باستعارة المؤلف المجهول في الأدب الشعبيفتصبح حبكة السردية أو المسرحية محركا تاريخيا للجماعة .وتحديد هذا المؤلف المجهول لم يخرج عن: 50 8
▪ شكلين دينيين ▪ وشكلين فلسفيين.وهذه الأشكال الأربعة تشترك في أصل واحد هو التعليل العقدي لأمر مجهول الطبيعة.فبين أن للشكل الديني الأول شبها بشكل فلسفة التاريخ الثانية :تعليل بظاهرات طبيعية(دين طبيعي) وبقوانين مادية قنمت في الثانية (مادية تاريخية) .وبداية التفسير الدينيلها شبه بغاية التفسير الفلسفي :تعليل أحداث التاريخ بظاهرات طبيعية بداية (دين طبيعي) وبقوانين مادية غاية (ماركسية).كلاهما يعين المؤلف المجهول لمسرحية التاريخ فيكون إما فعل الآلهة التي وراء الظاهراتالطبيعية أو فعل البنى المادية التحتية التي وراء الظاهرات التاريخية .لكن غاية التحديدالديني لمؤلف المسرحية تشبه بداية التفسير الفلسفي لمؤلفها :فوراء الطبيعة كائن عاقل(الله) ووراء التاريخ كائن عاقل(الإنسان).وتلك هي أصناف المؤلف (اثنان دينيان واثنان فلسفيان وأصل مشترك) لمسرحية التاريخ المديد الذي يبرز على ركحه ممثلون يتوهمون فيهمون غيرهم بأنهم هم المؤلفون. وحتى تكتمل صورة الاستعارة المسرحية فلنذكر بعناصرها: -1المؤلف -2والممثل -3والحد الواصل بينهما هو الأدوار المشخصة -4لأحداث الحبكة -5والداعي لهذه الرؤية بهذه الاستعارة.ولولا هذا المخمس لتفسير حركات الوعي الجمعي في التاريخ المديد لامتنع أن توضع فلسفة تاريخ مقبولة سواء كانت دينية أو فلسفية هما من طبيعة واحدة .والممثلون الذين يدعون أنهم مؤلفون لأحداث كانت تجرفهم جرفا بلاوعي يخلطون بين التمثيل والتأليف فينسبون إلى أنفسهم ما لا ناقة لهم فيه ولا جمل. 50 9
لكن المؤلفين بحق لا ينسبون إلى أنفسهم دور التأليف بل يعتبرون أنفسهم مجرد عارضين إما لما تلقوه وحيا بالمعنى الديني (الانبياء) أو علما بالمعنى الفلسفي (الفلاسفة).وكلاهما متلق لدلالة آيات في الطبيعة والتاريخ (الآفاق والانفس قرآنيا) تفترض رؤيةعميقة لما وراء الطبيعة والتاريخ من سنن سواء صيغت فلسفيا (فلسفة الطبيعة والتاريخ العقلية) أو دينيا (فلسفة الطبيعة والتاريخ الدينية).ولذلك فالأنبياء والفلاسفة لا يعتبرون أنفسهم مؤلفين بل هم يعتبرنها متلقية ومترجمة لما تقلوه ناقلين أو مبلغين إما للوحي (الأنبياء) أو للعلم بدلالة آيات الكون والتاريخ.وذلك كانت المعركة بين سرديتين في اللحظة التي أحاول فهمها حقبة في التاريخ المديد لعلاقة الإسلام بالحضارات المتقدمة عليه والتالية عنه :. 1السردية التأصيلية تجمع بين غاية فلسفة التاريخ الدينية (الإسلام) وبداية فلسفة التاريخ الفلسفية (الخلدونية). . 2والسردية التحديثية تعكس.فسردية التحديث تجمع بين بداية فلسفة التاريخ الدينية ونهاية فلسفة التاريخ المادية سواء كانت رأسمالية أو اشتراكية :اكتفاء الدنيوي بذاته.وحتى نفهم طبيعة العلاقة بين السرديتين لا بد هنا من التذكير بالمعادلة الوجودية التيوضعتها لفهم مقومات الكيان الإنساني سواء كان صاحبه واعيا به أو غير واع :اللهوالطبيعة والتاريخ والإنسان والوصل بين الله والطبيعة من جهة والتاريخ والإنسان من جهة ثانية.فهذا الوصل تحركه طبيعة السردية التي تصل الله والطبيعة بالتاريخ والإنسان تلقياوبحثا لأن الوصل له توجهان متقابلان :نازل يتلقاه الإنسان وصاعد يبثه الإنسان .إنهتلقي القطب الثاني (الإنسان) من القطب الأول (الله) إيماني يترجم دينيا أو فلسفياوبث يتوجه به القطب الثاني للقطب الأول عبادة دينية أو عبادة فلسفية :ويوحد بينهما ما بين الوحي والعلم من صلة. 50 10
وبمجرد إلغاء أحد القطبين (الله أو الإنسان) يلغى القطب الثاني (الله أو الإنسان)فلا يبقى إلا الوسيطان بينهما وقد أصبحا بديلين منهما .فتصبح السردية ظاهرات طبيعية وأحداثا تاريخية مستحيلة الفهم.وبذلك نصل إلى أولى خاصيات جيل التحديث الذي اختاره الاستعمار لهزيمة جيلالتأصيل في عملية الانتقال من الاستعمار المباشر إلى غير المباشر .فجيل التحديث يتألف من ممثلين لمسرحية ذات سردية تسلب القطبين عكس شعبها.فهي تسلب القطب الإلهي عقدا وتسلب القطب الإنساني سياسة :ولهذا فهي بالجوهرمسرحية تاريخية بالاستبداد والفساد بحماية الاستضعاف والاستتباع لأنها بالجوهر غرق في الطبعانية والتاريخانية فاقدتي الأساس والمعنى.لذلك فكل ما ينسب إلى هذا الجيل حقيقته تنسب إلى صراع عميق هم مجرد بيادق فيهبسبب الاستضعاف والاستتباع فهم ممثلون لأدوار كتبت في سردية من فرضهم على شعوب هدفها من بدايتها مقاومة سردية الاستئناف عند شعوبهم.ومعنى ذلك أن الثورة التي ختمت هذه اللحظة متصلة مباشرة بسقوط الخلافة التيبدأتها :سقوط الخلافة كما بينا دال في آن على غاية الاستئناف وعلى عقبته .لكن الشبابالذي ثار لم يكن ليعي هذه العلاقة الغائبة في بداية الثورة لولا أن الأحداث والمآزق التي أنتجتها ثورته أعادت الأمة إلى الفتنتين الكبرى والصغرى.ذلك أن المشترك بين الفتنتين تبين أن تحريف ثورتي الإسلام في النظر والعقد وسيطرةهذا التحريف في العمل والشرع هما عائقا تحقيق أهداف الثورة .والوعي بهذين العائقينيلغي المقابلة بين التأصيل والتحديث إذ يبين أن المشترك بينهما هو عين ما حرف تاريخيا في النظر والعقد وفي العمل والشرع.وميزة الثورة أنها ساوقت بين الجيلين .فجيل التأصيل حقق شروط التحديث بعمق فيتكوينه خلال استبعاده واضطهاده وجيل التحديث السطحي فشل في تحقيق ما انتدب لأجله فاضطر مع سيده لاختلاق كاريكاتور التأصيل لمنع الاستئناف. 50 11
وذلك هو المعلاق الثاني أو الشماعة الثانية :فبعد شماعة مقاومة مؤامرات الغرب التيحكم بها عملاؤه احتاجوا لشماعة الإرهاب لتبرير الاستنجاد به .وتلك هي طبيعة الحربالأهلية المضاعفة :فالجيل الجامع بين التأصيل والتحديث غير التابعية هو شباب الثورة أماجيل التحديث القديم فهو شيوخ الثورة المضادة الذين يستمدون بقاءهم من حاميهموالمحافظ على المحميات التي يسمونها دولا حائلة دون كل شروط الطموح التاريخي المنتسبة إلى التنمية المادية والرمزية.فاجتمعت الفتنتان في لحظتنا للحسم مع من يريد أن يلغي طموح الأمة الامبراطوريالمشروط بالاستئناف إما بما قبله مرتين أو بما بعده مرتين كالتالي .إلغاؤه بما قبله مرتينمنه ومن خارجه هو محاولة بعث الامبراطوريات المتقدمة على الإسلام والتي حررت ثورته الإقليم منها :الصفوية والصهيونية.محاولة الغاؤه بما بعده مرتين داخليا وخارجيا هي الدولة القطرية والدنيوية (الرأسمالية الشيوعية) للقضاء على رمزي الأمة :الخلافة والإسلام.بينت نهاية الحقبة التي يندرج فيها الممثلون -من أمثال بورقيبة وعبد الناصر وكل زعماءالمرحلة الذي هم مجرد ممثلين في مسرحية كتبت لهم حتى يكونوا حربا على سر قوة الأمةدون تحقيق البديل الذي يبررون به دورهم-حقيقة الحبكة العميقة حركتهم دمى في دور يتجاوزهم.وهم الآن في محاولة الرستوراسيون بتمويل الثورة المضادة وبدبابات وظاهرات سندهمالاستعماري أفصحوا عن حقيقتهم فشرع الشباب بذلك في الاستئناف .وهو استئناف لتناغمهمع عقيدة الشعب بسرديات تؤسس لشرعية الثورة بمطالبها المباشرة (الحرية والكرامة) وبشرطها غير المباشر (الطموح الامبراطوري).فالشباب بجنسيه أدرك الآن أن الحرية والكرامة مطلبين مباشرين ضد الاستبداد والفساد شرطهما التحرر من الاستضعاف والاستتباع مطلبين غير مباشرين 50 12
بل أكثر من ذلك فجعل بيتي الشابي شعارا للثورة في كل أقطار الأمة يعني أن الشباببوعي غائم أدرك أن الثورة ذات أساس روحي :نظرية القضاء والقدر .فبيتا الشابي ثورةعلى رؤية الانحطاط للقضاء والقدر وفهم ثوري لفلسفة القرآن التاريخية فالبيتان صوغ شعري لسنة التغيير القرآنية كما سبق فبينت.وطبيعي جدا أن ينقسم التأصيلي والتحديثي في لحظة التعاصر بينهما إلى قطبيناستئصالي لعدم إدراك الواحد فيهما ومدرك له فمتجاوز للحرب الأهلية .فيتحالف حزباالحرب الأهلية الأولى بنت الفتنة الكبرى (إيران ومليشياتها العربية بالقلم والسيف)وحزبا الحرب الاهلية الثانية بنت الفتنة الصغرى (إسرائيل وأنظمتها ومليشياتها العربية بالقلم والسيف) بقيادة من يوظف ممثلي عوائق الاستئناف.وإذن فالممثلون في مسرحية الحرب الأهلية لإعاقة الثورة خمسة ممثلين لحبكة رؤيتين تتصارعان منذ ثورة الإسلام :صراع ديني وفلسفي ينبغي فهمه سردياته.وهؤلاء هم حزب التأصيلي الاستئصالي وحزب التحديثي الاستئصالي -وهما داعشااللحظة في حرب كاريكاتوري التأصيل والتحديث ضد المدركين لتماهي للثورتين دينيا وفلسفيا.فالثورة الدينية الخاتمة هدفت للتحرير الروحي من الكنسية (لا وساطة بين المؤمنوربه) والتحرير السياسي من الحق الإلهي (لا سلطان إلا للجماعة) .وتلكما قبلالانحطاطين غاية الدين الخاتم في الدنيا وما ورائها أو معناها الروحي وغاية التنوير الخام في الدنيا وما ورائها أو معناها العقلي:لكن الاستئصالي التأصيلي والتحديثي التأصيلي يؤديان دورا في سردية انحطاط شاب حضارة الإسلام وانحطاط شاب حضارة الحداثة :حرب الكاريكاتورين:-1فانحطاط حضارة الإسلام تمثل في عودة الفتنة الكبرى أي عودة إلى الكنسية والحكم بالحق الإلهي عند الشيعة بفقه الإمامة وعند السنة بفقه التغلب . 50 13
-2وانحطاط حضارة الغرب بعد فشل تحقيق الثورتين الروحية والسياسية بالمعنى الإسلامي انحط الغرب إلى ثقافة الاستعمار بكنسية علمانية وشرعية التغلب.كل ما يتصوره بورقيبة وأمثاله ظاهره من الفتنة الصغرى أي كنسية علمانية وفقه تغلبوضعي وباطنه من الفتنة الكبرى أي كنسية دينية وفقه تغلب شرعي .لذلك كانت الأنظمةالعربية بصنفيها العسكري والقبلي جامعة بين كنسيتين (ضد الحرية الروحية) وتغلبين (ضد الحرية السياسية) كل منهما تنقسم إلى ما يخادع به الشعب وما يخادع به الغرب.الاستقلال الشكلي له كنسيتان دينية للشعب وعلمانية للغرب وحقان في الحكم إلهي للشعب وطبيعي للغرب :الاستبداد والفساد بمضلة الاستضعاف والاستتباع.وهذه الصفات الأربع-الاستبداد والفساد داخليا بمضلة الاستضعاف والاستتباع خارجيا-هي المميز المشترك بين كل الأنظمة العربية في اللحظة التي نصف .ولا فرق بين الأنظمةالعسكرية والأنظمة القبلية والانظمة التي هي بين بين :كلها مصابة بالفصام الذي يجعلها ذات كنسيتين لتأسيس شرعيتين مغشوشتين.والكنسيتان والشرعيتان تمكنان الممثلين من الإبقاء على عرض المسرحية المتأرجح بمابينهما من صراع بين أعماق الجماعة وفترينة الغرب وخدمته .وأهمية اللحظة التي بدأتمع ثورة الشباب أنها أظهرت كل هذه الخصائص التي كانت كامنة في الوضعية التي أصف فبنيت طبيعتها لتغطية مغشوشة للفتنتين.فأكاذيب الأنظمة القومية وميلشياتها بالسيف والقلم وأكاذيب الأنظمة الدينيةومليشياتها بالسيف والقلم وخاصة من يدعي المقاومة من النوعين سواء كانت تابعة للشيعة أو للسنة فضحت الثورة حقيقتها فأصبحت سردياتها علنية.ولهذه العلة اعتبرت ثورة الشباب بجنسيه نهاية الحقبة التي ينتسب إليها البورقيبيةومثيلاتها الناصرية والبعثية والخمينية والدينية التقليدية .وهي نهاية لانطلاء تمثيلهاللأدوار لأن الجميع بات يدرك أنهم ممثلون لأدوار في مسرحية لم يؤلفوها لأن مؤلفها هومن يحركهم دمى للتهديم الذاتي .وبصورة صريحة كلهم من جنس ابن علي ومبارك السيسي 50 14
والسبسي وحفتر وصالح والقبائل التي تمولهم والنخب التي تبيضهم والمحرك واحد: الخوف من الاستئناف.وبخلاف ما قد يبدر للأذهان فإن الإسلام ودفعه الأمة للاستئناف ليس منفعلا إلا فيالظاهر :فالخوف منه هو الفاعل من يبدو فاعلا من أعدائه .ومعنى ذلك أن الأعداءمدركون لحقيقة الثورة الإسلامية منذ نزول القرآن رغم أنها الآن لا توجد إلا بالقوة وسيتجلى إدراك الشباب فتصبح بالفعل.ولولا هذه الغاية ما كتبت حرفا في هذا المسائل التي أبعدتني كثيرا عن همومي الذاتيةأعني الفراغ من تفسير القرآن وتحديد منعرجات الفكر الفلسفي .وقد يكون لما بين هذهوتلك ما يبرر صبري على هذه المهمة التي قد يظنها الكثير التزاما مذهبيا دينيا :الاستئناف لن يكون إلا بفكر سني عربي تركي.ذلك أن دولة الإسلام أسسها العرب وأمد في عمرها الأتراك والحرب اليوم عليهما لأنما هو بالقوة إسلاميا متعين فيهما إذ هما أكبر شعبين إسلاميين .فلو اعتمدنا على الدوروالحجم والإمكانات لكان الترك والعرب هم الأولين يليهم الهنود فالمالاويين وهم في الأغلب سنة وأكثر المسلمين صلة بالغرب.لذلك فليس بالصدفة أن كان تركيز الغرب منذ نزول القرآن إلى اليوم على الصداممعهم في حرب سجال لم تتوقف إلى الآن مع تخاصب لا ينكره إلا معاند .وإذا كان الغرباشد خوفا منا منه من الشرق الاقصى الذي يعتبره حليفا ضدنا فلأن الغرب لم ينس درس التاريخ بخلاف نخب العرب الذين تسكرهم زبيبة.وطبيعي في هذه الحالة أن يبتدع الغرب بديلا من الإسلام يفسد صورة ما يسعى إليها الاستئناف :فالأساس التاريخي والأساس ما بعد التاريخي مستهدفان: -1فالأساس التاريخي الرمزي هو الخلافة يستهدف بداعش - 2والاساس ما بعد التاريخي الإسلام يستهدف بتشويه القرآن ومحمد. 50 15
وتلك هي استراتيجية أقوى الحروب :تشويه الرموز .وهذه الاستراتيجية ليست جديدةولا هي من إبداع مؤلف معين :فالإسلام بالحريتين ثورة على الكنسية والحق الإلهي ومنثم فهو حتما مستهدف من أصحابهما .لذلك تكلمت على صوره الخمسة التي كانت رد فعلأصحاب الكنسية والحق الإلهي (سواء كانا دينين أو طبيعيين) في عرضي لمواقف الغرب منذ ظهور الإسلام.ولما كانت الاستراتيجية بين الشعوب والحضارات تعتمد على مراحلها الثلاث بلغةكلاوسفيتزفإن النصر مشروط بالغاية القصوى :استهداف الحصانة الروحية .وحصانةالأمم الروحية هي التي تمثلها سردية جامعة لمقومات البقاء بوصفها معين رؤية الجماعة لذاتها ولمنزلتها ولدورها في الكون :سنة الإسلام.الأنظمة العربية بصنفيها كالأنظمة التي تريد استرداد امبراطورياتها تطلب بوعي أوبغير وعي شرعية شرطها إنهاء طموح الإسلام الإمبراطوري الكوني .وذلك هو الدور الذيحدده الاستعمار للأنظمة العربية خاصة قوميها وإسلاميها لأن القومية تفتيت للامة إلى عرقيات وتحريف الإسلام إلى طائفيات: -1القوميات تعتمد على منطق الفتنة الصغرى -2والطائفيات على منطق الفتنة الكبرى.فيتبين أن الحرب الأهلية الحالية هي زرع الأولى وإحياء الثانية .وآمل أن يكون الشباببجنسيه صبورا ليفهم طبيعة اللحظة وشروط تجاوزها مآزقها ذلك أن ما نعيشه هو مرحلة الحسم مع الفتنتين لتحقيق شروط الاستئناف. 50 16
في الفصلين الأولين لتقويم فكر الحقبة التي اعتبرتها بدأت بسقوط الخلافة وانتهت بثورة الشباب أشرت إلى العلاقة بين فاعليتين تاريخيتين :الحدث والحديث.واعتبرت التاريخ القصير مؤلفا من أحداث ليس لها فاعلية رمزية يعتد بها بعدها وأحداث فاعليتها الرمزية أكبر منها بدليل حديثها بعدها :بهذا قومتها.ولما وصفت جيلي هذه الحقبة اعتبرت الأول ساعيا للتأصيل والثاني للتحديث ولكل منهما نموذج سابق: الأول نموذجه كان رمزه الخلافة. والثاني نموذجه نقيض الأول.وسميت دلالة النموذج الأول بالطموح الامبراطوري أو العظمة التاريخية ودلالة النموذج الثاني بمحاكاة فاشيات أوروبا سليلة النزعات القومية وصراعها.ذلك أن التحديثيين العرب-بل وكل التحديثيين في الإقليم-تخلوا عن الطموح الامبراطوري الإسلامي وعوضوه بما تقدم عليه أو بما تأخر عنها فحاربوه.وبهذا المعنى فلكأن الحقبة اتصفت بما بين هذين النموذجين من تعارض تام جعل جيل التحديث يكون بالجوهر أداة تهديم ما كان يسعى إليه جيل التأصيل. وكان هذا التهديم من جنسين: فما كان مبنيا على ما تقدم يسعى لاستعادة طموحا امبراطوريا سابقا وما تأخر عنه هدف إلى الاندماج في طموح مستعمره.والمستعمر صاحب السلطان في الإقليم استعمل كلا المسعيين حتى يساعداه على القضاء على الطموح الامبراطوري لدى المسلمين ممثلا بمطالب الجيل الأول.وتلك هي طبيعة حقبة التاريخ المديد التي امتدت بين غاية سقوط الخلافة وبداية سقوط الأنظمة العربية العسكرية والقبلية بفضل ثورة الشباب بجنسيه. 50 17
واليوم أريد أن أبين التقابل النسقي بين هذه الحقبة وحقبة الصدر بمعيار أحداث الصدر بأثرها الرمزي الذي لا يفنى وأحداث هذه الحقبة التي حاولت محوه.وجيل التأصيل يمثل الأحداث ذات الأثر الرمزي المديد وجيل التحديث يمثل الأحداث عديمته إما ببديل سابق أو لاحق دونه فاعلية فانتهيا بثورة الشباب.سأقارن الحقبتين لتقويم الجيلين بغاياتهما ولن أطيل الكلام على الأخلاق لأن ذلك قد يكون رجما بالغيب فالسرائر لا تقاس بالثمرة وحدها.سأكتفي بالتقويم السياسي الذي تكفي ثمرة العمل فيه للحكم له أو عليه بخلاف الأخلاق التي تتجاوز ثمرة العمل إلى نيته وهي من غيب السرائر.وثمرة العمل السياسي هي العظمة أو الطموح الامبراطوري أو ما يمكن تسميته بالجهد المبذول من أجل حظ الجماعة من المعمورة شرط السيادة حماية ورعاية.والأخلاق لا تقدر إلا بدورها في جعل السياسي بهذا المعنى فهي صفات للجماعة تنقلها مما هو بالقوة لديها إلى ما هو بالفعل :لا أخلاق لمن لا يحمي نفسه ولا يرعاها.فمن فقد هذه القدرة من الشعوب يسميه ابن خلدون عالة بسبب فساد معاني الإنسانية فيه.وإذن فلن يكون التقويم الخلقي للحقبتين إلا بهذا المعنى المتعلق بالقدرة على الحمايةالذاتية والرعاية :طبائع الجيلين المنتجة للاجتهاد والجهاد السياسي لتحقيق شرطي السيادة :الحرية والكرامة.فأي الجيلين -جيل الصدر (المؤسس لدولة الإسلام) وجيل الذيل (المحارب لاستئنافها) طلب الحرية والكرامة وحقق شرطي السيادة :الحماية والرعاية؟فالجيل الذي ثار عليه الشباب هو الجيل الذي أفقد الامة القدرة على الحماية والرعايةوأفسد معاني الإنسانية في الكثير من النخب التي تحولت إلى مليشيات قلم وسيف لتهديم شروط استئناف دور الامة في التاريخ الكوني. 50 18
وما كنت لاعتبر ثورة الشباب نهاية الحقبة التي ادرس لو لم يكن صريح شعاراتهم هوطلب الحرية والكرامة حتى وإن لم يدركوا بوعي تام العلاقة بين شرطيهما الداخلي (التحرر من الاستبداد والفساد) والخارجي التحرر من الاستضعاف والاستتباع).هم طلبوا الحرية والكرامة ظنا أن الحائل دونهما مقصور على الاستبداد والفسادالداخلي ولم يدركوا أن وراءهما محدد بنيوي هو الاستضعاف والاستتباع بسبب ما حل بالأمة من قتل لمقومات الطموح الامبراطوري.لكن أحداث الثورة ومآلاتها والسعي للحرية والكرامة بين أن الاستبداد والفسادالداخلي كان ثمرة خدمة أصحابهما للاستضعاف والاستتباع الخارجي الذي غير الجغرافيا لجعل التنمية المادية مستحيلة والتاريخ لجعل التنمية الثقافية مستحيلة.فصارت الثورة وإن بوعي غائم استئنافا لمعركة التأصيل وجمعت بين مطالب التحديث(الحرية والكرامة) والتأصيل (السيادة والعزة) ووحدة الغاية الواصلة بين الماضي والمستقبل :استئناف طموح الأمة. اما لماذا أرفض التقويم الخلقي فلعلتين: -1امتناع التعيير الخلقي من دون معيار السرائر التي هي من الغيب. -2عقم التفسير الديني للفرق بين الحقبتين وتبسيط القضية المخل.إن حصر الفرق في الدين تبسيط مخل :ففي الجيل الحالي من لا يتهم في دينه وفي الجيل الأول من يتهم في دينه .ومن ثم فهذا المعيار غير محدد للمطلوب. ويكفي أن نعلم أن المعيار الديني لو طبق لصح اعتبار الإمام علي أفضل من معاوية.وحينئذ لن نفهم دور الثاني في بناء دولة الأمة والتمكين للإسلام .فيكون تفضيل عليعلى معاوية مناقضا لما يدعيه الشيعي والسني من العلاقة الوطيدة بين الديني والسياسي لأن مقارنة النتائج الشاهدة تقضي بالعكس.ولتجنب هذه الإشكالية (جوهر إحياء الفتنة الكبرى كما بينا) فإني سأضع بين قوسينهذا التقويم بالمعيار الديني والخلقي وأكتفي بالطموح الامبراطوري جوهر سياسة الإسلام الكونية. 50 19
فدولة الإسلام ليست قطرية وليست قومية وليست طائفية وليست إقليمية بل هي تعتبر العالم كله مجال فعلها الموجب (للانتشار) والسالب لمنع المنافس.إنها عولمة جامعة بين الدنيوي والأخروي بين الخلقي والسياسي على اساس النساء 1 (الاخوة البشرية) والحجرات ( 13المساواة بين البشر) :نظام عالمي بقيم القرآن.فالإسلام اليوم هو حل البشرية الوحيد لتأسيس نظام للعالم يتجاوز عولمة الماديات إلى هذه التزكية التي حددها الإسلام :من هنا حرب أصحابها عليه.ولنشرع في المقارنة بعدا ببعد بين جيل الصدر الذي يمثل أصل الحدث (الدولةالإسلامية) والحديث (أثرها الرمزي) الخالد والذيل ممثل محاولة محوهما ببدائل لا يمكن تحققها من دون محو أحداث حضارة الإسلام وأحاديثها.قلت إن الحقبة بدأت بجيل التأصيل الذي حاول بعد سقوط الخلافة الإبقاء على الأقلعلى الحديث أفقا للحدث في إطار الأمة حتى وإن تم إنهاء الدولة .وأنها انتهت بنهاية جيلالتحديث التابع الذي حاول أن يزيل مفعول الحديث او الأثر الرمزي حتى يتحقق النصر كالحال في كل حرب :إزالة دافع المقاومة.وظهر جيل الحداثة الفعلية وغير التابعة مطلبا مباشرا للشباب فزلزل اصحاب الحداثةالتابعة جوهر الاستبداد والفساد لخدمة الاستضعاف والاستتباع .فكان من الطبيعي أن تصبح المعركة حربا أهلية ذات مستويين :سياسي ووجودي.من يحكم أبعاد الدولة كلها وبأي منظور يحقق شروط الحرية والكرامة؟ فالمنظور الذييحقق الحرية والكرامة-طلب الثورة المباشر-يتجاوز المباشرة :لا يمكن التحرر من الاستبداد والفساد مع بقاء الاستضعاف والاستتباع.وبذلك صارت ثورة الشباب السياسية ثورة حضارية :لا يمكن لأي قطر عربي أو إسلاميأن يصبح ذا سيادة إذا لم يجر في إطار شرطه استئناف دور الامة .لذلك صارت المرحلة هيمرحلة علاج الفتنة الكبرى التي استأنفها من يريدون الاستعاضة على الإسلام بما قبله وعلاج الفتنة الصغرى التـي زرعها من يردون تعويضه بما بعده. 50 20
وعلاج هذين الفتنتين هو الذي يفرض المقارنة بين جيل الصدر وجيل الذيل وما بينهمامن سعي للتأصيل المبدع والتحديث المستقل :تلك استراتيجية الثورة .وحتى تكون المقارنةنسقية فلا تقتصر على أحد الأبعاد المقومة للوصل بين الديني والسياسي بمنظور إسلامي فلا بد من اعتماد معيار تصنيف النخب.وإذن فسنقارن اصناف النخب الخمسة في الصدر المؤسس للطموح الكوني والذيل المحاربلهذا الطموح باسم القومية والطائفية وتحديث نخب القشور التابعة .وسأرتبها بعكسالعادة فأبدأ بأسماها وأختم بأدناها أو إن صح التعبير سأبدأ بالمؤلف وأختم بالممثل وبينهما الأدوار والحبكة واساس كل المنظومة. -1نخبة الوجود أو رؤية العالم وما بعده (الفلسفة الدينية). -2ونخبة الحياة أو ذوق الوجود (فلسفة الفنون). -3ونخبة القدرة أو قيام الوجود (فلسفة الثروة أو الاقتصاد). -4نخبة المعرفة (فلسفة العلم). -5أخيرا نخبة الإرادة (فلسفة السياسة).وهذه هي مراحل المقارنة بين الصدر والذيل في توصيفنا لمرحلة شباب الثورة .منطلقهذه المحاولة كان تقويم البورقيبية ومثيلاتها والهدف هو بيان أن شباب الثورة بجنسيه لا يمكن ان يحدد نماذجه القاطرة من دون هذه المقارنة.ولما كان فصل واحد لا يكفي لدراسة هذه الأبعاد الخمسة فسأعتبر هذا الفصل جسرابين الفصلين السابقين حول هذا التقويم المعد للمقارنة والمقارنة .سأخصص فصلين آخرينللمقارنة بين جيل الصدر نموذجا لاستئناف دور الامة في التاريخ الكوني وجيل الذيل نموذجا للحرب على دورها بالانحطاطين.وسيكون الفصل الموالي للمقارنة في الوجود ورؤى العالم وفي الإرادة وسياسة العالموالذي يليه للمقارنة في الحياة وذوق الوجود والعلم ومعرفته .والفصل الخاتم يتعلقبطبيعة الوصل القرآني بين الديني والسياسي أو مفهوم القدرة مسودة من الإنسان أو سائدة عليه :دور الإسلام في مستقبل العالم. 50 21
فيكون البحث كله مؤلفا من خمسة فصول لأن العمل الحالي ليس فصلا مثل غيره بل هو جسر بين الفصلين الأولين الممهدين لهذه المقارنة بين النخب في فصول ثلاثة تليه.والقصد كله هو بيان ما يمكن أن يكون سلوك الشباب الثائر عندما يريد أن يحقق أهدافثورته من منطلق النماذج المثالية لتمييز العظماء عن الأقزام .ومثل هذه القراءة للتاريخبمستواه البطيء والمديد وما تقتضيه من تجاوز وجهه السطحي هي ما يعيبه أدعياء الحداثة مهملي دور أبعاد التاريخ الرمزية.وهم بذلك لا يقلون حمقا عمن يقصر قراءة التاريخ الإنساني على دور المقومات الماديةلمجراه .وهذان الموقفان هما كاريكاتورا الأصالة والحداثة .وما يجري من صدام حضارات مضاعف في أحداث الإقليم: داخلي بمقتضى الفتنتين الكبرى من الماضي الأهلي والصغرى من الماضي الغربي. وخارجي بمقتضى إرادة فرض نموذج واحد علة لحربين أهليتين في العالم.ولما كان الإسلام رسالة للعالمين باعتبارهم مسلمين بالقوة ولا يقتصر على المسلمين بالفعلفهو عالمي والحرب الأهلية بمستوييها هذين إسلامية حتما .لذلك فكون الإسلام اليوم يمثلهما كونيا له أو عليه ليس مجرد صدفة بل هو من صفاته الذاتية من يوم نشأته إلى اليوم لعلتين دينية وفلسفية جوهريا.وكل من قرأ القرآن ولو قراءة سطحية يعلم أنه مراجعة شاملة لتاريخ البشرية الروحي(فلسفة دين) وأنه يصل ذلك مباشرة بسياسة العالم (فلسفة تاريخ) .وإذا كان الإسلامببعد فلسفة الدين مراجعة روحية لشروط حرية الإنسان في الأذهان فهو بفلسفة التاريخ مراجعة مادية لشروط حياته في الأعيان.ولم يكتف القرآن بذلك بل هو اعتبر حقيقته لا تعلم إلا بما يريه للبشر من آيات الآفاق(الأعيان)والأنفس (الأذهان) إنه وصل بين الدنيا وما بعدها .وكل من يصارع الإسلام لايصارعه إلا بسبب هذا الوصل الذي يعيد للدنيوي معناه وللأخروي مبناه :ففصل الدنيوي يفقده معناه وفصل الأخروي يفقده مبناه. 50 22
والعولمة التي يصارعه أصحابها فصلت الدنيوي والأخروي فأفقدت الأول معناه والثانيمبناه وبات الإنسان سجين إدمانين فاقدين لوحدة المعنى والمبنى .ولما يفهم الإسلام بإدراكحقيقته هذه فإن كل المدركين لقيامهم الواعي بذاته يعلمون أن بنيته هي المعادلة الوجودية التي استخرجناها من القرآن.فكل إنسان أدرك كيانه الذاتي يعلم أنه قيام واع بذاته وعلاقة بين قطبين بينهما طبيعةوتاريخ ويصل بينهما وعيه قطبا ثانيا مشدودا لقطب الاول .والقطبان هما الله والإنسان-كل إنسان يأتي ربه فردا-والوسيطان هما الطبيعة والتاريخ والوصل بينهما هو هذا الوعي بالمعادلة تراسلا بين القطبين.والقرآن يمدنا بنموذج ممن عاشوا تجربة التراسل الذي صار بعد الختم حق الجميع بوصفهم القطب الثاني خليفة القطب الأول عبادته فهم آياته في الوسيطين.وما سنخصص له الفصول الثلاثة المقبلة هو الفرق بين جيل الصدر وجيل الذيل في فهمهذه المعادلة التي يعترف جيل الصدر بقطبيها وينفيهما جيل الذيل .والثورة أعادت لرموزجيل الصدر دورهما الرمزي في الحرب الاهلية الداخلية وأدركت أن الحرب الأهلية الكونية من جنسها .فعدنا للقيادة الروحية. 50 23
أواصل مسألة تقويم جيلي لحظة التاريخ المديد بين سقوط الخلافة وبداية ثورة الشباب (تسع عقود) جرت فيها مقاومة التحرير وتكونت فيها الدول القطرية.وقد حددت ما أنوي مقارنته بين الجيلين بالاعتماد على المعيار الذي وضعته لتصنيف النخب عامة في كل جماعة .وسأطبقه هنا على النخب التي قادت المرحلة.لذلك فلا بد من تعليل لعكسي ترتيب النخب من الوجود إلى الإرادة ومن الحياة إلى المعرفة لأبقي القدرة بوصفها قلب منظومة النخب في كل جماعة بشرية.لم أعكس الترتيب تحكما .فما علة هذا العكس ولماذا جمعت بين الأخير والأول ثم بينما قبل الأخير والثاني وجعلت الأوسط قلب منظومة النخب؟ تلك هي الضرورة التي يقتضيها التمييز بين أفق الثورة الإسلامية وأفق محاربيها.فمنظومة الأبعاد الـخمسة تمكن من تصنيف النخب في كل جماعة (الإرادة لنخب السياسةوالمعرفة للنخب العلم والقدرة لنخب الاقتصاد والحياة لنخب الفنون ومنها الرياضة والوجود لنخب رؤى الوجود دينية كانت أو فلسفية).ويمكن أن ترد هذه المنظومة إلى ثلاث أبعاد بدل خمسة باختزال المعادلة الوجودية .وفيتلك الحالة تستحوذ نخبة الإرادة على الوجود .وتستحوذ نخبة المعرفة على الحياة .فيضيق أفق الإنسانية وتبتر معادلة الوجود.وعندئذ تصبح نخبة القدرة سيدة كل النخب بفلسفة تاريخ تستحوذ على فلسفة الدين.وتصبح السياسة والعلم والاقتصاد المقومات الوحيدة لفلسفة التاريخ ويزول ما بعد السياسةوما بعد العلم وما بعد الاقتصاد أعني مقومات فلسفة الدين :وتلك هي النزعة الدنيوية الخالصة التي يصبح الإنسان فيها عبدا لما يجرفه من الطبيعة والتاريخ. 50 24
وهذا هو المشترك بين المدرستين اللتين ينتسب إليهما نموذج الجيل الثاني أو جيل الذيلفي الحقبة .فأفقها هو أفق الوضعية والماركسية مقابل نموذج جيل الصدر .وجيل الصدريرفض رد الوجودي للسياسي والحياتي للمعرفي ولا يقبل بسيادة القدرة المادية على التاريخ بل هو يرفض الردين فيعدلها ليبقى الإنسان سيدا عليها بمفهوم الاستخلاف.ومثلما أن نموذج الجيل الثاني مضاعف (ماركسي ليبرالي) فإن نموذج الجيل الأولمضاعف (كنسي ولا كنسي) :وتلك هي المواقف المتصارعة من هذه الحقبة من التاريخ (ماركسي ليبرالي وما بعده (كنسي لا كنسي).نبدأ الأن المقارنة في المستوى الأول :نخبة الوجود ونخبة الإرادة في الحقبة التي بدأتبأفق مشدود لرمزي الأمة (الخلافة والمرجعية) وانتهت بعكسهما .وثورة الشباب بدتبدايتها وكأنها من الأفق الثاني فقبل بها الغرب وأدعياء الحداثة ولما تبين بسرعة أنهاكانت في الحقيقة منطلقا لعودة الأفق الأول تصدت لها الثورة المضادة بمساندة الغرب من أفقه الذي جعل الحداثة بعكس قيمها رؤية استعمارية لتطور الإنسانية.وبذلك فالثورة لم تكن في الحقيقة إلا الانتقال من توالي الجيلين إلى تساوقهما في حربأهلية غاية الشباب منها تحقيق شروط التأصيل والتحديث المستقلين .وما كنت لألجأ إلى مايظن تعقيدا لو لم يكن تبسيط قراءة الأحداث قد ألغي ما يضفي عليها معانيها بإخفاء اعماقها :كيف نفهم الحرب على الإسلام؟فليست هذه الحرب الكونية-بسند قوتي نظام العالم السابق للجيل الثاني-دينية.فهدفها إفشال الثورة بحرب أهلية لمنع استئناف الأمة دورها الكوني .والعجيب هو تطابق التفسيرين لدى الكاريكاتورين لطبيعة ما يجري :فكاريكاتور التأصيل يتصور الحرب على الإسلام نتيجة تعصب ديني صليبي .وكاريكاتورالتحديث يتصورها نتيجة ما يعتبره إرهابا تكفيريا .وكلاهما بموقفه هذا مناف لمرجعيته:فكاريكاتور التأصيل يشوه فلسفة الدين ويناقضها .وكاريكاتور التحديث يشوه فلسفة التاريخ ويناقضها فيعاديان ثورة الشباب. 50 25
وحقيقة ثورة الشباب هي بداية الإدراك الحاد لعلاقة فلسفة التاريخ بفلسفة الدين فيالإسلام أدركوا العلاقة بين مطالبهم المباشرة وشروطها غير المباشرة .ولأن الثورة المضادةوسندها الاستعماري أدركا أن الشباب قد فهم هذه العلاقة العميقة انقلب الموقف من تقبلها في الأول إلى الحرب عليها في الأخير.هذه علة غوصنا في أعماق الوضعية المتقدمة على الثورة لنحلل فهم الجيلين والأفقين بمعيار العلاقة بين الوجودي والسياسي أو بين الرؤية والإرادة.وحتى لا تكون مقارنة الأفقين شديدة التجريد فلآخذ مثالين من الجيلين كما تعينا في تونس (البورقيبية والثعالبية) وفي مصر (الناصرية والاخوانية): -1تونس مقارنة بين الثعالبي وبورقيبة . -2مصر مقارنة بين البنا وعبد الناصر.فأفق الثعالبي والبنا هو نموذج الصدر في ظرف سقوط الخلافة التي ترمز لبقائه التاريخيوالمرجعي .وأفق بورقيبة وعبد الناصر هو أفق الحداثة التي انحطت إلى فلسفة تبريرالاستعمار (هيجليا وماركسيا) ومن ثم فهو أفق الحرب على هذا الأفق التحريري ممثلا بالثعالبية والاخوانية رغم ما يعتورهما من قصور لإدراك أبعاد الأفق الذي تمثلانه.لذلك فد قد يظن أن ما بين عبد الناصر وبورقيبة علته اختلاف الافق بهذا المعنى .لكناختلافهما لا يخرج عن الحرب على الثعالبي والبنا بأفق يتحدد بنوعي الفاشية الغربية في قطبي العالم :الرأسمالي والاشتراكي.كلاهما ينطلق من المعادلة الوجودية المبتورة ضد المعادلة الوجودية السوية :يردونهاإلى مثلث ينفي الوجود وراء السياسي والحياة وراء المعرفي .فالإرادي (السياسي) والمعرفي(العلمي) يتأله أصحابهما فيلغيان ما وراءهما ومن ثم ينتفي القطبان من المعادلة أي الإلهيوالإنساني .وتلك هي خاصية الفاشية :مافيات تدعي الرأسمالية والاشتراكية وكلتاهما نظام استعباد للبشرية. 50 26
وهذا هو الكاريكاتور التحديثي (بورقيبة وعبد الناصر) لكنه متلازم مع كاريكاتورتأصيلي وذروته داعش يبتدعه وينميه لحاجته إليه حتى يبرر حربه على أفق التأصيل.وقد ساعدهم الاسلام التقليدي الذي يواصل الانحطاط الذاتي المناظر لانحطاط الحداثة والمتصالح معها.كاريكاتور التحديث يدعي الناسوت ضد اللاهوت اي صورة الدين المشوهة التي يحتاجإليها حاجته اليوم للإرهاب علة بقاء لاستبداده النافي للإنسانية .وهذه العلاقة بينالانسوية المؤلهة التي تنتهي إلى نفي الله والإنسان ليست خاصة كاريكاتور التحديث فبه أنهت العولمة الإنسانية باسم الإنسانية.لكن تنسيب السياسي (الإرادة) بما ورائه (الوجود) وتنسيب العلم بما ورائه(المعرفة) يعيدان قطبي المعادلة فيتسع الافق ويتحرر الإنسان من الفاشيات.المعادلة الوجودية التامة تمثل افق الثعالبي والبنا تتضمن القطبين (الله والإنسان) والوسيطين (الطبيعة والتاريخ) والوصل بالوسطين بين القطبين.والمعادلة الوجودية الناقصة تمثل أفق بورقيبة وعبد الناصر :نفي القطب الأسمى يؤديإلى إلغاء الأدنى فيبقى الطغيان بالوسيطين :الاستبداد والفساد .ولما كان السلطان علىالوسيطين (الطبيعة والتاريخ) ليس بأيدي بورقيبة وعبد الناصر فإن استبدادها وفسادهما تابع للسيد على الوسيطين :أفق محميات.لذلك فلا بد أن يتبع بورقيبة القطب الغربي من هذا الافق وأن يتبع عبد الناصر القطب الشرقي ومن ثم فدورهما لا يتجاوز حربهما على أفق التحرر منهما.وإذن فلا يمكن تصور بورقيبة وعبد الناصر إلا في حرب على الثعالبي والبنا بسبب التقابلبين الأفقين المقصور على الفاني والباحث عن المتعالي :أفق اليأس من الامة والحرب عليها وأفق الشوق للاستئناف الحضاري رغم العجز الظرفي.بعبارة دينية الافق الذي ينطلق منه الثعالبي والبنا يوسع عالم الشهادة بعالم الغيب فلايتجبر ولا يتكبر بعكس افق بورقيبة عبد الناصر الدغمائيين .وبخلاف ما يتوهم سطحيو 50 27
الحداثيين العرب فهذا القول ليس دينيا فحسب بل هو فلسفي إذا كانوا يعلمون حقيقة المنظور الفلسفي الحديث بصيغته الكنطية غربيا والخلدونية إسلاميا.فوهم بورقيبة وعبد الناصر يرد إلى ما يسمونه عقلانية بالمعنى القديم والقروسطي(من هنا تسمية ابن رشد والاعتزال عقلانيين) جهلا بحدود العقل .والتعدد السياسيوالعلمي شرطه التخلي عن إطلاق قدرات العقل النسبية جدا .فلو كان العقل يدرك الحقيقة بإطلاق لكان القول بالديموقراطية خلفا.بورقيبة وعبد الناصر وكل متجبر علته ضيق أفقه وتأليهه نفسه لظنه أنه صاحب إرادةوعلم وقدرة وحياة ووجود كلها مطلقة ليس وراءها ما يتجاوزها .ولذلك فهما -وكل منيرى رأيهما-مستعدان لأن يستعبدوا شعوبهم متوهمين أنهم آلهة وغيرهم عبيد بل هم يرفضون عليهم أن يعبدوهم :مثال بشار وطائفته.ولا بد لمن هم بهذه الصفات أن يختلقوا نظيرهم بديلا مما يريدون تهديم معادلته(الإسلام) التي توسع الأفق فتحرر الإنسان من تأليهم :المثال داعش .فهما وكل منجانسهما لا يمكن ألا يكونوا أداة بيد من يخشى ثورتي الإسلام :الحرية الروحية ضد الكنسية والحرية السياسية ضد الحكم الاستبدادي.وكانوا يخفون هذا الدور بالزعم أنهم يقاومون الاستعمار وأدواته التي تختلقهامخابراتهم بالتعاون مع مخابرات سادتهم لتشويه مشروع الاستئناف .لكن ثورة الشباب فضحت الخدعتين : خدعة الأنظمة العسكرية بدعوى مقاومة الاستعمار. وخدعة الأنظمة القبلية التي تحارب مثلها مشروع الاستئناف.وبذلك انتقلت ثورة الشباب من مستواها الأول الذي تحدده مطالبها المباشرة (حقوقالإنسان) إلى مستواها الثاني لمطالبها غير المباشرة (قيام الإنسان) .وحقوق الإنسان هيثمرة الترجمة التحديثية لكرامته وقيام الإنسان هي ثمرة الترجمة التأصيلية لكيانه :فإذا فقدت شروط الكيان صارت الحقوق كذبة. 50 28
إذا ظل المسلمون تابعين للعجز عن الحماية والرعاية الذاتيتين صار الكلام على الحقوقاساس الخطاب المخادع عند من نصبهم الاستعمار لتخريب الكيان .وتخريب كيان الأمة يلغي وجودها فضلا عن حقوقها.وتلك هي الحرب على أحيازها قيامها أي مكانها شرط ثروتها زمانها شرط تراثهاومرجعيتها شرط الشروط .فهل ينكر أحد أن الحرب اليوم هي على مكان الأمة لمنعاستقلالها المادي؟ وعلى زمانها لمنع استقلالها الروحي؟ وعلى مرجعيتها لمنع حصانة مقوماتها؟فجغرافية الأمة جعلوها محميات لمنع تنميتها الاقتصادية .وتاريخ الامة جعلوه تاريخ قوميات لمنع تنميتها الحضارية وشوهوا مرجعيتها لمنع الاستئناف.ذلك هو ما كان الجيل الثاني من الحقبة التي ندرس مجرد أداة لتحقيقه بعضهم بوعيوبعضهم بغير وعي وهم إذن حلفاء مباشرة للاستعمار وأداتيه :إيران وإسرائيل .و\"الجعل\"في هذه الحالات ليس عملية خارجية تنسب إلى مؤامرة استعمارية بل هو عملية تاريخية نتجت عن صراع حضاري داخلي يسنده صراع حضاري خارجي.فالصراع في الإقليم الذي يحيط بالأبيض المتوسط أو ملتقى القارات الثلاث (آسياوافريقيا واوروبا) كان مصبا لكل ما حولها وما عداه أصبح تابعا له .وما عداه يعني ماتوسع إليه العالم بعد اكتشاف العالم الجديد .فصار ما حدث في ملتقى القارات الثلاث حضارة العالم كله بمصدرها الديني والفلسفي.فما يجري في أي منها محليا يكون دائما على صورة النموذج السائد في مجموعها بقيادةالحضارة الغالبة من حضاراته المختلفة دينيا وفلسفيا وتراثهما .ويمكن بصورة موجزة أنأقول إن هذه المنظومة المتضادة اكتملت خاصة مع الإسلام عندما جمعت حضارته بين الديني والفلسفي أصلي الحضاري في الإقليم.والجمع بين توجه الفلسفة إلى الدين وتوجه الدين إلى الفلسفة هو عين اللقاء بينالفلسفة اليونانية والدين الإسلامي وهو أساس الكونية الحالية .وفي هذا الإطار الواحد 50 29
بوصفه منظومة لا يفهم أي من عناصرها من دون الباقي حصل اللقاء السجالي بين الشرق الإسلامي والغرب المسيحي حربيا وسلميا.وما حصل في الحقبة التي ندرسها هو ما سميته بالانحطاطين الذاتي عندنا والاستعماريعندهم :وحرب الكاريكاتورين عندنا هي حرب ممثلي الانحطاطين .فالغرب المسيحي نكصعن ثورة القيم الحداثية تشويها فاعليا للفلسفة والدين والشرق الإسلامي نكص عن ثورة القيم الإسلام تشويها انفعاليا لهما .والتشويه واحد.فالجيل الثاني من حقبتنا يحاكي الجيل الثاني منها :استكمال مهمة الاستعمار بالحرب علىأفق مقاوميه من الأحرار داخل الغرب وخارجه .بورقيبة وعبد الناصر وأمثاله في الإقليممن الجيل الثاني لم يكونوا بدعا ولم يكن أفقهم حداثيا بل كان استعماريا :التحضير الاستعماري للأنديجان.أنشأوا نخبة استعمارية داخلية صنعت فترينة غربية ليس لها من الحداثة إلا ما ورّثهم إياه الاستعمار من تشويه للمعادلة الوجودية المبتورة كما وصفنا.فالتحرر الداخلي (الاستبداد والفساد) مشروط بالتحرير الخارجي (الاستتباعوالاستضعاف) والعكس بالعكس .ولهذه العلة كانت الثورة على هذه الوضعية هي في آنثورة تحرر داخلي من الاستبداد والفساد وتحرير خارجي من الاستتباع والاستضعاف :هدفي بيان العلاقة.وأعتقد أن الكثير من الغربيين وخاصة من الأجيال الشبابية يفهمون العلاقة لأنهمأدركوا أن ترضية الداخل باستعمار الخارج منافي لقيم الحداثة .فلا يمكن أن يدعي الفكرالفلسفي تحرير الإنسان في الداخل بشرط استعباده في الخارج خاصة وان التحرير خطاب إيديولوجي لا حقيقة له حتى في الداخل.قد تكون الفترينة المؤيدة للخطاب الإيديولوجي في الغرب أوسع مما هي في الشرق لكنهاتبقى فترينة لأن الاستعباد موجود في الحالتين وإن بتناسب .ولهذه العلة بدت ثورة الشباب 50 30
العربي بجنسيه غير مقصورة علينا بأن كل شباب العالم بدأ يفهم أنه وإن بتناسب في نصف الوضعية التي ثار عليها شبابنا.فليس صحيحا أن الغرب ينعم بالعدل والمساواة والحريات والحقوق كما يتوهم مصدقو الخطاب الإيديولوجي .فالوضع لديه أفضل بسبب قدرته على نهب الغير.الترضيات الداخلية بالنهب الخارجي علاقة قوة وعنف مشروطة بالاستبداد والفساد لدى المنهوبين ومن ثم فشباب الغرب وجد نفسه من المنهوبين داخليا.وبذلك يمكن للإسلام أن يقود ثورة كونية بمقتضى النساء ( 1الأخوة البشرية)والحجرات ( 13المساواة بين البشر عرقيا وطبقيا) والتفاضل بالتقوى .والحداثيونيتوهمون ذلك أحلام دينية .لكن تطور البشرية اليوم جعله شرط الشروط في بقاء الإنسانية والأرض نفيا للاستبداد عليها والفساد فيها.وهذا هو أفق الثعالبي والبنا .لكنه في عصرهم وبسبب سيادة الانحطاط الاستعماري تمكن خدامه من هزيمتهم فوظفهم لإتمام مهمته بالاستعمار غير المباشر.وكان من شروط بقائهم الحرب الفعلية على هذا الافق والحرب الكلامية على الاستعمار: وتلك هي خدعة الأفق الذي أسس عليه الجيل الثاني كل عنترياته.لكن التاريخ دار دورة كونية جعلت الثورة على صراع الأفقين تصبح القضية الكونيةالتي ستحسم في دار الإسلام ومن قلبها أي الإقليم الذي انطلق منه .لذلك فليس صحيحاأن الغرب يحارب الإسلام لعلل دينية بمعنى يقابل الأبعاد التاريخية بل هو يحاربه بسبب هذين الثورتين :الروحية والسياسية لتحريره من الاستبدادين الروحي والزماني.ولو كانت هذه الثورة مقصورة على المسلمين بالفعل ولا تعدوهم للمسلمين بالقوة أي لكلالبشر لما حاربها الغرب مباشرة وبواسطة عملائه وشرطييه .فهو يحارب كل خطر علىسلطانه على الأرواح والأبدان بكنسية علمانية الاستبداد والفساد تلغي ما يوسع أفق الإنسان فيحرره بما يتعالى على الفاني. 50 31
الحرب على الإسلام ليست حربا دينية بل هي حرب على رؤية تعتبر الدنيا مبنى والآخرةمعنى والحياة مثل الرمز لا يرمز لمعناه إلا بمبناه :تلك ثورته .لذلك فالاستهتار بهذهالثورة في خطاب نخب بورقيبة وعبد الناصر وأمثالهم ليس حداثة ولا حتى حدوثة بل هو جوهر البلادة والغباء للتابعين الأذلاء. 50 32
درسنا أفقي فكر المرحلة وسلوك نخبها بطبيعة علاقة الوجود (الرؤى) بالإرادة(السياسة) .ونواصل فندرسها بطبيعة علاقة الحياة (الفن) بالمعرفة (العلم) .وبينا الفرقبين الجيل الذي لا يرد الوجود (أفق متعال) إلى الإرادة (أفق دنيوي) والجيل الذي يرد الوجود إلى الإرادة الرؤى إلى الإيديولوجيا.كما بينا أن المعركة بين الجيلين بدت خلال النصف الاول من القرن الماضي وكأنها حسمتلصالح الجيل الثاني لأنه انضوى في أفق نظام العالم بقطبيه .وكان الجيل الأول يعانيمن معركة ثانية ليس مع جيل التحديث الذي وصفنا بل مع انحطاط الأصالة كما كان العالم الغربي يعاني من جيل انحطاط الحداثة.وجيل انحطاط حضارتنا حالف جيل انحطاط الحداثة صف الرأسمالية محالفة جيلانحطاط الحداثة (الاستعمار) صف الاشتراكية بوهم مقاومة الثانية للأولى .فأصبحتمعركة الكاريكاتورين-انحطاط الاصالة أو الأنظمة القبلية باسم الإسلام وانحطاط الحداثة أو الأنظمة العسكرية باسم الثورة-ضمن معركة القطبين.وصار الجيل الأول مرفوضا من كاريكاتورا الأصالة ومن كاريكاتورا الحداثة اللذينأصبحا في خدمة القطبين .سقط أحد القطبين تحالفا عليه بقيادة الثاني .لذلك فنوعاالانظمة العربية القبلية والعسكرية ونخبهما اعتبرا ثورة الشباب مؤامرة غربية عليهما لما أبداه من رضا عنها قبل أن يدرك طبيعتها.وقد أدرك طبيعتها لما اختار الشعب من يمثلون الجيل الأول الذي بدا وكأنه قد خسر المعركة منذ أكثر من نصف قرن :غاب عنهم تدرجه البطيء كونية القيم. 50 33
ذلك أن الجيل الأول صاحب الأفق المميز بين الوجود(الرؤى) والإرادة (السياسة) لميكن على بينة من طبيعة الثورتين الإسلاميتين :الروحية (لا وساطة بين المؤمن وربه) والسياسية (لا سلطان على الجماعة إلا الجماعة :الحاكم نائب الجماعة بإرادتها الحرة).وحتى بعد الثورة فإن إدراكه كان غائما وتلك هي علة الفشل السريع في القيام بما ينبغيلما مكنه الشعب من قيادة المرحلة :لم يحقق شروط الثورتين .فهو ما زال يتصور التربيةوالحكم الإسلاميين بحاجة إلى كنسية (المرشدية) وسلطة شرعيتها بحاجة إلى ما يتجاوز إدارة الشأن العام (العبادات).لم يتخلصوا من شوائب الانحطاط فقاموا فردوا مثل الحداثيين بفارق :هؤلاء ردواالرؤى للسياسة نفيا للتعالي وهم ردوا السياسة للرؤى نفيا للتداني .وكل المشكل هوالإدراك الغائم لثورتي الإسلام :فالحرية الروحية ضد وساطة بين المؤمن وربه (سلطة المرشدية الروحية) والحرية السياسية ضد سيادة الامة (سلطة المرشدية السياسية).ومن ثم فعلة تعثر الثورة :الانظمة العربية بصنفيها وسندهما الأجنبي المباشر (إيرانوإسرائيل) وغير المباشر (روسيا وأمريكا) وعدم نضوج نخبة التأصيل الحديث .فما يطلبهالشباب مباشرة شروطه غير المباشرة هي التحرر من الاستبداد والفساد الذي يشترط هوبدوره التحرر من الاستضعاف والاستتباع :الاستئناف .والاستئناف يحتاج إلى قاعدة شعبيةعريضة بأفق التأصيل الحديث الذي يدرك أصحابه أن تمام ثورتي الإسلام شرطان ضروريان وكافيان :للتربية والحكم. التقابل بين نخبتي التربيةدرسنا في الفصل السابق علاقة الوجود بالإرادة أو علاقة المرجعية بالسياسة والمدار هوالحكم واليوم ندرس علاقة الحياة بالمعرفة والمدار هو التربية .وننتقل إذن من التقابل بيننخبتي الحكم إلى التقابل بين نخبتي التربية في الحقبة التي ندرسها .والمعلوم أن هذين هما مقوما كل دولة حامية وراعية. 50 34
سنجد المقابلة التي بين نخب الجيلين في التربية (الفن والعلم) هي نفسها التي وجدناهابين نخب الجيلين في الحكم وهو تناظر بعدي صورة العمران .بعدا صورة العمران مفهومخلدوني-الحكم أو الوازع الأجنبي والتربية أو الوازع الذاتي-ومادته الانتاج المادي (الثروة) والإنتاج الرمزي (التراث) .وأصل هذه الوظائف الأربع : اثنان للصورة. اثنان للماد.أصل واحد هو العلاقة بين الوجود والإرادة في الحكم وبين الفن والعلم في التربيةتحديدا للأفقين .وقد وصفنا الأفقين بمقتضى أثر تقابلهما في تصور الحكم لدى الجيلينالتأصيلي التحديثي ومثلنا بتونس وبمصر تعيينا بأربعة أمثلة معلومة .فمثلنا بالثعالبيوبورقيبة من تونس وبالبنا وعبد الناصر من مصر من نخب بعد الحكم من السياسة وعلينا أن نبحث فيما يناظرهم في نخب بعد التربية.ولكن قبل ذلك فلنعلل التناظر بين علاقة الوجود بالإرادة في بعد الحكم من صورةالعمران وعلاقة الفن بالمعرفة في بعد التربية من مادته .فالحكم تتقدم فيه وظيفة الحمايةوالتربية وظيفة الرعاية .وتلكما هما بعدا صورة العمران .ويناظرهما بعدا مادته الانتاج المادي والإنتاج الرمزي.إذا علمنا دور الإنتاج المادي والإنتاج الرمزي في وظيفتي الحماية والرعاية أدركنا علاقةالحكم بالتربية وعلة تكون الصورة من هذين البعدين .وبذلك تتحدد الصلة بالتواصلوالتبادل :فالتواصل بمستوييه يغلب عليه الوصل بين الوجود والإرادة وبين الحياة والمعرفة والتبادل بمستوييه يغلب عليه الفصل فيهما.اعلم أن الأمر تعقد جدا إذ النقلة من بعد الحكم إلى بعد التربية من الدولة يقتضينظرية التواصل والتبادل شديدة التعقيد فضلا عن نظرية الدولة .وكلتا النظريتين سبقأن عرضنا موجزهما في محاولات سابقة لذلك فالمواصلة في هذا البحث تفترض الاطلاع على عرضهما ولو بنظرة خاطفة ليتيسر الفهم. 50 35
سأكتفي بالقول إن وظيفة الحماية الغالبة على بعد الحكم تحمي التواصل والتبادلبمستواهما الأول (بين الناس والطبيعة) والثاني (بينهما وما ورائهما) .والتربية ترعاهمابمستوييهما .لكن جيل الفصل بين الرؤى والسياسة يبقي على ما وراء التواصل والتبادل أما صاحب الرد فيعتبر المابعد مجرد إيديولوجيا. فما وظيفة التربية؟تكوين الإنسان (التربية والمجتمع الاهلي) وتموينه (الثقافة والاقتصاد) :أساسهاالإبداع الرمزي أي التواصل والتبادل الفني والعلمي .والمسألة الآن تتعلق بدور النخب فيهذه الوظيفة :فلها ما فوق مفارق عند جيل التأصيل (ثيولوجيا) أو ما دون محايث عند جيل التحديث (انثروبولوجيا).نظرنا في علاقة الوجود بالإرادة أو أفق الرؤى بالسياسة (بعد الحكم) والآن ننظر فيعلاقة الحياة بالمعرفة أو أفق الحياة بالعلم (بعد التربية) .فرد الـ «مـا فوق\" إلى الـ «مادون\" يجعل الفن والعلم أداتين لما يتوهم سيادة الإنسان بدلا من أن يكونا دالين على سيادة خالق الطبيعة والتاريخ وعبادته.فيصبحان حينها أداتي الفساد في الأرض وسفك الدماء لأنهما يصبحان أداتي حرب أساساالأولى حرب الروح والنفس والثانية حرب المادة والبدن .ولما كان الجيل التحديثييحتاجهما مع العجز عن صنعهما فهو يستوردهما ليكونا وجهي الحداثة المنحطة الحداثة بصورتها الاستعمارية تحريفا لقيمها.فنخب الحياة (ذوق الوجود أو الفن) والمعرفة (معرفة الوجود أو العلم) تحولتبأيديولوجيتي التغريب الفاشيتين سماسرة لتوريد أداتي الاستبداد والفساد .وبمجرد أنيفقد الفن والعلم المتعالي الذي يضفي عليهما معنى الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف يتحولان إلى معنى استعباد الإنسان لخدمة المافيات الحامية.وتلك هي علة العقم الذي دام أكثر من قرن رغم اكاذيب نشر التربية الحديثة:والدليل أن المستبدين والفاسدين ومحظوظ نخبهم يتعالجون في الخارج .فمثلا هل يوجد 50 36
اختصاص أيسر وأكثر ضرورة من الطب؟ كيف لدول تدعي نخبها الحداثة أن تكون أسرار الدولة -صحة الحكام-مكشوفا في مصحات من يعتبرونهم أعداء؟في الغرب يحقق الفن والعلم المقصورين على الما دون العلم بقوانين الطبيعة والتاريخلكن النخب التابعة لا تشاركهم إلافي الإفساد وسفك الدماء بهما .ومعنى ذلك أنه لا حديثلديهم إلا ما يعبر عن تحريف قيم الحداثة الموروث عن الاستعمار :لا حديث إلا أدوات القمع والاستعباد والاستبداد والفساد.واستعمار الإنسان في الأرض لا يكون معنى الحياة والمعرفة والتعبير عنهما بالفن والعلمإلا بقيم الاستخلاف بقطبي المعادلة الوجودية :تواصل قطبيها .لكن هذه المعادلة تفقدقطبيها لأن إزاحة القطب الأسمى بوهم جعل القطب الأدنى بديلا منه (وهم موت الله يؤدي حقيقة موت الإنسان) :خاصية جيل الذيل.فهل نخبة الحياة والمعرفة التي تلازم نخبة الوجود والإرادة في الجيل الذي يدعيالحداثة تعين فيها مآل وهم موت الله بقتل الإنسان فعليا؟ فالأنظمة لم تأخذ من نموذجيالدنيوية الحداثية الموجب فيهما بل اكتفت بالتحريف الاستعماري لقيم الحداثة :أدوات الاستبداد لتأبيد الفساد.وهذا الوصف الذي يبدو مغرقا في التجريد حتى لكأنه ميتافيزيقي مطابق تمام المطابقةللوضع الذي ورثناه عن أكثر من ستة عقود :جعلونا أضحوكة العالم .فـ\"جعلونا\" لا تحيلإلى الاستعمار الغربي بل إلى أدواته المحلية ممثلين بكاريكاتور الحداثة الذي يدعي محاربة كاريكاتور الأصالة صنيعته :حرب الانحطاطين.الاستعمار الغربي يستفيد من الوضعية دون شك ويساعد على تواصلها وتلك هي علةتعثير ثورة الشباب لتحقيق شروط الاستئناف تحررا داخليا وتحريرا خارجيا .ولنشرع الآنفي الكلام على التربية التي يقول بها الجيل التأصيلي الذين سعوا لاستئصاله والتي يقول بها جيل الاستئصال بسند محلي وإقليمي ودولي. 50 37
فعملية الاستئصال لم تعد من الماضي الذي بدأ وكأنه قد حسم المعركة لصالح أدعياءالتحديث بل هو صار جوهر اللحظة التي تلت الثورة :حرب شبه كونية .والسؤال هو :أيالتربيتين تناسب الحاجة التي يمكن للأمة أن تستعيد بها دورها الكوني؟ أي التربيتين تحول دون السيادة حماية ورعاية بمنطق العصر؟في الفصل السابق قارنا بين زوجين من ممثلي التأصيل والتحديث في تونس ومصر .لكنالآن المقارنة ستكون بين تربيتين لا بين ممثلين لنظرية الحكمين .وبأكثر وضوح :ماالبرنامج الذي يحررنا مما حل بالجغرافيا من تفتيت يمنع شروط التنمية المادية وبالتاريخ من تشتيت يمنع شروط التنمية الرمزية؟هل هو التأصيلي المؤمن بالنساء (1الأخوة البشرية) وبقيم الحجرات (13المساواة بينالبشر) أم التحديثي الذي يقول بالقومية والمحميات القطرية؟ هل المحميات القطريةبسبب التفتيت الجغرافي (تقزيم الامة) والتشتيت التاريخي (تشتيت الأمة) لها الحجم الكافي لتحقيق شروط السيادة حماية ورعاية؟كل ذي عقل جوابه سلبي حتما :فما يسمى دولا عربية تنقسم اليوم إلى متسولة للحماية(التي تتوهم أنها غنية) والبقية للرعاية فضلا عن الحماية مثلها .ولما كانت التربية ثقيلةالكلفة فإنها لا يمكن أن تكون في محميات مقزمة جغرافيا ومشتتة تاريخيا أن تك ّون مبدعين في الفن والعلم بل إيديولوجيين.لذلك فالجميع يلاحظ أن حال الثقافة العلمية والفنية رغم أنها لم تكن على أحسن حالقبل سيطرة أدعياء التحديث ازدادت سوءا :تربية محو الامية .وما ينتج عن هذا التربيةالتي لا تتجاوز محو الأمية البدائية؟ النخب العميلة تحتكر السياسة والثقافة وتستعبد البقية بمستورد من أدوات الاضطهاد.والنتيجة خرج المعمرون الأجانب الذين كان لهم على الأقل بعض من قيم الحداثةونوبوا عنهم معمرين انديجان حتى يقوموا بما صار الغربي يستحي من القيام به .ودليل 50 38
هذه الظاهرة أمران :المخابرات العربية وطرق انتزاع المعلومات بما لم يعد قوانين الغرب تسمح به فصارت المحميات العربية جولاج وجوانتنامو.فأصبحت التربية لا تتجاوز محو الأمية ومهمتها ليس تكوين الإنسان المبدع لشروط التنمية المادية والروحية بل نوادل السواح وخدم الصناعة الدنيا.وسآخذ مثال تونس التي يدعي حداثيوها أنها حققت درجة محترمة من الحداثةالتربوية .صحيح إذا اكتفينا بحداثة الاستهلاك والتقليد الببغائي لظاهرها .هل محميةبدخل خام لا يتجاوز ثلاثين مليار دولار لا يمكنها أن تكون دولة وأن يكون لها قدرة على تحقيق شروط الحماية والرعاية على فرض صلاح نخبها؟وطبعا كلنا يعلم أن الفساد في بلاد العرب الفقيرة أشنع مما هو عليه في بلادهم التي تظنغنية .فلنا من هم ليسوا دون طالح اليمن فسادا واستبدادا .وليتجول أي ملاحظ نزيه فيمدارس تونس وجامعاتها وسيحكم بنفسه أنها لا يمكن أن تخرج إلا العاطلين لأنها محاشد لمحو الأمية وليس معاهد بحث علمي .ولا أحد ينكر أن الوضع في مصر التي كانت تظن قاطرة العرب أسوأ بكثير من الوضع في تونس .ولعل بلاد العرب التي تبدو غنية ليست في وضع أفضل.ومن ثم فرؤية نخب الحياة والـمعرفة ذات الأفق الإسلامي أكثر مناسبة لشروط التنمية المادية والرمزية لأنها تحقق الشرطين الضروريين والكافيين في الأعيان وفي الأذهان:-1ففي الاعيان الأفق الفعلي يتجاوز ما يحول ماديا دون الطموح الامبراطوري الذييجعل الامة قطبا كونيا بحجم العصر المحقق شروط القيام المستقل فيه :الدولة تكون بحجمعماليق العصر ولها ما لها من قدرات مضاهية .فتتحرر من التفتيت الجغرافي الذي ينتج عنه دويلات لا يمكن أن تبقى إلا كمحميات.-2وفي الاذهان الأفق الرمزي يتجاوز ما يحول رمزيا دون الطموح الامبراطوري الذييجعل الأمة قادرة على العمل المديد الذي يتطلب الصبر لخدمة رسالة كونية ذات بعدروحي لا يقتصر على الأفق الضيق للدنيا .فتتحرر من التشتيت التاريخي الذي ينتج عنه 50 39
صراع القوميات والطائفيات ومن ثم فقدان شجاعة القيام الذاتي المستقل واللجوء لتسول الحماية والرعاية الأجنبية. 50 40
وصلنا إلى قلب المعادلة -القدرة ونخبها-اي البعد الاقتصادي من الانتاجين الماديوالرمزي-والدور الذي يؤديه في أفق نخبة التأصيل ونخبة التحديث .وقد ختمنا الفصلالسابق ببيان أي الافقين أكثر مناسبة لمقتضى وضع العالم من شروط الحجم الجغرافي والوزن التاريخي من شروط لقيام الدول ذات السيادة.فالأفق التحديثي تأسس على التقزيم الجغرافي والتهوين التاريخي وأنتج أشباه دول هيمحميات عديمة السيادة لعجزها على شرطي القيام :الانتاجين .ذلك أن الوضع الدولي فيلحظة الاستعمار المباشر فتت جغرافية الإقليم وشتت تاريخه حتى تفقد كياناته السيادة بالضرورة فتكون تابعة حماية ورعاية.وبهذا المعنى فالحداثة المقومة للكيان السياسي والحضاري من صف النخب التأصيلية ذاتالأفق الساعي للتحرر من التقزيم الجغرافي والتهوين التاريخي .لكن أصحاب هذا الأفق لميستطيعوا بعد ترجمة هذا التناسب بينه وبين مقتضيات العصر توهما منهم أن الإحياء ممكن دون تغيير كيفي في منظور هذا الأفق.وينبغي ملاحظة أن الرمز التونسي (الثعالبي) كان أكثر فهما من الرمز المصري (البنا)لضرورة التغيير الكيفي الضروري للجمع بين التأصيل والتحديث .وحتى الرمز التونسي(بورقيبة) للأفق المقابل كان أكثر فهما من الرمز المصري (عبد الناصر) للعلاقة من المنظور الحداثي لكونه أدرى بحضارة الغرب.في التاريخ القصير بدا وكأن قيادة المرحلة مصرية في الأفقين التأصيلي والتحديثي لكنهافي التاريخ المديد تبينت قيادتها تونسية بدليل نهايتها .فالمعركة في تونس دارت حول علاقةالتأصيل بالتحديث من منظور التأصيل الثعالبي ومن منظور التحديث بورقيبة جمعا بين السياسي وما ورائه في الحالتين. 50 41
ومعنى ذلك أن كلا الصفين في تونس دخلا المعركة ببعديها السياسي والوجودي دونالتقابل الذي سيطر على المناخ المصري بين موقف عبده والافغاني .والقصد بهذا التقابلهو الفصل بين المدخلين :التربية قبل الحكم عند عبده والحكم قبل التربية عند الافغاني. والثاني انقلابي عسكري بالجوهر.فالسياسي لا يتقدم إلا بالعنف والتربوي لا يتقدم إلا باللطف .وهي مقابلة بين قصيرالتاريخ السريع ومديده البطيء :الإرادة تسرع والقدرة تبطيء .حاول الثعالبي الجمعبين التأصيل والتحديث بتقديم الأول وحاول بورقيبة الجمع العكسي فكان التفاعل في المستويين السطحي والعميق :فحدثت الطفرة.والطفرة هي خاتمة الحقبة التي بدأت بسقوط الخلافة وانتهت بثورة الشباب فكانتمطالبها المباشرة زبدة الحداثة وشروطها غير المباشرة زبدة الأصالة .وما حدث في تونسأصبح المسرع -الكاتاليزور -الذي قاد إلى ثورة الشباب في مصر ثم في سوريا ثم في ليبيا ثم في اليمن :حرب الفتنتين الأهلية.لكن عقد الدولة القطرية انفرط بعد الحرب الثانية حتى في أوروبا التي أسسته في نهايةالقرون الوسطى بالتحلل الامبراطورية المسيحية التي عوضت روما .وعوضها سعي نخبأوروبا لبناء وحدة أوروبية حجما يقتضيه نظام العالم الجديد بعد الحرب الثانية لدورهاالعالمي بعد ضياع امبراطورياتها الاستعمارية .لكن نخب التحديث العربية سواء كانت معالقطب السوفياتي أو القطب الأمريكي ظلت توابع ولم تفكر في الاستفادة من الوضع لشروط السيادة مثل أوروبا.وصلنا الآن إلى الكلمة السحرية :شروط السيادة .فهي تعني \"الابداعين الماديوالرمزي\" شرطي الانتاجين السادين للحاجات المادية والروحية للجماعة .وهذه المعانييجمعها مفهوم \"القدرة\" المشروطة بالإرادة والمعرفة قبلها أداتين سياسية وعلمية وبالحياة والوجود بعدها غايتين للإرادة والوجود. 50 42
ولهذه العلة اعتبرنا مفهوم القدرة المركز والقلب من معادلة الوظائف تمثلها النخبفرض كفاية :السياسة والمعرفية والاقتصادية الفنية والوجودية .سيقول المتعجلون عملابالحكمة الشعبية \"وينك وذنك\" لماذا كل هذا التمهيد بخمس فصول للوصول إلى ما كان يمكن البدء به؟ لأن عكسه هو علة تخلفنا.ما يزال الكثير من نخبنا يميل إلى \"الخيمة\" عقليا رغم أنه يعيش في ناطحات السحاب حسيا .الفكر لا يقعد الأمور بل يكشف تعقيداتها ليتمكن من علاجها.لما كان الإنسان يمكن أن يعد عالما بحفظ متن أو متنين كان الفكر جنيس الخيام يبني دارةببعض الأوتاد وقطعة وبر تذروها الرياح دون تراكم رمزي .وكان الشعر من جنسالنبطي :فيض خاضر وحتى المحكك منه فهو تجربة ذاتية لا تصل إلى كليات الوجدان الإنساني .لكأن القرآن لم ينزل علينا بلساننا.لكأننا لم نقرأ فصلت .53فحقيقة القرآن ليست في نصه بل في آياته التي يرينها الله فيالآفاق والأنفس (الطبيعة والتاريخ في الاعيان وفي الاذهان) .وآياته التي في الأعيان وفيالأذهان ليست خياما تتوالى ولا تتراكم ومتردم يذرو متقدمه تاليه فلا يتأثر فهمه بل هي الإنتاجان المادي والرمزي.فيكون سؤالنا اليوم أي الافقين التأصيلي أو التحديثي أكثر تحقيقا لشروط الإنتاجينالمادي والرمزي اللذين بهما يصل الإنسان بعدي معادلة الوجود؟ وهل نجد شروط الانتاجالمادي والرمزي المحققين لسيادة المؤمن مستعمرا في الأرض بقيم الاستخلاف أم لعبودية القزم المحاكي سطحيا لمن يسيطر عليه؟ذلك هو رهان الثورة اليوم :هل التحديث المستقل يختلف عن التأصيل الذي يحقق شروطالسيادة بالإنتاجين المادي والرمزي شرطين للحماية والرعاية؟ ولنقلب السؤال :أليس جيلالذيل عاجزين بحكم أفقهم التابع على ما يتجاوز استيراد الانتاج المادي والرمزي بسبب التقزيم الجغرافي والتهوين التاريخي؟ 50 43
من اختار نموذج الفاشية الغربية (بورقيبة وأمثاله) أو الفاشية الشرقية (عبد الناصروأمثاله) تزداد تبعيته وتناقص شرطا الحماية والرعاية :السيادة .وإذن فكل ما نراهحاصلا في بلاد العرب بصنفيها ذات الأنظمة العسكرية والأنظمة القبلية ليس اتفاقيا بل هو نتيجة حتمية للأفق النموذجي المسيطر.لابد أن تكون نخب القدرة في بلاد العرب مسيطرة على نخب الإرادة والمعرفة قبلها ونخبالحياة والوجود بعدها بمنطقها المستبد والفاسد لأنها تابعة .ونخب القدرة التابعة مافياتوظيفتها جعل الأقطار محميات تابعة لا دولا بمقتضى تفتيت دار الإسلام وتشتت تاريخها لئلا تكون لها شروط السيادة.فالحرب الأهلية تتجاوز علتها المطالب المباشرة إلى شروطها البعيدة :الاستبداد والفساديخدم تفتيت جغرافيتنا وتشتيت تاريخنا :دار الإسلام وامته .وهبنا صدقنا أن اصحابالتحديث في حقبة ما بين سقوط الخلافة وبداية الثورة كانوا على حسن نية في التشخيص والعلاج :بورقيبة وعبد الناصر مثلا.ألم يكفهم نصف قرن من الممارسة لفهم أن تشخيصهم وعلاجهم كلاهما كان أكله عكسما يعدون به :فالفترينة الكاذبة بينت حصوات الشباب قبح ما تخفيه .واكتمل الامر بمانراه اليوم في الهلال :التقت الفتنتان الكبرى والصغرى والرهان التاريخي الذي تساوقت فيه المعركتان ولا مفر من حسمهما للاستئناف.صحيح أنهم شوهوا الأفق التأصيلي بما اخترعوه من شبيه مشوه منه سموه خلافة وجهاداوإسلاما سنيا وهي جميعا كاريكاتورات للتخريب الداخلي ستزول .ولن يزيلها من يدعونالحرب عليها وهي في الحقية المعلاق الجديد لتبرير بقائهم بل البديل الحقيقي منها فيماثل ما فعلته أوروبا لاستعادة دورها.أوروبا اليوم تصف اساس وحدتها بـ «الحضارة اليهودية المسيحية« لكنها لم تعد إليها فيشكلها الذي تجاوزته بل ترجمته بقيم مناسبة للعصر :شرط الاستئناف .وهذا قانون تاريخيمشروط في انبعاث أي حضارة-وحتى أي علم يراجع أسسه ليتقدم -بشروط تجديد أسسها لصوغها بأسلوب يناسب الحاجة المتجددة :السيادة هي شروط الانتاجين. 50 44
فأوروبا لو بقيت كما كانت في حرب أهلية قبل الحرب العالمية الثانية لن تستطيع منافسةأمريكا أو حتى السوفيات في الإنتاجين فتفقد شروط سيادتها .لذلك كان طلب الوحدةمعلولا بهذه الحاجة :كيف يمكن لأوروبا بعد أن فقدت القدرة فأصبحت محمية لعملاقي العالم أن تسترد قدرتها أي شروط سيادتها؟وهذه القدرة أو شروط السيادة هي اساس الإرادة والمعرفة والحياة والوجود أساسها إذاكانت حقيقية وهي في آن ثمرة أفقها من دونها تكون أسماء لا غير .ففي المحميات العربيةالتي يسمونها دولا :الإرادة والمعرفة والحياة والوجود كلها أسماء بلا مسميات لأنها فاقدة لشروط السيادة أو قدرة الابداعين.سيقول المتعجلون :ها أنت مثل الحداثيين تستمد النموذج من الغرب (وحدة أوروبا).لا يقول ذلك إلا من كان جاهلا بتاريخ الامة .ماذا فعل الصدر؟ فأفق الصدر يتألف من:الرؤى (الرسول) والكيان الجغرافيا (الصديق) والكيان التاريخي(الفاروق)والكيان المرجعي (ذو النورين) بداية الدولة الكونية (معاوية).والجيل الساعي إلى التأصيل هذا أفقه لكنه لم يستطع تجديده بمنطق العصر .وكل ماأحاوله على عسره وتشابك عناصره وتلعثمه أحيانا هذا هو مطلبه .وفي الحقيقة فمطلبهكان في الأصل مقصورا على النظر كما حاولته في التفسير الفلسفي .لكن الثورة فرضت أن يجمع بين النظر والعمل ففيه بعد نضالي.لكنه ليس نضاليا مباشرا وإلا لأغراني حب الانتشار السريع فاخترت اسلوب التبسيط.المطلوب :هو شروط العمل على علم لا \"التهريج=الاجيتاسيون\" .ثورة من دون قيادة فكريةذات تكوين نظري ديني وفلسفي مع ما يعتمدانه من علوم الطبائع وعلوم الشرائع لن تقدر على استئناف ثورة الصدر بمنطق العصر.فشرط الشروط هو القيادة ذات الأفق النظري الروحي والعقلي الذي يكون قادرا علىاستئناف ثورة الصدر الذي ننسبه إلى الأعلام الخمسة الذين ذكرت .صحيح أن مؤسس 50 45
Search