Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore سلسلة البورقيبية - كيف نقوم اثر الاعلام بالتاريخ المديد - ابو يعرب المرزوقي

سلسلة البورقيبية - كيف نقوم اثر الاعلام بالتاريخ المديد - ابو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2017-04-16 09:53:29

Description: سلسلة البورقيبية - كيف نقوم اثر الاعلام بالتاريخ المديد - ابو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫كيف نقوم أثر الأعلام بالتاريخ المديد؟‬





‫‪1‬‬ ‫القسم الاول‬ ‫‪8‬‬ ‫القسم الثاني‬ ‫‪8‬‬ ‫المقدمة‬ ‫‪58‬‬ ‫المسرحية التاريخية المديدة‬ ‫‪10‬‬ ‫السرديتان التأصيلية والتحديثية‬ ‫‪12‬‬ ‫‪13‬‬ ‫الحرية والكرامة شرطا التحرر من الاستضعاف والاستتباع‬ ‫‪14‬‬ ‫التأصيلي الاستئصالي والتحديثي الاستئصالي‬‫‪10 15‬‬ ‫‪15‬‬ ‫الشرعيات الكاذبة للأنظمة القبلية والعسكرية‬ ‫الاستئناف وثورة الإسلام الحقيقية‬ ‫‪17‬‬ ‫‪24‬‬ ‫الخاتمة‪ :‬استهداف الغرب للأسسين التاريخي وما بعد التاريخي‬ ‫‪24‬‬ ‫القسم الثالث‬‫‪15 24‬‬ ‫القسم الرابع‬ ‫‪26‬‬ ‫مقدمة‬ ‫‪28‬‬ ‫منظومة الابعاد الخمسة لتصنيف النخب وعلاقتها بالمعادلة الوجودية‬ ‫‪30‬‬ ‫‪32‬‬ ‫مقارنة بين كاريكاتورا التأصيل والتحديث في تونس ومصر‬ ‫ثورة الشباب تجسيد لكرامة الانسان وكيانه‬‫‪20 33‬‬ ‫تلازم التحرر والتحرير‪:‬‬ ‫‪33‬‬ ‫خاتمة‬ ‫‪34‬‬ ‫‪35‬‬ ‫القسم الخامس‬ ‫‪37‬‬‫‪25 38‬‬ ‫المقدمة‬ ‫‪41‬‬ ‫علة فشل الجيل الأول في القيادة‬ ‫التناظر بين علاقة الوجود بالإرادة وعلاقة الفن بالمعرفة‬ ‫‪41‬‬ ‫‪42‬‬ ‫علاقة الاستعمار بانحطاط التربية والمعرفة‬ ‫مقارنة بين التربيتين التأصيلية والتحديثية‬ ‫القسم السادس‬ ‫المقدمة‬ ‫شروط السيادة‬

‫‪43‬‬ ‫علاقة الافقين التأصيلي والتحديثي بشروط الانتاجين‬ ‫‪45‬‬ ‫ثورة الصدر‬ ‫‪46‬‬ ‫‪48‬‬ ‫مقومات السيادة‪ :‬الابداعان المادي والرمزي‬‫‪5 49‬‬

‫أما وقد هدأت الزوبعة التي ثارت حول الرئيس بورقيبة بين مستغليه ومستغلي خصومه‬‫سياسيا فإن الكلام عليه يمكن ان يعود إلى معايير تقويم أثره التاريخي‪ .‬وقد سبق لي أن‬ ‫تكلمت عليه أربع مرات اثنتين بالكتابة واثنتين شفويتين‪.‬‬‫وقد رأيته عن قرب مع عبد الناصر وبن بلة في بنزرت وتكلمت عن ذلك أول مرة سنة‬ ‫‪.2004‬‬‫كانت نوازع شعوري الغائم قد اجتمعت فيهم ممثلين للتحديث (بورقيبة) ولثورة التحرير‬ ‫(بن بلة) وللطموح العربي (عبد الناصر)‪ :‬لم أكن اميز بين ظاهر وباطن‪.‬‬‫وكانت الثانية بمناسبة جائزة رئاسة الجمهورية في الباكالوريا في ساحة دار المعلمين العليا‬‫سنة ‪ .1966‬ومن جنسها مرة أخرى بمناسبة جائزة الإجازة سنة ‪ .1969‬ففي الحقيقة الثانية‬‫والثالثة من طبيعة واحدة ولذلك تكلمت على مرتين لا على ثلاث‪ .‬وكان كلامي عليهما‬ ‫شفويا في حصص متلفزة‪.‬‬‫بقيت المرتان الكتابيتان سابقة وهذه‪ .‬والسابقة هي التي لخصت فيها طبيعة موقفي من‬‫رؤساء تونس الخمسة‪ :‬من بورقيبة إلى السبسي مرورا بابن علي والمبزع والمرزوقي دون‬ ‫تقويم لأثر البورقيبية في التاريخ‪.‬‬‫لذلك سأخصص هذه المرة الرابعة في الجملة والثانية كتابيا لهذا الغرض‪ .‬وطبعا لا ينبغي‬‫أن يكون الكلام تعبيرا عن موقف لا يتجاوز أحوال النفس‪ .‬ولا بد من البدء بتحديد‬‫معايير تقويم أثر الأعلام في التاريخ حتى لا يكون الحكم على نواياهم بل على أفعالهم‬ ‫وعلاقتها بأقوالهم عبارة عنها‪.‬‬‫ولو كان الكلام مقصورا على تقويم أثر بورقيبة وحده لكانت المسألة محلية ولما كلفت‬‫نفسي جهد الكتابة في المسألة‪ .‬همي يتعدى تونس لأني لا أنشعل بالأقطار بل بالأمة‬ ‫وبالذات تلك اللحظة العربية الإسلامية التي تحدد فيها دور البورقيبية‪.‬‬ ‫‪50 1‬‬

‫لذلك كان أول كلام لي على بورقيبة في حادثة عشتها شابا بمناسبة حفل تحرير بنزرت‬‫سنة ‪ 1963‬بحضور بورقيبة وابن بلة وعبد الناصر‪ :‬وهم رموز خاصية اللحظة‪ .‬والمعلوم أني‬‫لست مؤرخا كما أن كلامي يتجاوز أحوال النفس ‪-‬وذلك ما لم يتجاوزه من تكلموا له أو‬ ‫عليه في هذه الزوبعة‪.‬‬‫كلامي يتعلق بفلسفة التاريخ المديد لتحديد دلالة اللحظة التي يمكن بالقياس إليها‬‫معرفة دور البورقيبية وما يجانسها‪ .‬فهذه اللحظة من التاريخ المديد هي اللحظة التي فتحت‬‫بسقوط الخلافة بعيد الحرب العالمية الأولى والشروع في الشكل السياسي الحديث‬ ‫(الاحزاب) وختمت بثورة الشباب والشروع في الشكل الثوري الحديث (الشعوب)‪.‬‬‫وقد عايشت جيلين فشلا في تحقيق الصلح بين التأصيل والتحديث‪ .‬اللحظة التي أتوجه‬‫لأصحابها حاليا ‪-‬شباب الثورة بجنسيه‪-‬تجاوزت التداول بين هذين الجيلين اللذين‬‫عايشتهما إلى التساوق بين آثارهما تساوقا آل في المجمل إلى الحرب الاهلية‪ .‬وهذه الحرب‬‫بلغت ذروتها في قطري الخلافة الأوسطين وهي تسعى إلى توريط قطري الخلافة الأول‬ ‫والأخير في حرب واضحة الهدف‪ :‬منع الاستئناف‪.‬‬‫من ينكر أن العرب خاصة والمسلمين عامة يعيشون حربا أهلية بسبب فشل المصالحة بين‬ ‫التأصيل والتحديث؟‬‫من ينكر أن هذا الفشل لا يمكن أن يقتصر تفسيره على رد حقيقة اللحظة إلى تضخيم‬ ‫دور العامل الخارجي‪.‬‬‫والـمعلوم أن مفهوم التاريخ المديد موضوعا لفلسفة التاريخ مفهوم وضعه ابن خلدون‬‫عندما اعتبر التاريخ الكوني مؤلفا من لحظات مديدة يفصل بينها انقلاب كيفي شامل‬‫واعتبر المقدمة محاولة في صوغ اللحظة التي يعتبرها نهاية حقبة سابقة وبداية حقبة‬ ‫لاحقة‪.‬‬‫لا يمكن الكلام على بورقيبة وأمثاله في الإقليم من دون تحديد طبيعة اللحظة التي عمل‬‫فيها وترك أثرا هو ما ينبغي تقويمه للحكم له أو عليه‪ .‬وحتى أيسر تعريف اللحظة التي‬ ‫‪50 2‬‬

‫ختمت لحظة بورقيبة وأمثاله‪-‬لحظة نتجت عن ثورة الشباب‪-‬فيمكن أن أقول إنها لحظة‬ ‫استبطنت فيها الأمة صدام الحضارات وأدركت ضرورة تجاوزه‪.‬‬‫الحرب الأهلية العربية والإسلامية الحالية حرب اهلية تجمع بين الفتنة الكبرى (سنة‬‫شيعة) والفتنة الصغرى (علمانية أصولية) بصدام حضاري داخلي‪ .‬والصدام الحضاري‬‫صدام مع الإسلام ومحاولات التبرؤ من حضارته وتراثه وقيمه‪ :‬إما بالسعي لإحياء ما تقدم‬‫عليه (علة الفتنة الكبرى العميقة) أو لاستنبات ما تأخر عنه (علة الفتنة الصغرى‬ ‫العميقة)‪.‬‬‫فبؤرة صدام الحضارات داخلية بعد أن استبطنت هذين الخروجين على الإسلام إما بما‬‫تقدم عليه (علة الفتنة الكبرى) أو بما تأخر عنه (علة الفتنة الصغرى) تأسيسا للدول‬‫القطرية التي هي محميات غربية أنشأها الاستعمار أو لإحياء امبراطوريات متقدمة على‬ ‫الإسلام كسروية أو صهيونية أو أرثودوكسية‪.‬‬‫لحظة الحرب الأهلية العربية بين نخب الأمة ليست سياسية فحسب بل هي حضارية‬‫كذلك‪ :‬ليست حربا لخلاف حول برامج سياسية بل حول محددات كيانية أعمق‪ .‬إنها صدام‬‫حضاري إما بين الإسلام وما تقدم عليه (قبل الفتح) أو بينه وبين ما تأخر عنه (بعد‬ ‫الاستعمار)‪ :‬حرب تهدف لإلغاء ما بين السابق واللاحق‪.‬‬‫والحرب الأهلية الداخلية بوصفها صداما حضاريا داخليا تجري في مناخ حرب أهلية كونية‬‫هي صدام حضاري مع ما يعتبر أهم عائق للتنميط العالمي‪ :‬الإسلام‪ .‬واللحظة التي تحدد‬‫خصائص البورقيبية تتنزل بين بداية نهاية التأصيل (حركة النهضة والتحرر من‬ ‫الاستعمار) وبداية نهاية التحديث (الموروثة عن الاستعمار)‪ :‬مشتركة لكل الأقاليم‪.‬‬‫وخصائص هذه اللحظة تبين أن الكثير مما ينسب إلى البورقيبية ليس خاصا بها بل هو‬‫من خصائص اللحظة في مجالات الإرادة (السياسة) والمعرفة (الثقافة النظرية) والقدرة‬ ‫(الاقتصاد) والحياة (الثقافة الفنية) والوجود (رؤى العالم)‪.‬‬‫وقد تعينت صفات هذه اللحظة في النخب ممثلة الإرادة (السياسيون)‬ ‫والمعرفة(العلماء)والقدرة (الاقتصاديون) والحياة (الفنانون) والوجود (الرؤى)‪.‬‬ ‫‪50 3‬‬

‫فماذا حدث بين سقوط الخلافة وثورة الشباب؟ أثر البورقيبية يتحدد بخصائص اللحظة‬‫التي عرفناها بالتداول بين جيلين التأصيلي الذي قاد حرب التحرير والتحديثي الذي نصبه‬ ‫الاستعمار لإفشال التحرير الحضاري‪.‬‬‫وقد انتهى الأمر انتهى إلى الحرب الاهلية الحالية‪ .‬وبخلاف السائد فالبورقيبية أقرب‬‫من اليوسفية إلى فكر جيل التأصيل لميله إلى التحديث الغربي التقليدي ورفضه المعسكر‬ ‫الشرقي والقومية العربية‪.‬‬‫فحركة الثعالبي لا تختلف كثيرا عن حزب الوفد المصري والتحديث في إطار الغرب‬‫التقليدي لم يكن يدعي الثورية والقطع معه تربية وحكما وتسييسا‪ .‬والجامعات المصرية‬‫على سبيل المثال قبل الناصرية كانت في علاقة وطيدة بجامعات الغرب عامة وفرنسا خاصة‬ ‫وعلى نفس المنوال سعى بورقيبة في تونس‪.‬‬‫وكذلك واصل المغرب الاقصى وليبيا السنوسية‪ .‬ومن ثم فالجزائر بسبب ظروف المقاومة‬‫كانت خيارا شاذا في تلك اللحظة خيارا تابعا للناصرية والمعسكر شرقي ولا يندرج في حركة‬ ‫التحرير التقليدية كما في مصر وتونس قبل عبد الناصر‪.‬‬‫فبين سقوط الخلافة وثورة الشباب اتصفت اللحظة بتضاؤل دور خيار التأصيل وسيطر‬‫خيار التحديث بنخب ذات حداثة سطحية تخلت عن الأول دون شروط الثاني‪ .‬والنتيجة‬‫هي تحديث مستبد فرض تغييرا سطحيا عنيفا في السياسة والمعرفة والاقتصاد والفنون‬ ‫والرؤى وبقي العمق الثقافي والاجتماعي بطيء التغيير ومديده‪.‬‬‫وما حدث في الحقيقة هو إنشاء فترينات حداثية في تعابير ثقافية واجتماعية لقلة غيرت‬‫الأنظمة التي كانت أقرب لوجدان الشعوب بنزعة ثورية سطحية‪ .‬فكانت الانقلابات في‬‫تونس ومصر والعراق وسوريا وليبيا إلخ بدعوى بناء أنظمة جمهورية لم تضف إلى عدم‬ ‫الشرعية التقليدية ومن ثم الحاجة إلى العنف‪.‬‬‫فهذه البلاد كلها كانت ملكية شبه دستورية أي إنها لم تكن مطلقة مثل بدائلها الجمهورية‬‫المتأثرة بفاشية ما بين الحربين غربية كانت أو شرقية‪ .‬ولما تضاعف ذلك بسبب التقابل بين‬ ‫‪50 4‬‬

‫النموذجين السوفياتي والرأسمالي والاحتماء بالقوتين العظميتين تضاعفت عناصر التبعية‬ ‫في المجالات الخمسة‪.‬‬‫وبدأت ارهاصات الحرب الأهلية بين انظمة الإسلام التقليدي والغرب التقليدي من جهة‬‫وأنظمة الانقلابات العسكرية التي تدعي الثورية الاشتراكية‪ .‬ولذلك فالمقابلة بين‬‫البورقيبية واليوسفية ليست مقابلة على أرضية الإسلام بل هي مقابلة على أرضية‬‫المعسكرين ونموذجي التحديث الغربي الرأسمالي والشرقي الاشتراكي‪ .‬والدليل القاطع‬‫أن بورقيبة كان حليف الإسلام التقليدي ضد الأنظمة التي تدعي القومية الناصرية‬ ‫والبعثية رغم موقفه الأتاتركي من الماضي الإسلامي‪.‬‬‫لكن المعيار الأوضح هو ما يستنتج من المآلات‪ :‬فمآل السياسة البورقيبية أنتج ظاهرتين‬‫عجيبتين‪ :‬دور شباب تونس في ظاهرتي رمز التحديث والتأصيل؟ فثورة الشباب انطلقت من‬‫تونس ونسبتهم في الحركات الجهادية إلى جميع أقطار الأمة هي الأكبر وهما ظاهرتان‬ ‫تبدوان متناقضتين لكنهما من نفس الطبيعة‪.‬‬‫ولعل وجه الشبه بين البورقيبية والأتاتركية في هذه المآلات أهم من وجه الشبه في‬‫البدايات‪ :‬من ذلك عودة تركيا إلى التأصيل بعد سطحية التحديث‪ .‬ولولا اختلاف الحجمين‬‫لكانت نسبة تونس الحالية إلى اللحظة التي نصف عين نسبة تركيا إليها‪ :‬ففيهما ستحسم‬ ‫معركة التأصيل والتحديث بسياسة سلمية‪.‬‬‫كلتاهما تعيد الامة إلى التوازن بين التأصيل والتحديث فتعتبران شبه استثناء حول ما‬‫بينهما من أقطار تمر بحرب أهلية لها نفس غاية الثورة الشبابية‪ .‬فالثورة جمعت بين‬‫المطالب الحداثية (الحرية والكرامة) والمطالب التأصيلية (الهوية والسيادة) ومن ثم فهي‬ ‫تحيي في الأمة شرط الطموح الامبراطوري‪.‬‬‫فبالتحديث يكون المطلوب التحرر من الاستبداد والفساد داخليا وبالتأصيل يكون المطلوب‬‫التحرر من الاستضعاف والاستتباع‪ :‬وشرطهما هو شرط السيادة‪ .‬ومن ثم فنحن قد وصلنا‬‫إلى لحظة الحسم في الفتنتين اللتين لهما نفس الإشكالية‪ :‬كيف تكون الدولة محققة لشروط‬ ‫الحماية والرعاية نظاما وحجما؟‬ ‫‪50 5‬‬

‫والجامع بين النظام (لتحقيق الحرية والكرامة) والحجم (لتحقيق السيادة حماية‬‫ورعاية) هو التحرر مما بدأت منه المرحلة ومما انتهت به وتجاوز لحظتها‪ .‬وقد فهمت الثورة‬‫المضادة وسندها الغربي ذلك‪ :‬فأعلنوا الحرب على السنة العربية والتركية بتجنيد الفرس‬ ‫والكرد وتشويه الإسلام السني وثرة الشباب‪.‬‬‫وما يسمى البورقيبية المحدثة (النداء والجبهتين والقوميين) ينتسبون إلى الثورة‬‫المضادة وحاميها الاستعماري والاسرائيلي وأداتيهما الفرس والكرد‪ .‬ولذلك فحربهم هي‬‫حرب على الإسلام وعلى ثورة الشباب وتركيا وقلة من سنة العرب يحاول مساعدة ثورة‬ ‫الشباب في الهلال (لأنهم ما زالوا في حرب اهلية)‬‫الانقلاب الأخير على تركيا (أمريكا وإسرائيل وإيران والأكراد) فشل لكنه متواصل‬‫عسكريا (مع الأكراد) واقتصاديا (مع أوروبا) مثل غاية الحرب الأولى‪ .‬ذلك أن الغرب‬‫يعلم أن العرب فقدوا الطموح الامبراطوري من قديم وأن الأتراك هم الذين واصلوا‬ ‫طموح الإسلام الامبراطوري شرط العظمة والمناعة‪.‬‬‫وتركيا تعلم أن العرب لن يستردوا هذا الطموح حتى تتحالف معهم فيجتمع ما به بدأ‬‫الإسلام وما به صمد في التاريخ من دون نجاح ثورة الشباب الحالية‪ .‬فيكون أثر البورقيبية‬‫الإيجابي مثله مثل الأتاتوركية النتيجة السلبية لمشروعهما‪ :‬فبغلوهما في التحديث السطحي‬ ‫مكنا شعبيهما من الوعي الدقيق بإدراك الحل‪.‬‬‫التردد بين الغلوين التأصيلي والتحديثي كان ينبغي أن يصل إلى لحظة الحسم لتحقيق‬‫القيم المشتركة بين الحداثة والأصالة‪ :‬مطالب الثورة وشروطها‪ .‬وهذه الشروط التي‬‫ينبغي تحقيقها هي المطالب المباشرة للثورة على الاستبداد والفساد داخليا وغير المباشرة‬ ‫على الاستضعاف والاستتباع خارجيا‪.‬‬‫والمطالب المباشرة هي جوهر الحكم الديموقراطي والمطالب غير المباشرة هي شر ط‬‫السيادة التي شروط القدرة على حماية الأمة ورعايتها الذاتيتين‪ .‬وهذه الشروط المباشرة‬‫وغير المباشرة هي ما يقتضي السياسة الحديثة للجماعة والحكم الكافي لتحقيق المناعة‪ :‬من‬ ‫هنا ضرورة الخروج من لحظة بورقيبة‪.‬‬ ‫‪50 6‬‬

‫لحظة بورقيبة وأمثاله تبينت خصائصها بمآلها‪ :‬فمآلها تحقق ذروة الاستبداد والفساد‬‫(ابن علي مبارك بشار إلخ‪ )...‬وذروة الاستضعاف والاستتباع‪ .‬فكانت الثورة على الأولين‬‫مباشرة ثم أدرك الثوار شرطهما أعني الثورة على الثانيين وقد شاركتها في ذلك الثورة‬ ‫المضادة وحماتها في الإقليم والعالم‪.‬‬‫والحماة في الإقليم هم إيران وإسرائيل والثورة المضادة هم ممولوا الانقلابات والتعثير‬‫الذي جعل الثورة تتحول إلى حرب أهلية غايتها استئناف الدور‪ .‬وإذن فأهم أثر للبورقيبية‬‫والأتاتركية بالنموذج الغربي التقليدي‪-‬ومثلهم كل الانظمة العسكرية بالنموذج الشرقي‬ ‫التقليدي‪ -‬هو نقيض ما سعيا إليه‪.‬‬‫ومن ثم فهما ‪-‬ومثلهما الأنظمة العسكرية والقبلية العربية‪-‬يمثلان غاية اللحظة التي‬‫حاولت تحديدها بوصفها الإطار المديد والمعيار الدقيق للتقويم‪ .‬لا يهمني بورقيبة ولا‬‫أتاتورك ولا الأنظمة العسكرية والقبلية العربية بل ما يهمني هو الإطار التاريخي العام‬ ‫بلغة ابن خلدون الذي يفهمنا أثرهما‪.‬‬‫وهذا الإطار هو العلاج السطحي الذي لم يستطع رغم كل جهده القضاء على أعماق‬‫ثقافة الشعب وسعيه للتحرر من الاستبداد والفساد والاستضعاف والاستتباع‪ .‬إن الاثر لا‬‫يعود لا إلى بورقيبة ولا إلى أتاتورك ولا إلى الأنظمة العربية العسكرية والقبلية بل غاية‬‫مجريات معركة الاستئناف بين التأصيل والتحديث‪ .‬وهذه الغاية التي لم يكن أحد يقصدها‬‫هي ما تمخض عنه التخاصب التاريخي الكوني بين حضارتين‪ :‬واحدة تستأنف دورها وأخرى‬ ‫تتلكأ في الاعتراف المتبادل‪.‬‬ ‫‪50 7‬‬

‫لما حاولت تطبيق نظرية ابن خلدون في التاريخ المديد لفهم ظاهرة السياسة في الحقبة‬‫التي حددتها بما بين سقوط الخلافة وثورة الشباب كان قصدي فهم ظاهرة عامة اتصفت‬ ‫بها هذ الحظة من تاريخنا لتحديد شروط تجاوزها‪.‬‬‫لم يكن قصدي الكلام على البورقيبية ولا على خصومها لأنهما في تاريخ الإسلام من‬‫المفاعيل الثانوية التي كان تأثيرها بعكس ما قصده صاحباهما وهذا التأثير العكسي هو ما‬ ‫يعنيني‪.‬‬‫فالتاريخ المديد لا يتحدد بما يريده من يبدون أبطالا في التاريخ القصير‪ .‬إنما هؤلاء‬‫مجرد ممثلين في مسرحية مؤلفها يبقى مجهولا وتحديده هو مطلوبي‪ .‬إن أحداث المسرحية‬‫التاريخية المديدة هي معركة الجيلين المتداولين ‪-‬على التحرير الحضاري التأصيلي والحصاد‬ ‫السياسي التحديثي في أمة بدأت تنهض‪.‬‬‫فالجيل التأصيلي هو جيل المؤمنين بالاستئناف الحضاري للأمة في حبكة انتسجت مثل‬ ‫الأدب الشعبي دون مؤلف محدد في تاريخ العالم منذ نزول الإسلام‪.‬‬‫ولم يكن أمام هذا الجيل حل غير تجريب خدمة هذا النزوع العام بأدوات حديثة لا‬‫تتخلى عن فعل الاستئناف بعد سقوط الخلافة الرمز الحي لوجهي الحال‪ .‬فالخلافة كانت‬‫رمز ما يراد استئنافه وكان سقوطها رمز ما يحول دونه أي وضعية المسلمين في هذه الحبكة‬ ‫العالمية‪ :‬أثر الحضارة الغالبة وجيل التحديث ‪.‬‬‫ولنبدأ فنحدد العناصر التي نريد إبرازها باستعارة المؤلف المجهول في الأدب الشعبي‬‫فتصبح حبكة السردية أو المسرحية محركا تاريخيا للجماعة‪ .‬وتحديد هذا المؤلف المجهول‬ ‫لم يخرج عن‪:‬‬ ‫‪50 8‬‬

‫▪ شكلين دينيين‬ ‫▪ وشكلين فلسفيين‪.‬‬‫وهذه الأشكال الأربعة تشترك في أصل واحد هو التعليل العقدي لأمر مجهول الطبيعة‪.‬‬‫فبين أن للشكل الديني الأول شبها بشكل فلسفة التاريخ الثانية‪ :‬تعليل بظاهرات طبيعية‬‫(دين طبيعي) وبقوانين مادية قنمت في الثانية (مادية تاريخية)‪ .‬وبداية التفسير الديني‬‫لها شبه بغاية التفسير الفلسفي‪ :‬تعليل أحداث التاريخ بظاهرات طبيعية بداية (دين‬ ‫طبيعي) وبقوانين مادية غاية (ماركسية)‪.‬‬‫كلاهما يعين المؤلف المجهول لمسرحية التاريخ فيكون إما فعل الآلهة التي وراء الظاهرات‬‫الطبيعية أو فعل البنى المادية التحتية التي وراء الظاهرات التاريخية‪ .‬لكن غاية التحديد‬‫الديني لمؤلف المسرحية تشبه بداية التفسير الفلسفي لمؤلفها‪ :‬فوراء الطبيعة كائن‬ ‫عاقل(الله) ووراء التاريخ كائن عاقل(الإنسان)‪.‬‬‫وتلك هي أصناف المؤلف (اثنان دينيان واثنان فلسفيان وأصل مشترك) لمسرحية التاريخ‬ ‫المديد الذي يبرز على ركحه ممثلون يتوهمون فيهمون غيرهم بأنهم هم المؤلفون‪.‬‬ ‫وحتى تكتمل صورة الاستعارة المسرحية فلنذكر بعناصرها‪:‬‬ ‫‪-1‬المؤلف‬ ‫‪-2‬والممثل‬ ‫‪-3‬والحد الواصل بينهما هو الأدوار المشخصة‬ ‫‪-4‬لأحداث الحبكة‬ ‫‪-5‬والداعي لهذه الرؤية بهذه الاستعارة‪.‬‬‫ولولا هذا المخمس لتفسير حركات الوعي الجمعي في التاريخ المديد لامتنع أن توضع‬ ‫فلسفة تاريخ مقبولة سواء كانت دينية أو فلسفية هما من طبيعة واحدة ‪.‬‬‫والممثلون الذين يدعون أنهم مؤلفون لأحداث كانت تجرفهم جرفا بلاوعي يخلطون بين‬ ‫التمثيل والتأليف فينسبون إلى أنفسهم ما لا ناقة لهم فيه ولا جمل‪.‬‬ ‫‪50 9‬‬

‫لكن المؤلفين بحق لا ينسبون إلى أنفسهم دور التأليف بل يعتبرون أنفسهم مجرد عارضين‬ ‫إما لما تلقوه وحيا بالمعنى الديني (الانبياء) أو علما بالمعنى الفلسفي (الفلاسفة)‪.‬‬‫وكلاهما متلق لدلالة آيات في الطبيعة والتاريخ (الآفاق والانفس قرآنيا) تفترض رؤية‬‫عميقة لما وراء الطبيعة والتاريخ من سنن سواء صيغت فلسفيا (فلسفة الطبيعة والتاريخ‬ ‫العقلية) أو دينيا (فلسفة الطبيعة والتاريخ الدينية)‪.‬‬‫ولذلك فالأنبياء والفلاسفة لا يعتبرون أنفسهم مؤلفين بل هم يعتبرنها متلقية ومترجمة‬ ‫لما تقلوه ناقلين أو مبلغين إما للوحي (الأنبياء) أو للعلم بدلالة آيات الكون والتاريخ‪.‬‬‫وذلك كانت المعركة بين سرديتين في اللحظة التي أحاول فهمها حقبة في التاريخ المديد‬ ‫لعلاقة الإسلام بالحضارات المتقدمة عليه والتالية عنه ‪:‬‬‫‪. 1‬السردية التأصيلية تجمع بين غاية فلسفة التاريخ الدينية (الإسلام) وبداية فلسفة‬ ‫التاريخ الفلسفية (الخلدونية)‪.‬‬ ‫‪. 2‬والسردية التحديثية تعكس‪.‬‬‫فسردية التحديث تجمع بين بداية فلسفة التاريخ الدينية ونهاية فلسفة التاريخ المادية‬ ‫سواء كانت رأسمالية أو اشتراكية‪ :‬اكتفاء الدنيوي بذاته‪.‬‬‫وحتى نفهم طبيعة العلاقة بين السرديتين لا بد هنا من التذكير بالمعادلة الوجودية التي‬‫وضعتها لفهم مقومات الكيان الإنساني سواء كان صاحبه واعيا به أو غير واع‪ :‬الله‬‫والطبيعة والتاريخ والإنسان والوصل بين الله والطبيعة من جهة والتاريخ والإنسان من‬ ‫جهة ثانية‪.‬‬‫فهذا الوصل تحركه طبيعة السردية التي تصل الله والطبيعة بالتاريخ والإنسان تلقيا‬‫وبحثا لأن الوصل له توجهان متقابلان‪ :‬نازل يتلقاه الإنسان وصاعد يبثه الإنسان‪ .‬إنه‬‫تلقي القطب الثاني (الإنسان) من القطب الأول (الله) إيماني يترجم دينيا أو فلسفيا‬‫وبث يتوجه به القطب الثاني للقطب الأول عبادة دينية أو عبادة فلسفية‪ :‬ويوحد بينهما‬ ‫ما بين الوحي والعلم من صلة‪.‬‬ ‫‪50 10‬‬

‫وبمجرد إلغاء أحد القطبين (الله أو الإنسان) يلغى القطب الثاني (الله أو الإنسان)‬‫فلا يبقى إلا الوسيطان بينهما وقد أصبحا بديلين منهما‪ .‬فتصبح السردية ظاهرات طبيعية‬ ‫وأحداثا تاريخية مستحيلة الفهم‪.‬‬‫وبذلك نصل إلى أولى خاصيات جيل التحديث الذي اختاره الاستعمار لهزيمة جيل‬‫التأصيل في عملية الانتقال من الاستعمار المباشر إلى غير المباشر‪ .‬فجيل التحديث يتألف‬ ‫من ممثلين لمسرحية ذات سردية تسلب القطبين عكس شعبها‪.‬‬‫فهي تسلب القطب الإلهي عقدا وتسلب القطب الإنساني سياسة‪ :‬ولهذا فهي بالجوهر‬‫مسرحية تاريخية بالاستبداد والفساد بحماية الاستضعاف والاستتباع لأنها بالجوهر غرق في‬ ‫الطبعانية والتاريخانية فاقدتي الأساس والمعنى‪.‬‬‫لذلك فكل ما ينسب إلى هذا الجيل حقيقته تنسب إلى صراع عميق هم مجرد بيادق فيه‬‫بسبب الاستضعاف والاستتباع فهم ممثلون لأدوار كتبت في سردية من فرضهم على شعوب‬ ‫هدفها من بدايتها مقاومة سردية الاستئناف عند شعوبهم‪.‬‬‫ومعنى ذلك أن الثورة التي ختمت هذه اللحظة متصلة مباشرة بسقوط الخلافة التي‬‫بدأتها‪ :‬سقوط الخلافة كما بينا دال في آن على غاية الاستئناف وعلى عقبته‪ .‬لكن الشباب‬‫الذي ثار لم يكن ليعي هذه العلاقة الغائبة في بداية الثورة لولا أن الأحداث والمآزق التي‬ ‫أنتجتها ثورته أعادت الأمة إلى الفتنتين الكبرى والصغرى‪.‬‬‫ذلك أن المشترك بين الفتنتين تبين أن تحريف ثورتي الإسلام في النظر والعقد وسيطرة‬‫هذا التحريف في العمل والشرع هما عائقا تحقيق أهداف الثورة‪ .‬والوعي بهذين العائقين‬‫يلغي المقابلة بين التأصيل والتحديث إذ يبين أن المشترك بينهما هو عين ما حرف تاريخيا في‬ ‫النظر والعقد وفي العمل والشرع‪.‬‬‫وميزة الثورة أنها ساوقت بين الجيلين‪ .‬فجيل التأصيل حقق شروط التحديث بعمق في‬‫تكوينه خلال استبعاده واضطهاده وجيل التحديث السطحي فشل في تحقيق ما انتدب لأجله‬ ‫فاضطر مع سيده لاختلاق كاريكاتور التأصيل لمنع الاستئناف‪.‬‬ ‫‪50 11‬‬

‫وذلك هو المعلاق الثاني أو الشماعة الثانية‪ :‬فبعد شماعة مقاومة مؤامرات الغرب التي‬‫حكم بها عملاؤه احتاجوا لشماعة الإرهاب لتبرير الاستنجاد به‪ .‬وتلك هي طبيعة الحرب‬‫الأهلية المضاعفة‪ :‬فالجيل الجامع بين التأصيل والتحديث غير التابعية هو شباب الثورة أما‬‫جيل التحديث القديم فهو شيوخ الثورة المضادة الذين يستمدون بقاءهم من حاميهم‬‫والمحافظ على المحميات التي يسمونها دولا حائلة دون كل شروط الطموح التاريخي المنتسبة‬ ‫إلى التنمية المادية والرمزية‪.‬‬‫فاجتمعت الفتنتان في لحظتنا للحسم مع من يريد أن يلغي طموح الأمة الامبراطوري‬‫المشروط بالاستئناف إما بما قبله مرتين أو بما بعده مرتين كالتالي‪ .‬إلغاؤه بما قبله مرتين‬‫منه ومن خارجه هو محاولة بعث الامبراطوريات المتقدمة على الإسلام والتي حررت ثورته‬ ‫الإقليم منها‪ :‬الصفوية والصهيونية‪.‬‬‫محاولة الغاؤه بما بعده مرتين داخليا وخارجيا هي الدولة القطرية والدنيوية‬ ‫(الرأسمالية الشيوعية) للقضاء على رمزي الأمة‪ :‬الخلافة والإسلام‪.‬‬‫بينت نهاية الحقبة التي يندرج فيها الممثلون‪ -‬من أمثال بورقيبة وعبد الناصر وكل زعماء‬‫المرحلة الذي هم مجرد ممثلين في مسرحية كتبت لهم حتى يكونوا حربا على سر قوة الأمة‬‫دون تحقيق البديل الذي يبررون به دورهم‪-‬حقيقة الحبكة العميقة حركتهم دمى في دور‬ ‫يتجاوزهم‪.‬‬‫وهم الآن في محاولة الرستوراسيون بتمويل الثورة المضادة وبدبابات وظاهرات سندهم‬‫الاستعماري أفصحوا عن حقيقتهم فشرع الشباب بذلك في الاستئناف‪ .‬وهو استئناف لتناغمه‬‫مع عقيدة الشعب بسرديات تؤسس لشرعية الثورة بمطالبها المباشرة (الحرية والكرامة)‬ ‫وبشرطها غير المباشر (الطموح الامبراطوري)‪.‬‬‫فالشباب بجنسيه أدرك الآن أن الحرية والكرامة مطلبين مباشرين ضد الاستبداد‬ ‫والفساد شرطهما التحرر من الاستضعاف والاستتباع مطلبين غير مباشرين‬ ‫‪50 12‬‬

‫بل أكثر من ذلك فجعل بيتي الشابي شعارا للثورة في كل أقطار الأمة يعني أن الشباب‬‫بوعي غائم أدرك أن الثورة ذات أساس روحي‪ :‬نظرية القضاء والقدر‪ .‬فبيتا الشابي ثورة‬‫على رؤية الانحطاط للقضاء والقدر وفهم ثوري لفلسفة القرآن التاريخية فالبيتان صوغ‬ ‫شعري لسنة التغيير القرآنية كما سبق فبينت‪.‬‬‫وطبيعي جدا أن ينقسم التأصيلي والتحديثي في لحظة التعاصر بينهما إلى قطبين‬‫استئصالي لعدم إدراك الواحد فيهما ومدرك له فمتجاوز للحرب الأهلية‪ .‬فيتحالف حزبا‬‫الحرب الأهلية الأولى بنت الفتنة الكبرى (إيران ومليشياتها العربية بالقلم والسيف)‬‫وحزبا الحرب الاهلية الثانية بنت الفتنة الصغرى (إسرائيل وأنظمتها ومليشياتها العربية‬ ‫بالقلم والسيف) بقيادة من يوظف ممثلي عوائق الاستئناف‪.‬‬‫وإذن فالممثلون في مسرحية الحرب الأهلية لإعاقة الثورة خمسة ممثلين لحبكة رؤيتين‬ ‫تتصارعان منذ ثورة الإسلام‪ :‬صراع ديني وفلسفي ينبغي فهمه سردياته‪.‬‬‫وهؤلاء هم حزب التأصيلي الاستئصالي وحزب التحديثي الاستئصالي‪ -‬وهما داعشا‬‫اللحظة في حرب كاريكاتوري التأصيل والتحديث ضد المدركين لتماهي للثورتين دينيا‬ ‫وفلسفيا‪.‬‬‫فالثورة الدينية الخاتمة هدفت للتحرير الروحي من الكنسية (لا وساطة بين المؤمن‬‫وربه) والتحرير السياسي من الحق الإلهي (لا سلطان إلا للجماعة)‪ .‬وتلكما قبل‬‫الانحطاطين غاية الدين الخاتم في الدنيا وما ورائها أو معناها الروحي وغاية التنوير الخام‬ ‫في الدنيا وما ورائها أو معناها العقلي‪:‬‬‫لكن الاستئصالي التأصيلي والتحديثي التأصيلي يؤديان دورا في سردية انحطاط شاب‬ ‫حضارة الإسلام وانحطاط شاب حضارة الحداثة‪ :‬حرب الكاريكاتورين‪:‬‬‫‪-1‬فانحطاط حضارة الإسلام تمثل في عودة الفتنة الكبرى أي عودة إلى الكنسية والحكم‬ ‫بالحق الإلهي عند الشيعة بفقه الإمامة وعند السنة بفقه التغلب ‪.‬‬ ‫‪50 13‬‬

‫‪-2‬وانحطاط حضارة الغرب بعد فشل تحقيق الثورتين الروحية والسياسية بالمعنى‬ ‫الإسلامي انحط الغرب إلى ثقافة الاستعمار بكنسية علمانية وشرعية التغلب‪.‬‬‫كل ما يتصوره بورقيبة وأمثاله ظاهره من الفتنة الصغرى أي كنسية علمانية وفقه تغلب‬‫وضعي وباطنه من الفتنة الكبرى أي كنسية دينية وفقه تغلب شرعي‪ .‬لذلك كانت الأنظمة‬‫العربية بصنفيها العسكري والقبلي جامعة بين كنسيتين (ضد الحرية الروحية) وتغلبين‬ ‫(ضد الحرية السياسية) كل منهما تنقسم إلى ما يخادع به الشعب وما يخادع به الغرب‪.‬‬‫الاستقلال الشكلي له كنسيتان دينية للشعب وعلمانية للغرب وحقان في الحكم إلهي‬ ‫للشعب وطبيعي للغرب‪ :‬الاستبداد والفساد بمضلة الاستضعاف والاستتباع‪.‬‬‫وهذه الصفات الأربع‪-‬الاستبداد والفساد داخليا بمضلة الاستضعاف والاستتباع خارجيا‪-‬‬‫هي المميز المشترك بين كل الأنظمة العربية في اللحظة التي نصف‪ .‬ولا فرق بين الأنظمة‬‫العسكرية والأنظمة القبلية والانظمة التي هي بين بين‪ :‬كلها مصابة بالفصام الذي يجعلها‬ ‫ذات كنسيتين لتأسيس شرعيتين مغشوشتين‪.‬‬‫والكنسيتان والشرعيتان تمكنان الممثلين من الإبقاء على عرض المسرحية المتأرجح بما‬‫بينهما من صراع بين أعماق الجماعة وفترينة الغرب وخدمته‪ .‬وأهمية اللحظة التي بدأت‬‫مع ثورة الشباب أنها أظهرت كل هذه الخصائص التي كانت كامنة في الوضعية التي أصف‬ ‫فبنيت طبيعتها لتغطية مغشوشة للفتنتين‪.‬‬‫فأكاذيب الأنظمة القومية وميلشياتها بالسيف والقلم وأكاذيب الأنظمة الدينية‬‫ومليشياتها بالسيف والقلم وخاصة من يدعي المقاومة من النوعين سواء كانت تابعة للشيعة‬ ‫أو للسنة فضحت الثورة حقيقتها فأصبحت سردياتها علنية‪.‬‬‫ولهذه العلة اعتبرت ثورة الشباب بجنسيه نهاية الحقبة التي ينتسب إليها البورقيبية‬‫ومثيلاتها الناصرية والبعثية والخمينية والدينية التقليدية‪ .‬وهي نهاية لانطلاء تمثيلها‬‫للأدوار لأن الجميع بات يدرك أنهم ممثلون لأدوار في مسرحية لم يؤلفوها لأن مؤلفها هو‬‫من يحركهم دمى للتهديم الذاتي‪ .‬وبصورة صريحة كلهم من جنس ابن علي ومبارك السيسي‬ ‫‪50 14‬‬

‫والسبسي وحفتر وصالح والقبائل التي تمولهم والنخب التي تبيضهم والمحرك واحد‪:‬‬ ‫الخوف من الاستئناف‪.‬‬‫وبخلاف ما قد يبدر للأذهان فإن الإسلام ودفعه الأمة للاستئناف ليس منفعلا إلا في‬‫الظاهر‪ :‬فالخوف منه هو الفاعل من يبدو فاعلا من أعدائه‪ .‬ومعنى ذلك أن الأعداء‬‫مدركون لحقيقة الثورة الإسلامية منذ نزول القرآن رغم أنها الآن لا توجد إلا بالقوة‬ ‫وسيتجلى إدراك الشباب فتصبح بالفعل‪.‬‬‫ولولا هذه الغاية ما كتبت حرفا في هذا المسائل التي أبعدتني كثيرا عن همومي الذاتية‬‫أعني الفراغ من تفسير القرآن وتحديد منعرجات الفكر الفلسفي‪ .‬وقد يكون لما بين هذه‬‫وتلك ما يبرر صبري على هذه المهمة التي قد يظنها الكثير التزاما مذهبيا دينيا‪ :‬الاستئناف‬ ‫لن يكون إلا بفكر سني عربي تركي‪.‬‬‫ذلك أن دولة الإسلام أسسها العرب وأمد في عمرها الأتراك والحرب اليوم عليهما لأن‬‫ما هو بالقوة إسلاميا متعين فيهما إذ هما أكبر شعبين إسلاميين‪ .‬فلو اعتمدنا على الدور‬‫والحجم والإمكانات لكان الترك والعرب هم الأولين يليهم الهنود فالمالاويين وهم في الأغلب‬ ‫سنة وأكثر المسلمين صلة بالغرب‪.‬‬‫لذلك فليس بالصدفة أن كان تركيز الغرب منذ نزول القرآن إلى اليوم على الصدام‬‫معهم في حرب سجال لم تتوقف إلى الآن مع تخاصب لا ينكره إلا معاند‪ .‬وإذا كان الغرب‬‫اشد خوفا منا منه من الشرق الاقصى الذي يعتبره حليفا ضدنا فلأن الغرب لم ينس درس‬ ‫التاريخ بخلاف نخب العرب الذين تسكرهم زبيبة‪.‬‬‫وطبيعي في هذه الحالة أن يبتدع الغرب بديلا من الإسلام يفسد صورة ما يسعى إليها‬ ‫الاستئناف‪ :‬فالأساس التاريخي والأساس ما بعد التاريخي مستهدفان‪:‬‬ ‫‪-1‬فالأساس التاريخي الرمزي هو الخلافة يستهدف بداعش‬ ‫‪- 2‬والاساس ما بعد التاريخي الإسلام يستهدف بتشويه القرآن ومحمد‪.‬‬ ‫‪50 15‬‬

‫وتلك هي استراتيجية أقوى الحروب‪ :‬تشويه الرموز‪ .‬وهذه الاستراتيجية ليست جديدة‬‫ولا هي من إبداع مؤلف معين‪ :‬فالإسلام بالحريتين ثورة على الكنسية والحق الإلهي ومن‬‫ثم فهو حتما مستهدف من أصحابهما‪ .‬لذلك تكلمت على صوره الخمسة التي كانت رد فعل‬‫أصحاب الكنسية والحق الإلهي (سواء كانا دينين أو طبيعيين) في عرضي لمواقف الغرب منذ‬ ‫ظهور الإسلام‪.‬‬‫ولما كانت الاستراتيجية بين الشعوب والحضارات تعتمد على مراحلها الثلاث بلغة‬‫كلاوسفيتزفإن النصر مشروط بالغاية القصوى‪ :‬استهداف الحصانة الروحية‪ .‬وحصانة‬‫الأمم الروحية هي التي تمثلها سردية جامعة لمقومات البقاء بوصفها معين رؤية الجماعة‬ ‫لذاتها ولمنزلتها ولدورها في الكون‪ :‬سنة الإسلام‪.‬‬‫الأنظمة العربية بصنفيها كالأنظمة التي تريد استرداد امبراطورياتها تطلب بوعي أو‬‫بغير وعي شرعية شرطها إنهاء طموح الإسلام الإمبراطوري الكوني‪ .‬وذلك هو الدور الذي‬‫حدده الاستعمار للأنظمة العربية خاصة قوميها وإسلاميها لأن القومية تفتيت للامة إلى‬ ‫عرقيات وتحريف الإسلام إلى طائفيات‪:‬‬ ‫‪-1‬القوميات تعتمد على منطق الفتنة الصغرى‬ ‫‪-2‬والطائفيات على منطق الفتنة الكبرى‪.‬‬‫فيتبين أن الحرب الأهلية الحالية هي زرع الأولى وإحياء الثانية‪ .‬وآمل أن يكون الشباب‬‫بجنسيه صبورا ليفهم طبيعة اللحظة وشروط تجاوزها مآزقها ذلك أن ما نعيشه هو مرحلة‬ ‫الحسم مع الفتنتين لتحقيق شروط الاستئناف‪.‬‬ ‫‪50 16‬‬

‫في الفصلين الأولين لتقويم فكر الحقبة التي اعتبرتها بدأت بسقوط الخلافة وانتهت‬ ‫بثورة الشباب أشرت إلى العلاقة بين فاعليتين تاريخيتين‪ :‬الحدث والحديث‪.‬‬‫واعتبرت التاريخ القصير مؤلفا من أحداث ليس لها فاعلية رمزية يعتد بها بعدها‬ ‫وأحداث فاعليتها الرمزية أكبر منها بدليل حديثها بعدها‪ :‬بهذا قومتها‪.‬‬‫ولما وصفت جيلي هذه الحقبة اعتبرت الأول ساعيا للتأصيل والثاني للتحديث ولكل منهما‬ ‫نموذج سابق‪:‬‬ ‫الأول نموذجه كان رمزه الخلافة‪.‬‬ ‫والثاني نموذجه نقيض الأول‪.‬‬‫وسميت دلالة النموذج الأول بالطموح الامبراطوري أو العظمة التاريخية ودلالة‬ ‫النموذج الثاني بمحاكاة فاشيات أوروبا سليلة النزعات القومية وصراعها‪.‬‬‫ذلك أن التحديثيين العرب‪-‬بل وكل التحديثيين في الإقليم‪-‬تخلوا عن الطموح‬ ‫الامبراطوري الإسلامي وعوضوه بما تقدم عليه أو بما تأخر عنها فحاربوه‪.‬‬‫وبهذا المعنى فلكأن الحقبة اتصفت بما بين هذين النموذجين من تعارض تام جعل جيل‬ ‫التحديث يكون بالجوهر أداة تهديم ما كان يسعى إليه جيل التأصيل‪.‬‬ ‫وكان هذا التهديم من جنسين‪:‬‬ ‫فما كان مبنيا على ما تقدم يسعى لاستعادة طموحا امبراطوريا سابقا‬ ‫وما تأخر عنه هدف إلى الاندماج في طموح مستعمره‪.‬‬‫والمستعمر صاحب السلطان في الإقليم استعمل كلا المسعيين حتى يساعداه على القضاء‬ ‫على الطموح الامبراطوري لدى المسلمين ممثلا بمطالب الجيل الأول‪.‬‬‫وتلك هي طبيعة حقبة التاريخ المديد التي امتدت بين غاية سقوط الخلافة وبداية‬ ‫سقوط الأنظمة العربية العسكرية والقبلية بفضل ثورة الشباب بجنسيه‪.‬‬ ‫‪50 17‬‬

‫واليوم أريد أن أبين التقابل النسقي بين هذه الحقبة وحقبة الصدر بمعيار أحداث‬ ‫الصدر بأثرها الرمزي الذي لا يفنى وأحداث هذه الحقبة التي حاولت محوه‪.‬‬‫وجيل التأصيل يمثل الأحداث ذات الأثر الرمزي المديد وجيل التحديث يمثل الأحداث‬ ‫عديمته إما ببديل سابق أو لاحق دونه فاعلية فانتهيا بثورة الشباب‪.‬‬‫سأقارن الحقبتين لتقويم الجيلين بغاياتهما ولن أطيل الكلام على الأخلاق لأن ذلك قد‬ ‫يكون رجما بالغيب فالسرائر لا تقاس بالثمرة وحدها‪.‬‬‫سأكتفي بالتقويم السياسي الذي تكفي ثمرة العمل فيه للحكم له أو عليه بخلاف الأخلاق‬ ‫التي تتجاوز ثمرة العمل إلى نيته وهي من غيب السرائر‪.‬‬‫وثمرة العمل السياسي هي العظمة أو الطموح الامبراطوري أو ما يمكن تسميته بالجهد‬ ‫المبذول من أجل حظ الجماعة من المعمورة شرط السيادة حماية ورعاية‪.‬‬‫والأخلاق لا تقدر إلا بدورها في جعل السياسي بهذا المعنى فهي صفات للجماعة تنقلها‬ ‫مما هو بالقوة لديها إلى ما هو بالفعل‪ :‬لا أخلاق لمن لا يحمي نفسه ولا يرعاها‪.‬‬‫فمن فقد هذه القدرة من الشعوب يسميه ابن خلدون عالة بسبب فساد معاني الإنسانية‬ ‫فيه‪.‬‬‫وإذن فلن يكون التقويم الخلقي للحقبتين إلا بهذا المعنى المتعلق بالقدرة على الحماية‬‫الذاتية والرعاية‪ :‬طبائع الجيلين المنتجة للاجتهاد والجهاد السياسي لتحقيق شرطي‬ ‫السيادة‪ :‬الحرية والكرامة‪.‬‬‫فأي الجيلين ‪-‬جيل الصدر (المؤسس لدولة الإسلام) وجيل الذيل (المحارب لاستئنافها)‬ ‫طلب الحرية والكرامة وحقق شرطي السيادة‪ :‬الحماية والرعاية؟‬‫فالجيل الذي ثار عليه الشباب هو الجيل الذي أفقد الامة القدرة على الحماية والرعاية‬‫وأفسد معاني الإنسانية في الكثير من النخب التي تحولت إلى مليشيات قلم وسيف لتهديم‬ ‫شروط استئناف دور الامة في التاريخ الكوني‪.‬‬ ‫‪50 18‬‬

‫وما كنت لاعتبر ثورة الشباب نهاية الحقبة التي ادرس لو لم يكن صريح شعاراتهم هو‬‫طلب الحرية والكرامة حتى وإن لم يدركوا بوعي تام العلاقة بين شرطيهما الداخلي‬ ‫(التحرر من الاستبداد والفساد) والخارجي التحرر من الاستضعاف والاستتباع)‪.‬‬‫هم طلبوا الحرية والكرامة ظنا أن الحائل دونهما مقصور على الاستبداد والفساد‬‫الداخلي ولم يدركوا أن وراءهما محدد بنيوي هو الاستضعاف والاستتباع بسبب ما حل‬ ‫بالأمة من قتل لمقومات الطموح الامبراطوري‪.‬‬‫لكن أحداث الثورة ومآلاتها والسعي للحرية والكرامة بين أن الاستبداد والفساد‬‫الداخلي كان ثمرة خدمة أصحابهما للاستضعاف والاستتباع الخارجي الذي غير الجغرافيا‬ ‫لجعل التنمية المادية مستحيلة والتاريخ لجعل التنمية الثقافية مستحيلة‪.‬‬‫فصارت الثورة وإن بوعي غائم استئنافا لمعركة التأصيل وجمعت بين مطالب التحديث‬‫(الحرية والكرامة) والتأصيل (السيادة والعزة) ووحدة الغاية الواصلة بين الماضي‬ ‫والمستقبل‪ :‬استئناف طموح الأمة‪.‬‬ ‫اما لماذا أرفض التقويم الخلقي فلعلتين‪:‬‬ ‫‪-1‬امتناع التعيير الخلقي من دون معيار السرائر التي هي من الغيب‪.‬‬ ‫‪ -2‬عقم التفسير الديني للفرق بين الحقبتين وتبسيط القضية المخل‪.‬‬‫إن حصر الفرق في الدين تبسيط مخل‪ :‬ففي الجيل الحالي من لا يتهم في دينه وفي الجيل‬ ‫الأول من يتهم في دينه‪ .‬ومن ثم فهذا المعيار غير محدد للمطلوب‪.‬‬ ‫ويكفي أن نعلم أن المعيار الديني لو طبق لصح اعتبار الإمام علي أفضل من معاوية‪.‬‬‫وحينئذ لن نفهم دور الثاني في بناء دولة الأمة والتمكين للإسلام‪ .‬فيكون تفضيل علي‬‫على معاوية مناقضا لما يدعيه الشيعي والسني من العلاقة الوطيدة بين الديني والسياسي‬ ‫لأن مقارنة النتائج الشاهدة تقضي بالعكس‪.‬‬‫ولتجنب هذه الإشكالية (جوهر إحياء الفتنة الكبرى كما بينا) فإني سأضع بين قوسين‬‫هذا التقويم بالمعيار الديني والخلقي وأكتفي بالطموح الامبراطوري جوهر سياسة الإسلام‬ ‫الكونية‪.‬‬ ‫‪50 19‬‬

‫فدولة الإسلام ليست قطرية وليست قومية وليست طائفية وليست إقليمية بل هي تعتبر‬ ‫العالم كله مجال فعلها الموجب (للانتشار) والسالب لمنع المنافس‪.‬‬‫إنها عولمة جامعة بين الدنيوي والأخروي بين الخلقي والسياسي على اساس النساء ‪1‬‬ ‫(الاخوة البشرية) والحجرات ‪( 13‬المساواة بين البشر)‪ :‬نظام عالمي بقيم القرآن‪.‬‬‫فالإسلام اليوم هو حل البشرية الوحيد لتأسيس نظام للعالم يتجاوز عولمة الماديات إلى‬ ‫هذه التزكية التي حددها الإسلام‪ :‬من هنا حرب أصحابها عليه‪.‬‬‫ولنشرع في المقارنة بعدا ببعد بين جيل الصدر الذي يمثل أصل الحدث (الدولة‬‫الإسلامية) والحديث (أثرها الرمزي) الخالد والذيل ممثل محاولة محوهما ببدائل لا‬ ‫يمكن تحققها من دون محو أحداث حضارة الإسلام وأحاديثها‪.‬‬‫قلت إن الحقبة بدأت بجيل التأصيل الذي حاول بعد سقوط الخلافة الإبقاء على الأقل‬‫على الحديث أفقا للحدث في إطار الأمة حتى وإن تم إنهاء الدولة‪ .‬وأنها انتهت بنهاية جيل‬‫التحديث التابع الذي حاول أن يزيل مفعول الحديث او الأثر الرمزي حتى يتحقق النصر‬ ‫كالحال في كل حرب‪ :‬إزالة دافع المقاومة‪.‬‬‫وظهر جيل الحداثة الفعلية وغير التابعة مطلبا مباشرا للشباب فزلزل اصحاب الحداثة‬‫التابعة جوهر الاستبداد والفساد لخدمة الاستضعاف والاستتباع‪ .‬فكان من الطبيعي أن‬ ‫تصبح المعركة حربا أهلية ذات مستويين‪ :‬سياسي ووجودي‪.‬‬‫من يحكم أبعاد الدولة كلها وبأي منظور يحقق شروط الحرية والكرامة؟ فالمنظور الذي‬‫يحقق الحرية والكرامة‪-‬طلب الثورة المباشر‪-‬يتجاوز المباشرة‪ :‬لا يمكن التحرر من‬ ‫الاستبداد والفساد مع بقاء الاستضعاف والاستتباع‪.‬‬‫وبذلك صارت ثورة الشباب السياسية ثورة حضارية‪ :‬لا يمكن لأي قطر عربي أو إسلامي‬‫أن يصبح ذا سيادة إذا لم يجر في إطار شرطه استئناف دور الامة‪ .‬لذلك صارت المرحلة هي‬‫مرحلة علاج الفتنة الكبرى التي استأنفها من يريدون الاستعاضة على الإسلام بما قبله‬ ‫وعلاج الفتنة الصغرى التـي زرعها من يردون تعويضه بما بعده‪.‬‬ ‫‪50 20‬‬

‫وعلاج هذين الفتنتين هو الذي يفرض المقارنة بين جيل الصدر وجيل الذيل وما بينهما‬‫من سعي للتأصيل المبدع والتحديث المستقل‪ :‬تلك استراتيجية الثورة‪ .‬وحتى تكون المقارنة‬‫نسقية فلا تقتصر على أحد الأبعاد المقومة للوصل بين الديني والسياسي بمنظور إسلامي‬ ‫فلا بد من اعتماد معيار تصنيف النخب‪.‬‬‫وإذن فسنقارن اصناف النخب الخمسة في الصدر المؤسس للطموح الكوني والذيل المحارب‬‫لهذا الطموح باسم القومية والطائفية وتحديث نخب القشور التابعة‪ .‬وسأرتبها بعكس‬‫العادة فأبدأ بأسماها وأختم بأدناها أو إن صح التعبير سأبدأ بالمؤلف وأختم بالممثل وبينهما‬ ‫الأدوار والحبكة واساس كل المنظومة‪.‬‬ ‫‪ -1‬نخبة الوجود أو رؤية العالم وما بعده (الفلسفة الدينية)‪.‬‬ ‫‪ -2‬ونخبة الحياة أو ذوق الوجود (فلسفة الفنون)‪.‬‬ ‫‪ -3‬ونخبة القدرة أو قيام الوجود (فلسفة الثروة أو الاقتصاد)‪.‬‬ ‫‪ -4‬نخبة المعرفة (فلسفة العلم)‪.‬‬ ‫‪ -5‬أخيرا نخبة الإرادة (فلسفة السياسة)‪.‬‬‫وهذه هي مراحل المقارنة بين الصدر والذيل في توصيفنا لمرحلة شباب الثورة‪ .‬منطلق‬‫هذه المحاولة كان تقويم البورقيبية ومثيلاتها والهدف هو بيان أن شباب الثورة بجنسيه لا‬ ‫يمكن ان يحدد نماذجه القاطرة من دون هذه المقارنة‪.‬‬‫ولما كان فصل واحد لا يكفي لدراسة هذه الأبعاد الخمسة فسأعتبر هذا الفصل جسرا‬‫بين الفصلين السابقين حول هذا التقويم المعد للمقارنة والمقارنة‪ .‬سأخصص فصلين آخرين‬‫للمقارنة بين جيل الصدر نموذجا لاستئناف دور الامة في التاريخ الكوني وجيل الذيل‬ ‫نموذجا للحرب على دورها بالانحطاطين‪.‬‬‫وسيكون الفصل الموالي للمقارنة في الوجود ورؤى العالم وفي الإرادة وسياسة العالم‬‫والذي يليه للمقارنة في الحياة وذوق الوجود والعلم ومعرفته‪ .‬والفصل الخاتم يتعلق‬‫بطبيعة الوصل القرآني بين الديني والسياسي أو مفهوم القدرة مسودة من الإنسان أو‬ ‫سائدة عليه‪ :‬دور الإسلام في مستقبل العالم‪.‬‬ ‫‪50 21‬‬

‫فيكون البحث كله مؤلفا من خمسة فصول لأن العمل الحالي ليس فصلا مثل غيره بل هو‬ ‫جسر بين الفصلين الأولين الممهدين لهذه المقارنة بين النخب في فصول ثلاثة تليه‪.‬‬‫والقصد كله هو بيان ما يمكن أن يكون سلوك الشباب الثائر عندما يريد أن يحقق أهداف‬‫ثورته من منطلق النماذج المثالية لتمييز العظماء عن الأقزام‪ .‬ومثل هذه القراءة للتاريخ‬‫بمستواه البطيء والمديد وما تقتضيه من تجاوز وجهه السطحي هي ما يعيبه أدعياء‬ ‫الحداثة مهملي دور أبعاد التاريخ الرمزية‪.‬‬‫وهم بذلك لا يقلون حمقا عمن يقصر قراءة التاريخ الإنساني على دور المقومات المادية‬‫لمجراه‪ .‬وهذان الموقفان هما كاريكاتورا الأصالة والحداثة‪ .‬وما يجري من صدام حضارات‬ ‫مضاعف في أحداث الإقليم‪:‬‬ ‫داخلي بمقتضى الفتنتين الكبرى من الماضي الأهلي والصغرى من الماضي الغربي‪.‬‬ ‫وخارجي بمقتضى إرادة فرض نموذج واحد علة لحربين أهليتين في العالم‪.‬‬‫ولما كان الإسلام رسالة للعالمين باعتبارهم مسلمين بالقوة ولا يقتصر على المسلمين بالفعل‬‫فهو عالمي والحرب الأهلية بمستوييها هذين إسلامية حتما‪ .‬لذلك فكون الإسلام اليوم يمثل‬‫هما كونيا له أو عليه ليس مجرد صدفة بل هو من صفاته الذاتية من يوم نشأته إلى اليوم‬ ‫لعلتين دينية وفلسفية جوهريا‪.‬‬‫وكل من قرأ القرآن ولو قراءة سطحية يعلم أنه مراجعة شاملة لتاريخ البشرية الروحي‬‫(فلسفة دين) وأنه يصل ذلك مباشرة بسياسة العالم (فلسفة تاريخ)‪ .‬وإذا كان الإسلام‬‫ببعد فلسفة الدين مراجعة روحية لشروط حرية الإنسان في الأذهان فهو بفلسفة التاريخ‬ ‫مراجعة مادية لشروط حياته في الأعيان‪.‬‬‫ولم يكتف القرآن بذلك بل هو اعتبر حقيقته لا تعلم إلا بما يريه للبشر من آيات الآفاق‬‫(الأعيان)والأنفس (الأذهان) إنه وصل بين الدنيا وما بعدها‪ .‬وكل من يصارع الإسلام لا‬‫يصارعه إلا بسبب هذا الوصل الذي يعيد للدنيوي معناه وللأخروي مبناه‪ :‬ففصل الدنيوي‬ ‫يفقده معناه وفصل الأخروي يفقده مبناه‪.‬‬ ‫‪50 22‬‬

‫والعولمة التي يصارعه أصحابها فصلت الدنيوي والأخروي فأفقدت الأول معناه والثاني‬‫مبناه وبات الإنسان سجين إدمانين فاقدين لوحدة المعنى والمبنى‪ .‬ولما يفهم الإسلام بإدراك‬‫حقيقته هذه فإن كل المدركين لقيامهم الواعي بذاته يعلمون أن بنيته هي المعادلة‬ ‫الوجودية التي استخرجناها من القرآن‪.‬‬‫فكل إنسان أدرك كيانه الذاتي يعلم أنه قيام واع بذاته وعلاقة بين قطبين بينهما طبيعة‬‫وتاريخ ويصل بينهما وعيه قطبا ثانيا مشدودا لقطب الاول‪ .‬والقطبان هما الله والإنسان‪-‬‬‫كل إنسان يأتي ربه فردا‪-‬والوسيطان هما الطبيعة والتاريخ والوصل بينهما هو هذا الوعي‬ ‫بالمعادلة تراسلا بين القطبين‪.‬‬‫والقرآن يمدنا بنموذج ممن عاشوا تجربة التراسل الذي صار بعد الختم حق الجميع‬ ‫بوصفهم القطب الثاني خليفة القطب الأول عبادته فهم آياته في الوسيطين‪.‬‬‫وما سنخصص له الفصول الثلاثة المقبلة هو الفرق بين جيل الصدر وجيل الذيل في فهم‬‫هذه المعادلة التي يعترف جيل الصدر بقطبيها وينفيهما جيل الذيل‪ .‬والثورة أعادت لرموز‬‫جيل الصدر دورهما الرمزي في الحرب الاهلية الداخلية وأدركت أن الحرب الأهلية الكونية‬ ‫من جنسها‪ .‬فعدنا للقيادة الروحية‪.‬‬ ‫‪50 23‬‬

‫أواصل مسألة تقويم جيلي لحظة التاريخ المديد بين سقوط الخلافة وبداية ثورة الشباب‬ ‫(تسع عقود) جرت فيها مقاومة التحرير وتكونت فيها الدول القطرية‪.‬‬‫وقد حددت ما أنوي مقارنته بين الجيلين بالاعتماد على المعيار الذي وضعته لتصنيف‬ ‫النخب عامة في كل جماعة‪ .‬وسأطبقه هنا على النخب التي قادت المرحلة‪.‬‬‫لذلك فلا بد من تعليل لعكسي ترتيب النخب من الوجود إلى الإرادة ومن الحياة إلى‬ ‫المعرفة لأبقي القدرة بوصفها قلب منظومة النخب في كل جماعة بشرية‪.‬‬‫لم أعكس الترتيب تحكما‪ .‬فما علة هذا العكس ولماذا جمعت بين الأخير والأول ثم بين‬‫ما قبل الأخير والثاني وجعلت الأوسط قلب منظومة النخب؟ تلك هي الضرورة التي‬ ‫يقتضيها التمييز بين أفق الثورة الإسلامية وأفق محاربيها‪.‬‬‫فمنظومة الأبعاد الـخمسة تمكن من تصنيف النخب في كل جماعة (الإرادة لنخب السياسة‬‫والمعرفة للنخب العلم والقدرة لنخب الاقتصاد والحياة لنخب الفنون ومنها الرياضة‬ ‫والوجود لنخب رؤى الوجود دينية كانت أو فلسفية)‪.‬‬‫ويمكن أن ترد هذه المنظومة إلى ثلاث أبعاد بدل خمسة باختزال المعادلة الوجودية‪ .‬وفي‬‫تلك الحالة تستحوذ نخبة الإرادة على الوجود‪ .‬وتستحوذ نخبة المعرفة على الحياة‪ .‬فيضيق‬ ‫أفق الإنسانية وتبتر معادلة الوجود‪.‬‬‫وعندئذ تصبح نخبة القدرة سيدة كل النخب بفلسفة تاريخ تستحوذ على فلسفة الدين‪.‬‬‫وتصبح السياسة والعلم والاقتصاد المقومات الوحيدة لفلسفة التاريخ ويزول ما بعد السياسة‬‫وما بعد العلم وما بعد الاقتصاد أعني مقومات فلسفة الدين‪ :‬وتلك هي النزعة الدنيوية‬ ‫الخالصة التي يصبح الإنسان فيها عبدا لما يجرفه من الطبيعة والتاريخ‪.‬‬ ‫‪50 24‬‬

‫وهذا هو المشترك بين المدرستين اللتين ينتسب إليهما نموذج الجيل الثاني أو جيل الذيل‬‫في الحقبة‪ .‬فأفقها هو أفق الوضعية والماركسية مقابل نموذج جيل الصدر‪ .‬وجيل الصدر‬‫يرفض رد الوجودي للسياسي والحياتي للمعرفي ولا يقبل بسيادة القدرة المادية على‬ ‫التاريخ بل هو يرفض الردين فيعدلها ليبقى الإنسان سيدا عليها بمفهوم الاستخلاف‪.‬‬‫ومثلما أن نموذج الجيل الثاني مضاعف (ماركسي ليبرالي) فإن نموذج الجيل الأول‬‫مضاعف (كنسي ولا كنسي)‪ :‬وتلك هي المواقف المتصارعة من هذه الحقبة من التاريخ‬ ‫(ماركسي ليبرالي وما بعده (كنسي لا كنسي)‪.‬‬‫نبدأ الأن المقارنة في المستوى الأول‪ :‬نخبة الوجود ونخبة الإرادة في الحقبة التي بدأت‬‫بأفق مشدود لرمزي الأمة (الخلافة والمرجعية) وانتهت بعكسهما‪ .‬وثورة الشباب بدت‬‫بدايتها وكأنها من الأفق الثاني فقبل بها الغرب وأدعياء الحداثة ولما تبين بسرعة أنها‬‫كانت في الحقيقة منطلقا لعودة الأفق الأول تصدت لها الثورة المضادة بمساندة الغرب من‬ ‫أفقه الذي جعل الحداثة بعكس قيمها رؤية استعمارية لتطور الإنسانية‪.‬‬‫وبذلك فالثورة لم تكن في الحقيقة إلا الانتقال من توالي الجيلين إلى تساوقهما في حرب‬‫أهلية غاية الشباب منها تحقيق شروط التأصيل والتحديث المستقلين‪ .‬وما كنت لألجأ إلى ما‬‫يظن تعقيدا لو لم يكن تبسيط قراءة الأحداث قد ألغي ما يضفي عليها معانيها بإخفاء‬ ‫اعماقها‪ :‬كيف نفهم الحرب على الإسلام؟‬‫فليست هذه الحرب الكونية‪-‬بسند قوتي نظام العالم السابق للجيل الثاني‪-‬دينية‪.‬‬‫فهدفها إفشال الثورة بحرب أهلية لمنع استئناف الأمة دورها الكوني‪ .‬والعجيب هو تطابق‬ ‫التفسيرين لدى الكاريكاتورين لطبيعة ما يجري ‪:‬‬‫فكاريكاتور التأصيل يتصور الحرب على الإسلام نتيجة تعصب ديني صليبي‪ .‬وكاريكاتور‬‫التحديث يتصورها نتيجة ما يعتبره إرهابا تكفيريا‪ .‬وكلاهما بموقفه هذا مناف لمرجعيته‪:‬‬‫فكاريكاتور التأصيل يشوه فلسفة الدين ويناقضها‪ .‬وكاريكاتور التحديث يشوه فلسفة‬ ‫التاريخ ويناقضها فيعاديان ثورة الشباب‪.‬‬ ‫‪50 25‬‬

‫وحقيقة ثورة الشباب هي بداية الإدراك الحاد لعلاقة فلسفة التاريخ بفلسفة الدين في‬‫الإسلام أدركوا العلاقة بين مطالبهم المباشرة وشروطها غير المباشرة‪ .‬ولأن الثورة المضادة‬‫وسندها الاستعماري أدركا أن الشباب قد فهم هذه العلاقة العميقة انقلب الموقف من تقبلها‬ ‫في الأول إلى الحرب عليها في الأخير‪.‬‬‫هذه علة غوصنا في أعماق الوضعية المتقدمة على الثورة لنحلل فهم الجيلين والأفقين‬ ‫بمعيار العلاقة بين الوجودي والسياسي أو بين الرؤية والإرادة‪.‬‬‫وحتى لا تكون مقارنة الأفقين شديدة التجريد فلآخذ مثالين من الجيلين كما تعينا في‬ ‫تونس (البورقيبية والثعالبية) وفي مصر (الناصرية والاخوانية)‪:‬‬ ‫‪-1‬تونس مقارنة بين الثعالبي وبورقيبة ‪.‬‬ ‫‪-2‬مصر مقارنة بين البنا وعبد الناصر‪.‬‬‫فأفق الثعالبي والبنا هو نموذج الصدر في ظرف سقوط الخلافة التي ترمز لبقائه التاريخي‬‫والمرجعي‪ .‬وأفق بورقيبة وعبد الناصر هو أفق الحداثة التي انحطت إلى فلسفة تبرير‬‫الاستعمار (هيجليا وماركسيا) ومن ثم فهو أفق الحرب على هذا الأفق التحريري ممثلا‬ ‫بالثعالبية والاخوانية رغم ما يعتورهما من قصور لإدراك أبعاد الأفق الذي تمثلانه‪.‬‬‫لذلك فد قد يظن أن ما بين عبد الناصر وبورقيبة علته اختلاف الافق بهذا المعنى‪ .‬لكن‬‫اختلافهما لا يخرج عن الحرب على الثعالبي والبنا بأفق يتحدد بنوعي الفاشية الغربية في‬ ‫قطبي العالم‪ :‬الرأسمالي والاشتراكي‪.‬‬‫كلاهما ينطلق من المعادلة الوجودية المبتورة ضد المعادلة الوجودية السوية‪ :‬يردونها‬‫إلى مثلث ينفي الوجود وراء السياسي والحياة وراء المعرفي‪ .‬فالإرادي (السياسي) والمعرفي‬‫(العلمي) يتأله أصحابهما فيلغيان ما وراءهما ومن ثم ينتفي القطبان من المعادلة أي الإلهي‬‫والإنساني‪ .‬وتلك هي خاصية الفاشية‪ :‬مافيات تدعي الرأسمالية والاشتراكية وكلتاهما‬ ‫نظام استعباد للبشرية‪.‬‬ ‫‪50 26‬‬

‫وهذا هو الكاريكاتور التحديثي (بورقيبة وعبد الناصر) لكنه متلازم مع كاريكاتور‬‫تأصيلي وذروته داعش يبتدعه وينميه لحاجته إليه حتى يبرر حربه على أفق التأصيل‪.‬‬‫وقد ساعدهم الاسلام التقليدي الذي يواصل الانحطاط الذاتي المناظر لانحطاط الحداثة‬ ‫والمتصالح معها‪.‬‬‫كاريكاتور التحديث يدعي الناسوت ضد اللاهوت اي صورة الدين المشوهة التي يحتاج‬‫إليها حاجته اليوم للإرهاب علة بقاء لاستبداده النافي للإنسانية‪ .‬وهذه العلاقة بين‬‫الانسوية المؤلهة التي تنتهي إلى نفي الله والإنسان ليست خاصة كاريكاتور التحديث فبه‬ ‫أنهت العولمة الإنسانية باسم الإنسانية‪.‬‬‫لكن تنسيب السياسي (الإرادة) بما ورائه (الوجود) وتنسيب العلم بما ورائه(المعرفة)‬ ‫يعيدان قطبي المعادلة فيتسع الافق ويتحرر الإنسان من الفاشيات‪.‬‬‫المعادلة الوجودية التامة تمثل افق الثعالبي والبنا تتضمن القطبين (الله والإنسان)‬ ‫والوسيطين (الطبيعة والتاريخ) والوصل بالوسطين بين القطبين‪.‬‬‫والمعادلة الوجودية الناقصة تمثل أفق بورقيبة وعبد الناصر‪ :‬نفي القطب الأسمى يؤدي‬‫إلى إلغاء الأدنى فيبقى الطغيان بالوسيطين‪ :‬الاستبداد والفساد‪ .‬ولما كان السلطان على‬‫الوسيطين (الطبيعة والتاريخ) ليس بأيدي بورقيبة وعبد الناصر فإن استبدادها وفسادهما‬ ‫تابع للسيد على الوسيطين‪ :‬أفق محميات‪.‬‬‫لذلك فلا بد أن يتبع بورقيبة القطب الغربي من هذا الافق وأن يتبع عبد الناصر القطب‬ ‫الشرقي ومن ثم فدورهما لا يتجاوز حربهما على أفق التحرر منهما‪.‬‬‫وإذن فلا يمكن تصور بورقيبة وعبد الناصر إلا في حرب على الثعالبي والبنا بسبب التقابل‬‫بين الأفقين المقصور على الفاني والباحث عن المتعالي‪ :‬أفق اليأس من الامة والحرب عليها‬ ‫وأفق الشوق للاستئناف الحضاري رغم العجز الظرفي‪.‬‬‫بعبارة دينية الافق الذي ينطلق منه الثعالبي والبنا يوسع عالم الشهادة بعالم الغيب فلا‬‫يتجبر ولا يتكبر بعكس افق بورقيبة عبد الناصر الدغمائيين‪ .‬وبخلاف ما يتوهم سطحيو‬ ‫‪50 27‬‬

‫الحداثيين العرب فهذا القول ليس دينيا فحسب بل هو فلسفي إذا كانوا يعلمون حقيقة‬ ‫المنظور الفلسفي الحديث بصيغته الكنطية غربيا والخلدونية إسلاميا‪.‬‬‫فوهم بورقيبة وعبد الناصر يرد إلى ما يسمونه عقلانية بالمعنى القديم والقروسطي‬‫(من هنا تسمية ابن رشد والاعتزال عقلانيين) جهلا بحدود العقل‪ .‬والتعدد السياسي‬‫والعلمي شرطه التخلي عن إطلاق قدرات العقل النسبية جدا‪ .‬فلو كان العقل يدرك‬ ‫الحقيقة بإطلاق لكان القول بالديموقراطية خلفا‪.‬‬‫بورقيبة وعبد الناصر وكل متجبر علته ضيق أفقه وتأليهه نفسه لظنه أنه صاحب إرادة‬‫وعلم وقدرة وحياة ووجود كلها مطلقة ليس وراءها ما يتجاوزها‪ .‬ولذلك فهما ‪-‬وكل من‬‫يرى رأيهما‪-‬مستعدان لأن يستعبدوا شعوبهم متوهمين أنهم آلهة وغيرهم عبيد بل هم‬ ‫يرفضون عليهم أن يعبدوهم‪ :‬مثال بشار وطائفته‪.‬‬‫ولا بد لمن هم بهذه الصفات أن يختلقوا نظيرهم بديلا مما يريدون تهديم معادلته‬‫(الإسلام) التي توسع الأفق فتحرر الإنسان من تأليهم‪ :‬المثال داعش‪ .‬فهما وكل من‬‫جانسهما لا يمكن ألا يكونوا أداة بيد من يخشى ثورتي الإسلام‪ :‬الحرية الروحية ضد‬ ‫الكنسية والحرية السياسية ضد الحكم الاستبدادي‪.‬‬‫وكانوا يخفون هذا الدور بالزعم أنهم يقاومون الاستعمار وأدواته التي تختلقها‬‫مخابراتهم بالتعاون مع مخابرات سادتهم لتشويه مشروع الاستئناف‪ .‬لكن ثورة الشباب‬ ‫فضحت الخدعتين ‪:‬‬ ‫خدعة الأنظمة العسكرية بدعوى مقاومة الاستعمار‪.‬‬ ‫وخدعة الأنظمة القبلية التي تحارب مثلها مشروع الاستئناف‪.‬‬‫وبذلك انتقلت ثورة الشباب من مستواها الأول الذي تحدده مطالبها المباشرة (حقوق‬‫الإنسان) إلى مستواها الثاني لمطالبها غير المباشرة (قيام الإنسان)‪ .‬وحقوق الإنسان هي‬‫ثمرة الترجمة التحديثية لكرامته وقيام الإنسان هي ثمرة الترجمة التأصيلية لكيانه‪ :‬فإذا‬ ‫فقدت شروط الكيان صارت الحقوق كذبة‪.‬‬ ‫‪50 28‬‬

‫إذا ظل المسلمون تابعين للعجز عن الحماية والرعاية الذاتيتين صار الكلام على الحقوق‬‫اساس الخطاب المخادع عند من نصبهم الاستعمار لتخريب الكيان‪ .‬وتخريب كيان الأمة يلغي‬ ‫وجودها فضلا عن حقوقها‪.‬‬‫وتلك هي الحرب على أحيازها قيامها أي مكانها شرط ثروتها زمانها شرط تراثها‬‫ومرجعيتها شرط الشروط‪ .‬فهل ينكر أحد أن الحرب اليوم هي على مكان الأمة لمنع‬‫استقلالها المادي؟ وعلى زمانها لمنع استقلالها الروحي؟ وعلى مرجعيتها لمنع حصانة‬ ‫مقوماتها؟‬‫فجغرافية الأمة جعلوها محميات لمنع تنميتها الاقتصادية‪ .‬وتاريخ الامة جعلوه تاريخ‬ ‫قوميات لمنع تنميتها الحضارية وشوهوا مرجعيتها لمنع الاستئناف‪.‬‬‫ذلك هو ما كان الجيل الثاني من الحقبة التي ندرس مجرد أداة لتحقيقه بعضهم بوعي‬‫وبعضهم بغير وعي وهم إذن حلفاء مباشرة للاستعمار وأداتيه‪ :‬إيران وإسرائيل‪ .‬و\"الجعل\"‬‫في هذه الحالات ليس عملية خارجية تنسب إلى مؤامرة استعمارية بل هو عملية تاريخية‬ ‫نتجت عن صراع حضاري داخلي يسنده صراع حضاري خارجي‪.‬‬‫فالصراع في الإقليم الذي يحيط بالأبيض المتوسط أو ملتقى القارات الثلاث (آسيا‬‫وافريقيا واوروبا) كان مصبا لكل ما حولها وما عداه أصبح تابعا له‪ .‬وما عداه يعني ما‬‫توسع إليه العالم بعد اكتشاف العالم الجديد‪ .‬فصار ما حدث في ملتقى القارات الثلاث‬ ‫حضارة العالم كله بمصدرها الديني والفلسفي‪.‬‬‫فما يجري في أي منها محليا يكون دائما على صورة النموذج السائد في مجموعها بقيادة‬‫الحضارة الغالبة من حضاراته المختلفة دينيا وفلسفيا وتراثهما‪ .‬ويمكن بصورة موجزة أن‬‫أقول إن هذه المنظومة المتضادة اكتملت خاصة مع الإسلام عندما جمعت حضارته بين‬ ‫الديني والفلسفي أصلي الحضاري في الإقليم‪.‬‬‫والجمع بين توجه الفلسفة إلى الدين وتوجه الدين إلى الفلسفة هو عين اللقاء بين‬‫الفلسفة اليونانية والدين الإسلامي وهو أساس الكونية الحالية‪ .‬وفي هذا الإطار الواحد‬ ‫‪50 29‬‬

‫بوصفه منظومة لا يفهم أي من عناصرها من دون الباقي حصل اللقاء السجالي بين الشرق‬ ‫الإسلامي والغرب المسيحي حربيا وسلميا‪.‬‬‫وما حصل في الحقبة التي ندرسها هو ما سميته بالانحطاطين الذاتي عندنا والاستعماري‬‫عندهم‪ :‬وحرب الكاريكاتورين عندنا هي حرب ممثلي الانحطاطين‪ .‬فالغرب المسيحي نكص‬‫عن ثورة القيم الحداثية تشويها فاعليا للفلسفة والدين والشرق الإسلامي نكص عن ثورة‬ ‫القيم الإسلام تشويها انفعاليا لهما‪ .‬والتشويه واحد‪.‬‬‫فالجيل الثاني من حقبتنا يحاكي الجيل الثاني منها‪ :‬استكمال مهمة الاستعمار بالحرب على‬‫أفق مقاوميه من الأحرار داخل الغرب وخارجه‪ .‬بورقيبة وعبد الناصر وأمثاله في الإقليم‬‫من الجيل الثاني لم يكونوا بدعا ولم يكن أفقهم حداثيا بل كان استعماريا‪ :‬التحضير‬ ‫الاستعماري للأنديجان‪.‬‬‫أنشأوا نخبة استعمارية داخلية صنعت فترينة غربية ليس لها من الحداثة إلا ما ورّثهم‬ ‫إياه الاستعمار من تشويه للمعادلة الوجودية المبتورة كما وصفنا‪.‬‬‫فالتحرر الداخلي (الاستبداد والفساد) مشروط بالتحرير الخارجي (الاستتباع‬‫والاستضعاف) والعكس بالعكس‪ .‬ولهذه العلة كانت الثورة على هذه الوضعية هي في آن‬‫ثورة تحرر داخلي من الاستبداد والفساد وتحرير خارجي من الاستتباع والاستضعاف‪ :‬هدفي‬ ‫بيان العلاقة‪.‬‬‫وأعتقد أن الكثير من الغربيين وخاصة من الأجيال الشبابية يفهمون العلاقة لأنهم‬‫أدركوا أن ترضية الداخل باستعمار الخارج منافي لقيم الحداثة‪ .‬فلا يمكن أن يدعي الفكر‬‫الفلسفي تحرير الإنسان في الداخل بشرط استعباده في الخارج خاصة وان التحرير خطاب‬ ‫إيديولوجي لا حقيقة له حتى في الداخل‪.‬‬‫قد تكون الفترينة المؤيدة للخطاب الإيديولوجي في الغرب أوسع مما هي في الشرق لكنها‬‫تبقى فترينة لأن الاستعباد موجود في الحالتين وإن بتناسب‪ .‬ولهذه العلة بدت ثورة الشباب‬ ‫‪50 30‬‬

‫العربي بجنسيه غير مقصورة علينا بأن كل شباب العالم بدأ يفهم أنه وإن بتناسب في نصف‬ ‫الوضعية التي ثار عليها شبابنا‪.‬‬‫فليس صحيحا أن الغرب ينعم بالعدل والمساواة والحريات والحقوق كما يتوهم مصدقو‬ ‫الخطاب الإيديولوجي‪ .‬فالوضع لديه أفضل بسبب قدرته على نهب الغير‪.‬‬‫الترضيات الداخلية بالنهب الخارجي علاقة قوة وعنف مشروطة بالاستبداد والفساد‬ ‫لدى المنهوبين ومن ثم فشباب الغرب وجد نفسه من المنهوبين داخليا‪.‬‬‫وبذلك يمكن للإسلام أن يقود ثورة كونية بمقتضى النساء ‪( 1‬الأخوة البشرية)‬‫والحجرات ‪( 13‬المساواة بين البشر عرقيا وطبقيا) والتفاضل بالتقوى‪ .‬والحداثيون‬‫يتوهمون ذلك أحلام دينية‪ .‬لكن تطور البشرية اليوم جعله شرط الشروط في بقاء‬ ‫الإنسانية والأرض نفيا للاستبداد عليها والفساد فيها‪.‬‬‫وهذا هو أفق الثعالبي والبنا‪ .‬لكنه في عصرهم وبسبب سيادة الانحطاط الاستعماري‬ ‫تمكن خدامه من هزيمتهم فوظفهم لإتمام مهمته بالاستعمار غير المباشر‪.‬‬‫وكان من شروط بقائهم الحرب الفعلية على هذا الافق والحرب الكلامية على الاستعمار‪:‬‬ ‫وتلك هي خدعة الأفق الذي أسس عليه الجيل الثاني كل عنترياته‪.‬‬‫لكن التاريخ دار دورة كونية جعلت الثورة على صراع الأفقين تصبح القضية الكونية‬‫التي ستحسم في دار الإسلام ومن قلبها أي الإقليم الذي انطلق منه‪ .‬لذلك فليس صحيحا‬‫أن الغرب يحارب الإسلام لعلل دينية بمعنى يقابل الأبعاد التاريخية بل هو يحاربه بسبب‬ ‫هذين الثورتين‪ :‬الروحية والسياسية لتحريره من الاستبدادين الروحي والزماني‪.‬‬‫ولو كانت هذه الثورة مقصورة على المسلمين بالفعل ولا تعدوهم للمسلمين بالقوة أي لكل‬‫البشر لما حاربها الغرب مباشرة وبواسطة عملائه وشرطييه‪ .‬فهو يحارب كل خطر على‬‫سلطانه على الأرواح والأبدان بكنسية علمانية الاستبداد والفساد تلغي ما يوسع أفق‬ ‫الإنسان فيحرره بما يتعالى على الفاني‪.‬‬ ‫‪50 31‬‬

‫الحرب على الإسلام ليست حربا دينية بل هي حرب على رؤية تعتبر الدنيا مبنى والآخرة‬‫معنى والحياة مثل الرمز لا يرمز لمعناه إلا بمبناه‪ :‬تلك ثورته‪ .‬لذلك فالاستهتار بهذه‬‫الثورة في خطاب نخب بورقيبة وعبد الناصر وأمثالهم ليس حداثة ولا حتى حدوثة بل هو‬ ‫جوهر البلادة والغباء للتابعين الأذلاء‪.‬‬ ‫‪50 32‬‬

‫درسنا أفقي فكر المرحلة وسلوك نخبها بطبيعة علاقة الوجود (الرؤى) بالإرادة‬‫(السياسة)‪ .‬ونواصل فندرسها بطبيعة علاقة الحياة (الفن) بالمعرفة (العلم)‪ .‬وبينا الفرق‬‫بين الجيل الذي لا يرد الوجود (أفق متعال) إلى الإرادة (أفق دنيوي) والجيل الذي يرد‬ ‫الوجود إلى الإرادة الرؤى إلى الإيديولوجيا‪.‬‬‫كما بينا أن المعركة بين الجيلين بدت خلال النصف الاول من القرن الماضي وكأنها حسمت‬‫لصالح الجيل الثاني لأنه انضوى في أفق نظام العالم بقطبيه‪ .‬وكان الجيل الأول يعاني‬‫من معركة ثانية ليس مع جيل التحديث الذي وصفنا بل مع انحطاط الأصالة كما كان العالم‬ ‫الغربي يعاني من جيل انحطاط الحداثة‪.‬‬‫وجيل انحطاط حضارتنا حالف جيل انحطاط الحداثة صف الرأسمالية محالفة جيل‬‫انحطاط الحداثة (الاستعمار) صف الاشتراكية بوهم مقاومة الثانية للأولى‪ .‬فأصبحت‬‫معركة الكاريكاتورين‪-‬انحطاط الاصالة أو الأنظمة القبلية باسم الإسلام وانحطاط‬ ‫الحداثة أو الأنظمة العسكرية باسم الثورة‪-‬ضمن معركة القطبين‪.‬‬‫وصار الجيل الأول مرفوضا من كاريكاتورا الأصالة ومن كاريكاتورا الحداثة اللذين‬‫أصبحا في خدمة القطبين‪ .‬سقط أحد القطبين تحالفا عليه بقيادة الثاني‪ .‬لذلك فنوعا‬‫الانظمة العربية القبلية والعسكرية ونخبهما اعتبرا ثورة الشباب مؤامرة غربية عليهما لما‬ ‫أبداه من رضا عنها قبل أن يدرك طبيعتها‪.‬‬‫وقد أدرك طبيعتها لما اختار الشعب من يمثلون الجيل الأول الذي بدا وكأنه قد خسر‬ ‫المعركة منذ أكثر من نصف قرن‪ :‬غاب عنهم تدرجه البطيء كونية القيم‪.‬‬ ‫‪50 33‬‬

‫ذلك أن الجيل الأول صاحب الأفق المميز بين الوجود(الرؤى) والإرادة (السياسة) لم‬‫يكن على بينة من طبيعة الثورتين الإسلاميتين‪ :‬الروحية (لا وساطة بين المؤمن وربه)‬ ‫والسياسية (لا سلطان على الجماعة إلا الجماعة‪ :‬الحاكم نائب الجماعة بإرادتها الحرة)‪.‬‬‫وحتى بعد الثورة فإن إدراكه كان غائما وتلك هي علة الفشل السريع في القيام بما ينبغي‬‫لما مكنه الشعب من قيادة المرحلة‪ :‬لم يحقق شروط الثورتين‪ .‬فهو ما زال يتصور التربية‬‫والحكم الإسلاميين بحاجة إلى كنسية (المرشدية) وسلطة شرعيتها بحاجة إلى ما يتجاوز‬ ‫إدارة الشأن العام (العبادات)‪.‬‬‫لم يتخلصوا من شوائب الانحطاط فقاموا فردوا مثل الحداثيين بفارق‪ :‬هؤلاء ردوا‬‫الرؤى للسياسة نفيا للتعالي وهم ردوا السياسة للرؤى نفيا للتداني‪ .‬وكل المشكل هو‬‫الإدراك الغائم لثورتي الإسلام‪ :‬فالحرية الروحية ضد وساطة بين المؤمن وربه (سلطة‬ ‫المرشدية الروحية) والحرية السياسية ضد سيادة الامة (سلطة المرشدية السياسية)‪.‬‬‫ومن ثم فعلة تعثر الثورة‪ :‬الانظمة العربية بصنفيها وسندهما الأجنبي المباشر (إيران‬‫وإسرائيل) وغير المباشر (روسيا وأمريكا) وعدم نضوج نخبة التأصيل الحديث‪ .‬فما يطلبه‬‫الشباب مباشرة شروطه غير المباشرة هي التحرر من الاستبداد والفساد الذي يشترط هو‬‫بدوره التحرر من الاستضعاف والاستتباع‪ :‬الاستئناف‪ .‬والاستئناف يحتاج إلى قاعدة شعبية‬‫عريضة بأفق التأصيل الحديث الذي يدرك أصحابه أن تمام ثورتي الإسلام شرطان‬ ‫ضروريان وكافيان‪ :‬للتربية والحكم‪.‬‬ ‫التقابل بين نخبتي التربية‬‫درسنا في الفصل السابق علاقة الوجود بالإرادة أو علاقة المرجعية بالسياسة والمدار هو‬‫الحكم واليوم ندرس علاقة الحياة بالمعرفة والمدار هو التربية‪ .‬وننتقل إذن من التقابل بين‬‫نخبتي الحكم إلى التقابل بين نخبتي التربية في الحقبة التي ندرسها‪ .‬والمعلوم أن هذين هما‬ ‫مقوما كل دولة حامية وراعية‪.‬‬ ‫‪50 34‬‬

‫سنجد المقابلة التي بين نخب الجيلين في التربية (الفن والعلم) هي نفسها التي وجدناها‬‫بين نخب الجيلين في الحكم وهو تناظر بعدي صورة العمران‪ .‬بعدا صورة العمران مفهوم‬‫خلدوني‪-‬الحكم أو الوازع الأجنبي والتربية أو الوازع الذاتي‪-‬ومادته الانتاج المادي‬ ‫(الثروة) والإنتاج الرمزي (التراث)‪ .‬وأصل هذه الوظائف الأربع ‪:‬‬ ‫اثنان للصورة‪.‬‬ ‫اثنان للماد‪.‬‬‫أصل واحد هو العلاقة بين الوجود والإرادة في الحكم وبين الفن والعلم في التربية‬‫تحديدا للأفقين‪ .‬وقد وصفنا الأفقين بمقتضى أثر تقابلهما في تصور الحكم لدى الجيلين‬‫التأصيلي التحديثي ومثلنا بتونس وبمصر تعيينا بأربعة أمثلة معلومة‪ .‬فمثلنا بالثعالبي‬‫وبورقيبة من تونس وبالبنا وعبد الناصر من مصر من نخب بعد الحكم من السياسة وعلينا‬ ‫أن نبحث فيما يناظرهم في نخب بعد التربية‪.‬‬‫ولكن قبل ذلك فلنعلل التناظر بين علاقة الوجود بالإرادة في بعد الحكم من صورة‬‫العمران وعلاقة الفن بالمعرفة في بعد التربية من مادته‪ .‬فالحكم تتقدم فيه وظيفة الحماية‬‫والتربية وظيفة الرعاية‪ .‬وتلكما هما بعدا صورة العمران‪ .‬ويناظرهما بعدا مادته الانتاج‬ ‫المادي والإنتاج الرمزي‪.‬‬‫إذا علمنا دور الإنتاج المادي والإنتاج الرمزي في وظيفتي الحماية والرعاية أدركنا علاقة‬‫الحكم بالتربية وعلة تكون الصورة من هذين البعدين‪ .‬وبذلك تتحدد الصلة بالتواصل‬‫والتبادل‪ :‬فالتواصل بمستوييه يغلب عليه الوصل بين الوجود والإرادة وبين الحياة والمعرفة‬ ‫والتبادل بمستوييه يغلب عليه الفصل فيهما‪.‬‬‫اعلم أن الأمر تعقد جدا إذ النقلة من بعد الحكم إلى بعد التربية من الدولة يقتضي‬‫نظرية التواصل والتبادل شديدة التعقيد فضلا عن نظرية الدولة‪ .‬وكلتا النظريتين سبق‬‫أن عرضنا موجزهما في محاولات سابقة لذلك فالمواصلة في هذا البحث تفترض الاطلاع على‬ ‫عرضهما ولو بنظرة خاطفة ليتيسر الفهم‪.‬‬ ‫‪50 35‬‬

‫سأكتفي بالقول إن وظيفة الحماية الغالبة على بعد الحكم تحمي التواصل والتبادل‬‫بمستواهما الأول (بين الناس والطبيعة) والثاني (بينهما وما ورائهما)‪ .‬والتربية ترعاهما‬‫بمستوييهما‪ .‬لكن جيل الفصل بين الرؤى والسياسة يبقي على ما وراء التواصل والتبادل‬ ‫أما صاحب الرد فيعتبر المابعد مجرد إيديولوجيا‪.‬‬ ‫فما وظيفة التربية؟‬‫تكوين الإنسان (التربية والمجتمع الاهلي) وتموينه (الثقافة والاقتصاد)‪ :‬أساسها‬‫الإبداع الرمزي أي التواصل والتبادل الفني والعلمي‪ .‬والمسألة الآن تتعلق بدور النخب في‬‫هذه الوظيفة‪ :‬فلها ما فوق مفارق عند جيل التأصيل (ثيولوجيا) أو ما دون محايث عند‬ ‫جيل التحديث (انثروبولوجيا)‪.‬‬‫نظرنا في علاقة الوجود بالإرادة أو أفق الرؤى بالسياسة (بعد الحكم) والآن ننظر في‬‫علاقة الحياة بالمعرفة أو أفق الحياة بالعلم (بعد التربية)‪ .‬فرد الـ «مـا فوق\" إلى الـ «ما‬‫دون\" يجعل الفن والعلم أداتين لما يتوهم سيادة الإنسان بدلا من أن يكونا دالين على سيادة‬ ‫خالق الطبيعة والتاريخ وعبادته‪.‬‬‫فيصبحان حينها أداتي الفساد في الأرض وسفك الدماء لأنهما يصبحان أداتي حرب أساسا‬‫الأولى حرب الروح والنفس والثانية حرب المادة والبدن‪ .‬ولما كان الجيل التحديثي‬‫يحتاجهما مع العجز عن صنعهما فهو يستوردهما ليكونا وجهي الحداثة المنحطة الحداثة‬ ‫بصورتها الاستعمارية تحريفا لقيمها‪.‬‬‫فنخب الحياة (ذوق الوجود أو الفن) والمعرفة (معرفة الوجود أو العلم) تحولت‬‫بأيديولوجيتي التغريب الفاشيتين سماسرة لتوريد أداتي الاستبداد والفساد‪ .‬وبمجرد أن‬‫يفقد الفن والعلم المتعالي الذي يضفي عليهما معنى الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف‬ ‫يتحولان إلى معنى استعباد الإنسان لخدمة المافيات الحامية‪.‬‬‫وتلك هي علة العقم الذي دام أكثر من قرن رغم اكاذيب نشر التربية الحديثة‪:‬‬‫والدليل أن المستبدين والفاسدين ومحظوظ نخبهم يتعالجون في الخارج‪ .‬فمثلا هل يوجد‬ ‫‪50 36‬‬

‫اختصاص أيسر وأكثر ضرورة من الطب؟ كيف لدول تدعي نخبها الحداثة أن تكون أسرار‬ ‫الدولة ‪-‬صحة الحكام‪-‬مكشوفا في مصحات من يعتبرونهم أعداء؟‬‫في الغرب يحقق الفن والعلم المقصورين على الما دون العلم بقوانين الطبيعة والتاريخ‬‫لكن النخب التابعة لا تشاركهم إلافي الإفساد وسفك الدماء بهما‪ .‬ومعنى ذلك أنه لا حديث‬‫لديهم إلا ما يعبر عن تحريف قيم الحداثة الموروث عن الاستعمار‪ :‬لا حديث إلا أدوات‬ ‫القمع والاستعباد والاستبداد والفساد‪.‬‬‫واستعمار الإنسان في الأرض لا يكون معنى الحياة والمعرفة والتعبير عنهما بالفن والعلم‬‫إلا بقيم الاستخلاف بقطبي المعادلة الوجودية‪ :‬تواصل قطبيها‪ .‬لكن هذه المعادلة تفقد‬‫قطبيها لأن إزاحة القطب الأسمى بوهم جعل القطب الأدنى بديلا منه (وهم موت الله‬ ‫يؤدي حقيقة موت الإنسان)‪ :‬خاصية جيل الذيل‪.‬‬‫فهل نخبة الحياة والمعرفة التي تلازم نخبة الوجود والإرادة في الجيل الذي يدعي‬‫الحداثة تعين فيها مآل وهم موت الله بقتل الإنسان فعليا؟ فالأنظمة لم تأخذ من نموذجي‬‫الدنيوية الحداثية الموجب فيهما بل اكتفت بالتحريف الاستعماري لقيم الحداثة‪ :‬أدوات‬ ‫الاستبداد لتأبيد الفساد‪.‬‬‫وهذا الوصف الذي يبدو مغرقا في التجريد حتى لكأنه ميتافيزيقي مطابق تمام المطابقة‬‫للوضع الذي ورثناه عن أكثر من ستة عقود‪ :‬جعلونا أضحوكة العالم‪ .‬فـ\"جعلونا\" لا تحيل‬‫إلى الاستعمار الغربي بل إلى أدواته المحلية ممثلين بكاريكاتور الحداثة الذي يدعي‬ ‫محاربة كاريكاتور الأصالة صنيعته‪ :‬حرب الانحطاطين‪.‬‬‫الاستعمار الغربي يستفيد من الوضعية دون شك ويساعد على تواصلها وتلك هي علة‬‫تعثير ثورة الشباب لتحقيق شروط الاستئناف تحررا داخليا وتحريرا خارجيا‪ .‬ولنشرع الآن‬‫في الكلام على التربية التي يقول بها الجيل التأصيلي الذين سعوا لاستئصاله والتي يقول‬ ‫بها جيل الاستئصال بسند محلي وإقليمي ودولي‪.‬‬ ‫‪50 37‬‬

‫فعملية الاستئصال لم تعد من الماضي الذي بدأ وكأنه قد حسم المعركة لصالح أدعياء‬‫التحديث بل هو صار جوهر اللحظة التي تلت الثورة‪ :‬حرب شبه كونية‪ .‬والسؤال هو‪ :‬أي‬‫التربيتين تناسب الحاجة التي يمكن للأمة أن تستعيد بها دورها الكوني؟ أي التربيتين تحول‬ ‫دون السيادة حماية ورعاية بمنطق العصر؟‬‫في الفصل السابق قارنا بين زوجين من ممثلي التأصيل والتحديث في تونس ومصر‪ .‬لكن‬‫الآن المقارنة ستكون بين تربيتين لا بين ممثلين لنظرية الحكمين‪ .‬وبأكثر وضوح‪ :‬ما‬‫البرنامج الذي يحررنا مما حل بالجغرافيا من تفتيت يمنع شروط التنمية المادية وبالتاريخ‬ ‫من تشتيت يمنع شروط التنمية الرمزية؟‬‫هل هو التأصيلي المؤمن بالنساء ‪(1‬الأخوة البشرية) وبقيم الحجرات ‪(13‬المساواة بين‬‫البشر) أم التحديثي الذي يقول بالقومية والمحميات القطرية؟ هل المحميات القطرية‬‫بسبب التفتيت الجغرافي (تقزيم الامة) والتشتيت التاريخي (تشتيت الأمة) لها الحجم‬ ‫الكافي لتحقيق شروط السيادة حماية ورعاية؟‬‫كل ذي عقل جوابه سلبي حتما‪ :‬فما يسمى دولا عربية تنقسم اليوم إلى متسولة للحماية‬‫(التي تتوهم أنها غنية) والبقية للرعاية فضلا عن الحماية مثلها‪ .‬ولما كانت التربية ثقيلة‬‫الكلفة فإنها لا يمكن أن تكون في محميات مقزمة جغرافيا ومشتتة تاريخيا أن تك ّون مبدعين‬ ‫في الفن والعلم بل إيديولوجيين‪.‬‬‫لذلك فالجميع يلاحظ أن حال الثقافة العلمية والفنية رغم أنها لم تكن على أحسن حال‬‫قبل سيطرة أدعياء التحديث ازدادت سوءا‪ :‬تربية محو الامية‪ .‬وما ينتج عن هذا التربية‬‫التي لا تتجاوز محو الأمية البدائية؟ النخب العميلة تحتكر السياسة والثقافة وتستعبد‬ ‫البقية بمستورد من أدوات الاضطهاد‪.‬‬‫والنتيجة خرج المعمرون الأجانب الذين كان لهم على الأقل بعض من قيم الحداثة‬‫ونوبوا عنهم معمرين انديجان حتى يقوموا بما صار الغربي يستحي من القيام به‪ .‬ودليل‬ ‫‪50 38‬‬

‫هذه الظاهرة أمران‪ :‬المخابرات العربية وطرق انتزاع المعلومات بما لم يعد قوانين الغرب‬ ‫تسمح به فصارت المحميات العربية جولاج وجوانتنامو‪.‬‬‫فأصبحت التربية لا تتجاوز محو الأمية ومهمتها ليس تكوين الإنسان المبدع لشروط‬ ‫التنمية المادية والروحية بل نوادل السواح وخدم الصناعة الدنيا‪.‬‬‫وسآخذ مثال تونس التي يدعي حداثيوها أنها حققت درجة محترمة من الحداثة‬‫التربوية‪ .‬صحيح إذا اكتفينا بحداثة الاستهلاك والتقليد الببغائي لظاهرها‪ .‬هل محمية‬‫بدخل خام لا يتجاوز ثلاثين مليار دولار لا يمكنها أن تكون دولة وأن يكون لها قدرة على‬ ‫تحقيق شروط الحماية والرعاية على فرض صلاح نخبها؟‬‫وطبعا كلنا يعلم أن الفساد في بلاد العرب الفقيرة أشنع مما هو عليه في بلادهم التي تظن‬‫غنية‪ .‬فلنا من هم ليسوا دون طالح اليمن فسادا واستبدادا‪ .‬وليتجول أي ملاحظ نزيه في‬‫مدارس تونس وجامعاتها وسيحكم بنفسه أنها لا يمكن أن تخرج إلا العاطلين لأنها محاشد‬ ‫لمحو الأمية وليس معاهد بحث علمي ‪.‬‬‫ولا أحد ينكر أن الوضع في مصر التي كانت تظن قاطرة العرب أسوأ بكثير من الوضع في‬ ‫تونس‪ .‬ولعل بلاد العرب التي تبدو غنية ليست في وضع أفضل‪.‬‬‫ومن ثم فرؤية نخب الحياة والـمعرفة ذات الأفق الإسلامي أكثر مناسبة لشروط التنمية‬ ‫المادية والرمزية لأنها تحقق الشرطين الضروريين والكافيين في الأعيان وفي الأذهان‪:‬‬‫‪-1‬ففي الاعيان الأفق الفعلي يتجاوز ما يحول ماديا دون الطموح الامبراطوري الذي‬‫يجعل الامة قطبا كونيا بحجم العصر المحقق شروط القيام المستقل فيه‪ :‬الدولة تكون بحجم‬‫عماليق العصر ولها ما لها من قدرات مضاهية‪ .‬فتتحرر من التفتيت الجغرافي الذي ينتج‬ ‫عنه دويلات لا يمكن أن تبقى إلا كمحميات‪.‬‬‫‪-2‬وفي الاذهان الأفق الرمزي يتجاوز ما يحول رمزيا دون الطموح الامبراطوري الذي‬‫يجعل الأمة قادرة على العمل المديد الذي يتطلب الصبر لخدمة رسالة كونية ذات بعد‬‫روحي لا يقتصر على الأفق الضيق للدنيا‪ .‬فتتحرر من التشتيت التاريخي الذي ينتج عنه‬ ‫‪50 39‬‬

‫صراع القوميات والطائفيات ومن ثم فقدان شجاعة القيام الذاتي المستقل واللجوء لتسول‬ ‫الحماية والرعاية الأجنبية‪.‬‬ ‫‪50 40‬‬

‫وصلنا إلى قلب المعادلة ‪-‬القدرة ونخبها‪-‬اي البعد الاقتصادي من الانتاجين المادي‬‫والرمزي‪-‬والدور الذي يؤديه في أفق نخبة التأصيل ونخبة التحديث‪ .‬وقد ختمنا الفصل‬‫السابق ببيان أي الافقين أكثر مناسبة لمقتضى وضع العالم من شروط الحجم الجغرافي‬ ‫والوزن التاريخي من شروط لقيام الدول ذات السيادة‪.‬‬‫فالأفق التحديثي تأسس على التقزيم الجغرافي والتهوين التاريخي وأنتج أشباه دول هي‬‫محميات عديمة السيادة لعجزها على شرطي القيام‪ :‬الانتاجين‪ .‬ذلك أن الوضع الدولي في‬‫لحظة الاستعمار المباشر فتت جغرافية الإقليم وشتت تاريخه حتى تفقد كياناته السيادة‬ ‫بالضرورة فتكون تابعة حماية ورعاية‪.‬‬‫وبهذا المعنى فالحداثة المقومة للكيان السياسي والحضاري من صف النخب التأصيلية ذات‬‫الأفق الساعي للتحرر من التقزيم الجغرافي والتهوين التاريخي‪ .‬لكن أصحاب هذا الأفق لم‬‫يستطيعوا بعد ترجمة هذا التناسب بينه وبين مقتضيات العصر توهما منهم أن الإحياء‬ ‫ممكن دون تغيير كيفي في منظور هذا الأفق‪.‬‬‫وينبغي ملاحظة أن الرمز التونسي (الثعالبي) كان أكثر فهما من الرمز المصري (البنا)‬‫لضرورة التغيير الكيفي الضروري للجمع بين التأصيل والتحديث‪ .‬وحتى الرمز التونسي‬‫(بورقيبة) للأفق المقابل كان أكثر فهما من الرمز المصري (عبد الناصر) للعلاقة من المنظور‬ ‫الحداثي لكونه أدرى بحضارة الغرب‪.‬‬‫في التاريخ القصير بدا وكأن قيادة المرحلة مصرية في الأفقين التأصيلي والتحديثي لكنها‬‫في التاريخ المديد تبينت قيادتها تونسية بدليل نهايتها‪ .‬فالمعركة في تونس دارت حول علاقة‬‫التأصيل بالتحديث من منظور التأصيل الثعالبي ومن منظور التحديث بورقيبة جمعا بين‬ ‫السياسي وما ورائه في الحالتين‪.‬‬ ‫‪50 41‬‬

‫ومعنى ذلك أن كلا الصفين في تونس دخلا المعركة ببعديها السياسي والوجودي دون‬‫التقابل الذي سيطر على المناخ المصري بين موقف عبده والافغاني‪ .‬والقصد بهذا التقابل‬‫هو الفصل بين المدخلين‪ :‬التربية قبل الحكم عند عبده والحكم قبل التربية عند الافغاني‪.‬‬ ‫والثاني انقلابي عسكري بالجوهر‪.‬‬‫فالسياسي لا يتقدم إلا بالعنف والتربوي لا يتقدم إلا باللطف‪ .‬وهي مقابلة بين قصير‬‫التاريخ السريع ومديده البطيء‪ :‬الإرادة تسرع والقدرة تبطيء‪ .‬حاول الثعالبي الجمع‬‫بين التأصيل والتحديث بتقديم الأول وحاول بورقيبة الجمع العكسي فكان التفاعل في‬ ‫المستويين السطحي والعميق‪ :‬فحدثت الطفرة‪.‬‬‫والطفرة هي خاتمة الحقبة التي بدأت بسقوط الخلافة وانتهت بثورة الشباب فكانت‬‫مطالبها المباشرة زبدة الحداثة وشروطها غير المباشرة زبدة الأصالة‪ .‬وما حدث في تونس‬‫أصبح المسرع ‪-‬الكاتاليزور‪ -‬الذي قاد إلى ثورة الشباب في مصر ثم في سوريا ثم في ليبيا ثم‬ ‫في اليمن‪ :‬حرب الفتنتين الأهلية‪.‬‬‫لكن عقد الدولة القطرية انفرط بعد الحرب الثانية حتى في أوروبا التي أسسته في نهاية‬‫القرون الوسطى بالتحلل الامبراطورية المسيحية التي عوضت روما‪ .‬وعوضها سعي نخب‬‫أوروبا لبناء وحدة أوروبية حجما يقتضيه نظام العالم الجديد بعد الحرب الثانية لدورها‬‫العالمي بعد ضياع امبراطورياتها الاستعمارية‪ .‬لكن نخب التحديث العربية سواء كانت مع‬‫القطب السوفياتي أو القطب الأمريكي ظلت توابع ولم تفكر في الاستفادة من الوضع‬ ‫لشروط السيادة مثل أوروبا‪.‬‬‫وصلنا الآن إلى الكلمة السحرية‪ :‬شروط السيادة‪ .‬فهي تعني \"الابداعين المادي‬‫والرمزي\" شرطي الانتاجين السادين للحاجات المادية والروحية للجماعة‪ .‬وهذه المعاني‬‫يجمعها مفهوم \"القدرة\" المشروطة بالإرادة والمعرفة قبلها أداتين سياسية وعلمية وبالحياة‬ ‫والوجود بعدها غايتين للإرادة والوجود‪.‬‬ ‫‪50 42‬‬

‫ولهذه العلة اعتبرنا مفهوم القدرة المركز والقلب من معادلة الوظائف تمثلها النخب‬‫فرض كفاية‪ :‬السياسة والمعرفية والاقتصادية الفنية والوجودية‪ .‬سيقول المتعجلون عملا‬‫بالحكمة الشعبية \"وينك وذنك\" لماذا كل هذا التمهيد بخمس فصول للوصول إلى ما كان‬ ‫يمكن البدء به؟ لأن عكسه هو علة تخلفنا‪.‬‬‫ما يزال الكثير من نخبنا يميل إلى \"الخيمة\" عقليا رغم أنه يعيش في ناطحات السحاب‬ ‫حسيا‪ .‬الفكر لا يقعد الأمور بل يكشف تعقيداتها ليتمكن من علاجها‪.‬‬‫لما كان الإنسان يمكن أن يعد عالما بحفظ متن أو متنين كان الفكر جنيس الخيام يبني دارة‬‫ببعض الأوتاد وقطعة وبر تذروها الرياح دون تراكم رمزي‪ .‬وكان الشعر من جنس‬‫النبطي‪ :‬فيض خاضر وحتى المحكك منه فهو تجربة ذاتية لا تصل إلى كليات الوجدان‬ ‫الإنساني‪ .‬لكأن القرآن لم ينزل علينا بلساننا‪.‬‬‫لكأننا لم نقرأ فصلت ‪ .53‬فحقيقة القرآن ليست في نصه بل في آياته التي يرينها الله في‬‫الآفاق والأنفس (الطبيعة والتاريخ في الاعيان وفي الاذهان)‪ .‬وآياته التي في الأعيان وفي‬‫الأذهان ليست خياما تتوالى ولا تتراكم ومتردم يذرو متقدمه تاليه فلا يتأثر فهمه بل هي‬ ‫الإنتاجان المادي والرمزي‪.‬‬‫فيكون سؤالنا اليوم أي الافقين التأصيلي أو التحديثي أكثر تحقيقا لشروط الإنتاجين‬‫المادي والرمزي اللذين بهما يصل الإنسان بعدي معادلة الوجود؟ وهل نجد شروط الانتاج‬‫المادي والرمزي المحققين لسيادة المؤمن مستعمرا في الأرض بقيم الاستخلاف أم لعبودية‬ ‫القزم المحاكي سطحيا لمن يسيطر عليه؟‬‫ذلك هو رهان الثورة اليوم‪ :‬هل التحديث المستقل يختلف عن التأصيل الذي يحقق شروط‬‫السيادة بالإنتاجين المادي والرمزي شرطين للحماية والرعاية؟ ولنقلب السؤال‪ :‬أليس جيل‬‫الذيل عاجزين بحكم أفقهم التابع على ما يتجاوز استيراد الانتاج المادي والرمزي بسبب‬ ‫التقزيم الجغرافي والتهوين التاريخي؟‬ ‫‪50 43‬‬

‫من اختار نموذج الفاشية الغربية (بورقيبة وأمثاله) أو الفاشية الشرقية (عبد الناصر‬‫وأمثاله) تزداد تبعيته وتناقص شرطا الحماية والرعاية‪ :‬السيادة‪ .‬وإذن فكل ما نراه‬‫حاصلا في بلاد العرب بصنفيها ذات الأنظمة العسكرية والأنظمة القبلية ليس اتفاقيا بل‬ ‫هو نتيجة حتمية للأفق النموذجي المسيطر‪.‬‬‫لابد أن تكون نخب القدرة في بلاد العرب مسيطرة على نخب الإرادة والمعرفة قبلها ونخب‬‫الحياة والوجود بعدها بمنطقها المستبد والفاسد لأنها تابعة‪ .‬ونخب القدرة التابعة مافيات‬‫وظيفتها جعل الأقطار محميات تابعة لا دولا بمقتضى تفتيت دار الإسلام وتشتت تاريخها‬ ‫لئلا تكون لها شروط السيادة‪.‬‬‫فالحرب الأهلية تتجاوز علتها المطالب المباشرة إلى شروطها البعيدة‪ :‬الاستبداد والفساد‬‫يخدم تفتيت جغرافيتنا وتشتيت تاريخنا‪ :‬دار الإسلام وامته‪ .‬وهبنا صدقنا أن اصحاب‬‫التحديث في حقبة ما بين سقوط الخلافة وبداية الثورة كانوا على حسن نية في التشخيص‬ ‫والعلاج‪ :‬بورقيبة وعبد الناصر مثلا‪.‬‬‫ألم يكفهم نصف قرن من الممارسة لفهم أن تشخيصهم وعلاجهم كلاهما كان أكله عكس‬‫ما يعدون به‪ :‬فالفترينة الكاذبة بينت حصوات الشباب قبح ما تخفيه‪ .‬واكتمل الامر بما‬‫نراه اليوم في الهلال‪ :‬التقت الفتنتان الكبرى والصغرى والرهان التاريخي الذي تساوقت‬ ‫فيه المعركتان ولا مفر من حسمهما للاستئناف‪.‬‬‫صحيح أنهم شوهوا الأفق التأصيلي بما اخترعوه من شبيه مشوه منه سموه خلافة وجهادا‬‫وإسلاما سنيا وهي جميعا كاريكاتورات للتخريب الداخلي ستزول‪ .‬ولن يزيلها من يدعون‬‫الحرب عليها وهي في الحقية المعلاق الجديد لتبرير بقائهم بل البديل الحقيقي منها فيماثل‬ ‫ما فعلته أوروبا لاستعادة دورها‪.‬‬‫أوروبا اليوم تصف اساس وحدتها بـ «الحضارة اليهودية المسيحية« لكنها لم تعد إليها في‬‫شكلها الذي تجاوزته بل ترجمته بقيم مناسبة للعصر‪ :‬شرط الاستئناف‪ .‬وهذا قانون تاريخي‬‫مشروط في انبعاث أي حضارة‪-‬وحتى أي علم يراجع أسسه ليتقدم‪ -‬بشروط تجديد أسسها‬ ‫لصوغها بأسلوب يناسب الحاجة المتجددة‪ :‬السيادة هي شروط الانتاجين‪.‬‬ ‫‪50 44‬‬

‫فأوروبا لو بقيت كما كانت في حرب أهلية قبل الحرب العالمية الثانية لن تستطيع منافسة‬‫أمريكا أو حتى السوفيات في الإنتاجين فتفقد شروط سيادتها‪ .‬لذلك كان طلب الوحدة‬‫معلولا بهذه الحاجة‪ :‬كيف يمكن لأوروبا بعد أن فقدت القدرة فأصبحت محمية لعملاقي‬ ‫العالم أن تسترد قدرتها أي شروط سيادتها؟‬‫وهذه القدرة أو شروط السيادة هي اساس الإرادة والمعرفة والحياة والوجود أساسها إذا‬‫كانت حقيقية وهي في آن ثمرة أفقها من دونها تكون أسماء لا غير‪ .‬ففي المحميات العربية‬‫التي يسمونها دولا‪ :‬الإرادة والمعرفة والحياة والوجود كلها أسماء بلا مسميات لأنها فاقدة‬ ‫لشروط السيادة أو قدرة الابداعين‪.‬‬‫سيقول المتعجلون‪ :‬ها أنت مثل الحداثيين تستمد النموذج من الغرب (وحدة أوروبا)‪.‬‬‫لا يقول ذلك إلا من كان جاهلا بتاريخ الامة‪ .‬ماذا فعل الصدر؟ فأفق الصدر يتألف من‪:‬‬‫الرؤى (الرسول) والكيان الجغرافيا (الصديق) والكيان التاريخي(الفاروق)والكيان‬ ‫المرجعي (ذو النورين) بداية الدولة الكونية (معاوية)‪.‬‬‫والجيل الساعي إلى التأصيل هذا أفقه لكنه لم يستطع تجديده بمنطق العصر‪ .‬وكل ما‬‫أحاوله على عسره وتشابك عناصره وتلعثمه أحيانا هذا هو مطلبه‪ .‬وفي الحقيقة فمطلبه‬‫كان في الأصل مقصورا على النظر كما حاولته في التفسير الفلسفي‪ .‬لكن الثورة فرضت أن‬ ‫يجمع بين النظر والعمل ففيه بعد نضالي‪.‬‬‫لكنه ليس نضاليا مباشرا وإلا لأغراني حب الانتشار السريع فاخترت اسلوب التبسيط‪.‬‬‫المطلوب‪ :‬هو شروط العمل على علم لا \"التهريج=الاجيتاسيون\"‪ .‬ثورة من دون قيادة فكرية‬‫ذات تكوين نظري ديني وفلسفي مع ما يعتمدانه من علوم الطبائع وعلوم الشرائع لن تقدر‬ ‫على استئناف ثورة الصدر بمنطق العصر‪.‬‬‫فشرط الشروط هو القيادة ذات الأفق النظري الروحي والعقلي الذي يكون قادرا على‬‫استئناف ثورة الصدر الذي ننسبه إلى الأعلام الخمسة الذين ذكرت‪ .‬صحيح أن مؤسس‬ ‫‪50 45‬‬