Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore نوعا الربا ومنطق التحولات القيمية - أبو يعرب المرزوقي

نوعا الربا ومنطق التحولات القيمية - أبو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2020-12-25 23:28:38

Description: نوعا الربا ومنطق التحولات القيمية - أبو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪re nils frahm‬‬ ‫ومنطق التحولات القيمية‬ ‫الأسماء والبيان‬





‫المحتويات ‪2‬‬ ‫‪ -‬الفصل الأول ‪1 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثاني ‪10 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثالث ‪20 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الرابع ‪29 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الخامس ‪39 -‬‬

‫‪--‬‬ ‫الإشكالية‬ ‫التحولات القيمية في الاجتماع الإنساني‬ ‫أبدأ بتعريف التحولات القيمية التي تتبع ‪-‬في الرؤية الخلدونية‪ -‬مما اصطلح عليه ابن خلدون‪-‬‬ ‫بمفهوم \"نحلة العيش\"‪.‬‬ ‫فهي عنده الأصل الحاصل من علاقة ما يستمده الإنسان من أحياز وجوده الداخلية المناسبة‬ ‫لأحيازه الخارجية وفرعي تفاعلهما ووحدتها جمعيا في \"نحلة العيش\" التي تمثل بتكوينيتها‬ ‫التحولات القيمية في الجماعة‪.‬‬ ‫فأحياز وجوده الداخلية هي كيانه العضوي وكيانه الروحي وفاعلية الاول في الثاني‬ ‫‪.1‬‬ ‫وفاعلية الثاني في الأول ووحدته التي هي عين ذاته‪.‬‬ ‫‪.2‬‬ ‫‪.3‬‬ ‫وأحياز وجوده الخارجية هي قسط جماعته من المكان أو جغرافيتها وقسطتها من الزمان‬ ‫‪.4‬‬ ‫أو تاريها وأثر الجغرافيا في التاريخ أو التراث وأثر التاريخ في الجغرافيا أو الثروة‬ ‫وأصلها جميعا الذي يوحدهما هو هوية الجماعة الحضارية‪.‬‬ ‫‪.5‬‬ ‫ويوجد تناظر بين ما يستمده كيان الإنسان العضوي من الجغرافيا وما يستمده كيان‬ ‫الإنسان الروحي من التاريخ وما يستمده من التراث هو مضمون فكره وما يستمد من‬ ‫الثروة هو مضمون بدنه ووحدة كيانه هي عين ذاته التي حصيلة نحلة العيش‪.‬‬ ‫ورغم أن هذه التناظرات في عصر العولمة لم تعد رهن حصة كل جماعة من الجغرافيا‬ ‫وحصتها من التاريخ ومن تفاعلهما أي من تراث الجماعة وثروتها ومن هويتها الحضارية‬ ‫بسبب تحول المعمورة كلها إلى سوق اقتصادية واحدة وسوق ثقافية واحدة فإن ذلك لا‬ ‫ينفي أن المسيطر هو غلبة ما بينا في ثالثا‪.‬‬ ‫ذلك أن ما هو حاصل مما ذكرنا في رابعا كان بالقوة المنتقلة بالتدريج إلى الفعل في كل‬ ‫تاريخ الإنسانية لأن الجماعات البشرية لم تكن فاقدة للتواصل وكان بينها شيء من‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪1‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫السوق الاقتصاد والثقافة العالميين بين المتجاورين في المكان والمتوالين عليه والمتعاصرين‬ ‫في الزمان والمتوالين فيه‪.‬‬ ‫وتلك هي نظرية الإسلام في وحدة الإنسانية وفكرة الدولة الكونية التي بني عليها فكر الإسلام‪،‬‬ ‫ومن هذه الرؤية التي تتصف بها نحلة العيش في علاقتها بما تعتبره ما بعد لهذه المقومات الأربعة‬ ‫أساسا للقيم ذاتها أيا كان الشكل الذي تتجلى فيه‬ ‫وذلك خلال الانتقال من فاعلية الطبيعة في الثقافة نزولا وفاعلية الثقافة في الطبيعة صعودا‬ ‫وبصرف النظر عن الحكم القيمي المتعلق بما بعدها بالقياس إلى أثرها في ما تقيمه فتجعله يرى‬ ‫بمقتضاها‪:‬‬ ‫‪ .1‬فالقيم كلها ترد إلى أصل مضاعف فرعه الأول يمكن وصفه بعلاقتها بالثروة المادية التي‬ ‫هي شرط قيام الإنسان العضوي الذي تقاس حريته بدرجة استقلاله في تحصيله‪ .‬فمن لا‬ ‫ثروة مادية له منها الحد الأدنى هو شروط الكفاف في الجماعة فلا يمكن أن يكون للقيم‬ ‫عنده ما يصل لقيمتها الروحية أي منزلة الحرية‪.‬‬ ‫‪ .2‬والقيم كلها ترد إلى نفس الأصل وفرعه الثاني يمكن وصفه بعلاقتها بالتراث الروحي‬ ‫الذي هو شرط قيام الإنساني الروحي الذي تقاس كرامته بدرجة استقلاله في تحصيلها‪.‬‬ ‫فمن لا تراث روحي له منه الحد الأدنى هو من شروط الشرف في الجماعة فلا يمكن أن‬ ‫يكون للقيم عنده ما يصل لقيمتها الروحية أي منزلة الكرامة‪.‬‬ ‫‪ .3‬وبذلك يتبين أن لفرعي الأصل علاقة تفاعل فكلاهما له أثران تابع ومتبوع وهما ما‬ ‫يفسر التحول الكيفي في دور القيم في حياة الفرد والجماعة (حرية شرطها الملكية المادية‬ ‫وكرامة شرطها التراث الروحي) وبه يفسر القرآن كل التاريخ الإنساني الذي هو‪:‬‬ ‫• من منظور عالم الشهادة فلسفة تاريخ‬ ‫• ومن منظور عالم الغيب فلسفة دين‬ ‫ومن منظور علم الاجتماع فلسفة القيم الاجتماعية التي تحدد منزلة‪:‬‬ ‫• حرية الإرادة‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪2‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫• واستقلالية الرؤية‬ ‫• وصدق المعرفة‬ ‫• وسلامة الذوق‬ ‫ومن ثم القدرة الوجودية الجامعة بين الفعل المادي(الاقتصاد) والفعل الروحي(الثقافة)‪:‬‬ ‫‪Vermögen‬‬ ‫❖ فالأول يستتبع الثاني بين المحتاجين وهو أصل العبودية المادية التي تمكن أصحاب الثروة‬ ‫من السيطرة على غيرهم من المعدمين ماديا وهو المستوى المقدم بسبب التأثير المباشر في‬ ‫الدنيا وغير المؤجل مثل الثاني في الآخرة‪.‬‬ ‫❖ والثاني يستتبع الاول عند الرافضين لرد الإنسان إلى مستواه الأدنى (شروط العيش‬ ‫النباتي) بالانتقال مباشرة إلى المتعالي المطلق لتأسيس العبودية الروحية التي تمكن‬ ‫أصحاب التراث من السيطرة على غيرهم من المعدمين روحيا‪.‬‬ ‫‪ .4‬والحصيلة الأولى الممكنة هي الحلف بين هذين النوعين للسيطرة برمز الثروة وليكن‬ ‫العملة التي تترجم إليها كل أنواع الثروة‪ .‬وهذه الترجمة هي وظائف أداة التبادل‪.‬‬ ‫‪ .5‬والحصيلة الثانية الممكنة هي الحلف برمز التراث وليكن الكلمة التي تترجم إليها كل‬ ‫أنواع التراث‪ .‬وهذه الترجمة هي وظائف أداة التواصل‪.‬‬ ‫فمن دون حلف بين المسيطرين على أداة التبادل والمسيطرين على أداة التواصل في الاتجاه الأول‬ ‫من التبادل إلى التواصل أو في الاتجاه الثاني من التواصل إلى التبادل لا يمكن أن يستقر النظام‬ ‫فتتكون طبقتا الخاصة المادية والخاصة الروحية‪.‬‬ ‫وهما طبقتان متنافستان على السلطة في الجماعة تقديما للمادي على الروحي أو للروحي على‬ ‫المادي إما بصدق أو بنفاق وذلك بما يبقى من دور طبقات العامة في الجماعات التي تكون إما مؤلفة‬ ‫من الأحرار أو من العبيد‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪3‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لكن هذين النوعين من العامة بفضل هذه التبعية هما شرط الاستقرار في النظام الاجتماعي الذي‬ ‫هو بدوره شرط للاستقرار في النظام السياسي‪ .‬وتكون الأسر الحاكمة ‪-‬سواء كانت قبلية أو‬ ‫عسكرية أو حزبية‪ -‬هي التي تعتبرها الجماعة‪:‬‬ ‫‪ .1‬ذات صلة بالآلهة حصرا فيها بالنسبة على منطق العبودية‪.‬‬ ‫‪ .2‬أو شاملة للبشر من حيث هم بشر بالنسبة إلى منطق الاحرار‪.‬‬ ‫لأن معين النظامين هو هذا الانقسام الطبقي والتراتبي الذي يكون فيه بعض الناس أربابا‬ ‫بالأموال مؤيدين بوسطاء مع رب متعال بالأقوال‪ .‬لذلك فأول الأنظمة السياسية لا يمكن ألا يكون‬ ‫ثيوقراطية متعينة‪:‬‬ ‫‪ .1‬في أسرة حاكمة تنسب إلى أصل ربوبي لها سلطان الوصاية المادي والفعلي على شؤون‬ ‫الدنيا وعالم الشهادة وشروط العيش المشترك وتنظيم حياة الجماعة بحسب إرادتها‬ ‫ورؤيتها التي تعتبر شرعا إلهيا‪.‬‬ ‫‪ .2‬وفي طبقة من رجال الدين لهم سلطان الوساطة الروحي والرمزي على شؤون الآخرة‬ ‫وعالم الغيب يؤيدونهم بما يزعمونه من علاقة برب الأرباب‪ :‬والمثال النظام الفرعوني‪.‬‬ ‫وكلاهما يمكن أن يكون صادقا أو منافقا‪ .‬وغالبا ما تقع ثورة صادقة أو منافقة باسم نفس العلتين‬ ‫أي بالموقف من أداة التبادل وأداة التواصل فينتج من ثم ثورتان اخريان من الصادقين على‬ ‫المنافقين ومن المنافقين على الصادقين‪.‬‬ ‫فمن الصادقين تأتي الثورة على المنافقين بمحاولة قلب العلاقة بين السلطان الفعلي في عالم‬ ‫الشهادة والسلطان الرمزي في عالم الغيب‪ .‬وتلك هي بداية الأديان التي تمثل ثورة الروحي‬ ‫والرمزي على المادي والفعلي في التاريخ‪.‬‬ ‫ويمكن اعتبار ثورة موسى ممثلة لغاية هذا الانقلاب‪ .‬فالقرآن يبين أن ثورته تمثلت في بيان أن‬ ‫النخبة التي تؤدي وظيفة الوساطة الروحية والرمزية التي اراد فرعون الاستنجاد بها فشلت أمام‬ ‫حجج موسى فانضمت إليه وأصبح فرعون مضطرا للجوء إلى سلطان الوساطة العنيفة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪4‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لم يكن بوسع موسى التصدي لقوة الوصاية العنيفة فكان قرار الهجرة‪-‬كما فعل الرسول الخاتم‬ ‫لكن الفرق أنه فهم علة فشل ثورة موسى وعجزه دون تكوين قوة التصدي الفعلي للوصاية أو‬ ‫الجهاد المؤيد للاجتهاد‪-‬لكن الهجرة صارت فرصة لإنهاء ثورة التحرر من العبودية الثقافية (سلطة‬ ‫التربية والحكم)‪ :‬نشأة دين العجل‪.‬‬ ‫فما دين العجل؟‬ ‫تحويل العملة إلى أداة السلطة الفعلية في عالم الشهادة والمادة وتحويل الكلمة إلى أداة السلطة‬ ‫الرمزية في عالم الغيب تحويلهما إلى أداة السيطرة على القوة الفعلية في عالم الشهادة (الذهب)‬ ‫والقوة الرمزية في عالم الغيب (الخوار)‪.‬‬ ‫وهذا هو الشكل الثاني من الأنظمة السياسية‪ .‬لكن كيف تمت النقلة من انقلاب موسى إلى انقلاب‬ ‫السامري الذي أوصل إلى دين العجل بدل الدين الذي اراد أن يحرر الإنسان من تبعية السلطة‬ ‫الروحية للسلطة المادية؟‬ ‫فانقلاب أصحاب السلطان المادي على اصحاب السلطان الروحي على الانقلاب الذي يمثله موسى‬ ‫ممكن‪.‬‬ ‫إنه تدارك المادي والفعلي بما يقابل النظام الثيوقراطي وهو النظام الانثروبوقراطي الذي‬ ‫يزعم أنه لا وجود لما وراء عالم الشهادة والرب الوحيد هو الإنسان والإيهام بأن كل ما يتكلم على‬ ‫الماوراء سلطانه وهمي وأن السلطان الفعلي هو سلطان القوة المادية‪،‬‬ ‫فهي التي تسيطر على سلطان القوة الروحية في الإنسان‪ :‬الرب ليس شيئا آخر غير رمزه أي العجل‬ ‫الذي صنعه الإنسان وجعله يور بما يتوهمه تأثيرا ربوبيا كما نبين‪ .‬وإذن فلا بد أن يكون‬ ‫السامري من السحرة الذين هاجروا مع موسى‪-‬فالسحرة في دولة فرعون كانوا علماء كبار في‬ ‫الرياضيات وفي الاقتصاد وتوزيع الثروة‪:‬‬ ‫‪ .1‬فبمجرد غياب موسى زعم السامري أنه رأى جبريل الذي أتى بالوحي لموسى فاخذ بعضا‬ ‫من غبار أثارته حوافر فرسه ورماها على العجل الذهبي (رمز الرب عند الفراعنة لأنه‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪5‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫صهر من الذهب الذي استعير ولم يرجع لأصحابه) فصار يور (البديل من الدين‬ ‫الصحيح)‪.‬‬ ‫‪ .2‬ليصبح التواصل مقدما على التبادل فيكون دين العجل هو عين الثيوقراطيا ولكن‬ ‫بعلمنتها أي إنها الحكم بالدين الذي صنعه الإنسان وزعم أنه منزل وهو إذن تأليه لقوى‬ ‫عالم الشهادة واعتبر عالم الغيب مجرد رب خيالي له بعدان هما بعد العملة (أداة‬ ‫السلطان على كيان الإنسان العضوي) والكلمة (أداة السلطان على كيان الإنسان‬ ‫الروحي)‪:‬‬ ‫❖ القوة المادية لم تعد العنف المباشر بل الاستعباد بالسلطة على المتبادلين أي البنك وانقلبت‬ ‫العلاقة بين السلطتين المادية بالعنف المسلح والرمزية بالعنف المرمز‪.‬‬ ‫❖ والقوة الروحية لم تعد العنف بالمباشر بل الاستعباد بالسلطة على المتواصلين أي الاعلام‬ ‫وانتقلت العلاقة بين السلطتين الرمزية بالعنف المابعدي بالعنف المادوني‪.‬‬ ‫فتكون حصيلة الانقلابين واحدة لأن فشل الانقلاب الأول هو ردة رستوراسيون لما تقدم عليه ولكن‬ ‫بأنسنته (الرب صار الإنسان) وفي الحقيقة اكتشاف طبيعة ما كان قبل الانقلاب الأول أي إن‬ ‫النظام الفرعوني كان ثيوقراطيا ناسوتية تدعي أنها لاهوتية‪.‬‬ ‫وتلك هي البنية العميقة للثيوقراطيا والانثروبوقراطيا وذلك هو النظام الذي اصطلحت عليه‬ ‫فسميته الأبيسيوقراطيا أي نظام دين العجل الذي هو البنية العميقة لنظام واحد ذي وجهين‬ ‫الأول هو الثيوقراطيا والثاني هو الانثروبوقراطي‪.‬‬ ‫دين موسى لم يتحقق كان وعدا لم يتم وهو معنى غياب موسى وتحوله إلى متصوف يعيش في عالم‬ ‫المثل المتعالية على الدنيا لكأنه يمكن التعالي من دون المتعالي عليه‪ .‬وذلك ما سيفهمه الرسول‬ ‫الخاتم‬ ‫فيكتشف أنه النظام المحرر من الانقلاب الفاشل والانقلاب الناجح في الردة إلى ما كان موجود‬ ‫يعني اكتشاف أن الدين عند الله هو شد عالم الشهادة لعالم الغيب فعليا وتلك هي السياسة‬ ‫الحقة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪6‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وإذن فالمشكل الذي أريد علاجه يمكن صوغه بهذين السؤالين والعلاج هو محاولة شرح التحول‬ ‫الذي يجعل أداة التبادل ذات سلطان على المتبادلين وهو ربا الأموال وأداة التواصل ذات سلطان‬ ‫على المتواصلين وهو ربا الأقوال‪:‬‬ ‫‪ .1‬كيف تصبح أداة التبادل ذات سلطان على المتبادلين فيصبح ربا الأموال هو المتحكم في‬ ‫سياسة عالم الشهادة ماديا‪.‬‬ ‫‪ .2‬وكيف تصبح أداة التواصل ذات سلطان على المتواصلين فيصبح ربا الأقوال هو المتحكم في‬ ‫سياسة عالم الشهادة روحيا‪.‬‬ ‫وذلك هو الحلف الذي يحكم الإنسانية في كل تاريها وهو انتقال شبيه بما كان سلطان المقايضة أو‬ ‫التبادل العيني إلى سلطان المناقدة المجردة التي تخفي المقايضة العينية‪ .‬والمقايضة العينية تتعلق‬ ‫بالثروة والتراث أساسين للسلطان مباشرة أي‬ ‫‪ .1‬حاجة المائدة (الثروة علاج لمشكل المائدة‪ :‬شروط حماية الحياة في الأفراد (أصل‬ ‫الأسر)‬ ‫‪ .2‬وحاجة السرير (التراث علاج لمشكل السرير‪ :‬شروط حماية النسب في الأسر أصل‬ ‫الجماعات)‪.‬‬ ‫وذلك هو أساس دين العجل الذي يسيطر بمعدنه (أداة التبادل) وبخواره (أداة التواصل)‬ ‫تصبحان مسيطرتين على الجماعة بوصفها‪:‬‬ ‫‪ .1‬متبادلة بالعملة البديل من المقايضة والمخفية لسلطة المادة (في علاج سد حاجاتها‬ ‫العضوية من حيث هي علاقة بما يدين به الإنسان إلى الطبيعة)‬ ‫‪ .2‬ومتواصلة بالكلمة البديل من الإشارة والمخفية لسلطة الروح (في علاج سد حاجاتها‬ ‫الروحية من حيث هي علاقة بما يدين به الإنسان إلى التاريخ)‪.‬‬ ‫ولم ألجأ إلى هذا المدخل لدراسة الرؤية الخلدونية التي تمكن من فهم تطور القيم بمقتضى تطور‬ ‫نحل العيش إلا لأني عفت ظاهرتين تكلمت فيهما عندما وصفت أثر كاريكاتور التحديث على‬ ‫الفلسفة وأثر كاريكاتور التأصيل على الدين‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪7‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فالفلسفة والدين صارا خاضعتين لموضة الشعارات الفلسفية المبتذلة في التقريب الجمهوري لأدعياء‬ ‫الحداثة وأدعياء الأصالة لكأنه بوسع الإنسان أن يميز بين الديني والفلسفي في تكوينية القيم‬ ‫وتطورها وهو ما اعتبره ممتنعا كما يتجلى ذلك من مفهوم \"نحلة العيش\"‪:‬‬ ‫• فأول تقريب جمهوري معينه ما يمكن أن يرد إلى ملح الماضي الإسلامي الذي جمدوه في‬ ‫شعارات مبتذلة‪.‬‬ ‫• وثاني تقريب جمهوري معينه ما يمكن ان يرد إلى ملح الحاضر الغربي الذي جمدوه في‬ ‫شعارات مبتذلة‪.‬‬ ‫ذلك أن النخب إلى الثقافة الشفوية تلقيا وبثا بفضل أدوات التواصل الاجتماعي الذي ألغى كل‬ ‫إمكانية للتأمل الفكري وتحصيل الزاد العلمي‪ .‬فإذا أضفنا إليهما كثرة كلام المتصارعين في ركح‬ ‫السياسة والاعلام حول دعوى أخلقة السياسة فإن السيل يبلغ الزبى‪.‬‬ ‫فهم يدعون تمثيل الأخلاق إما باسم الدين أو باسم الفلسفة في حين أن السلوك المسيطر يقدم‬ ‫الأدلة القاطعة على فقدان دلالتها الدينية والفلسفية لفقدان مرجعيتهما نبرة الصدق حتى‬ ‫حولهما النفاق إلى ربا الأقوال (خوار العجل) التابع لربا الأموال (معدن العجل)‪.‬‬ ‫وهذان النوعان من الربا هما علتا كل انحطاط تجليه الأبرز هو استعباد الإنسان الذي عم في كل‬ ‫مكان وهو معنى العولمة المادية المطلقة‪ .‬صحيح أن هذه العبارة الاستعارية ‪ -‬ربا الأقوال قياسا على‬ ‫ربا الأموال‪-‬ذات صلة بقصة العجل الذهبي وهي مستمدة من قصة قرآنية حول نشأة دين العجل‪.‬‬ ‫فهذه القصة وردت في لحظة فارقة في تاريخ الإنسانية تمثلت في محاولة التحرر من الشكل الأول‬ ‫من الأديان الطبيعية بأديان تصف نفسها بكونها أديان منزلة في علاقة بمحاولة تأسيس الحياة‬ ‫الإنسانية على قيم تحاول تحرير الإنسانية من مآل‪:‬‬ ‫• السلطة السياسية إلى سلطة معدن العجل فتكون وصية على الإنسان في شأنه الدنيوي‬ ‫ومسيطرة على شروط قيامه العضوي‬ ‫• السلطة الروحية إلى سلطة خوار العجل فتكون وسيطة بين الإنسان وشأنه الأخروي‬ ‫ومسيطرة على شروط قيامه الروحي‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪8‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وهتان السلطتان تعتمدان على هذين النوعين من الربا اللذين هما أداتا استعباد الإنسان بما‬ ‫أحدثتاه من انقلابين عرضهما القرآن الكريم في قصة موسى والتحرير من العبودية لسلطة الثقافة‬ ‫بعد التحرر من العبودية لسلطة الطبيعة‪.‬‬ ‫والمعلوم أن التحرر من سلطة الطبيعة رمزه نوح لأن ما حققه هو بداية التحرير من العبودية‬ ‫الطبيعية بثورة تقنية (صنع السفينة) وزراعية (اخذ زوجين اثنين من كل شيء لاستنباته)‪ .‬وقد‬ ‫بينت ذلك خلال شرح قول الرسول عن هود وأخواتهما وتشييبهما رأسه أعني شرح ثورة نوح‬ ‫وثورة موسى‪.‬‬ ‫وأدوات الاستعباد هي ما ثار عليه هود وصالح ولوط وشعيب‪ .‬لكن شرط التحرر منه يوجد بين‬ ‫الأولين والأخيرين أعني ثورة إبراهيم التي تحرر من هذه الأدوات بالثورة الجامعة بين‬ ‫الثورتين‪:‬‬ ‫ثورة نوح التي تخلص الإنسان من عبادة الطبيعة‪.‬‬ ‫وثورة موسى التي تخلص الإنسان من عبادة الثقافة‪.‬‬ ‫وهذه الثورة الإبراهيمية كما هو معلوم هي تحرير الإنسان من كل عبودية لغير الله أي من‬ ‫الوثنيتين اللتين ترمزان إلى‪:‬‬ ‫• استعباد كيان الإنسان العضوي بسلطان الطبيعة عليه وتأليه قواها‪.‬‬ ‫• واستعباد كيان الإنسان الروحي بسلطان التاريخ عليه وتأليه قواه‪.‬‬ ‫فثورة ابراهيم جامعة بين ثورة نوح لأنها ضد عبادة الأفلاك التي يرد إليها سلطان الطبيعة على‬ ‫الإنسان ومن آثارها الاعتقاد في إرادة أرباب السماء‬ ‫وثورة موسى لأنها ضد عبادة الدولة التي يرد إليها سلطان التاريخ على الإنسان ومن أثاره‬ ‫الاعتقاد في إرادة أرباب الأرض‪ .‬والتحرر الجامع تحرر من مثلجة الطبيعة ومثلجة التاريخ‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪9‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫قبل أن أواصل الكلام في اشكالية القيم وتطورها لا بد من الإشارة إلى مسألتين أولاهما‬ ‫تتعلق بما يبدو في المحاولة ذاتها من تناقض بين رفضي لما يسمى بالإعجاز العلمي وعرض‬ ‫استراتيجية القرآن في مسألة التكوينية القيمية بما يشبهه‪.‬‬ ‫وهي اشكالية أؤجل علاجها إلى ما بعد عرض النظرية الخلدونية حول تكوينية القيم‬ ‫لأن البداية في هذا الفصل الثاني تتعلق بنظرية ابن خلدون القيمية التي لها صلة‬ ‫باستراتيجية القرآن موضوع المسألة الأولى التي لا يمكن علاجها قبل بيان ما يبدو وكأنه‬ ‫من الاعجاز العلمي وهو ليس منه كما سأبين في الفصول الموالية‪.‬‬ ‫فابن خلدون يؤسس ضمه التاريخ إلى الفلسفة واعتبار الفلسفة نفسها تاريية بقلب‬ ‫العلاقة بين الطبيعة والتاريخ جاعلا من علمه \"علم العمران البشري والاجتماع الإنساني\"‬ ‫علما رئيسا (ارشيتاتكتونيك) هو ما بعد التاريخ الذي يشغل دور الميتافيزيقا في الفلسفة‬ ‫اليونانية‪.‬‬ ‫وهو يؤسس نظريته في تكوينية القيم كلها ‪-‬قيم التجربة الطبيعية والاقتصادية وقيم‬ ‫التجربة الروحية الثقافية وأصلها جميعا أي الرؤية الوجودية‪ -‬على مفهوم \"نحلة العيش\"‬ ‫من حيث هي حصيلة التوالج بين مفهومي الاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها القرآنيين‪.‬‬ ‫وهي حصيلة تمثل قطيعة مع النظرية الطبعانية التي تعتبر قوى النفس أساس القيم‬ ‫ومعادن البشر التي ترد القيم إلى الطبائع في الفلسفة اليونانية‪ .‬ومعنى ذلك أن ابن‬ ‫خلدون لم يجد علما حاصلا ثم بحث عما يناظره في القرآن بشرح ألفاظه ليثبت سبقا قرآنيا‬ ‫لأمر صار معلوما في علوم عصره أو قبله بل هو أبدع علما بالطريقة التي يقع بها الابداع‬ ‫العلمي‪.‬‬ ‫إنما هو خلال النقد المعرفي لعلوم عصره ‪-‬الفلسفة والتاريخ‪ -‬بحث في ما ينبغي البحث‬ ‫فيه لمعرفة موضوعه وإعادة النظر في ما كان يحول دون الاكتشاف الذي حققه‪ .‬فابن‬ ‫خلدون لم يستمد نظريته من شرح الفاظ القرآن فيكون بحثه‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪10‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وكأنه من جنس بحث أصحاب الاعجاز العلمي بل هو يستمدها من دراسة علمية لما صار‬ ‫عنده ما بعد التاريخ إذا قورن بعلاقته بالتاريخ المناظرة لعلاقة ما بعد الطبيعة بالطبيعة‪.‬‬ ‫وذلك هو العلم الذي سماه \"علم العمران البشري والاجتماع الإنساني\"‪.‬‬ ‫فهو يرفض رد القيم‪-‬التي يسميها معاني الإنسانية‪ -‬إلى معادن البشر من حيث هي طبائع‬ ‫دون أن ينفي أن للطبائع دورا‪ .‬ورؤيته تختلف بهذا كليا عن رؤية فلاسفة اليونان‪ .‬فلكأنه‬ ‫أدرك أن الطبيعة نفسها‪-‬سواء التي في الإنسان أو التي خارجه‪ -‬ليست ثابتة بل هي في‬ ‫صيرورة متساوقة مع الإنسان نفسه أو مع ما بينها وبين الإنسان من تفاعل في الاتجاهين‪.‬‬ ‫صحيح أن أرسطو قد عدل رؤية المعادن وقوى النفس الثلاث بعض التعديل بالكلام على‬ ‫الطبيعة الثانية التي تنتج عن العادات والتربية‪ .‬لكن تطور العلاقة بين الطبيعة والإنسان‬ ‫بقيت خاضعة لقوى النفس الثلاثة‪ .‬فلكأنها علاقة طبيعة خارجية بطبيعة داخلية دون أن‬ ‫يكون لهذه العلاقة في الاتجاهين دور يذكر وهو ما يعني أنها ليست تاريية أصلا‪.‬‬ ‫لكن ابن خلدون الذي اكتشف فلسفة ما بعد التاريخ التي قدمها على فلسفة ما بعد‬ ‫الطبيعة اعتبر تبادل التأثير بين الإنسان والطبيعة هو العامل الأساسي في فهم مسار القيم‬ ‫وتكوينيتها فردها إلى ما يترتب على هذه العلاقة من نحل العيش الذي يمكن اعتباره أهم‬ ‫نظرية في تأسيس فلسفة التاريخ المتحررة من الطبعانية اليونانية‪.‬‬ ‫وقد رد العلاقة بين الإنسان والطبيعة إلى خمسة أبعاد استعملها في الباب الأول من‬ ‫المقدمة دون أن يسميها فسميتها بدلا منه أحياز الوجود وهي تتألف من‪:‬‬ ‫‪ .1‬عامل الجغرافيا وما توفره من شروط قيام الإنسان العضوي التي تتحول‬ ‫بالتدريج من دور الطبيعة في انتاجها إلى دور الإنسان فيه‪.‬‬ ‫‪ .2‬عامل التاريخ وما يحققه من شروط قيام الإنسان الروحي الذي يتحول بالتدريج‬ ‫من دور الجماعة في انتاجها إلى دور الإنسان فيه‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪11‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .3‬أثر العامل الجغرافي في العامل التاريي الناتج عن أثر البقاء في نفس المكان‬ ‫والتواصل من تراث مشترك‪ :‬علاقة التراث المشترك بالفروق الفردية في الفعل فيه‬ ‫والانفعال به لكأنه حيز جديد مختلف عن المكان والزمان‪.‬‬ ‫‪ .4‬أثر العامل التاريي في العامل الجغرافي الناتج عن أثر البقاء في نفس الزمان‬ ‫والتبادل من ثروة مشتركة‪ :‬علاقة الثروة المشتركة بالفروق الفردية في الفعل فيها‬ ‫والانفعال بها لكأنه حيز جديد مختلف عن المكان والزمان‪.‬‬ ‫‪ .5‬رؤية الجماعة للعالم ولذاتها الغالبة والناتجة عن العاملين الثالث والرابع‬ ‫بوصفهما عملية جارية بين البشر حول علاقتهم بالمكان والزمان هي التي تحصل من هذين‬ ‫التفاعلين بين شروط قيام الإنسان العضوي ودوره فيها وشروط قيامه الروحي ودوره فيها‪.‬‬ ‫وهي رؤية في الأذهان ونحلة عيش في الأعيان‪.‬‬ ‫وتلك هي الهوية المشتركة بين أفراد الجماعة وهي في آن مشتركات عضوية (التقارب في‬ ‫المميزات العضوية البدنية لأفراد الجماعة (بسبب التبادل والتزاوج الممتد بين جماعاتها‬ ‫الدنيا) وروحية (التقارب في المميزات الروحية الفكرية لأفراد الجماعة بسبب التواصل‬ ‫والتحاور بين جماعاتها الدنيا)‬ ‫تتجلي في حصيلة ديموغرافية وحضارية يعتبر ابن خلدون تكوينيتها ذات حدين هما‬ ‫أقصى البداوة بداية وأقصى الحضارة غاية وما بينهما من مسار التحضر والتبدي المتداولين‬ ‫في تاريخ الجماعات وفي تاريخ الإنسانية‪.‬‬ ‫لذلك فلا يمكن مواصلة الكلام على إشكالية القيم وتكوينية تطورها بمقتضى مفهوم ابن‬ ‫خلدون لما سماه \"نحلة العيش\" أساس نظريته في علم مسار تطورها من دون الاقدام على‬ ‫افتراض نوع من المقدرات الذهنية العملية تكون بالقياس إليها عالم القيمة العملية في‬ ‫التاريخ ما تمثله المقدرات الذهنية النظرية بالقياس إلى عالم المعرفة العلمية في الطبيعة‪:‬‬ ‫‪ .1‬فالمقدرات الذهنية العملية شرط لفهم مسار التطور القيمي في العلوم الإنسانية‬ ‫واكتشاف سننه‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪12‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .2‬والمقدرات الذهنية النظرية شرط لفهم مسار التطور المعرفي في العلوم الطبيعية‬ ‫واكتشاف قوانينه‪.‬‬ ‫ولما كانت العلوم الإنسانية تدرس الإنسان من حيث علاقة بعديه الطبيعي والثقافي فإنها‬ ‫تحتوي على القوانين الطبيعية والسنن القيمية وتفاعلهما في الاتجاهين‪ .‬وذلك هو سر‬ ‫عسرها لأن الإنسان ليس كيانا قائما بمعزل عن علاقته بالطبيعة وبما يترتب عليها من‬ ‫اكتشاف ذاته‪.‬‬ ‫ولا بد أن تكون العلوم الطبيعية أيضا دارسة لعلاقة بعدها الطبيعي (من حيث هي‬ ‫موضوع) وبعدها الثقافي (من حيث هي في علاقة برؤى البشر لها) فينبغي أن تكون كذلك‬ ‫ذات صلة بالسنن القيمية وتفاعلها مع القوانين الطبيعية وتفاعلهما في الاتجاهين ومن ثم‬ ‫فهي ستصبح فرعا عن العلوم الإنسانية‪.‬‬ ‫وإذن فالمقدرات الذهنية العملية تحدد مسار القيم التي هي سنن تحديد المقدرات‬ ‫الذهنية النظرية مسار الوقائع التي هي قوانين ومن ثم فالتطور القيمي والتطور المعرفي‬ ‫متناسبان دائما ومتفاعلان والاحتكام في ما يستمد منهما نموذجا لفهم الطبيعة ولفهم التاريخ‬ ‫يعني أن للإنسانية نوعين من التجربة التي تحتكم اليهما هما‪:‬‬ ‫‪ .1‬الاحتكام للتجربة الثقافية لانتخاب الفرضيات حول تطور السنن التاريية وهي‬ ‫تجارب روحية بالأساس‪ .‬والعيب الأساسي في الفكر الماركسي على الأقل في شكله المنحط عند‬ ‫نخب العرب هو ما أدت إليه من حمق الموقف من ذروة هذه التجارب أعني الأديان‪ .‬وهو‬ ‫سر تخلفها بالقياس إلى الروحانية الهيجلية‪.‬‬ ‫‪ .2‬ولو لم يبالغ هيجل في القول بالمطابقة المعرفية في نقده للإبستمولوجيا الكنطية‬ ‫نقدا ينتهي في الغاية إلى رد التاريخ الروحي إلى التاريخ الطبيعي لكأنه داروينية‬ ‫حضارية لكان قريبا من الحل الخلدوني الذي اعتبره الحل الأتم لنظرية تطور القيم خلال‬ ‫مسارها التاريي الذي لا يتوقف والذي يتنافى مع خرافة العلم المطلق والدين والمطلق‬ ‫ونهاية التاريخ‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪13‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .3‬الاحتكام للتجربة الطبيعية لانتخاب الفرضيات حول تطور القوانين الطبيعية‬ ‫وهي تجارب مادية بالأساس آلت إلى الفكر الوضعي الذي يعتبر الطبيعة قابلة للرد إلى‬ ‫علاقات آلية يقصرها على ما جربه منها مطلقا تجاربه رغم علمه بأنها هي بدورها ليست‬ ‫ثابتة بل متغيرة بتغير أدوات التجريب والإدراك العلمي‪.‬‬ ‫‪ .4‬والعيب الأساسي فيه على الأقل في شكله المنحط عند نخب العرب هو ما أدت إليه‬ ‫من حمق الموقف من ذروة هذه التجارب أعني العلوم‪ .‬وهو سر تخلفها بالقياس إلى النسبوية‬ ‫العلمية‪.‬‬ ‫ولو لم يبالغ الوضعيون في القول بالمطابقة القيمية في نقدها للأكسيولوجيا الكنطية لما‬ ‫انتهى نقدها في الغاية إلى رد التاريخ الروحي إلى التاريخ المادي فصار العلم يعرف بكونه‬ ‫مشروطا بالخلو من القيم والاقتصار على الحقائق لكأن الحقيقة ليست هي بدورها قيمة‬ ‫متغيرة مثلها مثل غيرها من القيم‪.‬‬ ‫‪ .5‬وكلا العيبين يؤديان إلى التنافي بين التجربتين وبن الأبستمولوجي والاكسيولوجي‬ ‫في حين أن التطور فيهما علته ما بينهما من علاقات هي عينها علاقة الإنساني بالطبيعي كما‬ ‫حددناهما في مقومات الاحياز الخارجية والداخلية‪.‬‬ ‫فالإنسان هو بدوره مؤلف من كيانه العضوي وكيانه الروحي وأثر الأول في الثاني وأثر‬ ‫الثاني في الأول والحصيلة وفي ذلك تناظر مع الأحياز الخارجية التي أشرنا إليها في بداية‬ ‫هذا الفصل‪:‬‬ ‫‪ .1‬فالتجارب الروحية تتعلق برؤية الإنسان لمحيطه من خلال رؤيته لذاته وكيانه‬ ‫الروحي‪.‬‬ ‫‪ .2‬والتجارب المادية تتعلق برؤية لذاته من خلال رؤيته لمحطيه‪ .‬الطبيعي وكيانه‬ ‫العضوي‪.‬‬ ‫وهذه العلاقات هي عناصر المعادلة الوجودية التي تضيف إليها ما وراء ترد إليه القوانين‬ ‫والسنن أو كون الأمور هي على ما هي عليه دون أن يكون لوجودها أولا ولكونها على ما هي‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪14‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫عليه تعليل عدى كونها أمرا واقعا لا شيء يعللهما أو ينفيهما‪ .‬فلا وجود لجواب عن سؤالي‬ ‫الإنسان من حيث هو قادر على التوجيه‪:‬‬ ‫‪ .1‬لماذا يوجد شيء بدل لا شيء؟‬ ‫‪ .2‬لماذا ما يوجد بالشكل الذي هو عليه؟‬ ‫‪ .3‬وكيف للإنسان أن يكون قادرا على السؤال الاول أي تصور الوجود مجرد ممكن‬ ‫وبديله العدم؟‬ ‫‪ .4‬وكيف للإنسان أن يكون قادرا على السؤال الثاني أي تصور كيف الموجود مجرد‬ ‫ممكن وليس ضروريا؟‬ ‫‪ .5‬فيكون اللغز ليس السؤالين الأول والثاني بل الثالث والرابع وهما اللغز الإنساني‬ ‫الذي يتمثل في قدرة التوجيه ما يعني أنه ليس غارقا في عالم الشهادة بل هو متعال عليه‬ ‫يستطيع أن يطفو فوقه ليسائله ويسائل نفسه عن وجودها وعدمها وعن وجود عالمها وعدمه‬ ‫وعن كيف الوجودين والعدمين‪.‬‬ ‫والدراسة ليست في فلسفة الدين ولا في فلسفة التاريخ بل هي في فلسفة اجتماع القيم‬ ‫الإنساني‪ .‬وقد اخترت عبارة \"اجتماع القيم الإنساني\" في دلالتها الخلدونية التي تجعلها‬ ‫مستوى ثانيا من تاريخ الإنسانية ذا صلة بمستواه الأول الذي يسميه \"العمران البشري\"‪.‬‬ ‫وهما جزءا اسم علمه \"علم العمران البشري والاجتماع الإنساني‪.‬‬ ‫وهو يجمع بينهما بمفهوم من ابداعه‪\"-‬نحلة العيش\" يحرر من الفلسفة العملية اليونانية‬ ‫المبنية على فلسفة الطبيعة (قوى النفس الثلاث أي العقل والغضب والشهوة) بفلسفة‬ ‫عملية عربية مبنية على فلسفة التاريخ‪ .‬فنحلة العيش هي حصيلة التفاعل بين الطبيعة‬ ‫والثقافة او العلاقة بين العمران البشري والاجتماع الإنساني‪:‬‬ ‫والأول علاقة بين البشر والطبيعة (للتعاون والتبادل لسد الحاجات العضوية رعاية‬ ‫وحماية)‪ .‬لكنه مستحيل من دون التواصل بين البشر أولا لتنظيم التعاون والثاني لحماية‬ ‫التبادل بالتعاوض العادل‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪15‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫والثاني علاقة بين البشر في ما بينهم وفي ما بينهم وبين علاقتهم بالطبيعة ولا معنى‬ ‫للعلاقات التواصلية بين البشر إذا غاب التبادل والتعاوض لأن العلاقات الروحية هي قيم‬ ‫بذاتها وبدورها في التعاوض العادل‪.‬‬ ‫ونحلة العيش هي ما يترتب على علاقة العلاقة بالطبيعة بالعلاقة بالثقافة ثم ما يترتب‬ ‫على العلاقة بأثر العلاقة الأولى في العلاقة الثانية ثم ما يترتب على العلاقة بأثر العلاقة‬ ‫الثانية بالعلاقة الأولى وهي إذن حصيلة هذا المربع الذي لا يبقى فيه أي امكانية للفصل‬ ‫بين الطبيعي والثقافي وبين التبادلي والتواصلي‪.‬‬ ‫وعندما يحصل الفصل بينهما يكون سلطان الطبيعي في مستواه الأدنى أي خضوع الإنسان‬ ‫لقوانين الضرورة كما في الحرب مثلا ويكون سلطان الثقافة في مستواه الادنى أي خضوع‬ ‫الإنسان الاضعف للإنسان الاقوى وهي كذلك قوانين الضرورة والمعنى العميق للعبودية‬ ‫لغير الله وللوثنية الثقافية‪.‬‬ ‫وقد بينت أن سورة هود تعرض هذين النوعين من العبودية وتعتبر ثورة نوح للتحرير‬ ‫من العبودية للطبيعة (عنصر كل حي‪ :‬الطوفان) وثورة موسى للتحرير من العبودية‬ ‫للثقافة (ثقافة الدولة الفرعونية)‪:‬‬ ‫‪ .1‬والثورة الأولى صناعية لما يمكن الإنسان من السلطان على قوة الماء أو الطوفان‬ ‫(السفينة) واستزراع ما يستمده الإنسان من الطبيعة لقيامه العضوي وزراعية لما يمكن‬ ‫الإنسان من انتاج ما تنتجه الطبيعة بالانتقال إلى الزراعة‪.‬‬ ‫‪ .2‬والثورة الثانية سياسية لما يمكن الإنسان من السلطان على الدولة برمزي قوتها‬ ‫العنف المادي والعنف الرمزي أي بجيش فرعون وعلمائه‪ .‬لذلك كانت ثورة موسى على‬ ‫ثانيهما في مصر ثم على أولهما خلال الهجرة‪ .‬وكان موسى بحاجة إلى المعجزة (العصا) وإلى‬ ‫بلاغة الخطاب (اخوه)‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪16‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لكن ما بين الثورة الأولى والثورة الثانية كان لا بد من بيان الوسائط بين العبوديتين‬ ‫العبودية للطبيعة والعبودية للثقافة‪ .‬والوسائط أربعة اثنان مضاعفان يعالجان ما يعوق‬ ‫ثورة نوح‪:‬‬ ‫‪ .1‬ثورة هود‪ :‬ضد المستحوذين على الثروة أي المانعين لتوزيع الثروة‪.‬‬ ‫‪ .2‬ثورة صالح‪ :‬ضد المستحوذين على الماء أي المانعين لتوزيع الماء بعد‪.‬‬ ‫واثنان مضاعفان يعالجان ما يعوق ثورة موسى‪:‬‬ ‫‪ .1‬ثورة لوط‪ :‬ضد الحائلين دون تواصل النوع بالمثلية الجنسية (بدل قتل الأطفال‬ ‫في قصة موسى)‪.‬‬ ‫‪ .2‬ثورة شعيب‪ :‬ضد الحائلين دون شروط التبادل العادل بالتطفيف (الموازين‬ ‫والمكاييل)‪.‬‬ ‫وبين الحائلين الأولين والحائلين الثانيين نجد ثورة ابراهيم عليه السلام وهي ذات‬ ‫مضمونين أحدهما يشير إلى ثورته في الأذهان والثانية يشير إلى محققها في الأعيان وهو‬ ‫الرسول الخاتم الذي يمكن اعتباره ابراهيم الثاني وبه بشر الملائكة ابراهيم الأول لأن‬ ‫الابن المشار إليه في هود ليس اسحق ولا اسماعيل بل هو رمز يشير إلى ابن روحي إذ إن‬ ‫الخبر تعلق بلحظة لم يعد فيها لا ابراهيم ولا زوجته قادرين على الانجاب العضوي‪:‬‬ ‫‪ .1‬الأول هو ابراهيم الأول ممثل أصل الثورتين في الأذهان أي التحرر من الطبيعة‬ ‫(الافول) ومن الثقافة (الأوثان)‪ :‬فهي مستحيلة من دون رب فوق الجميع يحرر من‬ ‫العبوديتين للطبيعة والثقافة (ورمزها الكلام على الأفول وفي الاوثان)‪.‬‬ ‫‪ .2‬الثاني هو ممثل محمد ممثل أصل الثورتين في الاعيان‪ :‬فهي مستحيلة من دون أن‬ ‫يصبح الرسول الخاتم محققا لما كان يوجد في ذهن ابراهيم في العلاقة بالثورتين إلى ما في‬ ‫يوجد عين التاريخ في تحقيقهما الفعلي أي في دولة كونية تجمع كل البشر وتلغي العبوديتين‬ ‫بحل مشكل توزيع الثروة وشروطه ومشكل الحياة بحماية شرط وجودها (الماء) وبقائها‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪17‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫(الجنس) وشروط التبادل العادل (المكاييل والموازين) لأن عدمه هو علة الصراعات بين‬ ‫البشر‪.‬‬ ‫وبذلك يتبين أن القرآن قد أشار إلى هذه الاستراتيجية التي هي في آن منطق التكوينية‬ ‫القيمية في التاريخ الإنساني الكوني كما يعرضها القرآن‪ .‬لذلك ففصلت أشارت إلى وجوب‬ ‫البحث في ما يريه الله للإنسان في الآفاق وفي الأنفس من آياته لتكون أصلا لتبين أنه حق‪:‬‬ ‫‪ .1‬فإذا فهمنا من الآفاق الاحياز الخارجية أي الجغرافيا والتاريخ وأثر الأولى في‬ ‫الثاني أو التراث وأثر الثاني في الاولى أو الثورة وما يوحد بينها أربعتها أي هوية الحضارة‬ ‫المعينة علمنا أن الامر كله يتعلق باستراتيجية علاقة الجماعة والأفراد بهذه العوامل في‬ ‫مدلولها الخارجي وهي التي يستمد منها القرآن كل استدلالاته على فلسفته الدينية‬ ‫والتاريية‪.‬‬ ‫‪ .2‬وإذا فهما من الأنفس الأحياز الذاتية أي كيان الإنسان العضوي وكيانه الروحي‬ ‫وأثر الاول في الثاني أي أثر حاجات البدن في حاجات الروح (نظير التراث) وأثر الثاني‬ ‫في الأول أي أثر حاجات الروح في البدن (نظير الثروة) ووحدة كيان الإنسان نظير أي‬ ‫ذاته (نظير الحضارة المعينة) علمنا أن الأمر كله يتعلق باستراتيجية علاقة الجماعة‬ ‫والأفراد بهذه العوامل في مدلولها الداخلي‪.‬‬ ‫تلك هي المعادلة الوجودية التي سبق أن شرحتها عديد المرات بصورة نسقية ويكفي‬ ‫الإحالة على تلك المحاولات السابقة لتكون منطلقا لفهم القصد بها في بعديها المتعلق‬ ‫بالإنسان من حيث هو مستعمر في الأرض أي مكلف بتعميرها ومن حيث هو مستخلف فيها أي‬ ‫مكلف بقوامة التعمير التي تخضع للقيم والتي يقدم القرآن وصفا لما يمكن أن يصيبها من‬ ‫أمراض وما يمكن أن يقيها بدارا ويعالجها تداركا‪:‬‬ ‫‪ .1‬والامراض كلها تعود إلى دين العجل أي عبادة معدن العجل وخواره‪ .‬والأول هو‬ ‫ربا الأموال والثاني هو ربا الأقوال‪ .‬والعلاج هو تحرير الإنسانية من نوعي الربا‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪18‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .2‬والعلاج وقاية وتداركا هو عين الانتقال من ثورة ابراهيم في الأذهان إلى ثورة‬ ‫محمد في الاعيان‪:‬‬ ‫• بإصلاح التربية لتحرير الإنسان من الوساطة أي عنف التربية التي تفسد معاني‬ ‫الإنسانية فلا يبقي فيه القدرة على التعمير لا القدرة البدنية (الجهد العملي المنتج) ولا‬ ‫القدرة الروحية (الجهد الفكري المبدع) فلا يعمر الأرض أي إنه يهمل شروط حريته‬ ‫المادية‪ :‬الكنسية الدينية والكنسية العلمانية (الحزب الشيوعي كنيسة معلمنة)‪.‬‬ ‫• وإصلاح الحكم لتحرير الإنسان من الوصاية أي عنف الحكم الذي يفسد معاني‬ ‫الإنسانية فلا يبقي فيه القدرة على الاستخلاف لا القدرة البدنية (حماية الذات) ولا‬ ‫القدرة الروحية (حماية القيم) فلا يكون خليفة حرا بل يصبح عابدا لعبد بخلاف ما أمر‬ ‫به القرآن في الشورى ‪ 38‬حيث يكون الامر أمر الجماعة (جمهورية) تديره بشوراها‬ ‫(ديموقراطية) من لأنها مستخلفة (مستجيبة لربها) للتحرر من الحرب على الرزق‬ ‫(الانفاق من الرزق)‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪19‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫قد يقع الخلط بين ما استنتجه مما يقوله القرآن عن ذاته من حيث هو تذكير بما ينساه الإنسان‬ ‫من \"معرفة\" و\"تقييم\" كامنين في كيانه العضوي والروحي وما يترتب على التذكر الحاصل بينهما‬ ‫وبين ما يسمى اعجازا علميا‪.‬‬ ‫لذلك فلا بد من أن أعود مرة أخرى لقضية الاعجاز العلمي الذي انفيه جملة وتفصيلا لبيان أن‬ ‫ما أتكلم عليه في القرآن لا علاقة له به‪.‬‬ ‫فلا بد إذن من أن أحدد طبيعة المضمون الذي يتضمنه القرآن خاصة بعد أن أرجعته إلى أبعاد‬ ‫الرسالة الخمسة‬ ‫أو بكلمة واحدة إلى ما يقوله القرآن عن نفسه بوصفه رسالة تذكير هدفها تمكين الإنسان من‬ ‫تذكر ما فيه من شروط قيامه العضوي والروحي‪.‬‬ ‫فمن دون ذلك لا يمكنه تحقيق مهمتيه في عالمه الشاهد المتصل بعالمه الغيبي أي إن الإنسان يعلم‬ ‫أنه لا يقوم من دون‪:‬‬ ‫‪ .1‬مهمة استعماره في الأرض (فالإنسان يفنى من دون انتاج معين حياته)‬ ‫‪ .2‬ومن استخلافه فيها (والانسان لا يستطيع انتاجه من دون جماعة منظمة سياسيا)‪.‬‬ ‫وما يذكره به القرآن يتعلق بهذه الإشكالية ببعديها العضوي (التعمير) والروحي (الاستخلاف)‬ ‫وذلك هو مضمون الرسالة من وجوهها الخمسة التالية‪:‬‬ ‫‪ .1‬بالمرسل أي الله للتذكير بكل ما يتعلق به مرسوما في كيان الإنسان‪.‬‬ ‫‪ .2‬بالمرسل إليه أي الإنسان للتذكير بكل ما يتعلق به مرسوما في كيانه‪.‬‬ ‫‪ .3‬بالرسول أي المكلف بتبليغ الرسالة والذي هو ليس وسيطا ولا وصيا على المرسل إليه لأن‬ ‫العلاقة بين المرسل والمرسل إليه مباشرة والوساطة هي مضمون الرسالة أي ما يذكر به‬ ‫الرسول‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪20‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .4‬بمنهج التبليغ الذي يصل سياسة عالم الشهادة بسياسة الوجود كله شاهده وغيبه‪ :‬وهذه‬ ‫الوصلة هي عين ما هو مرسوم في كيان الإنسان العضوي والروحي أي ما فطر عليه ولا‬ ‫يستطيع الهروب منه حتى وإن نسيه‪.‬‬ ‫‪ .5‬بمضمون الرسالة من حيث هو وصل بين السياستين وما تتطلبانه مما يناسب أفعال الإنسان‬ ‫الخمسة‪ :‬وهي عين ما في كيانه العضوي وكيانه الروحي وما في عالمه الشاهد من تناسب بين‬ ‫كيانيهما لأن ما هو عضوي في الإنسان هو ما هو طبيعي في عالمه الشاهد وما هو روحي في‬ ‫كيانه هو ما هو تاريي في عالمه الشاهد‪.‬‬ ‫وأربعتها ذات صلة بما وراء هو ما إليه يرد تعليل وجود هذه الكيانات بوصفه غيبا ما وراء لها‬ ‫جعلها تكون على ما هي عليه‬ ‫على الأقل في تصور الإنسان لها سواء آمن بالغيب أو لم يؤمن لأنه من دون لا يستطيع أن يجيب‬ ‫عن سؤال لماذا يوجد شيء بدل لا شيء ولماذا ما يوجد بالكيف الذي هو عليه‪.‬‬ ‫المشكل الذي يعالجه القرآن هو إذن المشكل الخامس الذي تتفرع عنه المشاكل الاربعة المتقدمة‬ ‫عليه هو مضمون الرسالة وتعلقها بذاتها من حيث هي تذكير بأفعال الإنسان الخمسة وشروطها في‬ ‫علاقة بأفعال هذا الماوراء الخمسة‬ ‫أي أفعال الله عند المؤمن أو أي مبدأ آخر عند غير المؤمن الافعال التي ترد إلى فعلين يعتبران‬ ‫الحل الوحيد للجواب عن هذين السؤالين الوجوديين اللذين لا يمكن للإنسان أن يهنأ من دون‬ ‫الحسم فيهما بالإيمان أو بالكفران‪:‬‬ ‫‪ .1‬فعل الخلق جوابا عن سؤال لما يوجد شيء بدل لا شيء‪.‬‬ ‫‪ .2‬وفعل الأمر جوابا عن سؤال لماذا يوجد على ما هو عليه‪.‬‬ ‫فتكون الأفعال الإلهية عند المؤمن‪-‬أو الاتفاقية بنظرية الطبائع عند الملحد‪-‬معبرا عنها في القرآن‬ ‫بما يمكن أن يكون في تجهيز الإنسان العضوي والروحي فيفهمه إذا قاسها بأفعاله‬ ‫مع وعيه بأنها ليس كمثلها شيء‪ ،‬ومن ثم فهي لا تقاس على أفعال الإنسان وإنما ما يقاس عليها هو‬ ‫قدرة الإنسان على تصورها بالقياس إلى ذاته مع العلم باستحالة التطابق بين الذاتين‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪21‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وحتى يتضح الأمر بدقة فإن نظرية الانفجار الكبير مثلا ‪-‬بديلا من الخلق والامر‪ -‬ليست بديلا‬ ‫عن سؤالي الوجود لم هو موجود ولم هو موجود بالصورة التي هو عليها إلا لأنها تفترض الجواب‬ ‫الذي تظن بديلا منه‪.‬‬ ‫فهي تقدم جوابا عن كون الموجود لم يكن ثم أصبح وأن الموجود كان وحدة تفتت تفتتا يقتضي أن‬ ‫في الوحدة الأصلية ما يجعل التفتت يؤدي إلى ما عليه العالم الطبيعي‪.‬‬ ‫ومن ثم فهي تفترض أن الإيجاد حتى الطبيعي يقتضي أن يكون بديلا من العدم السابق وأن‬ ‫يكون فيه ما يجعله لا يبقى فوضى بل حتى لو فرضناه ثمرة الصدف المتوالية فإن فيه نظاما لا‬ ‫يمكن أن يكون في آن صدفيا وغائيا في آن‪.‬‬ ‫على الاقل من حيث التناسب بين ما فيه وما في الإنسان من صلة به من حيث تحقق شروط كيانه‬ ‫العضوي الطبيعية وكيانه الروحي التاريية‪.‬‬ ‫ومعنى ذلك أن ما أقدمه ليس علما بالغيب لأن القرآن لا يمكن أن يتضمن أكثر من الاعلام‬ ‫بوجوده وهذا أمر يفهمه الإنسان لكنه لا يتضمن محتواه لأن القرآن ينفي قدرة الإنسان‪-‬بمن في‬ ‫ذلك الانبياء‪-‬على معرفته‪.‬‬ ‫فلا يعقل إذن أن يرسل رسالة مضمونها لا يفهمه المرسل الإليه‪ .‬لذلك فهو لا يتضمن إلا التذكير‬ ‫بما يعلمه الإنسان ونساه بخصوص الأبعاد الخمسة وخاصة ذاته ودوره في الوجود وتجهيزه للقيام‬ ‫به على أحسن وجه فرديا وجماعيا‬ ‫فيكون ذلك صالحا بصورة كونية لكل زمان ومكان لأن الأمر فيها لا يتعلق بأعيان المضمون بل‬ ‫بمفهومه بالمعنى المنطقي للتصور (مضمون وما صدق)‪.‬‬ ‫والإنسان يعلم أن الغيب موجود لكنه لا يعلم مضمونه‪ .‬فأما علمه بوجود الغيب فدلالته هي أنه‬ ‫يعلم أن ما يعمله من الوجود لا يساوي شيئا إذا قيس بما يجهله‪ .‬ولا يوجد عاقل يزعم أن لا يجهل‬ ‫ما لا يعلم‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪22‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ومن يزعم أن يعلم كل شيء فهو حتما متاله بالمعنى الخلدوني أي الحاكم الطاغية الذي يزعم أن‬ ‫يقدر على كل شيء (قصة ابراهيم)‬ ‫أو العالم الذي يزعم أنه يعلم الغافل الذي يزعم أنه يعلم كل شيء وهو في كل لحظة محاط بما‬ ‫لا يتناهى من الممكنات التي لا يمكن توقعها حتى في حياته العادية‪.‬‬ ‫ويبقى مشكل عويص يمكن فهمه إذا فهمنا القصد بالمقدرات الذهنية مخن حيث هي نظام يتكلم‬ ‫على متغيرات مجردة ثابتة تتعين في قيم للمتغيرات لا حد لها فتكون القضية وكأننا أمام مفهومات‬ ‫كلية ثابتة وماصدقات عينية متغيرة‪.‬‬ ‫وتلك هي قيم تلك المفهومات بلغة العلاقة بين المتغير وقيمه مطبقة على المفهوم الكلي وماصدقه‬ ‫العيني‪ .‬فالمتغير هو الماصدق وهو زماني ومكاني لكن المفهوم ثابت لا يتغير‪.‬‬ ‫وهذا هو الحل الذي يمكن من فهم طبيعة ما في القرآن من خطاب لا علاقة له بالعلم المضموني وهو‬ ‫ذو صلة بالماصدقات بل هو علم يتعلق المفهومات الشكلية‪.‬‬ ‫أي بما وراء الزماني والمكاني في الطبيعة وفي التاريخ وخاصة بشروط العلم والعمل البنيوية أي‬ ‫التي هي عين كيانه العضوي والروحي‬ ‫وهي شروط لا يمكن أن تأتي للإنسان من خارجه لأنها مرسومة في كيانه العضوي والروحي‪.‬‬ ‫والرسول لا يقدم علما بها متغيرا في الزمان والمكان لأنها عين المرسوم في كيان الإنسان وعين‬ ‫التجهيز الذي يمكنه من تحقيق وظيفتيه أي الاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها‪.‬‬ ‫وقبل أن اعالج هذه القضية لتحديد طبيعة الخطاب الوارد في القرآن واختلافه الجوهري عن‬ ‫العلم بمعناه الدقيق أي قوانين الطبيعة وسنن التاريخ التي هي في صلة بالمضامين العينية‬ ‫ومقاديرها وكيفياتها والتي لا تتعلق بها ابعاد الرسالة الخمسة إلا من حيث شكلها البنيوي‬ ‫لا بد من البدء بتحليل طبيعة المضمون الذي يبلغه الرسول والذي يسميه القرآن بالتذكير‬ ‫وطبيعة ما يتم التذكير به وما ينبغي أن يتوفر ليفهم المرسل إليه الرسالة والاحتكام إلى ما تشير‬ ‫إليه ليدرك الفهم المصيب‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪23‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وهذا التجهيز يتعلق بالأفعال الخمسة من حيث هي شروط التفاعل بين الإنسان ومحيطه الطبيعي‬ ‫والتاريي اللذين يستمد منهما قيامه العضوي والروحي والتي هي‪:‬‬ ‫‪ .1‬الإنسان مجهز بالقدرة على الإرادة‪ :‬لا يوجد إنسان ليس له وعي بأنه مريد‪.‬‬ ‫‪ .2‬الإنسان مجهز بالقدرة على الرؤية لا يوجد إنسان ليس له وعي بأن له رؤية لذاته‬ ‫وللوجود من حوله‪.‬‬ ‫‪ .3‬الإنسان مجهز بالقدرة على المعرفة لا يوجد إنسان ليس القدرة على المعرفة الحسية وما‬ ‫يبنيه عليها عقليا‪.‬‬ ‫‪ .4‬الإنسان مجهز بالقدرة على الذوق لا يوجد إنسان ليس له القدرة على التقييم الذوقي بكل‬ ‫معاني الذوق‪.‬‬ ‫‪ .5‬وهذه هي أبعاد قدرته ومقوماته لا يوجد إنسان يمكنه تصور ذاته والوعي بها بغير وحدة‬ ‫هذه الأبعاد الأربعة لتحقيق مهمتيه في عالم الشهادة‬ ‫إما بوصفه بعالم الغيب إن آمن به لئلا يتأله أو بعدم وصله والاقتصار عليه فيتأله بالمعنى‬ ‫الخلدوني الذي سبق فعرضته في بحث صدر في محاضرات بين الحكمة لسنة ‪2019-2018‬‬ ‫ص‪ 82-57.‬ولعدم التأله علامتان‪:‬‬ ‫‪ .1‬الوعي بمحدودية الأفعال الإنسانية الخمسة ولكن خاصة فعل الإرادة وأثرها في تحريف‬ ‫النظر والعلم وفعل الرؤية وأثرها في تحريف العمل والذوق وهما اثران يتأسس عليهما‬ ‫التأله‪.‬‬ ‫‪ .2‬التسليم باستحالة الجواب عن سؤالي الفكر الإنساني أي سؤال الوجود بدل العدم وسؤال‬ ‫كيف الوجود المحدد‪ .‬والأول يتعلق بالوجود أي وجوده بدل عدمه والثاني يتعلق بكيفه‬ ‫الحاصل من الممكن اللامتناهي‪.‬‬ ‫وهذان العلامتان هما المشترك الفعلي أو الواحد الحقيقي في سبيلي فهم هذه الإشكالية الفلسفي‬ ‫والديني‪ .‬ولهذه العلة ففي القرآن كل نبي تكون دعوته في علاقة مباشرة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪24‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫بمن وصلوا إلى ما يذكر به بعقولهم وليس بالوحي وهم أول القابلين برسالته والمساندين له عن‬ ‫قناعة ذاتية لكأنهم وجدوا فيه نطاقا باسم ما توصلوا إليه‪.‬‬ ‫ومعنى ذلك بمقارنة مع الافلاطونية فإن الذي ياطب المسجونين في الكهف ليس الرسول وحده بل‬ ‫كل الذين تذكروا بأنفسهم وقبلوا التذكير الرسولي‪.‬‬ ‫لأنهم وجدوا فيه ما اقتنعوا به بذواتهم بالاعتماد على ما اعتمده الرسول من أدلة حول هذه‬ ‫العلاقة بين السياستين سياسة عالم الشهادة وسياسة غالم الغيب‪.‬‬ ‫والقصد بعالم الغيب هو ما تشير إليه هذان العلامتان اللتان تمثلان معطيين لا جواب عنهما عدى‬ ‫التسليم بهما‪:‬‬ ‫‪ .1‬فلا يوجد إنسان لم يغره التأله بالمعاني التي تؤدي إلى تحريف الإرادة والنظر والعلوم‬ ‫وتحريف الرؤية والقيم وتلك هي علة اغراء التأله عند الإنسان الذي يقول بالمطابقتين‬ ‫بين معرفته وموضوعها وبين تقييمه وموضوعه‪ .‬فالمتأله هو الذي يعتبر علمه محيطا وعمله‬ ‫تاما‪.‬‬ ‫‪ .2‬ولا يوجد جواب عن السؤالين‪ :‬لماذا يوجد شيء بدل العدم (الخلق) ولماذا ما يوجد يوجد‬ ‫على ذلك الكيف من بين ما لا يتناهى من الكيفيات (الأمر)‪ .‬فلا أحد له جواب حول الخلق‬ ‫سواء كان مؤمنا به أو كافرا أو حول الأمر سواء كان عقلانيا أو لا عقلانيا‪.‬‬ ‫ولا يوجد عاقل يعتقد أنه سيأتي يوم يمكن أن يفسر علة الوجود بدل العدم ما ظل الإنسان له‬ ‫قدرة التوجيه بجهة الممكن والواجب والممتنع وعلة التعين المحدد من بين ما لا يتناهى من التعينات‬ ‫الممكنة للموجودات ما ظل الإنسان يطلب علة التعيين من دون الغائية لأن الصدفة لا تجتمع معها‪.‬‬ ‫وأريد أن اختم هذا الفصل بالإشادة بالعلامة الصديق ابي زيد المقري الذي اعتمد على التحليل‬ ‫اللساني ليعبر عن مثل هذه المعاني المتعلقة بالمقابلة التي أشرت إليها بين الكلية المفهومية المجردة‬ ‫والعينية الماصدقية المعينة من خلال ملاحظة رشيقة حول استعمال القرآن لتحديد المعاني باستعمال‬ ‫الاسم الموصول‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪25‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فما هو من جنس {الذين آمنوا} أو {الذين أشركوا} أو ما يناظر اسم الموصول مثل {من آمن‬ ‫وعمل صالحا} أو \"من امر بالمعروف ونهى عن المنكر\" أي التعيين بالرسم بدل التعيين بالاسم‪.‬‬ ‫وهي مقابلة بين نوعي التعريف بالرسم وبالاسم‪ .‬فكل المقدرات الذهنية النظرية في المعرفة لفهم‬ ‫نظرية الحقائق العلمية ومثلها المقدرات العملية التي وضعتها فرضيا قياسا عليها لفهم نظرية القيم‬ ‫العملية هي من هذا الجنس‪.‬‬ ‫ذلك أن كل \"القوانين\" الرياضية ليس لها مضمون معين عدى التعريفات المجردة التي تبدع‬ ‫مضمونها الصوري بالتعريف الرسمي الذي يمكن أن ينطبق على مضمون عيني في الطبيعيات‬ ‫فلكأنه خانة خالية من المضمون المعين الذي عندما يعين يعد خيارا لقيمة ذلك المعنى المجرد‬ ‫باعتباره متغيرا بالمعنى الرياضي للكلمة‪.‬‬ ‫وقياسا عليه فإن كل \"القيم\" الخلقية أو الجمالية ليس لها مضمون معين عدى التعريفات المجردة‬ ‫التي تبدع مضمونها الصوري بالتعريف الرسمي الذي يمكن أن ينطبق على مضمون عيني في‬ ‫التارييات‪.‬‬ ‫وبهذا المعنى فالقرآن الكريم من جنس الرياضيات لكنه مضاعف لأنه يجمع بين التقديرين‬ ‫الذهنيين النظري والعملي‪.‬‬ ‫لكن الانطباق لا يدل على المطابقة لاستحالة أن يوجد متعين مطابق تمام المطابقة مع المفهوم‬ ‫الرياضي أو المفهوم القيمي لأن هذين مطلقين وكليين وثابتين لأنهما غير موجودين إلا ذهنيا‬ ‫والمضمون الطبيعي أو التاريي يبقيان دائما في سيلان أبدي وكل تطبيق للمعاني الرياضية‬ ‫والقيمية مؤقت‪.‬‬ ‫فالأعيان التجريبية وقدرتنا على تحصيل الخبرة بالأشياء الموجود فعليا خارج الأذهان في تطور‬ ‫دائم وقد نكتشف ذات يوم أن كل ما كنا نتصوره حقيقة موجودة ليس إلا نتيجة لقصور في مداركنا‬ ‫التي عندما تتطور تكتشف عالم آخرا لم نكن نتصوره ممكنا‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪26‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فالإنسان يقبل التعريف بالوظيفتين أي بالاستعمار في الارض وبالاستخلاف فيها تعريفا مجردا بما‬ ‫يشيه الخانتين الخاليتين اللتين تتعينان بتعمير معين وبتنظيم سياسي معين أيا كان شكلهما‪.‬‬ ‫وتلك هي أعيان القيم النظرية والعملية في تاريخ الحضارات الإنسانية وهي تكوينيات القيم‬ ‫النظرية وا لعملية المتعينة في التاريخ الفعلي والتي يسميها ابن خلدون نحل العيش‪.‬‬ ‫وكل نحل العيش هي ثمرة التفاعل في الاتجاهين بين الأحياز الخمسة في كيان الإنسان (بدنه‬ ‫وروحه وما تزودت به ذاته من تراث ومن ثورة ووحدة ذاته)‬ ‫والاحياز الخمسة في عالم الإنسان (جغرافيته وتاريه وتراث جماعته وثروة جماعته وهوية‬ ‫الحضارة التي ينتسب إليها بخصوصياتها الذاتية وكلياتها الإنسانية)‪.‬‬ ‫ولا بد لهذا التفاعل في الاتجاهين بين كيان الإنسان العضوي والجغرافيا وكيان الإنسان الروحي‬ ‫والتاريخ وبين ما حصل له‪:‬‬ ‫• من تراث الجماعة في كيانه الروحي‬ ‫• ومن ثروتها في كيانه العضوي وما حصل له في ذاته من هويتها الخصوصية (كشعب معين)‬ ‫والكونية (كبشر) من يتطور معرفيا وقيميا فتحصل له في وعيه صفات ناتجة عن نحل‬ ‫العيش‪.‬‬ ‫تلك هي القطيعة التي احدثها ابن خلدون مع الفلسفة اليونانية التي كانت تتوهم السياسي‬ ‫والحضاري مجرد نتيجة مباشرة للطبائع بنظرية المعادن والقوى الثلاث التي هي العقل والغضب‬ ‫والشهوة‪.‬‬ ‫ولولا ذلك لاستحال عليه كما استحال على الفلسفة اليونانية أن يعتبر التاريخ علما فلسفيا‬ ‫والفلسفة معرفة تاريية وأن يقلب العلاقة بين ما بعد التاريخ وما بعد الطبيعة‪ :‬وذلك هو مدلول‬ ‫\"علم العمران البشري والاجتماع الإنساني\"‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪27‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وحتى نفهم ثبات البنى الصورية في المقدرات الذهنية النظرية والعملية وتغير المضامين العينية‬ ‫فلنرض أن القائلين بالتولد الطبيعي في الظاهرات الحية مثلا رأوا بأعينهم مثلنا الآن الجراثيم‬ ‫والفيروسات لفهموا القصد مما أحيل عليه‪.‬‬ ‫كما أرسطو مثلا لو عاد ورأى أن العالم لا يكاد يكون متناهيا لأصابه الذهول ولتخلى على كل فلكه‬ ‫الذي عرضه في المقالة الثانية عشرة من الميتافيزيقا‪.‬‬ ‫وعندئذ نفهم أن الفلاسفة سواء القدامى أو المحدثين يمكن اعتبارهم ‪-‬كما وصفهم ابن خلدون‪-‬‬ ‫متألهون أي يدعون التأله بمعنى أنهم يتوهمون أن الوجود يرد إلى الإدراك وأن علمهم مطلق‪.‬‬ ‫ولعل هيجل آخرهم وأكثرهم تمثيلا لهذا الوهم القائل إن الواقع عقل والعقل واقع وكلاهما من‬ ‫الحماقات‪ :‬فهو أول المتكلمين وآخرهم على العلم المطلق والدين المطلق وقصده علمه وتأويله‬ ‫للمسيحية‪.‬‬ ‫لأننا نجهل القصد بالعقل والقصد بالواقع‪ .‬فنحن إذن نقارن مجهولين مدعين أنهما معلومان‪ :‬وكل‬ ‫ذلك بسبب خرافتي المطابقتين المعرفية والقيمة‪.‬‬ ‫فلا الفكر مرآة عاكسة للوجود ولا الوجود قابل للحصر والتحديد‪ .‬ولولا ذلك لاستحال أن أقبل‬ ‫بالأديان‪ .‬الفلسفة تصبح بحق حكمة إذا هي علمت أن العلم لا يكون علما إلا إذا كان علما‬ ‫بحدوده‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪28‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫انتهينا في الفصل الثالث إلى أن القرآن مداره على خمسة عناصر ‪-‬بها يمكن أكسمته وجعله نسقا‬ ‫مطلق التمام القابل للرد إلى قلة من المبادئ التي يستنتج منها مضمونه كاملا‪ .‬فهذه العناصر‬ ‫الخمسة هي التي يتعلق بها فعل التذكير الذي هو جوهر الرسالة الخاتمة‪.‬‬ ‫والتذكير تأهيل للإنسان ليكون قادرا على تحقيق مضمون سورة العصر التي من دونها لا يمكنه‬ ‫التخلص من الخسر الذي هو سلوب شروط الاستثناء منه بتحقيق الوعي بعلله‪ .‬وتلك هي غاية‬ ‫التذكير‪ .‬وتحقيق الرشد يكون بالسعي إليه‪ .‬وتلك هي غاية السياسة‪ .‬فهي تصل عالم الشهادة‬ ‫بعالم الغيب‪ .‬ولذلك فهي فرض عين‪.‬‬ ‫وإذا كان التذكير ممكنا فلا بد أن يكون التذكر ممكنا لأنه شرط تصديقه‪ .‬ومعنى ذلك أن ما‬ ‫يحصل بالتذكير هو الوحي الخاص بالرسل وظيفته التكليف بالتذكير وليس التذكر الذي هو مرسوم‬ ‫في كيان الإنسان شرطا في قبول التذكير أي الاقتناع بالحق عندما تزول الغشاوة‪.‬‬ ‫زوال الغشاوة هي شكل الوحي الكوني الذي هو جوهر الإنسان بمعنى أنه يتلقى آيات الله وهو‬ ‫امكانية التذكر الذاتي وهو الفرق بين الحواس والحوادس‪ .‬وهذا المستوى الثاني من الوحي كوني‬ ‫ولا يتص به الإنسان لأن الله يوحي للنحل وللسماوات والارضين‪.‬‬ ‫ما يتلقاه الرسل وهو التكليف بالتذكير لأنهم غاية في التذكر الذاتي وهو اصطفي لهذه المهمة لكن‬ ‫جميع الكائنات وخاصة الإنسان تتذكر بذاتها دون أن تكون مكلفة بالتذكير لأن الوحي يعم كل‬ ‫المخلوقات حيها وجامدها بمعنى التذكر خلال التفكر والتدبر‪.‬‬ ‫وعندما يتذكر الإنسان بذاته يصبح كل شيء مذكرا له وهو معنى آيات الله يرينها الله لنتبين أن‬ ‫القرآن حق‪ .‬وكل الاستدلال القرآني مبني على ذلك أي إنه يدعونا لرؤية آيات الله في الآفاق أي‬ ‫في الطبيعة وفي التاريخ وفي الأنفس أي في كياننا العضوي وفي كياننا الروحي‪.‬‬ ‫ولهذه العلة فالبلاغ الرسالي ما كان ليقبل لو لم يكن الإنسان من حيث هو إنسان له القدرة على‬ ‫التذكر إما بذاته أو بغيره‪ .‬وما كان الثاني يكون ممكنا فعليا لو كان تذكير غيره له لم يوقظ فيه‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪29‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ما يجعله يقبله‪ .‬فيكون الرسل من الآيات المذكرة‪ .‬وهي موجودة في كل الام بنص القرآن رغم أن‬ ‫الإسلام يعم الجميع ولذلك فهو خاتم‪.‬‬ ‫والعناصر الخمسة التي لا يتضمن القرآن غيرها والتي يعالجها القرآن كلها من حيث علاقة العالمين‬ ‫التي هي جوهر فلسفة الدين وفلسفة التاريخ من حيث نظرية النظر والعقد موقفا من الذات‬ ‫والوجود ونظرية العمل والشرع تعاملا معهما بهما‪:‬‬ ‫‪ .1‬وأولها بالمرسل (الله)‬ ‫‪ .2‬وثانيها والمرسل إليه (الإنسان)‬ ‫‪ .3‬وثاليها مبلغ الرسالة ا (الرسول)‬ ‫‪ .4‬ورابعها طريقة التبليغ (سياسة عالم الشهادة في علاقته بعالم الغيب أي التربية والحكم‬ ‫التي تذكر الإنسان ما جهز به من شروط المعرفة والتقييم)‪.‬‬ ‫‪ .5‬والأخير هو الأصل الموحد لها من حيث هي مضمون التذكير هو تعريف الآيات التي تمكن‬ ‫الإنسان من البلوغ بذاته إلى فهم هذه الحقائق فيتبين أن القرآن حق عندما يرى آيات الله‬ ‫(فصلت ‪:)53‬‬ ‫• في الآفاق (الطبيعة والتاريخ)‪.‬‬ ‫• وفي الانفس (كيانه العضوي وكيانه الروحي)‪.‬‬ ‫وذلك هو الانتقال من تلقي التذكير إلى الشروع في التذكر الذي هو التفكر والتدبر للمشاركة في‬ ‫سياسة عالم الشهادة بالانشداد إلى عالم الغيب‪ :‬وهو معنى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض‬ ‫عين وشرط الانتساب إلى الأمة الخيرة‪.‬‬ ‫ولما كان الغيب الذي تتصل به الشهادة ليس في متناول علم الإنسان وتقييمه فإن الانشداد إليه‬ ‫للإنسان منه ما يرمز إليه هو قدرته على التقدير الذهني النظري (المعرفة) والعملي (القيمة)‬ ‫قدرة لتعلق الفكر الإنساني بمعان ليس لها مثيل في الوجود المحسوس وهو ما جهز به الإنسان‬ ‫ليتعامل مع علاقة العالمين تعاملا من دونه لا يمكن أن يحقق وظيفتيه في عالم الشهادة أي‪:‬‬ ‫• الاستعمار في الأرض‪ :‬وهو الشرط الأداتي للاستخلاف‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪30‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫• والاستخلاف فيها‪ :‬وهو الشرط الغائي للاستعمار‪.‬‬ ‫ويقتضي ذلك أن يكون القرآن مؤلفا من نوعين من الخطاب أولهما موجه إلى نقد النسيان ببيان‬ ‫العلة التي تحول دونه والتذكر وهي التحريف المعرفي والتحريف القيمي (تأويل المتشابه آل‬ ‫عمران ‪ )7‬الذي يترتب على القول بالمطابقتين والثاني يقدم التصحيح المحرر من التحريف ومن‬ ‫القول بالمطابقتين‪:‬‬ ‫‪ .1‬نقد النسيان الذي نتج عنه تحريف هذه العلاقة بين عالم الشهادة وعالم الغيب وهو من ثم‬ ‫فلسفة تاريخ نقدية نظرا وعملا في علاقة بفلسفة دين نقدية للتحريف العقدي معرفة‬ ‫وقيمة‪.‬‬ ‫‪ .2‬التذكير ما نسي لتقويم هذه العلاقة بين عالم الشهادة وعالم الغيب وهو من ثم فلسفة‬ ‫تاريخ بديل نظرا وعملا في علاقة بفلسفة دين بديل للتقويم العقدي معرفة وقيمة‪.‬‬ ‫‪ .3‬والنقد يتعلق بأحداث وأحاديث حصلت فعلا وهي تبدو شبه تاريخ لكنها في الحقيقة ليست‬ ‫مقصودة لذاتها بل لكونها رامزة إلى ما يراد تحديده موضوعا للنقد ومنظور النقد الذي‬ ‫يبحث عن البديل في الاحداث والأحاديث ذات الصلة بالعلاقة بين العالمين عالم الشهادة‬ ‫وعالم الغيب‪.‬‬ ‫‪ .4‬والبدائل تتعلق بأمثولات متخيلة لا يمكن ان تكون احداثا ولا أحاديث شبه تاريية بل هي‬ ‫تجسيد للمعاني التي هي من جنس المقدرات الذهنية التي يصنعها الإنسان شرطا للمعرفة‬ ‫النظرية وللقيم العملية والتي هي جوهر الكلي الكوني في القرآن‪.‬‬ ‫فيكون القرآن مؤلفا من خمس أجناس خطابية هو مجموعها ذروتها المقدرات الذهنية التي‬ ‫نفترضها مطابقة لما لا نستطيع له علما لكونه مما ليس كمثله لشيء وهي قابلة للرد إلى نوعي‬ ‫\"كن\" الخالقة والآمرة أعني الجواب الغيبي عن سؤالي الدين والفلسفة أي لماذا يوجد شيء بدلا‬ ‫لا شيء ولماذا ما يوجد هو على ما هو عليه وليس على كيف مغاير‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪31‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وهذه الأجناس الخطابية الخمسة تمثل البنية العميقة لما بعد الطبيعة وما بعد التاريخ وهي من ثم‬ ‫ذات زمانية مخمسة لأنها في آن تتعلق بالأحداث وبالأحاديث أي بما يجعل الثانية التي تمثل الوعي‬ ‫التاريي عودة إلى الاولى التي تمثل الوجود الطبيعي لكل ما يتعلق بالإنسان‪:‬‬ ‫• بكيانيه (بدنه وروحه)‬ ‫• وبآفاقه بكيانيها (الطبيعي والتاريي)‬ ‫• وبما بعدهما (فصلت ‪ 53‬أي ما يرينه الله من آياته لنتبين أن القرآن حق)‪:‬‬ ‫‪ .1‬فالماضي حدث لا يقتصر على ما في الأذهان لأنه جار فيها وفي الأعيان بمقتضى طبيعته‬ ‫المستقلة عن مدركها أي القائمة بذاتها خارج ذهن الإنسان مع الاعتراف بعدم مطابقة علمنا‬ ‫وتقييمنا لها‪.‬‬ ‫‪ .2‬والماضي حديث يضاعف الحدث بتأويله في الأذهان جار فيها وفي الأعيان بمقتضى طبيعة‬ ‫الترميز الناطق العائد على الحدث تعبيرا عن الوعي به تأويلا وتذكيرا‪.‬‬ ‫‪ .3‬والمستقبل حديث لأنه الإنسان يتوقعه قبل وقوعه ويتصوره كما يتصور أي مشروع ينوي‬ ‫انجازه أو حدث ينتظره من غيره سواء كان إنسانا مثلا أو أي موجود آخر وهو أيضا تأويل‬ ‫لمجريات الامور في الحاضر في ضوء سوابقها في الماضي وطردا للمعتاد‪.‬‬ ‫‪ .4‬والمستقبل حدث وهنا يصبح الحدث المعنى الثاني للتأويل كما في القرآن بمعنى حكم الحاصل‬ ‫في المتوقع أي إن الحاصل هو الذي يميز بين التوقعات التي تؤيدها الأحداث والتوقعات التي‬ ‫تكذبها الأحداث‪.‬‬ ‫‪ .5‬والحاضر أصلها جميعا لأنه ليس بينها الأولين والأخيرين فحسب بل هو حولهما يحيط بهما‬ ‫رغم كونهما يبدوان محيطين به لأنه دوام حضور الوعي لذاته حول كيان الإنسان وكياني‬ ‫عالمه في علاقته بما ورائه‪ .‬وتلك هي المعادلة الوجودية التي لا يمكن تصور إنسان خاليا منها‬ ‫حتى وإن لم يكن واعيا بها وذلك هو معنى النسيان‪.‬‬ ‫فيتبين من ثم أن الإنسان في المرة الاولى يكون حديثه محاولة لمحاكاة الحدث وفي المرة الثانية‬ ‫يكون حديثه محاولة لمحاكاة الحديث‪ .‬وهما مناظران لموقفي المعرفة والتقييم‪:‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪32‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .1‬ففي المرة الأولى العبارة الرمزية محاولة الاقتراب من المعبر عنه الفعلي‪ :‬وتلك بنية العلم‬ ‫الفعلي وتقييم الموجود بقدر إدراكه المباشر حسيا وغير المباشر عقليا‪.‬‬ ‫‪ .2‬وفي المرة الثانية يكون المعبر عنه الفعلي محاولة الاقتراب من العبارة الرمزية‪ :‬وتلك هي‬ ‫بنية العمل الفعلي وتقييم المنشود بقدر الانشداد إليه‪.‬‬ ‫لكن إذا فصلنا العبارة الرمزية عن الموجود الفعلي ووصلناها بالمنشود الذي يظنه الكثير خياليا‬ ‫حصلنا على التقدير الذهني سواء كان معرفيا أو قيميا وكلاهما لا يقبل الرد إلى الخيال اللهم إذا‬ ‫صار الخيال كونيا ومشروطا في كل علم بالنسبة إلى المعرفية وفي كل قيمة في كل تقييم‪.‬‬ ‫وإذن فالإشكال كل الإشكال هو كيف يمكن للإنسان أن يحقق هذا الفصل بين العبارة الرمزية‬ ‫والموجود الفعلي وما مصدر المنشود في هذه الحالة؟‬ ‫لما أعلن ابن تيمية (كتاب المنطق ص‪ 73-72.‬مجموع الفتاوى الجزء التاسع الرباط مكتبة المعارف‬ ‫غير مؤرخ)‪:‬‬ ‫\" فالعلوم الأولية البديهية العقلية المحضة ليست إلا في المقدرات الذهنية كالعدد والمقدار لا في‬ ‫الأمور الخارجية الموجودة‪ .‬فإذا كانت مواد القياس البرهاني لا يدرك بعامتها إلا أمور معينة‬ ‫ليست كلية وهي (ما يدركه) الحس الباطن والظاهر والتواتر والتجربة والحدس‪.‬‬ ‫\"وإذا كان الذي يدرك الكليات البديهية الأولية إنما يدرك أمورا مقدرة ذهنية لم يكن في مبادئ‬ ‫البرهان ومقدماته المذكورة ما يعلم به قضية كلية عامة للأمور الموجودة في الخارج‪ .‬و(إذا كان)‬ ‫القياس لا يفيد العلم إلا بواسطة كلية عامة فامتنع حينئذ أن يكون في ما ذكروه من صورة القياس‬ ‫ومادته حصول علم يقيني\" فإنه قد أثبت أمرين‪:‬‬ ‫‪ .1‬أن صفات العلم الخالص لا تتعلق إلا بالمقدرات الذهنية التي رد إليها الكليات كلها وقدم منها‬ ‫مثالين هما العدد موضوع علم العدد والمقدار موضوع علم الهندسة‪.‬‬ ‫‪ .2‬أن كل ما يوجد في الخارج ليس فيه كليات بل هي كلها عينيات وأحصاها عينيات فالعلم‬ ‫بالوجود الخارجي ليس له صفات العلم بالمقدرات الذهنية‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪33‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .3‬وإذن فلا يكفي فيه ما أثبته المناطقة في التحليلات الأواخر من شروط البرهان أي إن فرض‬ ‫أرسطو قطع التسلسل ونفى الدور اضطر لوضع مبادئ لا يعتبرها مقدرات ذهنية بل حقائق‬ ‫وجودية مطلقة ونهائية‪.‬‬ ‫‪ .4‬وذلك لأن تأسيسها في الميتافيزيقا يفترض وجود الكليات خارج المقدرات الذهنية ويدعيها‬ ‫مقومة للأعيان التي يدرسها العلم الطبيعي أو التاريي سواء كان ذلك في خارج الإنسان أو‬ ‫فيه‪.‬‬ ‫‪ .5‬وهو ما يجعل المقدرات الذهنية التي لا يوجد برهان كلي ومحض إلا فيها لأنها تعلم ما‬ ‫يقتصر وجوده على تعريفه فيكون فعلا محدثا للشكل والمضمون في آن‪-‬بالمعنى التيمي‪-‬شرط‬ ‫ضروري لكل معرفة للموجودات الخارجية في محاولة جعل معرفتها تقرب من البرهان دون‬ ‫أن يتحقق فيها التحقق التام‪:‬‬ ‫أ‪ .‬فيكون العلم البرهاني الموجود في المقدرات الذهنية النظرية من منشود العلم التجريبي‬ ‫لأعيان الموجودات الخارجية‪.‬‬ ‫ب‪ .‬وقياسا عليه يكون العمل التام موجودا في مقدرات ذهنية عملية (افترضتها) من منشود‬ ‫القيم التجريبية لأعيان الموجودات التاريية الخارجية‪.‬‬ ‫ج‪.‬والقرآن يمد الإنسان بنوعي المقدرات بوصف الأولى يحددها بالقول إن كل شيء خلق بقدر‬ ‫ثابت والثانية يحددها بالقول إن كل أمر بسنة ثابتة‪.‬‬ ‫د‪ .‬فيكون قد جمع في الحالتين الترابط بين الخلق والقدر العلمي وبين الأمر والسنة القيمية ما‬ ‫يجعل الجواب عن السؤالين الوجوديين مقصورا على ما يمكن شهوده منه دون غيبه بمعنى‬ ‫أننا نرى أن الخلق ذو نظام رياضي والامر ذو نظام خلقي دون أن نعلم لماذا كان الخلق ولا‬ ‫كيف حصل الأمر‪.‬‬ ‫ه‪ .‬وتلك هي العلاقة بين العالمين‪ :‬عالم الشهادة الذي موجوده ما يدركه من الطبيعة والتاريخ‬ ‫ومن كيان الإنسان العضوي وكيانه الروحي ومنشودة لا يدركه لكن له منه القدرة على‬ ‫إبداع المقدرات الذهنية النظرية والعملية التي تحيل على مثل عالم الغيب العليا دون أن‬ ‫تطابقها‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪34‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ومنها تستمد كل أدلة القرآن على وجود الله ووحدانيته وما يمكن للإنسان من قدرة على تصور‬ ‫هذه العلاقة بصورة تجعل عالم الغيب عالم مثل عالم الشهادة‪.‬‬ ‫ولأقدم الآن مثالا مما يتجلى من ذلك في فعلي الإنسان المعرفي والقيمي المضاعفين كليهما وهما‬ ‫أيضا مما لا تفسير لنا لكونه كذلك لأنه من ألغاز كينونة الإنسان العضوية والروحية وهما‬ ‫يلتقيان في ما يمكن اعتباره القدرة الحاصلة لدى الإنسان والتي تجعله قادرا على الاستعمار في‬ ‫الأرض والاستخلاف فيها بالنظر والعقد وبالعمل والشرع‪:‬‬ ‫‪ .1‬فكيف انتقل نظر الإنسان من حصوله في الأذهان إلى حصوله في الأعيان شفويا ثم كتابيا؟‬ ‫فلا يوجد إنسان غير ناطق بالطبع ‪-‬قد يكون أبكم لعلة‪-‬ولا توجد جماعة لم تعرف الكتابة‬ ‫وأولى مراحلها الرسم والنحت للانتقال من الشفوي إلى الكتابي ومن الذاكرة الذاتية إلى‬ ‫الذاكرة الموضوعية‪ .‬وبهذا المعنى فلا يوجد إنسان أمي لان الاميين يرسمون الاشياء‬ ‫وينحتون في الحجارة ما لا يريدون نسيانه ويحسبون بالحصى‪.‬‬ ‫‪ .2‬وكيف انتقل عمل الإنسان من حصوله في الأذهان إلى حصوله في الأعيان يدويا ثم آليا؟ فلا‬ ‫يوجد إنسان غير مشخص لعمله بالطبع وقد لا يرسم مجسما مما ينوي انجازه ولا تجود‬ ‫جماعة لم تعرف رسم أشكال عمارتها مثلا قبل انجازها للانتقال من العمل غير المخطط‬ ‫مسبقا إلى العمل الذي يسبقه خطته‪.‬‬ ‫‪ .3‬وما الأصل الذي يتحد فيه المساران بوصفهما عين فاعلية الإنسان التي تشبه محاكاة المنشود‬ ‫من المخلوق والمأمور؟ وكلاهما يحدث مرتين حتما ويتشكل على الاقل مرتين وقد تتكرر‬ ‫المرتان بلا نهاية لأن كل مرة أخيرة تعتبر مسودة للمرة التي تتلوها لتراجعها‪.‬‬ ‫وهذه هي التي تستحيل من دون الكتابة لأن الشفوي لا يتكرر وإذا تكرر يصبح حفظا وهو حينها‬ ‫كتابة في الذهن وهي وظيفة كان لها مختصون في الحفظ كرواة الشعر مثلا‪ :‬فهم من جنس‬ ‫المسجلات الحالية‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪35‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .4‬وما الأصل الذي يتحد فيه المساران بوصفهما عين فاعلية الإنسان التي تشبه محاكاة الموجود‬ ‫من المخلوق والمأمور؟ وكلاهما يحدث مرتين ‪-‬ومحاكاة الموجود هو شرط الموضوعية والفاعلية‬ ‫التقنية في كل تطبيق للمعرفة العلمية‪-‬وحتى المنشود فهو يحاكى برده إلى ما قلنا في ثالثا‬ ‫أي إنه يصاغ في ما يشبه المجسم التي تصبح وكأنها نظرية حول المنشود الذي يجسم ليحاكي في‬ ‫التنفيذ ويكون عادة تجريبا لما سيكون عليه التنفيذ ككل تدرب على أمر ليس له مثيل في الواقع‬ ‫الخارجي ويراد إنتاجه‪.‬‬ ‫‪ .5‬وما معنى جمع الإنسان بين هذين الأصلين في كيانه وهما ما ينساه وما تأتي الرسالة الخاتمة‬ ‫للتذكير به حتى لجعل الأنسان قادرا على سياسة عالم الشهادة بمعايير من ينشده من مثل‬ ‫عالم الغيب؟‬ ‫والجمع بين الاصلين هو عين ما بين النظر والعمل وبين المعرفة والقيمة من وحدة في العمق‪.‬‬ ‫فالنظر عمل في الرموز يصبح عملا في الأشياء المرموز والنظر عمل في الرموز يصبح عملا في العمل‬ ‫الذي هو البداية في محاكاة الموجود والغاية في محاكاة المنشود‪.‬‬ ‫وبهذا المعنى فالإنسان يعيش في خمسة عوالم مختلفة أصلها الواحد في عالم الشهادة من حيث‬ ‫تعلقه بعالم الغيب كما وصفنا في هذه الأفعال التي تصل الشفوي بالكتابي في ناطقية الإنسان‬ ‫المفكر في حقائق الأشياء وقيمها واليدوي الآلي في فاعلية الإنسان المنتج للأشياء وقيمها‪ .‬وهذه‬ ‫العوالم هي‪:‬‬ ‫‪ .1‬عالم الرمز جميع الرموز سواء كانت لسانية أو غير لسانية طبيعية أو صناعية بالأقوال أو‬ ‫بالأفعال الإنسانية وبالأشياء نفسها عندما يرمز بعضها لبعضها‪.‬‬ ‫‪ .2‬عالم المرموز (والرمز يمكن أن يكون مرموز برمز حول الرمز والعملية قابلة للتكرار بلا حد‬ ‫ولا نهاية‪.‬‬ ‫‪ .3‬عالم أثر الأول في الثاني‪ :‬وتلك هي فاعلية النظر في الأشياء ومنها ذاته إذا عاملها من‬ ‫منطلق كيانها العضوي مطبقا منشوده على موجودها‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪36‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .4‬عالم أثر الثاني في الأول‪ :‬وتلك هي فاعلية العمل في الأشياء ومنها ذاته إذا عاملها من‬ ‫منطلق كيانها العضوي مطبقا منشوده على موجودها‪.‬‬ ‫‪ .5‬العالم الذي يمكن فرضه أصل العوالم وأساس وحدتها وهو حينئذ ما يمكنه إدراكه إذا‬ ‫عامل ذاتها من منطلق كيانها الروحي الذي هو لغز الألغاز لمجرد كونه قادرا على التوجيه‬ ‫فيصبح قادرا على سؤالي الدين والفلسفة أي لماذا يوجد شيء بدل لا شيء (مشكل الخلق)‬ ‫ولماذا هو على ما هو عليه (مشكل الأمر)‪.‬‬ ‫وذلك هو الوحيد الذي يمكن اعتباره ممثلا لوعينا بوجود عالم الغيب ‪-‬أي سريرة الإنسان وهذه‬ ‫فكرة ابن خلدون الذي قال إن حضور عالم الغيب الذي في كياننا هو النفس‪-‬الذي لا يمكن تحديد‬ ‫طبيعته‬ ‫ويمكن أن أرده إلى ما سميته المعادلة الوجودية التي نعلم عناصرها وتفاعلاتها والتي هي في آن‬ ‫بنية القرآن نفسه ما يجعل القرآن مماه لكيان الإنسان الروحي‬ ‫بحيث إن مبناه مناظر لكيان الإنسان العضوي ومعناه لكيانه الروحي‪ .‬ولا يوجد تفسير لكينونة‬ ‫المعادلة الوجودية وللتناظر بينها وبين كيان الإنسان وكيان القرآن رغم أننا نعتبرها الجواب‬ ‫الوحيد الممكن على سؤالي الوجود اللذين هما اللغزان الدينيان والفلسفيان في آن‪:‬‬ ‫‪ .1‬لماذا هو موجود بدل عدمه؟‬ ‫‪ .2‬لماذا هو على ما هو عليه بدل كيفية أخرى من الكيفيات اللامتناهية عقلا؟‬ ‫وهما السؤالان اللذان تمثل إثارتهما وشرط إمكانها علامة على أن الإنسان خليفة لأنه يحللهما‬ ‫بالقياس إلى ما يفعله هو ما يقدره ذهنيا وما يعمله فعليا بحيث إنه‪:‬‬ ‫‪ .1‬بالأول مثال عما يفترضه في الخالق‬ ‫‪ .2‬وبالثاني ما يفترضه في الآمر‬ ‫‪ .3‬مع التسليم بأنه لا يوجد أدنى وجه شبه بين الخالق والصانع الرمزي‬ ‫‪ .4‬رغم أنه يقول عن نفسه في القرآن إنه يلق بالرمز كن الخالقة‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪37‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .5‬وأدنى شبه بين الآمر والصانع الفعلي روغم أنه يقول عن نفسه في القرآن إنه يأمر بالرمز‬ ‫كن الآمرة‪.‬‬ ‫لم يبق إلا فصل أخير أعود فيه لتحليل سورة هود (استراتيجية سياسة عالم الشهادة بمعايير عالم‬ ‫الغيب) وسورة يوسف (استراتيجية تعين هذه السياسة بتحديد الافعال السياسية وكيفية الوعي‬ ‫الإنساني بها) للدلالة على ما أقصده بعبارة القصص القرآني‪.‬‬ ‫فبعضه يبدو تارييا وهو في الحقيقة أباديع ليس التاريي منها هو المقصود بل ما فيها آيات على‬ ‫علاقة العالمين أحدهما بالثاني كونينا وبصورة بنيوية ثابتة لا تتغير لأنها تحدد مثل عالم الغيب في‬ ‫علاقتها بوقائع عالم الشهادة حيث تلتقي فلسفة التاريخ بفلسفة الدين‪.‬‬ ‫ولعل هذه الخاصية هي التي تجعل البعض يؤرخن القرآن فلا يميز بين البنيوي فيه وهو مطلق‬ ‫الثبات ولا أثر فيه للمكان والزمان والمضمون الذي هو المتغير فيه لأنه في نسبة القيم في المتغيرات‬ ‫الرياضية كما بينت في الفصل السابق‪.‬‬ ‫فتعريف الأشياء والمواقف والأشخاص بالاسم الموصول أو ما يقوم مقامه مثل \"من آمن وعمل صالحا\"‬ ‫وغلبة هذا الاسلوب في التعريف بالرسم كما يثبت من كثرة استعمال التعيين بهذين الطريقتين‬ ‫لتجنب التحديد المضموني بحيث إن الشخوص التارييين يجردون من الظرفيات التاريية ليصبحوا‬ ‫رموزا لمعان مجردة‪.‬‬ ‫فنكتشف خصائص الخطاب القرآني الذي لا يمكن مقارنته بمضمون الأدب ولا بمضمون العلم بل‬ ‫هو العلم بل هو مثل المقدرات الذهنية مطلقة التجريد بحيث لا شيء من الموجود العيني يمكن أن‬ ‫يطابقها وهو إذن جنس مختلف عنهما لأنه استراتيجية سياسية حول شروط امكان الاستعمار في‬ ‫الارض والاستخلاف فيها بتذكير الإنسان بالعلاقة بين هذه العوالم الخمسة‪.‬‬ ‫إنها حبكة تجمع بين استراتيجية الخطاب الديني واستراتيجية الخطاب الفلسفي وهما فوق العلم‬ ‫والعمل المتعلقين بالمضامين العينية التي هي بالجوهر متغيرة في المكان والزمان في حين أن الخطابين‬ ‫الديني والفلسفي يعنى بالبنى الثابتة والمتعالية على المكان والزمان‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪38‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ختمت الفصل الرابع بتعريف خصائص جنس الخطاب القرآني وتصنيف أنواعه وبوعد ضرب‬ ‫مثالين لبيان القصد بالجنس وعلة كون أنواعه خمسة مضمونيا ترتبا على كون جنسه جوابا عن‬ ‫سؤالي الدين والفلسفة الوجوديين اللذين يمثلان اللغزين المحيرين للإنسان من حيث هو إنسان‪:‬‬ ‫‪ .1‬اضطرار الإنسان للتسليم بأن الوجود‪-‬وجوده ووجود أي شيء آخر غيره‪ -‬ليس أمرا‬ ‫ضروريا بذاته لأن العدم بديلا منه ممكن‪ .‬وإذن فهو ينتسب إلى الحرية وليس إلى‬ ‫الضرورة رغم استحالة بيان طبيعة هذه الحرية التي تختاره بدلا من العدم‪.‬‬ ‫‪ .2‬التسليم بأن كونه ‪-‬هو ذاته أو غيره من الموجودات‪-‬على ما هو عليه في ما ندركه منه ليس‬ ‫ضروريا بذاته لأن ما لا يتناهى من الكيفيات ممكنة‪ .‬وإذن فكيف الوجود ليس ضروريا بل‬ ‫هو ينتسب إلى الحرية رغم استحالة بيان طبيعة الحرية التي تختاره‪.‬‬ ‫والمشكل الفلسفي والديني هو في إمكانية التوجيه أي التمييز بين ضروري وممكن وممتنع‪ .‬فمن‬ ‫أين للإنسان هذه القدرة التي تجعله يسأل عن الوجود لم هو موجود ويقابله بإمكان عدمه؟ ومن‬ ‫أين للإنسان هذه القدرة التي تجعله يسأل عن كيف الوجود لم هو كما هو وليس على كيف آخر‬ ‫من الكيفيات اللامتناهية الممكنة‪.‬‬ ‫ومعنى ذلك أن ما هو محير ليس السؤالين الفلسفيين التقليديين بل هو السؤالان الدينيان الأهم‪:‬‬ ‫إنه السؤال عن هذه القدرة التوجيهية التي هي شرط السؤالين اللذين ظنهما لايبنتز جوهر‬ ‫السؤال الميتافيزيقي وقبله فعل ارسطو‪ .‬السؤال الميتااثيقي متقدم على السؤال الميتافيزيقي‪ :‬ما‬ ‫سر تحرر الإنسان من الغرق في كيانه العضوي وسموه إلى كيان يتجاوزه ليعود عليه بالسؤال المحرر‬ ‫منه فيصبح قادرا على المسالتين اللتين ظنتهما الفلسفة سؤاليها الجوهريين‪.‬‬ ‫والبحث في مسألتي الفكرين الديني والفلسفي هذين واللذين يبدوان مطلقي التقابل يلتقيان في‬ ‫محاولة فهم هذين اللغزين ويتلفان في الحلول المقترحة إذا حرف أحدهما أو كلاهما‪ .‬وفرضيتي‬ ‫هي أن القرآن قد جمع بين العلاجين ووحد بين حلولهما بأن خلص كلا الخطابين من القول‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪39‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫بالمطابقتين المعرفية والقيمية مصدري التحريف وشرطي فهم اللغزين إذا تبين لنا امتناع المطابقة‬ ‫المعرفية والمطابقة القيمية‪.‬‬ ‫فالقرآن وضع مفهوما حدا هو مفهوم الغيب المتعلق بالمسألتين اللتين يؤدي القول بالمطابقتين‬ ‫المعرفية والقيمية إلى ادعاء الحسم فيهما رغم استحالته للعقل والنقل في آن لأنه بين ان الإنسان‬ ‫إذ يعلم يعلم ما يعلم ويعلم حدود ما يعلم ومن ثم فهو يعلم أن ما يجهله من اللامتناهي وما يعلمه‬ ‫من المتناهي‪ .‬وإذن فكل من يزعم أن القرآن يتضمن علما بالغيب يكذب على القرآن ويحمله ما لا‬ ‫يحتمل إذ هو يعلن صراحة أن الاحاطة علما التمام عملا مقصوران على الخالق والآمر دون سواه‪.‬‬ ‫فالوحي ليس فيه اطلاع على الغيب‪-‬إذا ميزناه عن الغائب الذي يلطه البعض به‪-‬بل فيه اعلام‬ ‫بوجوده وبمحجوبيته على علم الإنسان وتقييمه حتى على الأنبياء وهو والتسليم به هو معنى‬ ‫إيمان‪ .‬لذلك فالمعرفة لا تكون إلا اجتهادا والعمل لا يكون إلا جهادا لأن علم الإنسان ليس محيطا‬ ‫وعمله ليس تاما لأنه ليس ربا‪ .‬ولا تقتصر محجوبية الغيب على علم ما يوجد خارج ذات الإنسان‬ ‫ومحدودية عمله على ما يتعلق بخارجه بل هو يشمل علمه بذاته وعمله في ذاته‪.‬‬ ‫ومعنى ذلك أن علم الإنسان بذاته اجتهاد وعمله فيها جهاد وكلاهما شديد النسبية ومستحيل‬ ‫الإحاطة والتمام بمنطوق القرآن ومفهومه‪ .‬ذلك أنه لا يمكن أن يرسل مرسل (الله) رسالة لمرسل‬ ‫إليه (الإنسان) يمكن أن يكون مضمونها متضمنا لما هو ليس في متناوله فهمه لأنه محجوب عنه‪.‬‬ ‫وإذن فالرسالة الموحاة ليس فيها علم الغيب رغم قولها بوجوده الا أنه قول مصحوب ببيان‬ ‫محجوبيته‪.‬‬ ‫فعندما يكلف الرسل برسالة فالتكليف لا يعطيهم علما بالوحي يتجاوز ما يمكن أن يتذكروه‬ ‫بذواتهم‪ .‬ما يتص به الرسل ليس إذن التذكر الذي هو خاصية إنسانية للإنسان من حيث هو‬ ‫إنسان ولا يتص به الرسل بل هم يتصون بمهمة تذكير من عجز عن التذكر بذاته لما حصل له‬ ‫من الغفلة التي تشبه كهف افلاطون أو ما يسميه القرآن الاخلاد إلى الأرض‪ .‬ولا يذكر رسول في‬ ‫القرآن من دون أمرين يثبتان ذلك‪:‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪40‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .1‬فأحيانا يوجد صالح يدعو إلى القبول بما يقوله الرسول ويؤكد أن ما يقوله هو الحق ما‬ ‫يعني أنه توصل إليه من دون تذكير الرسول له‪ .‬وهو ما يعني أن التذكر خاصة كونية وأن‬ ‫مما يكلف به الرسل هو إزاحة ما يحول دونه والحصول أي علل النسيان‪.‬‬ ‫‪ .2‬وغالبا ما ينتهي الرسول إلى اقناع الكثير من الناس فيصدقوه وخاصة بالطريقة التي في‬ ‫القرآن وليس بالمعجزات كالتي يقصها القرآن ولا يستعملها في التبليغ المحمدي الذي يعتمد‬ ‫الإيقاظ التذكيري بالدعوة إلى تأمل النظام الطبيعي والنظام التاريي‪.‬‬ ‫وما عند الإنسان من قدرة على التذكر الذاتي وعلى الاقتناع بقول المذكر وتصديق الرسل يفيد‬ ‫أن لدى الإنسان خاصية هي أصل ما سماه ابن تيمية التقدير الذهني النظري وما أضفت إليه‬ ‫قياسا عليه التقدير الذهني العملي‪ .‬ومعنى ذلك أن الإنسان من حيث هو إنسان له علاقة بعالمين‬ ‫متعالين على الغرق في مجرى كيانه الطبيعي ومجرى كيانه التاريي‬ ‫بصورة تجعله يطفو فوقهما ليشهد نظام العالمين ونظام كيانيه وهما ما تقصده فصلت ‪ 53‬بما يريه‬ ‫إياه الله من آيات الآفاق والأنفس‪ :‬لأنهما هما شرطا القدرة التوجيهية التي تحرر الإنسان من‬ ‫الأمر الواقع فتصله بالأمر الواجب‪.‬‬ ‫فالقدرة على التذكر وحي كوني حتى وإن لم يتحقق كونيا وحتى لو غلب النسيان بسبب انشداد‬ ‫غالب البشر إلى الدنايا أو الاخلاد إلى الأرض‪ .‬بل إن الوحي لا يقتصر على الإنسان لأن الله‬ ‫يوحي إلى كل الموجودات بما يريه لها من آياته‪ .‬والغفلة حائلة دونه ولا يمكن أن تكون كونية‬ ‫وإلا لامتنع التذكير‪.‬‬ ‫فيكون التكليف بالتذكير درجة ثانية من الوحي وهي خاصة بالمصطفين لتبليغ الرسالة‪ .‬الوحي‬ ‫عندهم درجة ثانية هي درجة ايقاظ الغافلين‪ .‬هي مهمة الرسل الإيقاظية أو التذكيرية ولا تخلو‬ ‫أمة منهم بنص القرآن‪ :‬كل أمة لها رسول بلسانها‪.‬‬ ‫ويمكن أن يكون في الحياة لمن يصطفيهم الله لهذه الدرجة الثانية من الوحي ما يثبت أهليتهم‬ ‫الفعلية في كيانيهم لهذه الوظيفة أي شروط المستوى الثاني من تلقي الوحي‪ .‬ولعل الرسول الخاتم‬ ‫أكبر دليل على ذلك‪ .‬فتحنفه سابق عن تكليفه بالرسالة‪ .‬وتحنفه تذكر ذاتي لأنه لم يكن يتوحد‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪41‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫هروبا من الحياة إذ حياته كلها نشاط بما في ذلك التجارة وهي أصعب امتحان خلقي إذ فيه يعسر‬ ‫النأي بالنفس عن الكذب والغش والخداع‪.‬‬ ‫إنما تحنفه هو ما في المستوى الأول من التلقي من دوافع الاشرئباب إلى المستوى الثاني من الوصل‬ ‫بين ما يتلقاه وما يراه من حاجة إلى الدعوة إليه أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر‪ .‬فالمستوى الأول‬ ‫من التلقي لا يقتصر على البشر بل كل المخلوقات في علاقة مباشرة مع آيات الله‪.‬‬ ‫فكل إدراك للموجود من آيات الموجد مرسومة في كيان كل موجود مدرك وهي كما قال ديكارت‬ ‫\"رسم إرادة الخالق في المخلوق وامضاؤه\"‪ .‬وأبرز الأمثلة في القرآن وحي الله للسموات والأرضين‬ ‫وللنحل ولأم موسى ولأي إنسان استيقظ بذاته حتى وإن لم يكلف بتبليغ رسالة أعني دون يتلقى‬ ‫المستوى الثاني من الوحي‪ .‬وهذا النوع من البشر يمكن اعتباره من علامات القدرة على التفلسف‬ ‫بالمعنى السامي للكلمة‪.‬‬ ‫والفلسفة بالمعنى السامي للكلمة جزء لا يتجزأ من الفطرة الدينية‪ .‬وطبعا فالفلسفة مثل الدين‬ ‫تحرف‪ :‬فكل من يعتبر بعض من اشتهر بالتعبير عن أحوال نفسه ليجعلها خيارات وجودية ويسميها‬ ‫فلسفة ولا يتواضع فيعتبرها من أمراضه لا يتلف عن محرفي الاديان وموظفيها \"لتحقيق\" ذواتهم‬ ‫التي تعاني من الغرق في أحوال أنفسهم‪ .‬فمن يعتبر الهذيان فكرا يمكن أن يعتبر أحوال النفس‬ ‫عند نيتشة فلسفة‪.‬‬ ‫وجل الفكر الذي لا يسهم في التقدير الذهني النظري والتقدير الذهني العملي فضلا عن‬ ‫تطبيقاتهما لا يمت إلى الفكر المتذكر والمستيقظ بشيء‪ .‬فالمستيقظ بذاته أو الذي يتذكر بذاته‬ ‫ينتقل من الادراك الحسي إلى الإدراك الحدسي ومن الغرق في أحوال نفسه إلى المنشد إلى ما‬ ‫تعنيه فصلت ‪ 53‬فيفهم حينها حقيقة القرآن الكريم ذلك هو معنى الدين عند الله الإسلام لان‬ ‫القصد هو هذه الكونية التذكرية التي هي جوهر الاستخلاف‪.‬‬ ‫ومن ثم فحواسه لا تكتفي بتلقي الأشياء مع الغفلة عن دلالاتها التي تحيل إلى نظامها وفعل‬ ‫خالقها ومصورها فلا يكون ممن هم \"صم بكم عمي فهم لا يعقلون\" فيصبح بصره بصيرة وسمعه‬ ‫سميعة وشمه شميمة وذوقه ذويقة ولمسه لميسة‪ .‬وإذن فتحنف الرسول في غار حراء قبل نزول‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪42‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫القرآن عليه دليل على أنه شرع في التذكر بذاته وأنه تلقى الوحي الثاني لما بلغ هذا المستوى‬ ‫الأول ما يجعله قابلا للاصطفاء للمستوى الثاني‪.‬‬ ‫ولهذه العلة كان جوابه لجبريل ما أنا بقاريء أي إنه لم يكلف بأن \"يقرأ\" على غيره كما سيكلف‬ ‫\"بالقراءة على مكث\" أعني الانتقال من التذكر الذاتي الكوني إلى تذكير الغافلين‪ .‬وفي ذلك حل‬ ‫لإشكالية بقيت غامضة في قصة الكهف الأفلاطوني‪.‬‬ ‫فمن يذكر المقيمين في الكهف الذين يرون الظلال ويبقون في ضلال هم من لم يتذكروا بذواتهم‬ ‫دون أن يفقدوا القدرة على التذكر لأنهم لو فقدوها لاستحال عليهم فهم التذكير‪ .‬وإذن‬ ‫فالتذكير المحمدي له وجهان‪:‬‬ ‫‪ .1‬نقدي لا ينفي الرسالتين (التصديق)‪.‬‬ ‫‪ .2‬وإيجابي يصلح تحريفهما بتقديم البديل السوي منهما (الهيمنة)‪.‬‬ ‫وذلك هو معنى الإصلاح الديني الذي نقلنا من الأديان الجزئية الخاصة بالأمم أمة أمة إلى‬ ‫التذكير الكلي الذي يشمل الإنسانية ككل وهو تذكير الإنسان بما فطر عليه وبما يمكنه أن يدركه‬ ‫بذاته إذ حتى عندما يذكره غيره فهو لا يتذكر بفعل المذكر تقبلا غير مصحوب التذكر الذاتي‪.‬‬ ‫وفرضيتي هي أن تحنف الرسول الخاتم حدث تاريي في علاقة بالتاريخ الديني والتاريخ السياسي‬ ‫للجماعات البشرية وله علة عينية تجعل الإسلام حركة إصلاح ديني وليس دينا جديدا لأنه‬ ‫محاولة لبيان الديني في كل دين واعتبار ما يميز الأديان العينية لا تختلف عنه إلا بما طرأ عليها‬ ‫من تحريف‪.‬‬ ‫ولا بد إذن أن يكون في تحنفه قد انطلق من ظرفية كانت فرصة التدبر الديني وتطبيقاته‬ ‫السياسية والخلقية في حياة البشر الفعلية‪ .‬وفرضيتي هي أن الفرصة توفرت من خلال زواجه من‬ ‫خديجة واطلاعه عن قرب عن الاديان المنزلة والطبيعية بوصفه قد سافر وتاجر واطلع على‬ ‫أوضاع البشر وما فيها من نتائج التحريف الديني‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪43‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فخديجة مسيحية من أسرة مسيحية والتجارة مع الشام مكنته من معرفة المسيحيين العرب واللقاء‬ ‫بغيرهم من الأديان الأخرى‪ .‬ولا أحد يطلع على المسيحية لا يدرك معنى التحريفين المسيحي‬ ‫واليهودي اللذين يمثلان أهم قضية في سورة آل عمران وعلاقته بتأليه المسيح‪.‬‬ ‫والأمر الأهم هو أن ما ترتب على تأليهه حول نظرية خلق (لأن عيسى يشبهه القرآن بآدم) وحول‬ ‫علة الوجود الدنيوي (الخطيئة الموروثة)‬ ‫وحول الوساطة الكنسية والوصاية السياسة المترتبتين عليهما وما تعنيانه من صيرورة البشر أربابا‬ ‫بعضهم على بعض واستكمالا لنظرية الشعب المختار أعني كل التحريفات التي يعالجها القرآن‬ ‫بمنطق التصديق والهيمنة‪.‬‬ ‫وكل ذلك ذو صلة بينة بتحريف علاقة سياسة عالم الشهادة بعالم الغيب الذي هو موضوع التدبر‬ ‫الوجودي الذي وصفت والذي يمثل النوع الأول من الخطاب القرآني النقدي للتحريف عامة‪.‬‬ ‫فالقرآن بهذا المعنى إصلاح ديني هدفه تحرير رسالة التذكير من التحريفين المسيحي واليهودي‪:‬‬ ‫‪ .1‬التحرير من عقيدة المنجي المختار الذي هو ابن الله وهو من شعب الله المختار والذي يؤسس‬ ‫سلطة الوساطة الروحية وسلطة الوصاية السياسة أو الحق الإلهي في الحكم‪.‬‬ ‫‪ .2‬التحرير من عقيدة الشعب المختار الذي هو الوحيد الذي يتصل به الوحي التكليفي وذلك‬ ‫بتعميم الرسالة على جميع الشعوب لأن البشر اخوة ومتساوون ولا يتفاضلون إلا بالتقوى‪.‬‬ ‫وهكذا أصل إلى إشكالية هذا الفصل الأخير انطلاقا مما ختمت به الفصل السابق‪:‬‬ ‫‪ .1‬البحث في خصائص الخطاب القرآني الذي لا يمكن مقارنته بمضمون الأدب ولا بمضمون‬ ‫العلم بل هو مثل المقدرات الذهنية النظرية والعملية مطلقة التجريد بحيث لا شيء من‬ ‫الموجود العيني يمكن أن يطابقها‪ .‬وهو إذن جنس مختلف عنهما رغم كونه من جنسهما لأنه‬ ‫استراتيجية سياسية حول شروط امكان الاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها بتذكير‬ ‫الإنسان بالعلاقة بين هذه العوالم الخمسة‪.‬‬ ‫إنها خطابات ذات حبكة تجمع بين استراتيجية العلاج الديني واستراتيجية العلاج الفلسفي‬ ‫لمشكلتي الوجود المطلقتين اللتين حددنا (خلق الوجود وأمر الموجود)‪ .‬وهما إذن فوق العلم والعمل‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪44‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لأنهما عين شرطيهما في كيان الإنسان ولا يتعلقان بالمضامين العينية المتغيرة في المكان والزمان‬ ‫مجال العلم والعمل في حين أن الخطابين الديني والفلسفي يعنيان بشرطهما البنيوي الثابت‬ ‫والمتعالي على المكان والزمان‪.‬‬ ‫‪ .2‬الوعد ببيان ذلك من خلال شرح القصد بهذه المعاني المقدرة ذهنيا في النظر والعمل في‬ ‫علاقة بالخطاب القرآني‪:‬‬ ‫• الأول من سورة هود لبيان العلاقة بين سياسة عالم الشهادة سياسة عالم الغيب حول تحرير‬ ‫الإنسان ليكون قادرا على تعمير الأرض والاستخلاف فيها‪.‬‬ ‫• الثاني من سورة يوسف لبيان كيفية حصول الوعي بهذه العلاقة للانتقال من الأذهان إلى‬ ‫الأعيان في تحقيق استراتيجية تعمير الأرض والاستخلاف فيها‪.‬‬ ‫وفي الحالتين يجتمع نوعا استراتيجية التذكير من حيث هو إيقاظ للإنسان بما جهز به ليكون قادرا‬ ‫على تحقيق ذلك جمعا بين المنشود من مثل عالم الغيب والموجود من واقع عالم الشهادة وما بينهما‬ ‫من تفاعل يكون الأول بمقتضاه وكأنه مجال النظر والعقد المعرفي والثاني وكأنه مجال العمل‬ ‫والشرع القيمي‪.‬‬ ‫فتكون النسبة بينهما عين النسبة بين المقدرات الذهنية الرياضية وعلوم الطبيعة والمقدرات‬ ‫الذهنية الخلقية وعلوم التاريخ‪ .‬وما يقتضي مقدمة حول علة الجمع بين النظر والعقد وبين‬ ‫العمل والشرع اذكر فيها بما تم بيانه بتعمق في محاولات سابقة‪:‬‬ ‫‪ .1‬فأولا لا بد من التحرر من خرافة المقابلة بين النظر المعرفي والعقد‪ .‬فالنظر المعرفي ينطلق‬ ‫من العقد وينتهي إليه‪ .‬ومن يتوهم عكس ذلك يقصر العقد على العقد الديني‪ .‬لكن العقد‬ ‫في المعرفة يبدأ فرضيا وينتهي فعليا‪ :‬كل باحث عن الحقيقة يفترض موضوع البحث موجودا‬ ‫وذا نظام وذلك تسليم عقدي فرضي‪ .‬ويعتبر بحثه المعرفي قد وصل إلى نتيجة موجبة إذا‬ ‫اعتقد أنها هي الحقيقة التي افترضها أو إلى نتيجة سالبة إذا اعتقد أنها ليست الحقيقة‬ ‫التي افترضها‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪45‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .2‬وثانيا لا بد من التحرر من خرافية المقابلة بين التقييم العملي والشرع‪ .‬فالتقييم العملي‬ ‫ينطلق من الشرع وينتهي إليه‪ .‬ومن يتوهم عكس ذلك يقصر الشرع على الشرع الديني‪.‬‬ ‫لكن الشرع في القيم حتمي لأن ما ليس له معايير قيمية لا قيمة له‪ .‬القيمة هي معيار شرعي‬ ‫سواء افترض من طبيعة الشيء كما في القائلين بالتحسين والتقبيح أو من وضع مشرع غير‬ ‫طبيعي كما في الأديان‪.‬‬ ‫وإذن فلا يمكن الفصل بين العقد والنظر لأنهما متلازمان في الفكرين الديني والفلسفي‪ .‬ولا يمكن‬ ‫الفصل بين الشرع والعمل لأنهما متلازمان في الفكرين الديني والفلسفي‪ .‬والمقابلة نقل عقل من‬ ‫علامات الحمق الابستمولوجي والأكسيولوجي‪.‬‬ ‫فلا يوجد علم لا تكون خصائص موضوعه نقلية إذا كان ليس من المقدرات الذهنية ولا يوجد عمل‬ ‫لا تكون خصائص موضوعه نقلية إذا كان ليس من المقدرات الذهنية‪ .‬وتلك هي العلة في كون‬ ‫خصائص الموضوع لا تخرج من أحد تحديدين‪:‬‬ ‫‪ .1‬إما تحديد المقدرات الذهنية التي تبدع الموضوع وعلمه في النظر والعقد والقيمة في العمل‬ ‫والشرع‪.‬‬ ‫‪ .2‬أو تحديد الموجودات العينية خارج الذهن وهو فترض وجودها وكيفها بداية وينتهي إلى‬ ‫اثباتها أو نفيها أو عدم الحسم غاية‪.‬‬ ‫ولما كنت قد درست المثالين وشرحت السورتين‪-‬يوسف وهود‪-‬فلن أعود إليهما ويكن طلبهما من‬ ‫المحاولات السابقة فإني سأكتفي ببيان القصد أنهما يتأسسان على العلاقة بين سياسة العالمين عالم‬ ‫الشهادة وعالم الغيب لأن سياسة الثاني الربوبية هي مصدر المثل التي يشرئب إليها الإنسان في‬ ‫مسعاه التحرر من النسيان والانشداد إلى المنشود لترقية الموجود في كيانيه العضوي والروحي وفي‬ ‫محيطيه الطبيعي والتاريي‪.‬‬ ‫وقبل ذلك لا بد من ملاحظة سريعة في مسألة التخميس الذي يحرر من التثليث ويعيد إلى العلوم‬ ‫والقيم سلم درجاتهما‪ .‬فإذا كانت العلاقة المعرفية والقيمة هي دائما علاقة بين الذات والموضوع‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪46‬‬ ‫الأسماء والبيان‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook