أبو يعرب المرزوقي re nils frahm ومنطق التحولات القيمية الأسماء والبيان
المحتويات 2 -الفصل الأول 1 - -الفصل الثاني 10 - -الفصل الثالث 20 - -الفصل الرابع 29 - -الفصل الخامس 39 -
-- الإشكالية التحولات القيمية في الاجتماع الإنساني أبدأ بتعريف التحولات القيمية التي تتبع -في الرؤية الخلدونية -مما اصطلح عليه ابن خلدون- بمفهوم \"نحلة العيش\". فهي عنده الأصل الحاصل من علاقة ما يستمده الإنسان من أحياز وجوده الداخلية المناسبة لأحيازه الخارجية وفرعي تفاعلهما ووحدتها جمعيا في \"نحلة العيش\" التي تمثل بتكوينيتها التحولات القيمية في الجماعة. فأحياز وجوده الداخلية هي كيانه العضوي وكيانه الروحي وفاعلية الاول في الثاني .1 وفاعلية الثاني في الأول ووحدته التي هي عين ذاته. .2 .3 وأحياز وجوده الخارجية هي قسط جماعته من المكان أو جغرافيتها وقسطتها من الزمان .4 أو تاريها وأثر الجغرافيا في التاريخ أو التراث وأثر التاريخ في الجغرافيا أو الثروة وأصلها جميعا الذي يوحدهما هو هوية الجماعة الحضارية. .5 ويوجد تناظر بين ما يستمده كيان الإنسان العضوي من الجغرافيا وما يستمده كيان الإنسان الروحي من التاريخ وما يستمده من التراث هو مضمون فكره وما يستمد من الثروة هو مضمون بدنه ووحدة كيانه هي عين ذاته التي حصيلة نحلة العيش. ورغم أن هذه التناظرات في عصر العولمة لم تعد رهن حصة كل جماعة من الجغرافيا وحصتها من التاريخ ومن تفاعلهما أي من تراث الجماعة وثروتها ومن هويتها الحضارية بسبب تحول المعمورة كلها إلى سوق اقتصادية واحدة وسوق ثقافية واحدة فإن ذلك لا ينفي أن المسيطر هو غلبة ما بينا في ثالثا. ذلك أن ما هو حاصل مما ذكرنا في رابعا كان بالقوة المنتقلة بالتدريج إلى الفعل في كل تاريخ الإنسانية لأن الجماعات البشرية لم تكن فاقدة للتواصل وكان بينها شيء من أبو يعرب المرزوقي 1 الأسماء والبيان
-- السوق الاقتصاد والثقافة العالميين بين المتجاورين في المكان والمتوالين عليه والمتعاصرين في الزمان والمتوالين فيه. وتلك هي نظرية الإسلام في وحدة الإنسانية وفكرة الدولة الكونية التي بني عليها فكر الإسلام، ومن هذه الرؤية التي تتصف بها نحلة العيش في علاقتها بما تعتبره ما بعد لهذه المقومات الأربعة أساسا للقيم ذاتها أيا كان الشكل الذي تتجلى فيه وذلك خلال الانتقال من فاعلية الطبيعة في الثقافة نزولا وفاعلية الثقافة في الطبيعة صعودا وبصرف النظر عن الحكم القيمي المتعلق بما بعدها بالقياس إلى أثرها في ما تقيمه فتجعله يرى بمقتضاها: .1فالقيم كلها ترد إلى أصل مضاعف فرعه الأول يمكن وصفه بعلاقتها بالثروة المادية التي هي شرط قيام الإنسان العضوي الذي تقاس حريته بدرجة استقلاله في تحصيله .فمن لا ثروة مادية له منها الحد الأدنى هو شروط الكفاف في الجماعة فلا يمكن أن يكون للقيم عنده ما يصل لقيمتها الروحية أي منزلة الحرية. .2والقيم كلها ترد إلى نفس الأصل وفرعه الثاني يمكن وصفه بعلاقتها بالتراث الروحي الذي هو شرط قيام الإنساني الروحي الذي تقاس كرامته بدرجة استقلاله في تحصيلها. فمن لا تراث روحي له منه الحد الأدنى هو من شروط الشرف في الجماعة فلا يمكن أن يكون للقيم عنده ما يصل لقيمتها الروحية أي منزلة الكرامة. .3وبذلك يتبين أن لفرعي الأصل علاقة تفاعل فكلاهما له أثران تابع ومتبوع وهما ما يفسر التحول الكيفي في دور القيم في حياة الفرد والجماعة (حرية شرطها الملكية المادية وكرامة شرطها التراث الروحي) وبه يفسر القرآن كل التاريخ الإنساني الذي هو: • من منظور عالم الشهادة فلسفة تاريخ • ومن منظور عالم الغيب فلسفة دين ومن منظور علم الاجتماع فلسفة القيم الاجتماعية التي تحدد منزلة: • حرية الإرادة أبو يعرب المرزوقي 2 الأسماء والبيان
-- • واستقلالية الرؤية • وصدق المعرفة • وسلامة الذوق ومن ثم القدرة الوجودية الجامعة بين الفعل المادي(الاقتصاد) والفعل الروحي(الثقافة): Vermögen ❖ فالأول يستتبع الثاني بين المحتاجين وهو أصل العبودية المادية التي تمكن أصحاب الثروة من السيطرة على غيرهم من المعدمين ماديا وهو المستوى المقدم بسبب التأثير المباشر في الدنيا وغير المؤجل مثل الثاني في الآخرة. ❖ والثاني يستتبع الاول عند الرافضين لرد الإنسان إلى مستواه الأدنى (شروط العيش النباتي) بالانتقال مباشرة إلى المتعالي المطلق لتأسيس العبودية الروحية التي تمكن أصحاب التراث من السيطرة على غيرهم من المعدمين روحيا. .4والحصيلة الأولى الممكنة هي الحلف بين هذين النوعين للسيطرة برمز الثروة وليكن العملة التي تترجم إليها كل أنواع الثروة .وهذه الترجمة هي وظائف أداة التبادل. .5والحصيلة الثانية الممكنة هي الحلف برمز التراث وليكن الكلمة التي تترجم إليها كل أنواع التراث .وهذه الترجمة هي وظائف أداة التواصل. فمن دون حلف بين المسيطرين على أداة التبادل والمسيطرين على أداة التواصل في الاتجاه الأول من التبادل إلى التواصل أو في الاتجاه الثاني من التواصل إلى التبادل لا يمكن أن يستقر النظام فتتكون طبقتا الخاصة المادية والخاصة الروحية. وهما طبقتان متنافستان على السلطة في الجماعة تقديما للمادي على الروحي أو للروحي على المادي إما بصدق أو بنفاق وذلك بما يبقى من دور طبقات العامة في الجماعات التي تكون إما مؤلفة من الأحرار أو من العبيد. أبو يعرب المرزوقي 3 الأسماء والبيان
-- لكن هذين النوعين من العامة بفضل هذه التبعية هما شرط الاستقرار في النظام الاجتماعي الذي هو بدوره شرط للاستقرار في النظام السياسي .وتكون الأسر الحاكمة -سواء كانت قبلية أو عسكرية أو حزبية -هي التي تعتبرها الجماعة: .1ذات صلة بالآلهة حصرا فيها بالنسبة على منطق العبودية. .2أو شاملة للبشر من حيث هم بشر بالنسبة إلى منطق الاحرار. لأن معين النظامين هو هذا الانقسام الطبقي والتراتبي الذي يكون فيه بعض الناس أربابا بالأموال مؤيدين بوسطاء مع رب متعال بالأقوال .لذلك فأول الأنظمة السياسية لا يمكن ألا يكون ثيوقراطية متعينة: .1في أسرة حاكمة تنسب إلى أصل ربوبي لها سلطان الوصاية المادي والفعلي على شؤون الدنيا وعالم الشهادة وشروط العيش المشترك وتنظيم حياة الجماعة بحسب إرادتها ورؤيتها التي تعتبر شرعا إلهيا. .2وفي طبقة من رجال الدين لهم سلطان الوساطة الروحي والرمزي على شؤون الآخرة وعالم الغيب يؤيدونهم بما يزعمونه من علاقة برب الأرباب :والمثال النظام الفرعوني. وكلاهما يمكن أن يكون صادقا أو منافقا .وغالبا ما تقع ثورة صادقة أو منافقة باسم نفس العلتين أي بالموقف من أداة التبادل وأداة التواصل فينتج من ثم ثورتان اخريان من الصادقين على المنافقين ومن المنافقين على الصادقين. فمن الصادقين تأتي الثورة على المنافقين بمحاولة قلب العلاقة بين السلطان الفعلي في عالم الشهادة والسلطان الرمزي في عالم الغيب .وتلك هي بداية الأديان التي تمثل ثورة الروحي والرمزي على المادي والفعلي في التاريخ. ويمكن اعتبار ثورة موسى ممثلة لغاية هذا الانقلاب .فالقرآن يبين أن ثورته تمثلت في بيان أن النخبة التي تؤدي وظيفة الوساطة الروحية والرمزية التي اراد فرعون الاستنجاد بها فشلت أمام حجج موسى فانضمت إليه وأصبح فرعون مضطرا للجوء إلى سلطان الوساطة العنيفة. أبو يعرب المرزوقي 4 الأسماء والبيان
-- لم يكن بوسع موسى التصدي لقوة الوصاية العنيفة فكان قرار الهجرة-كما فعل الرسول الخاتم لكن الفرق أنه فهم علة فشل ثورة موسى وعجزه دون تكوين قوة التصدي الفعلي للوصاية أو الجهاد المؤيد للاجتهاد-لكن الهجرة صارت فرصة لإنهاء ثورة التحرر من العبودية الثقافية (سلطة التربية والحكم) :نشأة دين العجل. فما دين العجل؟ تحويل العملة إلى أداة السلطة الفعلية في عالم الشهادة والمادة وتحويل الكلمة إلى أداة السلطة الرمزية في عالم الغيب تحويلهما إلى أداة السيطرة على القوة الفعلية في عالم الشهادة (الذهب) والقوة الرمزية في عالم الغيب (الخوار). وهذا هو الشكل الثاني من الأنظمة السياسية .لكن كيف تمت النقلة من انقلاب موسى إلى انقلاب السامري الذي أوصل إلى دين العجل بدل الدين الذي اراد أن يحرر الإنسان من تبعية السلطة الروحية للسلطة المادية؟ فانقلاب أصحاب السلطان المادي على اصحاب السلطان الروحي على الانقلاب الذي يمثله موسى ممكن. إنه تدارك المادي والفعلي بما يقابل النظام الثيوقراطي وهو النظام الانثروبوقراطي الذي يزعم أنه لا وجود لما وراء عالم الشهادة والرب الوحيد هو الإنسان والإيهام بأن كل ما يتكلم على الماوراء سلطانه وهمي وأن السلطان الفعلي هو سلطان القوة المادية، فهي التي تسيطر على سلطان القوة الروحية في الإنسان :الرب ليس شيئا آخر غير رمزه أي العجل الذي صنعه الإنسان وجعله يور بما يتوهمه تأثيرا ربوبيا كما نبين .وإذن فلا بد أن يكون السامري من السحرة الذين هاجروا مع موسى-فالسحرة في دولة فرعون كانوا علماء كبار في الرياضيات وفي الاقتصاد وتوزيع الثروة: .1فبمجرد غياب موسى زعم السامري أنه رأى جبريل الذي أتى بالوحي لموسى فاخذ بعضا من غبار أثارته حوافر فرسه ورماها على العجل الذهبي (رمز الرب عند الفراعنة لأنه أبو يعرب المرزوقي 5 الأسماء والبيان
-- صهر من الذهب الذي استعير ولم يرجع لأصحابه) فصار يور (البديل من الدين الصحيح). .2ليصبح التواصل مقدما على التبادل فيكون دين العجل هو عين الثيوقراطيا ولكن بعلمنتها أي إنها الحكم بالدين الذي صنعه الإنسان وزعم أنه منزل وهو إذن تأليه لقوى عالم الشهادة واعتبر عالم الغيب مجرد رب خيالي له بعدان هما بعد العملة (أداة السلطان على كيان الإنسان العضوي) والكلمة (أداة السلطان على كيان الإنسان الروحي): ❖ القوة المادية لم تعد العنف المباشر بل الاستعباد بالسلطة على المتبادلين أي البنك وانقلبت العلاقة بين السلطتين المادية بالعنف المسلح والرمزية بالعنف المرمز. ❖ والقوة الروحية لم تعد العنف بالمباشر بل الاستعباد بالسلطة على المتواصلين أي الاعلام وانتقلت العلاقة بين السلطتين الرمزية بالعنف المابعدي بالعنف المادوني. فتكون حصيلة الانقلابين واحدة لأن فشل الانقلاب الأول هو ردة رستوراسيون لما تقدم عليه ولكن بأنسنته (الرب صار الإنسان) وفي الحقيقة اكتشاف طبيعة ما كان قبل الانقلاب الأول أي إن النظام الفرعوني كان ثيوقراطيا ناسوتية تدعي أنها لاهوتية. وتلك هي البنية العميقة للثيوقراطيا والانثروبوقراطيا وذلك هو النظام الذي اصطلحت عليه فسميته الأبيسيوقراطيا أي نظام دين العجل الذي هو البنية العميقة لنظام واحد ذي وجهين الأول هو الثيوقراطيا والثاني هو الانثروبوقراطي. دين موسى لم يتحقق كان وعدا لم يتم وهو معنى غياب موسى وتحوله إلى متصوف يعيش في عالم المثل المتعالية على الدنيا لكأنه يمكن التعالي من دون المتعالي عليه .وذلك ما سيفهمه الرسول الخاتم فيكتشف أنه النظام المحرر من الانقلاب الفاشل والانقلاب الناجح في الردة إلى ما كان موجود يعني اكتشاف أن الدين عند الله هو شد عالم الشهادة لعالم الغيب فعليا وتلك هي السياسة الحقة. أبو يعرب المرزوقي 6 الأسماء والبيان
-- وإذن فالمشكل الذي أريد علاجه يمكن صوغه بهذين السؤالين والعلاج هو محاولة شرح التحول الذي يجعل أداة التبادل ذات سلطان على المتبادلين وهو ربا الأموال وأداة التواصل ذات سلطان على المتواصلين وهو ربا الأقوال: .1كيف تصبح أداة التبادل ذات سلطان على المتبادلين فيصبح ربا الأموال هو المتحكم في سياسة عالم الشهادة ماديا. .2وكيف تصبح أداة التواصل ذات سلطان على المتواصلين فيصبح ربا الأقوال هو المتحكم في سياسة عالم الشهادة روحيا. وذلك هو الحلف الذي يحكم الإنسانية في كل تاريها وهو انتقال شبيه بما كان سلطان المقايضة أو التبادل العيني إلى سلطان المناقدة المجردة التي تخفي المقايضة العينية .والمقايضة العينية تتعلق بالثروة والتراث أساسين للسلطان مباشرة أي .1حاجة المائدة (الثروة علاج لمشكل المائدة :شروط حماية الحياة في الأفراد (أصل الأسر) .2وحاجة السرير (التراث علاج لمشكل السرير :شروط حماية النسب في الأسر أصل الجماعات). وذلك هو أساس دين العجل الذي يسيطر بمعدنه (أداة التبادل) وبخواره (أداة التواصل) تصبحان مسيطرتين على الجماعة بوصفها: .1متبادلة بالعملة البديل من المقايضة والمخفية لسلطة المادة (في علاج سد حاجاتها العضوية من حيث هي علاقة بما يدين به الإنسان إلى الطبيعة) .2ومتواصلة بالكلمة البديل من الإشارة والمخفية لسلطة الروح (في علاج سد حاجاتها الروحية من حيث هي علاقة بما يدين به الإنسان إلى التاريخ). ولم ألجأ إلى هذا المدخل لدراسة الرؤية الخلدونية التي تمكن من فهم تطور القيم بمقتضى تطور نحل العيش إلا لأني عفت ظاهرتين تكلمت فيهما عندما وصفت أثر كاريكاتور التحديث على الفلسفة وأثر كاريكاتور التأصيل على الدين. أبو يعرب المرزوقي 7 الأسماء والبيان
-- فالفلسفة والدين صارا خاضعتين لموضة الشعارات الفلسفية المبتذلة في التقريب الجمهوري لأدعياء الحداثة وأدعياء الأصالة لكأنه بوسع الإنسان أن يميز بين الديني والفلسفي في تكوينية القيم وتطورها وهو ما اعتبره ممتنعا كما يتجلى ذلك من مفهوم \"نحلة العيش\": • فأول تقريب جمهوري معينه ما يمكن أن يرد إلى ملح الماضي الإسلامي الذي جمدوه في شعارات مبتذلة. • وثاني تقريب جمهوري معينه ما يمكن ان يرد إلى ملح الحاضر الغربي الذي جمدوه في شعارات مبتذلة. ذلك أن النخب إلى الثقافة الشفوية تلقيا وبثا بفضل أدوات التواصل الاجتماعي الذي ألغى كل إمكانية للتأمل الفكري وتحصيل الزاد العلمي .فإذا أضفنا إليهما كثرة كلام المتصارعين في ركح السياسة والاعلام حول دعوى أخلقة السياسة فإن السيل يبلغ الزبى. فهم يدعون تمثيل الأخلاق إما باسم الدين أو باسم الفلسفة في حين أن السلوك المسيطر يقدم الأدلة القاطعة على فقدان دلالتها الدينية والفلسفية لفقدان مرجعيتهما نبرة الصدق حتى حولهما النفاق إلى ربا الأقوال (خوار العجل) التابع لربا الأموال (معدن العجل). وهذان النوعان من الربا هما علتا كل انحطاط تجليه الأبرز هو استعباد الإنسان الذي عم في كل مكان وهو معنى العولمة المادية المطلقة .صحيح أن هذه العبارة الاستعارية -ربا الأقوال قياسا على ربا الأموال-ذات صلة بقصة العجل الذهبي وهي مستمدة من قصة قرآنية حول نشأة دين العجل. فهذه القصة وردت في لحظة فارقة في تاريخ الإنسانية تمثلت في محاولة التحرر من الشكل الأول من الأديان الطبيعية بأديان تصف نفسها بكونها أديان منزلة في علاقة بمحاولة تأسيس الحياة الإنسانية على قيم تحاول تحرير الإنسانية من مآل: • السلطة السياسية إلى سلطة معدن العجل فتكون وصية على الإنسان في شأنه الدنيوي ومسيطرة على شروط قيامه العضوي • السلطة الروحية إلى سلطة خوار العجل فتكون وسيطة بين الإنسان وشأنه الأخروي ومسيطرة على شروط قيامه الروحي. أبو يعرب المرزوقي 8 الأسماء والبيان
-- وهتان السلطتان تعتمدان على هذين النوعين من الربا اللذين هما أداتا استعباد الإنسان بما أحدثتاه من انقلابين عرضهما القرآن الكريم في قصة موسى والتحرير من العبودية لسلطة الثقافة بعد التحرر من العبودية لسلطة الطبيعة. والمعلوم أن التحرر من سلطة الطبيعة رمزه نوح لأن ما حققه هو بداية التحرير من العبودية الطبيعية بثورة تقنية (صنع السفينة) وزراعية (اخذ زوجين اثنين من كل شيء لاستنباته) .وقد بينت ذلك خلال شرح قول الرسول عن هود وأخواتهما وتشييبهما رأسه أعني شرح ثورة نوح وثورة موسى. وأدوات الاستعباد هي ما ثار عليه هود وصالح ولوط وشعيب .لكن شرط التحرر منه يوجد بين الأولين والأخيرين أعني ثورة إبراهيم التي تحرر من هذه الأدوات بالثورة الجامعة بين الثورتين: ثورة نوح التي تخلص الإنسان من عبادة الطبيعة. وثورة موسى التي تخلص الإنسان من عبادة الثقافة. وهذه الثورة الإبراهيمية كما هو معلوم هي تحرير الإنسان من كل عبودية لغير الله أي من الوثنيتين اللتين ترمزان إلى: • استعباد كيان الإنسان العضوي بسلطان الطبيعة عليه وتأليه قواها. • واستعباد كيان الإنسان الروحي بسلطان التاريخ عليه وتأليه قواه. فثورة ابراهيم جامعة بين ثورة نوح لأنها ضد عبادة الأفلاك التي يرد إليها سلطان الطبيعة على الإنسان ومن آثارها الاعتقاد في إرادة أرباب السماء وثورة موسى لأنها ضد عبادة الدولة التي يرد إليها سلطان التاريخ على الإنسان ومن أثاره الاعتقاد في إرادة أرباب الأرض .والتحرر الجامع تحرر من مثلجة الطبيعة ومثلجة التاريخ. أبو يعرب المرزوقي 9 الأسماء والبيان
-- قبل أن أواصل الكلام في اشكالية القيم وتطورها لا بد من الإشارة إلى مسألتين أولاهما تتعلق بما يبدو في المحاولة ذاتها من تناقض بين رفضي لما يسمى بالإعجاز العلمي وعرض استراتيجية القرآن في مسألة التكوينية القيمية بما يشبهه. وهي اشكالية أؤجل علاجها إلى ما بعد عرض النظرية الخلدونية حول تكوينية القيم لأن البداية في هذا الفصل الثاني تتعلق بنظرية ابن خلدون القيمية التي لها صلة باستراتيجية القرآن موضوع المسألة الأولى التي لا يمكن علاجها قبل بيان ما يبدو وكأنه من الاعجاز العلمي وهو ليس منه كما سأبين في الفصول الموالية. فابن خلدون يؤسس ضمه التاريخ إلى الفلسفة واعتبار الفلسفة نفسها تاريية بقلب العلاقة بين الطبيعة والتاريخ جاعلا من علمه \"علم العمران البشري والاجتماع الإنساني\" علما رئيسا (ارشيتاتكتونيك) هو ما بعد التاريخ الذي يشغل دور الميتافيزيقا في الفلسفة اليونانية. وهو يؤسس نظريته في تكوينية القيم كلها -قيم التجربة الطبيعية والاقتصادية وقيم التجربة الروحية الثقافية وأصلها جميعا أي الرؤية الوجودية -على مفهوم \"نحلة العيش\" من حيث هي حصيلة التوالج بين مفهومي الاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها القرآنيين. وهي حصيلة تمثل قطيعة مع النظرية الطبعانية التي تعتبر قوى النفس أساس القيم ومعادن البشر التي ترد القيم إلى الطبائع في الفلسفة اليونانية .ومعنى ذلك أن ابن خلدون لم يجد علما حاصلا ثم بحث عما يناظره في القرآن بشرح ألفاظه ليثبت سبقا قرآنيا لأمر صار معلوما في علوم عصره أو قبله بل هو أبدع علما بالطريقة التي يقع بها الابداع العلمي. إنما هو خلال النقد المعرفي لعلوم عصره -الفلسفة والتاريخ -بحث في ما ينبغي البحث فيه لمعرفة موضوعه وإعادة النظر في ما كان يحول دون الاكتشاف الذي حققه .فابن خلدون لم يستمد نظريته من شرح الفاظ القرآن فيكون بحثه أبو يعرب المرزوقي 10 الأسماء والبيان
-- وكأنه من جنس بحث أصحاب الاعجاز العلمي بل هو يستمدها من دراسة علمية لما صار عنده ما بعد التاريخ إذا قورن بعلاقته بالتاريخ المناظرة لعلاقة ما بعد الطبيعة بالطبيعة. وذلك هو العلم الذي سماه \"علم العمران البشري والاجتماع الإنساني\". فهو يرفض رد القيم-التي يسميها معاني الإنسانية -إلى معادن البشر من حيث هي طبائع دون أن ينفي أن للطبائع دورا .ورؤيته تختلف بهذا كليا عن رؤية فلاسفة اليونان .فلكأنه أدرك أن الطبيعة نفسها-سواء التي في الإنسان أو التي خارجه -ليست ثابتة بل هي في صيرورة متساوقة مع الإنسان نفسه أو مع ما بينها وبين الإنسان من تفاعل في الاتجاهين. صحيح أن أرسطو قد عدل رؤية المعادن وقوى النفس الثلاث بعض التعديل بالكلام على الطبيعة الثانية التي تنتج عن العادات والتربية .لكن تطور العلاقة بين الطبيعة والإنسان بقيت خاضعة لقوى النفس الثلاثة .فلكأنها علاقة طبيعة خارجية بطبيعة داخلية دون أن يكون لهذه العلاقة في الاتجاهين دور يذكر وهو ما يعني أنها ليست تاريية أصلا. لكن ابن خلدون الذي اكتشف فلسفة ما بعد التاريخ التي قدمها على فلسفة ما بعد الطبيعة اعتبر تبادل التأثير بين الإنسان والطبيعة هو العامل الأساسي في فهم مسار القيم وتكوينيتها فردها إلى ما يترتب على هذه العلاقة من نحل العيش الذي يمكن اعتباره أهم نظرية في تأسيس فلسفة التاريخ المتحررة من الطبعانية اليونانية. وقد رد العلاقة بين الإنسان والطبيعة إلى خمسة أبعاد استعملها في الباب الأول من المقدمة دون أن يسميها فسميتها بدلا منه أحياز الوجود وهي تتألف من: .1عامل الجغرافيا وما توفره من شروط قيام الإنسان العضوي التي تتحول بالتدريج من دور الطبيعة في انتاجها إلى دور الإنسان فيه. .2عامل التاريخ وما يحققه من شروط قيام الإنسان الروحي الذي يتحول بالتدريج من دور الجماعة في انتاجها إلى دور الإنسان فيه. أبو يعرب المرزوقي 11 الأسماء والبيان
-- .3أثر العامل الجغرافي في العامل التاريي الناتج عن أثر البقاء في نفس المكان والتواصل من تراث مشترك :علاقة التراث المشترك بالفروق الفردية في الفعل فيه والانفعال به لكأنه حيز جديد مختلف عن المكان والزمان. .4أثر العامل التاريي في العامل الجغرافي الناتج عن أثر البقاء في نفس الزمان والتبادل من ثروة مشتركة :علاقة الثروة المشتركة بالفروق الفردية في الفعل فيها والانفعال بها لكأنه حيز جديد مختلف عن المكان والزمان. .5رؤية الجماعة للعالم ولذاتها الغالبة والناتجة عن العاملين الثالث والرابع بوصفهما عملية جارية بين البشر حول علاقتهم بالمكان والزمان هي التي تحصل من هذين التفاعلين بين شروط قيام الإنسان العضوي ودوره فيها وشروط قيامه الروحي ودوره فيها. وهي رؤية في الأذهان ونحلة عيش في الأعيان. وتلك هي الهوية المشتركة بين أفراد الجماعة وهي في آن مشتركات عضوية (التقارب في المميزات العضوية البدنية لأفراد الجماعة (بسبب التبادل والتزاوج الممتد بين جماعاتها الدنيا) وروحية (التقارب في المميزات الروحية الفكرية لأفراد الجماعة بسبب التواصل والتحاور بين جماعاتها الدنيا) تتجلي في حصيلة ديموغرافية وحضارية يعتبر ابن خلدون تكوينيتها ذات حدين هما أقصى البداوة بداية وأقصى الحضارة غاية وما بينهما من مسار التحضر والتبدي المتداولين في تاريخ الجماعات وفي تاريخ الإنسانية. لذلك فلا يمكن مواصلة الكلام على إشكالية القيم وتكوينية تطورها بمقتضى مفهوم ابن خلدون لما سماه \"نحلة العيش\" أساس نظريته في علم مسار تطورها من دون الاقدام على افتراض نوع من المقدرات الذهنية العملية تكون بالقياس إليها عالم القيمة العملية في التاريخ ما تمثله المقدرات الذهنية النظرية بالقياس إلى عالم المعرفة العلمية في الطبيعة: .1فالمقدرات الذهنية العملية شرط لفهم مسار التطور القيمي في العلوم الإنسانية واكتشاف سننه. أبو يعرب المرزوقي 12 الأسماء والبيان
-- .2والمقدرات الذهنية النظرية شرط لفهم مسار التطور المعرفي في العلوم الطبيعية واكتشاف قوانينه. ولما كانت العلوم الإنسانية تدرس الإنسان من حيث علاقة بعديه الطبيعي والثقافي فإنها تحتوي على القوانين الطبيعية والسنن القيمية وتفاعلهما في الاتجاهين .وذلك هو سر عسرها لأن الإنسان ليس كيانا قائما بمعزل عن علاقته بالطبيعة وبما يترتب عليها من اكتشاف ذاته. ولا بد أن تكون العلوم الطبيعية أيضا دارسة لعلاقة بعدها الطبيعي (من حيث هي موضوع) وبعدها الثقافي (من حيث هي في علاقة برؤى البشر لها) فينبغي أن تكون كذلك ذات صلة بالسنن القيمية وتفاعلها مع القوانين الطبيعية وتفاعلهما في الاتجاهين ومن ثم فهي ستصبح فرعا عن العلوم الإنسانية. وإذن فالمقدرات الذهنية العملية تحدد مسار القيم التي هي سنن تحديد المقدرات الذهنية النظرية مسار الوقائع التي هي قوانين ومن ثم فالتطور القيمي والتطور المعرفي متناسبان دائما ومتفاعلان والاحتكام في ما يستمد منهما نموذجا لفهم الطبيعة ولفهم التاريخ يعني أن للإنسانية نوعين من التجربة التي تحتكم اليهما هما: .1الاحتكام للتجربة الثقافية لانتخاب الفرضيات حول تطور السنن التاريية وهي تجارب روحية بالأساس .والعيب الأساسي في الفكر الماركسي على الأقل في شكله المنحط عند نخب العرب هو ما أدت إليه من حمق الموقف من ذروة هذه التجارب أعني الأديان .وهو سر تخلفها بالقياس إلى الروحانية الهيجلية. .2ولو لم يبالغ هيجل في القول بالمطابقة المعرفية في نقده للإبستمولوجيا الكنطية نقدا ينتهي في الغاية إلى رد التاريخ الروحي إلى التاريخ الطبيعي لكأنه داروينية حضارية لكان قريبا من الحل الخلدوني الذي اعتبره الحل الأتم لنظرية تطور القيم خلال مسارها التاريي الذي لا يتوقف والذي يتنافى مع خرافة العلم المطلق والدين والمطلق ونهاية التاريخ. أبو يعرب المرزوقي 13 الأسماء والبيان
-- .3الاحتكام للتجربة الطبيعية لانتخاب الفرضيات حول تطور القوانين الطبيعية وهي تجارب مادية بالأساس آلت إلى الفكر الوضعي الذي يعتبر الطبيعة قابلة للرد إلى علاقات آلية يقصرها على ما جربه منها مطلقا تجاربه رغم علمه بأنها هي بدورها ليست ثابتة بل متغيرة بتغير أدوات التجريب والإدراك العلمي. .4والعيب الأساسي فيه على الأقل في شكله المنحط عند نخب العرب هو ما أدت إليه من حمق الموقف من ذروة هذه التجارب أعني العلوم .وهو سر تخلفها بالقياس إلى النسبوية العلمية. ولو لم يبالغ الوضعيون في القول بالمطابقة القيمية في نقدها للأكسيولوجيا الكنطية لما انتهى نقدها في الغاية إلى رد التاريخ الروحي إلى التاريخ المادي فصار العلم يعرف بكونه مشروطا بالخلو من القيم والاقتصار على الحقائق لكأن الحقيقة ليست هي بدورها قيمة متغيرة مثلها مثل غيرها من القيم. .5وكلا العيبين يؤديان إلى التنافي بين التجربتين وبن الأبستمولوجي والاكسيولوجي في حين أن التطور فيهما علته ما بينهما من علاقات هي عينها علاقة الإنساني بالطبيعي كما حددناهما في مقومات الاحياز الخارجية والداخلية. فالإنسان هو بدوره مؤلف من كيانه العضوي وكيانه الروحي وأثر الأول في الثاني وأثر الثاني في الأول والحصيلة وفي ذلك تناظر مع الأحياز الخارجية التي أشرنا إليها في بداية هذا الفصل: .1فالتجارب الروحية تتعلق برؤية الإنسان لمحيطه من خلال رؤيته لذاته وكيانه الروحي. .2والتجارب المادية تتعلق برؤية لذاته من خلال رؤيته لمحطيه .الطبيعي وكيانه العضوي. وهذه العلاقات هي عناصر المعادلة الوجودية التي تضيف إليها ما وراء ترد إليه القوانين والسنن أو كون الأمور هي على ما هي عليه دون أن يكون لوجودها أولا ولكونها على ما هي أبو يعرب المرزوقي 14 الأسماء والبيان
-- عليه تعليل عدى كونها أمرا واقعا لا شيء يعللهما أو ينفيهما .فلا وجود لجواب عن سؤالي الإنسان من حيث هو قادر على التوجيه: .1لماذا يوجد شيء بدل لا شيء؟ .2لماذا ما يوجد بالشكل الذي هو عليه؟ .3وكيف للإنسان أن يكون قادرا على السؤال الاول أي تصور الوجود مجرد ممكن وبديله العدم؟ .4وكيف للإنسان أن يكون قادرا على السؤال الثاني أي تصور كيف الموجود مجرد ممكن وليس ضروريا؟ .5فيكون اللغز ليس السؤالين الأول والثاني بل الثالث والرابع وهما اللغز الإنساني الذي يتمثل في قدرة التوجيه ما يعني أنه ليس غارقا في عالم الشهادة بل هو متعال عليه يستطيع أن يطفو فوقه ليسائله ويسائل نفسه عن وجودها وعدمها وعن وجود عالمها وعدمه وعن كيف الوجودين والعدمين. والدراسة ليست في فلسفة الدين ولا في فلسفة التاريخ بل هي في فلسفة اجتماع القيم الإنساني .وقد اخترت عبارة \"اجتماع القيم الإنساني\" في دلالتها الخلدونية التي تجعلها مستوى ثانيا من تاريخ الإنسانية ذا صلة بمستواه الأول الذي يسميه \"العمران البشري\". وهما جزءا اسم علمه \"علم العمران البشري والاجتماع الإنساني. وهو يجمع بينهما بمفهوم من ابداعه\"-نحلة العيش\" يحرر من الفلسفة العملية اليونانية المبنية على فلسفة الطبيعة (قوى النفس الثلاث أي العقل والغضب والشهوة) بفلسفة عملية عربية مبنية على فلسفة التاريخ .فنحلة العيش هي حصيلة التفاعل بين الطبيعة والثقافة او العلاقة بين العمران البشري والاجتماع الإنساني: والأول علاقة بين البشر والطبيعة (للتعاون والتبادل لسد الحاجات العضوية رعاية وحماية) .لكنه مستحيل من دون التواصل بين البشر أولا لتنظيم التعاون والثاني لحماية التبادل بالتعاوض العادل. أبو يعرب المرزوقي 15 الأسماء والبيان
-- والثاني علاقة بين البشر في ما بينهم وفي ما بينهم وبين علاقتهم بالطبيعة ولا معنى للعلاقات التواصلية بين البشر إذا غاب التبادل والتعاوض لأن العلاقات الروحية هي قيم بذاتها وبدورها في التعاوض العادل. ونحلة العيش هي ما يترتب على علاقة العلاقة بالطبيعة بالعلاقة بالثقافة ثم ما يترتب على العلاقة بأثر العلاقة الأولى في العلاقة الثانية ثم ما يترتب على العلاقة بأثر العلاقة الثانية بالعلاقة الأولى وهي إذن حصيلة هذا المربع الذي لا يبقى فيه أي امكانية للفصل بين الطبيعي والثقافي وبين التبادلي والتواصلي. وعندما يحصل الفصل بينهما يكون سلطان الطبيعي في مستواه الأدنى أي خضوع الإنسان لقوانين الضرورة كما في الحرب مثلا ويكون سلطان الثقافة في مستواه الادنى أي خضوع الإنسان الاضعف للإنسان الاقوى وهي كذلك قوانين الضرورة والمعنى العميق للعبودية لغير الله وللوثنية الثقافية. وقد بينت أن سورة هود تعرض هذين النوعين من العبودية وتعتبر ثورة نوح للتحرير من العبودية للطبيعة (عنصر كل حي :الطوفان) وثورة موسى للتحرير من العبودية للثقافة (ثقافة الدولة الفرعونية): .1والثورة الأولى صناعية لما يمكن الإنسان من السلطان على قوة الماء أو الطوفان (السفينة) واستزراع ما يستمده الإنسان من الطبيعة لقيامه العضوي وزراعية لما يمكن الإنسان من انتاج ما تنتجه الطبيعة بالانتقال إلى الزراعة. .2والثورة الثانية سياسية لما يمكن الإنسان من السلطان على الدولة برمزي قوتها العنف المادي والعنف الرمزي أي بجيش فرعون وعلمائه .لذلك كانت ثورة موسى على ثانيهما في مصر ثم على أولهما خلال الهجرة .وكان موسى بحاجة إلى المعجزة (العصا) وإلى بلاغة الخطاب (اخوه). أبو يعرب المرزوقي 16 الأسماء والبيان
-- لكن ما بين الثورة الأولى والثورة الثانية كان لا بد من بيان الوسائط بين العبوديتين العبودية للطبيعة والعبودية للثقافة .والوسائط أربعة اثنان مضاعفان يعالجان ما يعوق ثورة نوح: .1ثورة هود :ضد المستحوذين على الثروة أي المانعين لتوزيع الثروة. .2ثورة صالح :ضد المستحوذين على الماء أي المانعين لتوزيع الماء بعد. واثنان مضاعفان يعالجان ما يعوق ثورة موسى: .1ثورة لوط :ضد الحائلين دون تواصل النوع بالمثلية الجنسية (بدل قتل الأطفال في قصة موسى). .2ثورة شعيب :ضد الحائلين دون شروط التبادل العادل بالتطفيف (الموازين والمكاييل). وبين الحائلين الأولين والحائلين الثانيين نجد ثورة ابراهيم عليه السلام وهي ذات مضمونين أحدهما يشير إلى ثورته في الأذهان والثانية يشير إلى محققها في الأعيان وهو الرسول الخاتم الذي يمكن اعتباره ابراهيم الثاني وبه بشر الملائكة ابراهيم الأول لأن الابن المشار إليه في هود ليس اسحق ولا اسماعيل بل هو رمز يشير إلى ابن روحي إذ إن الخبر تعلق بلحظة لم يعد فيها لا ابراهيم ولا زوجته قادرين على الانجاب العضوي: .1الأول هو ابراهيم الأول ممثل أصل الثورتين في الأذهان أي التحرر من الطبيعة (الافول) ومن الثقافة (الأوثان) :فهي مستحيلة من دون رب فوق الجميع يحرر من العبوديتين للطبيعة والثقافة (ورمزها الكلام على الأفول وفي الاوثان). .2الثاني هو ممثل محمد ممثل أصل الثورتين في الاعيان :فهي مستحيلة من دون أن يصبح الرسول الخاتم محققا لما كان يوجد في ذهن ابراهيم في العلاقة بالثورتين إلى ما في يوجد عين التاريخ في تحقيقهما الفعلي أي في دولة كونية تجمع كل البشر وتلغي العبوديتين بحل مشكل توزيع الثروة وشروطه ومشكل الحياة بحماية شرط وجودها (الماء) وبقائها أبو يعرب المرزوقي 17 الأسماء والبيان
-- (الجنس) وشروط التبادل العادل (المكاييل والموازين) لأن عدمه هو علة الصراعات بين البشر. وبذلك يتبين أن القرآن قد أشار إلى هذه الاستراتيجية التي هي في آن منطق التكوينية القيمية في التاريخ الإنساني الكوني كما يعرضها القرآن .لذلك ففصلت أشارت إلى وجوب البحث في ما يريه الله للإنسان في الآفاق وفي الأنفس من آياته لتكون أصلا لتبين أنه حق: .1فإذا فهمنا من الآفاق الاحياز الخارجية أي الجغرافيا والتاريخ وأثر الأولى في الثاني أو التراث وأثر الثاني في الاولى أو الثورة وما يوحد بينها أربعتها أي هوية الحضارة المعينة علمنا أن الامر كله يتعلق باستراتيجية علاقة الجماعة والأفراد بهذه العوامل في مدلولها الخارجي وهي التي يستمد منها القرآن كل استدلالاته على فلسفته الدينية والتاريية. .2وإذا فهما من الأنفس الأحياز الذاتية أي كيان الإنسان العضوي وكيانه الروحي وأثر الاول في الثاني أي أثر حاجات البدن في حاجات الروح (نظير التراث) وأثر الثاني في الأول أي أثر حاجات الروح في البدن (نظير الثروة) ووحدة كيان الإنسان نظير أي ذاته (نظير الحضارة المعينة) علمنا أن الأمر كله يتعلق باستراتيجية علاقة الجماعة والأفراد بهذه العوامل في مدلولها الداخلي. تلك هي المعادلة الوجودية التي سبق أن شرحتها عديد المرات بصورة نسقية ويكفي الإحالة على تلك المحاولات السابقة لتكون منطلقا لفهم القصد بها في بعديها المتعلق بالإنسان من حيث هو مستعمر في الأرض أي مكلف بتعميرها ومن حيث هو مستخلف فيها أي مكلف بقوامة التعمير التي تخضع للقيم والتي يقدم القرآن وصفا لما يمكن أن يصيبها من أمراض وما يمكن أن يقيها بدارا ويعالجها تداركا: .1والامراض كلها تعود إلى دين العجل أي عبادة معدن العجل وخواره .والأول هو ربا الأموال والثاني هو ربا الأقوال .والعلاج هو تحرير الإنسانية من نوعي الربا. أبو يعرب المرزوقي 18 الأسماء والبيان
-- .2والعلاج وقاية وتداركا هو عين الانتقال من ثورة ابراهيم في الأذهان إلى ثورة محمد في الاعيان: • بإصلاح التربية لتحرير الإنسان من الوساطة أي عنف التربية التي تفسد معاني الإنسانية فلا يبقي فيه القدرة على التعمير لا القدرة البدنية (الجهد العملي المنتج) ولا القدرة الروحية (الجهد الفكري المبدع) فلا يعمر الأرض أي إنه يهمل شروط حريته المادية :الكنسية الدينية والكنسية العلمانية (الحزب الشيوعي كنيسة معلمنة). • وإصلاح الحكم لتحرير الإنسان من الوصاية أي عنف الحكم الذي يفسد معاني الإنسانية فلا يبقي فيه القدرة على الاستخلاف لا القدرة البدنية (حماية الذات) ولا القدرة الروحية (حماية القيم) فلا يكون خليفة حرا بل يصبح عابدا لعبد بخلاف ما أمر به القرآن في الشورى 38حيث يكون الامر أمر الجماعة (جمهورية) تديره بشوراها (ديموقراطية) من لأنها مستخلفة (مستجيبة لربها) للتحرر من الحرب على الرزق (الانفاق من الرزق). أبو يعرب المرزوقي 19 الأسماء والبيان
-- قد يقع الخلط بين ما استنتجه مما يقوله القرآن عن ذاته من حيث هو تذكير بما ينساه الإنسان من \"معرفة\" و\"تقييم\" كامنين في كيانه العضوي والروحي وما يترتب على التذكر الحاصل بينهما وبين ما يسمى اعجازا علميا. لذلك فلا بد من أن أعود مرة أخرى لقضية الاعجاز العلمي الذي انفيه جملة وتفصيلا لبيان أن ما أتكلم عليه في القرآن لا علاقة له به. فلا بد إذن من أن أحدد طبيعة المضمون الذي يتضمنه القرآن خاصة بعد أن أرجعته إلى أبعاد الرسالة الخمسة أو بكلمة واحدة إلى ما يقوله القرآن عن نفسه بوصفه رسالة تذكير هدفها تمكين الإنسان من تذكر ما فيه من شروط قيامه العضوي والروحي. فمن دون ذلك لا يمكنه تحقيق مهمتيه في عالمه الشاهد المتصل بعالمه الغيبي أي إن الإنسان يعلم أنه لا يقوم من دون: .1مهمة استعماره في الأرض (فالإنسان يفنى من دون انتاج معين حياته) .2ومن استخلافه فيها (والانسان لا يستطيع انتاجه من دون جماعة منظمة سياسيا). وما يذكره به القرآن يتعلق بهذه الإشكالية ببعديها العضوي (التعمير) والروحي (الاستخلاف) وذلك هو مضمون الرسالة من وجوهها الخمسة التالية: .1بالمرسل أي الله للتذكير بكل ما يتعلق به مرسوما في كيان الإنسان. .2بالمرسل إليه أي الإنسان للتذكير بكل ما يتعلق به مرسوما في كيانه. .3بالرسول أي المكلف بتبليغ الرسالة والذي هو ليس وسيطا ولا وصيا على المرسل إليه لأن العلاقة بين المرسل والمرسل إليه مباشرة والوساطة هي مضمون الرسالة أي ما يذكر به الرسول. أبو يعرب المرزوقي 20 الأسماء والبيان
-- .4بمنهج التبليغ الذي يصل سياسة عالم الشهادة بسياسة الوجود كله شاهده وغيبه :وهذه الوصلة هي عين ما هو مرسوم في كيان الإنسان العضوي والروحي أي ما فطر عليه ولا يستطيع الهروب منه حتى وإن نسيه. .5بمضمون الرسالة من حيث هو وصل بين السياستين وما تتطلبانه مما يناسب أفعال الإنسان الخمسة :وهي عين ما في كيانه العضوي وكيانه الروحي وما في عالمه الشاهد من تناسب بين كيانيهما لأن ما هو عضوي في الإنسان هو ما هو طبيعي في عالمه الشاهد وما هو روحي في كيانه هو ما هو تاريي في عالمه الشاهد. وأربعتها ذات صلة بما وراء هو ما إليه يرد تعليل وجود هذه الكيانات بوصفه غيبا ما وراء لها جعلها تكون على ما هي عليه على الأقل في تصور الإنسان لها سواء آمن بالغيب أو لم يؤمن لأنه من دون لا يستطيع أن يجيب عن سؤال لماذا يوجد شيء بدل لا شيء ولماذا ما يوجد بالكيف الذي هو عليه. المشكل الذي يعالجه القرآن هو إذن المشكل الخامس الذي تتفرع عنه المشاكل الاربعة المتقدمة عليه هو مضمون الرسالة وتعلقها بذاتها من حيث هي تذكير بأفعال الإنسان الخمسة وشروطها في علاقة بأفعال هذا الماوراء الخمسة أي أفعال الله عند المؤمن أو أي مبدأ آخر عند غير المؤمن الافعال التي ترد إلى فعلين يعتبران الحل الوحيد للجواب عن هذين السؤالين الوجوديين اللذين لا يمكن للإنسان أن يهنأ من دون الحسم فيهما بالإيمان أو بالكفران: .1فعل الخلق جوابا عن سؤال لما يوجد شيء بدل لا شيء. .2وفعل الأمر جوابا عن سؤال لماذا يوجد على ما هو عليه. فتكون الأفعال الإلهية عند المؤمن-أو الاتفاقية بنظرية الطبائع عند الملحد-معبرا عنها في القرآن بما يمكن أن يكون في تجهيز الإنسان العضوي والروحي فيفهمه إذا قاسها بأفعاله مع وعيه بأنها ليس كمثلها شيء ،ومن ثم فهي لا تقاس على أفعال الإنسان وإنما ما يقاس عليها هو قدرة الإنسان على تصورها بالقياس إلى ذاته مع العلم باستحالة التطابق بين الذاتين. أبو يعرب المرزوقي 21 الأسماء والبيان
-- وحتى يتضح الأمر بدقة فإن نظرية الانفجار الكبير مثلا -بديلا من الخلق والامر -ليست بديلا عن سؤالي الوجود لم هو موجود ولم هو موجود بالصورة التي هو عليها إلا لأنها تفترض الجواب الذي تظن بديلا منه. فهي تقدم جوابا عن كون الموجود لم يكن ثم أصبح وأن الموجود كان وحدة تفتت تفتتا يقتضي أن في الوحدة الأصلية ما يجعل التفتت يؤدي إلى ما عليه العالم الطبيعي. ومن ثم فهي تفترض أن الإيجاد حتى الطبيعي يقتضي أن يكون بديلا من العدم السابق وأن يكون فيه ما يجعله لا يبقى فوضى بل حتى لو فرضناه ثمرة الصدف المتوالية فإن فيه نظاما لا يمكن أن يكون في آن صدفيا وغائيا في آن. على الاقل من حيث التناسب بين ما فيه وما في الإنسان من صلة به من حيث تحقق شروط كيانه العضوي الطبيعية وكيانه الروحي التاريية. ومعنى ذلك أن ما أقدمه ليس علما بالغيب لأن القرآن لا يمكن أن يتضمن أكثر من الاعلام بوجوده وهذا أمر يفهمه الإنسان لكنه لا يتضمن محتواه لأن القرآن ينفي قدرة الإنسان-بمن في ذلك الانبياء-على معرفته. فلا يعقل إذن أن يرسل رسالة مضمونها لا يفهمه المرسل الإليه .لذلك فهو لا يتضمن إلا التذكير بما يعلمه الإنسان ونساه بخصوص الأبعاد الخمسة وخاصة ذاته ودوره في الوجود وتجهيزه للقيام به على أحسن وجه فرديا وجماعيا فيكون ذلك صالحا بصورة كونية لكل زمان ومكان لأن الأمر فيها لا يتعلق بأعيان المضمون بل بمفهومه بالمعنى المنطقي للتصور (مضمون وما صدق). والإنسان يعلم أن الغيب موجود لكنه لا يعلم مضمونه .فأما علمه بوجود الغيب فدلالته هي أنه يعلم أن ما يعمله من الوجود لا يساوي شيئا إذا قيس بما يجهله .ولا يوجد عاقل يزعم أن لا يجهل ما لا يعلم. أبو يعرب المرزوقي 22 الأسماء والبيان
-- ومن يزعم أن يعلم كل شيء فهو حتما متاله بالمعنى الخلدوني أي الحاكم الطاغية الذي يزعم أن يقدر على كل شيء (قصة ابراهيم) أو العالم الذي يزعم أنه يعلم الغافل الذي يزعم أنه يعلم كل شيء وهو في كل لحظة محاط بما لا يتناهى من الممكنات التي لا يمكن توقعها حتى في حياته العادية. ويبقى مشكل عويص يمكن فهمه إذا فهمنا القصد بالمقدرات الذهنية مخن حيث هي نظام يتكلم على متغيرات مجردة ثابتة تتعين في قيم للمتغيرات لا حد لها فتكون القضية وكأننا أمام مفهومات كلية ثابتة وماصدقات عينية متغيرة. وتلك هي قيم تلك المفهومات بلغة العلاقة بين المتغير وقيمه مطبقة على المفهوم الكلي وماصدقه العيني .فالمتغير هو الماصدق وهو زماني ومكاني لكن المفهوم ثابت لا يتغير. وهذا هو الحل الذي يمكن من فهم طبيعة ما في القرآن من خطاب لا علاقة له بالعلم المضموني وهو ذو صلة بالماصدقات بل هو علم يتعلق المفهومات الشكلية. أي بما وراء الزماني والمكاني في الطبيعة وفي التاريخ وخاصة بشروط العلم والعمل البنيوية أي التي هي عين كيانه العضوي والروحي وهي شروط لا يمكن أن تأتي للإنسان من خارجه لأنها مرسومة في كيانه العضوي والروحي. والرسول لا يقدم علما بها متغيرا في الزمان والمكان لأنها عين المرسوم في كيان الإنسان وعين التجهيز الذي يمكنه من تحقيق وظيفتيه أي الاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها. وقبل أن اعالج هذه القضية لتحديد طبيعة الخطاب الوارد في القرآن واختلافه الجوهري عن العلم بمعناه الدقيق أي قوانين الطبيعة وسنن التاريخ التي هي في صلة بالمضامين العينية ومقاديرها وكيفياتها والتي لا تتعلق بها ابعاد الرسالة الخمسة إلا من حيث شكلها البنيوي لا بد من البدء بتحليل طبيعة المضمون الذي يبلغه الرسول والذي يسميه القرآن بالتذكير وطبيعة ما يتم التذكير به وما ينبغي أن يتوفر ليفهم المرسل إليه الرسالة والاحتكام إلى ما تشير إليه ليدرك الفهم المصيب. أبو يعرب المرزوقي 23 الأسماء والبيان
-- وهذا التجهيز يتعلق بالأفعال الخمسة من حيث هي شروط التفاعل بين الإنسان ومحيطه الطبيعي والتاريي اللذين يستمد منهما قيامه العضوي والروحي والتي هي: .1الإنسان مجهز بالقدرة على الإرادة :لا يوجد إنسان ليس له وعي بأنه مريد. .2الإنسان مجهز بالقدرة على الرؤية لا يوجد إنسان ليس له وعي بأن له رؤية لذاته وللوجود من حوله. .3الإنسان مجهز بالقدرة على المعرفة لا يوجد إنسان ليس القدرة على المعرفة الحسية وما يبنيه عليها عقليا. .4الإنسان مجهز بالقدرة على الذوق لا يوجد إنسان ليس له القدرة على التقييم الذوقي بكل معاني الذوق. .5وهذه هي أبعاد قدرته ومقوماته لا يوجد إنسان يمكنه تصور ذاته والوعي بها بغير وحدة هذه الأبعاد الأربعة لتحقيق مهمتيه في عالم الشهادة إما بوصفه بعالم الغيب إن آمن به لئلا يتأله أو بعدم وصله والاقتصار عليه فيتأله بالمعنى الخلدوني الذي سبق فعرضته في بحث صدر في محاضرات بين الحكمة لسنة 2019-2018 ص 82-57.ولعدم التأله علامتان: .1الوعي بمحدودية الأفعال الإنسانية الخمسة ولكن خاصة فعل الإرادة وأثرها في تحريف النظر والعلم وفعل الرؤية وأثرها في تحريف العمل والذوق وهما اثران يتأسس عليهما التأله. .2التسليم باستحالة الجواب عن سؤالي الفكر الإنساني أي سؤال الوجود بدل العدم وسؤال كيف الوجود المحدد .والأول يتعلق بالوجود أي وجوده بدل عدمه والثاني يتعلق بكيفه الحاصل من الممكن اللامتناهي. وهذان العلامتان هما المشترك الفعلي أو الواحد الحقيقي في سبيلي فهم هذه الإشكالية الفلسفي والديني .ولهذه العلة ففي القرآن كل نبي تكون دعوته في علاقة مباشرة. أبو يعرب المرزوقي 24 الأسماء والبيان
-- بمن وصلوا إلى ما يذكر به بعقولهم وليس بالوحي وهم أول القابلين برسالته والمساندين له عن قناعة ذاتية لكأنهم وجدوا فيه نطاقا باسم ما توصلوا إليه. ومعنى ذلك بمقارنة مع الافلاطونية فإن الذي ياطب المسجونين في الكهف ليس الرسول وحده بل كل الذين تذكروا بأنفسهم وقبلوا التذكير الرسولي. لأنهم وجدوا فيه ما اقتنعوا به بذواتهم بالاعتماد على ما اعتمده الرسول من أدلة حول هذه العلاقة بين السياستين سياسة عالم الشهادة وسياسة غالم الغيب. والقصد بعالم الغيب هو ما تشير إليه هذان العلامتان اللتان تمثلان معطيين لا جواب عنهما عدى التسليم بهما: .1فلا يوجد إنسان لم يغره التأله بالمعاني التي تؤدي إلى تحريف الإرادة والنظر والعلوم وتحريف الرؤية والقيم وتلك هي علة اغراء التأله عند الإنسان الذي يقول بالمطابقتين بين معرفته وموضوعها وبين تقييمه وموضوعه .فالمتأله هو الذي يعتبر علمه محيطا وعمله تاما. .2ولا يوجد جواب عن السؤالين :لماذا يوجد شيء بدل العدم (الخلق) ولماذا ما يوجد يوجد على ذلك الكيف من بين ما لا يتناهى من الكيفيات (الأمر) .فلا أحد له جواب حول الخلق سواء كان مؤمنا به أو كافرا أو حول الأمر سواء كان عقلانيا أو لا عقلانيا. ولا يوجد عاقل يعتقد أنه سيأتي يوم يمكن أن يفسر علة الوجود بدل العدم ما ظل الإنسان له قدرة التوجيه بجهة الممكن والواجب والممتنع وعلة التعين المحدد من بين ما لا يتناهى من التعينات الممكنة للموجودات ما ظل الإنسان يطلب علة التعيين من دون الغائية لأن الصدفة لا تجتمع معها. وأريد أن اختم هذا الفصل بالإشادة بالعلامة الصديق ابي زيد المقري الذي اعتمد على التحليل اللساني ليعبر عن مثل هذه المعاني المتعلقة بالمقابلة التي أشرت إليها بين الكلية المفهومية المجردة والعينية الماصدقية المعينة من خلال ملاحظة رشيقة حول استعمال القرآن لتحديد المعاني باستعمال الاسم الموصول. أبو يعرب المرزوقي 25 الأسماء والبيان
-- فما هو من جنس {الذين آمنوا} أو {الذين أشركوا} أو ما يناظر اسم الموصول مثل {من آمن وعمل صالحا} أو \"من امر بالمعروف ونهى عن المنكر\" أي التعيين بالرسم بدل التعيين بالاسم. وهي مقابلة بين نوعي التعريف بالرسم وبالاسم .فكل المقدرات الذهنية النظرية في المعرفة لفهم نظرية الحقائق العلمية ومثلها المقدرات العملية التي وضعتها فرضيا قياسا عليها لفهم نظرية القيم العملية هي من هذا الجنس. ذلك أن كل \"القوانين\" الرياضية ليس لها مضمون معين عدى التعريفات المجردة التي تبدع مضمونها الصوري بالتعريف الرسمي الذي يمكن أن ينطبق على مضمون عيني في الطبيعيات فلكأنه خانة خالية من المضمون المعين الذي عندما يعين يعد خيارا لقيمة ذلك المعنى المجرد باعتباره متغيرا بالمعنى الرياضي للكلمة. وقياسا عليه فإن كل \"القيم\" الخلقية أو الجمالية ليس لها مضمون معين عدى التعريفات المجردة التي تبدع مضمونها الصوري بالتعريف الرسمي الذي يمكن أن ينطبق على مضمون عيني في التارييات. وبهذا المعنى فالقرآن الكريم من جنس الرياضيات لكنه مضاعف لأنه يجمع بين التقديرين الذهنيين النظري والعملي. لكن الانطباق لا يدل على المطابقة لاستحالة أن يوجد متعين مطابق تمام المطابقة مع المفهوم الرياضي أو المفهوم القيمي لأن هذين مطلقين وكليين وثابتين لأنهما غير موجودين إلا ذهنيا والمضمون الطبيعي أو التاريي يبقيان دائما في سيلان أبدي وكل تطبيق للمعاني الرياضية والقيمية مؤقت. فالأعيان التجريبية وقدرتنا على تحصيل الخبرة بالأشياء الموجود فعليا خارج الأذهان في تطور دائم وقد نكتشف ذات يوم أن كل ما كنا نتصوره حقيقة موجودة ليس إلا نتيجة لقصور في مداركنا التي عندما تتطور تكتشف عالم آخرا لم نكن نتصوره ممكنا. أبو يعرب المرزوقي 26 الأسماء والبيان
-- فالإنسان يقبل التعريف بالوظيفتين أي بالاستعمار في الارض وبالاستخلاف فيها تعريفا مجردا بما يشيه الخانتين الخاليتين اللتين تتعينان بتعمير معين وبتنظيم سياسي معين أيا كان شكلهما. وتلك هي أعيان القيم النظرية والعملية في تاريخ الحضارات الإنسانية وهي تكوينيات القيم النظرية وا لعملية المتعينة في التاريخ الفعلي والتي يسميها ابن خلدون نحل العيش. وكل نحل العيش هي ثمرة التفاعل في الاتجاهين بين الأحياز الخمسة في كيان الإنسان (بدنه وروحه وما تزودت به ذاته من تراث ومن ثورة ووحدة ذاته) والاحياز الخمسة في عالم الإنسان (جغرافيته وتاريه وتراث جماعته وثروة جماعته وهوية الحضارة التي ينتسب إليها بخصوصياتها الذاتية وكلياتها الإنسانية). ولا بد لهذا التفاعل في الاتجاهين بين كيان الإنسان العضوي والجغرافيا وكيان الإنسان الروحي والتاريخ وبين ما حصل له: • من تراث الجماعة في كيانه الروحي • ومن ثروتها في كيانه العضوي وما حصل له في ذاته من هويتها الخصوصية (كشعب معين) والكونية (كبشر) من يتطور معرفيا وقيميا فتحصل له في وعيه صفات ناتجة عن نحل العيش. تلك هي القطيعة التي احدثها ابن خلدون مع الفلسفة اليونانية التي كانت تتوهم السياسي والحضاري مجرد نتيجة مباشرة للطبائع بنظرية المعادن والقوى الثلاث التي هي العقل والغضب والشهوة. ولولا ذلك لاستحال عليه كما استحال على الفلسفة اليونانية أن يعتبر التاريخ علما فلسفيا والفلسفة معرفة تاريية وأن يقلب العلاقة بين ما بعد التاريخ وما بعد الطبيعة :وذلك هو مدلول \"علم العمران البشري والاجتماع الإنساني\". أبو يعرب المرزوقي 27 الأسماء والبيان
-- وحتى نفهم ثبات البنى الصورية في المقدرات الذهنية النظرية والعملية وتغير المضامين العينية فلنرض أن القائلين بالتولد الطبيعي في الظاهرات الحية مثلا رأوا بأعينهم مثلنا الآن الجراثيم والفيروسات لفهموا القصد مما أحيل عليه. كما أرسطو مثلا لو عاد ورأى أن العالم لا يكاد يكون متناهيا لأصابه الذهول ولتخلى على كل فلكه الذي عرضه في المقالة الثانية عشرة من الميتافيزيقا. وعندئذ نفهم أن الفلاسفة سواء القدامى أو المحدثين يمكن اعتبارهم -كما وصفهم ابن خلدون- متألهون أي يدعون التأله بمعنى أنهم يتوهمون أن الوجود يرد إلى الإدراك وأن علمهم مطلق. ولعل هيجل آخرهم وأكثرهم تمثيلا لهذا الوهم القائل إن الواقع عقل والعقل واقع وكلاهما من الحماقات :فهو أول المتكلمين وآخرهم على العلم المطلق والدين المطلق وقصده علمه وتأويله للمسيحية. لأننا نجهل القصد بالعقل والقصد بالواقع .فنحن إذن نقارن مجهولين مدعين أنهما معلومان :وكل ذلك بسبب خرافتي المطابقتين المعرفية والقيمة. فلا الفكر مرآة عاكسة للوجود ولا الوجود قابل للحصر والتحديد .ولولا ذلك لاستحال أن أقبل بالأديان .الفلسفة تصبح بحق حكمة إذا هي علمت أن العلم لا يكون علما إلا إذا كان علما بحدوده. أبو يعرب المرزوقي 28 الأسماء والبيان
-- انتهينا في الفصل الثالث إلى أن القرآن مداره على خمسة عناصر -بها يمكن أكسمته وجعله نسقا مطلق التمام القابل للرد إلى قلة من المبادئ التي يستنتج منها مضمونه كاملا .فهذه العناصر الخمسة هي التي يتعلق بها فعل التذكير الذي هو جوهر الرسالة الخاتمة. والتذكير تأهيل للإنسان ليكون قادرا على تحقيق مضمون سورة العصر التي من دونها لا يمكنه التخلص من الخسر الذي هو سلوب شروط الاستثناء منه بتحقيق الوعي بعلله .وتلك هي غاية التذكير .وتحقيق الرشد يكون بالسعي إليه .وتلك هي غاية السياسة .فهي تصل عالم الشهادة بعالم الغيب .ولذلك فهي فرض عين. وإذا كان التذكير ممكنا فلا بد أن يكون التذكر ممكنا لأنه شرط تصديقه .ومعنى ذلك أن ما يحصل بالتذكير هو الوحي الخاص بالرسل وظيفته التكليف بالتذكير وليس التذكر الذي هو مرسوم في كيان الإنسان شرطا في قبول التذكير أي الاقتناع بالحق عندما تزول الغشاوة. زوال الغشاوة هي شكل الوحي الكوني الذي هو جوهر الإنسان بمعنى أنه يتلقى آيات الله وهو امكانية التذكر الذاتي وهو الفرق بين الحواس والحوادس .وهذا المستوى الثاني من الوحي كوني ولا يتص به الإنسان لأن الله يوحي للنحل وللسماوات والارضين. ما يتلقاه الرسل وهو التكليف بالتذكير لأنهم غاية في التذكر الذاتي وهو اصطفي لهذه المهمة لكن جميع الكائنات وخاصة الإنسان تتذكر بذاتها دون أن تكون مكلفة بالتذكير لأن الوحي يعم كل المخلوقات حيها وجامدها بمعنى التذكر خلال التفكر والتدبر. وعندما يتذكر الإنسان بذاته يصبح كل شيء مذكرا له وهو معنى آيات الله يرينها الله لنتبين أن القرآن حق .وكل الاستدلال القرآني مبني على ذلك أي إنه يدعونا لرؤية آيات الله في الآفاق أي في الطبيعة وفي التاريخ وفي الأنفس أي في كياننا العضوي وفي كياننا الروحي. ولهذه العلة فالبلاغ الرسالي ما كان ليقبل لو لم يكن الإنسان من حيث هو إنسان له القدرة على التذكر إما بذاته أو بغيره .وما كان الثاني يكون ممكنا فعليا لو كان تذكير غيره له لم يوقظ فيه أبو يعرب المرزوقي 29 الأسماء والبيان
-- ما يجعله يقبله .فيكون الرسل من الآيات المذكرة .وهي موجودة في كل الام بنص القرآن رغم أن الإسلام يعم الجميع ولذلك فهو خاتم. والعناصر الخمسة التي لا يتضمن القرآن غيرها والتي يعالجها القرآن كلها من حيث علاقة العالمين التي هي جوهر فلسفة الدين وفلسفة التاريخ من حيث نظرية النظر والعقد موقفا من الذات والوجود ونظرية العمل والشرع تعاملا معهما بهما: .1وأولها بالمرسل (الله) .2وثانيها والمرسل إليه (الإنسان) .3وثاليها مبلغ الرسالة ا (الرسول) .4ورابعها طريقة التبليغ (سياسة عالم الشهادة في علاقته بعالم الغيب أي التربية والحكم التي تذكر الإنسان ما جهز به من شروط المعرفة والتقييم). .5والأخير هو الأصل الموحد لها من حيث هي مضمون التذكير هو تعريف الآيات التي تمكن الإنسان من البلوغ بذاته إلى فهم هذه الحقائق فيتبين أن القرآن حق عندما يرى آيات الله (فصلت :)53 • في الآفاق (الطبيعة والتاريخ). • وفي الانفس (كيانه العضوي وكيانه الروحي). وذلك هو الانتقال من تلقي التذكير إلى الشروع في التذكر الذي هو التفكر والتدبر للمشاركة في سياسة عالم الشهادة بالانشداد إلى عالم الغيب :وهو معنى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض عين وشرط الانتساب إلى الأمة الخيرة. ولما كان الغيب الذي تتصل به الشهادة ليس في متناول علم الإنسان وتقييمه فإن الانشداد إليه للإنسان منه ما يرمز إليه هو قدرته على التقدير الذهني النظري (المعرفة) والعملي (القيمة) قدرة لتعلق الفكر الإنساني بمعان ليس لها مثيل في الوجود المحسوس وهو ما جهز به الإنسان ليتعامل مع علاقة العالمين تعاملا من دونه لا يمكن أن يحقق وظيفتيه في عالم الشهادة أي: • الاستعمار في الأرض :وهو الشرط الأداتي للاستخلاف. أبو يعرب المرزوقي 30 الأسماء والبيان
-- • والاستخلاف فيها :وهو الشرط الغائي للاستعمار. ويقتضي ذلك أن يكون القرآن مؤلفا من نوعين من الخطاب أولهما موجه إلى نقد النسيان ببيان العلة التي تحول دونه والتذكر وهي التحريف المعرفي والتحريف القيمي (تأويل المتشابه آل عمران )7الذي يترتب على القول بالمطابقتين والثاني يقدم التصحيح المحرر من التحريف ومن القول بالمطابقتين: .1نقد النسيان الذي نتج عنه تحريف هذه العلاقة بين عالم الشهادة وعالم الغيب وهو من ثم فلسفة تاريخ نقدية نظرا وعملا في علاقة بفلسفة دين نقدية للتحريف العقدي معرفة وقيمة. .2التذكير ما نسي لتقويم هذه العلاقة بين عالم الشهادة وعالم الغيب وهو من ثم فلسفة تاريخ بديل نظرا وعملا في علاقة بفلسفة دين بديل للتقويم العقدي معرفة وقيمة. .3والنقد يتعلق بأحداث وأحاديث حصلت فعلا وهي تبدو شبه تاريخ لكنها في الحقيقة ليست مقصودة لذاتها بل لكونها رامزة إلى ما يراد تحديده موضوعا للنقد ومنظور النقد الذي يبحث عن البديل في الاحداث والأحاديث ذات الصلة بالعلاقة بين العالمين عالم الشهادة وعالم الغيب. .4والبدائل تتعلق بأمثولات متخيلة لا يمكن ان تكون احداثا ولا أحاديث شبه تاريية بل هي تجسيد للمعاني التي هي من جنس المقدرات الذهنية التي يصنعها الإنسان شرطا للمعرفة النظرية وللقيم العملية والتي هي جوهر الكلي الكوني في القرآن. فيكون القرآن مؤلفا من خمس أجناس خطابية هو مجموعها ذروتها المقدرات الذهنية التي نفترضها مطابقة لما لا نستطيع له علما لكونه مما ليس كمثله لشيء وهي قابلة للرد إلى نوعي \"كن\" الخالقة والآمرة أعني الجواب الغيبي عن سؤالي الدين والفلسفة أي لماذا يوجد شيء بدلا لا شيء ولماذا ما يوجد هو على ما هو عليه وليس على كيف مغاير. أبو يعرب المرزوقي 31 الأسماء والبيان
-- وهذه الأجناس الخطابية الخمسة تمثل البنية العميقة لما بعد الطبيعة وما بعد التاريخ وهي من ثم ذات زمانية مخمسة لأنها في آن تتعلق بالأحداث وبالأحاديث أي بما يجعل الثانية التي تمثل الوعي التاريي عودة إلى الاولى التي تمثل الوجود الطبيعي لكل ما يتعلق بالإنسان: • بكيانيه (بدنه وروحه) • وبآفاقه بكيانيها (الطبيعي والتاريي) • وبما بعدهما (فصلت 53أي ما يرينه الله من آياته لنتبين أن القرآن حق): .1فالماضي حدث لا يقتصر على ما في الأذهان لأنه جار فيها وفي الأعيان بمقتضى طبيعته المستقلة عن مدركها أي القائمة بذاتها خارج ذهن الإنسان مع الاعتراف بعدم مطابقة علمنا وتقييمنا لها. .2والماضي حديث يضاعف الحدث بتأويله في الأذهان جار فيها وفي الأعيان بمقتضى طبيعة الترميز الناطق العائد على الحدث تعبيرا عن الوعي به تأويلا وتذكيرا. .3والمستقبل حديث لأنه الإنسان يتوقعه قبل وقوعه ويتصوره كما يتصور أي مشروع ينوي انجازه أو حدث ينتظره من غيره سواء كان إنسانا مثلا أو أي موجود آخر وهو أيضا تأويل لمجريات الامور في الحاضر في ضوء سوابقها في الماضي وطردا للمعتاد. .4والمستقبل حدث وهنا يصبح الحدث المعنى الثاني للتأويل كما في القرآن بمعنى حكم الحاصل في المتوقع أي إن الحاصل هو الذي يميز بين التوقعات التي تؤيدها الأحداث والتوقعات التي تكذبها الأحداث. .5والحاضر أصلها جميعا لأنه ليس بينها الأولين والأخيرين فحسب بل هو حولهما يحيط بهما رغم كونهما يبدوان محيطين به لأنه دوام حضور الوعي لذاته حول كيان الإنسان وكياني عالمه في علاقته بما ورائه .وتلك هي المعادلة الوجودية التي لا يمكن تصور إنسان خاليا منها حتى وإن لم يكن واعيا بها وذلك هو معنى النسيان. فيتبين من ثم أن الإنسان في المرة الاولى يكون حديثه محاولة لمحاكاة الحدث وفي المرة الثانية يكون حديثه محاولة لمحاكاة الحديث .وهما مناظران لموقفي المعرفة والتقييم: أبو يعرب المرزوقي 32 الأسماء والبيان
-- .1ففي المرة الأولى العبارة الرمزية محاولة الاقتراب من المعبر عنه الفعلي :وتلك بنية العلم الفعلي وتقييم الموجود بقدر إدراكه المباشر حسيا وغير المباشر عقليا. .2وفي المرة الثانية يكون المعبر عنه الفعلي محاولة الاقتراب من العبارة الرمزية :وتلك هي بنية العمل الفعلي وتقييم المنشود بقدر الانشداد إليه. لكن إذا فصلنا العبارة الرمزية عن الموجود الفعلي ووصلناها بالمنشود الذي يظنه الكثير خياليا حصلنا على التقدير الذهني سواء كان معرفيا أو قيميا وكلاهما لا يقبل الرد إلى الخيال اللهم إذا صار الخيال كونيا ومشروطا في كل علم بالنسبة إلى المعرفية وفي كل قيمة في كل تقييم. وإذن فالإشكال كل الإشكال هو كيف يمكن للإنسان أن يحقق هذا الفصل بين العبارة الرمزية والموجود الفعلي وما مصدر المنشود في هذه الحالة؟ لما أعلن ابن تيمية (كتاب المنطق ص 73-72.مجموع الفتاوى الجزء التاسع الرباط مكتبة المعارف غير مؤرخ): \" فالعلوم الأولية البديهية العقلية المحضة ليست إلا في المقدرات الذهنية كالعدد والمقدار لا في الأمور الخارجية الموجودة .فإذا كانت مواد القياس البرهاني لا يدرك بعامتها إلا أمور معينة ليست كلية وهي (ما يدركه) الحس الباطن والظاهر والتواتر والتجربة والحدس. \"وإذا كان الذي يدرك الكليات البديهية الأولية إنما يدرك أمورا مقدرة ذهنية لم يكن في مبادئ البرهان ومقدماته المذكورة ما يعلم به قضية كلية عامة للأمور الموجودة في الخارج .و(إذا كان) القياس لا يفيد العلم إلا بواسطة كلية عامة فامتنع حينئذ أن يكون في ما ذكروه من صورة القياس ومادته حصول علم يقيني\" فإنه قد أثبت أمرين: .1أن صفات العلم الخالص لا تتعلق إلا بالمقدرات الذهنية التي رد إليها الكليات كلها وقدم منها مثالين هما العدد موضوع علم العدد والمقدار موضوع علم الهندسة. .2أن كل ما يوجد في الخارج ليس فيه كليات بل هي كلها عينيات وأحصاها عينيات فالعلم بالوجود الخارجي ليس له صفات العلم بالمقدرات الذهنية. أبو يعرب المرزوقي 33 الأسماء والبيان
-- .3وإذن فلا يكفي فيه ما أثبته المناطقة في التحليلات الأواخر من شروط البرهان أي إن فرض أرسطو قطع التسلسل ونفى الدور اضطر لوضع مبادئ لا يعتبرها مقدرات ذهنية بل حقائق وجودية مطلقة ونهائية. .4وذلك لأن تأسيسها في الميتافيزيقا يفترض وجود الكليات خارج المقدرات الذهنية ويدعيها مقومة للأعيان التي يدرسها العلم الطبيعي أو التاريي سواء كان ذلك في خارج الإنسان أو فيه. .5وهو ما يجعل المقدرات الذهنية التي لا يوجد برهان كلي ومحض إلا فيها لأنها تعلم ما يقتصر وجوده على تعريفه فيكون فعلا محدثا للشكل والمضمون في آن-بالمعنى التيمي-شرط ضروري لكل معرفة للموجودات الخارجية في محاولة جعل معرفتها تقرب من البرهان دون أن يتحقق فيها التحقق التام: أ .فيكون العلم البرهاني الموجود في المقدرات الذهنية النظرية من منشود العلم التجريبي لأعيان الموجودات الخارجية. ب .وقياسا عليه يكون العمل التام موجودا في مقدرات ذهنية عملية (افترضتها) من منشود القيم التجريبية لأعيان الموجودات التاريية الخارجية. ج.والقرآن يمد الإنسان بنوعي المقدرات بوصف الأولى يحددها بالقول إن كل شيء خلق بقدر ثابت والثانية يحددها بالقول إن كل أمر بسنة ثابتة. د .فيكون قد جمع في الحالتين الترابط بين الخلق والقدر العلمي وبين الأمر والسنة القيمية ما يجعل الجواب عن السؤالين الوجوديين مقصورا على ما يمكن شهوده منه دون غيبه بمعنى أننا نرى أن الخلق ذو نظام رياضي والامر ذو نظام خلقي دون أن نعلم لماذا كان الخلق ولا كيف حصل الأمر. ه .وتلك هي العلاقة بين العالمين :عالم الشهادة الذي موجوده ما يدركه من الطبيعة والتاريخ ومن كيان الإنسان العضوي وكيانه الروحي ومنشودة لا يدركه لكن له منه القدرة على إبداع المقدرات الذهنية النظرية والعملية التي تحيل على مثل عالم الغيب العليا دون أن تطابقها. أبو يعرب المرزوقي 34 الأسماء والبيان
-- ومنها تستمد كل أدلة القرآن على وجود الله ووحدانيته وما يمكن للإنسان من قدرة على تصور هذه العلاقة بصورة تجعل عالم الغيب عالم مثل عالم الشهادة. ولأقدم الآن مثالا مما يتجلى من ذلك في فعلي الإنسان المعرفي والقيمي المضاعفين كليهما وهما أيضا مما لا تفسير لنا لكونه كذلك لأنه من ألغاز كينونة الإنسان العضوية والروحية وهما يلتقيان في ما يمكن اعتباره القدرة الحاصلة لدى الإنسان والتي تجعله قادرا على الاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها بالنظر والعقد وبالعمل والشرع: .1فكيف انتقل نظر الإنسان من حصوله في الأذهان إلى حصوله في الأعيان شفويا ثم كتابيا؟ فلا يوجد إنسان غير ناطق بالطبع -قد يكون أبكم لعلة-ولا توجد جماعة لم تعرف الكتابة وأولى مراحلها الرسم والنحت للانتقال من الشفوي إلى الكتابي ومن الذاكرة الذاتية إلى الذاكرة الموضوعية .وبهذا المعنى فلا يوجد إنسان أمي لان الاميين يرسمون الاشياء وينحتون في الحجارة ما لا يريدون نسيانه ويحسبون بالحصى. .2وكيف انتقل عمل الإنسان من حصوله في الأذهان إلى حصوله في الأعيان يدويا ثم آليا؟ فلا يوجد إنسان غير مشخص لعمله بالطبع وقد لا يرسم مجسما مما ينوي انجازه ولا تجود جماعة لم تعرف رسم أشكال عمارتها مثلا قبل انجازها للانتقال من العمل غير المخطط مسبقا إلى العمل الذي يسبقه خطته. .3وما الأصل الذي يتحد فيه المساران بوصفهما عين فاعلية الإنسان التي تشبه محاكاة المنشود من المخلوق والمأمور؟ وكلاهما يحدث مرتين حتما ويتشكل على الاقل مرتين وقد تتكرر المرتان بلا نهاية لأن كل مرة أخيرة تعتبر مسودة للمرة التي تتلوها لتراجعها. وهذه هي التي تستحيل من دون الكتابة لأن الشفوي لا يتكرر وإذا تكرر يصبح حفظا وهو حينها كتابة في الذهن وهي وظيفة كان لها مختصون في الحفظ كرواة الشعر مثلا :فهم من جنس المسجلات الحالية. أبو يعرب المرزوقي 35 الأسماء والبيان
-- .4وما الأصل الذي يتحد فيه المساران بوصفهما عين فاعلية الإنسان التي تشبه محاكاة الموجود من المخلوق والمأمور؟ وكلاهما يحدث مرتين -ومحاكاة الموجود هو شرط الموضوعية والفاعلية التقنية في كل تطبيق للمعرفة العلمية-وحتى المنشود فهو يحاكى برده إلى ما قلنا في ثالثا أي إنه يصاغ في ما يشبه المجسم التي تصبح وكأنها نظرية حول المنشود الذي يجسم ليحاكي في التنفيذ ويكون عادة تجريبا لما سيكون عليه التنفيذ ككل تدرب على أمر ليس له مثيل في الواقع الخارجي ويراد إنتاجه. .5وما معنى جمع الإنسان بين هذين الأصلين في كيانه وهما ما ينساه وما تأتي الرسالة الخاتمة للتذكير به حتى لجعل الأنسان قادرا على سياسة عالم الشهادة بمعايير من ينشده من مثل عالم الغيب؟ والجمع بين الاصلين هو عين ما بين النظر والعمل وبين المعرفة والقيمة من وحدة في العمق. فالنظر عمل في الرموز يصبح عملا في الأشياء المرموز والنظر عمل في الرموز يصبح عملا في العمل الذي هو البداية في محاكاة الموجود والغاية في محاكاة المنشود. وبهذا المعنى فالإنسان يعيش في خمسة عوالم مختلفة أصلها الواحد في عالم الشهادة من حيث تعلقه بعالم الغيب كما وصفنا في هذه الأفعال التي تصل الشفوي بالكتابي في ناطقية الإنسان المفكر في حقائق الأشياء وقيمها واليدوي الآلي في فاعلية الإنسان المنتج للأشياء وقيمها .وهذه العوالم هي: .1عالم الرمز جميع الرموز سواء كانت لسانية أو غير لسانية طبيعية أو صناعية بالأقوال أو بالأفعال الإنسانية وبالأشياء نفسها عندما يرمز بعضها لبعضها. .2عالم المرموز (والرمز يمكن أن يكون مرموز برمز حول الرمز والعملية قابلة للتكرار بلا حد ولا نهاية. .3عالم أثر الأول في الثاني :وتلك هي فاعلية النظر في الأشياء ومنها ذاته إذا عاملها من منطلق كيانها العضوي مطبقا منشوده على موجودها. أبو يعرب المرزوقي 36 الأسماء والبيان
-- .4عالم أثر الثاني في الأول :وتلك هي فاعلية العمل في الأشياء ومنها ذاته إذا عاملها من منطلق كيانها العضوي مطبقا منشوده على موجودها. .5العالم الذي يمكن فرضه أصل العوالم وأساس وحدتها وهو حينئذ ما يمكنه إدراكه إذا عامل ذاتها من منطلق كيانها الروحي الذي هو لغز الألغاز لمجرد كونه قادرا على التوجيه فيصبح قادرا على سؤالي الدين والفلسفة أي لماذا يوجد شيء بدل لا شيء (مشكل الخلق) ولماذا هو على ما هو عليه (مشكل الأمر). وذلك هو الوحيد الذي يمكن اعتباره ممثلا لوعينا بوجود عالم الغيب -أي سريرة الإنسان وهذه فكرة ابن خلدون الذي قال إن حضور عالم الغيب الذي في كياننا هو النفس-الذي لا يمكن تحديد طبيعته ويمكن أن أرده إلى ما سميته المعادلة الوجودية التي نعلم عناصرها وتفاعلاتها والتي هي في آن بنية القرآن نفسه ما يجعل القرآن مماه لكيان الإنسان الروحي بحيث إن مبناه مناظر لكيان الإنسان العضوي ومعناه لكيانه الروحي .ولا يوجد تفسير لكينونة المعادلة الوجودية وللتناظر بينها وبين كيان الإنسان وكيان القرآن رغم أننا نعتبرها الجواب الوحيد الممكن على سؤالي الوجود اللذين هما اللغزان الدينيان والفلسفيان في آن: .1لماذا هو موجود بدل عدمه؟ .2لماذا هو على ما هو عليه بدل كيفية أخرى من الكيفيات اللامتناهية عقلا؟ وهما السؤالان اللذان تمثل إثارتهما وشرط إمكانها علامة على أن الإنسان خليفة لأنه يحللهما بالقياس إلى ما يفعله هو ما يقدره ذهنيا وما يعمله فعليا بحيث إنه: .1بالأول مثال عما يفترضه في الخالق .2وبالثاني ما يفترضه في الآمر .3مع التسليم بأنه لا يوجد أدنى وجه شبه بين الخالق والصانع الرمزي .4رغم أنه يقول عن نفسه في القرآن إنه يلق بالرمز كن الخالقة أبو يعرب المرزوقي 37 الأسماء والبيان
-- .5وأدنى شبه بين الآمر والصانع الفعلي روغم أنه يقول عن نفسه في القرآن إنه يأمر بالرمز كن الآمرة. لم يبق إلا فصل أخير أعود فيه لتحليل سورة هود (استراتيجية سياسة عالم الشهادة بمعايير عالم الغيب) وسورة يوسف (استراتيجية تعين هذه السياسة بتحديد الافعال السياسية وكيفية الوعي الإنساني بها) للدلالة على ما أقصده بعبارة القصص القرآني. فبعضه يبدو تارييا وهو في الحقيقة أباديع ليس التاريي منها هو المقصود بل ما فيها آيات على علاقة العالمين أحدهما بالثاني كونينا وبصورة بنيوية ثابتة لا تتغير لأنها تحدد مثل عالم الغيب في علاقتها بوقائع عالم الشهادة حيث تلتقي فلسفة التاريخ بفلسفة الدين. ولعل هذه الخاصية هي التي تجعل البعض يؤرخن القرآن فلا يميز بين البنيوي فيه وهو مطلق الثبات ولا أثر فيه للمكان والزمان والمضمون الذي هو المتغير فيه لأنه في نسبة القيم في المتغيرات الرياضية كما بينت في الفصل السابق. فتعريف الأشياء والمواقف والأشخاص بالاسم الموصول أو ما يقوم مقامه مثل \"من آمن وعمل صالحا\" وغلبة هذا الاسلوب في التعريف بالرسم كما يثبت من كثرة استعمال التعيين بهذين الطريقتين لتجنب التحديد المضموني بحيث إن الشخوص التارييين يجردون من الظرفيات التاريية ليصبحوا رموزا لمعان مجردة. فنكتشف خصائص الخطاب القرآني الذي لا يمكن مقارنته بمضمون الأدب ولا بمضمون العلم بل هو العلم بل هو مثل المقدرات الذهنية مطلقة التجريد بحيث لا شيء من الموجود العيني يمكن أن يطابقها وهو إذن جنس مختلف عنهما لأنه استراتيجية سياسية حول شروط امكان الاستعمار في الارض والاستخلاف فيها بتذكير الإنسان بالعلاقة بين هذه العوالم الخمسة. إنها حبكة تجمع بين استراتيجية الخطاب الديني واستراتيجية الخطاب الفلسفي وهما فوق العلم والعمل المتعلقين بالمضامين العينية التي هي بالجوهر متغيرة في المكان والزمان في حين أن الخطابين الديني والفلسفي يعنى بالبنى الثابتة والمتعالية على المكان والزمان. أبو يعرب المرزوقي 38 الأسماء والبيان
-- ختمت الفصل الرابع بتعريف خصائص جنس الخطاب القرآني وتصنيف أنواعه وبوعد ضرب مثالين لبيان القصد بالجنس وعلة كون أنواعه خمسة مضمونيا ترتبا على كون جنسه جوابا عن سؤالي الدين والفلسفة الوجوديين اللذين يمثلان اللغزين المحيرين للإنسان من حيث هو إنسان: .1اضطرار الإنسان للتسليم بأن الوجود-وجوده ووجود أي شيء آخر غيره -ليس أمرا ضروريا بذاته لأن العدم بديلا منه ممكن .وإذن فهو ينتسب إلى الحرية وليس إلى الضرورة رغم استحالة بيان طبيعة هذه الحرية التي تختاره بدلا من العدم. .2التسليم بأن كونه -هو ذاته أو غيره من الموجودات-على ما هو عليه في ما ندركه منه ليس ضروريا بذاته لأن ما لا يتناهى من الكيفيات ممكنة .وإذن فكيف الوجود ليس ضروريا بل هو ينتسب إلى الحرية رغم استحالة بيان طبيعة الحرية التي تختاره. والمشكل الفلسفي والديني هو في إمكانية التوجيه أي التمييز بين ضروري وممكن وممتنع .فمن أين للإنسان هذه القدرة التي تجعله يسأل عن الوجود لم هو موجود ويقابله بإمكان عدمه؟ ومن أين للإنسان هذه القدرة التي تجعله يسأل عن كيف الوجود لم هو كما هو وليس على كيف آخر من الكيفيات اللامتناهية الممكنة. ومعنى ذلك أن ما هو محير ليس السؤالين الفلسفيين التقليديين بل هو السؤالان الدينيان الأهم: إنه السؤال عن هذه القدرة التوجيهية التي هي شرط السؤالين اللذين ظنهما لايبنتز جوهر السؤال الميتافيزيقي وقبله فعل ارسطو .السؤال الميتااثيقي متقدم على السؤال الميتافيزيقي :ما سر تحرر الإنسان من الغرق في كيانه العضوي وسموه إلى كيان يتجاوزه ليعود عليه بالسؤال المحرر منه فيصبح قادرا على المسالتين اللتين ظنتهما الفلسفة سؤاليها الجوهريين. والبحث في مسألتي الفكرين الديني والفلسفي هذين واللذين يبدوان مطلقي التقابل يلتقيان في محاولة فهم هذين اللغزين ويتلفان في الحلول المقترحة إذا حرف أحدهما أو كلاهما .وفرضيتي هي أن القرآن قد جمع بين العلاجين ووحد بين حلولهما بأن خلص كلا الخطابين من القول أبو يعرب المرزوقي 39 الأسماء والبيان
-- بالمطابقتين المعرفية والقيمية مصدري التحريف وشرطي فهم اللغزين إذا تبين لنا امتناع المطابقة المعرفية والمطابقة القيمية. فالقرآن وضع مفهوما حدا هو مفهوم الغيب المتعلق بالمسألتين اللتين يؤدي القول بالمطابقتين المعرفية والقيمية إلى ادعاء الحسم فيهما رغم استحالته للعقل والنقل في آن لأنه بين ان الإنسان إذ يعلم يعلم ما يعلم ويعلم حدود ما يعلم ومن ثم فهو يعلم أن ما يجهله من اللامتناهي وما يعلمه من المتناهي .وإذن فكل من يزعم أن القرآن يتضمن علما بالغيب يكذب على القرآن ويحمله ما لا يحتمل إذ هو يعلن صراحة أن الاحاطة علما التمام عملا مقصوران على الخالق والآمر دون سواه. فالوحي ليس فيه اطلاع على الغيب-إذا ميزناه عن الغائب الذي يلطه البعض به-بل فيه اعلام بوجوده وبمحجوبيته على علم الإنسان وتقييمه حتى على الأنبياء وهو والتسليم به هو معنى إيمان .لذلك فالمعرفة لا تكون إلا اجتهادا والعمل لا يكون إلا جهادا لأن علم الإنسان ليس محيطا وعمله ليس تاما لأنه ليس ربا .ولا تقتصر محجوبية الغيب على علم ما يوجد خارج ذات الإنسان ومحدودية عمله على ما يتعلق بخارجه بل هو يشمل علمه بذاته وعمله في ذاته. ومعنى ذلك أن علم الإنسان بذاته اجتهاد وعمله فيها جهاد وكلاهما شديد النسبية ومستحيل الإحاطة والتمام بمنطوق القرآن ومفهومه .ذلك أنه لا يمكن أن يرسل مرسل (الله) رسالة لمرسل إليه (الإنسان) يمكن أن يكون مضمونها متضمنا لما هو ليس في متناوله فهمه لأنه محجوب عنه. وإذن فالرسالة الموحاة ليس فيها علم الغيب رغم قولها بوجوده الا أنه قول مصحوب ببيان محجوبيته. فعندما يكلف الرسل برسالة فالتكليف لا يعطيهم علما بالوحي يتجاوز ما يمكن أن يتذكروه بذواتهم .ما يتص به الرسل ليس إذن التذكر الذي هو خاصية إنسانية للإنسان من حيث هو إنسان ولا يتص به الرسل بل هم يتصون بمهمة تذكير من عجز عن التذكر بذاته لما حصل له من الغفلة التي تشبه كهف افلاطون أو ما يسميه القرآن الاخلاد إلى الأرض .ولا يذكر رسول في القرآن من دون أمرين يثبتان ذلك: أبو يعرب المرزوقي 40 الأسماء والبيان
-- .1فأحيانا يوجد صالح يدعو إلى القبول بما يقوله الرسول ويؤكد أن ما يقوله هو الحق ما يعني أنه توصل إليه من دون تذكير الرسول له .وهو ما يعني أن التذكر خاصة كونية وأن مما يكلف به الرسل هو إزاحة ما يحول دونه والحصول أي علل النسيان. .2وغالبا ما ينتهي الرسول إلى اقناع الكثير من الناس فيصدقوه وخاصة بالطريقة التي في القرآن وليس بالمعجزات كالتي يقصها القرآن ولا يستعملها في التبليغ المحمدي الذي يعتمد الإيقاظ التذكيري بالدعوة إلى تأمل النظام الطبيعي والنظام التاريي. وما عند الإنسان من قدرة على التذكر الذاتي وعلى الاقتناع بقول المذكر وتصديق الرسل يفيد أن لدى الإنسان خاصية هي أصل ما سماه ابن تيمية التقدير الذهني النظري وما أضفت إليه قياسا عليه التقدير الذهني العملي .ومعنى ذلك أن الإنسان من حيث هو إنسان له علاقة بعالمين متعالين على الغرق في مجرى كيانه الطبيعي ومجرى كيانه التاريي بصورة تجعله يطفو فوقهما ليشهد نظام العالمين ونظام كيانيه وهما ما تقصده فصلت 53بما يريه إياه الله من آيات الآفاق والأنفس :لأنهما هما شرطا القدرة التوجيهية التي تحرر الإنسان من الأمر الواقع فتصله بالأمر الواجب. فالقدرة على التذكر وحي كوني حتى وإن لم يتحقق كونيا وحتى لو غلب النسيان بسبب انشداد غالب البشر إلى الدنايا أو الاخلاد إلى الأرض .بل إن الوحي لا يقتصر على الإنسان لأن الله يوحي إلى كل الموجودات بما يريه لها من آياته .والغفلة حائلة دونه ولا يمكن أن تكون كونية وإلا لامتنع التذكير. فيكون التكليف بالتذكير درجة ثانية من الوحي وهي خاصة بالمصطفين لتبليغ الرسالة .الوحي عندهم درجة ثانية هي درجة ايقاظ الغافلين .هي مهمة الرسل الإيقاظية أو التذكيرية ولا تخلو أمة منهم بنص القرآن :كل أمة لها رسول بلسانها. ويمكن أن يكون في الحياة لمن يصطفيهم الله لهذه الدرجة الثانية من الوحي ما يثبت أهليتهم الفعلية في كيانيهم لهذه الوظيفة أي شروط المستوى الثاني من تلقي الوحي .ولعل الرسول الخاتم أكبر دليل على ذلك .فتحنفه سابق عن تكليفه بالرسالة .وتحنفه تذكر ذاتي لأنه لم يكن يتوحد أبو يعرب المرزوقي 41 الأسماء والبيان
-- هروبا من الحياة إذ حياته كلها نشاط بما في ذلك التجارة وهي أصعب امتحان خلقي إذ فيه يعسر النأي بالنفس عن الكذب والغش والخداع. إنما تحنفه هو ما في المستوى الأول من التلقي من دوافع الاشرئباب إلى المستوى الثاني من الوصل بين ما يتلقاه وما يراه من حاجة إلى الدعوة إليه أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر .فالمستوى الأول من التلقي لا يقتصر على البشر بل كل المخلوقات في علاقة مباشرة مع آيات الله. فكل إدراك للموجود من آيات الموجد مرسومة في كيان كل موجود مدرك وهي كما قال ديكارت \"رسم إرادة الخالق في المخلوق وامضاؤه\" .وأبرز الأمثلة في القرآن وحي الله للسموات والأرضين وللنحل ولأم موسى ولأي إنسان استيقظ بذاته حتى وإن لم يكلف بتبليغ رسالة أعني دون يتلقى المستوى الثاني من الوحي .وهذا النوع من البشر يمكن اعتباره من علامات القدرة على التفلسف بالمعنى السامي للكلمة. والفلسفة بالمعنى السامي للكلمة جزء لا يتجزأ من الفطرة الدينية .وطبعا فالفلسفة مثل الدين تحرف :فكل من يعتبر بعض من اشتهر بالتعبير عن أحوال نفسه ليجعلها خيارات وجودية ويسميها فلسفة ولا يتواضع فيعتبرها من أمراضه لا يتلف عن محرفي الاديان وموظفيها \"لتحقيق\" ذواتهم التي تعاني من الغرق في أحوال أنفسهم .فمن يعتبر الهذيان فكرا يمكن أن يعتبر أحوال النفس عند نيتشة فلسفة. وجل الفكر الذي لا يسهم في التقدير الذهني النظري والتقدير الذهني العملي فضلا عن تطبيقاتهما لا يمت إلى الفكر المتذكر والمستيقظ بشيء .فالمستيقظ بذاته أو الذي يتذكر بذاته ينتقل من الادراك الحسي إلى الإدراك الحدسي ومن الغرق في أحوال نفسه إلى المنشد إلى ما تعنيه فصلت 53فيفهم حينها حقيقة القرآن الكريم ذلك هو معنى الدين عند الله الإسلام لان القصد هو هذه الكونية التذكرية التي هي جوهر الاستخلاف. ومن ثم فحواسه لا تكتفي بتلقي الأشياء مع الغفلة عن دلالاتها التي تحيل إلى نظامها وفعل خالقها ومصورها فلا يكون ممن هم \"صم بكم عمي فهم لا يعقلون\" فيصبح بصره بصيرة وسمعه سميعة وشمه شميمة وذوقه ذويقة ولمسه لميسة .وإذن فتحنف الرسول في غار حراء قبل نزول أبو يعرب المرزوقي 42 الأسماء والبيان
-- القرآن عليه دليل على أنه شرع في التذكر بذاته وأنه تلقى الوحي الثاني لما بلغ هذا المستوى الأول ما يجعله قابلا للاصطفاء للمستوى الثاني. ولهذه العلة كان جوابه لجبريل ما أنا بقاريء أي إنه لم يكلف بأن \"يقرأ\" على غيره كما سيكلف \"بالقراءة على مكث\" أعني الانتقال من التذكر الذاتي الكوني إلى تذكير الغافلين .وفي ذلك حل لإشكالية بقيت غامضة في قصة الكهف الأفلاطوني. فمن يذكر المقيمين في الكهف الذين يرون الظلال ويبقون في ضلال هم من لم يتذكروا بذواتهم دون أن يفقدوا القدرة على التذكر لأنهم لو فقدوها لاستحال عليهم فهم التذكير .وإذن فالتذكير المحمدي له وجهان: .1نقدي لا ينفي الرسالتين (التصديق). .2وإيجابي يصلح تحريفهما بتقديم البديل السوي منهما (الهيمنة). وذلك هو معنى الإصلاح الديني الذي نقلنا من الأديان الجزئية الخاصة بالأمم أمة أمة إلى التذكير الكلي الذي يشمل الإنسانية ككل وهو تذكير الإنسان بما فطر عليه وبما يمكنه أن يدركه بذاته إذ حتى عندما يذكره غيره فهو لا يتذكر بفعل المذكر تقبلا غير مصحوب التذكر الذاتي. وفرضيتي هي أن تحنف الرسول الخاتم حدث تاريي في علاقة بالتاريخ الديني والتاريخ السياسي للجماعات البشرية وله علة عينية تجعل الإسلام حركة إصلاح ديني وليس دينا جديدا لأنه محاولة لبيان الديني في كل دين واعتبار ما يميز الأديان العينية لا تختلف عنه إلا بما طرأ عليها من تحريف. ولا بد إذن أن يكون في تحنفه قد انطلق من ظرفية كانت فرصة التدبر الديني وتطبيقاته السياسية والخلقية في حياة البشر الفعلية .وفرضيتي هي أن الفرصة توفرت من خلال زواجه من خديجة واطلاعه عن قرب عن الاديان المنزلة والطبيعية بوصفه قد سافر وتاجر واطلع على أوضاع البشر وما فيها من نتائج التحريف الديني. أبو يعرب المرزوقي 43 الأسماء والبيان
-- فخديجة مسيحية من أسرة مسيحية والتجارة مع الشام مكنته من معرفة المسيحيين العرب واللقاء بغيرهم من الأديان الأخرى .ولا أحد يطلع على المسيحية لا يدرك معنى التحريفين المسيحي واليهودي اللذين يمثلان أهم قضية في سورة آل عمران وعلاقته بتأليه المسيح. والأمر الأهم هو أن ما ترتب على تأليهه حول نظرية خلق (لأن عيسى يشبهه القرآن بآدم) وحول علة الوجود الدنيوي (الخطيئة الموروثة) وحول الوساطة الكنسية والوصاية السياسة المترتبتين عليهما وما تعنيانه من صيرورة البشر أربابا بعضهم على بعض واستكمالا لنظرية الشعب المختار أعني كل التحريفات التي يعالجها القرآن بمنطق التصديق والهيمنة. وكل ذلك ذو صلة بينة بتحريف علاقة سياسة عالم الشهادة بعالم الغيب الذي هو موضوع التدبر الوجودي الذي وصفت والذي يمثل النوع الأول من الخطاب القرآني النقدي للتحريف عامة. فالقرآن بهذا المعنى إصلاح ديني هدفه تحرير رسالة التذكير من التحريفين المسيحي واليهودي: .1التحرير من عقيدة المنجي المختار الذي هو ابن الله وهو من شعب الله المختار والذي يؤسس سلطة الوساطة الروحية وسلطة الوصاية السياسة أو الحق الإلهي في الحكم. .2التحرير من عقيدة الشعب المختار الذي هو الوحيد الذي يتصل به الوحي التكليفي وذلك بتعميم الرسالة على جميع الشعوب لأن البشر اخوة ومتساوون ولا يتفاضلون إلا بالتقوى. وهكذا أصل إلى إشكالية هذا الفصل الأخير انطلاقا مما ختمت به الفصل السابق: .1البحث في خصائص الخطاب القرآني الذي لا يمكن مقارنته بمضمون الأدب ولا بمضمون العلم بل هو مثل المقدرات الذهنية النظرية والعملية مطلقة التجريد بحيث لا شيء من الموجود العيني يمكن أن يطابقها .وهو إذن جنس مختلف عنهما رغم كونه من جنسهما لأنه استراتيجية سياسية حول شروط امكان الاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها بتذكير الإنسان بالعلاقة بين هذه العوالم الخمسة. إنها خطابات ذات حبكة تجمع بين استراتيجية العلاج الديني واستراتيجية العلاج الفلسفي لمشكلتي الوجود المطلقتين اللتين حددنا (خلق الوجود وأمر الموجود) .وهما إذن فوق العلم والعمل أبو يعرب المرزوقي 44 الأسماء والبيان
-- لأنهما عين شرطيهما في كيان الإنسان ولا يتعلقان بالمضامين العينية المتغيرة في المكان والزمان مجال العلم والعمل في حين أن الخطابين الديني والفلسفي يعنيان بشرطهما البنيوي الثابت والمتعالي على المكان والزمان. .2الوعد ببيان ذلك من خلال شرح القصد بهذه المعاني المقدرة ذهنيا في النظر والعمل في علاقة بالخطاب القرآني: • الأول من سورة هود لبيان العلاقة بين سياسة عالم الشهادة سياسة عالم الغيب حول تحرير الإنسان ليكون قادرا على تعمير الأرض والاستخلاف فيها. • الثاني من سورة يوسف لبيان كيفية حصول الوعي بهذه العلاقة للانتقال من الأذهان إلى الأعيان في تحقيق استراتيجية تعمير الأرض والاستخلاف فيها. وفي الحالتين يجتمع نوعا استراتيجية التذكير من حيث هو إيقاظ للإنسان بما جهز به ليكون قادرا على تحقيق ذلك جمعا بين المنشود من مثل عالم الغيب والموجود من واقع عالم الشهادة وما بينهما من تفاعل يكون الأول بمقتضاه وكأنه مجال النظر والعقد المعرفي والثاني وكأنه مجال العمل والشرع القيمي. فتكون النسبة بينهما عين النسبة بين المقدرات الذهنية الرياضية وعلوم الطبيعة والمقدرات الذهنية الخلقية وعلوم التاريخ .وما يقتضي مقدمة حول علة الجمع بين النظر والعقد وبين العمل والشرع اذكر فيها بما تم بيانه بتعمق في محاولات سابقة: .1فأولا لا بد من التحرر من خرافة المقابلة بين النظر المعرفي والعقد .فالنظر المعرفي ينطلق من العقد وينتهي إليه .ومن يتوهم عكس ذلك يقصر العقد على العقد الديني .لكن العقد في المعرفة يبدأ فرضيا وينتهي فعليا :كل باحث عن الحقيقة يفترض موضوع البحث موجودا وذا نظام وذلك تسليم عقدي فرضي .ويعتبر بحثه المعرفي قد وصل إلى نتيجة موجبة إذا اعتقد أنها هي الحقيقة التي افترضها أو إلى نتيجة سالبة إذا اعتقد أنها ليست الحقيقة التي افترضها. أبو يعرب المرزوقي 45 الأسماء والبيان
-- .2وثانيا لا بد من التحرر من خرافية المقابلة بين التقييم العملي والشرع .فالتقييم العملي ينطلق من الشرع وينتهي إليه .ومن يتوهم عكس ذلك يقصر الشرع على الشرع الديني. لكن الشرع في القيم حتمي لأن ما ليس له معايير قيمية لا قيمة له .القيمة هي معيار شرعي سواء افترض من طبيعة الشيء كما في القائلين بالتحسين والتقبيح أو من وضع مشرع غير طبيعي كما في الأديان. وإذن فلا يمكن الفصل بين العقد والنظر لأنهما متلازمان في الفكرين الديني والفلسفي .ولا يمكن الفصل بين الشرع والعمل لأنهما متلازمان في الفكرين الديني والفلسفي .والمقابلة نقل عقل من علامات الحمق الابستمولوجي والأكسيولوجي. فلا يوجد علم لا تكون خصائص موضوعه نقلية إذا كان ليس من المقدرات الذهنية ولا يوجد عمل لا تكون خصائص موضوعه نقلية إذا كان ليس من المقدرات الذهنية .وتلك هي العلة في كون خصائص الموضوع لا تخرج من أحد تحديدين: .1إما تحديد المقدرات الذهنية التي تبدع الموضوع وعلمه في النظر والعقد والقيمة في العمل والشرع. .2أو تحديد الموجودات العينية خارج الذهن وهو فترض وجودها وكيفها بداية وينتهي إلى اثباتها أو نفيها أو عدم الحسم غاية. ولما كنت قد درست المثالين وشرحت السورتين-يوسف وهود-فلن أعود إليهما ويكن طلبهما من المحاولات السابقة فإني سأكتفي ببيان القصد أنهما يتأسسان على العلاقة بين سياسة العالمين عالم الشهادة وعالم الغيب لأن سياسة الثاني الربوبية هي مصدر المثل التي يشرئب إليها الإنسان في مسعاه التحرر من النسيان والانشداد إلى المنشود لترقية الموجود في كيانيه العضوي والروحي وفي محيطيه الطبيعي والتاريي. وقبل ذلك لا بد من ملاحظة سريعة في مسألة التخميس الذي يحرر من التثليث ويعيد إلى العلوم والقيم سلم درجاتهما .فإذا كانت العلاقة المعرفية والقيمة هي دائما علاقة بين الذات والموضوع أبو يعرب المرزوقي 46 الأسماء والبيان
Search