Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore السرمدي والتاريخي في استراتيجية القرآن التوحيدية ومنطق السياسة المحمدية - أبو يعرب المرزوقي

السرمدي والتاريخي في استراتيجية القرآن التوحيدية ومنطق السياسة المحمدية - أبو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2022-06-22 15:42:38

Description: السرمدي والتاريخي في استراتيجية القرآن التوحيدية ومنطق السياسة المحمدية - أبو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪re nils frahm‬‬ ‫السرمدي والتاريخي‬ ‫في استراتيجية القرآن التوحيدية‬ ‫ومنطق السياسة المحمدية‬

‫السرمدي والتاريخي‬ ‫في استراتيجية القرآن التوحيدية‬ ‫ومنطق السياسة المحمدية‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬

‫محتويات الكتيب‬ ‫محتو يات ال كتيب ‪1‬‬ ‫‪ -‬الفصل الأول ‪1 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثاني ‪12 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثالث ‪25 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الرابع ‪33 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الخامس ‪42 -‬‬ ‫‪-‬الفصل السادس ‪53 -‬‬ ‫– الفصل السابع – ‪66‬‬ ‫– الفصل الثامن – ‪77‬‬ ‫– الفصل التاسع – ‪91‬‬ ‫– الفصل العاشر – ‪102‬‬



‫‪--‬‬ ‫‪ -‬الفصل الأول ‪-‬‬ ‫تونس في ‪22.05.09‬‬ ‫من المعضلات الفلسفية والدينية قابلية السرمدي للتصور بمنظور تاريخي يعسر تصور‬ ‫الإنسان قابلا لتجاوزه‪ .‬ل كن التضايف بين المفهومين‪-‬وهو أهم أدلة ديكارت على‬ ‫وجود الله‪-‬اعتبره مجانسا للتضايف بين مفهوم اللاتناهي والتناهي في كل أنواع الفكر‬ ‫الإنساني‪.‬‬ ‫ولا يمكن لأحد أن يزعم أن الإنسان المتناهي لا يستطيع تجاوز تناهيه إلى إدراك‬ ‫اللامتناهي والتعامل معه على الأقل بجعله قابلا للتقنيات الر ياضية التي مكنت من‬ ‫وضع نظر يات من دونها ما كان للبشر ية أن تؤسس العلوم الطبيعية‪.‬‬ ‫فالبحث في ما بعد الطبيعة طلبا للعلم الرئيس في نظر ية المعرفة ونظر ية الموجود‬ ‫معلوم أن مؤسسهكان ارسطو‪ .‬والبحث في ما بعد التاريخ طلبا للعلم الرئيس في نظر ية‬ ‫العمل ونظر ية المنشود ينبغي أن يكون معلوما أن مؤسسهكان ابن خلدون‪.‬‬ ‫وأن ابداعه يتمثل في هذا التأسيس وليس في ما يزعم من مقارنات سطحية بينه‬ ‫وبين اوغست كونت أو بينه وبين ماركس‪ .‬نسبة ابن خلدون الفلسفية إلى بدايات‬ ‫تأسيس العلوم الإنسانية هي عين نسبة ارسطو إلى بدايات تأسيس العلوم الطبيعية‪:‬‬ ‫فكما أن الأول اعتبر تأسيس نظر ية المعرفة ونظر ية الوجود شرطا في كل تأسيس‬ ‫للعلوم الطبيعية خاصة‪ .‬والتأسيس الأرسطي هو ما بعد علم الطبيعة أو \"الميتا‪-‬فيز يقا\"‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪--‬‬ ‫فكذلك اعتبر الثاني تأسيس نظر ية القيمة ونظر ية المنشود شرطا في كل العلوم‬ ‫الإنسانية خاصة‪ .‬والتأسيس الخلدوني هو ما بعد علم التاريخ أو \"الميتا‪-‬تاريخ\"‪.‬‬ ‫فأرسطو بحث عن الحل بطر يقتين في كتاب الميتافيز يقا أولاهما تاريخية لتطور المعرفة‬ ‫الطبيعية قبله ليثبت أن الحصيلة تؤيد ما توصل إليه في بحوثه المنطقية والطبيعية (جوهر‬ ‫مضمون المقالة الأولى أي الألف ال كبرى)‪.‬‬ ‫والثانية ر ياضية لأنه قاس ما بعد الطبيعة التي تمكن من فهم تعدد معاني الوجود‬ ‫على الر ياضيات الكلية كما بينت في كتابي حول منزلة الر ياضيات في علمه حتى وإن لم‬ ‫يذهب إلى الغاية لأن ر ياضيات عصره الكلية لم تكن قد تمكنت من حل مشكل‬ ‫العلاقة بين التناهي واللاتناهي (جوهر الشكوك لاختبار الحصيلة وخاصة مقالتي الباء‬ ‫والكاف)‪.‬‬ ‫وابن خلدون بحث عن الحل بطر يقتين أولاهما نقدية لتطور المعرفة التاريخية قبله‬ ‫ليثبت أن الحصيلة (وهو مضمون مقدمة المقدمة) تؤيد ما توصل إليه في بحوثة‬ ‫التاريخية والإنسانية والثانية تمثلت في قيس ما بعد التاريخ (الذي سماه علم العمران‬ ‫البشري والاجتماع الإنساني) على نظر ية العمل وعلم المنشود في السياسيات الكلية‬ ‫(وهو مضمون المقدمةكلها بأبوابها الستة)‪.‬‬ ‫كما بينت في كتابي حول منزلة الاجتماع النظري والتاريخ العربي المعاصر في علمه‬ ‫حتى وإن لم يذهب إلى الغاية لأن هذا العلم لم يكن موجودا أصلا في عصره لحل‬ ‫مشكل العلاقة بين السرمدي والتاريخي‪ .‬وهو ما يعني أن دور الر ياضيات الكلية من‬ ‫‪2‬‬

‫‪--‬‬ ‫حيث هي تقديرات ذهنية قبلية للحقيقة في الفلسفة النظر ية عند الأول يناظر دور‬ ‫السياسيات الكلية من حيث هي تقديرات ذهنية قبلية للح في الفلسفة العملية عند‬ ‫الثاني‪.‬‬ ‫فلكأن الر ياضيات الكلية تعالج العلاقة بين المتناهي واللامتناهي في وضع نموذج قبلي‬ ‫للحقيقة وذلك هو جوهر البحث الميتافيز يقي والسياسيات الكلية تعالج العلاقة بين‬ ‫التاريخي والسرمدي في وضع نموذج للحق وذلك هو جوهر البحث الميتاتاريخي‪:‬‬ ‫• والنموذج الأول من طبيعة إبستمولوجية‪.‬‬ ‫• والنموذج الثاني من طبيعة أكسيولوجية‪.‬‬ ‫ل كن الأول ينتهي إلى الثاني والثاني ينتهي إلى الأول فتصبح القضية متعلقة بما بين‬ ‫الر ياضيات الكلية والسياسيات الكلية من علاقة وطيدة في فهم الموجود والمنشود وهما‬ ‫جهازا الإنسان من حيث هو مستعمر في الأرض بأدوات تقنية هي تطبيق العلوم‬ ‫الطبيعية والعلوم الإنسانية من وجه أول دون نسيان الاستخلاف فيها ثم من حيث هو‬ ‫مستخلف فيها بأدوات قيمية هي تطبيق العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية من وجه ثان‬ ‫دون نسيان الاستعمار فيها‪.‬‬ ‫ويبدو أن مشكل الإنسانية مرده إلى أحد النسيانين‪ .‬فإذا نسيت الاستخلاف‬ ‫وغرقت في الاستعمار صارت بانعدام التعالي هدامة لذاتها ولعالمها وإذا نسيت‬ ‫الاستعمار وغرفت في الاستخلاف يسرت بانعدام شروط التحرر من المسيطرين على‬ ‫شروط البقاء الدنيوي من عبيد الاولين لأنها تكون بحاجة إليهم في رعايتها وفي حمايتها‬ ‫‪3‬‬

‫‪--‬‬ ‫وتلك هي علة الاخلاد إلى الأرض عند المنافقين المتظاهرين بالتفرغ للدين مع التخلي‬ ‫عن شروط التعالي على الدنيا الذي لا يكون من دون شروط التحرر منها بالسيطرة‬ ‫عليها وعدم الحاجة للغير في سد ما يقتضيه الاستعمار فيها‪.‬‬ ‫ولا تكون السيطرة عليها الذي هو شرط التعالي والتحرر منها من دون القدرة على‬ ‫انتاج الثروة وإنتاج التراث شرطين للرعاية والحماية‪ .‬والإنتاج الأول تحرر مباشر في‬ ‫الرعاية والحماية والثاني تحرر غير مباشر فيهما لأن انتاج الثورة هو بدوره مدين لإنتاج‬ ‫التراث العلمي وتطبيقاته التقنية وللإنتاج القيمي وتطبيقاته الخلقية‪ .‬وذلك هو معنى‬ ‫القوي الأمين صفتين لكل مؤمن صادق‪ :‬فالضعيف لا يمكن أن يكون مؤمنا ولا‬ ‫خاصة أمينا لأنه لا يبقى حرا ولا كريما‪ .‬ومن فقد حريته تابع ومن فقد كرامته لا‬ ‫يثور على العبودية لغير الله‪.‬‬ ‫فرضيتي هي أن العلوم الإنسانية تحتاج إلى حل مناظر لنفس الحل الذي لم يذهب‬ ‫به أرسطو إلى الغاية حتى نتمكن من تأسيس علوم الإنسان‪ .‬فكما أن ما بعد الطبيعة‬ ‫يحتاج إلى الر ياضيات الكلية (ما بعد تقنية لمعاني الحقيقة الكلية سواء في شكل‬ ‫تقديرات ذهنية أو حقائق قائمة بذاتها فتكون فلسفة الحقيقة) فإن ما بعد التاريخ‬ ‫يحتاج إلى السياسيات الكلية التي تجمع بين السرمدي (وهو ما بعد أخلاق لمعاني الحق‬ ‫الكلية سواء في شكل تقديرات ذهنية أو قيم قائما بذاتها فتكون دين الحق)‪.‬‬ ‫وفرضيتي هي أن نسبة علم السياسة الكلية (للعالمين التاريخ وما بعده الذي سرمدي)‬ ‫إلى علوم الإنسان هي عين نسبة علم الر ياضيات الكلية (للعالمين الطبيعية وما بعده‬ ‫‪4‬‬

‫‪--‬‬ ‫الذي هو لامتناهي) إلى علوم الطبيعة‪ .‬كلا العلمين يتجاوز التناهي إلى اللامتناهي في‬ ‫شكله الر ياضي الكلي (نظام العالم) والتاريخي إلى السرمدي في شكله السياسي الكلي‬ ‫(سياسة العالم)‪.‬‬ ‫لأن كلا العلمين يستند إلى اللامتناهي في الفاعليتين المستندتين إلى التفاعل بين‬ ‫الضرورة الشرطية التي تحكم الطبيعيات والحر ية الشرطية التي تحكم الإنسانيات‪:‬‬ ‫ومفروض الضرورة الشرطية الأساسي هو الجمع بين الحتمية والغائية‪.‬‬ ‫ومفروض الحر ية الشرطية الأساسي هو الجمع بين الحر ية والغائية‪.‬‬ ‫وإذن فنوعا الشرطية يفترضان إطلاق نوعي الجمع بين الشرط والمشروط لتحديد ما‬ ‫يحصل من تفاعلهما من ثمرات تحدد المتناهي باللامتناهي تحديد يمكن في حالة‬ ‫الطبيعيات من الوصل بين اللامتناهي الر ياضي والمتناهي الطبيعي‪.‬‬ ‫ويمكن في حالة الإنسانيات من الوصل بين السرمدي والتاريخي في السياسة الكلية‬ ‫التي لها نفس الدور الذي للر ياضيات الكلية في حالة الطبيعيات‪:‬‬ ‫والمعلوم أن القرآن ال كريم يعتبر الخلق خاضعا لقانون ر ياضي ثابت (كل شيء‬ ‫خلقناه بقدر أي بنية العالم ر ياضية)‪.‬‬ ‫و يعتبر الأمر خاضعا لقانون سياسي ثابت (لن تجد لسنن الله تبديلا ولا تحو يلا أي‬ ‫تاريخ العالم سياسي)‪ .‬والأولان لا يحتاجان للشرح لأنهما معلومان إذ هما عين ما‬ ‫تحقق في علوم الطبيعة‪.‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪--‬‬ ‫ل كن الثانيين بحاجة لشرح مستفيض لعسر تقبله وفهمه‪ .‬إذ كيف نصدق أن‬ ‫\"الخيال السياسي الإنساني الذي ينحو إلى اكتشاف السرمدي من جنس الخيال‬ ‫الر ياضي الذي ينحو لاكتشاف اللامتناهي؟‬ ‫كيف يمكن للإنسان من حيث هو متناه أن يتجاوزه في الر ياضي الكلي للتعامل مع‬ ‫اللامتناهي ومن حيث هو تاريخي أن يتجاوزه في السياسي الكلي للتعامل مع السرمدي؟‬ ‫لعل ذلك هو المعنى العميق لتعليل القرآن استخلاف الإنسان رغم كونه يفسد في‬ ‫الأرض ويسفك الدماء‪ .‬فالتعليل الأخير للاستخلاف كان في قصة القصة القرآنية هو‬ ‫القدرة على التسمية أو الترميز الذي هو وضع النموذجين اللذين أشرت إليهما‪.‬‬ ‫وإذا كان الإبداع الر ياضي بحاجة إلى المنطق ويبدو غنيا عن التجربة الطبيعية فإن‬ ‫التجربة الطبيعية لا تعلم من دونه وإذا كان الابداع السياسي بحاجة إلى التاريخ ويبدو‬ ‫غنيا عن المنطق فإن التجربة التاريخية لا تعلم من دونه‪.‬‬ ‫فيكون الأصل في التعالي الأول على التجربة هو المنطق أداة الإبداع النظري في علم‬ ‫الطبيعة والأصل في التعالي الثاني على المنطق هو التاريخ أداة الإبداع العملي في عمل‬ ‫الإنسان‪.‬‬ ‫ل كن تطبيق التقنيات التي يبدعها الأول على الطبيعيات يحتاج إلى التجربة‬ ‫الطبيعية وتطبيق القيم التي يبدعها الثاني على الإنسانيات يحتاج إلى التجربة التاريخية‪.‬‬ ‫ولهذه العلة كان القرآن يرد الخلق إلى الر ياضيات (كل شيء خلقناه بقدر) ويرد‬ ‫الأمر إلى السياسيات (سنن لا تتغير ولا تتبدل)‪ :‬وهما القصد باقتصار استدلاله كله‬ ‫‪6‬‬

‫‪--‬‬ ‫على النظام وليس على خرقه كما في الأديان التي طبق عليها نقد التحر يف بمعيار‬ ‫التصديق والهيمنة‪.‬‬ ‫وقد بينت ذلك بمقتضى التحليل الإبستمولوجي في القسم الثاني من دكتوراه الدولة‬ ‫جزئها المتعلق بإصلاح العقل في الفلسفة العربية والأكسيولوجي (دون اعتماد على‬ ‫تفسير معاني القرآن لأن ذلك لم أكن قد شرعت فيه بعد‪-‬شرعت فيه فعليا في ماليز يا‬ ‫بداية من سنة أربعة والفين)‪.‬‬ ‫فالإنسان يبدع تصوره للسرمدي السياسي (افتراض نظام ثابت أساسا لمجرى‬ ‫التاريخ) المعلل للتاريخي السياسي (فهم تطور تعينه في مجرى التاريخ) كما يبدع تصوره‬ ‫اللامتناهي الر ياضي (نظام ثابت في الر ياضيات) المعلل للمتناهي الطبيعي (تطور تحققه‬ ‫في الطبيعيات)‪.‬‬ ‫وهذا هو جوهر التجهيز الفطري الذي جعل الإنسان رغم تنهاهيه يدرك اللامتناهي‬ ‫وذلك هو جوهر الر ياضيات ورغم تاريخيته يدرك السرمدي وذلك هو جوهر‬ ‫السياسيات‪ .‬وكلاهما ديني بالجوهر‪.‬‬ ‫لأن الجهازين هما شرطا استعمار الإنسان في الأرض واستخلافه فيها والأولى شرط‬ ‫أداتي أي مصدر كل التقنيات للتعامل مع الطبيعة واللاتناهي والثانية شرط غائي أي‬ ‫مصدر كل القيميات للتعالم مع التاريخ والسرمدية‪.‬‬ ‫ولا أريد أن اجيب عن سؤال قد يخرجنا عن الموضوع لأني لا أنوي الانتقال إلى‬ ‫الكلام في المسالة الدينية‪ .‬والسؤال هو‪:‬‬ ‫‪7‬‬

‫‪--‬‬ ‫هل ما يدركه الإنسان في الر ياضيات الكلية‬ ‫وهل ما يدركه الإنسان في السياسيات الكلية‬ ‫هو من إبداع خياله أم هو من جنس الإدراك الحسي لموجود فعلي ليس من ابداعه‬ ‫وكأنه نظير المحسوسات دون أن يكون محسوسا فيكون له وجود خارج التقدير‬ ‫الذهني؟‬ ‫والمعلوم أن الحسم في ذلك هو جوهر المسألة الدينية والفلسفية‪ .‬فهل كل ما يتعالى‬ ‫على المدارك الحسية من مداركنا هي صنع خيالنا أم هي قدرة فطر ية على تجاوزه‬ ‫وابداع لغة تعبر عنه هي الر ياضيات الكلية في وضع نماذج الحقيقة وهي السياسيات‬ ‫الكلية في وضع نماذج الحق‪.‬‬ ‫وطبعا فأنا اميل للحل الثاني لأنه هو معنى منزلة الاستخلاف التي ينسبها القرآن إلى‬ ‫الإنسان و يعللها بالقدرة على التسمية التي يترتب عليها كونه حرا ومسؤولا ومكرما‪.‬‬ ‫ل كني لست معنيا بإقناع غيري بما أميل إليه‪.‬‬ ‫ومن البين عند كل من درس الفكر الذي أسس للفلسفة السياسية في علاقة‬ ‫بتأسيس الفلسفة الطبيعية أي فكر أفلاطون وأرسطو في غياب الوثائق الكافية لمعرفة‬ ‫تأسيسهما قبلهما وخاصة في أقدم دولتين قابلتين للتوثيق الم كتوب من التاريخ القديم‬ ‫(مصر وبابل) يعلم أن التمييز بين الفلسفتين الطبيعية والسياسية يستند إلى المقابلة بين ما‬ ‫يقبل التفسير بما ينسب إلى أفعال الأنسان وما لا يقبله‪.‬‬ ‫‪8‬‬

‫‪--‬‬ ‫فمن فلسفتهما يمكن أن نستنتج أن التمييز مبني على المقابلة بين المبدأين اللذين يرد إلى‬ ‫أولهما ظاهرات الطبيعة أي التعليل بسبية الحتمية والاضطرار ويرد ثانيهما إلى التعليل‬ ‫بسببية الحر ية والاختيار‪.‬‬ ‫فظن ال كثير أن هذه المقابلة هي عين المقابلة بين الخضوع إلى قوانين ثابتة ليس فيها‬ ‫ما هو متغير وإلى عدم الخضوع إلى قوانين متغير ليس فيها ما هو ثابت‪ .‬فكان هذا‬ ‫الخلط علة في عدم فهم الفرق بين السرمدي والتاريخي في كلا النوعين ممن الظاهرات‬ ‫الطبيعية والإنسانية والعبارة عنهما في فلسفة السياسة‪.‬‬ ‫ولهذه العلة وضعت محاولة أميز فيها بين مستو يين من الدولة‪ :‬أولهما اسميه الدولة‬ ‫المجردة وهي بينة سرمدية ثابتة لا تتغير والثاني أسميه الدولة المتعينة وهي تكوينية‬ ‫تاريخية تملأ هذه البنية السرمدية بمضمون يعينها بما يمثل الوعي بشروط قوامة هذه‬ ‫البنية المجردة حتى تتحقق ثمراتها في التاريخ الفعلي‪ .‬ولا بد إذن من التمييز‪:‬‬ ‫بين الدولة المجردة التي هي من جنس الظاهرات الطبيعية من حيث الخضوع‬ ‫للضرورة وهي تصبح من الظاهرات الإنسانية بأفعال الإنسان لما تتعين في تاريخ‬ ‫الإنسانية وحقبه المتوالية مثلا‪.‬‬ ‫وبين الطبيعة المجردة الخاضعة للضرورة وهي تصبح من الظاهرات الإنسانية بأفعال‬ ‫الإنسان لما تتعين في تاريخ الإنسانية كما هو بين من الفرق بين الجغرافيا الطبيعية‬ ‫والجغرافيا بعد تحو يلها التاريخي مثلا‪.‬‬ ‫‪9‬‬

‫‪--‬‬ ‫ولولا وهم الفلاسفة الذي جعلهم يقولون بنظر ية في المعرفة تؤمن بالمطابقة التي‬ ‫تعني أن الفكر يعكس ما يسمونه حقيقة الواقع لظنهم أنه شفاف بحيث إن العقل مثل‬ ‫المرآة يعكسه على ما هو عليه لما حصلت هذه الغفلة التي تخلو منها الرؤ ية القرآنية‪..‬‬ ‫فهو يعتبر ما نعلمه من \"الواقع\" لا يتجاوز ظاهره لأن ما نظنه خيرا قد يكون شرا وما‬ ‫نظنه شرا قد يكون خيرا ومن ثم فأحكامنا القيمية أو إدراك الحق ومثلها أحكامنا‬ ‫المعرفية أو المعرفية أو إدراك الحقيقة شديدة النسبية لأن ما نجهله لا يتناهى وما نعلمه‬ ‫شديد التناهي‪.‬‬ ‫ولن اتل كم في المسألة الإبستمولوجية والمسألة الأكسيولوجية اللتين خصصت لهما‬ ‫ال كثير من المحاولات لبيان ما ترتب على المفهوم الحد الذي يبين حدود العلم‬ ‫الإنساني‪.‬‬ ‫فهذه الإشكالية هي التي انشغلت بها المدرسة النقدية العربية (بدأت مع الغزالي‬ ‫بصورة عامة نقدا للميتافيز يقا وثنت بابن تيمية نقدا لنظر ية المعرفة وختمت بابن خلدون‬ ‫نقدا للفلسفة العملية العملية)‬ ‫والمدرسة النقدية الألمانية (صارت المانية لأنها بدأت بديكارت وثنت بهيوم‬ ‫وصيغت نهائيا عند كنط)‪ .‬وكانت في قطيعة مع القول بالمطابقة الإبستمولوجية والتمام‬ ‫الأكسيولوجي‪.‬‬ ‫والنكوص على القطيعة مع المدرسة النقدية العربية آل إلى موت الفكر الفلسفي‬ ‫والعلمي حتى بعد محاولات النهوض منذئذ إلى اليوم‪ .‬في حين ان النكوص في المدرسة‬ ‫‪10‬‬

‫‪--‬‬ ‫النقدية الغربية لم تقتل الفكر الفلسفي والعلمي لأن فلسفة هيجل وماركس لم تعتبر قرآنا‬ ‫كما اعتبرت فلسفة افلاطون وأرسطو في نفس الفكر العقيم للمدرسية الماضية‬ ‫والحاضرة‪.‬‬ ‫فمثلما كان الفارابي يعتبر العلم قد اكتمل ولم يبق إلا أن يعلم ويتعلم ومثلما كان ابن‬ ‫رشد يعتقد أن علم أرسطو كأنه قرآن صار من عادوا إليهما وجمعوا بين النكوصين‬ ‫للأولين والنكوصين للثانية فأصبح العقم والجمود الفكري السمة الغالبة التي آلت إلى‬ ‫اهمال المدرسة النقدية العربية بصورة نهائية بل اصبح اناست رونان مسيطرا على‬ ‫اليعاقبة وارنست بلوخ على الماركسيين في ما يسمونه فكرا فلسفيا‪.‬‬ ‫لذلك فهو ليس فكرا مدرسيا مثل الفكر الفلسفي التقليدي العربي القديم فحسب بل‬ ‫هو جنس منه مضاعف لا يمكن أن يتجاوز الكلام في سطحيات تاريخ الفكر الفلسفي‬ ‫الجامد الذي يتصور العلم الإنسان محيطا بما يسمونه الواقع والعمل الإنساني تاما بما‬ ‫يسمونه القيم‪.‬‬ ‫فلاسفتنا المحدثون الرسميون أكثر جمودا من فلاسفتنا القدامى الرسميون‪ .‬كلاهما لا‬ ‫يختلف عن شراح النصوص المقدسة إذ يعتبرونها حقائق نهائية كأنها وحي منزل من‬ ‫السماء لم يبق إلا أن \"ت ُتعلم وت ُعلم\" (الفارابي)‪.‬‬ ‫‪11‬‬

‫‪--‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثاني ‪-‬‬ ‫تونس في ‪22.05.10‬‬ ‫أمر الآن إلى ما هو اعسر مما عرضت في الفصل الأول لأننا نلامس جوهر‬ ‫الإشكال في المعنى المقصود من السياسيات الكلية التي لها في العمل دور‬ ‫جنيس لدور الر ياضيات الكلية في النظر‪.‬‬ ‫فيمكن التخلص من المأزقين اللذين انتهى إليهما الفكر العربي في المرحلتين‬ ‫القديمة والحديثة إذا فهمنا تطور الموقف من المدرستين النقديتين العربية‬ ‫والألمانية في الغرب وعندنا‪.‬‬ ‫ذلك أني لا ابحث في المسألة من باب الترف الفكري بل الغاية هي البحث‬ ‫في في شروط الاستئناف مستندا إلى قراءة نقدية هي بدورها للحظة اللقاء بين‬ ‫الفكرين الفلسفي العربي الإسلامي واللاتيني المسيحي لحظة الانتقال من‬ ‫الفلسفة القديمة إلى الفلسفة الحديثة في الحالة اللاتينية المسيحية والجمود في‬ ‫الحالة العربية الإسلامية‪ .‬ذلك هو السؤال الذي يمكن أن نطلب جوابه من‬ ‫خلال التحديق في الفرق بينهما‪:‬‬ ‫‪12‬‬

‫‪--‬‬ ‫فالمدرسة العربية النقدية كانت بداية أشبه بالموقف المدافع عن العلاقة بين‬ ‫الرؤيتين الدينية والفلسفية لنظر ية المعرفة ولنظر ية القيمة بمفهوم الحد القرآني‬ ‫وهو ما في الوجود من غيب لا يقبل الرد إلى الشهادة‬ ‫وهي بداية يمثلها أفضل تمثيل الغزالي إذا خلصناه من القراءة البعدية التي‬ ‫ردته إلى السينو ية وال كشف الصوفي نفهمه بالوصل مع غاية يمثلها ابن تيمية‪.‬‬ ‫والمدرسة الألمانية النقدية كانت غاية اشبه بالموقف المدافع نفس العلاقة مع‬ ‫تجاوز الدفاع إلى بيان مفهوم الحد الفلسفي وهو التمييز بين الظاهرات والحقائق‬ ‫في ذاتها‪.‬‬ ‫وهي بداية يمثلها أفضل تمثيل ديكارت إذا خلصناه من القراءة البعدية التي‬ ‫اسقطت عليه تغييب البعد الديني للتناسق مع اليعقوبية ووصلناه بغاية يمثلها‬ ‫كنط‪.‬‬ ‫والمفهومان في الحالتين علتهما فهم ضرورة التمييز بين ما ندركه من الوجود‬ ‫وما هو عليه في ذاته الذي يبقى دائما مختلفا عما ندركه منه ومن ثم‪:‬‬ ‫فالمطابقة الإبستمولوجية مستحيلة لاستحالة الإحاطة في النظر وإلا لما‬ ‫تطورت نظر يات الإنسان العلمية‪.‬‬ ‫‪13‬‬

‫‪--‬‬ ‫والمطابقة الأكسيولوجية مستحيلة لاستحالة التمام في العمل إلا لما تطورت‬ ‫حلول الإنسان العملية‪.‬‬ ‫والتطوران متلازمان‪ .‬فحلول الإنسان العملية رهن حلوله النظر ية والعكس‬ ‫بالعكس أي إن النظر الإنساني تقدير ذهني يمتحن بالترجيح التجريبي‪m‬‬ ‫والأول هو التقديرات الذهنية ورمزها الفكر الر ياضي في التعامل مع الطبيعة‬ ‫والتاريخ‪.‬‬ ‫والثاني هو الترجيحات التجريبية ورمزها الفكر السياسي في التعامل مع‬ ‫التاريخ والطبيعة‪.‬‬ ‫وكان ارسطو أول من ميز في مقالة الطاء من الميتافيز يقا بين قوة عاقلة يتميز‬ ‫بها الإنسان وقوة غير عاقلة تتميز بها الطبيعة‪ .‬والثانية خاضعة للفعل المضطر‬ ‫الذي ليس فيه إرادة ولا كراهة‪.‬‬ ‫والأولى خاضعة للفعل الحر القابل للإرادة وال كراهة‪-‬وقد خصص هيدجر‬ ‫درسا للفصول الثلاثة منها كما هو معلوم‪ .‬وقد بنى أرسطو على هذه المقابلة بين‬ ‫المضطر والحر من الأفعال نظريته السياسية‪.‬‬ ‫‪14‬‬

‫‪--‬‬ ‫ل كنه لم يتخيل حتى مجرد التخيل أن السياسة لها بنية مجردة كلية تقبل الرد‬ ‫إلى الضرورة الطبيعية وأنها تصبح تابعة للحر ية الخلقية عندما تتعين تاريخيا كما‬ ‫سأبين فتكون جامعة بين الضرورة والحر ية الشرطيتين‪.‬‬ ‫ولا يزال منظرو الفلسفة السياسية حتى المحدثين منهم يعتمدون المقابلة بيت‬ ‫القوتين العاقلة غير العاقلة وهي على أهميتها مقابلة سطحية لاعتمادها على‬ ‫المطابقة في النظر والتمام في العمل وكلتا المطابقتين تعتمدان على‪:‬‬ ‫وهم ابستمولوجي هو النظر المطابق لكأن العقل مرآة عاكسة لما يسمونه‬ ‫الواقع‪.‬‬ ‫ووهم أكسيولوجي هو العمل التام لكأن الإرادة قدرة مطلقة لما يسمونه‬ ‫القيمة‪.‬‬ ‫وتلك هي العلة في أن الفلسفة السياسية القديمة وحتى الحديثة ظلت مستندة‬ ‫إلى التمييز بين‪:‬‬ ‫القوة العاقلة أي الحر ية الإنسانية للخيار بين الضدين وحتى النقيضين والقدرة‬ ‫عليهما‬ ‫والقوة غير العاقلة أي الضرورة الطبيعية التي تخضع لعدم التناقض والثالث‬ ‫المرفوع بمعناها في المنطق الأرسطي (مقالة الجيم)‬ ‫‪15‬‬

‫‪--‬‬ ‫بحيث إن تأسيس علوم الإنسان مخيرة بين القول بالحر ية واستحالة علمها أو‬ ‫علمها مع نفي الحر ية وظلت علوم الطبيعة بحاجة إلى القول بالحتمية والضرورة‬ ‫السببية‪.‬‬ ‫ل كن العلم في غنى عن إطلاق الحتمية والعمل في غنى عن إطلاق الحر ية‬ ‫ل كونهما هما نفسيهما ليسا مطلقين بل هما اجتهاد دائم التطور نظر يا بوصفه‬ ‫تقديرا ذهنيا ور ياضيات كلية وعمليا بوصفه امتحانا تجريبا وسياسيات كلية‪.‬‬ ‫فنستنتج من ثم أنه من الخطأ أن المطابقة الموهومة في النظر يكفي فيها‬ ‫التناسق المنطقي وأن التمام الموهوم في العمل يكفي فيه شرط الإرادة الخيرة‬ ‫التي تجعل العمل تابعا للنظر ليتجنب الخروج عن العمل على علم)‪.‬‬ ‫وبهذا المعنى فقد صنف أرسطو وأفلاطون قبله الأنظمة السياسية ليس‬ ‫بمقتضى البنية المجردة للدولة ‪-‬وهو مفهوم لم يكن موجودا في الفلسفة ل كنه‬ ‫موجود في الدين حتى الطبيعي ناهيك عن المنزل‪-‬فقسما الأنظمة إلى ثلاثة‬ ‫تتمايز بعدد المشاركين في الحكم وفاضل بينها بمعيار اخلاق الحكام أي بالفضيلة‬ ‫والرذيلة‪.‬‬ ‫ل كن ابن خلدون ألغى كل إمكانية لإخضاع السياسيات لمنطق عدم‬ ‫التناقض والثالث المرفوع في فصل ولاية العهد من الباب الثالث من المقدمة‬ ‫‪16‬‬

‫‪--‬‬ ‫وفيه قدم حل عدم التأثيم في الاجتهاد السياسي مهما تناقض لأنه اجتهادات‬ ‫حول طرق العلاج وليس حول الغايات‬ ‫ومن ثم فمعياره ليس الحقيقة والباطل بل الجدوى والكلفة في علاج‬ ‫المشكل المطروح‪ .‬وهو قد اقترح هذا الحل لتجاوز تجريم ما حصل بين‬ ‫الصحابة من خلافات أوصلت إلى الحرب الاهلية وهي مع ذلك من شروط‬ ‫التعدد الاجتهادي الضروري في التجربة السياسية الكلية‪.‬‬ ‫لذلك فالمدرسة النقدية العربية على الأقل انطلاقا من خلاف حول أفعال‬ ‫العباد ‪-‬السؤال عن دور الحر ية والإرادة في تحديد الحكم القيمي‪-‬وحول أفعال‬ ‫الطبيعة ‪-‬السؤال عن دور الضرورة والسببية في تحديد الحكم المعرفي‪-‬‬ ‫كان بداية القطيعة مع الرؤ ية اليونانية في صيغتيها الأرسطية والأفلاطونية‬ ‫وما يناقضهما ممثلا بكاليكلاس الذي يرد السياسي إلى منطق القوة الطبيعية‬ ‫الخالصة‪.‬‬ ‫وسأترك البحث في مصدر القطيعة التي انسبها إلى تأثير الرؤ ية الدينية في‬ ‫الحالتين العربية والألمانية وسأحاول تأسيسها على منطق التفاعل في الاتجاهين‬ ‫بين‪:‬‬ ‫‪17‬‬

‫‪--‬‬ ‫الضرورة الشرطية بلغة الفلسفة الأرسطية التي تتجاوز الضرورة العمياء إلى‬ ‫الضرورة ذات الغائية التي يردها إلى الحصيلة المنتظمة في كيان الموضوع الذي‬ ‫تتعلق به المعرفة والتي يظنها كافية لاعتبار قوانين المنطق مطابقة لقوانين‬ ‫الوجود‪.‬‬ ‫والحر ية الشرطية بلغة القرآن التي تتجاوز سطحية أفعال العباد إلى دلالتها في‬ ‫ثمراتها التي يمتنع توقعها انطلاقا من إرادة صاحبها لأن فعل الإنسان ليس‬ ‫بمعزل عما يجري في الآفاق وفي الانفس وما يراه من آيات الله فيهما دون أن‬ ‫يحيط بما فيها من غيب‪.‬‬ ‫وليس هذا المعنى هو الوحيد من المفاهيم الأساسية في الفلسفة السياسية التي‬ ‫استحوذت عليها الفلسفة من الأديان سواء كانت طبيعية أو منزلة‪.‬‬ ‫وقد اثبت أن ذلك حصل مع غيرها من المعاني التي صارت تعتبر فلسفية‬ ‫وهي في الحقيقة دينية الاستحواذ عليها من الفكر الفلسفي الحديث فظنت من‬ ‫الفلسفة وهي لم تكن منها‪:‬‬ ‫من ذلك مفهوم العقد الذي فقد دلالته الاصلية عندما صار وكأنه مفهوم‬ ‫حديث بوصفه تعاقدا بين البشر دون الطرف الثالث الأساسي الذي يجعله‬ ‫‪18‬‬

‫‪--‬‬ ‫متكافئ لأنه لو كان بينهم وحدهم لكان مختلا لأنه يكون علاقة بين لا‬ ‫متساو يين‬ ‫فلا تكون المشاركة فيه إلا اسمية إذ لا يمكن للقوي أن يتعاقد مع الضعيف‬ ‫من دون فرض إرادته عليه وإذن فالعقد يستمد شرعيته من المساواة بين‬ ‫المتعاقدين عند سلطة متعالية عليهما معا‪.‬‬ ‫ومفهوم الفرد الذي فقد دلالته الدينية عندما صار وكأنه مفهوم حديث في‬ ‫حين أن الفرد لا قيام له إلا بالجماعة وأن المسؤولية الخلقية المختلفة عن العادة‬ ‫الجماعية ظاهرة تابعة للمعروف والمنكر أي لأحكام الجماعة وليست خيارات‬ ‫الأفراد‪.‬‬ ‫وذلك هو المعنى العميق للفردية لأنها نظير حساب الجماعة لسلوك الأفراد‬ ‫الذين تحملهم مسؤولية سلوكهم بالقياس إلى المعروف والمنكر فيها وتلك هي‬ ‫العادة الجماعية‪.‬‬ ‫وهي بحاجة لتأسيس ذلك إلى نظر ية في القضاء المتعالي على إرادة الافراد‬ ‫وعلى الجماعة فيكون أصل الدين حتى الطبيعي ناهيك عن المنزل الذي يفترض‬ ‫أن هذا القاضي هو الرب نفسه‪.‬‬ ‫‪19‬‬

‫‪--‬‬ ‫وإذن فمناط السلطة السياسة ووظائفها مشروط حتما بقاض سام يتعالى على‬ ‫الجميع ويتساوى عنده الجميع لأن المسؤولية الخلقية مشروطة رغم بقائها في‬ ‫النظر يات الفلسفية المبتورة بالتخلص من الخلط بينة الدولة المتعلقة بمنزلة‬ ‫الاستخلاف وأنظمة القوامة المتعلقة بالوعي بشروط أهلية الاستخلاف‪.‬‬ ‫صحيح أنه يوجد تناظر بين بنية الدولة المجردة التي هي مطلقة الثبات والتي لا‬ ‫تتغير لأنها من جوهر كيان الجماعات البشر ية من حيث هي جماعات بشر ية أيا‬ ‫كانت مرحلة تطور وعيها بتنظيم قوامتها على ذاتها وأنظمة القوامة التي هي‬ ‫تاريخية بالجوهر لأنها ثمرة تطور الوعي بشروط القوامة والمفاضلة بينها‪.‬‬ ‫وهذا الفرق الجوهري بين الأمرين هو الذي كان لا بد من تحديده انطلاقا‬ ‫من تلميحات وردت في القرآن ال كريم وخاصة في الانثروبولوجيا القرآنية‬ ‫(نظر ية الإنسان) وعلاقتها بالثيولوجيا القرآنية (نظر ية الرب) وثمرة العلاقة‬ ‫بينهما كما عرفها مفهوم الاستخلاف الذي يجعل الثاني منزلة الإنسان التي‬ ‫يتطور وعيه بها في علاقته بالاستعمار في الأرض مصدر قيامه العضوي‬ ‫ليكون الاستخلاف مكملا له بالقيام الروحي الواعي بذاته وبشروط أهليته له‪.‬‬ ‫وهذه العلاقة بين الانثروبولوجيا والثيولوجيا ليست بالضرورة عند المؤمنين‬ ‫وحدهم بل هي عند الإنسان من حيث هو إنسان آمن أو كفر ولذلك فهي‬ ‫‪20‬‬

‫‪--‬‬ ‫متعلقة بالربوبية وليست بالألوهية أي إنها تتعلق بما يؤسس عليه حتى أعتى‬ ‫الملحدون مبادئ النظام الذي يؤسسون عليه سياستهم‪:‬‬ ‫فمفهوم حقوق الإنسان تعني حقوقه الطبيعية أي إنهم لا يعتبرون هذه‬ ‫الحقوق تحكم إنساني ونزواتي بل هي عندهم صادرة عن مبدأ متعال يسمونه‬ ‫طبيعة وغيرهم يسيمه ربا‪.‬‬ ‫فيكون الملحد في الحقيقة لا يختلف عن المؤمن إلا بكونه يعتبر الطبيعة ربة‬ ‫نفسها‪ .‬وفي ذلك تحييث للمبدأ المتعالي على التحكم والنزوات ما يعني أن‬ ‫الإنسان من حيث هو إنسان‬ ‫لا بد له من التسليم بأن الامر الواقع يختلف عن الأمر الواجب وهو يحاول‬ ‫دائما البحث عما وراء الأمر الواقع مما يجعله يقع بالصورة التي يقع بها والتي‬ ‫هي نظامه الذي ينبغي ألا يكون تحكميا ولا نزواتيا‪.‬‬ ‫والآن كيف يمكن للمفهوم الحد الذي يثبت استحالة المطابقة في النظر‬ ‫واستحالة التمام في العمل وكيف يعلل الحاجة إلى المقابلة بين الثابت والمتغير في‬ ‫الفلسفة السياسية إذا اعتبرنا الامر متعلقا بما بين الضرورة الشرطية والحر ية‬ ‫الشرطية من تفاعل في الاتجاهين؟‬ ‫ما الذي يترتب على فعل الضرورة الشرطية في الحر ية الشرطية؟‬ ‫‪21‬‬

‫‪--‬‬ ‫ما الذي يترتب على فعل الحر ية الشرطية في الضرورة الشرطية؟‬ ‫كيف تكون الحصيلة مخمسة الأبعاد باعتبار الأصل وفروعه الأربعة؟‬ ‫فالأصل هو العلاقة بين بعدي الآفاق وبين بعدي الأنفس (فصلت ‪)53‬‬ ‫وعلاقتهما بما بين بعدي الإنسان من حيث هو مستعمر في الأرض ومستخلف‬ ‫فيها وبعدي الرب‪:‬‬ ‫من حيث هو خالق (جوابا عن سؤال لماذا يوجد شيء بدل العدم؟)‬ ‫وآمر (جوابا عن سؤال لماذا يكون ما يوجد بال كيف الذي هو عليه؟)‪.‬‬ ‫تلك هي الحبكة القرآنية التي تفهمنا تأسيس الفلسفة السياسية على بنية ثابتة‬ ‫هي الدولة المجردة نظاما لكيان الجماعة البشر ية من حيث هي جماعة بشر ية‬ ‫والدولة المتعينة من حيث هي تكوينية القوامة التي تحرس ذلك النظام وتفعله‬ ‫إما بمقتضى ما يحقق جدارة الاستخلاف أو بما يعارضها‪.‬‬ ‫ومن يبحث في هذا الفرق يفهم كيف يمكن للقرآن من حيث هو استراتيجية‬ ‫سياسية لتوحيد الإنسانية أن يكون في آن فوق الزمان والمكان عند النظر في‬ ‫بنيته وتاريخي في آن‬ ‫‪22‬‬

‫‪--‬‬ ‫عند النظر في تفعيلها لتصبح استراتيجية تحقيق هذا التوحيد في التاريخ الفعلي‬ ‫بما فيه من فلسفة دين نقدية تحدد الديني في الأديان وفلسفة تاريخ نقدية‬ ‫تحديد الفلسفي في الفلسفات‪.‬‬ ‫وتلك هي العلة في كونه الفاتح والخاتم وفي كونه لا يستدل بخرق العادات‬ ‫بل بنظامها كما تبين ذلك الآية الثالثة والخمسين من فصلت أعني آيات الله في‬ ‫الآفاق وفي الانفس التي هي تبين حقيقة القرآن‪.‬‬ ‫ذلك ما سأحاول علاجه في هذه الدراسة التي اثبت بها أن القرآن ال كريم‬ ‫من حيث هو استراتيجية توحيد الإنسانية يعرض التقاطع بين‪:‬‬ ‫فلسفة الديني في الأديان من حيث هو نظر ية الاستخلاف في الأرض‪.‬‬ ‫وفلسفة الفلسفي في الفلسفات من حيث هو نظر ية الاستعمار في الأرض‪.‬‬ ‫فيكون لب الاشكال في القرآن ال كريم هو علاج العلاقة بين العقبات‬ ‫التاريخية التي قد تتولد عن الاستعمار في الأرض أمام الغايات الروحية التي‬ ‫قد يغيبها الإخلاد إلى الأرض ما يجعله فلسفة تربية وفلسفة حكم بالضرورة‪.‬‬ ‫وبهذا المعنى فهو مستقبل الإنسانية لأنه هو الذي يمكن أن يحررها من‬ ‫التلويثين‪ :‬تلويث الآفاق بمعنييها وتلويث الانفس بمعنييها‪ .‬والتلويثان هما ما‬ ‫‪23‬‬

‫‪--‬‬ ‫صار بينا حتى لفاقدي البصيرة في المرحلة الحالية من تاريخ الإنسانية التي قد‬ ‫تنهي وجود النوع البشري والعالم‪.‬‬ ‫‪24‬‬

‫‪--‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثالث ‪-‬‬ ‫تونس في ‪22.05.12‬‬ ‫ليس من اليسير أن نفهم علاقة الر ياضيات الكلية التي هي مبدئيا من‬ ‫التقدير الذهني بلغة ابن تيمية علاقتها بالسياسيات الكلية التي هي مبدئيا من‬ ‫التقدير الذهني بلغة ابن خلدون واعتبارهما رمزين لما يشير إلى السرمدي‪:‬‬ ‫في النظر في الطبيعة بوصفها ذات علاقة بنظام ثابت هو الخلق‬ ‫وفي العمل في التاريخ بوصفه ذا علاقة بنظام ثابت هو الأمر‪:‬‬ ‫أي إن أولهما نظام ناتج عن وصل نظام العالم الطبيعي بنظر ية في الخلق‬ ‫الإلهي‬ ‫والثاني ناتج عن وصل نظام العامل التاريخي بنظر ية في الأمر الإلهي‪.‬‬ ‫وتلك هي الرؤ ية القرآنية التي جعلتني اعتبر الدين الإسلامي ليس دينا من‬ ‫بين الأديان بل هو الديني في الأديان وهو من ثم الفلسفي في الفلسفات لأن‬ ‫مطلوبهما واحد وهو النظام في الموجود وفي المنشود‪.‬‬ ‫والمشكل عندي ليس هنا لأن كلا الرجلين مؤمن بالإسلام ‪-‬ابن تيمية وابن‬ ‫خلدون‪-‬ومن ثم فلا عجب إذا كانا ممثلين لهذا الرأي الذي هو عين ما يقول به‬ ‫‪25‬‬

‫‪--‬‬ ‫القرآن في الآية الثالثة والخمسين من فصلت‪ .‬ففيها تعتبر إراءة الله الإنسان آياته‬ ‫في الآفاق وفي الأنفس كافية لمعرفة حقيقة القرآن‪.‬‬ ‫وإراءة الله آياته للإنسان شهادة منه لجعله يتبين حقيقة القرآن أي إن النظر‬ ‫في نظام الطبيعة والعمل في نظام التاريخ هما معين الإستدلال القرآني المغني‬ ‫عن الحاجة إلى المعجزات التي اعتمدت عليها الأديان التي حرفت‪.‬‬ ‫فيكون ابن تيمية وابن خلدون قد تبينا حقيقة القرآن لأن كليهما فهما معنى‬ ‫المقصود بآيات الله في الآفاق وفي الأنفس الدالة على صحة القرآن‪:‬‬ ‫فالأول استنتج فلسفة السياسة أو العمل في التاريخ كلها من آيتين من‬ ‫النساء أي الآية ‪ 58‬المحددة لشروط القوامة والآية ‪ 59‬المحددة لطبيعة‬ ‫المرجعية فوضع أول نظر ية في الدولة المشدودة إلى نموذج السياسة الكلية‬ ‫والمعتمدة على الر ياضيات الكلية شرطي الأمانة والعدل في الحكم‪.‬‬ ‫والثاني استنتج فلسفة السياسة كلها من العلاقة بين مفهوم الاستعمار في‬ ‫الأرض لإنتاج الثروة الاقتصادية والثقافية مادتي قيام الإنسان ومن مفهوم‬ ‫الاستخلاف فيها لإنتاج مفهوم التراث العلمي والقيمي شرطي الأمانة والعدل‬ ‫في الحكم‪.‬‬ ‫‪26‬‬

‫‪--‬‬ ‫وابن تيمية رأى آيات الله في الآفاق والأنفس لما قال إن العلم البرهاني‬ ‫والخالص الوحيد هو علم المقدرات الذهنية المعرفية و يقصد الر ياضيات الكلية‬ ‫أي الجامعة بين المنفصل والمتصل بالمشترك أي بين موضوعيها أي بين‬ ‫اللامتناهي الذهني وتطبيقاته أي المتناهي الفعلي في الطبيعة‪.‬‬ ‫وابن خلدون رأى آيات الله في الآفاق وفي الأنفس لما قال إن العمل‬ ‫اليقيني الوحيد هو عمل المقدرات الذهنية القيمية و يقصد السياسيات الكلية‬ ‫الجامعة الاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها بالمشترك بين موضوعيها أي‬ ‫بين اللامتناهي الإرادي وتطبيقاته أي المتناهي الفعلي في التاريخ‪.‬‬ ‫ل كن كيف لي أن أزعم أن ذلك هو ما ينبغي أن يكون في كل فكر فلسفي‬ ‫يؤسس للعلم وكل فكر ديني يؤسس للعمل ومن ثم فهو المشترك بين الفلسفي‬ ‫في الفلسفات والديني في الأديان فيتحرر من القول بالمطابقة والإحاطة في‬ ‫نظر ية المعرفة لتأسيس العلم دائم التطور ومن المطابقة والتمام في نظر ية القيمة‬ ‫لتأسيس العمل دائم التطور‪.‬‬ ‫وهو ما يقتضي وجود مفهوم حد يميز بين عالم الشهادة المعلوم وعالم الغيب‬ ‫المجهول والذي ليس للإنسان عليه سلطان في النظر وفي العمل ما يجعل النظر‬ ‫اجتهادا وليس علما محيطا والعمل جهادا وليس عملا تاما‪.‬‬ ‫‪27‬‬

‫‪--‬‬ ‫والر ياضيات الكلية والسياسيات الكلية تقدمان النموذج الذي يشير إلى‬ ‫الحاجة الى السرمدي لتأسيس النظر العلمي دائم التطور ولتأسيس العمل‬ ‫القيمي دائم التطور وصلا بين الطبيعة وما بعدها والتاريخ وما بعده‪.‬‬ ‫وما بعدهما واحد وهو ما يكون خلقا وأمرا في الدين وما يماثلها في الفلسفة‬ ‫وإن بالسلب في بعضها لأن نسبة الامر إلى الصدفة تاليه لتراكمها الذي ينتج‬ ‫النظامين‪.‬‬ ‫ومن ثم فلا بد من دراسة ما بين الر ياضيات الكلية والسياسيات الكلية من‬ ‫مشترك يجعلهما تشيران إلى هذه العلاقة‪:‬‬ ‫بين الطبيعي والر ياضي ونظر ية في الخلق‬ ‫وبين التاريخي والسياسي ونظر ية في الأمر‬ ‫مع تصور النظريتين بحاجة إلى شد المتغير إلى الثابت بحيث إن الإنسان‬ ‫المستخلف يكون مشدودا إلى من استخلفه أي إلى من يستمد منه نظر ية‬ ‫الدولة المجردة التي يمكن تخيل بنيتها دون النجاح في تحقيق شروط ملء‬ ‫خاناتها‪.‬‬ ‫‪28‬‬

‫‪--‬‬ ‫فالإنسان الخليفة مهما فعل لا يمكن أن يكون مثل الرب الذي استخلفه‬ ‫وهذه العلاقة التي يعسر تحديدها لنا منها إشارة في ما أطلقت عليه اسم المعادلة‬ ‫الوجودية التي ترجمت إ ليها بنيو يا مضمون الآية الثالثة والخمسين من فصلت‪:‬‬ ‫فمستواها الأول يوجد في الآفاق وهي عالمي الإنسان أي الطبيعة والتاريخ‪.‬‬ ‫ومستواها الثاني يوجد في الأنفس وهي كياني الإنساني أي البدني والروحي‪.‬‬ ‫مثلما أن علم الطبيعة ومنها علم البدن لا يمكن أن يكون مثل علم الر ياضيات‬ ‫الكلية التي يكون البارئ فيها الرب نفسه فكذلك لا يمكن أن يكون عمل‬ ‫التاريخ وعمل الروح مثل السياسيات الكلية التي يكون الحاكم فيها الرب نفسه‪.‬‬ ‫وبهذا المعنى فإن هذا التفاوت في المطابقة في النظر وعدمه والتفاوت في‬ ‫التمام في العمل وعدمه يشير إلى التفاوت بين المستخلف (الرب) والخليفة‬ ‫(الإنسان) فيحدد منزلة الإنسان وقدرته المعرفية والعملية فيقتضي من ثم‬ ‫ضرورة وجود العلاقة بين الدنيا والآخرة‪:‬‬ ‫فالدنيا لاختبار الخليفة وأهليته للخلافة في النظر والعمل‪.‬‬ ‫والآخرة للحكم النهائي في أهليته بعلم مطلق وعمل تام‪.‬‬ ‫و يقتضي ذلك وجود القضاء المطلق الذي له العلم المحيط والعمل التام‪:‬‬ ‫والقاضي حينها هو الرب‪ .‬وتلك هي الإشارة في التي تمثلها الر ياضيات الكلية‬ ‫‪29‬‬

‫‪--‬‬ ‫المتعلقة بالعلم المطابق لحقيقة لا وجود لها في العالم الحسي الطبيعي والسياسيات‬ ‫الكلية المتعلقة بالعمل التام لحق لا وجود له في العالم الحسي التاريخي‪:‬‬ ‫الإشارة تتمثل في كونهما كليهما يتعلقان بما ليس موجودا في المحسوسات‬ ‫رغم انهما ما من دونه لا يمكن للعلم ولا للعمل أن يكونا ممكنين‪ .‬ولا بد إذن‬ ‫من توضيح القصد بالمعادلة الوجودية ولماذا هي في الحقيقة معادلة تقتضي‬ ‫وجود هذين النموذجين‪:‬‬ ‫فالنموذج الر ياضي الكلي ضروري لتأسيس العلاقة بالأفق الطبيعي والبدن‬ ‫من الأنفس الذي يتقدم فيه مفهوم الخلق بمقتضى النظام الر ياضي الكلي‪ :‬كل‬ ‫شيء خلقناه بقدر جمعا بين العدد والمقدار‪.‬‬ ‫والنموذج السياسي الكلي ضروري لتأسيس العلاقة بالأفق التاريخي والروح‬ ‫من الانفس الذي يتقدم فيه مفهوم الأمر بمقتضى النظام السياسي الكلي‪:‬‬ ‫السنن التي لا تتغير ولا تتبدل‪.‬‬ ‫يمكن اعتبار الجمع بين النموذجين هو تحقيق الشروط الضرور ية لبناء الدولة‬ ‫المجردة التي من دونها لا يمكن توفير شروط الرعاية والحماية ببعديهما لعلاج‬ ‫العلاقة العمودية بين الإنسان والطبيعة والعلاقة الافقية بين الإنسان والطبيعة‬ ‫‪30‬‬

‫‪--‬‬ ‫وصلا بين الإنسان والطبيعة لسد حاجات كيان الإنسان المادي ولسد حاجات‬ ‫كيانه الروحي‪ .‬ولا بد إذن من‪:‬‬ ‫الجمع بين الر ياضيات الكلية وتطبيقاتها على الطبيعة لتحقيق الاستعمار في‬ ‫الأرض‪.‬‬ ‫والجمع بين السياسات الكلية وتطبيقاتها على التاريخ لتحقيق الاستخلاف في‬ ‫الأرض‪.‬‬ ‫وبما بين الر ياضيات الكلية والسياسيات الكلية من تفاعل في الاتجاهين‬ ‫تتحقق الشروط الضرور ية لبناء الدولة المجردة التي من دونها لا يمكن توفير‪:‬‬ ‫شروط الرعاية‬ ‫وشروط الحماية‬ ‫ببعديهما بأصليهما بالتمكن مما بين العالم الطبيعي والتاريخي وكيان الإنسان‬ ‫العضوي والروحي من تناظر هو الذي يحقق الحضارات التي هي‪:‬‬ ‫ثمرة علاقة الإنسان بالطبيعة أو استخراج شروط قيام الإنسان العضوي‬ ‫وفنونه‬ ‫بتوسط ثمرة علاقة الإنسان بالإنسان أي استخراج شروط قيام الإنسان‬ ‫الروحي‬ ‫‪31‬‬

‫‪--‬‬ ‫والاول هو بالأساس ثمرة التعاون والتبادل بالتعاوض العادل ليتم الاستعمار‬ ‫في الارض وهو أصل انتاج الثروة‪.‬‬ ‫والثاني هو بالأساس ثمرة التفاهم والتواصل بالتآخي الصادق ليتم‬ ‫الاستخلاف في الأرض وهو أصل انتاج التراث‬ ‫والانتاج الثاني شرط الانتاج الأول لأن العلاقة بالطبيعة تحتاج إلى علم‬ ‫قوانينها وهو من التراث العلمي والتقني والخلقي والقانوني للجماعة‪.‬‬ ‫والإنتاج الثاني شرط الانتاج الاول لأن العلاقة بالتاريخ تحتاج إلى تمو يل‬ ‫انتاج العلوم وتطبيقاتها وانتاج الأعمال وتطبيقاتها‪.‬‬ ‫وتلك هي الوظائف الذي لا بد منها في كل دولة ومنها تتكون البنية المجردة‬ ‫للدولة وهي بنية تتعين بما يحصل من الرعاية والحماية اللتين تكونان حتما‬ ‫حصيلة تطور تاريخي بخلاف البنية المجردة التي هي ثابتة لا تتغير‪.‬‬ ‫‪32‬‬

‫‪--‬‬ ‫‪ -‬الفصل الرابع ‪-‬‬ ‫تونس في ‪22.05.13‬‬ ‫وصلنا الآن إلى زبدة المحاولة لنحدد المقومات التي تجمع بينها بنية الدولة المجردة‪.‬‬ ‫فهي تستمد من مقومات كيان الإنسان الإنسان (البدني والروحي) في علاقتها‬ ‫بمقومات العالم (الطبيعي والتاريخي) وصلتهما يما يمكن أن يعتبر مابعدا متعاليا عليهما به‬ ‫يعلل الإنسان هذا التناظر العجيب بينه وبين عالمه‪.‬‬ ‫والتناظر هو الذي أطلقت عليه اسم المعادلة الوجودية التي لا يخلو منها إنسان فردا‬ ‫وجماعة وهي ليست ثابته في كيانه فحسب بل هي عين مضمون وجدانه كذلك‪ .‬ولا‬ ‫فرق في هذا الحضور بين إنسان وإنسان مهما اختلفت العقائد والملل دينيةكانت أو لا‬ ‫دينية‪.‬‬ ‫سأقترح رسما هرميا يمثل ابعاد الدولة المجردة الخمسة لتيسير الفهم وهي السرمدي في‬ ‫الجماعة البشر ية والتاريخي ليس فيها بل في ما يملأ خاناتها الخالية قبل أن تتعين في‬ ‫أنظمة الحكم التي هي أنظمة القوامة التي تسهر بها الجماعة على أداء وظائفها‪:‬‬ ‫من حيث هي مستعمرة في الأرض لسد حاجاتها العضو ية‬ ‫ومن حيث هي مستخلفة فيها لسد حاجاتها الروحية‬ ‫وهما موضوعا ابداع ابن خلدون الذي سماه بالاستناد إلى سد هذين النوعين من‬ ‫الحاجات‪\" :‬علم العمران البشري (لسد الحاجات) و(علم) العمران البشري (للأنس‬ ‫بالعشير)\"‪.‬‬ ‫‪33‬‬

‫‪--‬‬ ‫شكل الدولة المجردة الهرمي‬ ‫قمة الهرم‪:‬‬ ‫قلب بنية الدولة المجردة يمثلها الدستور سواء كان عرفيا متعينا في ما يسمى‬ ‫بالمعروف والمنكر أي ممارسة الجماعة التي تعتبر حقيقة اخلاقها الفعلية لا القولية أو‬ ‫مكتوبا ليكون حجة في العلاج القضائي لما بينها من خصومات‪ .‬وما تختلف به رؤ ية‬ ‫الإسلام هو تجاوز المقابلة بين القانون الوطني والقانون الدولي لأن معايير القانون عنده‬ ‫كونية بالجوهر بمعنى أن ما ينطبق في الجماعة الواحدة هو عين ما ينطبق بين الجماعات‬ ‫الإنسانيةكلها‪ .‬وهو القصد بكونه الدين الخاتم‪.‬‬ ‫فالقرآن يعتبر الدستور ال كوني وهو بهذا المعنى وإن بصورة لم يقع التفطن إليها قبل‬ ‫تبين دلالة الكلام فيه على الإنسان عامة من حيث هو مستعمر في الأرض‬ ‫ومستخلف فيها دون اعتبار لاختلاف الأديان بل هو يعتبر تعددها واختلافها من‬ ‫شروط البحث الحر لتبين الرشد من الغي أصلا لحر ية المعتقد الذي لا إكراه فيه‪.‬‬ ‫وعلامته تبينه هو ال كفر بالطاغوت والإيمان بالرب الواحد والإيمان بالبعث والعمل‬ ‫الصالح‪.‬‬ ‫إنه يمثل هذه البنية المجردة مضمونا للرسالة التي‪:‬‬ ‫* مرسلها الله‬ ‫* والمرسل إليه فيها الإنسان عامة‬ ‫* والرسول بشير ونذير ل كنه ليس وسيطا ولا وصيا‬ ‫‪34‬‬

‫‪--‬‬ ‫* وطر يقة التبليغ هي الاستدلال العقلي بالنظام وليس بخرق العادات‬ ‫* ومضمون الرسالة هو ما يترتب على منزلة الإنسان من حيث هو مستخلف وما‬ ‫يجري في امتحان اهليته للاستخلاف خلال استعماره للأرض‪.‬‬ ‫وبذلك فالعقد الذي يمثله الدستور قلب الدولة المجردة عقد مخمس الأبعاد وكلها‬ ‫متعلقة بالحقوق والواجبات في مستو ياتها المختلفة‪:‬‬ ‫‪ 1‬فهو عقد بين المواطنين يضمن الحقوق والواجبات ويحد من التنازع حول ثمرة‬ ‫الاستعمار في الأرض (المل كية خاصة) والاستخلاف فيها (المنزلة الاجتماعية‬ ‫خاصة)‪.‬‬ ‫‪ 2‬وهو عقد بينهم وبين ممثلي إرادة الجماعة أي القوى السياسية التي تمسك بالسلطة‬ ‫فعليا أو بالقوة استعدادا للمرور من القوة إلى الفعل‬ ‫‪ 3‬وهو عقد بينهم وبين من يختارونهم من القوى السياسية للحكم والمعارضة سواء‬ ‫كان ذلك طوعا في الأنظمة الديموقراطية أو كرها في الأنظمة الاستبدادية‪.‬‬ ‫‪ 4‬وهو عقد بين بينهم وبين من يختارونهم للتشر يع باسمهم وهم في الغالب مرشحون‬ ‫من قبل القوى السياسية ما يعني أن السلطة التشر يعية تابعة دائما للسلطة التنفيذية لأنها‬ ‫هي من تختارهم القوى السياسية لإضفاء الشرعية على ما تقترحه من تشر يعات تمكن‬ ‫من ترجمة برنامجها إلى قوانين جديدة أو إلى تعديل القوانين القديمة‪.‬‬ ‫‪ 5‬وهو أخيرا عقد بينهم وبين مصدر المرجعية التي تستند إليها العقود وهو ما لأجله‬ ‫وجدت الدولة أعني شروط الاستعمار في الأرض للرعاية وشروط الاستخلاف فيها‬ ‫‪35‬‬

‫‪--‬‬ ‫للحماية‪ .‬وما لأجله وجدت هذه العقود هو جعل الاستعمار في الأرض يبقى التنافس‬ ‫عليه سلميا فيجمع بين الشرعية بصورة عامة والشوكة بصورة عارضة بالنسبة إلى ما لا‬ ‫يخضع للقانون طوعا‪.‬‬ ‫ولا فرق حينها بين المرجعية الدينية والمرجعية العلمانية لأن الأمر لا يتعلق بطبيعة‬ ‫المرجعية بل بما يهم السياسي منها‪ .‬فالمرجعية الدينية ‪-‬على الأقل في الإسلام‪ -‬يؤخذ‬ ‫منها تأسيس الحقوق والواجبات بالاستناد إلى الفطرة‪ :‬فلا أحد يقبل الظلم حتى وإن‬ ‫كان يظلم غيره والمعيار الفطري هو إذن تطبيق الموقف من الظلم على الذات كما على‬ ‫الغير مثلا‪.‬‬ ‫والمرجعية العلمانية‪-‬على الأقل في شكلها غير اليعقوبي‪-‬يؤخذ منها تأسيس الحقوق‬ ‫والواجبات بالاستناد إلى الطبيعة‪ :‬وهي خاضعة لنفس المعيار أي معاملة الغير ما يريد‬ ‫الإنسان أن يعامل منه‪ .‬وإذن فكلاهما يعتبر دور المرجعية بينا ومعياره بسيط وهو‬ ‫ليس نزوات الفرد أو الجماعة على الأقل في الواجب إن لم يكن في الواقع‪.‬‬ ‫فتكون المرجعية نفس القيم ونفس المعايير سواء تأسست على العقد الديني المنزل أو‬ ‫على العقد الديني الطبيعي حول ما تنتظم به شروط الرعاية بأبعادها الخمسة وشروط‬ ‫الحماية بأبعادها الخمسة‪ .‬وكلها تدور مفهوم الحقوق والواجبات فيها جميعا تمييزا محددة‬ ‫لمرجعية دولة القانون‪.‬‬ ‫‪36‬‬

‫‪--‬‬ ‫فيكون المقصود السلطة التي تقضي في حسم الخلافات بين البشر شرطا للعيش‬ ‫المشترك السلمي في ا لمدني والجنائي من السلوك وبينهم وبين السلطة في الإداري‬ ‫والرقابي وفي الدستوري في المستو يات الخمس من القانون‪.‬‬ ‫أي في أوجه السلطة من حيث هي نظام الفصل في الخلافات التي من جنس‬ ‫المدني والجنائي والمتعلق بنظام القوى السياسية والمتعلق بنظام التمثيل السياسي والمتعلق‬ ‫بالتشر يع والمتعلق بالمرجعية‪ .‬فيكون المدار كله حول قوة القانون بدلا من قانون‬ ‫القوة‪.‬‬ ‫ومن ثم أهمية اعتبارها كلها من جنس القضاء الدي ترد إليه دولة القانون في‬ ‫الغاية‪ .‬ودولة القانوني بهذا المعنى هي جعل أخلاق الجماعة العامة المتعلقة‪:‬‬ ‫بالمعاملات أي بشروط الاستعمار في الأرض لعلاج مشكل التعاون والتبادل‬ ‫والتعاوض العادل‬ ‫وبشروط الاستخلاف فيها بعلاج مشكل التفاهم والتواصل والتضامن المتآخي‬ ‫شروط العيش المشترك في الجماعة الواحدة‪.‬‬ ‫ونفس الأمر يعتبره القرآن منطبقا على الإنسانية كلها بحيث تكون العلاقة بين‬ ‫الجماعات من جنس العلاقات بين الافراد في نفس الجماعة لكأن الإنسانية كلها جماعة‬ ‫واحدة من حيث علاج مشكل التعاون ومشكل التواصل أي العدل في الأول‬ ‫والصدق في الثاني‪.‬‬ ‫‪37‬‬

‫‪--‬‬ ‫وكلها تكون خانات خالية يكون لتعيينها مستوى ملء الخانات بالمواطنين المحققين‬ ‫لشروط الاستعمار والاستخلاف والقيمين على التحقيق نيابة عن الجماعة وتحت‬ ‫مراقبتها ومحاسبتها وهو المحدد للنظام القانوني العام الدي يحكم النقلة من الدولة المجردة‬ ‫إلى الدولة المعينة‪ .‬والأول سرمدي والثاني تاريخي‪.‬‬ ‫ويمكن عرض الأمر في شكل هرم له سنام يتوسط بين خانتين قبله وخانيتين بعده‬ ‫وتلك هي بنية الدولة المجردة المؤلفة من خانات خالية يملؤها القيمون الدين تختارهم‬ ‫الجماعة لجعلها مؤدية لوظائفها في القوامة وحراسة العيش المشترك السلمي بالقانون قضاء‬ ‫وبالأمن تطبيقا على مرجعية تؤسس لما يمثله القانون من اخلاق الجماعة‪:‬‬ ‫القمة يمثلها منظومة العقود التي تكلمنا عليها وهي الدستور سواء كان عرفيا أو‬ ‫مكتوبا لأنه ترجمة للقيم التي تعتبرها الجماعة مرجعيتها المشتركة والتي من دون لا يمكن‬ ‫لها أن تكون جماعة ولا تستطيع العيش المشترك السلمي والاطمئنان بعضهم إلى‬ ‫البعض في الحياة العادية وإلى القضاء بينهم حال خلافهم‪:‬‬ ‫وقبل الدستور الذي يمثل قمة الهرم مربع القاعدة المؤلفة من رجلين قبله ورجلين‬ ‫بعده مع تناظر أول العنصر الاول والعنصر الخامس اي بين المرجعية قبله ووظائف‬ ‫الجماعة بعده‬ ‫ثم تناظر ثان بين العنصر الثاني قبله والعنصر الرابع بعده اي بين القوى السياسية قبله‬ ‫ووظائف الحكم والمعارضة بعده‪.‬‬ ‫‪38‬‬

‫‪--‬‬ ‫فيكون هو القلب اي الدستور ملتفتا إلى ما قبله مصدرين للرؤى والإرادات وملتفتا‬ ‫إلى ما بعده تحقيقين للرؤى والارادات‪.‬‬ ‫ومن ثم فالدستور مؤلف من خمسة عقود متعلقة به لكلامه على نفسه تأسيسا لها بما‬ ‫قبله وتعليلا به لما بعده فيكون بذلك محددا لعلاقته بالبعدين اللذين يصدر عنهما‬ ‫وبالبعدين اللذين يصدران عنه تحديدا لما يجعلهما منتسبين إما إلى قانون القوة أو قوة‬ ‫القانون‪:‬‬ ‫نجد المرجعية التي يصدر عنها مجال النظام القانوني عرفيا كان أو مكتوبا في الدستور‬ ‫وهي كما اسلفت الأخلاق العامة التي يتأسس عليها القانون وهي متعلقة بالتعامل في‬ ‫التبادل بسبب تقاسم الأعمال وحاجة الجميع للجميع وهو شرط العيش المشترك السلمي‬ ‫لسد الحاجات العضو ية خاصة‪ .‬وشرطه التعاوض العادل وضرورة حماية المل كية‪.‬‬ ‫ونجد بين المرجعية بهذا المعنى وثمرتها في مضمون الدستور القوى السياسية التي‬ ‫تتأسس على رؤى المرجعية الممكنة وتترجمها إلى النظام القانوني ذي العقود الخمسة‬ ‫التي وصفت‪ .‬والقوى السياسية هي بدروها خمس قوى ضرور ية أي‪:‬‬ ‫• القوة السياسية التي تنشغل بالاستعمار في الأرض وشرطه أي التعاوض العادل‬ ‫في التبادل بين مبدعي الثروة من ارباب العمل‪ :‬الرسمالية‪.‬‬ ‫• القوى السياسية التي تنشغل بالاستخلاف فيها وشرطه أي التفاهم الصادق في‬ ‫التواصل بين البشر عامة بصرف النظر عن الثروة‪.‬‬ ‫‪39‬‬

‫‪--‬‬ ‫• القوة السياسية التي تحاول الجمع بينهما مع تقديم الانشغال الأول على الثاني مع‬ ‫الاعتراف بضرورة الاعتراف بسهم العمال مع ارباب العمل في انتاج الثروة على‬ ‫الأقل بتوسيع الاستهلاك وتحر يك الطلب شرطا في توسيع العرض‪.‬‬ ‫• والتي تحاول الجمع مع تقديم الانشغال الثاني لنفس العلل والهدف توسيع التوز يع‬ ‫لان عدم تشجيع أرباب العمل لا يمكن من تنمية الاستثمار والتمو يل وابداع الثروة‬ ‫حتى ينمو التوز يع‪.‬‬ ‫• والتي تتردد بينهما انتهازا أو قبل أن تعزم على اختيار أحد الأربعة السابقة ومن ثم‬ ‫فهذه القوة الخامسة ليست مقصورة على الأحزاب الانتهاز ية حزب الوسط بل هي‬ ‫تمثل الأغلبية الصامتة ومنها بالالتزام المتوالي تتكون كل القوى السياسية‪.‬‬ ‫كما نجد بين الدستور والجماعة أي ما يتلو القمة أو الدستور الحكم والمعارضة‪ .‬وغالبا ما‬ ‫يكون الحكم بيد الحاصلين على الأغلبية في انتخاب الجماعة للمعبرين عن إرادتهم السياسية‬ ‫والمعارضة بيد الحاصلين على الأقلية في الأنظمة التي تحكمها قوة القانون أو يكون الحكم‬ ‫بيد الأقل والمعارض بيد الأكثر عندما يكون الحكم قانون القوة‪.‬‬ ‫ونجد في الأخير العنصر الخامس أي أصل العناصر الأربع التي تقدمت وهو يتعين‬ ‫في نوع اجتماع الجماعة كلها من حيث هي مصدر كل ما تقدم أي المرجعية والقوى‬ ‫السياسية والدستور والحكم والمعارضة باعتبار الجماعة هي التي‪:‬‬ ‫تتحقق الرعاية ببعيدها التكويني والتمويني وأصلها كلها‬ ‫والحماية ببعديها الداخلي والخارجي وأصلها كلها‬ ‫‪40‬‬

‫‪--‬‬ ‫بمقتضى المرجعية التي هي اخلاق الجماعة المترجمة إلى قوانين قوة أو قوة قوانين وتلك‬ ‫هي وظائف الجماعة‪:‬‬ ‫فالرعاية التكوينية بفرعيها (أي التربية وإنتاج الثروة والتراث) والتموينية (أي‬ ‫الاقتصاد والثقافة) وأصلها جميعا أي البحث والاعلام العلميين وتطبيقاتهما‪ :‬فالبحث‬ ‫العلمي بتطبيقاته مهما كان بدائيا يمثله ذوو الخبرة في الرعاية التكوينية وفي الرعاية‬ ‫التموينية‪ .‬ولا توجد رعاية للجماعة من دون ذلك‪.‬‬ ‫والحماية الداخلية بفرعيها (أي القضاء والأمن) والحماية الخارجية بفرعيها (أي‬ ‫الدبلوماسية والدفاع) وأصلها جميعا أي البحث والإعلام الاستخبار يين وتطبيقاتهما‪:‬‬ ‫فالبحث الاستعلامي بتطبيقاتها مهما كان بدائيا يمثله ذوو الخبرة في الحماية الداخلية‬ ‫والخارجية‪ .‬ولا توجد حماية للجماعة من دون ذلك‪.‬‬ ‫وهذه هي الدولة المجردة التي يمكن اعتبارها مثل البدن الإنساني الذي هذا تشريحه‬ ‫بالنسبة إلى الجماعة من حيث هي جماعة‪ .‬وهي البنية السرمدية في الدولة من حيث هي‬ ‫ما به تكون الجماعة جماعة دائما ل كن هذه البنية المجردة تتعين تاريخيا بما يملأ خاناتها‬ ‫المجردة بمقتضى قوامة الجماعة على نفسها باعتماد الشكلين الممثليين للحدين الاقصيين‪:‬‬ ‫قانون القوة وهي خاضعة للنظام لنظام الحرب الاهلية الدائمة بين القوى السياسية‬ ‫تداولا للتغالب الحربي وهو المقصود بالاستبداد‪.‬‬ ‫وقوة القانون وهي خاضعة للنظام العيش المشترك السليم تداولا للتغالب الانتخابي‬ ‫وهو المقصود بالديموقراطية‪.‬‬ ‫‪41‬‬

‫‪--‬‬ ‫‪ -‬الفصل الخامس ‪-‬‬ ‫تونس في ‪22.05.14‬‬ ‫الفصل الخامس يقدم غاية الثمرة التي اعتبرتها لب المحاولة‪ .‬وما دمت قد‬ ‫وصلت هذه المحاولة بما يشبه الكلام في الترجمة الذاتية وصلا بين الإشكالية‬ ‫ومساري الفكري فيمكن أن ازعم أني قد بلغت ما حررني من الموت غير‬ ‫راض عما حاولت به علاج الحيرة التي استبدت بي منذ طفولتي‪.‬‬ ‫احمد الله أني صرت اشعر بأني قد خرجت مما بدا لي من فوضى المصحف‬ ‫الذي كان أول كتاب قراته في طفولتي‪ .‬كنت أعيش السور وكأنها طر يق‬ ‫تتلوى في كل الاتجاهات وتضاريس تصعد إلى عنان السماء وتنزل إلى لا‬ ‫قرار دون تحديد وجهة تكون نظام العقد الهادي للفهم النسقي ‪Leitfaden‬‬ ‫يجعل القرآن رسالة مفهومة تخاطب كل مستو يات سعي الإنسان لتبين الرشد‬ ‫من الغي‪.‬‬ ‫لما كان والدي رحمه الله يراجع معي ما حفظته مما يعلمنا مؤدب الأسرة في‬ ‫جامعها الذي كان في آن بيت الضيافة لكل \"مسكين ذي متربة\" يمر بأرضنا‬ ‫في فرع قبيلة المرازقية في الشمال كان والدي يشجع تساؤلاتي خاصة عن‬ ‫تعرجات السور التي كنت اراها وأسأله عنها واصفا إياها بما كان كثير منها في‬ ‫‪42‬‬

‫‪--‬‬ ‫أرضنا واحراجها أعني \"تقاطع\" ثنايا لا تتناهى تبدو أحيانا متنافية لكأنها لا‬ ‫تتوقف عن مراجعةكل ما تقوله لتعيد قوله بأسلوب مختلف مذهلة تؤدي إلى‬ ‫الدوار‪ Vertige‬الذي لا يتوقف‪.‬‬ ‫ولأعد الآن إلى فهم علاقة هذا الكيان المجرد للدولة بالمعادلة الوجودية التي‬ ‫هي جوهر القرآن ومنطق كل استدلالاته‪ .‬فهي هي التي خلصتني من‬ ‫\"الفارتيج\" الملازم للفكر الإنساني أو بصورة أدق للمشترك بين الديني والفلسفي‬ ‫جوابا عن سؤاليهما حول خيار الوجود بدل العدم وخيار كيف الموجودات‬ ‫الحاصل بدل الممكن اللامتناهي‪.‬‬ ‫وإذ أقصه فهدفي أن يكون أحد سبل الخروج منه لكل من عاشه أو يعيشه‬ ‫ممن تخلصوا قبل ذلك من لوثة الاخلاد إلى الأرض بسبب العيش على قشور‬ ‫الدين والفلسفة اللذين لا يتجاوزان الموضة والشعارات السطحية لضحايا الحرب‬ ‫بين التحديث والتأصيل العنيفين من نخب المسلمين‪.‬‬ ‫ولما كان البحث متضمنا مصطلحات محدثة يعسر استيعابها ل كونها وضعت‬ ‫خصيصا لفهم البنية العميقة للقرآن ال كريم فإن الحاجة إلى المقارنات مع ما‬ ‫تقدم من رؤى العالم كانت سائدة قبله يكون مفيدا جدا إذ يساعد على فهم ما‬ ‫أدخله القرآن من تغير كيفي في فلسفة الدين وفلسفة التاريخ بمقتضى نظر ية‬ ‫‪43‬‬

‫‪--‬‬ ‫الإنسان الانثروبولوجيا ونظر ية الرب الثيولوجيا ونظر ية وما بينهما من نظر ية‬ ‫الطبيعة ونظر ية التاريخ شرطين لتحديد فلسفة السياسة‪.‬‬ ‫وسأحاول شرح الأمر بالاعتماد على مثالين من التكنولوجيا ومن البايولوجيا‬ ‫لفهم ما يترتب على نظر ية المعادلة الوجودية المفهوم الذي يستمد من تحليل‬ ‫الآية ‪ 53‬من فصلت وما يترتب على رؤ ية آيات الله في الآفاق وفي الأنفس‬ ‫بعد تحريرها من قراءة القرآن بالحكمة الشعبية وبالإسرائيليات اصلي التأصيل‬ ‫العنيف وبما دونهما شعبية وأكثر منهما عنفا أي الهيجلة والماركسية الممزوجين‬ ‫باليعقو بية‪.‬‬ ‫فالمعادلة الوجودية هي التي تمكن من قراءة المعضلة القرآنية في ضوء فصلت‬ ‫‪ 53‬وما بين الآفاق والانفس من علاقة تجعل الثانية قارئية للأولى فيكون ما‬ ‫به يقرأ الإنسان الطبيعة وما به يقرأ التاريخ مؤديين إلى المفتاح‪:‬‬ ‫فالقرآن يعتبر كل شيء خلق بقدر رمزا إلى نظام الطبيعة وكل أمر حدد‬ ‫بسنة رمزا إلى نظام التاريخ وهما عين نظاما كيانه العضوي وكيانه الروحي‪.‬‬ ‫وتلك هي علة البحث في تجهيز الإنسان ليكون قادرا على الاستعمار في‬ ‫الأرض بعلم الطبيعة وتطبيقاته التقنية (الر ياضيات الكلية) وعلى الاستخلاف‬ ‫في الأرض بعمل التاريخ وتطبيقاته الخلقية (السياسيات الكلية) وذلك هو ما‬ ‫‪44‬‬

‫‪--‬‬ ‫يبين للإنسان أن القرآن حق‪ .‬فتكون الر ياضيات الكلية مدخلا للآفاق‬ ‫الطبيعية والسياسيات ال كية مدخلا للآفاق التاريخية وما بينهما وبين نوعي‬ ‫جهازي الإنسان العضوي والروحي فردا وجماعة من عجيب التناظر‪.‬‬ ‫وهو التناظر الذي بفضله يخرج الإنسان من تضاريس القرآن فيرى بنيته‬ ‫العميقة ويدرك أنه لا يتضمن الأجوبة بل يوجه إلى حيث علينا البحث عنها‬ ‫أي في الآفاق والانفس وليس في شرح نصه بتخر يف الباحث عن الاعجاز‬ ‫فيه في حين أنه يرفض الاستدلال بالمعجزات التي تخرف النظام ولا يستدل‬ ‫إلا بالنظامين الطبيعي والتاريخي‪.‬‬ ‫ل كن هذا التناظر يقتضي وضع نظر ية في الدولة المجردة هي نظام السياسي‬ ‫المناظر لنظام الطبيعة‪ .‬وبذلك نفهم أن القرآن ال كريم يشير إلى هذين النظامين‬ ‫دون أن يكون عرضا علميا للنظامين لأنه بين أن طلبهما لا يكون في نصه بل‬ ‫في ما يشير إليه نصه من الآفاق والانفس من آيات دالة على أنه حق‪ .‬ونصه‬ ‫يشير إلى أن نظام الخلق ر ياضي ونظام الأمر سياسي ومن ثم فهو يحيل‬ ‫الإنسان إلى ما في نفسه من النظامين الر ياضي الكلي والسياسي الكلي أداته‬ ‫للتعامل مع الآفاق الطبيعية والتاريخية‪.‬‬ ‫‪45‬‬

‫‪--‬‬ ‫وذانك هما بعدا هذا التناظر بين وجود الإنسان من حيث هو مستعمر في‬ ‫الأرض ووجوده من حيث هو مستخلف فيها ونوعي الآفاق التي تحدد‬ ‫شروط بقائه العضوي والروحي بفضل ما جهز به من جهاز النظر وتطبيقاته‬ ‫وجهاز العمل وتطبيقاته‪.‬‬ ‫فلا يمكن فصل الأنسان ببعديه العضوي والروحي وما بعدهما المتعالي عليهما‬ ‫عما يحقق كيان الجماعة المحقق لشروط الاستعمار في الأرض والاستخلاف‬ ‫فيها‪ .‬فالمعادلة الوجودية التي استنتجتها مما تشير إليه آيات الله التي ير ينها في‬ ‫الآفاق وفي الأنفس عن الإنسان ببعديه العضوي والروحي والعالم ببعديه‬ ‫الطبيعي والتاريخي وما بعدهما المتعالي عليهما‪.‬‬ ‫ومنها يمكن استنتاج البنية المجردة للدولة من حيث هي ثمرة الر ياضي الكلي‬ ‫أصلا للعلم تطبيقاته في التعامل مع الطبيعة والتاريخ ومن حيث ثمرة السياسي‬ ‫الكلي أصلا للعمل وتطبيقاته مع الطبيعة والتاريخ‪.‬‬ ‫والمعلوم أن التمثيل بالتكنولوجيا والبيولوجيا ندين به إلى أرسطو‪ .‬وما من علم‬ ‫يعمل بصورة أخرى لان النماذج دائما تستمد من عمل الإنسان التقني ومن‬ ‫عمل الحياة العضوي‪ .‬وبهما يتم تفسير النظام الساكن ‪-‬ستاتيك‪-‬والمتحرك ‪-‬‬ ‫ديناميك‪-‬في العالم بقياس الحياة على التقنية وبقياس الوجود على الحياة‪.‬‬ ‫‪46‬‬