أبو يعرب المرزوقي re nils frahm السرمدي والتاريخي في استراتيجية القرآن التوحيدية ومنطق السياسة المحمدية
السرمدي والتاريخي في استراتيجية القرآن التوحيدية ومنطق السياسة المحمدية أبو يعرب المرزوقي
محتويات الكتيب محتو يات ال كتيب 1 -الفصل الأول 1 - -الفصل الثاني 12 - -الفصل الثالث 25 - -الفصل الرابع 33 - -الفصل الخامس 42 - -الفصل السادس 53 - – الفصل السابع – 66 – الفصل الثامن – 77 – الفصل التاسع – 91 – الفصل العاشر – 102
-- -الفصل الأول - تونس في 22.05.09 من المعضلات الفلسفية والدينية قابلية السرمدي للتصور بمنظور تاريخي يعسر تصور الإنسان قابلا لتجاوزه .ل كن التضايف بين المفهومين-وهو أهم أدلة ديكارت على وجود الله-اعتبره مجانسا للتضايف بين مفهوم اللاتناهي والتناهي في كل أنواع الفكر الإنساني. ولا يمكن لأحد أن يزعم أن الإنسان المتناهي لا يستطيع تجاوز تناهيه إلى إدراك اللامتناهي والتعامل معه على الأقل بجعله قابلا للتقنيات الر ياضية التي مكنت من وضع نظر يات من دونها ما كان للبشر ية أن تؤسس العلوم الطبيعية. فالبحث في ما بعد الطبيعة طلبا للعلم الرئيس في نظر ية المعرفة ونظر ية الموجود معلوم أن مؤسسهكان ارسطو .والبحث في ما بعد التاريخ طلبا للعلم الرئيس في نظر ية العمل ونظر ية المنشود ينبغي أن يكون معلوما أن مؤسسهكان ابن خلدون. وأن ابداعه يتمثل في هذا التأسيس وليس في ما يزعم من مقارنات سطحية بينه وبين اوغست كونت أو بينه وبين ماركس .نسبة ابن خلدون الفلسفية إلى بدايات تأسيس العلوم الإنسانية هي عين نسبة ارسطو إلى بدايات تأسيس العلوم الطبيعية: فكما أن الأول اعتبر تأسيس نظر ية المعرفة ونظر ية الوجود شرطا في كل تأسيس للعلوم الطبيعية خاصة .والتأسيس الأرسطي هو ما بعد علم الطبيعة أو \"الميتا-فيز يقا\". 1
-- فكذلك اعتبر الثاني تأسيس نظر ية القيمة ونظر ية المنشود شرطا في كل العلوم الإنسانية خاصة .والتأسيس الخلدوني هو ما بعد علم التاريخ أو \"الميتا-تاريخ\". فأرسطو بحث عن الحل بطر يقتين في كتاب الميتافيز يقا أولاهما تاريخية لتطور المعرفة الطبيعية قبله ليثبت أن الحصيلة تؤيد ما توصل إليه في بحوثه المنطقية والطبيعية (جوهر مضمون المقالة الأولى أي الألف ال كبرى). والثانية ر ياضية لأنه قاس ما بعد الطبيعة التي تمكن من فهم تعدد معاني الوجود على الر ياضيات الكلية كما بينت في كتابي حول منزلة الر ياضيات في علمه حتى وإن لم يذهب إلى الغاية لأن ر ياضيات عصره الكلية لم تكن قد تمكنت من حل مشكل العلاقة بين التناهي واللاتناهي (جوهر الشكوك لاختبار الحصيلة وخاصة مقالتي الباء والكاف). وابن خلدون بحث عن الحل بطر يقتين أولاهما نقدية لتطور المعرفة التاريخية قبله ليثبت أن الحصيلة (وهو مضمون مقدمة المقدمة) تؤيد ما توصل إليه في بحوثة التاريخية والإنسانية والثانية تمثلت في قيس ما بعد التاريخ (الذي سماه علم العمران البشري والاجتماع الإنساني) على نظر ية العمل وعلم المنشود في السياسيات الكلية (وهو مضمون المقدمةكلها بأبوابها الستة). كما بينت في كتابي حول منزلة الاجتماع النظري والتاريخ العربي المعاصر في علمه حتى وإن لم يذهب إلى الغاية لأن هذا العلم لم يكن موجودا أصلا في عصره لحل مشكل العلاقة بين السرمدي والتاريخي .وهو ما يعني أن دور الر ياضيات الكلية من 2
-- حيث هي تقديرات ذهنية قبلية للحقيقة في الفلسفة النظر ية عند الأول يناظر دور السياسيات الكلية من حيث هي تقديرات ذهنية قبلية للح في الفلسفة العملية عند الثاني. فلكأن الر ياضيات الكلية تعالج العلاقة بين المتناهي واللامتناهي في وضع نموذج قبلي للحقيقة وذلك هو جوهر البحث الميتافيز يقي والسياسيات الكلية تعالج العلاقة بين التاريخي والسرمدي في وضع نموذج للحق وذلك هو جوهر البحث الميتاتاريخي: • والنموذج الأول من طبيعة إبستمولوجية. • والنموذج الثاني من طبيعة أكسيولوجية. ل كن الأول ينتهي إلى الثاني والثاني ينتهي إلى الأول فتصبح القضية متعلقة بما بين الر ياضيات الكلية والسياسيات الكلية من علاقة وطيدة في فهم الموجود والمنشود وهما جهازا الإنسان من حيث هو مستعمر في الأرض بأدوات تقنية هي تطبيق العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية من وجه أول دون نسيان الاستخلاف فيها ثم من حيث هو مستخلف فيها بأدوات قيمية هي تطبيق العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية من وجه ثان دون نسيان الاستعمار فيها. ويبدو أن مشكل الإنسانية مرده إلى أحد النسيانين .فإذا نسيت الاستخلاف وغرقت في الاستعمار صارت بانعدام التعالي هدامة لذاتها ولعالمها وإذا نسيت الاستعمار وغرفت في الاستخلاف يسرت بانعدام شروط التحرر من المسيطرين على شروط البقاء الدنيوي من عبيد الاولين لأنها تكون بحاجة إليهم في رعايتها وفي حمايتها 3
-- وتلك هي علة الاخلاد إلى الأرض عند المنافقين المتظاهرين بالتفرغ للدين مع التخلي عن شروط التعالي على الدنيا الذي لا يكون من دون شروط التحرر منها بالسيطرة عليها وعدم الحاجة للغير في سد ما يقتضيه الاستعمار فيها. ولا تكون السيطرة عليها الذي هو شرط التعالي والتحرر منها من دون القدرة على انتاج الثروة وإنتاج التراث شرطين للرعاية والحماية .والإنتاج الأول تحرر مباشر في الرعاية والحماية والثاني تحرر غير مباشر فيهما لأن انتاج الثورة هو بدوره مدين لإنتاج التراث العلمي وتطبيقاته التقنية وللإنتاج القيمي وتطبيقاته الخلقية .وذلك هو معنى القوي الأمين صفتين لكل مؤمن صادق :فالضعيف لا يمكن أن يكون مؤمنا ولا خاصة أمينا لأنه لا يبقى حرا ولا كريما .ومن فقد حريته تابع ومن فقد كرامته لا يثور على العبودية لغير الله. فرضيتي هي أن العلوم الإنسانية تحتاج إلى حل مناظر لنفس الحل الذي لم يذهب به أرسطو إلى الغاية حتى نتمكن من تأسيس علوم الإنسان .فكما أن ما بعد الطبيعة يحتاج إلى الر ياضيات الكلية (ما بعد تقنية لمعاني الحقيقة الكلية سواء في شكل تقديرات ذهنية أو حقائق قائمة بذاتها فتكون فلسفة الحقيقة) فإن ما بعد التاريخ يحتاج إلى السياسيات الكلية التي تجمع بين السرمدي (وهو ما بعد أخلاق لمعاني الحق الكلية سواء في شكل تقديرات ذهنية أو قيم قائما بذاتها فتكون دين الحق). وفرضيتي هي أن نسبة علم السياسة الكلية (للعالمين التاريخ وما بعده الذي سرمدي) إلى علوم الإنسان هي عين نسبة علم الر ياضيات الكلية (للعالمين الطبيعية وما بعده 4
-- الذي هو لامتناهي) إلى علوم الطبيعة .كلا العلمين يتجاوز التناهي إلى اللامتناهي في شكله الر ياضي الكلي (نظام العالم) والتاريخي إلى السرمدي في شكله السياسي الكلي (سياسة العالم). لأن كلا العلمين يستند إلى اللامتناهي في الفاعليتين المستندتين إلى التفاعل بين الضرورة الشرطية التي تحكم الطبيعيات والحر ية الشرطية التي تحكم الإنسانيات: ومفروض الضرورة الشرطية الأساسي هو الجمع بين الحتمية والغائية. ومفروض الحر ية الشرطية الأساسي هو الجمع بين الحر ية والغائية. وإذن فنوعا الشرطية يفترضان إطلاق نوعي الجمع بين الشرط والمشروط لتحديد ما يحصل من تفاعلهما من ثمرات تحدد المتناهي باللامتناهي تحديد يمكن في حالة الطبيعيات من الوصل بين اللامتناهي الر ياضي والمتناهي الطبيعي. ويمكن في حالة الإنسانيات من الوصل بين السرمدي والتاريخي في السياسة الكلية التي لها نفس الدور الذي للر ياضيات الكلية في حالة الطبيعيات: والمعلوم أن القرآن ال كريم يعتبر الخلق خاضعا لقانون ر ياضي ثابت (كل شيء خلقناه بقدر أي بنية العالم ر ياضية). و يعتبر الأمر خاضعا لقانون سياسي ثابت (لن تجد لسنن الله تبديلا ولا تحو يلا أي تاريخ العالم سياسي) .والأولان لا يحتاجان للشرح لأنهما معلومان إذ هما عين ما تحقق في علوم الطبيعة. 5
-- ل كن الثانيين بحاجة لشرح مستفيض لعسر تقبله وفهمه .إذ كيف نصدق أن \"الخيال السياسي الإنساني الذي ينحو إلى اكتشاف السرمدي من جنس الخيال الر ياضي الذي ينحو لاكتشاف اللامتناهي؟ كيف يمكن للإنسان من حيث هو متناه أن يتجاوزه في الر ياضي الكلي للتعامل مع اللامتناهي ومن حيث هو تاريخي أن يتجاوزه في السياسي الكلي للتعامل مع السرمدي؟ لعل ذلك هو المعنى العميق لتعليل القرآن استخلاف الإنسان رغم كونه يفسد في الأرض ويسفك الدماء .فالتعليل الأخير للاستخلاف كان في قصة القصة القرآنية هو القدرة على التسمية أو الترميز الذي هو وضع النموذجين اللذين أشرت إليهما. وإذا كان الإبداع الر ياضي بحاجة إلى المنطق ويبدو غنيا عن التجربة الطبيعية فإن التجربة الطبيعية لا تعلم من دونه وإذا كان الابداع السياسي بحاجة إلى التاريخ ويبدو غنيا عن المنطق فإن التجربة التاريخية لا تعلم من دونه. فيكون الأصل في التعالي الأول على التجربة هو المنطق أداة الإبداع النظري في علم الطبيعة والأصل في التعالي الثاني على المنطق هو التاريخ أداة الإبداع العملي في عمل الإنسان. ل كن تطبيق التقنيات التي يبدعها الأول على الطبيعيات يحتاج إلى التجربة الطبيعية وتطبيق القيم التي يبدعها الثاني على الإنسانيات يحتاج إلى التجربة التاريخية. ولهذه العلة كان القرآن يرد الخلق إلى الر ياضيات (كل شيء خلقناه بقدر) ويرد الأمر إلى السياسيات (سنن لا تتغير ولا تتبدل) :وهما القصد باقتصار استدلاله كله 6
-- على النظام وليس على خرقه كما في الأديان التي طبق عليها نقد التحر يف بمعيار التصديق والهيمنة. وقد بينت ذلك بمقتضى التحليل الإبستمولوجي في القسم الثاني من دكتوراه الدولة جزئها المتعلق بإصلاح العقل في الفلسفة العربية والأكسيولوجي (دون اعتماد على تفسير معاني القرآن لأن ذلك لم أكن قد شرعت فيه بعد-شرعت فيه فعليا في ماليز يا بداية من سنة أربعة والفين). فالإنسان يبدع تصوره للسرمدي السياسي (افتراض نظام ثابت أساسا لمجرى التاريخ) المعلل للتاريخي السياسي (فهم تطور تعينه في مجرى التاريخ) كما يبدع تصوره اللامتناهي الر ياضي (نظام ثابت في الر ياضيات) المعلل للمتناهي الطبيعي (تطور تحققه في الطبيعيات). وهذا هو جوهر التجهيز الفطري الذي جعل الإنسان رغم تنهاهيه يدرك اللامتناهي وذلك هو جوهر الر ياضيات ورغم تاريخيته يدرك السرمدي وذلك هو جوهر السياسيات .وكلاهما ديني بالجوهر. لأن الجهازين هما شرطا استعمار الإنسان في الأرض واستخلافه فيها والأولى شرط أداتي أي مصدر كل التقنيات للتعامل مع الطبيعة واللاتناهي والثانية شرط غائي أي مصدر كل القيميات للتعالم مع التاريخ والسرمدية. ولا أريد أن اجيب عن سؤال قد يخرجنا عن الموضوع لأني لا أنوي الانتقال إلى الكلام في المسالة الدينية .والسؤال هو: 7
-- هل ما يدركه الإنسان في الر ياضيات الكلية وهل ما يدركه الإنسان في السياسيات الكلية هو من إبداع خياله أم هو من جنس الإدراك الحسي لموجود فعلي ليس من ابداعه وكأنه نظير المحسوسات دون أن يكون محسوسا فيكون له وجود خارج التقدير الذهني؟ والمعلوم أن الحسم في ذلك هو جوهر المسألة الدينية والفلسفية .فهل كل ما يتعالى على المدارك الحسية من مداركنا هي صنع خيالنا أم هي قدرة فطر ية على تجاوزه وابداع لغة تعبر عنه هي الر ياضيات الكلية في وضع نماذج الحقيقة وهي السياسيات الكلية في وضع نماذج الحق. وطبعا فأنا اميل للحل الثاني لأنه هو معنى منزلة الاستخلاف التي ينسبها القرآن إلى الإنسان و يعللها بالقدرة على التسمية التي يترتب عليها كونه حرا ومسؤولا ومكرما. ل كني لست معنيا بإقناع غيري بما أميل إليه. ومن البين عند كل من درس الفكر الذي أسس للفلسفة السياسية في علاقة بتأسيس الفلسفة الطبيعية أي فكر أفلاطون وأرسطو في غياب الوثائق الكافية لمعرفة تأسيسهما قبلهما وخاصة في أقدم دولتين قابلتين للتوثيق الم كتوب من التاريخ القديم (مصر وبابل) يعلم أن التمييز بين الفلسفتين الطبيعية والسياسية يستند إلى المقابلة بين ما يقبل التفسير بما ينسب إلى أفعال الأنسان وما لا يقبله. 8
-- فمن فلسفتهما يمكن أن نستنتج أن التمييز مبني على المقابلة بين المبدأين اللذين يرد إلى أولهما ظاهرات الطبيعة أي التعليل بسبية الحتمية والاضطرار ويرد ثانيهما إلى التعليل بسببية الحر ية والاختيار. فظن ال كثير أن هذه المقابلة هي عين المقابلة بين الخضوع إلى قوانين ثابتة ليس فيها ما هو متغير وإلى عدم الخضوع إلى قوانين متغير ليس فيها ما هو ثابت .فكان هذا الخلط علة في عدم فهم الفرق بين السرمدي والتاريخي في كلا النوعين ممن الظاهرات الطبيعية والإنسانية والعبارة عنهما في فلسفة السياسة. ولهذه العلة وضعت محاولة أميز فيها بين مستو يين من الدولة :أولهما اسميه الدولة المجردة وهي بينة سرمدية ثابتة لا تتغير والثاني أسميه الدولة المتعينة وهي تكوينية تاريخية تملأ هذه البنية السرمدية بمضمون يعينها بما يمثل الوعي بشروط قوامة هذه البنية المجردة حتى تتحقق ثمراتها في التاريخ الفعلي .ولا بد إذن من التمييز: بين الدولة المجردة التي هي من جنس الظاهرات الطبيعية من حيث الخضوع للضرورة وهي تصبح من الظاهرات الإنسانية بأفعال الإنسان لما تتعين في تاريخ الإنسانية وحقبه المتوالية مثلا. وبين الطبيعة المجردة الخاضعة للضرورة وهي تصبح من الظاهرات الإنسانية بأفعال الإنسان لما تتعين في تاريخ الإنسانية كما هو بين من الفرق بين الجغرافيا الطبيعية والجغرافيا بعد تحو يلها التاريخي مثلا. 9
-- ولولا وهم الفلاسفة الذي جعلهم يقولون بنظر ية في المعرفة تؤمن بالمطابقة التي تعني أن الفكر يعكس ما يسمونه حقيقة الواقع لظنهم أنه شفاف بحيث إن العقل مثل المرآة يعكسه على ما هو عليه لما حصلت هذه الغفلة التي تخلو منها الرؤ ية القرآنية.. فهو يعتبر ما نعلمه من \"الواقع\" لا يتجاوز ظاهره لأن ما نظنه خيرا قد يكون شرا وما نظنه شرا قد يكون خيرا ومن ثم فأحكامنا القيمية أو إدراك الحق ومثلها أحكامنا المعرفية أو المعرفية أو إدراك الحقيقة شديدة النسبية لأن ما نجهله لا يتناهى وما نعلمه شديد التناهي. ولن اتل كم في المسألة الإبستمولوجية والمسألة الأكسيولوجية اللتين خصصت لهما ال كثير من المحاولات لبيان ما ترتب على المفهوم الحد الذي يبين حدود العلم الإنساني. فهذه الإشكالية هي التي انشغلت بها المدرسة النقدية العربية (بدأت مع الغزالي بصورة عامة نقدا للميتافيز يقا وثنت بابن تيمية نقدا لنظر ية المعرفة وختمت بابن خلدون نقدا للفلسفة العملية العملية) والمدرسة النقدية الألمانية (صارت المانية لأنها بدأت بديكارت وثنت بهيوم وصيغت نهائيا عند كنط) .وكانت في قطيعة مع القول بالمطابقة الإبستمولوجية والتمام الأكسيولوجي. والنكوص على القطيعة مع المدرسة النقدية العربية آل إلى موت الفكر الفلسفي والعلمي حتى بعد محاولات النهوض منذئذ إلى اليوم .في حين ان النكوص في المدرسة 10
-- النقدية الغربية لم تقتل الفكر الفلسفي والعلمي لأن فلسفة هيجل وماركس لم تعتبر قرآنا كما اعتبرت فلسفة افلاطون وأرسطو في نفس الفكر العقيم للمدرسية الماضية والحاضرة. فمثلما كان الفارابي يعتبر العلم قد اكتمل ولم يبق إلا أن يعلم ويتعلم ومثلما كان ابن رشد يعتقد أن علم أرسطو كأنه قرآن صار من عادوا إليهما وجمعوا بين النكوصين للأولين والنكوصين للثانية فأصبح العقم والجمود الفكري السمة الغالبة التي آلت إلى اهمال المدرسة النقدية العربية بصورة نهائية بل اصبح اناست رونان مسيطرا على اليعاقبة وارنست بلوخ على الماركسيين في ما يسمونه فكرا فلسفيا. لذلك فهو ليس فكرا مدرسيا مثل الفكر الفلسفي التقليدي العربي القديم فحسب بل هو جنس منه مضاعف لا يمكن أن يتجاوز الكلام في سطحيات تاريخ الفكر الفلسفي الجامد الذي يتصور العلم الإنسان محيطا بما يسمونه الواقع والعمل الإنساني تاما بما يسمونه القيم. فلاسفتنا المحدثون الرسميون أكثر جمودا من فلاسفتنا القدامى الرسميون .كلاهما لا يختلف عن شراح النصوص المقدسة إذ يعتبرونها حقائق نهائية كأنها وحي منزل من السماء لم يبق إلا أن \"ت ُتعلم وت ُعلم\" (الفارابي). 11
-- -الفصل الثاني - تونس في 22.05.10 أمر الآن إلى ما هو اعسر مما عرضت في الفصل الأول لأننا نلامس جوهر الإشكال في المعنى المقصود من السياسيات الكلية التي لها في العمل دور جنيس لدور الر ياضيات الكلية في النظر. فيمكن التخلص من المأزقين اللذين انتهى إليهما الفكر العربي في المرحلتين القديمة والحديثة إذا فهمنا تطور الموقف من المدرستين النقديتين العربية والألمانية في الغرب وعندنا. ذلك أني لا ابحث في المسألة من باب الترف الفكري بل الغاية هي البحث في في شروط الاستئناف مستندا إلى قراءة نقدية هي بدورها للحظة اللقاء بين الفكرين الفلسفي العربي الإسلامي واللاتيني المسيحي لحظة الانتقال من الفلسفة القديمة إلى الفلسفة الحديثة في الحالة اللاتينية المسيحية والجمود في الحالة العربية الإسلامية .ذلك هو السؤال الذي يمكن أن نطلب جوابه من خلال التحديق في الفرق بينهما: 12
-- فالمدرسة العربية النقدية كانت بداية أشبه بالموقف المدافع عن العلاقة بين الرؤيتين الدينية والفلسفية لنظر ية المعرفة ولنظر ية القيمة بمفهوم الحد القرآني وهو ما في الوجود من غيب لا يقبل الرد إلى الشهادة وهي بداية يمثلها أفضل تمثيل الغزالي إذا خلصناه من القراءة البعدية التي ردته إلى السينو ية وال كشف الصوفي نفهمه بالوصل مع غاية يمثلها ابن تيمية. والمدرسة الألمانية النقدية كانت غاية اشبه بالموقف المدافع نفس العلاقة مع تجاوز الدفاع إلى بيان مفهوم الحد الفلسفي وهو التمييز بين الظاهرات والحقائق في ذاتها. وهي بداية يمثلها أفضل تمثيل ديكارت إذا خلصناه من القراءة البعدية التي اسقطت عليه تغييب البعد الديني للتناسق مع اليعقوبية ووصلناه بغاية يمثلها كنط. والمفهومان في الحالتين علتهما فهم ضرورة التمييز بين ما ندركه من الوجود وما هو عليه في ذاته الذي يبقى دائما مختلفا عما ندركه منه ومن ثم: فالمطابقة الإبستمولوجية مستحيلة لاستحالة الإحاطة في النظر وإلا لما تطورت نظر يات الإنسان العلمية. 13
-- والمطابقة الأكسيولوجية مستحيلة لاستحالة التمام في العمل إلا لما تطورت حلول الإنسان العملية. والتطوران متلازمان .فحلول الإنسان العملية رهن حلوله النظر ية والعكس بالعكس أي إن النظر الإنساني تقدير ذهني يمتحن بالترجيح التجريبيm والأول هو التقديرات الذهنية ورمزها الفكر الر ياضي في التعامل مع الطبيعة والتاريخ. والثاني هو الترجيحات التجريبية ورمزها الفكر السياسي في التعامل مع التاريخ والطبيعة. وكان ارسطو أول من ميز في مقالة الطاء من الميتافيز يقا بين قوة عاقلة يتميز بها الإنسان وقوة غير عاقلة تتميز بها الطبيعة .والثانية خاضعة للفعل المضطر الذي ليس فيه إرادة ولا كراهة. والأولى خاضعة للفعل الحر القابل للإرادة وال كراهة-وقد خصص هيدجر درسا للفصول الثلاثة منها كما هو معلوم .وقد بنى أرسطو على هذه المقابلة بين المضطر والحر من الأفعال نظريته السياسية. 14
-- ل كنه لم يتخيل حتى مجرد التخيل أن السياسة لها بنية مجردة كلية تقبل الرد إلى الضرورة الطبيعية وأنها تصبح تابعة للحر ية الخلقية عندما تتعين تاريخيا كما سأبين فتكون جامعة بين الضرورة والحر ية الشرطيتين. ولا يزال منظرو الفلسفة السياسية حتى المحدثين منهم يعتمدون المقابلة بيت القوتين العاقلة غير العاقلة وهي على أهميتها مقابلة سطحية لاعتمادها على المطابقة في النظر والتمام في العمل وكلتا المطابقتين تعتمدان على: وهم ابستمولوجي هو النظر المطابق لكأن العقل مرآة عاكسة لما يسمونه الواقع. ووهم أكسيولوجي هو العمل التام لكأن الإرادة قدرة مطلقة لما يسمونه القيمة. وتلك هي العلة في أن الفلسفة السياسية القديمة وحتى الحديثة ظلت مستندة إلى التمييز بين: القوة العاقلة أي الحر ية الإنسانية للخيار بين الضدين وحتى النقيضين والقدرة عليهما والقوة غير العاقلة أي الضرورة الطبيعية التي تخضع لعدم التناقض والثالث المرفوع بمعناها في المنطق الأرسطي (مقالة الجيم) 15
-- بحيث إن تأسيس علوم الإنسان مخيرة بين القول بالحر ية واستحالة علمها أو علمها مع نفي الحر ية وظلت علوم الطبيعة بحاجة إلى القول بالحتمية والضرورة السببية. ل كن العلم في غنى عن إطلاق الحتمية والعمل في غنى عن إطلاق الحر ية ل كونهما هما نفسيهما ليسا مطلقين بل هما اجتهاد دائم التطور نظر يا بوصفه تقديرا ذهنيا ور ياضيات كلية وعمليا بوصفه امتحانا تجريبا وسياسيات كلية. فنستنتج من ثم أنه من الخطأ أن المطابقة الموهومة في النظر يكفي فيها التناسق المنطقي وأن التمام الموهوم في العمل يكفي فيه شرط الإرادة الخيرة التي تجعل العمل تابعا للنظر ليتجنب الخروج عن العمل على علم). وبهذا المعنى فقد صنف أرسطو وأفلاطون قبله الأنظمة السياسية ليس بمقتضى البنية المجردة للدولة -وهو مفهوم لم يكن موجودا في الفلسفة ل كنه موجود في الدين حتى الطبيعي ناهيك عن المنزل-فقسما الأنظمة إلى ثلاثة تتمايز بعدد المشاركين في الحكم وفاضل بينها بمعيار اخلاق الحكام أي بالفضيلة والرذيلة. ل كن ابن خلدون ألغى كل إمكانية لإخضاع السياسيات لمنطق عدم التناقض والثالث المرفوع في فصل ولاية العهد من الباب الثالث من المقدمة 16
-- وفيه قدم حل عدم التأثيم في الاجتهاد السياسي مهما تناقض لأنه اجتهادات حول طرق العلاج وليس حول الغايات ومن ثم فمعياره ليس الحقيقة والباطل بل الجدوى والكلفة في علاج المشكل المطروح .وهو قد اقترح هذا الحل لتجاوز تجريم ما حصل بين الصحابة من خلافات أوصلت إلى الحرب الاهلية وهي مع ذلك من شروط التعدد الاجتهادي الضروري في التجربة السياسية الكلية. لذلك فالمدرسة النقدية العربية على الأقل انطلاقا من خلاف حول أفعال العباد -السؤال عن دور الحر ية والإرادة في تحديد الحكم القيمي-وحول أفعال الطبيعة -السؤال عن دور الضرورة والسببية في تحديد الحكم المعرفي- كان بداية القطيعة مع الرؤ ية اليونانية في صيغتيها الأرسطية والأفلاطونية وما يناقضهما ممثلا بكاليكلاس الذي يرد السياسي إلى منطق القوة الطبيعية الخالصة. وسأترك البحث في مصدر القطيعة التي انسبها إلى تأثير الرؤ ية الدينية في الحالتين العربية والألمانية وسأحاول تأسيسها على منطق التفاعل في الاتجاهين بين: 17
-- الضرورة الشرطية بلغة الفلسفة الأرسطية التي تتجاوز الضرورة العمياء إلى الضرورة ذات الغائية التي يردها إلى الحصيلة المنتظمة في كيان الموضوع الذي تتعلق به المعرفة والتي يظنها كافية لاعتبار قوانين المنطق مطابقة لقوانين الوجود. والحر ية الشرطية بلغة القرآن التي تتجاوز سطحية أفعال العباد إلى دلالتها في ثمراتها التي يمتنع توقعها انطلاقا من إرادة صاحبها لأن فعل الإنسان ليس بمعزل عما يجري في الآفاق وفي الانفس وما يراه من آيات الله فيهما دون أن يحيط بما فيها من غيب. وليس هذا المعنى هو الوحيد من المفاهيم الأساسية في الفلسفة السياسية التي استحوذت عليها الفلسفة من الأديان سواء كانت طبيعية أو منزلة. وقد اثبت أن ذلك حصل مع غيرها من المعاني التي صارت تعتبر فلسفية وهي في الحقيقة دينية الاستحواذ عليها من الفكر الفلسفي الحديث فظنت من الفلسفة وهي لم تكن منها: من ذلك مفهوم العقد الذي فقد دلالته الاصلية عندما صار وكأنه مفهوم حديث بوصفه تعاقدا بين البشر دون الطرف الثالث الأساسي الذي يجعله 18
-- متكافئ لأنه لو كان بينهم وحدهم لكان مختلا لأنه يكون علاقة بين لا متساو يين فلا تكون المشاركة فيه إلا اسمية إذ لا يمكن للقوي أن يتعاقد مع الضعيف من دون فرض إرادته عليه وإذن فالعقد يستمد شرعيته من المساواة بين المتعاقدين عند سلطة متعالية عليهما معا. ومفهوم الفرد الذي فقد دلالته الدينية عندما صار وكأنه مفهوم حديث في حين أن الفرد لا قيام له إلا بالجماعة وأن المسؤولية الخلقية المختلفة عن العادة الجماعية ظاهرة تابعة للمعروف والمنكر أي لأحكام الجماعة وليست خيارات الأفراد. وذلك هو المعنى العميق للفردية لأنها نظير حساب الجماعة لسلوك الأفراد الذين تحملهم مسؤولية سلوكهم بالقياس إلى المعروف والمنكر فيها وتلك هي العادة الجماعية. وهي بحاجة لتأسيس ذلك إلى نظر ية في القضاء المتعالي على إرادة الافراد وعلى الجماعة فيكون أصل الدين حتى الطبيعي ناهيك عن المنزل الذي يفترض أن هذا القاضي هو الرب نفسه. 19
-- وإذن فمناط السلطة السياسة ووظائفها مشروط حتما بقاض سام يتعالى على الجميع ويتساوى عنده الجميع لأن المسؤولية الخلقية مشروطة رغم بقائها في النظر يات الفلسفية المبتورة بالتخلص من الخلط بينة الدولة المتعلقة بمنزلة الاستخلاف وأنظمة القوامة المتعلقة بالوعي بشروط أهلية الاستخلاف. صحيح أنه يوجد تناظر بين بنية الدولة المجردة التي هي مطلقة الثبات والتي لا تتغير لأنها من جوهر كيان الجماعات البشر ية من حيث هي جماعات بشر ية أيا كانت مرحلة تطور وعيها بتنظيم قوامتها على ذاتها وأنظمة القوامة التي هي تاريخية بالجوهر لأنها ثمرة تطور الوعي بشروط القوامة والمفاضلة بينها. وهذا الفرق الجوهري بين الأمرين هو الذي كان لا بد من تحديده انطلاقا من تلميحات وردت في القرآن ال كريم وخاصة في الانثروبولوجيا القرآنية (نظر ية الإنسان) وعلاقتها بالثيولوجيا القرآنية (نظر ية الرب) وثمرة العلاقة بينهما كما عرفها مفهوم الاستخلاف الذي يجعل الثاني منزلة الإنسان التي يتطور وعيه بها في علاقته بالاستعمار في الأرض مصدر قيامه العضوي ليكون الاستخلاف مكملا له بالقيام الروحي الواعي بذاته وبشروط أهليته له. وهذه العلاقة بين الانثروبولوجيا والثيولوجيا ليست بالضرورة عند المؤمنين وحدهم بل هي عند الإنسان من حيث هو إنسان آمن أو كفر ولذلك فهي 20
-- متعلقة بالربوبية وليست بالألوهية أي إنها تتعلق بما يؤسس عليه حتى أعتى الملحدون مبادئ النظام الذي يؤسسون عليه سياستهم: فمفهوم حقوق الإنسان تعني حقوقه الطبيعية أي إنهم لا يعتبرون هذه الحقوق تحكم إنساني ونزواتي بل هي عندهم صادرة عن مبدأ متعال يسمونه طبيعة وغيرهم يسيمه ربا. فيكون الملحد في الحقيقة لا يختلف عن المؤمن إلا بكونه يعتبر الطبيعة ربة نفسها .وفي ذلك تحييث للمبدأ المتعالي على التحكم والنزوات ما يعني أن الإنسان من حيث هو إنسان لا بد له من التسليم بأن الامر الواقع يختلف عن الأمر الواجب وهو يحاول دائما البحث عما وراء الأمر الواقع مما يجعله يقع بالصورة التي يقع بها والتي هي نظامه الذي ينبغي ألا يكون تحكميا ولا نزواتيا. والآن كيف يمكن للمفهوم الحد الذي يثبت استحالة المطابقة في النظر واستحالة التمام في العمل وكيف يعلل الحاجة إلى المقابلة بين الثابت والمتغير في الفلسفة السياسية إذا اعتبرنا الامر متعلقا بما بين الضرورة الشرطية والحر ية الشرطية من تفاعل في الاتجاهين؟ ما الذي يترتب على فعل الضرورة الشرطية في الحر ية الشرطية؟ 21
-- ما الذي يترتب على فعل الحر ية الشرطية في الضرورة الشرطية؟ كيف تكون الحصيلة مخمسة الأبعاد باعتبار الأصل وفروعه الأربعة؟ فالأصل هو العلاقة بين بعدي الآفاق وبين بعدي الأنفس (فصلت )53 وعلاقتهما بما بين بعدي الإنسان من حيث هو مستعمر في الأرض ومستخلف فيها وبعدي الرب: من حيث هو خالق (جوابا عن سؤال لماذا يوجد شيء بدل العدم؟) وآمر (جوابا عن سؤال لماذا يكون ما يوجد بال كيف الذي هو عليه؟). تلك هي الحبكة القرآنية التي تفهمنا تأسيس الفلسفة السياسية على بنية ثابتة هي الدولة المجردة نظاما لكيان الجماعة البشر ية من حيث هي جماعة بشر ية والدولة المتعينة من حيث هي تكوينية القوامة التي تحرس ذلك النظام وتفعله إما بمقتضى ما يحقق جدارة الاستخلاف أو بما يعارضها. ومن يبحث في هذا الفرق يفهم كيف يمكن للقرآن من حيث هو استراتيجية سياسية لتوحيد الإنسانية أن يكون في آن فوق الزمان والمكان عند النظر في بنيته وتاريخي في آن 22
-- عند النظر في تفعيلها لتصبح استراتيجية تحقيق هذا التوحيد في التاريخ الفعلي بما فيه من فلسفة دين نقدية تحدد الديني في الأديان وفلسفة تاريخ نقدية تحديد الفلسفي في الفلسفات. وتلك هي العلة في كونه الفاتح والخاتم وفي كونه لا يستدل بخرق العادات بل بنظامها كما تبين ذلك الآية الثالثة والخمسين من فصلت أعني آيات الله في الآفاق وفي الانفس التي هي تبين حقيقة القرآن. ذلك ما سأحاول علاجه في هذه الدراسة التي اثبت بها أن القرآن ال كريم من حيث هو استراتيجية توحيد الإنسانية يعرض التقاطع بين: فلسفة الديني في الأديان من حيث هو نظر ية الاستخلاف في الأرض. وفلسفة الفلسفي في الفلسفات من حيث هو نظر ية الاستعمار في الأرض. فيكون لب الاشكال في القرآن ال كريم هو علاج العلاقة بين العقبات التاريخية التي قد تتولد عن الاستعمار في الأرض أمام الغايات الروحية التي قد يغيبها الإخلاد إلى الأرض ما يجعله فلسفة تربية وفلسفة حكم بالضرورة. وبهذا المعنى فهو مستقبل الإنسانية لأنه هو الذي يمكن أن يحررها من التلويثين :تلويث الآفاق بمعنييها وتلويث الانفس بمعنييها .والتلويثان هما ما 23
-- صار بينا حتى لفاقدي البصيرة في المرحلة الحالية من تاريخ الإنسانية التي قد تنهي وجود النوع البشري والعالم. 24
-- -الفصل الثالث - تونس في 22.05.12 ليس من اليسير أن نفهم علاقة الر ياضيات الكلية التي هي مبدئيا من التقدير الذهني بلغة ابن تيمية علاقتها بالسياسيات الكلية التي هي مبدئيا من التقدير الذهني بلغة ابن خلدون واعتبارهما رمزين لما يشير إلى السرمدي: في النظر في الطبيعة بوصفها ذات علاقة بنظام ثابت هو الخلق وفي العمل في التاريخ بوصفه ذا علاقة بنظام ثابت هو الأمر: أي إن أولهما نظام ناتج عن وصل نظام العالم الطبيعي بنظر ية في الخلق الإلهي والثاني ناتج عن وصل نظام العامل التاريخي بنظر ية في الأمر الإلهي. وتلك هي الرؤ ية القرآنية التي جعلتني اعتبر الدين الإسلامي ليس دينا من بين الأديان بل هو الديني في الأديان وهو من ثم الفلسفي في الفلسفات لأن مطلوبهما واحد وهو النظام في الموجود وفي المنشود. والمشكل عندي ليس هنا لأن كلا الرجلين مؤمن بالإسلام -ابن تيمية وابن خلدون-ومن ثم فلا عجب إذا كانا ممثلين لهذا الرأي الذي هو عين ما يقول به 25
-- القرآن في الآية الثالثة والخمسين من فصلت .ففيها تعتبر إراءة الله الإنسان آياته في الآفاق وفي الأنفس كافية لمعرفة حقيقة القرآن. وإراءة الله آياته للإنسان شهادة منه لجعله يتبين حقيقة القرآن أي إن النظر في نظام الطبيعة والعمل في نظام التاريخ هما معين الإستدلال القرآني المغني عن الحاجة إلى المعجزات التي اعتمدت عليها الأديان التي حرفت. فيكون ابن تيمية وابن خلدون قد تبينا حقيقة القرآن لأن كليهما فهما معنى المقصود بآيات الله في الآفاق وفي الأنفس الدالة على صحة القرآن: فالأول استنتج فلسفة السياسة أو العمل في التاريخ كلها من آيتين من النساء أي الآية 58المحددة لشروط القوامة والآية 59المحددة لطبيعة المرجعية فوضع أول نظر ية في الدولة المشدودة إلى نموذج السياسة الكلية والمعتمدة على الر ياضيات الكلية شرطي الأمانة والعدل في الحكم. والثاني استنتج فلسفة السياسة كلها من العلاقة بين مفهوم الاستعمار في الأرض لإنتاج الثروة الاقتصادية والثقافية مادتي قيام الإنسان ومن مفهوم الاستخلاف فيها لإنتاج مفهوم التراث العلمي والقيمي شرطي الأمانة والعدل في الحكم. 26
-- وابن تيمية رأى آيات الله في الآفاق والأنفس لما قال إن العلم البرهاني والخالص الوحيد هو علم المقدرات الذهنية المعرفية و يقصد الر ياضيات الكلية أي الجامعة بين المنفصل والمتصل بالمشترك أي بين موضوعيها أي بين اللامتناهي الذهني وتطبيقاته أي المتناهي الفعلي في الطبيعة. وابن خلدون رأى آيات الله في الآفاق وفي الأنفس لما قال إن العمل اليقيني الوحيد هو عمل المقدرات الذهنية القيمية و يقصد السياسيات الكلية الجامعة الاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها بالمشترك بين موضوعيها أي بين اللامتناهي الإرادي وتطبيقاته أي المتناهي الفعلي في التاريخ. ل كن كيف لي أن أزعم أن ذلك هو ما ينبغي أن يكون في كل فكر فلسفي يؤسس للعلم وكل فكر ديني يؤسس للعمل ومن ثم فهو المشترك بين الفلسفي في الفلسفات والديني في الأديان فيتحرر من القول بالمطابقة والإحاطة في نظر ية المعرفة لتأسيس العلم دائم التطور ومن المطابقة والتمام في نظر ية القيمة لتأسيس العمل دائم التطور. وهو ما يقتضي وجود مفهوم حد يميز بين عالم الشهادة المعلوم وعالم الغيب المجهول والذي ليس للإنسان عليه سلطان في النظر وفي العمل ما يجعل النظر اجتهادا وليس علما محيطا والعمل جهادا وليس عملا تاما. 27
-- والر ياضيات الكلية والسياسيات الكلية تقدمان النموذج الذي يشير إلى الحاجة الى السرمدي لتأسيس النظر العلمي دائم التطور ولتأسيس العمل القيمي دائم التطور وصلا بين الطبيعة وما بعدها والتاريخ وما بعده. وما بعدهما واحد وهو ما يكون خلقا وأمرا في الدين وما يماثلها في الفلسفة وإن بالسلب في بعضها لأن نسبة الامر إلى الصدفة تاليه لتراكمها الذي ينتج النظامين. ومن ثم فلا بد من دراسة ما بين الر ياضيات الكلية والسياسيات الكلية من مشترك يجعلهما تشيران إلى هذه العلاقة: بين الطبيعي والر ياضي ونظر ية في الخلق وبين التاريخي والسياسي ونظر ية في الأمر مع تصور النظريتين بحاجة إلى شد المتغير إلى الثابت بحيث إن الإنسان المستخلف يكون مشدودا إلى من استخلفه أي إلى من يستمد منه نظر ية الدولة المجردة التي يمكن تخيل بنيتها دون النجاح في تحقيق شروط ملء خاناتها. 28
-- فالإنسان الخليفة مهما فعل لا يمكن أن يكون مثل الرب الذي استخلفه وهذه العلاقة التي يعسر تحديدها لنا منها إشارة في ما أطلقت عليه اسم المعادلة الوجودية التي ترجمت إ ليها بنيو يا مضمون الآية الثالثة والخمسين من فصلت: فمستواها الأول يوجد في الآفاق وهي عالمي الإنسان أي الطبيعة والتاريخ. ومستواها الثاني يوجد في الأنفس وهي كياني الإنساني أي البدني والروحي. مثلما أن علم الطبيعة ومنها علم البدن لا يمكن أن يكون مثل علم الر ياضيات الكلية التي يكون البارئ فيها الرب نفسه فكذلك لا يمكن أن يكون عمل التاريخ وعمل الروح مثل السياسيات الكلية التي يكون الحاكم فيها الرب نفسه. وبهذا المعنى فإن هذا التفاوت في المطابقة في النظر وعدمه والتفاوت في التمام في العمل وعدمه يشير إلى التفاوت بين المستخلف (الرب) والخليفة (الإنسان) فيحدد منزلة الإنسان وقدرته المعرفية والعملية فيقتضي من ثم ضرورة وجود العلاقة بين الدنيا والآخرة: فالدنيا لاختبار الخليفة وأهليته للخلافة في النظر والعمل. والآخرة للحكم النهائي في أهليته بعلم مطلق وعمل تام. و يقتضي ذلك وجود القضاء المطلق الذي له العلم المحيط والعمل التام: والقاضي حينها هو الرب .وتلك هي الإشارة في التي تمثلها الر ياضيات الكلية 29
-- المتعلقة بالعلم المطابق لحقيقة لا وجود لها في العالم الحسي الطبيعي والسياسيات الكلية المتعلقة بالعمل التام لحق لا وجود له في العالم الحسي التاريخي: الإشارة تتمثل في كونهما كليهما يتعلقان بما ليس موجودا في المحسوسات رغم انهما ما من دونه لا يمكن للعلم ولا للعمل أن يكونا ممكنين .ولا بد إذن من توضيح القصد بالمعادلة الوجودية ولماذا هي في الحقيقة معادلة تقتضي وجود هذين النموذجين: فالنموذج الر ياضي الكلي ضروري لتأسيس العلاقة بالأفق الطبيعي والبدن من الأنفس الذي يتقدم فيه مفهوم الخلق بمقتضى النظام الر ياضي الكلي :كل شيء خلقناه بقدر جمعا بين العدد والمقدار. والنموذج السياسي الكلي ضروري لتأسيس العلاقة بالأفق التاريخي والروح من الانفس الذي يتقدم فيه مفهوم الأمر بمقتضى النظام السياسي الكلي: السنن التي لا تتغير ولا تتبدل. يمكن اعتبار الجمع بين النموذجين هو تحقيق الشروط الضرور ية لبناء الدولة المجردة التي من دونها لا يمكن توفير شروط الرعاية والحماية ببعديهما لعلاج العلاقة العمودية بين الإنسان والطبيعة والعلاقة الافقية بين الإنسان والطبيعة 30
-- وصلا بين الإنسان والطبيعة لسد حاجات كيان الإنسان المادي ولسد حاجات كيانه الروحي .ولا بد إذن من: الجمع بين الر ياضيات الكلية وتطبيقاتها على الطبيعة لتحقيق الاستعمار في الأرض. والجمع بين السياسات الكلية وتطبيقاتها على التاريخ لتحقيق الاستخلاف في الأرض. وبما بين الر ياضيات الكلية والسياسيات الكلية من تفاعل في الاتجاهين تتحقق الشروط الضرور ية لبناء الدولة المجردة التي من دونها لا يمكن توفير: شروط الرعاية وشروط الحماية ببعديهما بأصليهما بالتمكن مما بين العالم الطبيعي والتاريخي وكيان الإنسان العضوي والروحي من تناظر هو الذي يحقق الحضارات التي هي: ثمرة علاقة الإنسان بالطبيعة أو استخراج شروط قيام الإنسان العضوي وفنونه بتوسط ثمرة علاقة الإنسان بالإنسان أي استخراج شروط قيام الإنسان الروحي 31
-- والاول هو بالأساس ثمرة التعاون والتبادل بالتعاوض العادل ليتم الاستعمار في الارض وهو أصل انتاج الثروة. والثاني هو بالأساس ثمرة التفاهم والتواصل بالتآخي الصادق ليتم الاستخلاف في الأرض وهو أصل انتاج التراث والانتاج الثاني شرط الانتاج الأول لأن العلاقة بالطبيعة تحتاج إلى علم قوانينها وهو من التراث العلمي والتقني والخلقي والقانوني للجماعة. والإنتاج الثاني شرط الانتاج الاول لأن العلاقة بالتاريخ تحتاج إلى تمو يل انتاج العلوم وتطبيقاتها وانتاج الأعمال وتطبيقاتها. وتلك هي الوظائف الذي لا بد منها في كل دولة ومنها تتكون البنية المجردة للدولة وهي بنية تتعين بما يحصل من الرعاية والحماية اللتين تكونان حتما حصيلة تطور تاريخي بخلاف البنية المجردة التي هي ثابتة لا تتغير. 32
-- -الفصل الرابع - تونس في 22.05.13 وصلنا الآن إلى زبدة المحاولة لنحدد المقومات التي تجمع بينها بنية الدولة المجردة. فهي تستمد من مقومات كيان الإنسان الإنسان (البدني والروحي) في علاقتها بمقومات العالم (الطبيعي والتاريخي) وصلتهما يما يمكن أن يعتبر مابعدا متعاليا عليهما به يعلل الإنسان هذا التناظر العجيب بينه وبين عالمه. والتناظر هو الذي أطلقت عليه اسم المعادلة الوجودية التي لا يخلو منها إنسان فردا وجماعة وهي ليست ثابته في كيانه فحسب بل هي عين مضمون وجدانه كذلك .ولا فرق في هذا الحضور بين إنسان وإنسان مهما اختلفت العقائد والملل دينيةكانت أو لا دينية. سأقترح رسما هرميا يمثل ابعاد الدولة المجردة الخمسة لتيسير الفهم وهي السرمدي في الجماعة البشر ية والتاريخي ليس فيها بل في ما يملأ خاناتها الخالية قبل أن تتعين في أنظمة الحكم التي هي أنظمة القوامة التي تسهر بها الجماعة على أداء وظائفها: من حيث هي مستعمرة في الأرض لسد حاجاتها العضو ية ومن حيث هي مستخلفة فيها لسد حاجاتها الروحية وهما موضوعا ابداع ابن خلدون الذي سماه بالاستناد إلى سد هذين النوعين من الحاجات\" :علم العمران البشري (لسد الحاجات) و(علم) العمران البشري (للأنس بالعشير)\". 33
-- شكل الدولة المجردة الهرمي قمة الهرم: قلب بنية الدولة المجردة يمثلها الدستور سواء كان عرفيا متعينا في ما يسمى بالمعروف والمنكر أي ممارسة الجماعة التي تعتبر حقيقة اخلاقها الفعلية لا القولية أو مكتوبا ليكون حجة في العلاج القضائي لما بينها من خصومات .وما تختلف به رؤ ية الإسلام هو تجاوز المقابلة بين القانون الوطني والقانون الدولي لأن معايير القانون عنده كونية بالجوهر بمعنى أن ما ينطبق في الجماعة الواحدة هو عين ما ينطبق بين الجماعات الإنسانيةكلها .وهو القصد بكونه الدين الخاتم. فالقرآن يعتبر الدستور ال كوني وهو بهذا المعنى وإن بصورة لم يقع التفطن إليها قبل تبين دلالة الكلام فيه على الإنسان عامة من حيث هو مستعمر في الأرض ومستخلف فيها دون اعتبار لاختلاف الأديان بل هو يعتبر تعددها واختلافها من شروط البحث الحر لتبين الرشد من الغي أصلا لحر ية المعتقد الذي لا إكراه فيه. وعلامته تبينه هو ال كفر بالطاغوت والإيمان بالرب الواحد والإيمان بالبعث والعمل الصالح. إنه يمثل هذه البنية المجردة مضمونا للرسالة التي: * مرسلها الله * والمرسل إليه فيها الإنسان عامة * والرسول بشير ونذير ل كنه ليس وسيطا ولا وصيا 34
-- * وطر يقة التبليغ هي الاستدلال العقلي بالنظام وليس بخرق العادات * ومضمون الرسالة هو ما يترتب على منزلة الإنسان من حيث هو مستخلف وما يجري في امتحان اهليته للاستخلاف خلال استعماره للأرض. وبذلك فالعقد الذي يمثله الدستور قلب الدولة المجردة عقد مخمس الأبعاد وكلها متعلقة بالحقوق والواجبات في مستو ياتها المختلفة: 1فهو عقد بين المواطنين يضمن الحقوق والواجبات ويحد من التنازع حول ثمرة الاستعمار في الأرض (المل كية خاصة) والاستخلاف فيها (المنزلة الاجتماعية خاصة). 2وهو عقد بينهم وبين ممثلي إرادة الجماعة أي القوى السياسية التي تمسك بالسلطة فعليا أو بالقوة استعدادا للمرور من القوة إلى الفعل 3وهو عقد بينهم وبين من يختارونهم من القوى السياسية للحكم والمعارضة سواء كان ذلك طوعا في الأنظمة الديموقراطية أو كرها في الأنظمة الاستبدادية. 4وهو عقد بين بينهم وبين من يختارونهم للتشر يع باسمهم وهم في الغالب مرشحون من قبل القوى السياسية ما يعني أن السلطة التشر يعية تابعة دائما للسلطة التنفيذية لأنها هي من تختارهم القوى السياسية لإضفاء الشرعية على ما تقترحه من تشر يعات تمكن من ترجمة برنامجها إلى قوانين جديدة أو إلى تعديل القوانين القديمة. 5وهو أخيرا عقد بينهم وبين مصدر المرجعية التي تستند إليها العقود وهو ما لأجله وجدت الدولة أعني شروط الاستعمار في الأرض للرعاية وشروط الاستخلاف فيها 35
-- للحماية .وما لأجله وجدت هذه العقود هو جعل الاستعمار في الأرض يبقى التنافس عليه سلميا فيجمع بين الشرعية بصورة عامة والشوكة بصورة عارضة بالنسبة إلى ما لا يخضع للقانون طوعا. ولا فرق حينها بين المرجعية الدينية والمرجعية العلمانية لأن الأمر لا يتعلق بطبيعة المرجعية بل بما يهم السياسي منها .فالمرجعية الدينية -على الأقل في الإسلام -يؤخذ منها تأسيس الحقوق والواجبات بالاستناد إلى الفطرة :فلا أحد يقبل الظلم حتى وإن كان يظلم غيره والمعيار الفطري هو إذن تطبيق الموقف من الظلم على الذات كما على الغير مثلا. والمرجعية العلمانية-على الأقل في شكلها غير اليعقوبي-يؤخذ منها تأسيس الحقوق والواجبات بالاستناد إلى الطبيعة :وهي خاضعة لنفس المعيار أي معاملة الغير ما يريد الإنسان أن يعامل منه .وإذن فكلاهما يعتبر دور المرجعية بينا ومعياره بسيط وهو ليس نزوات الفرد أو الجماعة على الأقل في الواجب إن لم يكن في الواقع. فتكون المرجعية نفس القيم ونفس المعايير سواء تأسست على العقد الديني المنزل أو على العقد الديني الطبيعي حول ما تنتظم به شروط الرعاية بأبعادها الخمسة وشروط الحماية بأبعادها الخمسة .وكلها تدور مفهوم الحقوق والواجبات فيها جميعا تمييزا محددة لمرجعية دولة القانون. 36
-- فيكون المقصود السلطة التي تقضي في حسم الخلافات بين البشر شرطا للعيش المشترك السلمي في ا لمدني والجنائي من السلوك وبينهم وبين السلطة في الإداري والرقابي وفي الدستوري في المستو يات الخمس من القانون. أي في أوجه السلطة من حيث هي نظام الفصل في الخلافات التي من جنس المدني والجنائي والمتعلق بنظام القوى السياسية والمتعلق بنظام التمثيل السياسي والمتعلق بالتشر يع والمتعلق بالمرجعية .فيكون المدار كله حول قوة القانون بدلا من قانون القوة. ومن ثم أهمية اعتبارها كلها من جنس القضاء الدي ترد إليه دولة القانون في الغاية .ودولة القانوني بهذا المعنى هي جعل أخلاق الجماعة العامة المتعلقة: بالمعاملات أي بشروط الاستعمار في الأرض لعلاج مشكل التعاون والتبادل والتعاوض العادل وبشروط الاستخلاف فيها بعلاج مشكل التفاهم والتواصل والتضامن المتآخي شروط العيش المشترك في الجماعة الواحدة. ونفس الأمر يعتبره القرآن منطبقا على الإنسانية كلها بحيث تكون العلاقة بين الجماعات من جنس العلاقات بين الافراد في نفس الجماعة لكأن الإنسانية كلها جماعة واحدة من حيث علاج مشكل التعاون ومشكل التواصل أي العدل في الأول والصدق في الثاني. 37
-- وكلها تكون خانات خالية يكون لتعيينها مستوى ملء الخانات بالمواطنين المحققين لشروط الاستعمار والاستخلاف والقيمين على التحقيق نيابة عن الجماعة وتحت مراقبتها ومحاسبتها وهو المحدد للنظام القانوني العام الدي يحكم النقلة من الدولة المجردة إلى الدولة المعينة .والأول سرمدي والثاني تاريخي. ويمكن عرض الأمر في شكل هرم له سنام يتوسط بين خانتين قبله وخانيتين بعده وتلك هي بنية الدولة المجردة المؤلفة من خانات خالية يملؤها القيمون الدين تختارهم الجماعة لجعلها مؤدية لوظائفها في القوامة وحراسة العيش المشترك السلمي بالقانون قضاء وبالأمن تطبيقا على مرجعية تؤسس لما يمثله القانون من اخلاق الجماعة: القمة يمثلها منظومة العقود التي تكلمنا عليها وهي الدستور سواء كان عرفيا أو مكتوبا لأنه ترجمة للقيم التي تعتبرها الجماعة مرجعيتها المشتركة والتي من دون لا يمكن لها أن تكون جماعة ولا تستطيع العيش المشترك السلمي والاطمئنان بعضهم إلى البعض في الحياة العادية وإلى القضاء بينهم حال خلافهم: وقبل الدستور الذي يمثل قمة الهرم مربع القاعدة المؤلفة من رجلين قبله ورجلين بعده مع تناظر أول العنصر الاول والعنصر الخامس اي بين المرجعية قبله ووظائف الجماعة بعده ثم تناظر ثان بين العنصر الثاني قبله والعنصر الرابع بعده اي بين القوى السياسية قبله ووظائف الحكم والمعارضة بعده. 38
-- فيكون هو القلب اي الدستور ملتفتا إلى ما قبله مصدرين للرؤى والإرادات وملتفتا إلى ما بعده تحقيقين للرؤى والارادات. ومن ثم فالدستور مؤلف من خمسة عقود متعلقة به لكلامه على نفسه تأسيسا لها بما قبله وتعليلا به لما بعده فيكون بذلك محددا لعلاقته بالبعدين اللذين يصدر عنهما وبالبعدين اللذين يصدران عنه تحديدا لما يجعلهما منتسبين إما إلى قانون القوة أو قوة القانون: نجد المرجعية التي يصدر عنها مجال النظام القانوني عرفيا كان أو مكتوبا في الدستور وهي كما اسلفت الأخلاق العامة التي يتأسس عليها القانون وهي متعلقة بالتعامل في التبادل بسبب تقاسم الأعمال وحاجة الجميع للجميع وهو شرط العيش المشترك السلمي لسد الحاجات العضو ية خاصة .وشرطه التعاوض العادل وضرورة حماية المل كية. ونجد بين المرجعية بهذا المعنى وثمرتها في مضمون الدستور القوى السياسية التي تتأسس على رؤى المرجعية الممكنة وتترجمها إلى النظام القانوني ذي العقود الخمسة التي وصفت .والقوى السياسية هي بدروها خمس قوى ضرور ية أي: • القوة السياسية التي تنشغل بالاستعمار في الأرض وشرطه أي التعاوض العادل في التبادل بين مبدعي الثروة من ارباب العمل :الرسمالية. • القوى السياسية التي تنشغل بالاستخلاف فيها وشرطه أي التفاهم الصادق في التواصل بين البشر عامة بصرف النظر عن الثروة. 39
-- • القوة السياسية التي تحاول الجمع بينهما مع تقديم الانشغال الأول على الثاني مع الاعتراف بضرورة الاعتراف بسهم العمال مع ارباب العمل في انتاج الثروة على الأقل بتوسيع الاستهلاك وتحر يك الطلب شرطا في توسيع العرض. • والتي تحاول الجمع مع تقديم الانشغال الثاني لنفس العلل والهدف توسيع التوز يع لان عدم تشجيع أرباب العمل لا يمكن من تنمية الاستثمار والتمو يل وابداع الثروة حتى ينمو التوز يع. • والتي تتردد بينهما انتهازا أو قبل أن تعزم على اختيار أحد الأربعة السابقة ومن ثم فهذه القوة الخامسة ليست مقصورة على الأحزاب الانتهاز ية حزب الوسط بل هي تمثل الأغلبية الصامتة ومنها بالالتزام المتوالي تتكون كل القوى السياسية. كما نجد بين الدستور والجماعة أي ما يتلو القمة أو الدستور الحكم والمعارضة .وغالبا ما يكون الحكم بيد الحاصلين على الأغلبية في انتخاب الجماعة للمعبرين عن إرادتهم السياسية والمعارضة بيد الحاصلين على الأقلية في الأنظمة التي تحكمها قوة القانون أو يكون الحكم بيد الأقل والمعارض بيد الأكثر عندما يكون الحكم قانون القوة. ونجد في الأخير العنصر الخامس أي أصل العناصر الأربع التي تقدمت وهو يتعين في نوع اجتماع الجماعة كلها من حيث هي مصدر كل ما تقدم أي المرجعية والقوى السياسية والدستور والحكم والمعارضة باعتبار الجماعة هي التي: تتحقق الرعاية ببعيدها التكويني والتمويني وأصلها كلها والحماية ببعديها الداخلي والخارجي وأصلها كلها 40
-- بمقتضى المرجعية التي هي اخلاق الجماعة المترجمة إلى قوانين قوة أو قوة قوانين وتلك هي وظائف الجماعة: فالرعاية التكوينية بفرعيها (أي التربية وإنتاج الثروة والتراث) والتموينية (أي الاقتصاد والثقافة) وأصلها جميعا أي البحث والاعلام العلميين وتطبيقاتهما :فالبحث العلمي بتطبيقاته مهما كان بدائيا يمثله ذوو الخبرة في الرعاية التكوينية وفي الرعاية التموينية .ولا توجد رعاية للجماعة من دون ذلك. والحماية الداخلية بفرعيها (أي القضاء والأمن) والحماية الخارجية بفرعيها (أي الدبلوماسية والدفاع) وأصلها جميعا أي البحث والإعلام الاستخبار يين وتطبيقاتهما: فالبحث الاستعلامي بتطبيقاتها مهما كان بدائيا يمثله ذوو الخبرة في الحماية الداخلية والخارجية .ولا توجد حماية للجماعة من دون ذلك. وهذه هي الدولة المجردة التي يمكن اعتبارها مثل البدن الإنساني الذي هذا تشريحه بالنسبة إلى الجماعة من حيث هي جماعة .وهي البنية السرمدية في الدولة من حيث هي ما به تكون الجماعة جماعة دائما ل كن هذه البنية المجردة تتعين تاريخيا بما يملأ خاناتها المجردة بمقتضى قوامة الجماعة على نفسها باعتماد الشكلين الممثليين للحدين الاقصيين: قانون القوة وهي خاضعة للنظام لنظام الحرب الاهلية الدائمة بين القوى السياسية تداولا للتغالب الحربي وهو المقصود بالاستبداد. وقوة القانون وهي خاضعة للنظام العيش المشترك السليم تداولا للتغالب الانتخابي وهو المقصود بالديموقراطية. 41
-- -الفصل الخامس - تونس في 22.05.14 الفصل الخامس يقدم غاية الثمرة التي اعتبرتها لب المحاولة .وما دمت قد وصلت هذه المحاولة بما يشبه الكلام في الترجمة الذاتية وصلا بين الإشكالية ومساري الفكري فيمكن أن ازعم أني قد بلغت ما حررني من الموت غير راض عما حاولت به علاج الحيرة التي استبدت بي منذ طفولتي. احمد الله أني صرت اشعر بأني قد خرجت مما بدا لي من فوضى المصحف الذي كان أول كتاب قراته في طفولتي .كنت أعيش السور وكأنها طر يق تتلوى في كل الاتجاهات وتضاريس تصعد إلى عنان السماء وتنزل إلى لا قرار دون تحديد وجهة تكون نظام العقد الهادي للفهم النسقي Leitfaden يجعل القرآن رسالة مفهومة تخاطب كل مستو يات سعي الإنسان لتبين الرشد من الغي. لما كان والدي رحمه الله يراجع معي ما حفظته مما يعلمنا مؤدب الأسرة في جامعها الذي كان في آن بيت الضيافة لكل \"مسكين ذي متربة\" يمر بأرضنا في فرع قبيلة المرازقية في الشمال كان والدي يشجع تساؤلاتي خاصة عن تعرجات السور التي كنت اراها وأسأله عنها واصفا إياها بما كان كثير منها في 42
-- أرضنا واحراجها أعني \"تقاطع\" ثنايا لا تتناهى تبدو أحيانا متنافية لكأنها لا تتوقف عن مراجعةكل ما تقوله لتعيد قوله بأسلوب مختلف مذهلة تؤدي إلى الدوار Vertigeالذي لا يتوقف. ولأعد الآن إلى فهم علاقة هذا الكيان المجرد للدولة بالمعادلة الوجودية التي هي جوهر القرآن ومنطق كل استدلالاته .فهي هي التي خلصتني من \"الفارتيج\" الملازم للفكر الإنساني أو بصورة أدق للمشترك بين الديني والفلسفي جوابا عن سؤاليهما حول خيار الوجود بدل العدم وخيار كيف الموجودات الحاصل بدل الممكن اللامتناهي. وإذ أقصه فهدفي أن يكون أحد سبل الخروج منه لكل من عاشه أو يعيشه ممن تخلصوا قبل ذلك من لوثة الاخلاد إلى الأرض بسبب العيش على قشور الدين والفلسفة اللذين لا يتجاوزان الموضة والشعارات السطحية لضحايا الحرب بين التحديث والتأصيل العنيفين من نخب المسلمين. ولما كان البحث متضمنا مصطلحات محدثة يعسر استيعابها ل كونها وضعت خصيصا لفهم البنية العميقة للقرآن ال كريم فإن الحاجة إلى المقارنات مع ما تقدم من رؤى العالم كانت سائدة قبله يكون مفيدا جدا إذ يساعد على فهم ما أدخله القرآن من تغير كيفي في فلسفة الدين وفلسفة التاريخ بمقتضى نظر ية 43
-- الإنسان الانثروبولوجيا ونظر ية الرب الثيولوجيا ونظر ية وما بينهما من نظر ية الطبيعة ونظر ية التاريخ شرطين لتحديد فلسفة السياسة. وسأحاول شرح الأمر بالاعتماد على مثالين من التكنولوجيا ومن البايولوجيا لفهم ما يترتب على نظر ية المعادلة الوجودية المفهوم الذي يستمد من تحليل الآية 53من فصلت وما يترتب على رؤ ية آيات الله في الآفاق وفي الأنفس بعد تحريرها من قراءة القرآن بالحكمة الشعبية وبالإسرائيليات اصلي التأصيل العنيف وبما دونهما شعبية وأكثر منهما عنفا أي الهيجلة والماركسية الممزوجين باليعقو بية. فالمعادلة الوجودية هي التي تمكن من قراءة المعضلة القرآنية في ضوء فصلت 53وما بين الآفاق والانفس من علاقة تجعل الثانية قارئية للأولى فيكون ما به يقرأ الإنسان الطبيعة وما به يقرأ التاريخ مؤديين إلى المفتاح: فالقرآن يعتبر كل شيء خلق بقدر رمزا إلى نظام الطبيعة وكل أمر حدد بسنة رمزا إلى نظام التاريخ وهما عين نظاما كيانه العضوي وكيانه الروحي. وتلك هي علة البحث في تجهيز الإنسان ليكون قادرا على الاستعمار في الأرض بعلم الطبيعة وتطبيقاته التقنية (الر ياضيات الكلية) وعلى الاستخلاف في الأرض بعمل التاريخ وتطبيقاته الخلقية (السياسيات الكلية) وذلك هو ما 44
-- يبين للإنسان أن القرآن حق .فتكون الر ياضيات الكلية مدخلا للآفاق الطبيعية والسياسيات ال كية مدخلا للآفاق التاريخية وما بينهما وبين نوعي جهازي الإنسان العضوي والروحي فردا وجماعة من عجيب التناظر. وهو التناظر الذي بفضله يخرج الإنسان من تضاريس القرآن فيرى بنيته العميقة ويدرك أنه لا يتضمن الأجوبة بل يوجه إلى حيث علينا البحث عنها أي في الآفاق والانفس وليس في شرح نصه بتخر يف الباحث عن الاعجاز فيه في حين أنه يرفض الاستدلال بالمعجزات التي تخرف النظام ولا يستدل إلا بالنظامين الطبيعي والتاريخي. ل كن هذا التناظر يقتضي وضع نظر ية في الدولة المجردة هي نظام السياسي المناظر لنظام الطبيعة .وبذلك نفهم أن القرآن ال كريم يشير إلى هذين النظامين دون أن يكون عرضا علميا للنظامين لأنه بين أن طلبهما لا يكون في نصه بل في ما يشير إليه نصه من الآفاق والانفس من آيات دالة على أنه حق .ونصه يشير إلى أن نظام الخلق ر ياضي ونظام الأمر سياسي ومن ثم فهو يحيل الإنسان إلى ما في نفسه من النظامين الر ياضي الكلي والسياسي الكلي أداته للتعامل مع الآفاق الطبيعية والتاريخية. 45
-- وذانك هما بعدا هذا التناظر بين وجود الإنسان من حيث هو مستعمر في الأرض ووجوده من حيث هو مستخلف فيها ونوعي الآفاق التي تحدد شروط بقائه العضوي والروحي بفضل ما جهز به من جهاز النظر وتطبيقاته وجهاز العمل وتطبيقاته. فلا يمكن فصل الأنسان ببعديه العضوي والروحي وما بعدهما المتعالي عليهما عما يحقق كيان الجماعة المحقق لشروط الاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها .فالمعادلة الوجودية التي استنتجتها مما تشير إليه آيات الله التي ير ينها في الآفاق وفي الأنفس عن الإنسان ببعديه العضوي والروحي والعالم ببعديه الطبيعي والتاريخي وما بعدهما المتعالي عليهما. ومنها يمكن استنتاج البنية المجردة للدولة من حيث هي ثمرة الر ياضي الكلي أصلا للعلم تطبيقاته في التعامل مع الطبيعة والتاريخ ومن حيث ثمرة السياسي الكلي أصلا للعمل وتطبيقاته مع الطبيعة والتاريخ. والمعلوم أن التمثيل بالتكنولوجيا والبيولوجيا ندين به إلى أرسطو .وما من علم يعمل بصورة أخرى لان النماذج دائما تستمد من عمل الإنسان التقني ومن عمل الحياة العضوي .وبهما يتم تفسير النظام الساكن -ستاتيك-والمتحرك - ديناميك-في العالم بقياس الحياة على التقنية وبقياس الوجود على الحياة. 46
Search
Read the Text Version
- 1
- 2
- 3
- 4
- 5
- 6
- 7
- 8
- 9
- 10
- 11
- 12
- 13
- 14
- 15
- 16
- 17
- 18
- 19
- 20
- 21
- 22
- 23
- 24
- 25
- 26
- 27
- 28
- 29
- 30
- 31
- 32
- 33
- 34
- 35
- 36
- 37
- 38
- 39
- 40
- 41
- 42
- 43
- 44
- 45
- 46
- 47
- 48
- 49
- 50
- 51
- 52
- 53
- 54
- 55
- 56
- 57
- 58
- 59
- 60
- 61
- 62
- 63
- 64
- 65
- 66
- 67
- 68
- 69
- 70
- 71
- 72
- 73
- 74
- 75
- 76
- 77
- 78
- 79
- 80
- 81
- 82
- 83
- 84
- 85
- 86
- 87
- 88
- 89
- 90
- 91
- 92
- 93
- 94
- 95
- 96
- 97
- 98
- 99
- 100
- 101
- 102
- 103
- 104
- 105
- 106
- 107
- 108
- 109
- 110
- 111
- 112
- 113
- 114
- 115
- 116
- 117
- 118