Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore العملة والكلمة، أو كيف تصبح الأداتان سلطانين؟ - أبو يعرب المرزوقي

العملة والكلمة، أو كيف تصبح الأداتان سلطانين؟ - أبو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2019-04-08 15:56:39

Description: العملة والكلمة، أو كيف تصبح الأداتان سلطانين؟ - أبو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫أو كيف تصبح الأداتان‬ ‫سلطانين؟‬ ‫الأسماء والبيان‬



‫المحتويات ‪1‬‬ ‫‪ -‬الفصل الأول ‪1 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثاني ‪10 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثالث ‪15 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الرابع ‪21 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الخامس ‪26 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل السادس ‪32 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل السابع ‪37 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثامن ‪43 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل التاسع ‪51 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل العاشر ‪59 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الحادي عشر ‪66 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثاني عشر ‪72 -‬‬

‫‪--‬‬ ‫لما وضعت نظرية الرمزين وما يترتب عن تفاعلهما في الاتجاهين وما يوحد بينهما ليجعلهما‬ ‫رمزين كافيين الكلام في مهمتي الإنسان من حيث هو مستعمر في الأرض ومستخلفا فيها لم‬ ‫أكن أتوقع أنهما يصلحان في الحالتين أي في حالة تحقيق المهمتين بهما مقصورين على دورهما‬ ‫أم متجاوزين لهما تجاوزا موجبا أو سالبا‪.‬‬ ‫لم أكتشف انطباقهما على هذا العدوان على دورهما إلا خلال بحثي في البنية العميقة‬ ‫للنظامين السياسيين الثيوقراطي والانثروبوقراطي (أي الديموقراطي)‪ .‬وقد سميت هذه‬ ‫البنية العميقة باسم قرآني هو \"دين العجل\" الذي عبده بنو إسرائيل في غياب الرسول النبي‬ ‫موسى عليه السلام وبعداه يرمز إليهما‪ :‬معدن العجل وهو رمز العملة لأنه من الذهب‬ ‫وخواره وهو رمز الكلمة لأنه صوت دال‪ .‬والرمزان اللذان يغيران كل التصورات حول‬ ‫الاقتصاد والثقافة ويفهماننا طبيعة الثورة التي أحدثها الإسلام برفض ربا الأموال‬ ‫المصاحب للعملة عندما تصبح أداة سلطان على المتبادلين وربا الأقل المصاحب للكلمة عندما‬ ‫تصبح أداة سلطان على المتواصلين هما‪:‬‬ ‫‪ .1‬الرمز الذي يجعل التبادل ينتقل من المقايضة إلى التبادل بالعملة التي تتعين فيها‬ ‫القيم المادية تعينا مجردا يجعلها معبرة بصورة عامة عن قيم جميع البضائع والخدمات‪.‬‬ ‫‪ .2‬والرمز الذي يجعل التواصل ينتقل من الإشارة إلى العبارة أو التواصل بالكلمة التي‬ ‫تتعين فيها القيم المعنوية تعينا مجردا يجعلها معبرة بصورة عامة عن قيم التصورات‬ ‫والعلاجات‪.‬‬ ‫فهذان الرمزان هما‪ :‬العملة وسميتها رمز الفعل لأن ما يتبادله الناس هو أفعالهم أو‬ ‫ثمراتها والكلمة سمتيها فعل الرمز لأن التواصل هو تفاعل رمزي‪ .‬والتفاعل بين الرمزين‬ ‫من العملة إلى الكلمة أو من الكلمة إلى العملة يضفي على كل منهما بعض من صفات‬ ‫الثاني‪ .‬فالعملة يمكن أن تصبح أداة تواصل حيث ما كان تبادلا يصبح هدايا تعبيرا عن‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪1‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الصداقة‪ .‬والكلمة يمكن أن تصبح تبادلا حيث ما كان تواصلا يصبح وعودا تعبيرا عن ثقة‬ ‫التعامل أساس للقرض‪ .‬وهذه العناصر الأربعة المؤلفة من الرمزين وتفاعلهما‪:‬‬ ‫‪ .1‬رمز الفعل=العلمة للتبادل‬ ‫‪ .2‬فعل الرمز=الكلمة للتواصل‪.‬‬ ‫‪ .3‬وما أخذه الأول من الثاني أو الهدايا بين الأصدقاء والأحباء‪.‬‬ ‫‪ .4‬وما أخذه الثاني من الأول أو القرض الخدماتي الذي هو تعاون ينتظر المقابل في نفس‬ ‫الظرف كما يحصل في الأعراس والوفيات في المجتمعات القريبة من الطبيعة والإنسانية‪.‬‬ ‫‪ .5‬وتشترك كلها في أصل واحد هو وحدة كيان الإنسان المادي (علة التعمير وقيمه)‬ ‫والروحي (علة الاستخلاف وقيمه)‪.‬‬ ‫ومرة أخرى لا بد من رد الفضل لصاحبه‪ .‬فهذا صوغ نظري وضعته لترجمة نظرية ابن‬ ‫خلدون الذي شرح اسم كتابه بالصورة التالية‪ :‬سمى العمران البشري تنازلا للعيش في‬ ‫الحيزين المكاني والزماني لسد الحاجات بالتعمير‪ .‬والتنازل يعني المشاركة في المنزل‪.‬‬ ‫وسمى الاجتماع الإنساني تنازلا للعيش في نفس الحيزين الزماني والمكاني للأنس بالعشير‬ ‫بعد أن يكونا قد تضاعفا بفضل تفاعلهما لأن التعمير ينتج الثروة والاستخلاف ينتج‬ ‫التراث‪.‬‬ ‫ويكفي أن نترجم الأنس بالعشير بمعنييه في الأسرة وفي الجماعة بكونه جوهر التواصل‬ ‫الذي هو مفهوم التعارف الاستخلافي في القرآن (الحجرات ‪ )13‬وأن نترجم التعاون لسد‬ ‫الحاجات بكونه جوهر التبادل للخدمات والبضائع الذي هو مفهوم التعاون التعميري في‬ ‫القرآن (استعمركم في الأرض) حتى نستنبط من تفاعلهما ما استنبطته أي الهدايا‬ ‫والقروض بالمعنى غير الربوي وهو التبادل العيني كما في التعاون في البوادي في الاعراض‬ ‫والوفيات (كل الاجوار تشارك اهل العرس أو أهل الميت في كلفة الحدث والكل ينتظر‬ ‫المقابل عندما يحصل له مثلهما) وأن نعيد الأربعة إلى أصل واحد هم أن الإنسان لها حاجات‬ ‫عضوية ومطالب روحية‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪2‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ولا يخلص من الربا إلا هذا الحل في تمويل الاقتصاد‪ .‬وقد بينت أن الادخار الذي تستعمله‬ ‫البنوك استعمالا ربويا علته أنه ليس خاضعا لهذا المنطق في التعاون بين أصحاب النشاط‬ ‫الاقتصادي بمنطق التكامل وليس بمنطق التنافس والتكامل يخضع لمنطق التسابق في‬ ‫الخيرات‪ :‬تجويد المنتج بضاعة كانت أو خدمة وهي بالجوهر متكاملة إذ كل إنتاج يقتضي‬ ‫كل شروطه ومقتضى في كل مشروطاته‪ .‬لا يوجد إنتاج غنيا عما هو شرط فيه ويكون غيره‬ ‫مما هو مشروط فيه مستغنى عنه‪.‬‬ ‫ولذلك فكل نشاط بحاجة لنمو الأنشطة الشارطة له وتنمية الأنشطة المشروطة به‪.‬‬ ‫وبهذه الصورة ننتقل من التنافس على نفس النشاط الذي يجعل الاقتصاد خاضعا للتنافس‬ ‫أو لمنطق الصراع الجدلي إلى التسابق في الخيرات الذي يجعل الاقتصاد خاضعا للتسابق في‬ ‫الخيرات‪ :‬الكل ينمو بنمو ما قبله شرطا لنموه تكونا وما بعده شرطا لنموه تطورا كميا‬ ‫وكيفيا‪ .‬وهذا هو الحل الوحيد الذي يناسب معنى الاقتصاد في الرؤية القرآنية‪.‬‬ ‫وينطبق هذا المبدأ في انتاج القيم المادية بضائع وخدمات انطباقه في انتاج القيم المعنوية‬ ‫نظريات ومناهج في المعرفة وفي الذوق‪ .‬ومعنى ذلك أن التسابق في الخيرات يمكن أن يكون‬ ‫أكثر وضوحا في إنتاج الثقافة والتراث منه في انتاج الاقتصاد والثروة‪ .‬ذلك أن التكامل‬ ‫بين العلوم والفنون مثلا لا يخفى حتى على الاحمق‪ :‬ولولاه لاستحال أن تنمو العلوم‬ ‫والفنون وتطبيقاتهما وأن تتطور‪ .‬والتكامل لا ينفي التناقد لكنه يخضع لمنطق التواصي‬ ‫بالحق وليس لمنطق الاقتتال على الباطل‪.‬‬ ‫وذلك هو دور النظرية التي وضعتها‪ :‬اكتفيت بهذا الاستنباط ثم بإبداع مفهومين هما رمز‬ ‫الفعل أو العملة التي هي شرط التبادل وفعل الرمز أو الكلمة التي هي شرط التواصل‪.‬‬ ‫وبذلك أكون قد صغت المعاني التي اراد ابن خلدون علاجها بتصور \"خام\" فجعلتها ذات‬ ‫تصور فلسفي مجرد يمكن من تأسيس خلدونية جديدة‪.‬‬ ‫فما الجديد فيها؟ أولا أصبح بالوسع فهم دين العجل بوصفه البنية العميقة للثيوقراطيا‬ ‫والديموقراطيا التي أفضل تسميتها انثروبوقراطيا لأن اساس الحكم فيها كما تقول عن‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪3‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫نفسها هو الإنسان مثلما أن اساس الحكم في الثيوقراطيا كما تقول عن نفسها هو الله‪ .‬لكنهما‬ ‫في الحقيقة أبيسيوقرطيا أي حكم العجل‪.‬‬ ‫فما هو حكم العجل؟‬ ‫هذا مفهوم قرآني‪ :‬هو الحكم الذي يجعل أداة التبادل أداة سلطان على المتبادلين وهو‬ ‫سلطان ربا المال أو على البشر رمزه معدن العجل أو الذهب المسروق (من المصريين) يجعل‬ ‫أداة التواصل أداة سلطان على المتواصلين هو سلطان ربا الأقوال عليهم ورمزه خوار العجل‬ ‫الخداع السياسي‪.‬‬ ‫وربا الأموال هو سلطان القيم المادية أو مدى التأثير في إرادة الإنسان وحريته بالتأثير‬ ‫بما يمكن من سد الحاجات العضوية وما يتبعها وربا الأقوال هو سلطان القيم الروحية أو‬ ‫مدى التأثير في إرادة الإنسان وحريته بالتأثر ما يمكن من سد الحاجات الروحية وما يتبعها‪.‬‬ ‫ولا يمكن أن يؤثر صاحب السلطان الأول من دون الثاني ولا يؤثر صاحب السلطان الثاني‬ ‫من دون الأول‪.‬‬ ‫وإذن فهما متلازمان تلازم السلطة السياسية والسلطة الإيديولوجية في أي جماعة سواء‬ ‫كانت السلطة الأيديولوجية مستمدة من الدين إيجابا أو مما هو مستمد من نفيها وهي إذن‬ ‫منه سلبا في الفكر العلماني‪ .‬وأفضل مثال على ذلك العلمانية اليعقوبية الفرنسية‪ :‬فهي‬ ‫دينية سلبا بمعنى أنها كاثوليكية بالنفي‪ .‬ولذلك ففرنسا هي أقل بلاد الغرب الحديث‬ ‫ديموقراطية‪.‬‬ ‫وتحول أداة التبادل إلى سلطان على المتبادلين له نوعان من التجلي وهو جوهر فاعلية‬ ‫الثيوقراطيا والانثروبوقراطيا‪ :‬الربا الدنيوي عند الثانية والربا الأخروي عند الأولى‪.‬‬ ‫يعني جوهر سلطان إسرائيل أو الربا الدنيوي وجوهر سلطان إيران أو الربا الأخروي‪ :‬ربا‬ ‫وساطة الدنيا وربا وساطة الأخرى‪.‬‬ ‫لكن ما كان ذلك ليكفي لو لم يصحبه أيضا تحويل التواصل إلى سلطان على المتواصلين‪.‬‬ ‫فالإيديولوجيا الدنيوية في شكل الاعلام المغالط والملاهي هما أداة هذا السلطان في‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪4‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الانثروبوقراطيا والايديولوجيا الأخروية في نفس الشكل هما هذا السلطان في‬ ‫الثيوقراطيا‪ .‬ويشتركان في المخدرات والتسيب الجنسي‪.‬‬ ‫وكل هذه المعاني ما كانت لتصبح قابلة للفهم وخاصة للتناظر العجيب بين الثيوقرطيا‬ ‫والانثروبوقراطيا‪ .‬وهو ما تتبين طبيعته بمجرد استعمال نظرية الأبيسيوقرطيا (دين‬ ‫العجل) بوصفها البنية العميقة المشتركة بين الرؤيتين مع التأسيس الأخروي عند‬ ‫الثيوقراطيا والتأسيس الدنيوي عند الأنثروبوقراطيا‪ :‬إذن نفس الشيء من حيث آليات‬ ‫العلاقة بين الرمزين والسلطة المادية بربا الاموال والروحية بربا الأقوال‪.‬‬ ‫كل هذا سبق أن شرحته‪ .‬وهو ليس موضوعي في هذه المحاولة بل هم مقدمة‪.‬‬ ‫موضوعي هو ظاهرة أخرى أغرب من هذه‪ :‬كيف تسود العملة الزائفة والكلمة الكاذبة في‬ ‫المجتمعات التي من جنس المجتمعات التابعة كما هي حال أهل الإقليم الآن؟‬ ‫أو كيف تفسد القدرتين التبادلية والتواصلية وأدواتهما دنيويا وأخرويا‪.‬‬ ‫ولكي أيسر على القراء طبيعة المشكل الذي اريد علاجه فلينظروا في العملات العربية ‪-‬‬ ‫ولا تستثنون العملات العربية التي تعتبر عملات صعبة لأنها كذلك بسبب كونها في الحقيقة‬ ‫نتيجة صفقة الترجمة بترول دولار‪-‬بل انظروا في حدود التبادل‪Les termes de -‬‬ ‫‪-l'échange‬لتعلموا القصد ما سأتكلم فيه‪.‬‬ ‫فعملات البلاد العربية التي لها مفعول العملة الصعبة خدعة لأن ما ينبغي النظر اليه هو‬ ‫ما يضيع في بخس الخامات المصدرة وفي غلاء المستوردات حتى تعلم أن هذه العملات من‬ ‫حيث الفاعلية التبادلية لا تختلف كثيرا حتى عن الدينار التونسي الذي ليس له قابلية‬ ‫التبادل خارج تونس‪ .‬والمثال الثاني أوضح‪.‬‬ ‫وأبدأ هذا المثال بسؤال‪ :‬من يصدق كلام العرب؟‬ ‫وخاصة عندما يتواصلون في ما بينهم ناهيك عن كلامهم عندما يصبح عنتريات؟‬ ‫الآن أحدد ما سأتكلم فيه‪ :‬رأينا أن رمز الفعل (العملة) وفعل الرمز (الكلمة) يصبحان‬ ‫سلطانا على المتبادلين والمتواصلين مشكلي هو العكس‪ :‬كيف يفقدان وظيفتهما وسلطانهما؟‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪5‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫سنة ‪ 1971‬لما بعثت إلى فرنسا لمواصلة الدراسة كان الدينار التونسي يساوي دولارا وخمس‬ ‫اليوم الدولار يساوي ثلاثة دنانير‪ .‬ومعنى ذلك أن الدينار التونسي من دولار وخمس إلى‬ ‫ثلث دولار فإذا أضفت أن ما تصدره تونس جله خام وما تستورده محول فضلا عن التداين‬ ‫فإنها لا يمكن إلا أن تزداد غرقا في التبعية‪.‬‬ ‫فإذا نظرت الآن في كلام ساستها ونخبها فإن ما حصل في العملة يحصل أكثر منه في الكلمة‪.‬‬ ‫معنى ذلك حتى لو تعادلت الكلمة مع العملة فإن كلام الساسة والنخب هو في نفس النسبة‬ ‫بمعنى أن كلمة سياسيي تونس هي دون ثلث كلمة سياسيي أمريكا من حيث الصدق والفاعلية‬ ‫والتأثير في مجرى الأحداث حتى التونسية‪.‬‬ ‫ودافعي للكلام في المسألة كنت أجله دائما حتى قررت اليوم الشروع فيها لأني سمعت كلمة‬ ‫الرئيس اليوم‪ .‬فصاحب الحزب الذي ادعى أن له من النخب من يقدر على تسيير أربع دول‬ ‫كانت كلمته اليوم شبه تنصل مما حدث في مدة حكمه الذي قرب من نهايته ولم ينجز ‪ 1‬في‬ ‫المائة مما وعد عدا \"التجلميغ\" والضمار‪ .‬وإذن فعلينا أن نفهم‪:‬‬ ‫‪ .1‬دور العملة أو رمز الفعل بالأموال‪.‬‬ ‫‪ .2‬دور الكلمة أو دور فعل الرمز بالأقوال‪.‬‬ ‫‪ .3‬دور ما أخده التبادل من التواصل أخذا يضفي عليه بعضا من خاصية التواصل‬ ‫(الهدايا بين الناس)‪.‬‬ ‫‪ .4‬ودور ما أخده التواصل من التبادل أخذا يضفي عليه بعضا من التبادل (أعني التعاون‬ ‫العيني)‪.‬‬ ‫‪ .5‬ثم علاقة القيام العضوي بالقيام الروحي في الوجود الإنساني وهو أساس كل ما تقدم‬ ‫لأن أي فرد إنساني هو ثمرة التبادل العضوي والتواصل بين الكائنات الحية‪.‬‬ ‫ولا بد هنا من الإشارة إلى أمر عجيب‪ .‬فلو فرضنا أن البشرية بدأت بالقليل من البشر‬ ‫أي على الأقل زوجين اثنين رجل وامرأة فإن الفرد ذكرا كان أو انثى يقتضي دوريهما وكل‬ ‫واحد من أبنائه يقتضي دورين متقدمين على دور أبيه ودور أمه اللذين اشترط كل منهما‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪6‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫أبا وأما فكان كل منهما مشروط بزوجين اثنين ويكون مشروطا بأربعة وهكذا دوليك سوء‬ ‫أدبرنا أو أقبلنا‪ :‬في الحالتين نحن أمام متوالية هندسية‪ .‬ومن ثم فكل فرد يوجد في ملتقى‬ ‫متوالية هندسية مدبرة ومقبلة‪ .‬ما يعني أن كل فرد يتضمن في كيانه كل الإنسانية المتقدمة‬ ‫وكل من يليه يتضمنه في كيانه العضوي‪.‬‬ ‫والعجيب أن نفس هذه الظاهرة تنطبق على كيانه الروحي أو تراثه الحضاري‪ .‬فلا وجود‬ ‫للفرد من ثم إلى بوصفه هذا الملتقى في الإدبار والإقبال عضويا وروحيا‪ .‬والروحي متوالة‬ ‫اكسبوننسيال (متوالية القوى أو المتوالية القووية) وليست هندسية فحسب لأن العضوي‬ ‫يقتضي الزوجين في كل مرة ويتوالى بمقتضاها في حين أن الروحي يقتضي كل من أسهم في‬ ‫الإنتاج الرمزي سواء كان معرفيا أو ذوقيا أو تطبيقا للمعرفة أو تطبيقا للذوق مع التذكير‬ ‫بأن ذلك رهن التواصل بين الحضارات والجماعات وبأن الجميع يسهم في هذين الانتاجين‬ ‫حتى لو بدا غير مشارك‪.‬‬ ‫فالتراكم المعرفي والذوقي نوعان‪ :‬نوع نعلم من أبدعه وهو القليل والبعض الآخر يبدعه‬ ‫كل من يسهم في أي نشاط دون أن يعرف بكونه قد شارك في إبداعه الذي هو من جنس‬ ‫تراكم لا متناهي الصغر من التغير الذي يحصل‪ .‬مثال ذلك اكتشاف المأكولات مما تنتجه‬ ‫الطبيعة‪ .‬فلسنا ندري من اكتشفها وهي لا تكاد تكون متناهية‪ .‬والثابت أن ضحايا هذه‬ ‫الاكتشافات بالملايين‪ :‬فكم من مات خلال تجريب أكل نبتة قبل أن يصبح البحث العلمي ذا‬ ‫نظام يمنع مثل ذلك في الغالب وذلك بدافع حب الاطلاع أو الجوع فيموت لأن تلك النبتة‬ ‫سامة مثلا في بداية التاريخ الإنساني‪.‬‬ ‫ووجود الإنسان نوعان فردي وجمعي في جميع الحضارات وهما المحددان الأساسيان‬ ‫لوجوده ما يعني أن العضوي يبقى دائما مقدما على الحضاري‪ .‬ولا تصدقن من يزعم أن‬ ‫الفردية ظاهرة حديثة‪ .‬فهي ملازمة للأديان حتى لو سلمنا بأن الفلسفة اكتشفت الفردية‬ ‫حديثا‪ .‬وفي الحقيقة فما اكتشفته ليس الفردية التي هي قيام عضوي لا يحتاج للتقدم‬ ‫الموصل إليه لأنه شرط القيام الإنسان من أصله بل هي ابدعت الفردانية ولم تكتشفها‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪7‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ما اكتشفته الحداثة ظاهرة مرضية في حياة الجماعات وهي التي يمكن أن تقضي عليها‬ ‫لأنها تؤدي إلى أن الفرد يصبح رافضا للعطاء ويقتصر على الأخذ وأهم علاماته عدم‬ ‫تحمل كلفة «انتاج» الجيل الموالي عضويا وثقافيا لأنه يجعل نفسه غاية ولا يريد التضحية‬ ‫من أجل تواصل النوع‪ .‬فيصبح الجنس مطلوبا لذاته فحسب ولم يعد بحاجة للقاء الجنسين‬ ‫إذ يمكن أن يكتفي كل جنس بذاته (المثلية) بل حتى كل فرد بذاته (الاستمناء) ومثله‬ ‫كل المتع والحياة‪ .‬وتلك هي الفردانية وهي بداية الانتحار الجمعي وهي غير الفردية‬ ‫التي هي مناط الحرية والتكليف والمسؤولية في الأديان أو على الأقل في الإسلام‪:‬‬ ‫‪ .1‬وجود الإنسان متعين في الفرد شرطا في تواصل النوع أخذا من الطبيعة وعطاء للحياة‪.‬‬ ‫‪ .2‬وجود الإنسان متعين في الجماعة شرطا لتكون الأفراد الذين هم «اداة» الاخذ‬ ‫والعطاء المذكورين‪.‬‬ ‫والجماعة تتحد كأنها فرد عندما لا تصبح العملة والكلمة ذات سلطان على المتبادلين‬ ‫والمتواصلين فيها‪ .‬والفرد يتفكك وكأنه جماعة في حرب أهلية فيفقد وحدته عندما تصبح‬ ‫العلمة والكلمة أداتي سلطان عليه‪ :‬وتلك حال الإنسان بنوعيه عندنا حاليا‪.‬‬ ‫وسننظر في هذه الحالة بحسب أصناف النخب الخمس‪ :‬نخبة الإرادة أو الساسة ونخبة‬ ‫المعرفة أو الباحثين العلميين ونخبة القدرة أو المنتجين الاقتصاديين والثقافيين ونخبة‬ ‫الذوق أو نخبة الفنون والألعاب ونخبة الوجود أو الرؤى الوجودية دينية كانت أو فلسفية‬ ‫وكيف هم مع رمز الفعل وفعل الرمز‪.‬‬ ‫ويكون ذلك في الحالتين غير السويتين الموجودتين لأن الحالة السوية لا وجود لها كما بينت‬ ‫في أي مجتمع لأنها هي ما يطلبه الإسلام وما لم يحدد علماؤه كيفية جعله يصبح قابلا‬ ‫للتطبيق أي كيف يكون الاقتصاد من غير ربا الأموال وتكون الثقافة من غير ربا الأقوال‪:‬‬ ‫بل جعلهما سلطانا وفقدانهما السلطان‪.‬‬ ‫والغريب أن هذه الحالة هي أيضا مما عالجه ابن خلدون حتى وإن لم يكن بمقدوره صوغها‬ ‫مفهوميا لعدم وجود المفهومين اللذين وضعتهما لجعل ما تكلم عليه ابن خلدون يصبح مادة‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪8‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فكر فلسفي ولا يبقى مجرد حدوس خام لا تمكن من تجاوز ملاحظة الوجود دون تعليل‪:‬‬ ‫فصل خصصه للترف وآثاره الاقتصادية والثقافية‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪9‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫حتى لا أظلم النخب فلأضرب مثالا على المسؤولية الجماعية على الظاهرة التي سأصف‪.‬‬ ‫فالمثال هو مما يجري لدعاة كبار في السعودة كنا نسمع أن الواحد منهم له ملايين المتابعين‬ ‫في التويتر والفايس بوك وكل وسائل التواصل الاجتماعي‪ .‬لكنهم يسجنون ويعذبون ولا‬ ‫أحد من هذه الملايين يحرك ساكنا فاحتج أو تظاهر دفاعا عنهم‪.‬‬ ‫وهذا ‪-‬حتى وإن لم يكن كافيا لتعليل ما أنوي الكلام فيه‪-‬فهو يجعل من حق العلماء‬ ‫والمفكرين أن يخافوا وألا يضحوا بحيواتهم وراحة أسرهم من أجل شعوب ماتت فيها‬ ‫الرجولة والشهامة للدفاع عما يؤمنون به ونسوا قاعدة حزمة العصي‪ .‬وأحمد الله أني‬ ‫ليست داعية وليس لي متابعين حتى بالمئات‪ :‬شكرا لله‪.‬‬ ‫أعود إلى موضوعي‪ .‬لماذا لا بد من قراءة الظاهرة ببعديها الكوني الذي يتثمل في تحول‬ ‫العملة من أداة للتبادل والكلمة من أداة للتواصل إلى أداتين للسلطان على المتبادلين‬ ‫والمتواصلين والخصوصي الذي يجعل تفقد وظيفتها وحتى هذا الانتقال إلى أداتي سلطان‬ ‫إلا بتوسط العملاء المستبدين بالمستضعفين‪.‬‬ ‫ومعنى ذلك أن العملة والكلمة عند العرب تجتمع فيهما الظاهرتان‪ :‬فهما خاضعتان‬ ‫للانتقال من الأداة إلى السلطان عند من يحكم في حكامنا ونخبنا التي تخدم الخدام‬ ‫وسادتهم وإذن فهو انتقال يضيف إلى وظيفتهما سلطانا بهما وخاضعتان لسلطان بما ينقص‬ ‫منهما وليس بما يضاف إليهما‪ :‬فهو مع هناك هو إلا هنا‪.‬‬ ‫وهذا يتبين بظاهرة القرض الذي تحصل عليها المجتمعات التي يحصل فيها الانتقال‬ ‫السالب من اصحاب الانتقال الموجب وهذا القرض لم يعد مقصورا على فقراء العرب بل‬ ‫حتى اصحاب البترول صاروا يقترضون أولا لأن البترول فقد الكثير من قيمته وثانيا لأنهم‬ ‫دخلوا مغامرات كلفتهم الكثير فأصبحوا يقترضون‪.‬‬ ‫وطبعا القرض هنا ليس كما وصفته في الفصل الأول هو تحول التبادل إلى تواصل بفضل‬ ‫الثقة بين المستلف والمسلف بل هو بيع المسلف أصوله مقابل السلف وهو إذن تواصل بين‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪10‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫محتاج ومرابي‪ .‬ولما كان السلف يقع بعملة المرابي وكان المحتاج ليس له عملة مستقرة القيمة‬ ‫فهو يخضع إذن للنقلة السلبية التي وصفت‪.‬‬ ‫حمدت الله وشكرته لأني ليست داعية ولأنه ليس لي متابعين كثر حتى لا ألوم أحدا كما‬ ‫فعلت في كلامـي على علماء السعودية الذين يتابعهم ملايين وقت اليسر وينساهم أضعافهم‬ ‫وقت العسر‪ .‬لا أنتظر شيئا من أحد‪ .‬ولذلك فلست مدينا لأحد بضرورة التبسيط الذي‬ ‫اعتبره احتقارا لعقل المخاطب وإرادته التعلم‪.‬‬ ‫الظاهرة عسيرة ولا لوم على ما فيها من تعقيد‪ :‬المواطن العربي يخضع لمفعوم الإضافة‬ ‫الموجبة في عملة رب أربابنا أي من المستعمر بالإضافة الموجبة التي تنقل العلمة والكلمة من‬ ‫أداتين إلى سلطانين علينا بتوسط عملتنا وكلمتنا وبالإضافة السالبة التي تنقلهما إلى‬ ‫تغذيتنا بالورق عديم الرصيد والخطاب عديم الوزن‪.‬‬ ‫ويكفي أن أذكر القراء بما كانت عليه الليرة التركية‪ :‬أول مرة زرت تركيا منذ عشرين‬ ‫سنة تقريبا عجبت لكثرة الأصفار في علمتها‪ .‬ولست بحاجة لزيارة العراق أو سوريا لأعلم‬ ‫أن الدينار العراقي الذي كان يساوي ثلاث دولارات صار يساوي أقل من عشر من قيمة‬ ‫الدولار‪ .‬ودينار الجزائر قريب من ذلك‪.‬‬ ‫الظاهرة التي أريد وصفها وتشخيص ما يترتب عليها من أدواء في مجتمعاتنا ليست بعيدة‬ ‫عن أذهان الناس فالجميع يراها ويحرقه لظاها والمشكل ليس في الانتباه لوجودها بل في‬ ‫محاولة فهمها علما كما أسلفت وأن ابن خلدون تكلم عليها وعللها بفساد الأخلاق في المدن أو‬ ‫بسلوك المترفين عند شيخوخة الدول‪.‬‬ ‫سأتكلم على النخب بأصنافهم الخمسة المضاعفة‪ :‬نخبة الإرادة الحاكمة والمعارضة ونخبة‬ ‫المعرفة الطبيعية والإنسانية ونخبة القدرة الاقتصادية والثقافية ونخبة الذوق الفنية‬ ‫والرياضية ونخبة الرؤى الوجودية الدينية والفلسفية في البلاد العربية‪ .‬آخذها زوجين‬ ‫زوجين قبل الكلام على وحدة المحميات‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪11‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لماذا سميت الساسة من يحكم ومن يعارض ‪-‬في حالة التداول كلهما يمر بالوضعيتين‪-‬وفي‬ ‫حالة عدمه يكون التغيير حربا أهلية لأن التداول حتمي لكنه يكون خاضعا للقانون‬ ‫الطبيعي أي للتغالب ويمكن أن نصف النظام بكونه حينها حاكم متربص به‪ .‬وهذه هي حال‬ ‫العرب‪ .‬والتربص ليس بالضرورة من خارج الحكم‪.‬‬ ‫وهذا يحدث خاصة في الأنظمة القبلية الملكية أو في الأنظمة الفاشية العسكرية‪ .‬التداول‬ ‫يكون بالانقلاب الداخلي وغالبا ما يؤدي فيه السم والقتل والنساء الدور الأول‪ .‬وفي حالة‬ ‫وجود حام خرجي كحال العرب كلهم فإن له دورا في هذا النظام الخاضع للقانون الطبيعي‬ ‫مع شرعية شكلية للتداول الانقلابي‪.‬‬ ‫وفي هذه الوضعية ‪-‬القبلية الملكية والفاشية العسكرية‪-‬كيف يكون سلوك العملة والتبادل‬ ‫والكلمة والتواصل بين فكي الكماشة الخارجية وعلاقة الحكم ونخبه بالحامي وعلاتهما‬ ‫بالشعب أي بعملة الحامي وكلمته وبعملة البلاد وكلمتها‪ :‬أول ملاحظة هي صدق الأوليين‬ ‫مع الحامي وكذب الثانيتين مع الشعب‪.‬‬ ‫ومعنى ذلك أن الحكام ونخبهم تكون لهم سياسة الخضوع للحامي عملته وكلمته في دورهما‬ ‫السلطاني الموجب أي الفاعل حقا مع دورهما الأداتي العادي وسياسة الاخضاع للشعب‬ ‫وعملته وكلمته في دورها السلطاني السالب أي المنفعل حقا‪ :‬كل يوم الشعب يخسر قيمة‬ ‫عملته وقيمة كلمته‪.‬‬ ‫وكانت القبائل الملكية والفاشيات العسكرية قد حاولت اخفاء هذه الظاهرة بما يشبه‬ ‫دولة الحضانة الكفافية بمعنى سياسة التعويض في المواد الأساسية التي تعتبر الشعب مثل‬ ‫الحيوانات يكفيه \"العلفة\" الدنيا أي الكفاف الدي يلامس حياة المجاعات في الشعوب العاطلة‬ ‫والتي لا تنتجه شيئا بل تستورده‪.‬‬ ‫فعندما تعلم أن الجزائر التي مساحتها تكاد تساوي مساحة الاتحاد الأوربي قبل توسيعه‬ ‫تستورد أكثر من ‪ 90‬في المائة من غذائها وأن العراق الذي فيه النهران يستورد أكثر من‬ ‫ذلك وقس عليهما جل بلاد العرب تعلم أن ذلك لا يمكن أن يكون وليد الصدفة أو ناتجا‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪12‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫عن كسل طبيعي لأن هذه الشعوب كانت تصدر في زمن لم يكن فيه تقدم تقني يساعد في‬ ‫الزراعة‪.‬‬ ‫ففرنسا مثلا استعمرت الجزائر سنة ‪ 1830‬بمناسبة حادثة استغلتها للهجوم عليها والمناسبة‬ ‫هي أن داي الجزائر طالب سفير فرنسا بدفع ما على فرنسا من دين مقابل ما استوردته من‬ ‫قموحها‪ .‬وحتى تونس كانت تعتبر مطمورة روما‪ .‬فماذا حدث حتى تنقلب العلاقة فيصبح‬ ‫العرب يستوردون قوتهم؟‬ ‫ولا يمكن أن نعلل ذلك بفساد الحكام ونخبهم فحسب رغم عدم نكران ذلك‪ .‬ولكن العلة‬ ‫أعمق‪ .‬فالفساد المقصود عند الكلام على الحكام هو فساد الذمة السياسية والخلقية في ما‬ ‫يتعلق بالعملة والكلمة‪ .‬وهذا لا شك فيه‪ .‬لكن الظاهرة التي أشار إليها ابن خلدون أعمق‬ ‫وتفسر أكثر ما عليه الشعوب ذاتها أيضا‪.‬‬ ‫ويتعلق الأمر بما يحصل في الثقافة العامة وفي إرادة الشعوب وأخلاقها بسبب ما ينغرس‬ ‫في نفوسها وأرواحها من أثر التربية والحكم العنيفين وسمى ذلك فساد معاني الإنسانية‬ ‫الذي يؤدي لانقراض الشعوب في التاريخ لما تفقد خمس صفات هي عين ما تعاني منه‬ ‫الشعوب وبدأت تثور عنه في لحظتنا‪.‬‬ ‫يقول ابن خلدون في الفصل ‪ 40‬من باب المقدمة السادس في \"فساد معاني الإنسانية\" الذي‬ ‫ما يزال مسيطرا على الكثير من شعوبنا وخاصة التي لم تشرع بعد في ثورة ربيع الإقليم‪\":‬‬ ‫ومن كان مرباه بالعسف والفهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم‪:‬‬ ‫‪ .1‬سطا به القهر وضيق على النفس فيا انبساطها وذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل‬ ‫(الخمول)‪.‬‬ ‫‪ .2‬وحمل على الكذب والخبث وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفا من انبساط‬ ‫الأيدي بالقهر عليه (النفاق)‪.‬‬ ‫‪ .3‬وعلمه المكر والخديعة لذلك وصارت له هذه عادة وخلقا (دهاء الضعفاء)‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪13‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .4‬وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمدن وهي الحمية‬ ‫والمدافعة عن نفسه أو منزله وصار عيالا على غيره في ذلك‬ ‫‪ .5‬بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل فانقبضت عن غايتها‬ ‫ومدى إنسانيتها فارتكس في أسفل سافلين\"‪.‬‬ ‫هذا من حيث البعد التربوي ثم يأتي بعد الحكم‪\" :‬وهكذا وقع لكل أمة حصلت في قبضة‬ ‫القهر ونال منها العسف واعتبره في كل من يملك أمره عليه ولا تكون الملكة الكافلة له رفيقه‬ ‫به‪ .‬وتجد ذلك فيهم استقراء‪ .‬وانظره في اليهود وما حصل بذلك فيهم من خلق السوء حتى‬ ‫إنهم يوصفون في كل أفق وعصر بالخرج ومعناه في الاصطلاح المشهور التخابث والكيد وسببه‬ ‫ما قلناه\"(‪ )..‬ومن كلام عمر رضي الله عنه \"من لم يؤدبه الشرع لاأدبه الله\" حرصا على‬ ‫صون النفس عن مذلة التأديب\"‪.‬‬ ‫لا أعتقد أنه يوجد قارئ يشك في أن هذا الوصف مطابقة شديد المطابقة لحال الشعوب‬ ‫الكسلى الخاضعة للمستبدين والفاسدين‪ .‬لذلك فحيرتي أمام ما يزعم أن الشيخ الفلاني‬ ‫يتابعه مليون أو مليونان ومن سجن ظلما من أمير أحمق لم تسمع لأي منهم صوتا‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪14‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫بدوت في كلامي على نخبة الإرادة الحاكمة والمعارضة وكأني ابرر سلوكها بخمول الشعوب‬ ‫فاحمل الشعوب مسؤولية أكبر من مسؤوليتهم معتبرا سكوت الشعوب المسؤول الأول عن‬ ‫الوضعية‪ .‬والقرآن نفسه يبدو ميالا إلى هذا الموقف لأن تدمير القرى لا يعني المترفين‬ ‫وحدهم فيعاقبهم بل هو يعاقب الجماعة كلها‪.‬‬ ‫ولما كنت لا أعتقد أن الله ظلام لعباده فإني أردت أن أفهم علة ذلك‪ .‬وقد تبين لي أنه‬ ‫لا يوجد نظام تربية ونظام حكم يبدآن عنيفين بل هما يتطوران بالتدريج ليصبحا كذلك‪.‬‬ ‫ولهذا التطور مساران متناسبان عكسيا‪ .‬فعنف التربية والحكم ينمو بقدر ما يضمر في‬ ‫الشعوب الحرص على بقاء حقيقة الإنسان‪.‬‬ ‫ومعنى ذلك أن ربو العنف في التربية والحكم متناسب عكسيا مع ضمور حقيقة الإنسان‬ ‫التي يعرفها القرآن كما صاغها ابن خلدون \"رئيس بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق‬ ‫له\"‪ .‬ولذلك استنتج ابن خلدون من ظاهرة العنف ما هو في آن نتيجة وعلة أي الصفات‬ ‫الخمس التي تعرف \"فساد معاني الإنسانية\" كما بينا‪.‬‬ ‫وهذه الصفات‪:‬‬ ‫‪ .1‬الكسل‬ ‫‪ .2‬النفاق‬ ‫‪ .3‬المكر والخديعة‬ ‫‪ .4‬الخضوع للأقوياء‬ ‫‪ .5‬فقدان طلب الخلق الحميد وتحول ذلك إلى طبيعة ثانية وهو أسفل سافلين وقد‬ ‫وقع خطأ في ذكرها إذ جمعت الصفتان الاخيرتان معا في الفصل السابق‬ ‫هي مراحل الضمور في الرئاسة بالطبع التي للإنسان بمقتضى الاستخلاف‪.‬‬ ‫أي إن الضمور في معاني الإنسانية يؤول إلى ما وصفه ابن خلدون بمفهوم قرآني صريح‪:‬‬ ‫'فعاد أسفل سافلين\" وهو مفهوم الخسر الذي يلي خلق الإنسان في أحسن تقويم‪ .‬فيتبين أن‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪15‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫التحليل الخلدوني يعني في نفس الوقت تشخيصا للداء وإشارة إلى علاجه‪ :‬نعلم أن شروط‬ ‫الاستثناء من الخسر هو مضمون سورة العصر‪.‬‬ ‫وهذا الضمور في معاني الإنسانية ينتهي بإفقاد الإنسان جدارة الاتصاف بالخلافة التي‬ ‫هي منزلته الوجودية‪ .‬يفقد منزلته الوجودية فيصبح طالبا الانتحار أو العيش بـ\"حياة\"‬ ‫وليس بالحياة‪ .‬يقول ابن خلدون لم نتدبره‪ :‬في الفصل ‪ 24‬من باب المقدمة الثاني عند‬ ‫كلامه على مآل الأمة المغلوبة إلى الفناء‪ \":‬وفيه (تعليل فناء المغلوب) والله أعلم سر آخر‬ ‫وهو أن الإنسان رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له‪ .‬والرئيس إذا غلب على‬ ‫رئاسته وكبح عن غاية عزه تكاسل حتى عن شبع بطنه وري كبده‪ .‬وهذا موجود في أخلاق‬ ‫الأناسي ولقد يقال مثله في الحيوانات المفترسة وإنها لا تسافد إذا كانت في ملكة‪ .‬فلا يزال‬ ‫هذا القبيل المملوك عليه امره في تناقص واضمحلال إلى أن يأخذهم الفناء‪ .‬والبقاء لله‬ ‫وحده‪ .‬واعتبر ذلك في أمة الفرس كيف كانت قد ملأت العالم كثرة (‪ )....‬ولما تحصلوا‬ ‫في ملكة العرب وقبضة القهر لم يكن بقاؤهم إلا قليلا\"‪ .‬والفناء ليس بالضرورة عضويا بل‬ ‫هو من حيث الهوية والحضارة‪.‬‬ ‫ومعنى ذلك أن الفرس لم ينقرضوا عضويا حتى وإن كان ذلك ما قد يفهم من كلام ابن‬ ‫خلدون بل كهوية حضارية وهو ما يحدث في جل مستعمرات الغرب التي فقدت هوياتها‬ ‫وثقافاتها وصارت تتكلم لغات المستعمر‪ .‬ومشكلهم مع الإسلام هو أنه هوية متعالية على ما‬ ‫يمكن أن \"يقتله\" المستعمر ذلك هو سر قوة الأمة‪.‬‬ ‫فهو لم يلغ لغات الشعوب التي أسلمت ولا ثقافاتهم الخصوصية بل غير معتقداتهم وقيمهم‬ ‫دون أن يمس مكوناته هوياتهم التي تعبر عن الخصوصيات والتنوع غير المتنافي مع الكليات‬ ‫القيمية التي هي مقومات المنزلة الوجودية التي تعرف الإنسان بوصفه \"رئيسا بالطبع‬ ‫بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\"‪.‬‬ ‫وهذا التمييز ضروري لأن ابن خلدون اكتفي بما لا يثبته التاريخ‪ .‬فعدد الفرس لم‬ ‫ينقص بعد الفتح عضويا بل ما نقص هو التماهي بين الخصوصيات الفارسية والهوية ما جعل‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪16‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الفارسي يمكن أن يكون أكثر إسلاما من العربي بل وأكثر مشاركة في ثقافة الإسلام‬ ‫وحضارته من العربي‪ .‬ومثله بقية شعوب الأمة‪.‬‬ ‫ويمكن القول إن ابن خلدون تدارك هذا الخطأ عندما بين نوعي محاكاة المغلوب للغالب‪.‬‬ ‫فالمحاكاة يمكن أن تكون للخصوصيات ويمكن أن تكون للكليات‪ .‬ففي الأول خطأ في تحديد‬ ‫مصدر قوة الغالب‪ .‬وفي الثانية صواب لأن المحاكي عندئذ لا يحاكي الغالب في خصوصياته‬ ‫بل في المشترك الإنساني أي سر القوة‪.‬‬ ‫وسر القوة واحد‪ .‬ولأضرب مثالا‪ :‬باشوات مصر حاكوا نمط عيش الأوروبيين أي ثمرة‬ ‫عملهم دون عملهم‪ .‬مثلا يبنني قصرا مثل الأوروبي بمهندسين أوروبيين‪ .‬استورد الثمرة‬ ‫ولم يتعلم فعل الإثمار‪ .‬الياباني في نفس الوقت تقريبا‪ .‬لم يستورد الثمرة بل تعلم الإثمار‪.‬‬ ‫ولنفهم ذلك فلنقارن مصر باليابان‪.‬‬ ‫فشروط الإثمار كونية‪ :‬لا يمكن أن تثمر شيئا من دون علم وتقنية‪ .‬والعلم التقنية ليس‬ ‫فيهما محاكاة إلى شكليا يجعل الإنسان تابعا دائما لم يبدع بل لا بد من تعلمهما بطرق‬ ‫تعلمهما وهي أيضا كونية‪ .‬تعلم الرياضيات عند أمريكي مثلا ليس بتعلم خصوصية الكتابة‬ ‫من اليسار إلى اليمين مثلا بل بتعلم المنطق الرياضي وهو الكوني دون ولا محاكاة فيه إلا‬ ‫للحمير‪.‬‬ ‫ولذلك بقي حكام العرب من أكثر شعوب الأرض استحمارا لشعوبهم‪ .‬فيمكن أن نجعل‬ ‫مدننا أكثر \"حداثة\" من مدن الغرب باستيراد المواد والخطط الجاهزة ومن ثم فلا وجود‬ ‫لتعلم خلال العمل إذ حتى العمل العادي يقوم بها عبيد مستوردين هم بدورهم‪ .‬وهذا‬ ‫ممكن الآن ما دام عندنا ما نبيع ورثه العربي عن جدوده ولا يد له في وجوده‪ .‬لكن شعوبنا‬ ‫تبقى بدوية وليست حديثة لسببين‪:‬‬ ‫‪ .1‬أولا كل العمران مستورد وليس ثمرة عمل شبابنا‪.‬‬ ‫‪ .2‬ثانيا نستورد ما يوفر العمل لشباب الغرب والبطالة لشبابنا‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪17‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فلا نتعلم شيئا أبدا عدى العادات الاستهلاكية الفاسدة التي تسد حاجة الترف حتى صرنا‬ ‫عاجزين عن انتاج الضروري للحماية والرعاية ناهيك عن الكمالي‪ .‬وأكبر الأدلة على‬ ‫ذلك أنا جامعات الطب عندنا بعد قرن من تكوينها ما تزال دون التمريض البدائي بدليل‬ ‫أنه لا يوجد غني واحد وخاصة حاكم واحد يتداوى في بلاده‪ .‬وقس عليه كل شيء‪ .‬فجميع‬ ‫إنتاجنا التقليدي وئد ‪-‬بقي وجهه السياحي الفلكلوري‪-‬ولم يعوضه ما يستحق الكلام عليه‪:‬‬ ‫فضلات ما تجاوزه الغرب‪.‬‬ ‫وعندما تستورد ثمرة عمل غيرك فأنت تستورد معها بطالة شبابك وتصدر العمل إلى‬ ‫شاب من تسترود ثمرة عمله‪ .‬فلم يبق لك إلا دفع مقابل مضاعف‪:‬‬ ‫‪ .1‬بيع خامك بأبخس ثمن‬ ‫‪ .2‬تخفيض مستوى عيش شعبك بالتدريج وهو ما يجعل عملتك تتآكل ومثلها كلمتك‪.‬‬ ‫والقصد بالكلمة هنا وزن موقفك ومنزلتك السيادية في العالم‪.‬‬ ‫وهذا هو قصدي بفكي الكماشة التي يمثلها انتقال العملة والكلمة من أداة تبادل وتواصل‬ ‫إلى أداة سلطان على المتبادلين والمتواصلين‪:‬‬ ‫‪ .1‬سلطان موجب أي فاعل عند من نستورد منه ثمرات عمله‬ ‫‪ .2‬سلطان سالب أي منفعل عندنا بما يحصل من تآكل في العملة وفي الكلمة ونتيجتها‬ ‫التبعية البنيوية في المحميات‪.‬‬ ‫وسأستعمل مفهوما قد يظنه البعض مفارقيا ‪-‬بارادوكسال‪-‬لكنه حقيقة اقتصادية لا شك‬ ‫فيها‪ :‬الربا السلبي أو نقص رأسمال المال بدل ربوه عند المستضعف والذي هو في العادة مادة‬ ‫خام وعمل الشعوب‪ .‬فالربا عادة هو ما يدفع مقابل استعارة المال في تعينه كعلمة ‪-‬الذهب‬ ‫كان سابقا‪-‬أجرا لاستعماله من قبل المستثمر أو المستهلك لما لا يملك ويعد برده مع الفائدة‬ ‫في المستقل بضمانات وهو رهن لها‪.‬‬ ‫وهذا المفهوم ‪-‬الربا السلبي‪-‬هو من جنس هذا الربا الموجب في معناه العادي المتعلق‬ ‫بفائدة القرض المضمون برهن ما يملكه المستعير لدى البنك المعير لم يعد خافيا وجوده‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪18‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫عند من يحلل وضعية البلاد العربية التي هي محميات وشعوبها التي هي مستعبدة مرتين‬ ‫من المستبعد ومن عميله‪ .‬ما معنى كونه سلبيا؟‬ ‫في الربا الموجب الذي ينبني عليه الاقتصاد الحديث كله عادة ما يكون القرض منتجا‬ ‫بصورة تمكن بإرجاعه مع فوائده بفضل ما يثمره الاستثمار الذي مول به‪ .‬وهو بنحو ما‬ ‫رهن بعض المستقبل من أجل بعضه الباقي بعد رد القرض الذي مول الاستثمار‪ .‬لكن ما‬ ‫يجري في الربا السلبي هو أنه يحقق عكس ذلك‪ .‬ويصح تسميته ربا سلبيا بالمعنى التالي‪:‬‬ ‫‪ .1‬فالربا الموجب هو الفائدة وهي ربو بمعنى زيادة قيمة رأس المال الذي يعيره‬ ‫المستعمر القوي للمحميات الضعيفة‪.‬‬ ‫‪ .2‬والربا السالب هو الخسارة وهي ربو بمعنى نقصان قيمة رأس المال الذي يسدد ما‬ ‫استعير مع فائدته‪.‬‬ ‫ذلك أن سداد الربا في بلادنا‪-‬رأس المال وفائدته‪-‬ليس ثمرة الاستثمار إذ لا يوجد‬ ‫استثمار بل من يدفعه هو البلاد والعباد بما يصيب ما تصدره ومستوى المعيشة من تدن‬ ‫دائم‪ .‬فالبلاد تدفعه ببيع الخام الذي تتدنى قيمته بسورة نسقية ومطردة ‪-‬بعبارة تناظر‬ ‫قيم التبادل‪- Termes de l'échange‬وتدني مستوى معيشة المواطنين بالتضخم وفقدان‬ ‫العملة لقيمتها‪.‬‬ ‫وهو ما يعني أن القرض ليس للتنمية بل هو لتمكين الحكام ونخبهم من سرقة شيء لأن‬ ‫حاميهم لا يبقي لهم شيئا آخر لسرقته إذ هو يسرق الخام بأبخس سعر والخدمات التي يتحاج‬ ‫إليها وحتى النخب التي تكون في المحميات والتي تهاجر إليه لسد حاجاته في المجالات التي‬ ‫تنقصه فيها يد عاملة عامة أو مختصة‪.‬‬ ‫فحرص فرنسا مثلا على فرض تعليم الفرنسية على العملاء الذين تحميهم لحكمنا ليس‬ ‫بهدف تعليم شبابنا‪ .‬فمن يتعلم حقا لا بد أن يجعل لغته ناطقة بالعلوم وإذا اختار لغة‬ ‫مساعدة فليختر أفضلها أداء لهذه المهمة التي لم تعد الفرنسية قادرة عليها‪ .‬هدف فرنسا‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪19‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لا علاقة له بالعلم بل هو هدف استعماري مضاعف فضلا عن الوظيفة الإيديولوجية‬ ‫لسردياتها الشوفينية‪:‬‬ ‫‪ .1‬أولا حتى يستهلك المغربي فرنسيا في اقطاره الأربعة‪-‬تونس والجزائر والمغرب‬ ‫وموريتانيا‪.‬‬ ‫‪ .2‬حتى تمول هذه البلاد من يسد حاجة فرنسا دون كلفة فتملأ الاختصاصات التي‬ ‫تشكو نقصا ديموغرافيا‪.‬‬ ‫فالتقدم التقني قد يغني عن اليد العاملة العادية لكنه لا يمكن أن يسد الحاجة في الكثير‬ ‫من الخدمات وخاصة التي لها صلة بهذا التقدم التقني والعناية بالصحة وبكبار السن‬ ‫إلخ‪ ...‬وهؤلاء يحتاجون لمن يعوض النقص الديموغرافي في الأجيال الشابة وهو ما يمكن‬ ‫أن يستعاض فيه بالمهاجرين المنتخبين للغرض‪.‬‬ ‫وختاما فهذا الربا السلبي هو في الحقيقة سداد لما يحتاج إليه العملاء لسرقته وصبه في‬ ‫بنوك سويسرا وبروكسال لأن حاميهم لم يبق لهم ما يسرقونه ولا ما يستثمرونه في البلاد‬ ‫التي يحكمونها عدا ما يحتاجون إليه من أسلحة لإخضاع الشعوب‪ .‬فما يبقيه ترومب للأمير‬ ‫الأحمق ليس كافيا ولابد من الاقتراض‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪20‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫تردي قيمة العملة وقيمة الكلمة هما علامتا فقدان السيادة التي تتألف من القدرتين‬ ‫على الحماية والرعاية وهي تتعين خاصة في من يعتبرون ممثلي لإرادة الجماعة أعني‬ ‫النخبة الحاكمة والمعاركة‪ .‬ومعنى ذلك أن مجالي السيادة يتحددان بفاعلية الرمزين رمز‬ ‫الفعل أو العملة وفعل الرمز أو الكلمة‪.‬‬ ‫وهذه هي الثمرة الأولى للنظرية التي وضعتها للانتقال من الخلدونية الأولى إلى‬ ‫الخلدونية الثانية‪ .‬وفي الحقيقة فابن خلدون اشار إلى أن الدول تتعين سيادتها في قوتين‪:‬‬ ‫المال رمزا لثروة الجماعة وقوة الجيش رمزا لقوة العصبية الحاكمة‪ .‬وهذا التعريف أولي‬ ‫ولا يمكن من بيان ضروب تعين السيادة فيه‪.‬‬ ‫وغياب البيان مضاعف‪ :‬من حيث شروط تحقق هذين العاملين ومن حيث تجلي فاعليتهما‪.‬‬ ‫لذلك فنظريتنا تحل هذين المشكلين‪ :‬فالشرط المادي لقوة الدول تتعين في فاعليتها التي‬ ‫هي من طبيعة اقتصادية وعلامتها رمز الفعل أو العملة‪ .‬والشرط الروحي لقوة الدول‬ ‫تتعين في فاعليتها التي هي من ثقافية وعلامتها فعل الرمز أو الكلمة‪ .‬والكلمة هنا قوة‬ ‫روحية بمعنى أنها مصداقية ما تقوله القوة السلطة الممثلة لإرادة الجماعة المعبرة بحق عن‬ ‫قدرتها‪.‬‬ ‫ومصداقية الإنسان فردا كان أو جماعة وبالتالي الدول هي اعتقاد السامع أن كلمته‬ ‫تعبر عن قدرة فعلية بمعنى أن المتكلم قادر على تحقيق ما يقول وليس عن عنتريات بمعنى‬ ‫أن كلامه القادر فعل وليس هواء‪ .‬ومن هنا فالمسألة التي تتعلق بالكلام في علاقته بالفعل‬ ‫وبالعملة في علاقتها بالربا يمثلان أهم جريمتين في الإسلام‪ :‬كبر مقتا واعلان حرب‪.‬‬ ‫فأكبر مقت عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون‪ .‬والله يعلن الحرب على الربا‪ .‬وليس ذلك‬ ‫مجرد كلام‪ .‬فهما علامتا فقدان الإنسان حقيقته بوصفه\" رئيسا بطبعه وبمقتضى الاستخلاف‬ ‫الذي خلق له\" أي إنه يفقد حريته بالرب او يفيد كرامته بالقول الذي لا يطابقه فعل أي‬ ‫إن كلامه هواء لا يأخذه أحد بعين الاعتبار‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪21‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ولا أحتاج لطويل كلام حتى أثبت ذلك بالنسبة إلى النوع الأول من النخب أي الحكام‬ ‫والمعارضين العرب‪ .‬فكلامهم هذر وثرثرة لا يوليه أعداء الأمة أدنى قيمة أو أهمية‪.‬‬ ‫وعملتهم أوراق لا قيمة لها وهي وسيلة الافقار المتواصل للمتعاملين بها لأنها كما وصفتها ربا‬ ‫سالبا وتبخيسا للعمل وقتلا للإبداع‪.‬‬ ‫فيكون الحكم \"كبر مقتا\" و\" الحرب على الربا\" علته أنهما دليل فقدان الإنسان حقيقته‬ ‫أو جدارة المنزلة الوجودية التي يوليها إليه الله أعني مهمتيه‪ :‬تعمير الارض والاستخلاف‬ ‫فيها‪ .‬فمن كلامه ليس فعلا إما منافق أو عاجز وهما علامتا فقدان الشهامة والكرامة‪.‬‬ ‫وتصحبه الصفة الثانية‪ :‬عملته ليست فعلا‪.‬‬ ‫ما سأتكلم فيه بعد نخبة الإرادة هو نخبة المعرفة‪ :‬الأولى يتقدم فيها الاقتصادي على‬ ‫الثقافي أو العلمة على الكلمة‪ .‬الآن العكس تماما‪ .‬الثقافي متقدم على الاقتصادي والكلمة‬ ‫على العملة‪.‬‬ ‫والسؤال‪ :‬ما الذي يجعل نخبة المعرفة العربية مفلسفة معرفتها كلام لا يفعل وعملة لا‬ ‫تصرف؟ كيف نفهم ذلك؟‬ ‫أذكر بأني اعتبرت كل صنف من أصناف النخب الخمسة مضاعف‪ :‬نخبة الإرادة حاكمة‬ ‫ومعارضة متداولين سلما أو حربا ومثلها نخبة المعرفة فهي طبعية وإنسانية ونخبة القدرة‬ ‫هي اقتصادية وثقافية ونخبة الذوق فنية ورياضية (الألعاب عامة بدنية كانت أو فكرية)‬ ‫ونخبة الرؤى دينية وفلسفية‪.‬‬ ‫ولا يوجد غير هذه الأصناف‪ .‬فهو تعريف حصري جمعا ومنعا اللهم إلا إذا ضاعفناها‬ ‫بالأشباه منها والتي هي سمياتها من دون أن يكون لها مسمياتها بل وقد تكون هي بدورها‬ ‫أسماء دون مسميات بمعنى أنها أشباه مثل النخبة الأولى التي في غياب السيادة ليست ممثلة‬ ‫للإرادة والسياسة حكما أو معارضة‪.‬‬ ‫حتى لا أكون متحنيا على أحد من نخب المعرفة سأعلن من البداية أني استثني من‬ ‫الانتساب إليها من اعتبرهم من الكاريكاتورين التأصيلي والتحديثي‪ .‬فمن يتصور تكرار‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪22‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ماضينا أو تكرار ماضي العرب ليس من النخبة أصلا بل هو ببغاء‪ .‬ولا أريد أن أتكلم على‬ ‫الببغاوات‪ .‬كلامي يتعلق بالأفعال لا بثمراتها‪.‬‬ ‫أفعال الفكر المعرفي كونية وهي واحدة‪ .‬ثمرات الأفعال لها خصوصيات ظرفها‪ .‬وهي لا‬ ‫تعنيني‪ .‬ومعنى ذلك أن أفعال الفكر حتى لو كان يؤرخ للفكر كونية لا فرق بينها وهي‬ ‫تعمل في إطار انساني كوني وكل من يردها إلى الخصوصيات فهو يتكلم على ظرفيات‬ ‫حصولها أو ظرفيات موضوعاتها‪.‬‬ ‫فظرفيات حصول المعرفة وظرفياتها موضوعاتها كلتاهما خصوصية بمعنى أنها تنتسب إلى‬ ‫لحظة معينة من التاريخ ومكان معين من الجغرافيا‪ .‬ولا أنفي أن لهذه الظرفيات تأثيرها‬ ‫في صبغ المعرفة بالخصوصي الذي هو ما تتميز به ظرفياتها التي تضفي الطابع العيني‬ ‫للأحداث المعرفية وتنسبها إلى أشخاص معينين‪.‬‬ ‫لكن لا أحد من هؤلاء الأشخاص ينفذ إلى المعرفة من حيث هي علم أو من حيث هي طلب‬ ‫للقوانين الكلية في الموضوع الذي تدرسه إذا لم يكن حائزا على أدوات كلية ومناهج كونية‬ ‫هي التي تحدد ما به يكون العلم علما‪ .‬وهذين النوعين الأدوات والمناج متوارثة بين‬ ‫الحضارات لأنها ثمرة عمل الإنسانية كلها‪.‬‬ ‫وليكن مثالي مفارقيا مرة أخرى‪ :‬فكل الذين يتكلمون على الخصوصيات في معركة‬ ‫دونكيشوتية أدواتهم التحليلية ومناهجهم العلاجية أزعم أنها من مبتذل الكليات التي‬ ‫يعلمها حتى المبتدئون‪ .‬فإذا قلت مثلا إن ما يميز الفكر العربي والإسلامي هو التداولية‬ ‫فهذا يسمى بالعكس \"كذبة لاباليس\"‪.‬‬ ‫فأولا لا يوجد فكر‪-‬وخاصة إذا كان دينيا أو فلسفيا‪-‬لا يكون تداوليا ثم إن كل من يقرأ‬ ‫أرسطو أو أفلاطون سيجد أن ذلك هو أبرز خاصية في الفكر اليوناني‪ .‬وليس في ذلك أدنى‬ ‫خصوصية عربية أو اسلامية‪ .‬والعلة بسيطة‪ :‬الفكر بالجوهر تداولي حتى لو كان المفكر‬ ‫موجودا وحده في صحراء قاحلة‪.‬‬ ‫سيضحك البسطاء زاعمين‪ :‬كيف لمن هو \"متوحد\" في الصحراء أن يتداول؟ مع من؟‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪23‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الجواب بسيط‪ :‬كل لحظة تالية في حياة الإنسان هي تداول مع اللحظة السابقة تذكرا‬ ‫ومراجعة وخصومة مع الذات وخاصة إذا كانت الذات ليست خاملة وتحاول بما يسمى‬ ‫الاستبطان فهم \"تواصل\" تيار فكرها والسعي لتوحيده‪.‬‬ ‫ولا يرد ذلك إلى أحوال النفس بل هو الخاصية الجوهرية لكون الإنسان ناطقا‪ .‬فاللغة‬ ‫لا تستمد التداولية من ثقافة شعب من الشعوب بل هي عين التداولية وهي تواصلية ولا‬ ‫يوجد تواصل بدون تداول وهو ليس تدولا بين الأحياء ودهم بل هو تداول أيضا بنيهم‬ ‫وبين الأموات‪ .‬ولولا ذلك لما وجد تراث متراكم‪.‬‬ ‫ولهذا سميت القول بالتدوالية خصوصية لفكرنا \"كذبة لا باليس\" عادة الكلمة هي حقيقة‬ ‫لاباليس عندما يتكلم المرء عما هو خال من اي سر ومعلوم للجميع‪ .‬لكن كذبة لا باليس هي‬ ‫لما يتكلم المرء كلاما نافيا لما هو حقيقة لا باليس‪ .‬كل الثقافات تداولية لأن اللغة تواصل‬ ‫مساوق ومتوالي داخلي وخارجي‪.‬‬ ‫فالتداول بمعنى التواصل المتساوق هو ما يترتب على الطابع الحواري كل تواصل مع ما‬ ‫فيه من تفاهم وسوء تفاهم وبمعنى التواصل المتوالي هو ما يترتب على الطابع القرائي‬ ‫للعلاقة بالتراث وكل قراءة تداول وتواصل مع مراحل نفس الثقافة أو الثقافات المختلفة‬ ‫التي تشاجنت وتوالجت في النظر والعمل‪.‬‬ ‫وقد يظن الكثير أن هذا التداول مع الموتى في اتجاه واحد من المتلقي فحسب‪ .‬وهذا‬ ‫سوء فهم للتداول‪ .‬ذلك أن المتلقي يكون دائما ناطقا باسمه وباسم من يتلقى أثره‪ .‬فهو‬ ‫يحاوره وكأنه حي معه‪ .‬كل دارس لاي مفكر قديم يكون دائما ناطقا باسمه وباسم ا لمفكر‬ ‫الذي يدرسه فيجيب باسمه مدافعا عن رأيه‪.‬‬ ‫القراءة حوار بين مرسل ومرسل إليه‪ .‬والقارئ يمكن اعتباره مصابا بازدواج الشخصية‬ ‫وثراء القراءة هو هذا الازدواج بل ودقتها في قدرة القارئ على التمييز بين فهمه للرسالة‬ ‫والذي يقدره بمدى مطابقة فهمه لقصد المرسل حتى يعتبر نفسه قد حاوره في ما قصده‬ ‫وليس في ما فرضه عليه من فهم لم يقصده‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪24‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ما معنى الآن في الداخل والخارج؟‬ ‫فبعد المتساوق والمتوالي عامة ينبغي التأكد من أن التساوق والتوالي لا يوجدان في ثقافة‬ ‫واحدة بل بين الثقافات المختلفة إذا كانت معرفية وحتى ذوقية‪ .‬فأولا الثقافات المتجاورة‬ ‫متحاورة سواء بالتلامس الحي سلميا كان أو حربيا في التساوق أو بالتوارث في التوالي‪.‬‬ ‫ولنا أدلة مادية على ذلك في اللغات التي تأخذ بعضها من البعض مفردات وتراكيب‬ ‫واساليب عبارة فضلا عن العارية بضعها من البعض في المعاني مع المباني‪ .‬والأهم من ذلك‬ ‫هو ما ينقل من ثمرات المعرفة عندما تنتقل من كونها أدوات نظرية يعبر عنها برموز إلى‬ ‫أدوات عملية يعبر عنها بآلات وأدوات مادية‪.‬‬ ‫وهذه كلها تنقل معها لكوني من المعرفي الذي يتعين في الخصوصي من أعيان تحققه‪.‬‬ ‫وليكن مثالنا أدوات الإدراك العلمي‪ .‬فقوانين البصريات كونية‪ .‬لكن آلات البصر والرصد‬ ‫في علم الفلك يمكن أن تبنى بطرق مختلفة وبمواد مختلفة‪ .‬وذلك وسائل السفر‪ .‬فقوانينها‬ ‫واحدة لكن أساليب السيارة لها خصوصيات بينة‪.‬‬ ‫من ينشغل بهذه الأساليب له الحق في ذلك‪ .‬لكنه يخلط بين العلم والفلكلور‪ .‬وهذا ليس‬ ‫مشغلي‪ .‬ما اريد فهمه الآن هو هل المعرفة في بلادنا تجاوزت نقل الفلكلور والإيديولوجيا‬ ‫فوصلت إلى البحث العلمي الذي يؤسس لشروط الوجود المتحرر من سلطان الطبيعة وسلطان‬ ‫التاريخ أم هو كلام لا يفعل؟‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪25‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫بمعيار الكلمة القادرة والكلمة العاجزة يمكن تحديد دور نوعي المعرفة في نظامنا التكويني‬ ‫بمستوياته الخمسة وإبراز ما يترتب على غياب ما سأحاول بيانه من علل لما تعاني منه الأمة‬ ‫من فقدان شروط السيادة أعني الحماية والرعاية الذاتيتين‪:‬‬ ‫‪ .1‬ما قبل الابتدائي‪.‬‬ ‫‪ .2‬الابتدائي‪.‬‬ ‫‪ .3‬الثانوي‪ :‬وهو قلب التكوين ولبه‪.‬‬ ‫‪ .4‬الجامعي‪.‬‬ ‫‪ .5‬ما بعد الجامعي أو التكوين المستمر‪ :‬وتلك دلالة من المهد إلى اللحد‪.‬‬ ‫وهذا ضروري دائما لمماشاة التقدم العلمي والتقني الذي يتسارع بصورة مذهلة ما يقتضي‬ ‫التكوين المستمر للجميع‪ .‬وكالعادة فإن المركز هو الثالث أي التكوين في المرحلة الثانوية‪.‬‬ ‫لماذا لأنه يساوق وجهين يؤسسان لكل إبداع في الجماعات البشرية‪:‬‬ ‫‪ .1‬ما يسمى بسني المثالية عند الشاب وتصاحب المراهقة والخيال الفياض الذي هو مصدر‬ ‫الإبداع ثورة على الاتباع‪.‬‬ ‫‪ .2‬تحدد الخيارات الكبرى في حياة الإنسان في خطة مستقبله الذي لا يمكن أن يكون‬ ‫مستقبل إنسان حر من دون ذلك‪.‬‬ ‫فإذا لم يكن الانتخاب التكويني في هذا للحظة هدفه الأول والأخير استكشاف \"ثروة الأمة‬ ‫الطبيعية\" في قدرات شبابها والاستفادة من أصل كل ثروة مادية أو روحية فهي أمة لا تفهم‬ ‫معنى البناء الحقيقي لذاتها ولشروط بقائها وخاصة لشروط حمايتها ورعايتها بأداتيهما‬ ‫بعلم الطبائع والشرائع وتطبيقه‪.‬‬ ‫وإذا لم يكن هذا الانتخاب التكويني في صلة مباشرة مع الانتخاب التعييني في مواقع العمل‬ ‫الجمعي المقسوم في المجالين الاقتصادي والثقافي فالأمة صماء بكماء عمياء لا عقل لها ولا‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪26‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫يمكن أن تكون ذات سيادة لأنها فرطت في شرطيها أي تكوين الحماة والرعاة لقيامها وبقائها‬ ‫وقوتها المادية والروحية‪.‬‬ ‫فتكون المرحلتان الأوليان‪-‬ما قبل الابتدائي والابتدائي‪-‬معدتين للقلب من التكوين‬ ‫والتوجيه ولبهما ويكون ذلك لتحديد القدرات الفعلية أساسا للانتخاب التكويني الملازم‬ ‫للتعيين في المرحلتين المواليتين‪ .‬ومعنى ذلك أن التكوين في صلة مباشرة مع التعيين وأن‬ ‫الجامعة وما بعدها هما البحث العلمي الأساسي والتطبيقي‪.‬‬ ‫وكل هذه الشروط الاستراتيجية في بناء الأمم منعدمة في بلاد العرب من الماء إلى الماء بما‬ ‫في ذلك الدول التي تدعي الثراء والتعليم الراقي لأن من شروط نجاح هذا التعليم أمران‬ ‫منعدمان‪:‬‬ ‫‪ .1‬الحجم الكافي لهذه المهمة ويتعلق بالأحياز الخمسة‪.‬‬ ‫‪ .2‬شروط الوصل بين البحث العلمي والحماية والرعاية‪.‬‬ ‫فالبحث العلمي الأساسي هو قاطرة البحث العلمي التطبيقي من حيث الإبداع النظري‪.‬‬ ‫لكن البحث العلمي التطبيقي هو قاطرته من حيث الحاجة في مجالين هما‪:‬‬ ‫‪ .1‬شروط الحماية أو التطبيق في المجال الدفاعي وهو من اهم مجالات البحث العلمي‬ ‫وخاصة في عصرنا‪.‬‬ ‫‪ .2‬شروط الرعاية أو التطبيق في مجال الرعاية أي الاقتصاد وقيام الإنسان مثل الطب‬ ‫والتغذية‪.‬‬ ‫وكلاهما ليسا في متناول أي بلد عربي بسبب الحجم ناهيك عن السبب الاعمق وهو أن كل‬ ‫قبيلة يعطيها المستعمر قطعة من دار الإسلام ويسميها دولة وهي محمية وقاعدة له حتى‬ ‫يسيطر على دار الإسلام كلها ويجعلها كلها كسيحة لا تستطيع أيا من هذين المهمتين الحماية‬ ‫والرعاية الذاتيتين لتبقى محمية‪.‬‬ ‫تجنبت المقابلة بين الموضوعين بصورة لا تعطينا علة التمييز بينهما‪ .‬فأنا لا أعلم الداعي‬ ‫لنفي الروحي عن الطبيعة ونفي الطبيعي عن الروح‪ :‬فقد نكتشف يوما أن الطبيعي يلطف‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪27‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫حتى يتروحن في درجة من درجات تعينه قائما بذاته وأن الروحي يتجسد حتى يتمدد في‬ ‫درجة من درجات تعينه‪ .‬ولعل ذلك هو الجسم الإنساني مثلا‪ .‬لكني أعلم المميز عندما‬ ‫أقابل بين الطبائع والشرائع‪ .‬فالأولى قوانينها ليس لها علاقة بإرادتي‪ .‬والثانية مهما فعلت‬ ‫فلا أستطيع نفي صلتها بها إيجابا أو سلبا‪.‬‬ ‫العلوم الإنسانية موضوعها سلوك الإنسان ليس من حيث هو منتسب إلى نظام القانون‬ ‫الطبيعي فحسب (إذ كيانه العضوي منه) بل وكذلك من حيث قدرته على العودة الواعية‬ ‫على ذاته (ولنسمه كيانه الروحي) ومحدداته حتى وهو جاهل بقوانين ما فيها من طبيعي‬ ‫وكذلك ما فيها مما يعود عليه وعيا يمكن اعتباره الروحي فيه أو ما يترتب على الحرية‬ ‫والاختيار‪.‬‬ ‫فمن حيث صلته بما له من دور حريته في سلوكه هو المميز للإنساني عن الطبيعي من‬ ‫العلوم‪ .‬والعلوم الطبيعية موضوعها سلوك الظاهرات الطبيعية ومحدداته وفيها دور‬ ‫للإنسان ولكن بشرط علمه بما فيها مما لا دور له فيه إذا جهل قوانينه فلم يغير شروطه‪.‬‬ ‫وأثر الإنساني في سلوك الطبيعيات لا يقل غموضا عن أثر الطبيعي في سلوك الإنسانيات‪.‬‬ ‫ومثلما أن علوم الطبيعة نوعان هي بدورها فكذلك علوم الإنسان‪ .‬ففي الأولى الرؤى‬ ‫الفلسفية وغالبها ميتافيزيقية‪ .‬وهي تكاد تنقرض بعد أن تمتنت العلوم التصحيحية وصارت‬ ‫تنظر بعين الاستهزاء للرؤى الفلسفية التي تصدر عن غير المختصين في أحد العلوم المتينة‪.‬‬ ‫لكن هذه المرحلة تصبو إليها علوم الإنسان أو علوم الشرائع تقليدا للأولى ولكن دون‬ ‫جدوى‪.‬‬ ‫وما يعود إلى الميتافيزيقا أو إلى ما بعد الطبيعة في الأولى يعود إلى الدين أو إلى ما بعد‬ ‫الروح في الثانية‪ .‬وهنا أورد كلاما للغزالي وليس لي في احياء علوم الدين‪ .‬فقد شكا من‬ ‫سيطرة ما يسمى بعلماء الدين في الفقه والكلام شكواه من سيطرة ما يسمى بالفلاسفة في‬ ‫الميتافيزيقا والتصوف الذي يدعي أصحابه التفلسف‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪28‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وقد ساد عند \"الحداثيين\" العرب خرافة صارت وكأنها حقيقة لا جدال فيها وهي أن‬ ‫الغزالي كان عدو العقل وأن ابن رشد عقلاني‪ .‬وكل من يفهم معنى العلم ما هو والفلسفة‬ ‫ما هي يعلم أن العكس هو الصحيح‪ .‬فالغزالي لم يرفض لا الرياضيات ولا المنطق ولا‬ ‫تطبيقهما في الطبيعة وحتى في الشريعة بل هو رفض ما وصفت الآن‪ .‬لكن الخرافة تغلب‬ ‫الحقيقة دائما مثل العملة الزائفة في علاقتها بالعملة الحقيقية‪.‬‬ ‫يمكن إذن أن نستنتج أن علوم الطبائع بصنفيها ما كان منها متعلقا بنظام البنى المقومة‬ ‫للطبائع أو بقوانين التفاعل بينها أقل تبعية لأحكام الإنسان وتشريعاته ومن ثم فهي أقل‬ ‫تبعية للإيديولوجيات بالمقارنة مع العلوم الشرائع‪ .‬لكن شروط الأولى منعدمة عندن ومن‬ ‫تخلفها وبقاؤها في العموميات‪.‬‬ ‫أما الثانية فهي لا تحتاج إلى كبير تجهيز ولا إلى كلفة كبيرة وهي مطلقة التبعية‬ ‫للإيديولوجيا لأنها أحكام على أحكام الإنسان على سلوكه وشروطه وهي بصنفيها الديني‬ ‫والمحاكي للعلوم الطبيعية أقرب إلى سرد آراء قيمية ومواقف أكثر من كونها ذات صلة‬ ‫بالعلم عدا معطيات من جنس بداية تصنيف النبات دون منهج ولا استراتيجية بحث علمي‬ ‫يحقق التعمير بقيم الاستخلاف‪.‬‬ ‫ولهذه العلة فالجامعات العربية ليست مراكز للبحث العلمي الاساسي ولا للبحث العلمي‬ ‫التطبيعي الأول لانعدام شروطه المادية بسبب الحجم والثاني لانعدام شروط التطبيعية‬ ‫لانعدام الانتاجين الاقتصادي والثقافي المحوجين إليه إذ إن هذين النسيجين بدائيين وكل‬ ‫ما هو متقدم مستورد والتطبيق ممارسة‪.‬‬ ‫والعلم بحد ذاته من حيث خدمة ‪ Know how‬ومن ثم حيث ثمرته إما كتطبيقات منهجية‬ ‫أو كأدوات تقنية هو بدوره عامل ثروة اقتصادية تباع وتشترى بحيث إن الجامعات يمكن‬ ‫أن يتكون مؤسسات رابحة لأن التكوين خدمة ولأن منتوجها الفكري بضاعة ‪-‬البراءات‬ ‫والمؤلفات العلمية‪ -‬بذاته وبتطبيقاته‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪29‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ولا شيء من ذلك موجود في أي جامعة عربية هي تبيع \"الريح للمراكب\" كما يقلو المثل‬ ‫التونسي لمن لا صنعة له لكنها تبيع السم الزعاف أعين أنها لا \"تبيع\" بالمجان إلا الخرافات‬ ‫الإيديولوجية للتهديم الذاتي لأنها بسبب عدم قدرتها على البحث العلمي واقتصارها على‬ ‫عرض أقل المعارف الأساسية تخصصا فلا تتجاوز التقريب الجمهوري تريد أن تثبت تقدميتها‬ ‫وريادتها بتهديم قديم صار مبهما لديها لا تفهمه بدعوى بديل حديث هو بدوره قديم ولا‬ ‫جديد فيه إلا إيديولوجية الحداثة التي هي حديثة عند أنصاف مثقفين في الغالب‪.‬‬ ‫فمن العجائب أن الجامعات العربية بعد قرن من إنشائها ما تزال عاجزة حتى عن أنتاج‬ ‫أدوات عملها الأبسط أعين متون التدريس والتدريس بلغة الأمة‪ .‬فالتعليم الديني له على‬ ‫الأقل متونه القديمة حتى وإن فقدت صلاحها التعليمي لأنها لم تعد صالحة إلا لتاريخ‬ ‫اجتهادات سابقة جلها إن لم تكن كلها لم يعد أحد يعمل بها لا في الطبائع ولا في الشرائع‪.‬‬ ‫لكنها مع ذلك ليست متسولة مثل الجامعات التي تدعي الحداثة‪.‬‬ ‫كلما سمعت \"عالما\" دينيا يتكلم إذا تجاوز التاريخ لمرحلة سابقة حفظ متونها‪-‬وهذا ضروري‬ ‫في معرفة الذات وماضيها‪-‬لكنه لا يساعد على تحقيق شروط الحماية والرعاية ولا حتى‬ ‫على فهم الدين الإسلامي‪ .‬لأن الدين لو كان مقصورا على العبادات لما أسس دولة‬ ‫وإمبراطورية كونية بكل شروط الحماية والرعاية‪.‬‬ ‫وإذا كانت دار الإسلام اليوم منتهكة من أدنى عدو فالعلة هي أن هذه العلوم فشلت في‬ ‫تحقيق الحماية والرعاية‪ .‬فلا يمكن أن تستخلف في الارض دون القدرة على تعميرها‬ ‫وحمايتها ولا يمكن تحقيق التعمير والحماية بالفقه والتصوف الكلام شرح أرسطو بل لا بد‬ ‫من معرفة قوانين الطبيعة وسنن التاريخ‪.‬‬ ‫والنتيجة الأليمة التي علي أن اختم بها هذا الفصل هي أن الجامعات العربية سواء‬ ‫التقليدية أو التي تدعي الحداثة لا تصلح لا للدنيا وللآخرة‪ .‬فهي معامل لإنتاج العاطلين‬ ‫والإيديولوجيين‪ .‬وإذا نبغ فيها البعض فإن نبوغهم فطري وليس بسبب التعلم فيها‪ .‬وهم‬ ‫لن ينتجوا إلا إذا هاجروا واندمجوا في مناخ للبحث العلمي بشروطه‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪30‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ولما عينت وزيرا مستشارا لرئيس حكومة الثورة الأولى لم أخف ما أفكر فيه‪ .‬وقدمت عدة‬ ‫محاضرات وكتابات في ذلك مع علمي بأن تونس ليس لها القدرة على البحث العلمي حتى لو‬ ‫رصدت له كل ميزانيتها فيه‪ .‬فالبحث العلمي قاطرته هي الدفاع بمعناه الحالي والاقتصاد‬ ‫بحجم فهمته أوروبا لما اضطرت إلى الوحدة من أجل منافسة أمريكا وهي رغم ذلك ما تزال‬ ‫عاجزة على الحماية الذاتية‪.‬‬ ‫وكنت اعتقد أن الجزائر التي حصلت فيها ثورة تحرير حقيقية بخلاف بقية بلاد المغرب‬ ‫كان يكمن لو كان لها قيادات تأخذ بعين الاعتبار هذه المعطيات أن تصبح مركزا لتوحيد‬ ‫المغرب على الأقل فتكون قطبا ندا للضفة الشمالية من الابيض المتوسط فيكون ذلك مدخلا‬ ‫للتعاون الندي لأن العرب والاوروبيين اليوم مستضعفون من القوى العظمى التي بيدها‬ ‫نظام العالم الجديد وهي عماليق‪.‬‬ ‫وقد يظن البعض كلامي هذا لا يصح إلا على تونس أو أي بلد عربي دون سواهما‪ .‬لكن‬ ‫حتى ألمانيا وما أدراك ما ألمانيا اضطرت لتجاوز العداء مع فرنسا وإنجلترا وقبلت بالتعاون‬ ‫لأن نخبها فهمت أن صنع طائرة نقل جوي تنافس بووينج مثلا ليس في المتناول وكذلك‬ ‫الصناعات الحربية واستكشاف الفضاء وغزو الأسواق الاقتصادية والثقافية‪ .‬فلكها تقتضي‬ ‫حجما ليس في مستطاعها‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪31‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لا شك أن القراء يتصوروني أثبط العزائم‪ .‬لم أقل إنه علينا ألا نفعل شيئا للخروج من‬ ‫هذا المأزق بل أتكلم في تشخيصه‪ .‬فـمأزق المآزق هو عدم الكشف عن الأدواء الصادق‪ .‬ولم‬ ‫أتكلم على النوايا أو على الأخلاق عند النخب بل اكتفيت بالكلام عن الشروط التي تخفي‬ ‫الورطة‪ .‬فـحتى لو صدقت النوايا فإن ذلك لا يكفي‪.‬‬ ‫فحتى لو كان الحكام والمعارضون لهم إرادة الإصلاح وحتى لو كان أصحاب معرفة الطبائع‬ ‫ومعرفة الشرائع كلهم عباقرة فإن شروط الحجم الأحيازي جغرافيا وتاريخا وثمرة تفاعلهما‬ ‫المادية (الاقتصاد) والروحية (الثقافة) والمرجعية الموحدة لها هي المحدد الأول والأخير‬ ‫بمقتضى قانون عصر العماليق‪.‬‬ ‫لما أسمع حاكما عربيا يتلكم على التعاون الاستراتيجي مع أمريكا أو مع الصين أو حتى مع‬ ‫بلجيكا لا أستطيع إلا ان أتساءل هل هو حقا مصدق لنفسه؟‬ ‫كيف لعربي أي كان من الماء إلى الماء وهو لا يتجاوز في منظور هؤلاء منزلة غفير في‬ ‫محمية لا تعيش من غير حمايته أن يتعاون معه استراتيجيا؟‬ ‫طبعا سيرد علي لكن بعض العرب دخلهم القومي الخام أكبر بأضعاف من دخل إسرائيل‬ ‫فهل تشك في أنها دولة قادرة على الحماية والرعاية؟ نعم لا أشك فحسب بل أنا متيقن‬ ‫لكن إسرائيل وراءها الغرب كله لتكون أقوى من الإقليم كله‪ .‬فلا يمكن القيس عليها‪ .‬فكل‬ ‫عرب الإقليم محميات إما إيرانية أو إسرائيلية‪.‬‬ ‫فما دام كل عربي عدوه الأول هو جاره العربي وما دام الحدود بينهم يحددها الحامي‬ ‫وهي حديدية حتى تكون كل محمية تابعة مباشرة لحاميها وليس لشعبها ولا للحمة بينها‬ ‫وبين أجوارها فلا يمكن الكلام على قدرة في الحماية والرعاية الذاتيتين ومن لم يكن له‬ ‫ذلك التعاون الاستراتيجية هو جعل بلده قاعدة‪.‬‬ ‫وهكذا فقد وصلنا إلى الصنف الثالث من النخب أي نخبة القدرة ببعديها المادي‬ ‫(الاقتصاد) والروحي(الثقافة)‪ .‬وهما يمثلان القدرة المادية أو القوة العنيفة والقدرة‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪32‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الروحية أو القوة اللطيفة لأن الرعاية والحماية أساسهما هذين القدرتين في السلم وفي‬ ‫الحرب ومن ثم فهما أساس الرعاية والحماية فيهما‪.‬‬ ‫والسؤال‪ :‬هل يوجد اقتصاد عربي يمكن أن يعتبر قوة قادرة على الحماية السلمية‬ ‫والحربية العنيفة؟‬ ‫وهي يوجد ثقافة عربية يمكن أن تعتبر قوة قادرة على الحماية والرعاية السلمية‬ ‫والحربية اللطيفتين؟‬ ‫من يجيب بنعم يكذب ولا يخدع إلا نفسه‪ .‬فإذا كانت أوروبا نفسها عاجزة دون ذلك‬ ‫فكيف بنا نحن؟‬ ‫لكن إذا كان ما أقول صحيحا فما الذي يجعل العدو يفعل كل ما يستطيع لمحاربتنا بذراعيه‬ ‫وبأنفسنا ثم يتدخل إن لم يكف ذلك لتحقيق ما لا يريد حصوله‪ .‬إنها ما أدعو لحصوله وما‬ ‫ينبغي أن يدعو لحصوله كل مخلص للأمة بل وللإنسانية لأن دورنا في العالم إذا استعيد‬ ‫سيكون معدلا لنظام العالم ومفيدا للبشر‪.‬‬ ‫وهذا الذي يريد منعه يعلم قبل غيره أنه ممكن أولا لأنه تحقق سابقا من ظرف كان‬ ‫أسوأ من ظرف أهل الإقليم حاليا وهو لا يحتاج لمعجزة سماوية كما حدث في المرة الأولى‬ ‫لأنها ما تزال موجودة وهي التي تحرك الإقليم بل والعالم أعني الإسلام‪ :‬هو يعلم ما يزداد‬ ‫رجوحا بوما بعد يوم بفضل شبابنا بجنسيه‪.‬‬ ‫ما كنت لأكتب في هذه المسائل لولا إيماني بأن غالبية الشباب بجنسيه سليم من كل الأدواء‬ ‫التي وصفت وأنه هو الأمل مثل المرة الأولى إذ الشباب هو الذي أسس دولة الإسلام الأولى‬ ‫فكان سندا للرسالة بشهادة الرسول نفسه لهم‪ .‬لكن دافعي للكتابة أعمق‪ :‬كيف نحمي‬ ‫الاستئناف من حماسة الحمقى الغبية‪ .‬فهؤلاء الحمقى قد يفسدون المسار الاستراتيجي‬ ‫الموصل إلى هذه الغاية بأمرين‪:‬‬ ‫‪ .1‬فلغبائهم يخترقهم العدو فيوظفهم ضد الهدف كأدوات لضرب عصفورين بحجر‬ ‫واحد تشويه الإسلام وإيقاظ حماسة شعوب العرب لحرب صليبية جديدة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪33‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .2‬التدمير الذاتي بأمراء الحرب أدعياء الجهاد مزيد التفتيت فكل أمير يريد أن‬ ‫يستقل بفتاتة من الفتات الحالي ليكون أميرا بمرتبة غفير عند الحامي‪.‬‬ ‫وبهذا المعنى فإن دور نخبة القدرة بصنفيها لا يمكن أن يكون إلا حصيلة ما عليه دور‬ ‫النخبتين المتقدمتين عليها لأن القدرة في أي كائن حي فضلا عن الدول التي هي نظام‬ ‫كائنات حقة عاقة هي ثمرة إرادتها ومعرفتها‪ .‬فإذا كانت إرادة مشلولة ومعرفة مغلولة فإن‬ ‫قدرتها المادية والروحية تكون عاجزة‪.‬‬ ‫ولنبدأ بالقدرة المادية أي الاقتصاد‪ .‬فلا يوجد بلد عربي له اقتصاد فعلي بعد أكثر من‬ ‫نصف قرن مما يسمى استقلالا‪ .‬ذلك أن بيع المواد الخام والتجارة بالمواد المستوردة لا يمكن‬ ‫أن يكون إلا اقتصادا يفقر ولا يغني‪ .‬فالمواد الخام ناضبة أولا وسعرها بالقياس إلى سعر‬ ‫المستوردات وخاصة ما يتعلق بالحماية والرعاية مطلق عدم التوازن‪.‬‬ ‫فلنفرض مثلا أن عربيا أراد أن يشتري سيارة بـ‪ 50‬ألف دولار وكان البرميل بـ‪ 100‬دولار‬ ‫فهو سيدفع ثمن ‪ 500‬برميل وإذا نزل إلى ‪ 50‬دولار سيدفع مقابل ألف وإذا اشترى طائرة‬ ‫حربية فسيدفع مقدارا لا يصدقه عقل ومن ثم فهو إفقار دائم لأصحاب المادة الخام‪ .‬وقس‬ ‫عليه الغذاء والدواء ومكيف الهواء‪.‬‬ ‫وكان من المفروض ألا أدرس مسألة القدرة بنصفيها المادي والروحي قبل أن أنظر في ما‬ ‫يأتي بعدها لأن الاكتفاء بما تقدم عليها يجعلنا لا نرى إلا نوعين من مقوميها هما الإرادة‬ ‫والمعرفة ولم نر النوعين الآخرين أي الرؤية والذوق فالقدرة هي حصيلة ما تقدم عليها‬ ‫علة وما تلاها غاية‪.‬‬ ‫وهذا هو الأمر الذي يعسر شرحه للقراء لأنه مبني على العلاقة بين هذه المقومات‬ ‫الخمسة وكيان الفرد والجماعة والدولة والإنسانية كلها‪ .‬بمعنى أن كل كائن من هذه متقوم‬ ‫بإرادته ومعرفته ورؤيته وذوقه وثمرة ذلك كله هي قدرته ككائن حي أو ممثل لكائن حي‬ ‫وتلك هي صفة الدولة (محاولة سابقة)‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪34‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لكن لا بأس من دراستهما من منطلق العلة الفاعلية أولا ثم من منطلق العلة الغائية‪.‬‬ ‫فلنسأل الآن من منطلق العلة الغائية‪ :‬هل للقدرة المادية علاقة الثمرة للإرادة والمعرفة‬ ‫عندنا أم هي لا علاقة لها بالإرادة الممثلة للجماعة ومصلحتها ولا لمعرفة يمكن أن تكون‬ ‫الجماعة هي الني انتجتها مثلا؟‬ ‫ويمكن أن أجمع هذا السؤال المعقد في سؤال أبسط‪ :‬هل عندنا رجال أعمال لهم سياسة‬ ‫تبني اقتصاد وطني أم هم نوع من الطفيلات التي تعيش على ما سماه ابن خلدون الجاه‬ ‫ويعني الفساد المتصل بالسلطة الحاكمة التي تعطي وتأخذ بحسب تحكم الحكم المطلق الذي‬ ‫يتصرف في البلاد وما فيها والعباد وما لديها؟‬ ‫بعبارة أوجز هل يوجد من يملك شيئا هو ثمرة عمله أو إبداعه؟‬ ‫أم الكل لص لما يملكه الشعب وما أبقاه الحكام وحماتهم له من فضلات موائدهم؟ فالحكام‬ ‫يملكون الأرض ما تحتها وما فوقها وما في سمائها وفي في تاريخها من تراثها وثرواتها ويملكون‬ ‫سلطة الإغناء والإفقار أكثر لكأنه رب جبار لخدمة الاستعمار‪.‬‬ ‫وقد يظن أن أعرض بالخليج‪ .‬لا ورب الكعبة‪ .‬فهذا أيضا وضع تونس‪ .‬من يملك ثروات‬ ‫تونس لا يتجاوز عشرين أسرة تتعامل مع مافيات محلية في خدمة مافيات أجنبية وهي‬ ‫بالأساس فرنسية وبصورة أدق رجال أعمال اغلبهم يهود فرنسيون‪ .‬وما أظن بلدا عربيا‬ ‫واحدا في أفضل حال من تونس‪.‬‬ ‫فعندما نتكلم على رجال أعمال كما في أوروبا فهم الذين صنعوا أوروبا الحديثة‪-‬‬ ‫البرجوازية‪-‬وهم الذين بدأوا بتوحيدها لتكوين سوق كافية ومنصة للتعامل مع عالم‬ ‫العماليق إذ من دون ذلك من السخف أن تفتح أي صناعة في أي بلد عربي‪ :‬لو فتحنا مثلا‬ ‫معمل لأدوات الحلاقة فإنتاجه اليومي يكفي تونس لسنة‪.‬‬ ‫وذلك فما يسمى رجل أعمال في تونس لن يكون إلا سمسار للتجارة في المنتجات المغشوشة‬ ‫لسجناء الصين والدول العربية الأغنى ستشري سيارات الغرب والشرق وأسلحته ولن تنتج‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪35‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫شيئا ولذلك فشبابهم في بطالة مخزية وخاصة وهم تعلموا أن العمل العادي عار على الذكور‬ ‫فضلا عن الإناث‪.‬‬ ‫قد يقال أنت تبالغ‪ :‬ألم يفتح الهادي نويرة عدة معامل وأوجد مواقع عمل وموارد رزق‬ ‫للكثير من نساء تونس وشبابها؟ صحيح لكن هل هذا اقتصاد يحقق الحماية والرعاية أم‬ ‫هو تيسير العبودية لأرباب العمل الأجانب الذين يأخذون ثمرة منتوجهم بأتفه الأجور ولا‬ ‫يدخلون الربح بالعملة الصعبة بل يبقونه لديهم‪ .‬وتبين أن أصحاب الفنادق يعلمون مثلهم‬ ‫فلا يدخلون إلا ما يخفي أضعاف ما يبقونه في البنوك الأجنبية خارج الوطن‪.‬‬ ‫يعني ان المستعمر وعملاءه ربحوا الفرق بين ما كان يدفعه الأمريكي الذي كان يستورد‬ ‫العبيد‪ .‬فأصبحوا يتركونهم في بلادهم ويأخذون ثمرة جهدهم بدون مقابل لأن ما يدفعونه‬ ‫يأخذونه غالبا بقروض من البنوك التونسية ولا يرجعونها وهو ما تبين من خلال سلوك‬ ‫أصحاب الفنادق في السياحة بشهادة مدير البنك المركزي‪ :‬لا أحد يرجع القروض فتعفوا‬ ‫عنهم المافية الحاكمة‪.‬‬ ‫والنتيجة أن ثروات البلاد وجهد أبنائها كلها يجمعها الحكام والمافيات والوجهاء من‬ ‫الأقرباء والأصدقاء والجواري والقوادين وتهرب إلى بنوك الغرب‪ .‬من ذلك أن اليمن‬ ‫الذي يظنه الكثير فقيرا لم يكن فقيرا بل كان مفقرا لأن صالح الذي هو طالح صار يملك‬ ‫‪ 60‬مليون دولار في بنوك دبي وسويسرا ومثله وأكثر جل حكام العرب‪.‬‬ ‫ولما كان لكل حاكم عربي أقرباء وأصدقاء فإن تهريب ثروة البلاد ينبغي أن يضرب في‬ ‫عددهم‪ .‬ولنا أكبر الأدلة في أسرة رئيس مافيتنا الذي يعيش الآن في السعودية وكل أسرته‬ ‫وأسرة زوجته يعيشون في الخارج منذ عقد عيشية الملوك دون أن يكون أي منهم ذا صنعة‬ ‫أو علم أو تجارة أو عمارة‪ .‬فكيف يمكن ذلك؟ وكيف استطاع بعضهم عرض المليارات‬ ‫للمصالحة مع هيئة الحقيقة والكرامة؟‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪36‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫اعتقد أن الكلام في البعد الاقتصادي من القدرة أيسر من الكلام في البعد الثقافي‪ .‬ذلك‬ ‫أن الناس يشعرون بما يعانونه من حرمان مادي أكثر من شعورهم بما يعانونه من الحرمان‬ ‫الثقافي‪ .‬وهم لا يبدر لهم أن الثقافي هو العلة الغائية للاقتصادي والفعلية في آن‪ .‬فالثقافي‬ ‫علة حقيقية فاعلة للاقتصادي ببعدها الثاني أو العلم وهي علة حقيقية ببعدها الأول أو‬ ‫الذوق‪ :‬فدون علم لا إنتاج يعرض ودون ذوق لا إنتاج يطلب‪.‬‬ ‫فكيف سأشرح هذه المسألة شرحا يجعل الناس يشعرون بأن الثقافة أهم حتى من الاقتصاد‬ ‫رغم كون تأثيرها غير مباشر وغير سريع ولذلك فهو يبدو وكأنه أقل أهمية منه‪ .‬وينبغي‬ ‫أن يفهم أي قارئ أن الثقافي هو من العلة الغائية ببعدها الذوقي في الاقتصادي وهو من‬ ‫العلة الفاعلية ببعدها العلمي فيه‪.‬‬ ‫وحتى أيسر الشرح فلأذكر بالمعادلة التي تفسر العملية الاقتصادية بصورة كونية بمعنى‬ ‫أنها تكون كما وصفتها بمعادلة بسيطة وضعتها لشرح تعقيدها وتشاجن عوامل حصولها‪.‬‬ ‫ففي القلب من هذه المعادلة العملية الإنتاجية للبضاعة أو للخدمة التي هي موضوع التبادل‬ ‫الاقتصادي في أي جماعة متقدمة اقتصاديا‪.‬‬ ‫ولابد قبل هذا المقوم من مقومين هما المستثمر والفكرة التي يستثمر فيها‪ .‬وبعدها لا بد‬ ‫من الممول والمستهلك للمنتج الذي تنتجه العملية الانتاجية في مؤسسة اقتصادية ذات مركز‬ ‫وأطراف تابعة لها في نفس البلد أو في العالم كله بحسب حجمها نظام إنجازها للإنتاج التي‬ ‫تقوم به بضاعيا كان أو خدماتيا‪.‬‬ ‫لا يحتاج القارئ إلى خبرة كبيرة أو إلى ذكاء خارق ليرى العلاقة بين المقومين الأولين‬ ‫والمقومين الأخيرين في تناظر عجيب‪ .‬فالمستثمر عينه على المستهلك‪ .‬هو لا يستثمر إذا لم‬ ‫يكن قد درس السوق وحدد الحاجة التي سيستجيب إليها استثماره‪ .‬لكنه يحتاج إلى شيئين‬ ‫واحد وضعناه قل القلب والثاني بعده‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪37‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وبين المقومين هذين كذلك تناظر‪ :‬فهو يبحث عن الفكرة التي عليه تحوليها إلى بضاعة‬ ‫أو خدمة تسد الحاجة التي اكتشفها عند المستهلكين وعليه أن يبحث عن ممول لاستثماره‪.‬‬ ‫لكن المستثمر أول ما يطلب هو تقدير نجاعة المشروع فيحتاج لرؤية شيء متعين وذلك هو‬ ‫المؤسسة المنتجة في تصور مدروس ومقدر‪.‬‬ ‫فماذا نلاحظ؟ خيال المستثمر (هو المبادر) وواقع المستهلك (الحاجة) لا يمكن الاستجابة‬ ‫إليها بالإنتاج الذي يسد الحاجة من دون مبدع لفكرة وحائز على رأس مال‪ .‬وقد قدمنا ما‬ ‫هو خيالي وفكري على المشروع وأخرنا ما هو فعلي ومادي بعده‪ .‬والاولان علة فاعلة‬ ‫والثانية علة غاية‪ :‬منتج للمستهلك وربح للممول‪.‬‬ ‫الاستهلاك ماذا يحركه؟‬ ‫غاية هي إما سد الحاجة المادية الصرفة أو سد الحاجة الجمالية الصرفة إذا لم يكن دولة‬ ‫وكان مواطنا‪ .‬إذا كان دولة فهو أيضا له غاية هي إما سد حاجة في الرعاية (غذاء دواء‬ ‫خدمات عامة قاعدة أساسية إلخ‪ )..‬أو في الحماية (اسلحة خاصة وأدوات مساعدة في‬ ‫الحروب والرقابة)‪ .‬فإذا جئنا إلى الثقافة وجدنا ما وصفنا مرتين‪:‬‬ ‫‪ .1‬نفس العملية الانتاجية من المقومات الخمسة التي ذكرتها‪.‬‬ ‫‪ .2‬المنتج الثقافي بضاعة أو خدمة ذات دور اقتصادي‪.‬‬ ‫فالمستثمر وصاحب الفكرة والمستهلك والممول يجمع بيهم مؤسسة منتجة لبضاعة فنية مثلا‬ ‫أو خدمة ترفيهية مثلا‪ .‬وبنفس المنطق الغائي‪ .‬وإذن فكل ما قلناه عن فساد الاقتصاد في‬ ‫بلاد العرب بل وعدم وجوده الفعلي لأنه بعكس العمل الاقتصادي لا يثري بل يفقر‬ ‫الشعوب يمكن أن نعيده بالنسبة إلى الثقافة لأنها لا تنتج علما ولا ذوقا‪ .‬وما يقال عن‬ ‫الثقافة أخطر ألف مرة مما يقال عن الاقتصاد لأنها تفسد الارواح ولا تكتفي بإفساد‬ ‫الأبدان‪.‬‬ ‫وهنا لا بد من دراسة أكبر منتجين ثقافيين في الإقليم الناطق بالعربية وأعني مصر‬ ‫ولبنان‪ .‬فلا توجد ثقافة أفسد مما ينتجه هذا البلدان ويعممانه في البلاد الناطقة‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪38‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫بالعربية‪ .‬وليس لأن مصر ولبنان أهلهما أكثر فسادا من العرب فالعرب كلهم في الهوى سواء‬ ‫بل لأن المبدأ العام هو \"الفن الواقعي\"‪.‬‬ ‫وما القصد بالفن الواقعي؟‬ ‫هو جعل \"الامر الواقع\" في المجتمع مثالا أعلى للإبداع الجمالي تعبيرا عن الذوق فيصبح‬ ‫الإبداع محاكاة لما يسمونه الواقع وليس تعاليا عليه لجعله يتجاوز الأمر الواقع ويقترب من‬ ‫الأمر الواجب الذي هو ما يحرر الإنسان من الإخلاد إلى الارض أو يلهث وراء اللامتناهي‬ ‫الزائف‪.‬‬ ‫فمن يتفرج على غالبية الفن السينمائي المصري أو المسلسلات المصرية ينتهي إلى ما يشبه‬ ‫الحكم العام وهو أنه مجتمع خال من كل أخلاق سامية نساؤه عاهرات ورجاله من جنس ما‬ ‫يظنه الكثير من إبداعات صاحب جائزة نوبل التي لا تتجاوز مبتذلات نسخ ما يسمونه‬ ‫\"واقعا\" بلا ذوق ولا جمال وفهم لأعماق النفس‪.‬‬ ‫وهو فن لا يتجاوز تمجيد عبادة المال والجنس والقوة المزيفة للجاه بالمعنى الخلدوني أي‬ ‫للفساد والوساطة وتحريف كل وظائف الدولة‪ .‬ولست أنفي أن هذه الظاهرات موجودة‪.‬‬ ‫لكن جعلها مادة للمحاكاة بمعنى الواقعية يشبه من يحصر الرسم في المحاكاة والموسيقي في‬ ‫حداء السيارة عند الأعراب‪.‬‬ ‫ولست أعجب من ذلك فابن خلدون وصف الفنون عندما يصبح الترف سيد الموقف ويكثر‬ ‫الفقر والفساد المصاحب له إذ كما قل أرسطو فإن القيم لا معنى لها عند حدي الجماعة ما‬ ‫يتصور الأعلى (المترفين) وما هو الأسفل في السلم الاجتماعي (عبيد الحاجة البدائية) لأن‬ ‫معناها في الوسط في رؤيته الخلقية‪.‬‬ ‫سيقال‪ :‬تحاكم الفن بالاخلاقوية‪ .‬وتتوالى شعارات الحداثيين‪ .‬فقد سمعت مرة أحدا‬ ‫يدعي أنه ناقد كبير يقول إن المرأة العفيفة لا تصلح في الرواية لا بد أن تكون عاهرة‪.‬‬ ‫صحيح أن الفن قد يعتبر بمعزل عن الأخلاق إذا خلطت بالعادة‪ .‬لكنه لا يلغي التعالي‬ ‫الذي هو لا متناهي الاشكال ولا تحيط به أي عادة‪ .‬فهو يضع بدائل هي من الأخلاق دائما‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪39‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫بمعنى أنها محنة الحرية وتكون دائما أسمى مما تتجاوزه‪ .‬ومن أراد أن يفهم ذلك فليقرأ‬ ‫الأدب اليوناني أو حتى الأدب الوارد في القصص الديني فهو أكثر جرأة ولكن بذوق سليم‬ ‫وفهم مكين‪.‬‬ ‫والقصص الديني القرآني فقد بعده الجمالي لأن الفقهاء بكذبهم على القرآن يؤولون‬ ‫ما فيه من جرأة بدعوى تنزيه الرسل من إنسانيتهم فيصبح هم بها لما همت به مما لا يليق‬ ‫برسول فيلغونها بحياء منافق فيفقدونها جرأتها التي تجعلها فعلا غوصا في أعماق النفس‬ ‫الإنسانية وقس عليها كل التنزيه الكاذب‪ .‬فيزول ما فيه من الإنساني وما في الإنساني من‬ ‫كوني ولا يبقيان إلا حدين مسلوخين ليس فيهما حياة‪ .‬فالنبي لا يبقى إنسانا والإنسان لا‬ ‫يبقى ذا اشرئباب للكمال بل يصبح الخير والشر في مواجهة وهو تشويه حتى لما يسمونه‬ ‫واقعا‪.‬‬ ‫فـ\"سي السيد\" مثلا قد يكون وصفا لأمر واقع لكنه خال من كل أعماق النفوس‪ :‬إنه‬ ‫كاريكاتور إنسان في \"واقعية\" الأديب وليس في حقيقة الرجل الذي لم يعد له سريرة لأن‬ ‫الأديب عاجز عن محاولة الاقتراب مما يمكن أن يوحي بها لأن الإحاطة بها ممتنعة لأنها‬ ‫من الغيب‪ .‬ما فعلوه بالنبي ويتصوروه إيجابيا هو عكس ما فعله الحكيم بسي السيد ويتصوره‬ ‫سلبيا‪.‬‬ ‫وبذلك نفهم أن الإبداع المزعوم لأنه غير صادق لا يصف الواقع من حيث هو واقع البنى‬ ‫العميقة لكيان الإنسان العضوي والروحي الذي يتنازعه الخير والشر والجمال والقبح‬ ‫والذليل والجليل والصادق والكاذب والحر والمضطر بل يصف كاريكاتور يفيد جهل من‬ ‫يظن نفسه فنانا بالنفس وبالفن‪.‬‬ ‫ويمكن الجزم بأن كل ما يسمونه إبداع عربي مثله ما يسمونه اقتصاد عربي استيراد‬ ‫روبافيكا بمنطق قص ولصق‪ .‬ذلك أن الفنون شرطها العلوم وفي غياب هذا الشرط يصبح‬ ‫أي \"سكارجي\" فنان وأي \"زبراط\" إعلامي وأي عميل للاستعلامات محلل استراتيجي‪ .‬يكفي‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪40‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫حبال صوتيه ليصبح مغنيا ويكفي تركيب بعض الصور المنتحلة من أفلام إيطالية وهندية‬ ‫وأمريكية ليصبح سينمائيا‪.‬‬ ‫وحينها لا فرق بين مورد خردة الصين ليسمى منتجا اقتصاديا ومركب صور منتحلة ليسمى‬ ‫سينمائيا وبعض الأنغام ليسمى موسيقيا و\"ملبزا\" لوحات ليسمى رساما وهلم جرا‪ .‬أما‬ ‫الرواية فحدث ولا حرج‪ :‬يكفي أن يحكي حياته‪ .‬وأما الشعر فيكفي أن يتكلم باسم موضة‬ ‫تجديدية‪ .‬عصر الكاريكاتور في كل شيء‪.‬‬ ‫وفي الحقيقة ففي الذوق إذا تقدم الدافع التجاري مات الذوق ومثله في الألعاب وخاصة‬ ‫في الرياضة ومثل ذلك في المعرفة‪ .‬صحيح أن هذه مهن وصاحبها يعيش منها‪ .‬لكن إذا صار‬ ‫ينتج ليتاجر فإن الإبداع في منتوجه قد يكون موجودا في أقل من القليل‪ .‬فلا تنتظر ممن‬ ‫يكتب عمودا يوميا تحت الطلب أن يبدع أو حتى أن يصدق في ما يكتب‪.‬‬ ‫وبهذا الذوق المنحط تخلق موضات فتصبح متحكمة في الذوق الاستهلاكي للفنون وللزينة‬ ‫وخاصة في عالم الموضة النسوية وكل الموضات نسوية إما هي للنساء مباشرة أو للرجال من‬ ‫أجل النساء بصورة غير مباشرة‪ .‬ومن ثم فالذوق الغائي في الفنون هو المحدد للذوق الغائي‬ ‫في الاقتصاد بكل معانيه‪.‬‬ ‫ذلك أن الأكل واللباس وحتى هندسة البدن والعمارة والحلي ومظاهر الثروة كل ذلك‬ ‫لا يحدده إلى ذوق النساء مباشرة أو من أجل ذوقهن عند الرجال‪ .‬ويمكن أن ننسب إلى‬ ‫الأطفال أيضا دورا في العلة الغائية للحركية الاقتصادية‪ .‬لكن أكبر الحرفاء هم الدول‬ ‫لأن كلفة البضائع والخدمات التي تطلبها كبيرة‪.‬‬ ‫وهي محركة للاقتصاد من حيث العلة الفاعلية والعلة الغائية‪ .‬ذلك أن البحث العلمي هو‬ ‫الأداة الأولى في قوة الدول لعلاج الرعاية والحماية‪ .‬فالغذاء والدواء والصحة والقاعدة‬ ‫الاساسية للتواصل وللاتصال للرعاية والأسلحة وغزو البحار والنجوم وأسرار الطبيعة كل‬ ‫محركات الدولة للاقتصاد والثقافة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪41‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وكل ما وصفناه من شروط القدرة معطلة تماما في ما يسمى دولا عربية‪ .‬وهي كما أسلفت‬ ‫محميات وليست دولا‪ .‬وبقاؤها محميات بسبب الأحياز المفتتة يجعلها عقيما بحيث إنها لا‬ ‫يمكن في يوم من الأيام أن تنتج شيئا وينجح فضلا عن أن تبدع لأن ما ذكرناه من الشروط‬ ‫كلها منعدمة‪ .‬وعدمها ليس انعداما بل إعدام مقصود من الحامي وعملاءه للاستتباع‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪42‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لابد من عودة لنظرية الرمزين وتفاعلهما وأصل المقومات الأربعة بداية وغاية‪ .‬فالمعلوم‬ ‫أن علاقة التعمير بالاستخلاف هي جوهر الرسالة الخاتمة‪ .‬والمعلوم كذلك أن علة انحطاط‬ ‫الإنسانية هي الفصام الذي أصاب هذه العلاقة إذ ظن البعض أن الاستخلاف ممكن من‬ ‫دون التعمير‪ .‬وهذا هو سر انحطاط الأمة‪ .‬ولم يفهموا أن التعمير من دون الاستخلاف‬ ‫تدمير وهذا هو سر انحطاط الغرب وانحطاط هو سياسته الاستعمارية‪.‬‬ ‫وهذه العلاقة بين التعمير والاستخلاف هي عين العلاقة بين كيان الإنسان العضوي‬ ‫وكيانه الروحي وأساس قيام الجماعة أي جماعة بوصفها شرط قيام الفرد الذي هو مناط‬ ‫التكليف والمسؤولية في الرؤية القرآنية علما وأن الفردية مفهوم ديني خالص ولا علاقة له‬ ‫بالفلسفة‪ .‬الفلسفة حرفته فأسست عليه الفردانية التي هي نهاية الجماعة وفي النهاية‬ ‫نهاية الفرد كما بينت في الفصل السابق‪.‬‬ ‫وحتى أشرح هذه الرؤية التي وضعها القرآن الكريم كما تبينت من خلال قراءته قراءة‬ ‫فلسفية باعتباره رسالة تذكر الإنسانية بمهمتيها (التعمير بقيم الاستخلاف) خالية من‬ ‫الخوارق ومن الوساطة في التربية والوصاية في الحكم وضعت نظرية الرمزين لبيان أن كلام‬ ‫القرآن بلغة تتعلق بمنطق مبدأ الاقتصاد (أداة التبادل وعلل تحريفها) ومنطق الثقافة‬ ‫(أداة التواصل وعلل تحريفها) لم يكن تحكيما بل لأن هذه العلاقة بين التعمير‬ ‫والاستخلاف تتأسس عليهما في حالة الإيجاب وعلى تحريفهما في حالة السلب‪:‬‬ ‫‪ .1‬رمز الفعل أو العملة للتبادل‪.‬‬ ‫‪ .2‬فعل الرمز أو الكلمة للتواصل‪.‬‬ ‫‪ .3‬تأثر التبادل بالتواصل‪.‬‬ ‫‪ .4‬تأثر التواصل بالتبادل‪.‬‬ ‫‪ .5‬أصلها جميعا أو علاقة التعمير بالاستخلاف‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪43‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لم يكن من السهل وضع هذه النظرية خاصة بعد ما تقدمت في تفسير القرآن الكريم‬ ‫ومراجعة علوم الملة الخمسة أي التفسير أصلا لعلمين نظريين عقديين هما الكلام والفلسفة‬ ‫ولعلمين عمليين هما الفقه و التصوف لبيان ما طرأ عليهما من تحريف علته قلب أمر فصلت‬ ‫‪ 53‬نهيا ونهي آل عمران ‪ 7‬أمرا‪.‬‬ ‫ودون فخر فإني أجزم بأن الرؤية القرآنية لم تصبح واضحة إلا بفضل ما مكنت منه‬ ‫قراءته الفلسفية التي تبين أن الإسلام ليس دينا من بين الأديان بل هو الديني في كل دين‬ ‫وأنه الفلسفي في كل الفلسفات أعني أنه يمكن الإنسان من التحرر من وهم الإرادة‬ ‫اللامحدودة ووهم العلم المحيط والقدرة اللامتناهية والحياة السرمدية‪ .‬والرؤية الجامعة‬ ‫بين اللامحدودية والإحاطة واللاتناهي والسرمدية أعني كل ما تدركه ضرورته ليكون‬ ‫لوجودها معنى دون أن يكون وجودها حائزا عليها وهو معنى كونها عين التعمير بقيم‬ ‫الاستخلاف‪ :‬وهذا هو الإسلام الدين الخاتم الذي يتألف من شروط الاستثناء من الخسر‬ ‫الخمسة كما حددتها سورة العصر‪:‬‬ ‫‪ .1‬الوعي بإمكانه وهو جوهر الوعي بالحرية والتكليف‪.‬‬ ‫‪ .2‬الإيمان بما يجنب الإنسان من الوقوع فيه أو الوعي بالاستخلاف‬ ‫‪ .3‬العمل الصالح وهو الثمرة الأولى للاستخلاف أو التعمير‬ ‫‪ .4‬التواصي بالحق أو الاجتهاد بدل وهم العلم المحيط‪ :‬التواصل المعرفي بالتعاون‬ ‫والتفاهم الصادق‪.‬‬ ‫‪ .5‬التواصي بالصبر أو الجهاد بدل العمل التام‪ :‬التبادل الاقتصادي بالتعاون‬ ‫والتعاوض العادل‪.‬‬ ‫فالعسر زاد لأنه هذه النظرية صارت محكا لاختبار صحة الفهم الذي أقدمه لما اتهم به‬ ‫علوم الملة من الانحراف عن معاني القرآن وقلبها لإعادة سلطان الوساطة الذي حرر القرآن‬ ‫تربية الإنسان وسلطان الوصاية في الحكم الذي حرر القرآن منه حكم الأمة‪ .‬فهذان‬ ‫السلطانان هما علة فساد معاني الإنسانية‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪44‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فالقرآن أمر الرسول أمرا يحرر من هذين السلطانين الروحي في التربية والمادي في‬ ‫الحكم‪ .‬ولهما علاقة متينة بالرمزين‪ .‬فالسلطان الروحي هو سلطان الكلمة في النهاية‪.‬‬ ‫والسلطان المادي هو سلطان العلمة في النهاية‪ .‬وهو ما يجعل امتحان نظريتي في دورهما‬ ‫وعلاقتهما بدين العجل مهمة ضرورية لتكون نظرية الرمزين وما يترتب على تحول دورهما‬ ‫من أداتين إلى سلطانين مستندة إلى أسس لا جدال فيها‪.‬‬ ‫لكني أستطيع أن أزعم أني محظوظ‪ .‬ذلك أن هذا الامتحان أكد صحة الرؤية وساعد‬ ‫خاصة على فهم الكثير من المسائل التي كانت عالقة في التفسير وخاصة ما تعلم منها بأهمية‬ ‫الانفاق من الرزق في الشورى ‪ 38‬التي تمثل حد الغاية منها تمثيل الاستجابة للرب لحد‬ ‫البداية‪ :‬والوسط هو نظرية طبيعة الحكم وأسلوبه‪.‬‬ ‫وفي الحقيقة فإني لم أتوقع أنها \"ستزبط\" كما يقول المصريون إلى هذا الحد‪ :‬فالاستجابة‬ ‫إلى الرب هي علامة الاهلية للاستخلاف والانفاق من الرزق هي علامة التعمير‪ .‬وإذا‬ ‫بنظرية الحكم في الإسلام مشتقة من حقيقة الإنسان كما فهما ابن خلدون \"رئيس بطبعه‬ ‫بمقتضى الاستخلاف\"‪ :‬وهذا من عجائب القرآن‪.‬‬ ‫فما هو \"بطبعه\" هو صلة الإنسان بالطبيعة التي هي المعين المادي لشروط قيامه وكيانه‬ ‫العضوي خاصة وما هو \"بمقتضى الاستخلاف\" هو صلة الإنسان بما يتعالى على الطبيعة الذي‬ ‫هو المعين الروحي لشروط قيامه وكيانه الروحي‪ .‬ومن الصعب أن يكون كل هذا التناسب‬ ‫وليد الصدف‪ .‬فلنغص في معانيه ودلالاته‪.‬‬ ‫والإشكال كله يدور حول انقلاب أداتي التبادل والتواصل إلى سلطان‪ .‬والقرآن لا ينكر‬ ‫ذلك بل هو يحول دون هذا السلطان والتحول إلى بعدي العجل أي سلطان المال الربوي‬ ‫وسلطان الكلام المخادع أو الكاذب‪ .‬وعلينا أن نحدد العلاج الذي يقترحه والذي هو المخرج‬ ‫من هذين التحريف لسلطان الأداتين‪.‬‬ ‫والبداية هي من النهي القرآني لهذا التحول المحرف للسلطانين أي تحول سلطان أداة‬ ‫التواصل إلى سلطان تربية وسيط بين الإنسان وربه في التربية وتحول سلطان أداة التبادل‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪45‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫إلى سلطان وصي بين الإنسان وأمره في الحكم بآيتين ليس أوضح منهما‪ :‬الغاشية \"فذكر إنما‬ ‫أنت مذكر (‪ )21‬لست عليهم بمسيطر (‪.\")22‬‬ ‫لكن المعنى شديد العمق ولا يمكن إدراك علاقته بدين العجل الذي هو الأبيسيوقراطيا‬ ‫أو البنية العميقة الواحدة للثيوقراطيا والأنثروبوقراطيا (الديموقراطية ومثالها الأوضح‬ ‫هو ديموقراطية أمريكا التي صارت تحاكيها كل الديموقراطيات في العالم)‪ :‬كلاهما يحكم‬ ‫بسلطان معدن العجل ويربي بسلطان خواره‪.‬‬ ‫والفرق بين الثيوقراطيا والانثروبوقراطيا هو أن ما يعلل به الاول استبداده وفساده‬ ‫اللذين يخفيهما هو نسبة أفعاله لشرع الله وواجبات الإنسان إزاءه وما يعلل به الثاني‬ ‫استبداده وفساده اللذين يخفيهما هو نسبة أفعاله لشرع الإنسان وحقوقه إزاء نفسه‪:‬‬ ‫والأساس بحق في الحالتين هو الأبيسيوقراطيا وكل سلطان على الأذهان وعلى الأعيان إذا‬ ‫لم يكن بمعيار النساء ‪ 58‬فهو من هذا الجنس فاقد للأمانة والعدل‪ :‬يعتمد قوة المال الفاسد‬ ‫والكلام المخادع‪.‬‬ ‫هذه البنية العميقة للنظامين الثيوقراطي والانثروبوقراطي هي الابيسوقراطيا التي‬ ‫تحرف التربية والحكم ليكونا وسيلة تحقق الربا المادي أساسا لحكم الإنسان والتحريف‬ ‫الروحي أساسا لتربية الإنسان ولا تكون الدنيا والآخرة إلا أداتي التخييل أولاهما‬ ‫باللاتناهي المادي والثانية الروحي الزائفين‪.‬‬ ‫ومرة أخرى يمكنني أن ادعي أني حقا محظوظ‪ .‬فالنظامان اللذان يجسدان الدليل‬ ‫القاطع على صحة هذه النظرية هما ذراعا الاستعمار في الإقليم وأعدى أعداء الإسلام‬ ‫فيه‪ .‬إنهما إيران التي هي ثيوقراطيا صريحة وأنثروبوقراطيا شكلية وإسرائيل التي هي‬ ‫انثروبوقراطيا صريحة وثيوقراطيا شكلية‪ .‬وكلتاهما أبيسوقراطيا لا جدال فيها بمعنى أن‬ ‫سطلناها الروحي أقوال كاذبة وسلطانها المادي أموال فاسدة‪.‬‬ ‫وذانك هما بعدا العجل في القصة‪ .‬فمعدنه هو الذهب المسروق لأنه استعير من المصريين‬ ‫ثم هرب وكلامه خوار وهو الصوت الذي يخدع لكونه محل الكلام دون أن يكون له دلالة‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪46‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫صادقة‪ .‬وذلك فإيران وإسرائيل كلتاهما تستعمل نوعي الربا الأرضي والسماوي أساسا‬ ‫للسيطرة على الأبدان‪ .‬فكلتاهما تستعمل الخوار للسيطرة على الأذهان وتستعمل المال‬ ‫المسروق للسيطرة على الأبدان ليس عند غيرهما فحسب بل حتى في شعبيهما وهما التعين‬ ‫الحقيقي لدين العجل بوصفه البنية العميقة للتربية والحكم باسم أو وباسم الإنسان كذبا‬ ‫وبهتانا ولا يخفى ذلك على عاقل مهما تحامق‪.‬‬ ‫ومن يقرأ القرآن مجهزا بمعادلة دور رمز الفعل أو العملة في التبادل وتحولها إلى سلطان‬ ‫على المتبادلين ودور فعل الرمز أو الكلمة في التواصل وتحولها إلى سلطان على المتواصلين‬ ‫والأولى بالربا والثانية بالكلام المخادع يفهم أن البعد النقدي من عرض تاريخ الأديان‬ ‫هذا مداره ودلالته الخلقية‪.‬‬ ‫ولما كان لهذا الانتقال من الأداة إلى السلطان في حالتي العملة والكلمة أمرا ذاتيا لهما‬ ‫فإن المشكل ليس فيه بل في طبيعة السلطان الذي يتحولان إليه‪ .‬ومن هنا بات الكلام على‬ ‫التحول مرتبطا وثيق الارتباط بنظرية التربية ونظرية الحكم في القرآن وبمعادلة التبادل‬ ‫والتواصل وما بينهما من تفاعل في الاتجاهين مع أصل هو عين كيان الإنسان أو علاقة‬ ‫العضوي (البدن) بالروحي (وعي صاحبه به) وتفاعلهما‪.‬‬ ‫أشرت إلى التفاعل بين التبادل والتواصل وأداتيهما وكيف يكون سلطانهما موجبا‬ ‫ومتحررا من ربا العملة وخداع الكلمة‪ .‬فالتبادل يأخذ من التواصل فيصبح هدية محب وهو‬ ‫أساس الأسرة العضوية‪ .‬والتواصل يأخذ من التبادل ويصبح وعد حر أو إنفاق لوجه لله‬ ‫أو وقف وهو أساس الأسرة الروحية والوقف العام هو ا لتعاون العيني كما في المجتمعات‬ ‫التي تحررت من الربا‪ .‬وكلاهما سلطان معنوي‪.‬‬ ‫وقد شرحت ذلك عند الكلام على التعاون بين الأجوار في المناسبات التي تحصل لكل‬ ‫إنسان (مثل الزواج والموت أو بناء الكن‪ .‬ويمكن أن ينتظم تمويل الاستثمار بهذا الأسلوب‬ ‫ولكن ليس بالاعتماد على المناسبات المتماثلة والتعاون التعيني للمشاركة في كلفتها بل‬ ‫بنظرية التمويل المعتمد على العلاقتين الشارطة والمشروطة في كل إنتاج‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪47‬‬ ‫الأسماء والبيان‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook