أبو يعرب المرزوقي أو كيف تصبح الأداتان سلطانين؟ الأسماء والبيان
المحتويات 1 -الفصل الأول 1 - -الفصل الثاني 10 - -الفصل الثالث 15 - -الفصل الرابع 21 - -الفصل الخامس 26 - -الفصل السادس 32 - -الفصل السابع 37 - -الفصل الثامن 43 - -الفصل التاسع 51 - -الفصل العاشر 59 - -الفصل الحادي عشر 66 - -الفصل الثاني عشر 72 -
-- لما وضعت نظرية الرمزين وما يترتب عن تفاعلهما في الاتجاهين وما يوحد بينهما ليجعلهما رمزين كافيين الكلام في مهمتي الإنسان من حيث هو مستعمر في الأرض ومستخلفا فيها لم أكن أتوقع أنهما يصلحان في الحالتين أي في حالة تحقيق المهمتين بهما مقصورين على دورهما أم متجاوزين لهما تجاوزا موجبا أو سالبا. لم أكتشف انطباقهما على هذا العدوان على دورهما إلا خلال بحثي في البنية العميقة للنظامين السياسيين الثيوقراطي والانثروبوقراطي (أي الديموقراطي) .وقد سميت هذه البنية العميقة باسم قرآني هو \"دين العجل\" الذي عبده بنو إسرائيل في غياب الرسول النبي موسى عليه السلام وبعداه يرمز إليهما :معدن العجل وهو رمز العملة لأنه من الذهب وخواره وهو رمز الكلمة لأنه صوت دال .والرمزان اللذان يغيران كل التصورات حول الاقتصاد والثقافة ويفهماننا طبيعة الثورة التي أحدثها الإسلام برفض ربا الأموال المصاحب للعملة عندما تصبح أداة سلطان على المتبادلين وربا الأقل المصاحب للكلمة عندما تصبح أداة سلطان على المتواصلين هما: .1الرمز الذي يجعل التبادل ينتقل من المقايضة إلى التبادل بالعملة التي تتعين فيها القيم المادية تعينا مجردا يجعلها معبرة بصورة عامة عن قيم جميع البضائع والخدمات. .2والرمز الذي يجعل التواصل ينتقل من الإشارة إلى العبارة أو التواصل بالكلمة التي تتعين فيها القيم المعنوية تعينا مجردا يجعلها معبرة بصورة عامة عن قيم التصورات والعلاجات. فهذان الرمزان هما :العملة وسميتها رمز الفعل لأن ما يتبادله الناس هو أفعالهم أو ثمراتها والكلمة سمتيها فعل الرمز لأن التواصل هو تفاعل رمزي .والتفاعل بين الرمزين من العملة إلى الكلمة أو من الكلمة إلى العملة يضفي على كل منهما بعض من صفات الثاني .فالعملة يمكن أن تصبح أداة تواصل حيث ما كان تبادلا يصبح هدايا تعبيرا عن أبو يعرب المرزوقي 1 الأسماء والبيان
-- الصداقة .والكلمة يمكن أن تصبح تبادلا حيث ما كان تواصلا يصبح وعودا تعبيرا عن ثقة التعامل أساس للقرض .وهذه العناصر الأربعة المؤلفة من الرمزين وتفاعلهما: .1رمز الفعل=العلمة للتبادل .2فعل الرمز=الكلمة للتواصل. .3وما أخذه الأول من الثاني أو الهدايا بين الأصدقاء والأحباء. .4وما أخذه الثاني من الأول أو القرض الخدماتي الذي هو تعاون ينتظر المقابل في نفس الظرف كما يحصل في الأعراس والوفيات في المجتمعات القريبة من الطبيعة والإنسانية. .5وتشترك كلها في أصل واحد هو وحدة كيان الإنسان المادي (علة التعمير وقيمه) والروحي (علة الاستخلاف وقيمه). ومرة أخرى لا بد من رد الفضل لصاحبه .فهذا صوغ نظري وضعته لترجمة نظرية ابن خلدون الذي شرح اسم كتابه بالصورة التالية :سمى العمران البشري تنازلا للعيش في الحيزين المكاني والزماني لسد الحاجات بالتعمير .والتنازل يعني المشاركة في المنزل. وسمى الاجتماع الإنساني تنازلا للعيش في نفس الحيزين الزماني والمكاني للأنس بالعشير بعد أن يكونا قد تضاعفا بفضل تفاعلهما لأن التعمير ينتج الثروة والاستخلاف ينتج التراث. ويكفي أن نترجم الأنس بالعشير بمعنييه في الأسرة وفي الجماعة بكونه جوهر التواصل الذي هو مفهوم التعارف الاستخلافي في القرآن (الحجرات )13وأن نترجم التعاون لسد الحاجات بكونه جوهر التبادل للخدمات والبضائع الذي هو مفهوم التعاون التعميري في القرآن (استعمركم في الأرض) حتى نستنبط من تفاعلهما ما استنبطته أي الهدايا والقروض بالمعنى غير الربوي وهو التبادل العيني كما في التعاون في البوادي في الاعراض والوفيات (كل الاجوار تشارك اهل العرس أو أهل الميت في كلفة الحدث والكل ينتظر المقابل عندما يحصل له مثلهما) وأن نعيد الأربعة إلى أصل واحد هم أن الإنسان لها حاجات عضوية ومطالب روحية. أبو يعرب المرزوقي 2 الأسماء والبيان
-- ولا يخلص من الربا إلا هذا الحل في تمويل الاقتصاد .وقد بينت أن الادخار الذي تستعمله البنوك استعمالا ربويا علته أنه ليس خاضعا لهذا المنطق في التعاون بين أصحاب النشاط الاقتصادي بمنطق التكامل وليس بمنطق التنافس والتكامل يخضع لمنطق التسابق في الخيرات :تجويد المنتج بضاعة كانت أو خدمة وهي بالجوهر متكاملة إذ كل إنتاج يقتضي كل شروطه ومقتضى في كل مشروطاته .لا يوجد إنتاج غنيا عما هو شرط فيه ويكون غيره مما هو مشروط فيه مستغنى عنه. ولذلك فكل نشاط بحاجة لنمو الأنشطة الشارطة له وتنمية الأنشطة المشروطة به. وبهذه الصورة ننتقل من التنافس على نفس النشاط الذي يجعل الاقتصاد خاضعا للتنافس أو لمنطق الصراع الجدلي إلى التسابق في الخيرات الذي يجعل الاقتصاد خاضعا للتسابق في الخيرات :الكل ينمو بنمو ما قبله شرطا لنموه تكونا وما بعده شرطا لنموه تطورا كميا وكيفيا .وهذا هو الحل الوحيد الذي يناسب معنى الاقتصاد في الرؤية القرآنية. وينطبق هذا المبدأ في انتاج القيم المادية بضائع وخدمات انطباقه في انتاج القيم المعنوية نظريات ومناهج في المعرفة وفي الذوق .ومعنى ذلك أن التسابق في الخيرات يمكن أن يكون أكثر وضوحا في إنتاج الثقافة والتراث منه في انتاج الاقتصاد والثروة .ذلك أن التكامل بين العلوم والفنون مثلا لا يخفى حتى على الاحمق :ولولاه لاستحال أن تنمو العلوم والفنون وتطبيقاتهما وأن تتطور .والتكامل لا ينفي التناقد لكنه يخضع لمنطق التواصي بالحق وليس لمنطق الاقتتال على الباطل. وذلك هو دور النظرية التي وضعتها :اكتفيت بهذا الاستنباط ثم بإبداع مفهومين هما رمز الفعل أو العملة التي هي شرط التبادل وفعل الرمز أو الكلمة التي هي شرط التواصل. وبذلك أكون قد صغت المعاني التي اراد ابن خلدون علاجها بتصور \"خام\" فجعلتها ذات تصور فلسفي مجرد يمكن من تأسيس خلدونية جديدة. فما الجديد فيها؟ أولا أصبح بالوسع فهم دين العجل بوصفه البنية العميقة للثيوقراطيا والديموقراطيا التي أفضل تسميتها انثروبوقراطيا لأن اساس الحكم فيها كما تقول عن أبو يعرب المرزوقي 3 الأسماء والبيان
-- نفسها هو الإنسان مثلما أن اساس الحكم في الثيوقراطيا كما تقول عن نفسها هو الله .لكنهما في الحقيقة أبيسيوقرطيا أي حكم العجل. فما هو حكم العجل؟ هذا مفهوم قرآني :هو الحكم الذي يجعل أداة التبادل أداة سلطان على المتبادلين وهو سلطان ربا المال أو على البشر رمزه معدن العجل أو الذهب المسروق (من المصريين) يجعل أداة التواصل أداة سلطان على المتواصلين هو سلطان ربا الأقوال عليهم ورمزه خوار العجل الخداع السياسي. وربا الأموال هو سلطان القيم المادية أو مدى التأثير في إرادة الإنسان وحريته بالتأثير بما يمكن من سد الحاجات العضوية وما يتبعها وربا الأقوال هو سلطان القيم الروحية أو مدى التأثير في إرادة الإنسان وحريته بالتأثر ما يمكن من سد الحاجات الروحية وما يتبعها. ولا يمكن أن يؤثر صاحب السلطان الأول من دون الثاني ولا يؤثر صاحب السلطان الثاني من دون الأول. وإذن فهما متلازمان تلازم السلطة السياسية والسلطة الإيديولوجية في أي جماعة سواء كانت السلطة الأيديولوجية مستمدة من الدين إيجابا أو مما هو مستمد من نفيها وهي إذن منه سلبا في الفكر العلماني .وأفضل مثال على ذلك العلمانية اليعقوبية الفرنسية :فهي دينية سلبا بمعنى أنها كاثوليكية بالنفي .ولذلك ففرنسا هي أقل بلاد الغرب الحديث ديموقراطية. وتحول أداة التبادل إلى سلطان على المتبادلين له نوعان من التجلي وهو جوهر فاعلية الثيوقراطيا والانثروبوقراطيا :الربا الدنيوي عند الثانية والربا الأخروي عند الأولى. يعني جوهر سلطان إسرائيل أو الربا الدنيوي وجوهر سلطان إيران أو الربا الأخروي :ربا وساطة الدنيا وربا وساطة الأخرى. لكن ما كان ذلك ليكفي لو لم يصحبه أيضا تحويل التواصل إلى سلطان على المتواصلين. فالإيديولوجيا الدنيوية في شكل الاعلام المغالط والملاهي هما أداة هذا السلطان في أبو يعرب المرزوقي 4 الأسماء والبيان
-- الانثروبوقراطيا والايديولوجيا الأخروية في نفس الشكل هما هذا السلطان في الثيوقراطيا .ويشتركان في المخدرات والتسيب الجنسي. وكل هذه المعاني ما كانت لتصبح قابلة للفهم وخاصة للتناظر العجيب بين الثيوقرطيا والانثروبوقراطيا .وهو ما تتبين طبيعته بمجرد استعمال نظرية الأبيسيوقرطيا (دين العجل) بوصفها البنية العميقة المشتركة بين الرؤيتين مع التأسيس الأخروي عند الثيوقراطيا والتأسيس الدنيوي عند الأنثروبوقراطيا :إذن نفس الشيء من حيث آليات العلاقة بين الرمزين والسلطة المادية بربا الاموال والروحية بربا الأقوال. كل هذا سبق أن شرحته .وهو ليس موضوعي في هذه المحاولة بل هم مقدمة. موضوعي هو ظاهرة أخرى أغرب من هذه :كيف تسود العملة الزائفة والكلمة الكاذبة في المجتمعات التي من جنس المجتمعات التابعة كما هي حال أهل الإقليم الآن؟ أو كيف تفسد القدرتين التبادلية والتواصلية وأدواتهما دنيويا وأخرويا. ولكي أيسر على القراء طبيعة المشكل الذي اريد علاجه فلينظروا في العملات العربية - ولا تستثنون العملات العربية التي تعتبر عملات صعبة لأنها كذلك بسبب كونها في الحقيقة نتيجة صفقة الترجمة بترول دولار-بل انظروا في حدود التبادلLes termes de - -l'échangeلتعلموا القصد ما سأتكلم فيه. فعملات البلاد العربية التي لها مفعول العملة الصعبة خدعة لأن ما ينبغي النظر اليه هو ما يضيع في بخس الخامات المصدرة وفي غلاء المستوردات حتى تعلم أن هذه العملات من حيث الفاعلية التبادلية لا تختلف كثيرا حتى عن الدينار التونسي الذي ليس له قابلية التبادل خارج تونس .والمثال الثاني أوضح. وأبدأ هذا المثال بسؤال :من يصدق كلام العرب؟ وخاصة عندما يتواصلون في ما بينهم ناهيك عن كلامهم عندما يصبح عنتريات؟ الآن أحدد ما سأتكلم فيه :رأينا أن رمز الفعل (العملة) وفعل الرمز (الكلمة) يصبحان سلطانا على المتبادلين والمتواصلين مشكلي هو العكس :كيف يفقدان وظيفتهما وسلطانهما؟ أبو يعرب المرزوقي 5 الأسماء والبيان
-- سنة 1971لما بعثت إلى فرنسا لمواصلة الدراسة كان الدينار التونسي يساوي دولارا وخمس اليوم الدولار يساوي ثلاثة دنانير .ومعنى ذلك أن الدينار التونسي من دولار وخمس إلى ثلث دولار فإذا أضفت أن ما تصدره تونس جله خام وما تستورده محول فضلا عن التداين فإنها لا يمكن إلا أن تزداد غرقا في التبعية. فإذا نظرت الآن في كلام ساستها ونخبها فإن ما حصل في العملة يحصل أكثر منه في الكلمة. معنى ذلك حتى لو تعادلت الكلمة مع العملة فإن كلام الساسة والنخب هو في نفس النسبة بمعنى أن كلمة سياسيي تونس هي دون ثلث كلمة سياسيي أمريكا من حيث الصدق والفاعلية والتأثير في مجرى الأحداث حتى التونسية. ودافعي للكلام في المسألة كنت أجله دائما حتى قررت اليوم الشروع فيها لأني سمعت كلمة الرئيس اليوم .فصاحب الحزب الذي ادعى أن له من النخب من يقدر على تسيير أربع دول كانت كلمته اليوم شبه تنصل مما حدث في مدة حكمه الذي قرب من نهايته ولم ينجز 1في المائة مما وعد عدا \"التجلميغ\" والضمار .وإذن فعلينا أن نفهم: .1دور العملة أو رمز الفعل بالأموال. .2دور الكلمة أو دور فعل الرمز بالأقوال. .3دور ما أخده التبادل من التواصل أخذا يضفي عليه بعضا من خاصية التواصل (الهدايا بين الناس). .4ودور ما أخده التواصل من التبادل أخذا يضفي عليه بعضا من التبادل (أعني التعاون العيني). .5ثم علاقة القيام العضوي بالقيام الروحي في الوجود الإنساني وهو أساس كل ما تقدم لأن أي فرد إنساني هو ثمرة التبادل العضوي والتواصل بين الكائنات الحية. ولا بد هنا من الإشارة إلى أمر عجيب .فلو فرضنا أن البشرية بدأت بالقليل من البشر أي على الأقل زوجين اثنين رجل وامرأة فإن الفرد ذكرا كان أو انثى يقتضي دوريهما وكل واحد من أبنائه يقتضي دورين متقدمين على دور أبيه ودور أمه اللذين اشترط كل منهما أبو يعرب المرزوقي 6 الأسماء والبيان
-- أبا وأما فكان كل منهما مشروط بزوجين اثنين ويكون مشروطا بأربعة وهكذا دوليك سوء أدبرنا أو أقبلنا :في الحالتين نحن أمام متوالية هندسية .ومن ثم فكل فرد يوجد في ملتقى متوالية هندسية مدبرة ومقبلة .ما يعني أن كل فرد يتضمن في كيانه كل الإنسانية المتقدمة وكل من يليه يتضمنه في كيانه العضوي. والعجيب أن نفس هذه الظاهرة تنطبق على كيانه الروحي أو تراثه الحضاري .فلا وجود للفرد من ثم إلى بوصفه هذا الملتقى في الإدبار والإقبال عضويا وروحيا .والروحي متوالة اكسبوننسيال (متوالية القوى أو المتوالية القووية) وليست هندسية فحسب لأن العضوي يقتضي الزوجين في كل مرة ويتوالى بمقتضاها في حين أن الروحي يقتضي كل من أسهم في الإنتاج الرمزي سواء كان معرفيا أو ذوقيا أو تطبيقا للمعرفة أو تطبيقا للذوق مع التذكير بأن ذلك رهن التواصل بين الحضارات والجماعات وبأن الجميع يسهم في هذين الانتاجين حتى لو بدا غير مشارك. فالتراكم المعرفي والذوقي نوعان :نوع نعلم من أبدعه وهو القليل والبعض الآخر يبدعه كل من يسهم في أي نشاط دون أن يعرف بكونه قد شارك في إبداعه الذي هو من جنس تراكم لا متناهي الصغر من التغير الذي يحصل .مثال ذلك اكتشاف المأكولات مما تنتجه الطبيعة .فلسنا ندري من اكتشفها وهي لا تكاد تكون متناهية .والثابت أن ضحايا هذه الاكتشافات بالملايين :فكم من مات خلال تجريب أكل نبتة قبل أن يصبح البحث العلمي ذا نظام يمنع مثل ذلك في الغالب وذلك بدافع حب الاطلاع أو الجوع فيموت لأن تلك النبتة سامة مثلا في بداية التاريخ الإنساني. ووجود الإنسان نوعان فردي وجمعي في جميع الحضارات وهما المحددان الأساسيان لوجوده ما يعني أن العضوي يبقى دائما مقدما على الحضاري .ولا تصدقن من يزعم أن الفردية ظاهرة حديثة .فهي ملازمة للأديان حتى لو سلمنا بأن الفلسفة اكتشفت الفردية حديثا .وفي الحقيقة فما اكتشفته ليس الفردية التي هي قيام عضوي لا يحتاج للتقدم الموصل إليه لأنه شرط القيام الإنسان من أصله بل هي ابدعت الفردانية ولم تكتشفها. أبو يعرب المرزوقي 7 الأسماء والبيان
-- ما اكتشفته الحداثة ظاهرة مرضية في حياة الجماعات وهي التي يمكن أن تقضي عليها لأنها تؤدي إلى أن الفرد يصبح رافضا للعطاء ويقتصر على الأخذ وأهم علاماته عدم تحمل كلفة «انتاج» الجيل الموالي عضويا وثقافيا لأنه يجعل نفسه غاية ولا يريد التضحية من أجل تواصل النوع .فيصبح الجنس مطلوبا لذاته فحسب ولم يعد بحاجة للقاء الجنسين إذ يمكن أن يكتفي كل جنس بذاته (المثلية) بل حتى كل فرد بذاته (الاستمناء) ومثله كل المتع والحياة .وتلك هي الفردانية وهي بداية الانتحار الجمعي وهي غير الفردية التي هي مناط الحرية والتكليف والمسؤولية في الأديان أو على الأقل في الإسلام: .1وجود الإنسان متعين في الفرد شرطا في تواصل النوع أخذا من الطبيعة وعطاء للحياة. .2وجود الإنسان متعين في الجماعة شرطا لتكون الأفراد الذين هم «اداة» الاخذ والعطاء المذكورين. والجماعة تتحد كأنها فرد عندما لا تصبح العملة والكلمة ذات سلطان على المتبادلين والمتواصلين فيها .والفرد يتفكك وكأنه جماعة في حرب أهلية فيفقد وحدته عندما تصبح العلمة والكلمة أداتي سلطان عليه :وتلك حال الإنسان بنوعيه عندنا حاليا. وسننظر في هذه الحالة بحسب أصناف النخب الخمس :نخبة الإرادة أو الساسة ونخبة المعرفة أو الباحثين العلميين ونخبة القدرة أو المنتجين الاقتصاديين والثقافيين ونخبة الذوق أو نخبة الفنون والألعاب ونخبة الوجود أو الرؤى الوجودية دينية كانت أو فلسفية وكيف هم مع رمز الفعل وفعل الرمز. ويكون ذلك في الحالتين غير السويتين الموجودتين لأن الحالة السوية لا وجود لها كما بينت في أي مجتمع لأنها هي ما يطلبه الإسلام وما لم يحدد علماؤه كيفية جعله يصبح قابلا للتطبيق أي كيف يكون الاقتصاد من غير ربا الأموال وتكون الثقافة من غير ربا الأقوال: بل جعلهما سلطانا وفقدانهما السلطان. والغريب أن هذه الحالة هي أيضا مما عالجه ابن خلدون حتى وإن لم يكن بمقدوره صوغها مفهوميا لعدم وجود المفهومين اللذين وضعتهما لجعل ما تكلم عليه ابن خلدون يصبح مادة أبو يعرب المرزوقي 8 الأسماء والبيان
-- فكر فلسفي ولا يبقى مجرد حدوس خام لا تمكن من تجاوز ملاحظة الوجود دون تعليل: فصل خصصه للترف وآثاره الاقتصادية والثقافية. أبو يعرب المرزوقي 9 الأسماء والبيان
-- حتى لا أظلم النخب فلأضرب مثالا على المسؤولية الجماعية على الظاهرة التي سأصف. فالمثال هو مما يجري لدعاة كبار في السعودة كنا نسمع أن الواحد منهم له ملايين المتابعين في التويتر والفايس بوك وكل وسائل التواصل الاجتماعي .لكنهم يسجنون ويعذبون ولا أحد من هذه الملايين يحرك ساكنا فاحتج أو تظاهر دفاعا عنهم. وهذا -حتى وإن لم يكن كافيا لتعليل ما أنوي الكلام فيه-فهو يجعل من حق العلماء والمفكرين أن يخافوا وألا يضحوا بحيواتهم وراحة أسرهم من أجل شعوب ماتت فيها الرجولة والشهامة للدفاع عما يؤمنون به ونسوا قاعدة حزمة العصي .وأحمد الله أني ليست داعية وليس لي متابعين حتى بالمئات :شكرا لله. أعود إلى موضوعي .لماذا لا بد من قراءة الظاهرة ببعديها الكوني الذي يتثمل في تحول العملة من أداة للتبادل والكلمة من أداة للتواصل إلى أداتين للسلطان على المتبادلين والمتواصلين والخصوصي الذي يجعل تفقد وظيفتها وحتى هذا الانتقال إلى أداتي سلطان إلا بتوسط العملاء المستبدين بالمستضعفين. ومعنى ذلك أن العملة والكلمة عند العرب تجتمع فيهما الظاهرتان :فهما خاضعتان للانتقال من الأداة إلى السلطان عند من يحكم في حكامنا ونخبنا التي تخدم الخدام وسادتهم وإذن فهو انتقال يضيف إلى وظيفتهما سلطانا بهما وخاضعتان لسلطان بما ينقص منهما وليس بما يضاف إليهما :فهو مع هناك هو إلا هنا. وهذا يتبين بظاهرة القرض الذي تحصل عليها المجتمعات التي يحصل فيها الانتقال السالب من اصحاب الانتقال الموجب وهذا القرض لم يعد مقصورا على فقراء العرب بل حتى اصحاب البترول صاروا يقترضون أولا لأن البترول فقد الكثير من قيمته وثانيا لأنهم دخلوا مغامرات كلفتهم الكثير فأصبحوا يقترضون. وطبعا القرض هنا ليس كما وصفته في الفصل الأول هو تحول التبادل إلى تواصل بفضل الثقة بين المستلف والمسلف بل هو بيع المسلف أصوله مقابل السلف وهو إذن تواصل بين أبو يعرب المرزوقي 10 الأسماء والبيان
-- محتاج ومرابي .ولما كان السلف يقع بعملة المرابي وكان المحتاج ليس له عملة مستقرة القيمة فهو يخضع إذن للنقلة السلبية التي وصفت. حمدت الله وشكرته لأني ليست داعية ولأنه ليس لي متابعين كثر حتى لا ألوم أحدا كما فعلت في كلامـي على علماء السعودية الذين يتابعهم ملايين وقت اليسر وينساهم أضعافهم وقت العسر .لا أنتظر شيئا من أحد .ولذلك فلست مدينا لأحد بضرورة التبسيط الذي اعتبره احتقارا لعقل المخاطب وإرادته التعلم. الظاهرة عسيرة ولا لوم على ما فيها من تعقيد :المواطن العربي يخضع لمفعوم الإضافة الموجبة في عملة رب أربابنا أي من المستعمر بالإضافة الموجبة التي تنقل العلمة والكلمة من أداتين إلى سلطانين علينا بتوسط عملتنا وكلمتنا وبالإضافة السالبة التي تنقلهما إلى تغذيتنا بالورق عديم الرصيد والخطاب عديم الوزن. ويكفي أن أذكر القراء بما كانت عليه الليرة التركية :أول مرة زرت تركيا منذ عشرين سنة تقريبا عجبت لكثرة الأصفار في علمتها .ولست بحاجة لزيارة العراق أو سوريا لأعلم أن الدينار العراقي الذي كان يساوي ثلاث دولارات صار يساوي أقل من عشر من قيمة الدولار .ودينار الجزائر قريب من ذلك. الظاهرة التي أريد وصفها وتشخيص ما يترتب عليها من أدواء في مجتمعاتنا ليست بعيدة عن أذهان الناس فالجميع يراها ويحرقه لظاها والمشكل ليس في الانتباه لوجودها بل في محاولة فهمها علما كما أسلفت وأن ابن خلدون تكلم عليها وعللها بفساد الأخلاق في المدن أو بسلوك المترفين عند شيخوخة الدول. سأتكلم على النخب بأصنافهم الخمسة المضاعفة :نخبة الإرادة الحاكمة والمعارضة ونخبة المعرفة الطبيعية والإنسانية ونخبة القدرة الاقتصادية والثقافية ونخبة الذوق الفنية والرياضية ونخبة الرؤى الوجودية الدينية والفلسفية في البلاد العربية .آخذها زوجين زوجين قبل الكلام على وحدة المحميات. أبو يعرب المرزوقي 11 الأسماء والبيان
-- لماذا سميت الساسة من يحكم ومن يعارض -في حالة التداول كلهما يمر بالوضعيتين-وفي حالة عدمه يكون التغيير حربا أهلية لأن التداول حتمي لكنه يكون خاضعا للقانون الطبيعي أي للتغالب ويمكن أن نصف النظام بكونه حينها حاكم متربص به .وهذه هي حال العرب .والتربص ليس بالضرورة من خارج الحكم. وهذا يحدث خاصة في الأنظمة القبلية الملكية أو في الأنظمة الفاشية العسكرية .التداول يكون بالانقلاب الداخلي وغالبا ما يؤدي فيه السم والقتل والنساء الدور الأول .وفي حالة وجود حام خرجي كحال العرب كلهم فإن له دورا في هذا النظام الخاضع للقانون الطبيعي مع شرعية شكلية للتداول الانقلابي. وفي هذه الوضعية -القبلية الملكية والفاشية العسكرية-كيف يكون سلوك العملة والتبادل والكلمة والتواصل بين فكي الكماشة الخارجية وعلاقة الحكم ونخبه بالحامي وعلاتهما بالشعب أي بعملة الحامي وكلمته وبعملة البلاد وكلمتها :أول ملاحظة هي صدق الأوليين مع الحامي وكذب الثانيتين مع الشعب. ومعنى ذلك أن الحكام ونخبهم تكون لهم سياسة الخضوع للحامي عملته وكلمته في دورهما السلطاني الموجب أي الفاعل حقا مع دورهما الأداتي العادي وسياسة الاخضاع للشعب وعملته وكلمته في دورها السلطاني السالب أي المنفعل حقا :كل يوم الشعب يخسر قيمة عملته وقيمة كلمته. وكانت القبائل الملكية والفاشيات العسكرية قد حاولت اخفاء هذه الظاهرة بما يشبه دولة الحضانة الكفافية بمعنى سياسة التعويض في المواد الأساسية التي تعتبر الشعب مثل الحيوانات يكفيه \"العلفة\" الدنيا أي الكفاف الدي يلامس حياة المجاعات في الشعوب العاطلة والتي لا تنتجه شيئا بل تستورده. فعندما تعلم أن الجزائر التي مساحتها تكاد تساوي مساحة الاتحاد الأوربي قبل توسيعه تستورد أكثر من 90في المائة من غذائها وأن العراق الذي فيه النهران يستورد أكثر من ذلك وقس عليهما جل بلاد العرب تعلم أن ذلك لا يمكن أن يكون وليد الصدفة أو ناتجا أبو يعرب المرزوقي 12 الأسماء والبيان
-- عن كسل طبيعي لأن هذه الشعوب كانت تصدر في زمن لم يكن فيه تقدم تقني يساعد في الزراعة. ففرنسا مثلا استعمرت الجزائر سنة 1830بمناسبة حادثة استغلتها للهجوم عليها والمناسبة هي أن داي الجزائر طالب سفير فرنسا بدفع ما على فرنسا من دين مقابل ما استوردته من قموحها .وحتى تونس كانت تعتبر مطمورة روما .فماذا حدث حتى تنقلب العلاقة فيصبح العرب يستوردون قوتهم؟ ولا يمكن أن نعلل ذلك بفساد الحكام ونخبهم فحسب رغم عدم نكران ذلك .ولكن العلة أعمق .فالفساد المقصود عند الكلام على الحكام هو فساد الذمة السياسية والخلقية في ما يتعلق بالعملة والكلمة .وهذا لا شك فيه .لكن الظاهرة التي أشار إليها ابن خلدون أعمق وتفسر أكثر ما عليه الشعوب ذاتها أيضا. ويتعلق الأمر بما يحصل في الثقافة العامة وفي إرادة الشعوب وأخلاقها بسبب ما ينغرس في نفوسها وأرواحها من أثر التربية والحكم العنيفين وسمى ذلك فساد معاني الإنسانية الذي يؤدي لانقراض الشعوب في التاريخ لما تفقد خمس صفات هي عين ما تعاني منه الشعوب وبدأت تثور عنه في لحظتنا. يقول ابن خلدون في الفصل 40من باب المقدمة السادس في \"فساد معاني الإنسانية\" الذي ما يزال مسيطرا على الكثير من شعوبنا وخاصة التي لم تشرع بعد في ثورة ربيع الإقليم\": ومن كان مرباه بالعسف والفهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم: .1سطا به القهر وضيق على النفس فيا انبساطها وذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل (الخمول). .2وحمل على الكذب والخبث وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفا من انبساط الأيدي بالقهر عليه (النفاق). .3وعلمه المكر والخديعة لذلك وصارت له هذه عادة وخلقا (دهاء الضعفاء). أبو يعرب المرزوقي 13 الأسماء والبيان
-- .4وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمدن وهي الحمية والمدافعة عن نفسه أو منزله وصار عيالا على غيره في ذلك .5بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها فارتكس في أسفل سافلين\". هذا من حيث البعد التربوي ثم يأتي بعد الحكم\" :وهكذا وقع لكل أمة حصلت في قبضة القهر ونال منها العسف واعتبره في كل من يملك أمره عليه ولا تكون الملكة الكافلة له رفيقه به .وتجد ذلك فيهم استقراء .وانظره في اليهود وما حصل بذلك فيهم من خلق السوء حتى إنهم يوصفون في كل أفق وعصر بالخرج ومعناه في الاصطلاح المشهور التخابث والكيد وسببه ما قلناه\"( )..ومن كلام عمر رضي الله عنه \"من لم يؤدبه الشرع لاأدبه الله\" حرصا على صون النفس عن مذلة التأديب\". لا أعتقد أنه يوجد قارئ يشك في أن هذا الوصف مطابقة شديد المطابقة لحال الشعوب الكسلى الخاضعة للمستبدين والفاسدين .لذلك فحيرتي أمام ما يزعم أن الشيخ الفلاني يتابعه مليون أو مليونان ومن سجن ظلما من أمير أحمق لم تسمع لأي منهم صوتا. أبو يعرب المرزوقي 14 الأسماء والبيان
-- بدوت في كلامي على نخبة الإرادة الحاكمة والمعارضة وكأني ابرر سلوكها بخمول الشعوب فاحمل الشعوب مسؤولية أكبر من مسؤوليتهم معتبرا سكوت الشعوب المسؤول الأول عن الوضعية .والقرآن نفسه يبدو ميالا إلى هذا الموقف لأن تدمير القرى لا يعني المترفين وحدهم فيعاقبهم بل هو يعاقب الجماعة كلها. ولما كنت لا أعتقد أن الله ظلام لعباده فإني أردت أن أفهم علة ذلك .وقد تبين لي أنه لا يوجد نظام تربية ونظام حكم يبدآن عنيفين بل هما يتطوران بالتدريج ليصبحا كذلك. ولهذا التطور مساران متناسبان عكسيا .فعنف التربية والحكم ينمو بقدر ما يضمر في الشعوب الحرص على بقاء حقيقة الإنسان. ومعنى ذلك أن ربو العنف في التربية والحكم متناسب عكسيا مع ضمور حقيقة الإنسان التي يعرفها القرآن كما صاغها ابن خلدون \"رئيس بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\" .ولذلك استنتج ابن خلدون من ظاهرة العنف ما هو في آن نتيجة وعلة أي الصفات الخمس التي تعرف \"فساد معاني الإنسانية\" كما بينا. وهذه الصفات: .1الكسل .2النفاق .3المكر والخديعة .4الخضوع للأقوياء .5فقدان طلب الخلق الحميد وتحول ذلك إلى طبيعة ثانية وهو أسفل سافلين وقد وقع خطأ في ذكرها إذ جمعت الصفتان الاخيرتان معا في الفصل السابق هي مراحل الضمور في الرئاسة بالطبع التي للإنسان بمقتضى الاستخلاف. أي إن الضمور في معاني الإنسانية يؤول إلى ما وصفه ابن خلدون بمفهوم قرآني صريح: 'فعاد أسفل سافلين\" وهو مفهوم الخسر الذي يلي خلق الإنسان في أحسن تقويم .فيتبين أن أبو يعرب المرزوقي 15 الأسماء والبيان
-- التحليل الخلدوني يعني في نفس الوقت تشخيصا للداء وإشارة إلى علاجه :نعلم أن شروط الاستثناء من الخسر هو مضمون سورة العصر. وهذا الضمور في معاني الإنسانية ينتهي بإفقاد الإنسان جدارة الاتصاف بالخلافة التي هي منزلته الوجودية .يفقد منزلته الوجودية فيصبح طالبا الانتحار أو العيش بـ\"حياة\" وليس بالحياة .يقول ابن خلدون لم نتدبره :في الفصل 24من باب المقدمة الثاني عند كلامه على مآل الأمة المغلوبة إلى الفناء \":وفيه (تعليل فناء المغلوب) والله أعلم سر آخر وهو أن الإنسان رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له .والرئيس إذا غلب على رئاسته وكبح عن غاية عزه تكاسل حتى عن شبع بطنه وري كبده .وهذا موجود في أخلاق الأناسي ولقد يقال مثله في الحيوانات المفترسة وإنها لا تسافد إذا كانت في ملكة .فلا يزال هذا القبيل المملوك عليه امره في تناقص واضمحلال إلى أن يأخذهم الفناء .والبقاء لله وحده .واعتبر ذلك في أمة الفرس كيف كانت قد ملأت العالم كثرة ( )....ولما تحصلوا في ملكة العرب وقبضة القهر لم يكن بقاؤهم إلا قليلا\" .والفناء ليس بالضرورة عضويا بل هو من حيث الهوية والحضارة. ومعنى ذلك أن الفرس لم ينقرضوا عضويا حتى وإن كان ذلك ما قد يفهم من كلام ابن خلدون بل كهوية حضارية وهو ما يحدث في جل مستعمرات الغرب التي فقدت هوياتها وثقافاتها وصارت تتكلم لغات المستعمر .ومشكلهم مع الإسلام هو أنه هوية متعالية على ما يمكن أن \"يقتله\" المستعمر ذلك هو سر قوة الأمة. فهو لم يلغ لغات الشعوب التي أسلمت ولا ثقافاتهم الخصوصية بل غير معتقداتهم وقيمهم دون أن يمس مكوناته هوياتهم التي تعبر عن الخصوصيات والتنوع غير المتنافي مع الكليات القيمية التي هي مقومات المنزلة الوجودية التي تعرف الإنسان بوصفه \"رئيسا بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\". وهذا التمييز ضروري لأن ابن خلدون اكتفي بما لا يثبته التاريخ .فعدد الفرس لم ينقص بعد الفتح عضويا بل ما نقص هو التماهي بين الخصوصيات الفارسية والهوية ما جعل أبو يعرب المرزوقي 16 الأسماء والبيان
-- الفارسي يمكن أن يكون أكثر إسلاما من العربي بل وأكثر مشاركة في ثقافة الإسلام وحضارته من العربي .ومثله بقية شعوب الأمة. ويمكن القول إن ابن خلدون تدارك هذا الخطأ عندما بين نوعي محاكاة المغلوب للغالب. فالمحاكاة يمكن أن تكون للخصوصيات ويمكن أن تكون للكليات .ففي الأول خطأ في تحديد مصدر قوة الغالب .وفي الثانية صواب لأن المحاكي عندئذ لا يحاكي الغالب في خصوصياته بل في المشترك الإنساني أي سر القوة. وسر القوة واحد .ولأضرب مثالا :باشوات مصر حاكوا نمط عيش الأوروبيين أي ثمرة عملهم دون عملهم .مثلا يبنني قصرا مثل الأوروبي بمهندسين أوروبيين .استورد الثمرة ولم يتعلم فعل الإثمار .الياباني في نفس الوقت تقريبا .لم يستورد الثمرة بل تعلم الإثمار. ولنفهم ذلك فلنقارن مصر باليابان. فشروط الإثمار كونية :لا يمكن أن تثمر شيئا من دون علم وتقنية .والعلم التقنية ليس فيهما محاكاة إلى شكليا يجعل الإنسان تابعا دائما لم يبدع بل لا بد من تعلمهما بطرق تعلمهما وهي أيضا كونية .تعلم الرياضيات عند أمريكي مثلا ليس بتعلم خصوصية الكتابة من اليسار إلى اليمين مثلا بل بتعلم المنطق الرياضي وهو الكوني دون ولا محاكاة فيه إلا للحمير. ولذلك بقي حكام العرب من أكثر شعوب الأرض استحمارا لشعوبهم .فيمكن أن نجعل مدننا أكثر \"حداثة\" من مدن الغرب باستيراد المواد والخطط الجاهزة ومن ثم فلا وجود لتعلم خلال العمل إذ حتى العمل العادي يقوم بها عبيد مستوردين هم بدورهم .وهذا ممكن الآن ما دام عندنا ما نبيع ورثه العربي عن جدوده ولا يد له في وجوده .لكن شعوبنا تبقى بدوية وليست حديثة لسببين: .1أولا كل العمران مستورد وليس ثمرة عمل شبابنا. .2ثانيا نستورد ما يوفر العمل لشباب الغرب والبطالة لشبابنا. أبو يعرب المرزوقي 17 الأسماء والبيان
-- فلا نتعلم شيئا أبدا عدى العادات الاستهلاكية الفاسدة التي تسد حاجة الترف حتى صرنا عاجزين عن انتاج الضروري للحماية والرعاية ناهيك عن الكمالي .وأكبر الأدلة على ذلك أنا جامعات الطب عندنا بعد قرن من تكوينها ما تزال دون التمريض البدائي بدليل أنه لا يوجد غني واحد وخاصة حاكم واحد يتداوى في بلاده .وقس عليه كل شيء .فجميع إنتاجنا التقليدي وئد -بقي وجهه السياحي الفلكلوري-ولم يعوضه ما يستحق الكلام عليه: فضلات ما تجاوزه الغرب. وعندما تستورد ثمرة عمل غيرك فأنت تستورد معها بطالة شبابك وتصدر العمل إلى شاب من تسترود ثمرة عمله .فلم يبق لك إلا دفع مقابل مضاعف: .1بيع خامك بأبخس ثمن .2تخفيض مستوى عيش شعبك بالتدريج وهو ما يجعل عملتك تتآكل ومثلها كلمتك. والقصد بالكلمة هنا وزن موقفك ومنزلتك السيادية في العالم. وهذا هو قصدي بفكي الكماشة التي يمثلها انتقال العملة والكلمة من أداة تبادل وتواصل إلى أداة سلطان على المتبادلين والمتواصلين: .1سلطان موجب أي فاعل عند من نستورد منه ثمرات عمله .2سلطان سالب أي منفعل عندنا بما يحصل من تآكل في العملة وفي الكلمة ونتيجتها التبعية البنيوية في المحميات. وسأستعمل مفهوما قد يظنه البعض مفارقيا -بارادوكسال-لكنه حقيقة اقتصادية لا شك فيها :الربا السلبي أو نقص رأسمال المال بدل ربوه عند المستضعف والذي هو في العادة مادة خام وعمل الشعوب .فالربا عادة هو ما يدفع مقابل استعارة المال في تعينه كعلمة -الذهب كان سابقا-أجرا لاستعماله من قبل المستثمر أو المستهلك لما لا يملك ويعد برده مع الفائدة في المستقل بضمانات وهو رهن لها. وهذا المفهوم -الربا السلبي-هو من جنس هذا الربا الموجب في معناه العادي المتعلق بفائدة القرض المضمون برهن ما يملكه المستعير لدى البنك المعير لم يعد خافيا وجوده أبو يعرب المرزوقي 18 الأسماء والبيان
-- عند من يحلل وضعية البلاد العربية التي هي محميات وشعوبها التي هي مستعبدة مرتين من المستبعد ومن عميله .ما معنى كونه سلبيا؟ في الربا الموجب الذي ينبني عليه الاقتصاد الحديث كله عادة ما يكون القرض منتجا بصورة تمكن بإرجاعه مع فوائده بفضل ما يثمره الاستثمار الذي مول به .وهو بنحو ما رهن بعض المستقبل من أجل بعضه الباقي بعد رد القرض الذي مول الاستثمار .لكن ما يجري في الربا السلبي هو أنه يحقق عكس ذلك .ويصح تسميته ربا سلبيا بالمعنى التالي: .1فالربا الموجب هو الفائدة وهي ربو بمعنى زيادة قيمة رأس المال الذي يعيره المستعمر القوي للمحميات الضعيفة. .2والربا السالب هو الخسارة وهي ربو بمعنى نقصان قيمة رأس المال الذي يسدد ما استعير مع فائدته. ذلك أن سداد الربا في بلادنا-رأس المال وفائدته-ليس ثمرة الاستثمار إذ لا يوجد استثمار بل من يدفعه هو البلاد والعباد بما يصيب ما تصدره ومستوى المعيشة من تدن دائم .فالبلاد تدفعه ببيع الخام الذي تتدنى قيمته بسورة نسقية ومطردة -بعبارة تناظر قيم التبادل- Termes de l'échangeوتدني مستوى معيشة المواطنين بالتضخم وفقدان العملة لقيمتها. وهو ما يعني أن القرض ليس للتنمية بل هو لتمكين الحكام ونخبهم من سرقة شيء لأن حاميهم لا يبقي لهم شيئا آخر لسرقته إذ هو يسرق الخام بأبخس سعر والخدمات التي يتحاج إليها وحتى النخب التي تكون في المحميات والتي تهاجر إليه لسد حاجاته في المجالات التي تنقصه فيها يد عاملة عامة أو مختصة. فحرص فرنسا مثلا على فرض تعليم الفرنسية على العملاء الذين تحميهم لحكمنا ليس بهدف تعليم شبابنا .فمن يتعلم حقا لا بد أن يجعل لغته ناطقة بالعلوم وإذا اختار لغة مساعدة فليختر أفضلها أداء لهذه المهمة التي لم تعد الفرنسية قادرة عليها .هدف فرنسا أبو يعرب المرزوقي 19 الأسماء والبيان
-- لا علاقة له بالعلم بل هو هدف استعماري مضاعف فضلا عن الوظيفة الإيديولوجية لسردياتها الشوفينية: .1أولا حتى يستهلك المغربي فرنسيا في اقطاره الأربعة-تونس والجزائر والمغرب وموريتانيا. .2حتى تمول هذه البلاد من يسد حاجة فرنسا دون كلفة فتملأ الاختصاصات التي تشكو نقصا ديموغرافيا. فالتقدم التقني قد يغني عن اليد العاملة العادية لكنه لا يمكن أن يسد الحاجة في الكثير من الخدمات وخاصة التي لها صلة بهذا التقدم التقني والعناية بالصحة وبكبار السن إلخ ...وهؤلاء يحتاجون لمن يعوض النقص الديموغرافي في الأجيال الشابة وهو ما يمكن أن يستعاض فيه بالمهاجرين المنتخبين للغرض. وختاما فهذا الربا السلبي هو في الحقيقة سداد لما يحتاج إليه العملاء لسرقته وصبه في بنوك سويسرا وبروكسال لأن حاميهم لم يبق لهم ما يسرقونه ولا ما يستثمرونه في البلاد التي يحكمونها عدا ما يحتاجون إليه من أسلحة لإخضاع الشعوب .فما يبقيه ترومب للأمير الأحمق ليس كافيا ولابد من الاقتراض أبو يعرب المرزوقي 20 الأسماء والبيان
-- تردي قيمة العملة وقيمة الكلمة هما علامتا فقدان السيادة التي تتألف من القدرتين على الحماية والرعاية وهي تتعين خاصة في من يعتبرون ممثلي لإرادة الجماعة أعني النخبة الحاكمة والمعاركة .ومعنى ذلك أن مجالي السيادة يتحددان بفاعلية الرمزين رمز الفعل أو العملة وفعل الرمز أو الكلمة. وهذه هي الثمرة الأولى للنظرية التي وضعتها للانتقال من الخلدونية الأولى إلى الخلدونية الثانية .وفي الحقيقة فابن خلدون اشار إلى أن الدول تتعين سيادتها في قوتين: المال رمزا لثروة الجماعة وقوة الجيش رمزا لقوة العصبية الحاكمة .وهذا التعريف أولي ولا يمكن من بيان ضروب تعين السيادة فيه. وغياب البيان مضاعف :من حيث شروط تحقق هذين العاملين ومن حيث تجلي فاعليتهما. لذلك فنظريتنا تحل هذين المشكلين :فالشرط المادي لقوة الدول تتعين في فاعليتها التي هي من طبيعة اقتصادية وعلامتها رمز الفعل أو العملة .والشرط الروحي لقوة الدول تتعين في فاعليتها التي هي من ثقافية وعلامتها فعل الرمز أو الكلمة .والكلمة هنا قوة روحية بمعنى أنها مصداقية ما تقوله القوة السلطة الممثلة لإرادة الجماعة المعبرة بحق عن قدرتها. ومصداقية الإنسان فردا كان أو جماعة وبالتالي الدول هي اعتقاد السامع أن كلمته تعبر عن قدرة فعلية بمعنى أن المتكلم قادر على تحقيق ما يقول وليس عن عنتريات بمعنى أن كلامه القادر فعل وليس هواء .ومن هنا فالمسألة التي تتعلق بالكلام في علاقته بالفعل وبالعملة في علاقتها بالربا يمثلان أهم جريمتين في الإسلام :كبر مقتا واعلان حرب. فأكبر مقت عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون .والله يعلن الحرب على الربا .وليس ذلك مجرد كلام .فهما علامتا فقدان الإنسان حقيقته بوصفه\" رئيسا بطبعه وبمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\" أي إنه يفقد حريته بالرب او يفيد كرامته بالقول الذي لا يطابقه فعل أي إن كلامه هواء لا يأخذه أحد بعين الاعتبار. أبو يعرب المرزوقي 21 الأسماء والبيان
-- ولا أحتاج لطويل كلام حتى أثبت ذلك بالنسبة إلى النوع الأول من النخب أي الحكام والمعارضين العرب .فكلامهم هذر وثرثرة لا يوليه أعداء الأمة أدنى قيمة أو أهمية. وعملتهم أوراق لا قيمة لها وهي وسيلة الافقار المتواصل للمتعاملين بها لأنها كما وصفتها ربا سالبا وتبخيسا للعمل وقتلا للإبداع. فيكون الحكم \"كبر مقتا\" و\" الحرب على الربا\" علته أنهما دليل فقدان الإنسان حقيقته أو جدارة المنزلة الوجودية التي يوليها إليه الله أعني مهمتيه :تعمير الارض والاستخلاف فيها .فمن كلامه ليس فعلا إما منافق أو عاجز وهما علامتا فقدان الشهامة والكرامة. وتصحبه الصفة الثانية :عملته ليست فعلا. ما سأتكلم فيه بعد نخبة الإرادة هو نخبة المعرفة :الأولى يتقدم فيها الاقتصادي على الثقافي أو العلمة على الكلمة .الآن العكس تماما .الثقافي متقدم على الاقتصادي والكلمة على العملة. والسؤال :ما الذي يجعل نخبة المعرفة العربية مفلسفة معرفتها كلام لا يفعل وعملة لا تصرف؟ كيف نفهم ذلك؟ أذكر بأني اعتبرت كل صنف من أصناف النخب الخمسة مضاعف :نخبة الإرادة حاكمة ومعارضة متداولين سلما أو حربا ومثلها نخبة المعرفة فهي طبعية وإنسانية ونخبة القدرة هي اقتصادية وثقافية ونخبة الذوق فنية ورياضية (الألعاب عامة بدنية كانت أو فكرية) ونخبة الرؤى دينية وفلسفية. ولا يوجد غير هذه الأصناف .فهو تعريف حصري جمعا ومنعا اللهم إلا إذا ضاعفناها بالأشباه منها والتي هي سمياتها من دون أن يكون لها مسمياتها بل وقد تكون هي بدورها أسماء دون مسميات بمعنى أنها أشباه مثل النخبة الأولى التي في غياب السيادة ليست ممثلة للإرادة والسياسة حكما أو معارضة. حتى لا أكون متحنيا على أحد من نخب المعرفة سأعلن من البداية أني استثني من الانتساب إليها من اعتبرهم من الكاريكاتورين التأصيلي والتحديثي .فمن يتصور تكرار أبو يعرب المرزوقي 22 الأسماء والبيان
-- ماضينا أو تكرار ماضي العرب ليس من النخبة أصلا بل هو ببغاء .ولا أريد أن أتكلم على الببغاوات .كلامي يتعلق بالأفعال لا بثمراتها. أفعال الفكر المعرفي كونية وهي واحدة .ثمرات الأفعال لها خصوصيات ظرفها .وهي لا تعنيني .ومعنى ذلك أن أفعال الفكر حتى لو كان يؤرخ للفكر كونية لا فرق بينها وهي تعمل في إطار انساني كوني وكل من يردها إلى الخصوصيات فهو يتكلم على ظرفيات حصولها أو ظرفيات موضوعاتها. فظرفيات حصول المعرفة وظرفياتها موضوعاتها كلتاهما خصوصية بمعنى أنها تنتسب إلى لحظة معينة من التاريخ ومكان معين من الجغرافيا .ولا أنفي أن لهذه الظرفيات تأثيرها في صبغ المعرفة بالخصوصي الذي هو ما تتميز به ظرفياتها التي تضفي الطابع العيني للأحداث المعرفية وتنسبها إلى أشخاص معينين. لكن لا أحد من هؤلاء الأشخاص ينفذ إلى المعرفة من حيث هي علم أو من حيث هي طلب للقوانين الكلية في الموضوع الذي تدرسه إذا لم يكن حائزا على أدوات كلية ومناهج كونية هي التي تحدد ما به يكون العلم علما .وهذين النوعين الأدوات والمناج متوارثة بين الحضارات لأنها ثمرة عمل الإنسانية كلها. وليكن مثالي مفارقيا مرة أخرى :فكل الذين يتكلمون على الخصوصيات في معركة دونكيشوتية أدواتهم التحليلية ومناهجهم العلاجية أزعم أنها من مبتذل الكليات التي يعلمها حتى المبتدئون .فإذا قلت مثلا إن ما يميز الفكر العربي والإسلامي هو التداولية فهذا يسمى بالعكس \"كذبة لاباليس\". فأولا لا يوجد فكر-وخاصة إذا كان دينيا أو فلسفيا-لا يكون تداوليا ثم إن كل من يقرأ أرسطو أو أفلاطون سيجد أن ذلك هو أبرز خاصية في الفكر اليوناني .وليس في ذلك أدنى خصوصية عربية أو اسلامية .والعلة بسيطة :الفكر بالجوهر تداولي حتى لو كان المفكر موجودا وحده في صحراء قاحلة. سيضحك البسطاء زاعمين :كيف لمن هو \"متوحد\" في الصحراء أن يتداول؟ مع من؟ أبو يعرب المرزوقي 23 الأسماء والبيان
-- الجواب بسيط :كل لحظة تالية في حياة الإنسان هي تداول مع اللحظة السابقة تذكرا ومراجعة وخصومة مع الذات وخاصة إذا كانت الذات ليست خاملة وتحاول بما يسمى الاستبطان فهم \"تواصل\" تيار فكرها والسعي لتوحيده. ولا يرد ذلك إلى أحوال النفس بل هو الخاصية الجوهرية لكون الإنسان ناطقا .فاللغة لا تستمد التداولية من ثقافة شعب من الشعوب بل هي عين التداولية وهي تواصلية ولا يوجد تواصل بدون تداول وهو ليس تدولا بين الأحياء ودهم بل هو تداول أيضا بنيهم وبين الأموات .ولولا ذلك لما وجد تراث متراكم. ولهذا سميت القول بالتدوالية خصوصية لفكرنا \"كذبة لا باليس\" عادة الكلمة هي حقيقة لاباليس عندما يتكلم المرء عما هو خال من اي سر ومعلوم للجميع .لكن كذبة لا باليس هي لما يتكلم المرء كلاما نافيا لما هو حقيقة لا باليس .كل الثقافات تداولية لأن اللغة تواصل مساوق ومتوالي داخلي وخارجي. فالتداول بمعنى التواصل المتساوق هو ما يترتب على الطابع الحواري كل تواصل مع ما فيه من تفاهم وسوء تفاهم وبمعنى التواصل المتوالي هو ما يترتب على الطابع القرائي للعلاقة بالتراث وكل قراءة تداول وتواصل مع مراحل نفس الثقافة أو الثقافات المختلفة التي تشاجنت وتوالجت في النظر والعمل. وقد يظن الكثير أن هذا التداول مع الموتى في اتجاه واحد من المتلقي فحسب .وهذا سوء فهم للتداول .ذلك أن المتلقي يكون دائما ناطقا باسمه وباسم من يتلقى أثره .فهو يحاوره وكأنه حي معه .كل دارس لاي مفكر قديم يكون دائما ناطقا باسمه وباسم ا لمفكر الذي يدرسه فيجيب باسمه مدافعا عن رأيه. القراءة حوار بين مرسل ومرسل إليه .والقارئ يمكن اعتباره مصابا بازدواج الشخصية وثراء القراءة هو هذا الازدواج بل ودقتها في قدرة القارئ على التمييز بين فهمه للرسالة والذي يقدره بمدى مطابقة فهمه لقصد المرسل حتى يعتبر نفسه قد حاوره في ما قصده وليس في ما فرضه عليه من فهم لم يقصده. أبو يعرب المرزوقي 24 الأسماء والبيان
-- ما معنى الآن في الداخل والخارج؟ فبعد المتساوق والمتوالي عامة ينبغي التأكد من أن التساوق والتوالي لا يوجدان في ثقافة واحدة بل بين الثقافات المختلفة إذا كانت معرفية وحتى ذوقية .فأولا الثقافات المتجاورة متحاورة سواء بالتلامس الحي سلميا كان أو حربيا في التساوق أو بالتوارث في التوالي. ولنا أدلة مادية على ذلك في اللغات التي تأخذ بعضها من البعض مفردات وتراكيب واساليب عبارة فضلا عن العارية بضعها من البعض في المعاني مع المباني .والأهم من ذلك هو ما ينقل من ثمرات المعرفة عندما تنتقل من كونها أدوات نظرية يعبر عنها برموز إلى أدوات عملية يعبر عنها بآلات وأدوات مادية. وهذه كلها تنقل معها لكوني من المعرفي الذي يتعين في الخصوصي من أعيان تحققه. وليكن مثالنا أدوات الإدراك العلمي .فقوانين البصريات كونية .لكن آلات البصر والرصد في علم الفلك يمكن أن تبنى بطرق مختلفة وبمواد مختلفة .وذلك وسائل السفر .فقوانينها واحدة لكن أساليب السيارة لها خصوصيات بينة. من ينشغل بهذه الأساليب له الحق في ذلك .لكنه يخلط بين العلم والفلكلور .وهذا ليس مشغلي .ما اريد فهمه الآن هو هل المعرفة في بلادنا تجاوزت نقل الفلكلور والإيديولوجيا فوصلت إلى البحث العلمي الذي يؤسس لشروط الوجود المتحرر من سلطان الطبيعة وسلطان التاريخ أم هو كلام لا يفعل؟ أبو يعرب المرزوقي 25 الأسماء والبيان
-- بمعيار الكلمة القادرة والكلمة العاجزة يمكن تحديد دور نوعي المعرفة في نظامنا التكويني بمستوياته الخمسة وإبراز ما يترتب على غياب ما سأحاول بيانه من علل لما تعاني منه الأمة من فقدان شروط السيادة أعني الحماية والرعاية الذاتيتين: .1ما قبل الابتدائي. .2الابتدائي. .3الثانوي :وهو قلب التكوين ولبه. .4الجامعي. .5ما بعد الجامعي أو التكوين المستمر :وتلك دلالة من المهد إلى اللحد. وهذا ضروري دائما لمماشاة التقدم العلمي والتقني الذي يتسارع بصورة مذهلة ما يقتضي التكوين المستمر للجميع .وكالعادة فإن المركز هو الثالث أي التكوين في المرحلة الثانوية. لماذا لأنه يساوق وجهين يؤسسان لكل إبداع في الجماعات البشرية: .1ما يسمى بسني المثالية عند الشاب وتصاحب المراهقة والخيال الفياض الذي هو مصدر الإبداع ثورة على الاتباع. .2تحدد الخيارات الكبرى في حياة الإنسان في خطة مستقبله الذي لا يمكن أن يكون مستقبل إنسان حر من دون ذلك. فإذا لم يكن الانتخاب التكويني في هذا للحظة هدفه الأول والأخير استكشاف \"ثروة الأمة الطبيعية\" في قدرات شبابها والاستفادة من أصل كل ثروة مادية أو روحية فهي أمة لا تفهم معنى البناء الحقيقي لذاتها ولشروط بقائها وخاصة لشروط حمايتها ورعايتها بأداتيهما بعلم الطبائع والشرائع وتطبيقه. وإذا لم يكن هذا الانتخاب التكويني في صلة مباشرة مع الانتخاب التعييني في مواقع العمل الجمعي المقسوم في المجالين الاقتصادي والثقافي فالأمة صماء بكماء عمياء لا عقل لها ولا أبو يعرب المرزوقي 26 الأسماء والبيان
-- يمكن أن تكون ذات سيادة لأنها فرطت في شرطيها أي تكوين الحماة والرعاة لقيامها وبقائها وقوتها المادية والروحية. فتكون المرحلتان الأوليان-ما قبل الابتدائي والابتدائي-معدتين للقلب من التكوين والتوجيه ولبهما ويكون ذلك لتحديد القدرات الفعلية أساسا للانتخاب التكويني الملازم للتعيين في المرحلتين المواليتين .ومعنى ذلك أن التكوين في صلة مباشرة مع التعيين وأن الجامعة وما بعدها هما البحث العلمي الأساسي والتطبيقي. وكل هذه الشروط الاستراتيجية في بناء الأمم منعدمة في بلاد العرب من الماء إلى الماء بما في ذلك الدول التي تدعي الثراء والتعليم الراقي لأن من شروط نجاح هذا التعليم أمران منعدمان: .1الحجم الكافي لهذه المهمة ويتعلق بالأحياز الخمسة. .2شروط الوصل بين البحث العلمي والحماية والرعاية. فالبحث العلمي الأساسي هو قاطرة البحث العلمي التطبيقي من حيث الإبداع النظري. لكن البحث العلمي التطبيقي هو قاطرته من حيث الحاجة في مجالين هما: .1شروط الحماية أو التطبيق في المجال الدفاعي وهو من اهم مجالات البحث العلمي وخاصة في عصرنا. .2شروط الرعاية أو التطبيق في مجال الرعاية أي الاقتصاد وقيام الإنسان مثل الطب والتغذية. وكلاهما ليسا في متناول أي بلد عربي بسبب الحجم ناهيك عن السبب الاعمق وهو أن كل قبيلة يعطيها المستعمر قطعة من دار الإسلام ويسميها دولة وهي محمية وقاعدة له حتى يسيطر على دار الإسلام كلها ويجعلها كلها كسيحة لا تستطيع أيا من هذين المهمتين الحماية والرعاية الذاتيتين لتبقى محمية. تجنبت المقابلة بين الموضوعين بصورة لا تعطينا علة التمييز بينهما .فأنا لا أعلم الداعي لنفي الروحي عن الطبيعة ونفي الطبيعي عن الروح :فقد نكتشف يوما أن الطبيعي يلطف أبو يعرب المرزوقي 27 الأسماء والبيان
-- حتى يتروحن في درجة من درجات تعينه قائما بذاته وأن الروحي يتجسد حتى يتمدد في درجة من درجات تعينه .ولعل ذلك هو الجسم الإنساني مثلا .لكني أعلم المميز عندما أقابل بين الطبائع والشرائع .فالأولى قوانينها ليس لها علاقة بإرادتي .والثانية مهما فعلت فلا أستطيع نفي صلتها بها إيجابا أو سلبا. العلوم الإنسانية موضوعها سلوك الإنسان ليس من حيث هو منتسب إلى نظام القانون الطبيعي فحسب (إذ كيانه العضوي منه) بل وكذلك من حيث قدرته على العودة الواعية على ذاته (ولنسمه كيانه الروحي) ومحدداته حتى وهو جاهل بقوانين ما فيها من طبيعي وكذلك ما فيها مما يعود عليه وعيا يمكن اعتباره الروحي فيه أو ما يترتب على الحرية والاختيار. فمن حيث صلته بما له من دور حريته في سلوكه هو المميز للإنساني عن الطبيعي من العلوم .والعلوم الطبيعية موضوعها سلوك الظاهرات الطبيعية ومحدداته وفيها دور للإنسان ولكن بشرط علمه بما فيها مما لا دور له فيه إذا جهل قوانينه فلم يغير شروطه. وأثر الإنساني في سلوك الطبيعيات لا يقل غموضا عن أثر الطبيعي في سلوك الإنسانيات. ومثلما أن علوم الطبيعة نوعان هي بدورها فكذلك علوم الإنسان .ففي الأولى الرؤى الفلسفية وغالبها ميتافيزيقية .وهي تكاد تنقرض بعد أن تمتنت العلوم التصحيحية وصارت تنظر بعين الاستهزاء للرؤى الفلسفية التي تصدر عن غير المختصين في أحد العلوم المتينة. لكن هذه المرحلة تصبو إليها علوم الإنسان أو علوم الشرائع تقليدا للأولى ولكن دون جدوى. وما يعود إلى الميتافيزيقا أو إلى ما بعد الطبيعة في الأولى يعود إلى الدين أو إلى ما بعد الروح في الثانية .وهنا أورد كلاما للغزالي وليس لي في احياء علوم الدين .فقد شكا من سيطرة ما يسمى بعلماء الدين في الفقه والكلام شكواه من سيطرة ما يسمى بالفلاسفة في الميتافيزيقا والتصوف الذي يدعي أصحابه التفلسف. أبو يعرب المرزوقي 28 الأسماء والبيان
-- وقد ساد عند \"الحداثيين\" العرب خرافة صارت وكأنها حقيقة لا جدال فيها وهي أن الغزالي كان عدو العقل وأن ابن رشد عقلاني .وكل من يفهم معنى العلم ما هو والفلسفة ما هي يعلم أن العكس هو الصحيح .فالغزالي لم يرفض لا الرياضيات ولا المنطق ولا تطبيقهما في الطبيعة وحتى في الشريعة بل هو رفض ما وصفت الآن .لكن الخرافة تغلب الحقيقة دائما مثل العملة الزائفة في علاقتها بالعملة الحقيقية. يمكن إذن أن نستنتج أن علوم الطبائع بصنفيها ما كان منها متعلقا بنظام البنى المقومة للطبائع أو بقوانين التفاعل بينها أقل تبعية لأحكام الإنسان وتشريعاته ومن ثم فهي أقل تبعية للإيديولوجيات بالمقارنة مع العلوم الشرائع .لكن شروط الأولى منعدمة عندن ومن تخلفها وبقاؤها في العموميات. أما الثانية فهي لا تحتاج إلى كبير تجهيز ولا إلى كلفة كبيرة وهي مطلقة التبعية للإيديولوجيا لأنها أحكام على أحكام الإنسان على سلوكه وشروطه وهي بصنفيها الديني والمحاكي للعلوم الطبيعية أقرب إلى سرد آراء قيمية ومواقف أكثر من كونها ذات صلة بالعلم عدا معطيات من جنس بداية تصنيف النبات دون منهج ولا استراتيجية بحث علمي يحقق التعمير بقيم الاستخلاف. ولهذه العلة فالجامعات العربية ليست مراكز للبحث العلمي الاساسي ولا للبحث العلمي التطبيعي الأول لانعدام شروطه المادية بسبب الحجم والثاني لانعدام شروط التطبيعية لانعدام الانتاجين الاقتصادي والثقافي المحوجين إليه إذ إن هذين النسيجين بدائيين وكل ما هو متقدم مستورد والتطبيق ممارسة. والعلم بحد ذاته من حيث خدمة Know howومن ثم حيث ثمرته إما كتطبيقات منهجية أو كأدوات تقنية هو بدوره عامل ثروة اقتصادية تباع وتشترى بحيث إن الجامعات يمكن أن يتكون مؤسسات رابحة لأن التكوين خدمة ولأن منتوجها الفكري بضاعة -البراءات والمؤلفات العلمية -بذاته وبتطبيقاته. أبو يعرب المرزوقي 29 الأسماء والبيان
-- ولا شيء من ذلك موجود في أي جامعة عربية هي تبيع \"الريح للمراكب\" كما يقلو المثل التونسي لمن لا صنعة له لكنها تبيع السم الزعاف أعين أنها لا \"تبيع\" بالمجان إلا الخرافات الإيديولوجية للتهديم الذاتي لأنها بسبب عدم قدرتها على البحث العلمي واقتصارها على عرض أقل المعارف الأساسية تخصصا فلا تتجاوز التقريب الجمهوري تريد أن تثبت تقدميتها وريادتها بتهديم قديم صار مبهما لديها لا تفهمه بدعوى بديل حديث هو بدوره قديم ولا جديد فيه إلا إيديولوجية الحداثة التي هي حديثة عند أنصاف مثقفين في الغالب. فمن العجائب أن الجامعات العربية بعد قرن من إنشائها ما تزال عاجزة حتى عن أنتاج أدوات عملها الأبسط أعين متون التدريس والتدريس بلغة الأمة .فالتعليم الديني له على الأقل متونه القديمة حتى وإن فقدت صلاحها التعليمي لأنها لم تعد صالحة إلا لتاريخ اجتهادات سابقة جلها إن لم تكن كلها لم يعد أحد يعمل بها لا في الطبائع ولا في الشرائع. لكنها مع ذلك ليست متسولة مثل الجامعات التي تدعي الحداثة. كلما سمعت \"عالما\" دينيا يتكلم إذا تجاوز التاريخ لمرحلة سابقة حفظ متونها-وهذا ضروري في معرفة الذات وماضيها-لكنه لا يساعد على تحقيق شروط الحماية والرعاية ولا حتى على فهم الدين الإسلامي .لأن الدين لو كان مقصورا على العبادات لما أسس دولة وإمبراطورية كونية بكل شروط الحماية والرعاية. وإذا كانت دار الإسلام اليوم منتهكة من أدنى عدو فالعلة هي أن هذه العلوم فشلت في تحقيق الحماية والرعاية .فلا يمكن أن تستخلف في الارض دون القدرة على تعميرها وحمايتها ولا يمكن تحقيق التعمير والحماية بالفقه والتصوف الكلام شرح أرسطو بل لا بد من معرفة قوانين الطبيعة وسنن التاريخ. والنتيجة الأليمة التي علي أن اختم بها هذا الفصل هي أن الجامعات العربية سواء التقليدية أو التي تدعي الحداثة لا تصلح لا للدنيا وللآخرة .فهي معامل لإنتاج العاطلين والإيديولوجيين .وإذا نبغ فيها البعض فإن نبوغهم فطري وليس بسبب التعلم فيها .وهم لن ينتجوا إلا إذا هاجروا واندمجوا في مناخ للبحث العلمي بشروطه. أبو يعرب المرزوقي 30 الأسماء والبيان
-- ولما عينت وزيرا مستشارا لرئيس حكومة الثورة الأولى لم أخف ما أفكر فيه .وقدمت عدة محاضرات وكتابات في ذلك مع علمي بأن تونس ليس لها القدرة على البحث العلمي حتى لو رصدت له كل ميزانيتها فيه .فالبحث العلمي قاطرته هي الدفاع بمعناه الحالي والاقتصاد بحجم فهمته أوروبا لما اضطرت إلى الوحدة من أجل منافسة أمريكا وهي رغم ذلك ما تزال عاجزة على الحماية الذاتية. وكنت اعتقد أن الجزائر التي حصلت فيها ثورة تحرير حقيقية بخلاف بقية بلاد المغرب كان يكمن لو كان لها قيادات تأخذ بعين الاعتبار هذه المعطيات أن تصبح مركزا لتوحيد المغرب على الأقل فتكون قطبا ندا للضفة الشمالية من الابيض المتوسط فيكون ذلك مدخلا للتعاون الندي لأن العرب والاوروبيين اليوم مستضعفون من القوى العظمى التي بيدها نظام العالم الجديد وهي عماليق. وقد يظن البعض كلامي هذا لا يصح إلا على تونس أو أي بلد عربي دون سواهما .لكن حتى ألمانيا وما أدراك ما ألمانيا اضطرت لتجاوز العداء مع فرنسا وإنجلترا وقبلت بالتعاون لأن نخبها فهمت أن صنع طائرة نقل جوي تنافس بووينج مثلا ليس في المتناول وكذلك الصناعات الحربية واستكشاف الفضاء وغزو الأسواق الاقتصادية والثقافية .فلكها تقتضي حجما ليس في مستطاعها. أبو يعرب المرزوقي 31 الأسماء والبيان
-- لا شك أن القراء يتصوروني أثبط العزائم .لم أقل إنه علينا ألا نفعل شيئا للخروج من هذا المأزق بل أتكلم في تشخيصه .فـمأزق المآزق هو عدم الكشف عن الأدواء الصادق .ولم أتكلم على النوايا أو على الأخلاق عند النخب بل اكتفيت بالكلام عن الشروط التي تخفي الورطة .فـحتى لو صدقت النوايا فإن ذلك لا يكفي. فحتى لو كان الحكام والمعارضون لهم إرادة الإصلاح وحتى لو كان أصحاب معرفة الطبائع ومعرفة الشرائع كلهم عباقرة فإن شروط الحجم الأحيازي جغرافيا وتاريخا وثمرة تفاعلهما المادية (الاقتصاد) والروحية (الثقافة) والمرجعية الموحدة لها هي المحدد الأول والأخير بمقتضى قانون عصر العماليق. لما أسمع حاكما عربيا يتلكم على التعاون الاستراتيجي مع أمريكا أو مع الصين أو حتى مع بلجيكا لا أستطيع إلا ان أتساءل هل هو حقا مصدق لنفسه؟ كيف لعربي أي كان من الماء إلى الماء وهو لا يتجاوز في منظور هؤلاء منزلة غفير في محمية لا تعيش من غير حمايته أن يتعاون معه استراتيجيا؟ طبعا سيرد علي لكن بعض العرب دخلهم القومي الخام أكبر بأضعاف من دخل إسرائيل فهل تشك في أنها دولة قادرة على الحماية والرعاية؟ نعم لا أشك فحسب بل أنا متيقن لكن إسرائيل وراءها الغرب كله لتكون أقوى من الإقليم كله .فلا يمكن القيس عليها .فكل عرب الإقليم محميات إما إيرانية أو إسرائيلية. فما دام كل عربي عدوه الأول هو جاره العربي وما دام الحدود بينهم يحددها الحامي وهي حديدية حتى تكون كل محمية تابعة مباشرة لحاميها وليس لشعبها ولا للحمة بينها وبين أجوارها فلا يمكن الكلام على قدرة في الحماية والرعاية الذاتيتين ومن لم يكن له ذلك التعاون الاستراتيجية هو جعل بلده قاعدة. وهكذا فقد وصلنا إلى الصنف الثالث من النخب أي نخبة القدرة ببعديها المادي (الاقتصاد) والروحي(الثقافة) .وهما يمثلان القدرة المادية أو القوة العنيفة والقدرة أبو يعرب المرزوقي 32 الأسماء والبيان
-- الروحية أو القوة اللطيفة لأن الرعاية والحماية أساسهما هذين القدرتين في السلم وفي الحرب ومن ثم فهما أساس الرعاية والحماية فيهما. والسؤال :هل يوجد اقتصاد عربي يمكن أن يعتبر قوة قادرة على الحماية السلمية والحربية العنيفة؟ وهي يوجد ثقافة عربية يمكن أن تعتبر قوة قادرة على الحماية والرعاية السلمية والحربية اللطيفتين؟ من يجيب بنعم يكذب ولا يخدع إلا نفسه .فإذا كانت أوروبا نفسها عاجزة دون ذلك فكيف بنا نحن؟ لكن إذا كان ما أقول صحيحا فما الذي يجعل العدو يفعل كل ما يستطيع لمحاربتنا بذراعيه وبأنفسنا ثم يتدخل إن لم يكف ذلك لتحقيق ما لا يريد حصوله .إنها ما أدعو لحصوله وما ينبغي أن يدعو لحصوله كل مخلص للأمة بل وللإنسانية لأن دورنا في العالم إذا استعيد سيكون معدلا لنظام العالم ومفيدا للبشر. وهذا الذي يريد منعه يعلم قبل غيره أنه ممكن أولا لأنه تحقق سابقا من ظرف كان أسوأ من ظرف أهل الإقليم حاليا وهو لا يحتاج لمعجزة سماوية كما حدث في المرة الأولى لأنها ما تزال موجودة وهي التي تحرك الإقليم بل والعالم أعني الإسلام :هو يعلم ما يزداد رجوحا بوما بعد يوم بفضل شبابنا بجنسيه. ما كنت لأكتب في هذه المسائل لولا إيماني بأن غالبية الشباب بجنسيه سليم من كل الأدواء التي وصفت وأنه هو الأمل مثل المرة الأولى إذ الشباب هو الذي أسس دولة الإسلام الأولى فكان سندا للرسالة بشهادة الرسول نفسه لهم .لكن دافعي للكتابة أعمق :كيف نحمي الاستئناف من حماسة الحمقى الغبية .فهؤلاء الحمقى قد يفسدون المسار الاستراتيجي الموصل إلى هذه الغاية بأمرين: .1فلغبائهم يخترقهم العدو فيوظفهم ضد الهدف كأدوات لضرب عصفورين بحجر واحد تشويه الإسلام وإيقاظ حماسة شعوب العرب لحرب صليبية جديدة. أبو يعرب المرزوقي 33 الأسماء والبيان
-- .2التدمير الذاتي بأمراء الحرب أدعياء الجهاد مزيد التفتيت فكل أمير يريد أن يستقل بفتاتة من الفتات الحالي ليكون أميرا بمرتبة غفير عند الحامي. وبهذا المعنى فإن دور نخبة القدرة بصنفيها لا يمكن أن يكون إلا حصيلة ما عليه دور النخبتين المتقدمتين عليها لأن القدرة في أي كائن حي فضلا عن الدول التي هي نظام كائنات حقة عاقة هي ثمرة إرادتها ومعرفتها .فإذا كانت إرادة مشلولة ومعرفة مغلولة فإن قدرتها المادية والروحية تكون عاجزة. ولنبدأ بالقدرة المادية أي الاقتصاد .فلا يوجد بلد عربي له اقتصاد فعلي بعد أكثر من نصف قرن مما يسمى استقلالا .ذلك أن بيع المواد الخام والتجارة بالمواد المستوردة لا يمكن أن يكون إلا اقتصادا يفقر ولا يغني .فالمواد الخام ناضبة أولا وسعرها بالقياس إلى سعر المستوردات وخاصة ما يتعلق بالحماية والرعاية مطلق عدم التوازن. فلنفرض مثلا أن عربيا أراد أن يشتري سيارة بـ 50ألف دولار وكان البرميل بـ 100دولار فهو سيدفع ثمن 500برميل وإذا نزل إلى 50دولار سيدفع مقابل ألف وإذا اشترى طائرة حربية فسيدفع مقدارا لا يصدقه عقل ومن ثم فهو إفقار دائم لأصحاب المادة الخام .وقس عليه الغذاء والدواء ومكيف الهواء. وكان من المفروض ألا أدرس مسألة القدرة بنصفيها المادي والروحي قبل أن أنظر في ما يأتي بعدها لأن الاكتفاء بما تقدم عليها يجعلنا لا نرى إلا نوعين من مقوميها هما الإرادة والمعرفة ولم نر النوعين الآخرين أي الرؤية والذوق فالقدرة هي حصيلة ما تقدم عليها علة وما تلاها غاية. وهذا هو الأمر الذي يعسر شرحه للقراء لأنه مبني على العلاقة بين هذه المقومات الخمسة وكيان الفرد والجماعة والدولة والإنسانية كلها .بمعنى أن كل كائن من هذه متقوم بإرادته ومعرفته ورؤيته وذوقه وثمرة ذلك كله هي قدرته ككائن حي أو ممثل لكائن حي وتلك هي صفة الدولة (محاولة سابقة). أبو يعرب المرزوقي 34 الأسماء والبيان
-- لكن لا بأس من دراستهما من منطلق العلة الفاعلية أولا ثم من منطلق العلة الغائية. فلنسأل الآن من منطلق العلة الغائية :هل للقدرة المادية علاقة الثمرة للإرادة والمعرفة عندنا أم هي لا علاقة لها بالإرادة الممثلة للجماعة ومصلحتها ولا لمعرفة يمكن أن تكون الجماعة هي الني انتجتها مثلا؟ ويمكن أن أجمع هذا السؤال المعقد في سؤال أبسط :هل عندنا رجال أعمال لهم سياسة تبني اقتصاد وطني أم هم نوع من الطفيلات التي تعيش على ما سماه ابن خلدون الجاه ويعني الفساد المتصل بالسلطة الحاكمة التي تعطي وتأخذ بحسب تحكم الحكم المطلق الذي يتصرف في البلاد وما فيها والعباد وما لديها؟ بعبارة أوجز هل يوجد من يملك شيئا هو ثمرة عمله أو إبداعه؟ أم الكل لص لما يملكه الشعب وما أبقاه الحكام وحماتهم له من فضلات موائدهم؟ فالحكام يملكون الأرض ما تحتها وما فوقها وما في سمائها وفي في تاريخها من تراثها وثرواتها ويملكون سلطة الإغناء والإفقار أكثر لكأنه رب جبار لخدمة الاستعمار. وقد يظن أن أعرض بالخليج .لا ورب الكعبة .فهذا أيضا وضع تونس .من يملك ثروات تونس لا يتجاوز عشرين أسرة تتعامل مع مافيات محلية في خدمة مافيات أجنبية وهي بالأساس فرنسية وبصورة أدق رجال أعمال اغلبهم يهود فرنسيون .وما أظن بلدا عربيا واحدا في أفضل حال من تونس. فعندما نتكلم على رجال أعمال كما في أوروبا فهم الذين صنعوا أوروبا الحديثة- البرجوازية-وهم الذين بدأوا بتوحيدها لتكوين سوق كافية ومنصة للتعامل مع عالم العماليق إذ من دون ذلك من السخف أن تفتح أي صناعة في أي بلد عربي :لو فتحنا مثلا معمل لأدوات الحلاقة فإنتاجه اليومي يكفي تونس لسنة. وذلك فما يسمى رجل أعمال في تونس لن يكون إلا سمسار للتجارة في المنتجات المغشوشة لسجناء الصين والدول العربية الأغنى ستشري سيارات الغرب والشرق وأسلحته ولن تنتج أبو يعرب المرزوقي 35 الأسماء والبيان
-- شيئا ولذلك فشبابهم في بطالة مخزية وخاصة وهم تعلموا أن العمل العادي عار على الذكور فضلا عن الإناث. قد يقال أنت تبالغ :ألم يفتح الهادي نويرة عدة معامل وأوجد مواقع عمل وموارد رزق للكثير من نساء تونس وشبابها؟ صحيح لكن هل هذا اقتصاد يحقق الحماية والرعاية أم هو تيسير العبودية لأرباب العمل الأجانب الذين يأخذون ثمرة منتوجهم بأتفه الأجور ولا يدخلون الربح بالعملة الصعبة بل يبقونه لديهم .وتبين أن أصحاب الفنادق يعلمون مثلهم فلا يدخلون إلا ما يخفي أضعاف ما يبقونه في البنوك الأجنبية خارج الوطن. يعني ان المستعمر وعملاءه ربحوا الفرق بين ما كان يدفعه الأمريكي الذي كان يستورد العبيد .فأصبحوا يتركونهم في بلادهم ويأخذون ثمرة جهدهم بدون مقابل لأن ما يدفعونه يأخذونه غالبا بقروض من البنوك التونسية ولا يرجعونها وهو ما تبين من خلال سلوك أصحاب الفنادق في السياحة بشهادة مدير البنك المركزي :لا أحد يرجع القروض فتعفوا عنهم المافية الحاكمة. والنتيجة أن ثروات البلاد وجهد أبنائها كلها يجمعها الحكام والمافيات والوجهاء من الأقرباء والأصدقاء والجواري والقوادين وتهرب إلى بنوك الغرب .من ذلك أن اليمن الذي يظنه الكثير فقيرا لم يكن فقيرا بل كان مفقرا لأن صالح الذي هو طالح صار يملك 60مليون دولار في بنوك دبي وسويسرا ومثله وأكثر جل حكام العرب. ولما كان لكل حاكم عربي أقرباء وأصدقاء فإن تهريب ثروة البلاد ينبغي أن يضرب في عددهم .ولنا أكبر الأدلة في أسرة رئيس مافيتنا الذي يعيش الآن في السعودية وكل أسرته وأسرة زوجته يعيشون في الخارج منذ عقد عيشية الملوك دون أن يكون أي منهم ذا صنعة أو علم أو تجارة أو عمارة .فكيف يمكن ذلك؟ وكيف استطاع بعضهم عرض المليارات للمصالحة مع هيئة الحقيقة والكرامة؟ أبو يعرب المرزوقي 36 الأسماء والبيان
-- اعتقد أن الكلام في البعد الاقتصادي من القدرة أيسر من الكلام في البعد الثقافي .ذلك أن الناس يشعرون بما يعانونه من حرمان مادي أكثر من شعورهم بما يعانونه من الحرمان الثقافي .وهم لا يبدر لهم أن الثقافي هو العلة الغائية للاقتصادي والفعلية في آن .فالثقافي علة حقيقية فاعلة للاقتصادي ببعدها الثاني أو العلم وهي علة حقيقية ببعدها الأول أو الذوق :فدون علم لا إنتاج يعرض ودون ذوق لا إنتاج يطلب. فكيف سأشرح هذه المسألة شرحا يجعل الناس يشعرون بأن الثقافة أهم حتى من الاقتصاد رغم كون تأثيرها غير مباشر وغير سريع ولذلك فهو يبدو وكأنه أقل أهمية منه .وينبغي أن يفهم أي قارئ أن الثقافي هو من العلة الغائية ببعدها الذوقي في الاقتصادي وهو من العلة الفاعلية ببعدها العلمي فيه. وحتى أيسر الشرح فلأذكر بالمعادلة التي تفسر العملية الاقتصادية بصورة كونية بمعنى أنها تكون كما وصفتها بمعادلة بسيطة وضعتها لشرح تعقيدها وتشاجن عوامل حصولها. ففي القلب من هذه المعادلة العملية الإنتاجية للبضاعة أو للخدمة التي هي موضوع التبادل الاقتصادي في أي جماعة متقدمة اقتصاديا. ولابد قبل هذا المقوم من مقومين هما المستثمر والفكرة التي يستثمر فيها .وبعدها لا بد من الممول والمستهلك للمنتج الذي تنتجه العملية الانتاجية في مؤسسة اقتصادية ذات مركز وأطراف تابعة لها في نفس البلد أو في العالم كله بحسب حجمها نظام إنجازها للإنتاج التي تقوم به بضاعيا كان أو خدماتيا. لا يحتاج القارئ إلى خبرة كبيرة أو إلى ذكاء خارق ليرى العلاقة بين المقومين الأولين والمقومين الأخيرين في تناظر عجيب .فالمستثمر عينه على المستهلك .هو لا يستثمر إذا لم يكن قد درس السوق وحدد الحاجة التي سيستجيب إليها استثماره .لكنه يحتاج إلى شيئين واحد وضعناه قل القلب والثاني بعده. أبو يعرب المرزوقي 37 الأسماء والبيان
-- وبين المقومين هذين كذلك تناظر :فهو يبحث عن الفكرة التي عليه تحوليها إلى بضاعة أو خدمة تسد الحاجة التي اكتشفها عند المستهلكين وعليه أن يبحث عن ممول لاستثماره. لكن المستثمر أول ما يطلب هو تقدير نجاعة المشروع فيحتاج لرؤية شيء متعين وذلك هو المؤسسة المنتجة في تصور مدروس ومقدر. فماذا نلاحظ؟ خيال المستثمر (هو المبادر) وواقع المستهلك (الحاجة) لا يمكن الاستجابة إليها بالإنتاج الذي يسد الحاجة من دون مبدع لفكرة وحائز على رأس مال .وقد قدمنا ما هو خيالي وفكري على المشروع وأخرنا ما هو فعلي ومادي بعده .والاولان علة فاعلة والثانية علة غاية :منتج للمستهلك وربح للممول. الاستهلاك ماذا يحركه؟ غاية هي إما سد الحاجة المادية الصرفة أو سد الحاجة الجمالية الصرفة إذا لم يكن دولة وكان مواطنا .إذا كان دولة فهو أيضا له غاية هي إما سد حاجة في الرعاية (غذاء دواء خدمات عامة قاعدة أساسية إلخ )..أو في الحماية (اسلحة خاصة وأدوات مساعدة في الحروب والرقابة) .فإذا جئنا إلى الثقافة وجدنا ما وصفنا مرتين: .1نفس العملية الانتاجية من المقومات الخمسة التي ذكرتها. .2المنتج الثقافي بضاعة أو خدمة ذات دور اقتصادي. فالمستثمر وصاحب الفكرة والمستهلك والممول يجمع بيهم مؤسسة منتجة لبضاعة فنية مثلا أو خدمة ترفيهية مثلا .وبنفس المنطق الغائي .وإذن فكل ما قلناه عن فساد الاقتصاد في بلاد العرب بل وعدم وجوده الفعلي لأنه بعكس العمل الاقتصادي لا يثري بل يفقر الشعوب يمكن أن نعيده بالنسبة إلى الثقافة لأنها لا تنتج علما ولا ذوقا .وما يقال عن الثقافة أخطر ألف مرة مما يقال عن الاقتصاد لأنها تفسد الارواح ولا تكتفي بإفساد الأبدان. وهنا لا بد من دراسة أكبر منتجين ثقافيين في الإقليم الناطق بالعربية وأعني مصر ولبنان .فلا توجد ثقافة أفسد مما ينتجه هذا البلدان ويعممانه في البلاد الناطقة أبو يعرب المرزوقي 38 الأسماء والبيان
-- بالعربية .وليس لأن مصر ولبنان أهلهما أكثر فسادا من العرب فالعرب كلهم في الهوى سواء بل لأن المبدأ العام هو \"الفن الواقعي\". وما القصد بالفن الواقعي؟ هو جعل \"الامر الواقع\" في المجتمع مثالا أعلى للإبداع الجمالي تعبيرا عن الذوق فيصبح الإبداع محاكاة لما يسمونه الواقع وليس تعاليا عليه لجعله يتجاوز الأمر الواقع ويقترب من الأمر الواجب الذي هو ما يحرر الإنسان من الإخلاد إلى الارض أو يلهث وراء اللامتناهي الزائف. فمن يتفرج على غالبية الفن السينمائي المصري أو المسلسلات المصرية ينتهي إلى ما يشبه الحكم العام وهو أنه مجتمع خال من كل أخلاق سامية نساؤه عاهرات ورجاله من جنس ما يظنه الكثير من إبداعات صاحب جائزة نوبل التي لا تتجاوز مبتذلات نسخ ما يسمونه \"واقعا\" بلا ذوق ولا جمال وفهم لأعماق النفس. وهو فن لا يتجاوز تمجيد عبادة المال والجنس والقوة المزيفة للجاه بالمعنى الخلدوني أي للفساد والوساطة وتحريف كل وظائف الدولة .ولست أنفي أن هذه الظاهرات موجودة. لكن جعلها مادة للمحاكاة بمعنى الواقعية يشبه من يحصر الرسم في المحاكاة والموسيقي في حداء السيارة عند الأعراب. ولست أعجب من ذلك فابن خلدون وصف الفنون عندما يصبح الترف سيد الموقف ويكثر الفقر والفساد المصاحب له إذ كما قل أرسطو فإن القيم لا معنى لها عند حدي الجماعة ما يتصور الأعلى (المترفين) وما هو الأسفل في السلم الاجتماعي (عبيد الحاجة البدائية) لأن معناها في الوسط في رؤيته الخلقية. سيقال :تحاكم الفن بالاخلاقوية .وتتوالى شعارات الحداثيين .فقد سمعت مرة أحدا يدعي أنه ناقد كبير يقول إن المرأة العفيفة لا تصلح في الرواية لا بد أن تكون عاهرة. صحيح أن الفن قد يعتبر بمعزل عن الأخلاق إذا خلطت بالعادة .لكنه لا يلغي التعالي الذي هو لا متناهي الاشكال ولا تحيط به أي عادة .فهو يضع بدائل هي من الأخلاق دائما أبو يعرب المرزوقي 39 الأسماء والبيان
-- بمعنى أنها محنة الحرية وتكون دائما أسمى مما تتجاوزه .ومن أراد أن يفهم ذلك فليقرأ الأدب اليوناني أو حتى الأدب الوارد في القصص الديني فهو أكثر جرأة ولكن بذوق سليم وفهم مكين. والقصص الديني القرآني فقد بعده الجمالي لأن الفقهاء بكذبهم على القرآن يؤولون ما فيه من جرأة بدعوى تنزيه الرسل من إنسانيتهم فيصبح هم بها لما همت به مما لا يليق برسول فيلغونها بحياء منافق فيفقدونها جرأتها التي تجعلها فعلا غوصا في أعماق النفس الإنسانية وقس عليها كل التنزيه الكاذب .فيزول ما فيه من الإنساني وما في الإنساني من كوني ولا يبقيان إلا حدين مسلوخين ليس فيهما حياة .فالنبي لا يبقى إنسانا والإنسان لا يبقى ذا اشرئباب للكمال بل يصبح الخير والشر في مواجهة وهو تشويه حتى لما يسمونه واقعا. فـ\"سي السيد\" مثلا قد يكون وصفا لأمر واقع لكنه خال من كل أعماق النفوس :إنه كاريكاتور إنسان في \"واقعية\" الأديب وليس في حقيقة الرجل الذي لم يعد له سريرة لأن الأديب عاجز عن محاولة الاقتراب مما يمكن أن يوحي بها لأن الإحاطة بها ممتنعة لأنها من الغيب .ما فعلوه بالنبي ويتصوروه إيجابيا هو عكس ما فعله الحكيم بسي السيد ويتصوره سلبيا. وبذلك نفهم أن الإبداع المزعوم لأنه غير صادق لا يصف الواقع من حيث هو واقع البنى العميقة لكيان الإنسان العضوي والروحي الذي يتنازعه الخير والشر والجمال والقبح والذليل والجليل والصادق والكاذب والحر والمضطر بل يصف كاريكاتور يفيد جهل من يظن نفسه فنانا بالنفس وبالفن. ويمكن الجزم بأن كل ما يسمونه إبداع عربي مثله ما يسمونه اقتصاد عربي استيراد روبافيكا بمنطق قص ولصق .ذلك أن الفنون شرطها العلوم وفي غياب هذا الشرط يصبح أي \"سكارجي\" فنان وأي \"زبراط\" إعلامي وأي عميل للاستعلامات محلل استراتيجي .يكفي أبو يعرب المرزوقي 40 الأسماء والبيان
-- حبال صوتيه ليصبح مغنيا ويكفي تركيب بعض الصور المنتحلة من أفلام إيطالية وهندية وأمريكية ليصبح سينمائيا. وحينها لا فرق بين مورد خردة الصين ليسمى منتجا اقتصاديا ومركب صور منتحلة ليسمى سينمائيا وبعض الأنغام ليسمى موسيقيا و\"ملبزا\" لوحات ليسمى رساما وهلم جرا .أما الرواية فحدث ولا حرج :يكفي أن يحكي حياته .وأما الشعر فيكفي أن يتكلم باسم موضة تجديدية .عصر الكاريكاتور في كل شيء. وفي الحقيقة ففي الذوق إذا تقدم الدافع التجاري مات الذوق ومثله في الألعاب وخاصة في الرياضة ومثل ذلك في المعرفة .صحيح أن هذه مهن وصاحبها يعيش منها .لكن إذا صار ينتج ليتاجر فإن الإبداع في منتوجه قد يكون موجودا في أقل من القليل .فلا تنتظر ممن يكتب عمودا يوميا تحت الطلب أن يبدع أو حتى أن يصدق في ما يكتب. وبهذا الذوق المنحط تخلق موضات فتصبح متحكمة في الذوق الاستهلاكي للفنون وللزينة وخاصة في عالم الموضة النسوية وكل الموضات نسوية إما هي للنساء مباشرة أو للرجال من أجل النساء بصورة غير مباشرة .ومن ثم فالذوق الغائي في الفنون هو المحدد للذوق الغائي في الاقتصاد بكل معانيه. ذلك أن الأكل واللباس وحتى هندسة البدن والعمارة والحلي ومظاهر الثروة كل ذلك لا يحدده إلى ذوق النساء مباشرة أو من أجل ذوقهن عند الرجال .ويمكن أن ننسب إلى الأطفال أيضا دورا في العلة الغائية للحركية الاقتصادية .لكن أكبر الحرفاء هم الدول لأن كلفة البضائع والخدمات التي تطلبها كبيرة. وهي محركة للاقتصاد من حيث العلة الفاعلية والعلة الغائية .ذلك أن البحث العلمي هو الأداة الأولى في قوة الدول لعلاج الرعاية والحماية .فالغذاء والدواء والصحة والقاعدة الاساسية للتواصل وللاتصال للرعاية والأسلحة وغزو البحار والنجوم وأسرار الطبيعة كل محركات الدولة للاقتصاد والثقافة. أبو يعرب المرزوقي 41 الأسماء والبيان
-- وكل ما وصفناه من شروط القدرة معطلة تماما في ما يسمى دولا عربية .وهي كما أسلفت محميات وليست دولا .وبقاؤها محميات بسبب الأحياز المفتتة يجعلها عقيما بحيث إنها لا يمكن في يوم من الأيام أن تنتج شيئا وينجح فضلا عن أن تبدع لأن ما ذكرناه من الشروط كلها منعدمة .وعدمها ليس انعداما بل إعدام مقصود من الحامي وعملاءه للاستتباع. أبو يعرب المرزوقي 42 الأسماء والبيان
-- لابد من عودة لنظرية الرمزين وتفاعلهما وأصل المقومات الأربعة بداية وغاية .فالمعلوم أن علاقة التعمير بالاستخلاف هي جوهر الرسالة الخاتمة .والمعلوم كذلك أن علة انحطاط الإنسانية هي الفصام الذي أصاب هذه العلاقة إذ ظن البعض أن الاستخلاف ممكن من دون التعمير .وهذا هو سر انحطاط الأمة .ولم يفهموا أن التعمير من دون الاستخلاف تدمير وهذا هو سر انحطاط الغرب وانحطاط هو سياسته الاستعمارية. وهذه العلاقة بين التعمير والاستخلاف هي عين العلاقة بين كيان الإنسان العضوي وكيانه الروحي وأساس قيام الجماعة أي جماعة بوصفها شرط قيام الفرد الذي هو مناط التكليف والمسؤولية في الرؤية القرآنية علما وأن الفردية مفهوم ديني خالص ولا علاقة له بالفلسفة .الفلسفة حرفته فأسست عليه الفردانية التي هي نهاية الجماعة وفي النهاية نهاية الفرد كما بينت في الفصل السابق. وحتى أشرح هذه الرؤية التي وضعها القرآن الكريم كما تبينت من خلال قراءته قراءة فلسفية باعتباره رسالة تذكر الإنسانية بمهمتيها (التعمير بقيم الاستخلاف) خالية من الخوارق ومن الوساطة في التربية والوصاية في الحكم وضعت نظرية الرمزين لبيان أن كلام القرآن بلغة تتعلق بمنطق مبدأ الاقتصاد (أداة التبادل وعلل تحريفها) ومنطق الثقافة (أداة التواصل وعلل تحريفها) لم يكن تحكيما بل لأن هذه العلاقة بين التعمير والاستخلاف تتأسس عليهما في حالة الإيجاب وعلى تحريفهما في حالة السلب: .1رمز الفعل أو العملة للتبادل. .2فعل الرمز أو الكلمة للتواصل. .3تأثر التبادل بالتواصل. .4تأثر التواصل بالتبادل. .5أصلها جميعا أو علاقة التعمير بالاستخلاف. أبو يعرب المرزوقي 43 الأسماء والبيان
-- لم يكن من السهل وضع هذه النظرية خاصة بعد ما تقدمت في تفسير القرآن الكريم ومراجعة علوم الملة الخمسة أي التفسير أصلا لعلمين نظريين عقديين هما الكلام والفلسفة ولعلمين عمليين هما الفقه و التصوف لبيان ما طرأ عليهما من تحريف علته قلب أمر فصلت 53نهيا ونهي آل عمران 7أمرا. ودون فخر فإني أجزم بأن الرؤية القرآنية لم تصبح واضحة إلا بفضل ما مكنت منه قراءته الفلسفية التي تبين أن الإسلام ليس دينا من بين الأديان بل هو الديني في كل دين وأنه الفلسفي في كل الفلسفات أعني أنه يمكن الإنسان من التحرر من وهم الإرادة اللامحدودة ووهم العلم المحيط والقدرة اللامتناهية والحياة السرمدية .والرؤية الجامعة بين اللامحدودية والإحاطة واللاتناهي والسرمدية أعني كل ما تدركه ضرورته ليكون لوجودها معنى دون أن يكون وجودها حائزا عليها وهو معنى كونها عين التعمير بقيم الاستخلاف :وهذا هو الإسلام الدين الخاتم الذي يتألف من شروط الاستثناء من الخسر الخمسة كما حددتها سورة العصر: .1الوعي بإمكانه وهو جوهر الوعي بالحرية والتكليف. .2الإيمان بما يجنب الإنسان من الوقوع فيه أو الوعي بالاستخلاف .3العمل الصالح وهو الثمرة الأولى للاستخلاف أو التعمير .4التواصي بالحق أو الاجتهاد بدل وهم العلم المحيط :التواصل المعرفي بالتعاون والتفاهم الصادق. .5التواصي بالصبر أو الجهاد بدل العمل التام :التبادل الاقتصادي بالتعاون والتعاوض العادل. فالعسر زاد لأنه هذه النظرية صارت محكا لاختبار صحة الفهم الذي أقدمه لما اتهم به علوم الملة من الانحراف عن معاني القرآن وقلبها لإعادة سلطان الوساطة الذي حرر القرآن تربية الإنسان وسلطان الوصاية في الحكم الذي حرر القرآن منه حكم الأمة .فهذان السلطانان هما علة فساد معاني الإنسانية. أبو يعرب المرزوقي 44 الأسماء والبيان
-- فالقرآن أمر الرسول أمرا يحرر من هذين السلطانين الروحي في التربية والمادي في الحكم .ولهما علاقة متينة بالرمزين .فالسلطان الروحي هو سلطان الكلمة في النهاية. والسلطان المادي هو سلطان العلمة في النهاية .وهو ما يجعل امتحان نظريتي في دورهما وعلاقتهما بدين العجل مهمة ضرورية لتكون نظرية الرمزين وما يترتب على تحول دورهما من أداتين إلى سلطانين مستندة إلى أسس لا جدال فيها. لكني أستطيع أن أزعم أني محظوظ .ذلك أن هذا الامتحان أكد صحة الرؤية وساعد خاصة على فهم الكثير من المسائل التي كانت عالقة في التفسير وخاصة ما تعلم منها بأهمية الانفاق من الرزق في الشورى 38التي تمثل حد الغاية منها تمثيل الاستجابة للرب لحد البداية :والوسط هو نظرية طبيعة الحكم وأسلوبه. وفي الحقيقة فإني لم أتوقع أنها \"ستزبط\" كما يقول المصريون إلى هذا الحد :فالاستجابة إلى الرب هي علامة الاهلية للاستخلاف والانفاق من الرزق هي علامة التعمير .وإذا بنظرية الحكم في الإسلام مشتقة من حقيقة الإنسان كما فهما ابن خلدون \"رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف\" :وهذا من عجائب القرآن. فما هو \"بطبعه\" هو صلة الإنسان بالطبيعة التي هي المعين المادي لشروط قيامه وكيانه العضوي خاصة وما هو \"بمقتضى الاستخلاف\" هو صلة الإنسان بما يتعالى على الطبيعة الذي هو المعين الروحي لشروط قيامه وكيانه الروحي .ومن الصعب أن يكون كل هذا التناسب وليد الصدف .فلنغص في معانيه ودلالاته. والإشكال كله يدور حول انقلاب أداتي التبادل والتواصل إلى سلطان .والقرآن لا ينكر ذلك بل هو يحول دون هذا السلطان والتحول إلى بعدي العجل أي سلطان المال الربوي وسلطان الكلام المخادع أو الكاذب .وعلينا أن نحدد العلاج الذي يقترحه والذي هو المخرج من هذين التحريف لسلطان الأداتين. والبداية هي من النهي القرآني لهذا التحول المحرف للسلطانين أي تحول سلطان أداة التواصل إلى سلطان تربية وسيط بين الإنسان وربه في التربية وتحول سلطان أداة التبادل أبو يعرب المرزوقي 45 الأسماء والبيان
-- إلى سلطان وصي بين الإنسان وأمره في الحكم بآيتين ليس أوضح منهما :الغاشية \"فذكر إنما أنت مذكر ( )21لست عليهم بمسيطر (.\")22 لكن المعنى شديد العمق ولا يمكن إدراك علاقته بدين العجل الذي هو الأبيسيوقراطيا أو البنية العميقة الواحدة للثيوقراطيا والأنثروبوقراطيا (الديموقراطية ومثالها الأوضح هو ديموقراطية أمريكا التي صارت تحاكيها كل الديموقراطيات في العالم) :كلاهما يحكم بسلطان معدن العجل ويربي بسلطان خواره. والفرق بين الثيوقراطيا والانثروبوقراطيا هو أن ما يعلل به الاول استبداده وفساده اللذين يخفيهما هو نسبة أفعاله لشرع الله وواجبات الإنسان إزاءه وما يعلل به الثاني استبداده وفساده اللذين يخفيهما هو نسبة أفعاله لشرع الإنسان وحقوقه إزاء نفسه: والأساس بحق في الحالتين هو الأبيسيوقراطيا وكل سلطان على الأذهان وعلى الأعيان إذا لم يكن بمعيار النساء 58فهو من هذا الجنس فاقد للأمانة والعدل :يعتمد قوة المال الفاسد والكلام المخادع. هذه البنية العميقة للنظامين الثيوقراطي والانثروبوقراطي هي الابيسوقراطيا التي تحرف التربية والحكم ليكونا وسيلة تحقق الربا المادي أساسا لحكم الإنسان والتحريف الروحي أساسا لتربية الإنسان ولا تكون الدنيا والآخرة إلا أداتي التخييل أولاهما باللاتناهي المادي والثانية الروحي الزائفين. ومرة أخرى يمكنني أن ادعي أني حقا محظوظ .فالنظامان اللذان يجسدان الدليل القاطع على صحة هذه النظرية هما ذراعا الاستعمار في الإقليم وأعدى أعداء الإسلام فيه .إنهما إيران التي هي ثيوقراطيا صريحة وأنثروبوقراطيا شكلية وإسرائيل التي هي انثروبوقراطيا صريحة وثيوقراطيا شكلية .وكلتاهما أبيسوقراطيا لا جدال فيها بمعنى أن سطلناها الروحي أقوال كاذبة وسلطانها المادي أموال فاسدة. وذانك هما بعدا العجل في القصة .فمعدنه هو الذهب المسروق لأنه استعير من المصريين ثم هرب وكلامه خوار وهو الصوت الذي يخدع لكونه محل الكلام دون أن يكون له دلالة أبو يعرب المرزوقي 46 الأسماء والبيان
-- صادقة .وذلك فإيران وإسرائيل كلتاهما تستعمل نوعي الربا الأرضي والسماوي أساسا للسيطرة على الأبدان .فكلتاهما تستعمل الخوار للسيطرة على الأذهان وتستعمل المال المسروق للسيطرة على الأبدان ليس عند غيرهما فحسب بل حتى في شعبيهما وهما التعين الحقيقي لدين العجل بوصفه البنية العميقة للتربية والحكم باسم أو وباسم الإنسان كذبا وبهتانا ولا يخفى ذلك على عاقل مهما تحامق. ومن يقرأ القرآن مجهزا بمعادلة دور رمز الفعل أو العملة في التبادل وتحولها إلى سلطان على المتبادلين ودور فعل الرمز أو الكلمة في التواصل وتحولها إلى سلطان على المتواصلين والأولى بالربا والثانية بالكلام المخادع يفهم أن البعد النقدي من عرض تاريخ الأديان هذا مداره ودلالته الخلقية. ولما كان لهذا الانتقال من الأداة إلى السلطان في حالتي العملة والكلمة أمرا ذاتيا لهما فإن المشكل ليس فيه بل في طبيعة السلطان الذي يتحولان إليه .ومن هنا بات الكلام على التحول مرتبطا وثيق الارتباط بنظرية التربية ونظرية الحكم في القرآن وبمعادلة التبادل والتواصل وما بينهما من تفاعل في الاتجاهين مع أصل هو عين كيان الإنسان أو علاقة العضوي (البدن) بالروحي (وعي صاحبه به) وتفاعلهما. أشرت إلى التفاعل بين التبادل والتواصل وأداتيهما وكيف يكون سلطانهما موجبا ومتحررا من ربا العملة وخداع الكلمة .فالتبادل يأخذ من التواصل فيصبح هدية محب وهو أساس الأسرة العضوية .والتواصل يأخذ من التبادل ويصبح وعد حر أو إنفاق لوجه لله أو وقف وهو أساس الأسرة الروحية والوقف العام هو ا لتعاون العيني كما في المجتمعات التي تحررت من الربا .وكلاهما سلطان معنوي. وقد شرحت ذلك عند الكلام على التعاون بين الأجوار في المناسبات التي تحصل لكل إنسان (مثل الزواج والموت أو بناء الكن .ويمكن أن ينتظم تمويل الاستثمار بهذا الأسلوب ولكن ليس بالاعتماد على المناسبات المتماثلة والتعاون التعيني للمشاركة في كلفتها بل بنظرية التمويل المعتمد على العلاقتين الشارطة والمشروطة في كل إنتاج. أبو يعرب المرزوقي 47 الأسماء والبيان
Search