Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore شكوك على نظرية المقاصد، عمقها وخطرها - ابو يعرب المرزوقي

شكوك على نظرية المقاصد، عمقها وخطرها - ابو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2018-06-23 10:48:50

Description: شكوك على نظرية المقاصد، عمقها وخطرها - ابو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫الأسماء والبيان‬



‫المحتويات ‪1‬‬‫‪ -‬الفصل الأول ‪1 -‬‬‫‪ -‬الفصل الثاني ‪7 -‬‬‫‪ -‬الفصل الثالث ‪14 -‬‬‫‪ -‬الفصل الرابع ‪21 -‬‬‫‪ -‬الفصل الخامس ‪27 -‬‬‫‪ -‬الفصل السادس‪34 -‬‬‫‪ -‬الفصل السابع ‪39 -‬‬‫‪ -‬الفصل الثامن ‪44 -‬‬‫‪ -‬الفصل التاسع ‪50 -‬‬‫‪-‬الفصل العاشر‪55 -‬‬‫‪ -‬الفصل الحادي عشر ‪61 -‬‬‫‪-‬الفصل الثاني عشر ‪66 -‬‬‫‪ -‬الفصل الثالث عشر ‪71 -‬‬‫‪ -‬الفصل الرابع عشر ‪76 -‬‬‫‪ -‬الفصل الخامس عشر ‪81 -‬‬‫‪ -‬الفصل السادس عشر – ‪86‬‬‫‪ -‬الفصل السابع عشر ‪91 -‬‬‫‪-‬الفصل الثامن عشر ‪96 -‬‬‫‪ -‬الفصل التاسع عشر ‪101 -‬‬‫‪ -‬الفصل العشرون ‪106 -‬‬

‫‪--‬‬‫بدأت الفصل التاسع من الكلام على \" الدولة‪ :‬مفهومها وبعداها البنيوي والتاريخي\" ولم‬‫أتجاوز فيه التغريدة الثانية ووعدت بالعودة إليه‪ .‬لكني مضطر لتأجيل ذلك حتى أذكر‬‫بموقفي من إشكالية \"نظرية المقاصد\" لأن رحلتي إلى المغرب كانت لتكريم أحد أكبر‬ ‫رجالاتها‪ :‬الشيخ أحمد الريسوني حفظه الله‪.‬‬ ‫لما كرمت بهذه الدعوة للمشاركة في التكريم عجبت شديد العجب‪.‬‬‫صحيح أن الشيخ من أصدقائي الأعزاء‪ ،‬لكني أعلم أنه يعلم أني من معارضي هذه‬‫النظرية بشدة‪ .‬فكيف دعيت لهذا التكريم؟‪ :‬فهمت من الدعوة أنه ليس رمزا للعلم‬ ‫الديني فحسب في عصرنا بل أيضا للانفتاح الفكري الفريد‪.‬‬‫فأن أدعى مع الكثير من الزملاء الكرام لتحية رجل جمع بين النظر في المقاصد والعمل‬‫بها مع العلم بموقفي منها اعتبره من علامات نضج البحث العلمي الذي يتعاون فيه الفكران‬‫الديني والفلسفي دون الحساسية التي كانت تعتبرهما عدوين ومتنافيين‪ .‬لذلك أردت أن‬ ‫أحرر التكامل بين الموقفين من المقاصد‪.‬‬‫لست بحاجة للتذكير بأن موقفي من المقاصد ليس جديدا فقد شرحته في الحوار الشيق‬‫الذي دار بين المرحوم الشيخ البوطي وبيني رغم ان عرضه فيه كان مجملا وليس مفصلا‬‫أو إن صح التعبير لم يعلل التعليل الوافي لأن القصد لم يكن التركيز عليه بل على شمول‬ ‫الأزمة لمجال اصول الفقه‪.‬‬‫كان يكفيني حينها بيان \"وفاة\" أصول الفقه ما ظل مقصورا على إشكالية الصوغ الفني‬‫للأحكام وتوسيع مجال تطبيق النصوص المحدودة على النوازل غير المحدودة وخاصة بعد‬‫أن أصبح مجاله الأول خارجا عن سلطانه‪ :‬فالدول الحديثة كلها بما فيها التي تبدو محافظة‬ ‫على الشريعة لا تعمل إلا بالقانون الوضعي‪.‬‬‫ومعنى ذلك أن الفقه لم يبق له إلا دور إضفاء الشرعية البعدية والشكلية لأفعال الدولة‬‫التي تعمل حقيقة بالقانون الوضعي وليس بالفقه‪ .‬وما لم نعترف بهذه الحقيقة فلا يمكن‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪1‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫أن نستأنف تأصيل الفقه ووصل ما تعمل به الدول الحديثة بالمرجعية الإسلامية‪ .‬وموقفي‪:‬‬ ‫حل المقاصد عقيم وخطير على الإسلام‪.‬‬‫واكتفي بهذه الإشارة لأن الشيخ نفسه بدأ يشعر بأخطر استعمالاتها حتى وإن لم‬ ‫يحددها‪ .‬ومن هذه الاستعمالات الخطيرة وتحديدها‪.‬‬‫سأنطلق في هذه المحاولة التي اشعر بأنها ضرورية لاستكمال ما بدأته مع الشيخ البوطي‬ ‫رحمه الله‪ .‬فما الذي ألجأ مؤصلي الفقه إلى نظرية المقاصد؟ ولم هي عقيم وخطيرة؟‬‫فهذا العقم والخطر الذي توقعته من منطلق ما يترتب على علل لجوء الأصوليين إليها لا‬‫يتعين فعليا إلا عندما تصبح الحركات الإسلامية قائلة به ومستعملة إياه بعد وصولها إلى‬‫الحكم‪ .‬وعندئذ يتبين الخطر الناتج عن الانتقال من علاج مسألة أصولية بالجوهر إلى‬ ‫مسألة سياسية بالجوهر‪.‬‬ ‫فالمسألة الأصولية بينة للجميع ويمكن أن نحددها من جواب قاضي الرسول عن سؤاله‪:‬‬ ‫‪ .1‬بم ستحكم؟ فبعد جوابه بالقرآن‬ ‫‪ .2‬وإن لم تجد؟ وبعد جوابه‪ :‬بسنة رسول الله‬ ‫‪ .3‬وإن لم تجد؟ وبعد جوابه‪ :‬اجتهد رأيي ولا آلو‬ ‫باركه الرسول ولم يعترض ولم يضف شيئا‪.‬‬‫إشكالية أصول الفقه تحددت في هذه الأسئلة وأجوبتها وخاصة في تأييد الرسول لقاضيه‬‫وعدم الاعتراض عليه‪ .‬وفي الحقيقة فهذه الإشكالية هي عينها إشكالية القانون الوضعي‬‫حتى وإن كانت المرجعية مختلفة‪ .‬لكنها واحدة من حيث الوظيفة القانونية‪ .‬فكل قاض‬ ‫يحكم بالرأي دون مدونة نصوص ليس قاضيا بل دجال‪.‬‬‫وكل قاض يقتصر قضاؤه على ما فيه نص قانونيا كان أو قضاء ممن تقدم عليه من كبار‬‫القضاة لا يستأهل اسم القاضي‪ :‬فواجبه أن يبحث كما فعل قاضي الرسول في المرجعية‬‫الأصلية (وهنا القرآن) ثم في من قضى قبله (وهنا السنة) وإن لم يجد أن يجتهد رأيه على‬ ‫منوالهما‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪2‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫وهذان الشرطان في وظيفة القضاء ينتجان عن العلاقة غير المتناظرة بين النصوص‬‫والنوازل التي يحتكم فيها للقضاء‪ .‬وإذن فأصول الفقه يعالج هذه القضية المضاعفة‪.‬‬ ‫فسؤال كيف نقضي مشروط بـ‪:‬‬ ‫‪ .1‬كيف نستعمل النصوص التشريعية في التطبيق‪.‬‬ ‫‪ .2‬وكيف نجتهد في حالة غياب النصوص والسوابق القضائية‪.‬‬ ‫لذلك كان إشكالية تأصيل الفقه مضاعفة‪:‬‬ ‫‪ .1‬استعمال النصوص (عندنا القرآن) والسوابق القضائية (عندنا السنة خاصة)‪.‬‬ ‫‪ .2‬استعمال الاجتهاد‪.‬‬‫والمشكل أن قاضي الرسول لم يحدد القصد بأجتهد رأيي ولا آلو‪ .‬لم يتكلم على القياس‬ ‫ولا على الاستحسان ولا حتى على الاجماع رغم أنها جميعا مضمرة في \"أجتهد رأيي\"‪.‬‬ ‫كيف هي مضمرة؟‬‫هي مضمرة وإلا لما اختاره الرسول للقضاء‪ .‬فلا بد أن الرسول قد اختاره لعلمه بأنه فضلا‬‫عن حيازة العلم الكافي للتسليم بجوابيه الأولين (أقضي بكلام الله وبسنة رسوله) حاصل‬ ‫على ما يؤهله لهذه الوظائف الثلاث المضمرة‪:‬‬ ‫‪ .1‬القياس‬ ‫‪ .2‬الاستحسان‬ ‫‪ .3‬الاجماع بمعنى تمثيل رأي الجماعة‪.‬‬‫رأي الجماعة هو ما تجمع عليه بأنه المعروف والمنكر ومن ثم فهي مصدر تشريع بهذا المعنى‪:‬‬‫ومعنى ذلك أن قاضي الرسول كان داريا بما تجمع عليه الجماعة من معروف ومنكر وهو‬‫حينها ما كان يسمى \"ما تجمع عليه صحابة رسول الله\" أو كل من ربي على سنته من الأمة‬ ‫الناشئة‪.‬‬ ‫فإذا اعتبرنا هذه العناصر وجدنا مراحل تكوينية الفقه وتأصيله‪:‬‬ ‫‪ .1‬منطلق أبي حنيفة (وفيها العلاقة مباشرة بين المرجعية القرآنية واجتهاد الرأي)‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪3‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .2‬منطلق مالك بن انس (إضافة المرجعية الثانية)‬ ‫‪ .3‬منطلق احمد بن حنبل (اكتمال المرجعية الثانية)‬ ‫‪ .4‬منطلق الشافعي (تأسيس علم الأصول)‪.‬‬ ‫فتكون المراحل‪:‬‬‫‪ .1‬أبو حنيفة‪ :‬قرآن ‪ +‬رأي (دور الحديث قليل) والمضمر هو أخلاق الجماعة (المعروف‬‫والمنكر) والعلم بالمرجعية وصفات ال َحكم الأمين والعادل)‪ .‬وذلك هو جواب قاضي الرسول‪.‬‬ ‫وما يبدو غيابا للحديث هو في الحقيقة حضور حي في أخلاق الجماعة متعينة الأحداث‪.‬‬‫‪ .2‬والمرحلة الثانية‪ :‬مالك بن أنس‪ :‬قرآن ‪ +‬مزيد من الحديث ‪ +‬حضور صريح وليس‬‫مضمرا لأخلاق الجماعة أو لإجماعها باعتبارها هي بدورها مصدر تشريع‪ .‬وهو كذلك‬‫جواب قاضي الرسول‪ .‬ومع ذلك بقيت مدونة النصوص قليلة وهو ما سيلجئ الفقهاء إلى‬ ‫الشرط الموضوعي للقضاء الأمين والعادل أي مدونة النصوص‪.‬‬‫‪ .3‬وتلك هي المرحلة الثالثة‪ :‬احمد بن حنبل‪ :‬كل ما تقدم مع التركيز على أهمية الحديث‬‫أي المدونة النصية التي تحد من الحكم بمجرد الرأي وتعيدنا إلى الحكم بالمرجعية وبأفضل‬‫الأحكام القضائية السابقة لأنها منسوبة إلى الرسول نفسه بوصفه قاضيا اساسا‪( .‬اقتصر‬ ‫على القضاء ولا أنشعل الآن بالإفتاء)‬‫والجمع يعمل الفرق بين القضاء والافتاء‪ :‬فالقضاء يقضي بين نزاع بين شخصين فأكثر‪.‬‬‫والافتاء يقضي في نزاع ضمير حول فعل إما فردي أو جماعي ويكون التردد فيه متعلقا‬‫بوصف الفعل وتكييفه شرعيا)‪ .‬وذلك هو جوهر الفرق بين الفقه والقانون الوضعي‪.‬‬ ‫فالقانون الوضعي ليس له هذه الوظيفة الثانية‪.‬‬‫وحاصل القول إن المرحلة الرابعة‪-‬الشافعي‪-‬هي التي حاولت أن تستخرج من هذه‬‫التجارب الثلاث فلسفة الشريعة أو أصول الشريعة في كتاب الرسالة وعليها بني مذهبه‬‫وجمعه بين منجزات المراحل الثلاث السابقة مع إضافة ما خلت منه‪ .‬فالنظرية الجامعة‬ ‫جعلت صاحب \"اجتهد رأيي ولا آلو\" يألو بشروط الاجتهاد‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪4‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫لكن الغاية (التأسيس النظري لأصول الفقه في الرسالة) التي انتهت إليها هذه المراحل‬ ‫الثلاث (أبو حنيفة ومالك واحمد) تفترض مرحلتين متقدمتين عليها‪:‬‬ ‫‪ .1‬الرسول وينطلق من القرآن‬‫‪ .2‬الخلفاء الراشدون ينطلقون من القرآن ومنه وسطيا بينهم وبين القرآن وكأنهم في‬ ‫وضعية قاضي النبي كقضاة (الفارق مثلا)‬‫وهنا تتعقد القضية‪ :‬فالقرآن يجمع بين المرجعية التشريعية المرجعية القضائية‪ .‬والسنة‬‫كذلك‪ .‬والخلفاء الراشدون ليس لهم وظيفة تشريعية بل يقتصرون على بعدي الوظيفة‬‫القضائية‪ :‬القضاء والافتاء وفي مجالين أكبر (الوصل بين العقيدة والشريعة) وأصغر‬ ‫(الوصل بين الشريعة والنوازل العقدية والشرعية)‪.‬‬‫والوصلان هما موضوع الفقه الاكبر بمعنى الوصل بين العقيدة والشريعة والوصل بين‬‫الشريعة والنوازل المتعلقة بالوصل الاول أي ما يناظر مدى مطابقة القانون لأساسه‬‫الدستوري (في القرآن والسنة) ولكن ليس بالمعنى القانوني فحسب بل بالمعنى العقدي‬ ‫كذلك‪ .‬ولا علاقة للفقه الأكبر بعلم الكلام‪.‬‬‫وكون القرآن والسنة جامعا كل منهما بين التشريعين الأكبر والأصغر يجعل حضورهما‬‫المرجعي للقانون عسير التحديد بمجرد المقارنة مع القانون الوضعي‪ :‬إلا إذا وضعنا بديلا‬‫من التشريع الإلهي والنبوي التشريع الطبيعي والتاريخي أو ما ينسب إلى طبيعة الإنسان‬ ‫وإلى تاريخه السياسي‪.‬‬‫وذلك ممكن شكلا إذا أردنا أن نفهم وحدة البينة بصرف النظر عن العناصر التي تتعين‬‫فيها البنية‪ :‬فالقرآن تشريع قانوني دستوري وتشريع قانوني عادي‪ .‬وكل مفت أو قاض‬‫وإن لم يكن واعيا بذلك يعمل بمقتضاه تماما كما يعمل أي قاض في القانون الوضعي‬ ‫بالقانون الدستوري والقانون العادي‪.‬‬‫فبوسع أي قاض بالقانون الوضعي أن يرفض تطبيق قانون عادي إذا تبين له أنه معارض‬‫أو مناف لأحد مبادئ القانون الدستوري في دستور البلد الذي هو مطالب بتطبيق قوانينه في‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪5‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫نوازل أهله فيكون القاضي دائما بالقوة جامعا بين القضاءين العادي والدستوري على الأقل‬ ‫في شكل الاعتراض على القانون العادي‪.‬‬‫أعلم أن ذلك نادر الحصول وأن ذلك من مهام القضاء الدستوري‪ .‬لكن القضاء الدستوري‬‫لا يتحرك إلا بطلب من سلطة إما قاعدية أو فوقية‪ .‬والقاعدية عندنا هي الحسبة‪.‬‬‫والفوقية عندنا هي الفقهاء والقضاة منهم على وجه الخصوص فتشغيل القضاء الدستوري‬ ‫مصدره أخلاق الجماعة وحماتها‪ :‬الجماعة والعلماء‪.‬‬‫لكن الفقه الأكبر خرج من انشغال أصول الفقه بوصفه أحد عناصر موضوعه المباشر ولم‬‫يبق له دور إلا بهذا المعنى المضمر‪ .‬والعلة بينة‪ :‬التشريع منسوب إلى الله أو إلى النبي‬‫ولا يمكن الكلام على تناقض بينه وبين القرآن لأنه منه‪ .‬والخلافات تتعلق بتأويل‬ ‫المصدرين وبالنقلة من \"لا آلو\" إلى \"آلو\"‪.‬‬‫علينا إذن أن ندرس هذه النقلة من \"أجتهد رأيي ولا آلو\" إلى \"أجتهد رأيي وآلو\" أو من‬‫الاجتهاد النابع من أخلاق الجماعة وفكرها المطابقين لمعاييرها دون انفصام بين النظر‬‫والعمل (بفضل التربية النبوية) قبل التنظير إلى التنظير الأصولي الذي ساوق الانفصام‬ ‫بينهما وباتت المعايير موضوع خلاف‪.‬‬‫وحتى نفهم القصد‪ :‬فهذا الفصام حصل كذلك في اللغة‪ .‬فالذي يتعلم لغته القومية مستغن‬‫عن النحو لكن البلوغ إلى الاتقان فيها يقتضي العودة على مهارته اللسانية ليعلم قوانينها‬‫فيصبح مقوما للسانه بعلمه‪ .‬والدافع الثاني في الفقه هو التباعد بين الممارسة والمعايير‬ ‫القانونية والخلقية‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪6‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫يمكن القول إذن أن كل تاريخ الفقه هو محاولة الحد من \"اجتهد رأيي ولا آلو\" أو محاولة‬‫تأسيس حل معضلة التشريع التي هي دائما علاقة النصوص القانونية المتناهية بالنوازل‬‫اللامتناهية وسعيها الدائم للوصل بين هذين الحدين وصلا لا يتناهى‪ .‬فمهما أضفنا إلى‬ ‫والنسبة تبقى لامتناهية‪.‬‬‫وفرضيتي النظرية هي أن نظرية المقاصد حتى لو سلمنا بها لن تمكن من تحقيق الحل لأنه‬‫أولا مستحيل ولأن حلها لن يكون مقبولا إلا بشرطين يجعلان الدين مجرد خدعة وظيفتها‬‫التغطية على الرؤية الباطنية للدين‪ :‬مجرد إيديولوجيا للعامة تضفي الشرعية على إرادة‬ ‫المتحيلين باسم الدين‪.‬‬‫وذلك هو جوهر التحريف الذي يتكلم عليه القرآن‪ .‬وطبعا فأنا أنزه كل المنظرين‬‫للمقاصد من إمام الحرمين إلى الشاطبي وخاصة الصديق أحمد الريسوني‪-‬ودليلي كتابه‬‫مقاصد المقاصد الذي يحاول فيه منع هذا المآل الممكن وخاصة عندما تصبح الأحزاب الدينية‬ ‫حاكمة فتبرر كل شيء بما يسمونه إكراهات الواقع‪.‬‬‫مفهوم \"فقه الواقع\" و\"إكراهات الواقع\" و\"الفقه ابن زمانه\" و \"حيثما وجدت المصلحة كان‬‫الدين\" كل هذه العبارات هي من التعليلات الصريحة لهذا الوصل بين التشريع والقانون‬‫وما يراد بهما ليكونا مجرد أداة إيديولوجية طيعة بيد من يتعلل بها ليضفي الشرعية على‬ ‫ما ليس له منها إلا شكلها اللفظي‪.‬‬‫ولأعين بصورة جامعة مانعة توظيفات نظرية المقاصد في الجدل الحالي بدعوى المد في عمر‬‫الفقه بحلول زائفة منطلقها تعريف خاطئ للفقه ووظائفه‪ .‬فالمقاصد تهدف إما إلى تعديل‬‫الأحكام التي يظن أنها لا تتفق مع العصر أي تغيير الموجود أو لسد حاجات لا وجود لما‬ ‫تسدها الشريعة أي لإيجاد المعدوم‪.‬‬‫وتعديل الموجود من حدود الله وأحكامه أو حتى تعطيله يوجد عند العلماني والإسلامي‪:‬‬‫وغالبا ما ينافق الأول مدعيا حماية الدين وتحديثه والثاني يكون عادة في موقف دفاع‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪7‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫فيفعل مثله دون سوء نيته‪ .‬لكن عندما يصبح الإسلامي حاكما فإنه ليس من المستبعد أن‬ ‫يصبح مثل العلماني داعيا لتعديل الموجود‪.‬‬‫أما إيجاد المعدوم فله نوعان يشبه ما كان يزاد بالقياس أو بالاستحسان إلخ‪ ..‬أو بالمقاصد‬‫نفسها وهي تمد الفقهاء بفسحة أكبر في هذه الزيادة باسم التكيف مع التطور‪ .‬وطبعا كل‬‫هذه المطالب مشروعة ولست ضد تطوير التشريع سماويا كان أو وضعيا‪ .‬لكنه في الحالتين‬ ‫مبني على أسس خاطئة‪.‬‬‫وينتج هذا التعديل للموجود باسم التحديث أو فقه الواقع أو الاكراهات إلخ‪ ..‬وكذلك‬‫إيجاد المعدوم بنفس التبريرات عن موقف باطني غير واع حصل بالتدريج لما أصبح التشريع‬‫وسيلة من وسائل اضفاء الشرعية على ما ليس بشرعي توظيفا للدين في السياسة حتى في‬ ‫الأنظمة التي تدعي العلمانية‪.‬‬ ‫والنتيجة أربعة‪:‬‬ ‫‪.1‬تعديل الموجود‬ ‫‪.2‬إيجاد المعدوم‬ ‫‪.3‬الموقف الباطني باسم التحديث وفقه الواقع‬‫‪.4‬التطابق مع الموقف الشيعي الذي يجعل الديني غطاء للسياسي عامة وبدلا من أن يكون‬‫الدين تحريريا وتنويريا يتحول إلى النقيض التام من ذلك‪ .‬وهذا الاستغلال من نفس‬ ‫الطبيعة في الوهابية والتشيع‪.‬‬‫ولست أعمم على أفراد الفقهاء بل كلامي يتصل بجلهم وخاصة بمن كان منهم في خدمة‬‫الأنظمة وهم الأغلبية حتى في البلاد التي يحكمها العسكر لأن الأمر ليس مقصورا على‬‫البلاد التي تحكمها تقاليد القبيلة أو العسكر بغطاء ديني للاستهلاك المحلي وحداثي‬ ‫للخارج‪.‬‬‫وغالب الثرثرة حول الوسطية هي من هذا النوع‪ .‬ذلك أنه لا توسط يمكن أن يغطي على‬‫الاستعمال الأيديولوجي للعقائد أو للعلوم حتى وإن اختلفت معايير التمييز بين الصدق‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪8‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫والكذب في نوعي العقد الإيماني والعقد العلمي‪ .‬الفرق الوحيد يكمن في يسر تبين ذلك‬ ‫في العلم عسره في الإيمان‪.‬‬‫وما جعلني أستأنف الكلام في المسألة بعد حواري مع الشيخ البوطي هو أن استغلال نظرية‬‫المقاصد لتعديل الموجود وإيجاد المعدوم في الشرع لم يعد ذا دينامية عادية تنبع من الداخل‬‫بل هو صار مفروضا من الخارج كما يتبين من تدخل الغرب عامة وأمريكا خاصة في برامج‬ ‫تعليم المسلمين وعقائدهم وعبادتهم‪.‬‬‫وتبرير هذا التدخل يحتاج إلى نظرية المقاصد أكثر من الحاجة الذاتية لأصول الفقه كما‬‫وضعها إمام الحرمين أو الغزالي أو كما نسقها ونظمها الشاطبي أو بالطريقة التي يحاول‬‫الشيخ الريسوني احاطتها بحروز تحول دون ما وصفت من انفلات يؤدي إلى جعل الفكر‬ ‫السني يصبح باطنيا‪.‬‬‫قد يتصور العجلى أني ضد التطور الفقهي والقانوني‪ .‬لكن الحقيقة هي أن المقاصد لا‬‫تطور الفقه بل تلغيه إذا ذهبنا بها إلى الغاية‪ .‬وهي لا بد ذاهبة إلى الغاية‪ .‬فهي تيسر‬‫التحيل الفقهي وتبرر كل شيء بالمقاصد خاصة إذا كان مستعملها ليس حريصا على ما من‬ ‫دونه يفقد التشريع شروط الشرعية‪.‬‬‫فبصرف النظر عن المرجعية التي يستند إليها القانون‪-‬شرعيا كان أو وضعيا‪-‬يؤول الأمر‬‫قلب العلاقة بينها وبين السياسي الذي يوظفه لموقف إيديولوجي يدعي صاحبه تحديد‬‫مقاصد الشارع بمقتضى المصلحة إما بوهم معرفة مقاصد الله من التشريع (الشرعي) أو‬ ‫مقاصد الطبيعة (الوضعي) منه‪.‬‬‫وسأقتصر على المقاصدية الشرعية لكن نظيرتها الوضعية ممكنة ولا فرق بينهما إلا‬‫بطبيعة المرجعية أو الأسس التي ينبني عليها شرعية الأمر والنهي القانونيين أو التعبير‬‫عن الإرادة التشريعية التي تتبناها جماعة من الجماعات‪ .‬وسرعان ما ينقلب المقصد إلى‬ ‫مجال التقنين بدل وظيفته وشروط تحقيقها‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪9‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫فمثلا عندما يحدد المقاصديون المقاصد الضرورية (خمسة أو أكثر وهو أمر ناقشناه في‬‫الحوار مع المرحوم البوطي) سرعان ما يهملون الأصل الجامع ‪-‬فعل الحماية‪-‬ويمرون‬‫مباشرة المقاصد التي هي المجالات او ألموضوعات المحمية‪ :‬حماية كذا‪ ..‬يتكلمون في \"كذا\"‬ ‫وينسون \"حماية\"‪.‬‬‫فعندما أقول \"حماية\" العقل مثلا مقصدا يضعون تحته منع المخدرات مثلا تكون الحماية‬‫فعلا سلبيا قد ينتهي إلى مفهوم سد الذرائع أو فعلا إيجابيا قد ينتهي إلى فتحها ويهملون بما‬‫مقتضاه يكون القانون الموضوع حائزا على تأسيس يتجاوز تحكم فهمهم لإرادة المشرع إلاهيا‬ ‫كان أو إنسانيا‪.‬‬‫وبهذه الصورة يصبح فعل \"حمى\" غير محدد وشروط التعبير عن الإرادة الإلهية أو‬‫الإنسانية في التشريع غير محددة بل كلاهما مسلم تحدد تحديد طبيعته أو شروط أداء‬‫وظيفته وقيم الأداء فضلا عن كون الفقيه مفتيا أو قاضيا يصبح حائزا وإن إضمارا على‬ ‫وظيفتي التشريع والقضاء‪.‬‬‫وينتقل القاضي من وظيفة الوصل بين سلطتي التشريع والتنفيذ بالحكم الذي ينزل‬‫التشريع بالوصل بين نص وحدث لوصفه القانوني ‪-‬وهي عملية فنية خالصة‪-‬تقتضي‬‫الحصول على ثلاث مهارات (مهارة فهم النص الواصف للأفعال التي يتعلق بها وفهم‬ ‫الأحداث الموصوفة والوصل بين الواصف والموصوف)‪ :‬ولهذا الفعل حد‪.‬‬‫فالوصل بين نص القانون الواصف والحدث الموصوف إدراج لجزئي وجودي (الحدث) في‬‫كلي معياري يعبر عن إرادة الشارع إلهيا كان أو إنسانيا‪ .‬وإذن فهو فعل ذو بعدين‪ :‬تقنيا‬‫هو إدراج لجزئي تحت كلي‪ .‬ومعرفيا هو إدراج لجزئي إرادي تحت تعيير إرادي‪ :‬وهو إذن‬ ‫من مجال معرفي تقينا لكن حقيقته تقييمية‪.‬‬‫ومن ثم فمجرد العلم بالنصوص والعلم بالنوازل حتى لو فرضناهما حاصلين لا يكفيان‬‫ليكون المرء فقيها سواء كان بمعنى القضاء أو بمعنى الإفتاء‪ .‬فلا بد من شرعية تؤسس‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪10‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫لأداء هاتين الوظيفتين اللتين لا تتعلقان بمجرد المعرفة بل بالجمع بين نظام التعيير في‬ ‫الجماعة وشروط تطبيقه في الأعيان‪.‬‬‫وهذا ينتسب إلى سلطتين تحيطان بالقضاء هما سلطة التشريع وسلطة التنفيذ لأن القاضي‬‫يصل بين السلطتين دون أن يكون سلطة من جنسهما بل هو سلطة معرفية في نظام التعيير‬‫الذي تبنته الجماعة (شرعيا كان أو وضعيا لا يهم) معين من نظام سياسي شرعي بمقتضى‬ ‫ذلك النظام الذي تبنته الجماعة‪.‬‬‫وإذن فالقاضي والمفتي كلاهما وسيط \"معرفي\" في النظام التقييمي للأفعال بإدراج أعيان‬‫الاحداث في كليات المعايير ليتم الانتقال من الحكم التعييري إلى الفعل التنفيذي دون أن‬‫يكون له دور في وضع نظام التعيير النصي وفي نظام تنفيذه الفعلي‪ .‬فهو مدين لسلطة‬ ‫التشريع بالنص ولسلطة التنفيذ بإنفاذه‪.‬‬‫فيكون فعله الواصل بين كليات النص القانوني المعيرة للأفعال وأعيان الافعال في الوجود‬‫مشروطا بنوعين من الشروط‪ :‬طبيعة علمه وشرعية وظيفته‪ .‬وشرعية وظيفته مضاعفة‪:‬‬‫شرعية يمكن وصفها بالسياسية وشرعية يمكن وصفها بالخلقية‪ .‬والأولى هي شرعية المعبر‬ ‫عن إرادة الشارع والثانية عن أخلاق القاضي‪.‬‬‫وما نقوله عن القاضي نقوله عن المؤصل للفقه أو للقانون‪ :‬ذلك أن للقانون أو الفقه ثلاث‬‫مستويات‪ :‬التنظير والتشريع والقضاء (والافتاء الذي هو قضاء في مسائل الضمير الديني‬‫بوصفها نزاعا ذاتيا بين المرء ونفسه سواء كان فردا عاديا أو حاكما لدولة خلال التردد في‬ ‫وصف شرعي لما ينوي القيام به)‪.‬‬‫والتنظير في الشرائع غير التنظير في الطبائع وهو الأمر الذي يغفله القائلون بالتحسين‬‫والتقبيح لظنهم أن الأحكام المعيارية من جنس الأحكام العلمية خلطا بين الوجودي‬‫(الأنطولوجي) والقيمي (الأكسيولوجي) من الاحكام‪ .‬لا بد من التمييز بين صفات الشيء‬ ‫الذاتية ووصفه المعياري في أنظمة التشريع‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪11‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫والقائلون بالتحسين والتقبيح العقليين لا يميزون بينهما فيعتبرون الوصف المعياري في‬‫الشرائع من جنس الوصف المحايد في الطبائع من نفس الجنس‪ .‬لذلك فهم يعتقدون أن‬‫العلم بالصفات وحده كافيا ولا يرون أصل دور \"المعيار\"‪ :‬فأنظمة التشريع ليست علما‬ ‫بالطبائع بل هي عمل بنظام تعيير للأفعال الحرة‪.‬‬‫الشرائع لا تنطبق على الطبائع من حيث هي طبائع بل على نظام معين من القيم التي‬‫تبنتها جماعة لتكون مرجعية قيمية تعير بمقتضاها أفعال الإنسان الحرة لا المضطرة‪.‬‬‫فالضرورة القانونية في الشرائع غير الضرورة القانونية في الطبائع‪ .‬هذه يكفي فيها العلم‬ ‫وتلك لا بد فيها كذلك من شرعية للحكم فيها‪.‬‬‫وشرعية من يقضي فيها مستمدة من شرعية من له شرعية تفويضه في القضاء باسم تلك‬‫الشرعية‪ .‬وهنا نأتي إلى تحديد مفهوم \"حماية\" ومفهوم \"كذا\" ومفهوم \"تعيير\" قانوني ليتم‬‫الجمع بين الشروط الضرورية لوظيفة القاضي‪ :‬أن يعلم نظام التعيير وأن يعلم نظام‬ ‫الاحداث بمقتضاه وأن يكون مفوضا لأداء هذا الدور‪.‬‬ ‫والتفويض لهذا الدور يستمد شرعيته من أمرين‪:‬‬‫‪ .1‬من شرعية من له شرعية التفويض بمقتضى ذلك النظام التقييمي في تلك الجماعة‪.‬‬‫‪.2‬والشروط الخلقية التي يحددها ذلك النظام في أهلية من يتولى تلك الوظيفة وهي‬ ‫بالإضافة إلى ما ذكرنا قيمتان خلقيتان حددهما القرآن‪ :‬الأمانة والعدل‪.‬‬‫لذلك فالكلام على المقاصد لتعديل الموجود من نظام التشريع الخاص بجماعة من الجماعات‬‫أو لتوسيعه بإيجاد المعدوم فيه ليس كلاما متعلقا بمستوى فعل التنظير ولا بمستوى فعل‬‫التشريع ولا بمستوى فعل القضاء والافتاء أي المستويات الثلاثة وكأنها من جنس فعل‬ ‫النظر المجرد والعلم والتطبيق‪.‬‬‫فالأفعال الثلاثة في المجال الأكسيولوجي غيرها في المجال الابستيمولوجي‪ .‬لا بد من هذا‬‫في ذاك‪ .‬ولعل هذا نفسه مشروط بآخر شروط ذاك أي الأخلاق‪ .‬إنها علاقة الفلسفة‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪12‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫العملية بالفلسفة النظرية‪ :‬فمن يقول بالتحسين والتقبيح يلغي الفرق بين الوجودي (مجال‬ ‫الابستمولوجيا) والقيمي (مجال الأكسيولوجيا)‪.‬‬‫ولولا هذه القضية الفلسفية لما تدخلت في القضية الفقهية‪ .‬فلست فقيها ولست عالم دين‪.‬‬‫لذلك فقد حرصت على عدم إدخال الحجج النقلية وهي كثيرة وكلها تؤيد الفلسفي إذا‬‫طبقنا ما يأمر به القرآن (فصلت ‪ )53‬وما ينهى عنه (آل عمران ‪ )7‬بخصوص مجال علم‬ ‫الإنسان وحدوده إبستيمولوجيا‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪13‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫إن مجرد العلم بهذه الشروط والمقدمات يجعل كلام أدعياء الحداثة والأصالة على حد‬‫سواء في مسألة المقاصد ذا صلة بالحرب على السنة والحديث‪ .‬ذلك أنهم يقولون بالتحسين‬‫والتقبيح العقليين سرا أو علانية خلطا بين الطبائع والشرائع وبين قانون الضرورة في‬ ‫الأولى وقانون الحرية في الثانية‪.‬‬‫فحتى لو كان الحديث كله موضوعا‪-‬وهو أمر لا يصدقه عقل‪-‬فإنه يبقى أكبر دليل على‬‫أن ابن حنبل كان أدرى الفقهاء بطبيعة علوم الشرائع‪ :‬فهي ليست علما لطبائع الأشياء‬‫وليس تنكرا لهذا العلم لكنها عمل بنظام تعيير تبنته جماعة أو وضعته لتنظم بها حياتها‬ ‫المعيارية التي تعدل من حياتها الطبيعية‪.‬‬‫والحديث حتى لو سلمنا جدلا بأن الكثير منه منتحل دليل على أن بناء القضاء والافتاء‬‫أي التعيير المقبول من الجماعة بوصفه المعروف والمنكر عندها أعني القيم التي تعتقد حقا‬‫أو ظنا أنها تمثل ما كان يمكن أن يكون حكم الرسول فيها هو المرجعية الثانية بعد الأصل‬ ‫المؤسس لرؤيتها للوجود والتاريخ‪.‬‬‫فيكون ابن حنبل قد استكمل شروط النظام الذي يمثل المرجعية القيمية للجماعة بوصفها‬‫ما تعتبره ممثلا لفهمها للأصل القرآني باعتبارها ترجع كل أحكامها إلى ما تنسبه إلى المعبر‬‫عن الإرادة في مرجعيتها الأصلية أو القرآن لكأن القرآن هو الدستور والسنة هي القانون‬ ‫عامه وخاصه مطبقا في التاريخ‪.‬‬‫والقول إن ابن حنبل استكمل شروط النظام الذي يمثل المرجعية يعني الإيذان بنهاية‬ ‫العصر الأول من الفقه وبداية عصر ثان‪ .‬ولهذا العصر الأول خمس مراحل هي‪:‬‬ ‫‪ .1‬مرحلة الفقه النبوي‬ ‫‪ .2‬مرحلة الفقه الراشدين‬ ‫‪ .3‬مرحلة فقه جيل التابعين الأول بعد الراشدين‬ ‫‪ .4‬المرحلة الأولى من تكون المذاهب الفقيه‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪14‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫وهذه المرحلة الأولى من تكون المذاهب تتكون من محاولة أبي حنيفة ومالك ابن أنس‪.‬‬‫والأول يكاد يقتصر على القرآن والرأي‪ .‬ويمكن القول إن الثاني صاغ بصورة شبه تامة‬‫مقومات أي فقه أو أي قانون حقيقي لا يكتفي بمرجعية الجماعة الأولى بل يعتمد على‬ ‫مقومات أي قانون وضعيا كان أو شرعيا‪.‬‬‫وبهذا المعنى ففقه أبي حنيفة على منزلة الرجل ليس إلا بداية الإدراك بأن القانون أو‬‫الوازع الأجنبي بلغة ابن خلدون لم يعد معتمدا على الوازع الذاتي بعد نهاية عصر‬‫التابعين الأول وأن الحاجة إلى صوغ قواعد نظام فقهي يعتمد على المرجعية الأولى خاصة‬ ‫واجتهاد الرأي أي \"ولا آلو\"‪.‬‬‫وهو ما يعني أن المصدر الثاني (الحديث) والثالث أي اخلاق التابعين وعاداتهم‬‫(المعروف والمنكر كما تعينا في عصر الرسول)‪ .‬وهذا ما أضافه مالك الذي يمكن القول إن‬‫مصادر الفقه كلها قد اجتمعت لديه ويمكن اعتباره بلغ تمام المصادر لو لم يكن علم الحديث‬ ‫منقوصا‪.‬‬‫وبين أن علم الحديث لا يمكن أن يكتمل لأنه في الحقيقة الوجه الثاني من الرسالة‬‫المنزلة‪ :‬فأصحه هو تعليمها النبوي وبقية درجات الصحة دالة على ما بقي منه في أذهان‬‫الأمة من آثاره المحددة للمعروف والمنكر كما عرف من تربية الجماعة وأخلاقها بوصفها‬ ‫الجيل الذي عاصر الرسول (الصحابة) والتابعين‪.‬‬‫أو لأقل بصورة واضحة‪ :‬أن الحديث ليس مجرد مدونة من الأقوال بل هو مجموعة‬‫الأحكام التي كان الصحابة والتابعون يعتمدونه من قواعد ومبادئ يربون بها أبناءهم‬‫وبناتهم ويعملون بها في حياتهم باعتباره فقه الرسول نفسه الذي نزل القرآن في التاريخ‬ ‫الفعلي محددا للمعروف والمنكر أي أخلاق الجماعة‪.‬‬‫والوعي بهذا التعريف كان شبه تام في فقه مالك لكن الوعي لا يكون تاما ما لم يصبح‬‫موضوعه مطلوبا لذاته بصورتين‪ :‬الأولى تأسيسه كعلم والثانية تنزيله في نظرية تامة‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪15‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫للفقه‪ .‬وهذا هو دور المرحلة الخامسة والأخيرة من عصر الفقه الأول وتتضمن المذهبين‬ ‫الثانيين‪ :‬ابن حنبل والشافعي‪.‬‬‫والوعي بهذا التعريف كان شبه تام في فقه مالك لكن الوعي لا يكون تاما ما لم يصبح‬‫موضوعه مطلوبا لذاته بصورتين‪ :‬الأولى تأسيسه كعلم والثانية تنزيله في نظرية تامة‬‫للفقه‪ .‬وهذا هو دور المرحلة الخامسة والأخيرة من عصر الفقه الأول وتتضمن المذهبين‬ ‫الثانيين‪ :‬ابن حنبل والشافعي‪.‬‬‫فابن حنبل جعل الحديث مطلوبا لذاته وركنا ركينا من الفقه والشافعي وجد كل المقومات‬‫جاهزة فكان دوره وضع النظرية أو التأصيل النظري الأول للفقه بكل مقوماته‪ .‬ويمكن‬‫القول إن كل ما أتى بعده إلى أن صيغت نظرية المقاصد شروحا للرسالة وتجويدا للمقومات‬ ‫واساليب الفقه وليس تنظيرا يعتد به‪.‬‬‫وإذن فالعصر الثاني لم يتجاوز الفقه العصر الأول من بناء نظرية الفقه رغم أنه هو‬‫بدوره مر بخمس مراحل بدأت ترى التأسيس الثاني الذي أنسبه إلى ابن خلدون والذي‬‫حرر علوم الملة كلها من الخطأين اللذين حرفاها‪ :‬قلب فصلت ‪ 53‬والجرأة على آل عمران‬ ‫‪ 7‬فيها جميعا بما في ذلك الفقه‪.‬‬‫وغاية هذين الخطأين نظرية المقاصد رغم أن الكثير يعتبر ابن خلدون قائلا بها لأنه‬‫يبرز وجه شبه بين عمله وبينها ويفسر بها علل صعود الحضارات وسقوطها خاصة‪ .‬لكن‬‫ذلك كما سنبين من جنس استعماله مصطلح أرسطو بدلالات لا علاقة لها بعلم أرسطو‪ .‬إنه‬ ‫استعمال للغة عصره بدلالات جديدة‪.‬‬‫ونهاية العصر الثاني من الفقه وأصوله كانت غاية نظرية المقاصد أي الشاطبي وبداية‬‫العصر الثالث هي نظرية ابن خلدون التي جمعت بين الوزعين اللذين يجمع بينهما الفقه‬‫ومقومه الأول الوزع الذاتي ومنه تستمد شرعيته ومقومه الثاني الوزع الأجنبي أو الأحكام‬ ‫السلطانية التي تمثل شوكته‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪16‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫لذلك كان الفقه مشروطا برؤية للحكم والتربية تختلف تماما عما كان حاصلا في الجماعة‬‫منذ أن حصل قلب العلاقة بين هذين العاملين فأصبحت الشوكة مقدمة على الشرعية بداية‬‫من الفتنة الكبرى والحروب الأهلية التي تلتها فعطل الدستور وأصبحت الامة في حالة‬ ‫طوارئ منذئذ إلى الآن‪.‬‬‫فالشورى ‪ 38‬تعتبر الأمر أمر الذين استجابوا لربهم (طبيعة النظام) وتعتبر إدارته‬‫بشوراهم (أسلوب الحكم) فيكون فهم التشريع المنزل أو وضعه عامة أو فيما ليس فيه‬‫تنزيل فعلا يرد إليهم لعلاج ما يحصل بينهم من حاجة إلى تحكيم وضربت مثال الانفاق من‬ ‫الرزق الذي هو علة النزاع الأول في اي جماعة‪.‬‬‫والفرق بين القانون والفقه هو عامل الوزع الذاتي الذي هو شرط مقوم في الثاني وغير‬‫مقوم في الأول‪ .‬لذلك كان القانون يردع ويجازي سلبا فحسب وكان الفقه يردع ويجازي‬‫إيجابا بمعنى أن فيه بعد الحسنات وليس السيئات فحسب‪ .‬وطبعا عدم فهم هذا الوجه جعل‬ ‫الجزاء الموجب أخرويا وليس دنيويا أيضا‪.‬‬‫والغريب أن القانون بدأ يحقق الجزاء للحسنات في الدنيا بعنوان تشجيع المبادرات‬‫الخيرة التي يقوم بها المواطنون في الإنتاجين المادي (الاقتصاد) والرمزي (العلوم)‬‫المشروطين في تحقيق شروط العمران والاجتماع وعلة تأخير الفقه في هذا الوجه تأصيل‬ ‫الفقه حصر في شكلياته المنطقية‪.‬‬‫وتلك هي علة عدم تجاوز العصر الثاني العصر الأول الذي كان ضروريا كبداية وكان‬‫ينبغي تجاوز البداية إلى ما توصل إليه ابن خلدون من اعادة ترتيب ما تقتضيه فصلت ‪53‬‬‫والتركيز على العمل بآل عمران ‪ 7‬بمعنى النهي عن دعوى علم الغيب الذي يترتب على‬ ‫عطف فعل الراسخين على ما هو محصور في علم الله‪.‬‬‫وتلك هي علة اعتراضي الأول على المقاصد‪ :‬فمقاصد الشريعة يعني مقاصد الله‪.‬‬‫ومقاصده من الغيب وهو قد نهى عن تأويل المتشابه (آل عمران ‪ )7‬وبين الطريق إلى‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪17‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫معرفة حقيقة القرآن (فصلت ‪ )53‬فاعتبر العلم الإنساني بما في القرآن من حقائق لا يرى‬ ‫في القرآن بل في آيات الله في الآفاق والأنفس‪.‬‬‫وذلك ما فعل ابن خلدون‪ :‬درس آيات الله في الآفاق والأنفس ليحدد علم العمران‬‫البشري والاجتماع الإنساني فيفهم شروط انتظامهما وضبطهما وبين أنها مطابقة لما حدد‬‫القرآن مبادئه التي تعود إلى المحكم فيه فتغني عن الخوض في المتشابه الذي هو دليل‬ ‫مرض القلوب وابتغاء الفتنة‪.‬‬ ‫ما المراحل التي تحدد في العصر الثاني من الفقه وأصوله؟‬‫خمس مراحل متعلقة بالعلوم الأدوات التي يحتاجها الأصولي ويمكن القول إن الإجماع‬ ‫حاصل على أن المرحلة الأولى استوفت البحث في الغايات‪ .‬وهذه العلوم الأدوات هي‪:‬‬ ‫‪ .1‬علم الحديث‬ ‫‪ .2‬وعلم اللغة‬ ‫‪ .3‬وعلم المنطق‬ ‫‪ .4‬علم التفسير‬ ‫‪ .5‬والغاية المقاصد‪.‬‬‫وكل هذه المقومات حاضرة في كل المراحل لكن بروز دورها ليست متساوقا بل هو متوال‬‫في الزمان‪ :‬فالحديث أولا واللغة ثانيا والمنطق ثالثا والتفسير رابعا وغاية المرحلة كانت‬‫صوغ الشاطبي لنظرية المقاصد نسقيا رغم أنها ظهرت مع بروز دور التبني الضمني لنظرية‬ ‫أرسطو (مع الجويني والغزالي)‪.‬‬‫ويمكن القول‪-‬وهذا من المفارقات‪-‬أن تبني نظرية أرسطو وأفلاطون في القانون‪-‬سابقة‬‫لأنها هي أساس الموقف الظاهري لابن حزم‪ :‬فهو يرفض كل محاولات القياس على ظاهر‬‫النص القرآني وكل ما عدا المنصوص عنه ينتسب إلى تشريع يمكن اعتباره وضعيا لأنه لم‬ ‫يكن غافلا عن محدودية ظاهر النصوص في تنظيم الحياة‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪18‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫فما يخرج عن ظاهر النصوص غير محدود في حين أن ما يشمله قليل جدا‪ .‬فيكون التشريع‬‫لما لا تشمله النصوص مجال التشريع الوضعي بلغتنا الحديثة ولا يمكن قيسه على مجال‬‫التشريع المنزل وهو الوحيد الثابت والمقدس وغير القابل للقيس عليه إلا إذا توهم الفقيه‬ ‫ما نهت عنه آل عمران ‪.7‬‬‫وهذا التنظيم الثاني للوزع الخارجي بالقانون ليس وضعيا بالمعنى الحديث أعني أنه ليس‬‫مشروطا بنفي التشريع المنزل بل هو مطلوبه وشرطه عدم القول بمقاصد الشريعة التي‬‫إن قلنا بها فينبغي القول بأنها من الغيب الذي لا يعمله إلا الله ككل التكاليف‪ .‬فلسنا نعلم‬ ‫من قصد الله إلا أنه خلقنا لعبادته‪.‬‬‫وعبادته ‪-‬الجنس والإنس‪-‬هي حقيقتنا التي يرينها في الآفاق والأنفس‪ :‬أي استعمارنا في‬‫الأرض امتحانا لأهلية الاستخلاف التي وضع شروطها في فطره لنا بأن جعلنا أحرارا مكلفين‬‫بتعمير الأرض بقيم محددة بوضوح في القرآن ومشروطة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‬ ‫حدا لحقيقة الإنسان المؤمن‪.‬‬‫وقد حدد القرآن ذلك إنشاء (آل عمران ‪ )104‬وخبرا (آل عمران‪ )110‬وجعل الحد‬‫الأول شرطا والثاني جواب شرط‪ :‬إذا أمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر كنا خير أمة أخرجت‬‫للناس‪ .‬وهذا هو موضوع الفقه وتأصيله القرآني بمعنى أن موضوع الفقه هو عين التربية‬ ‫التي تحقق الغاية من الخلق وتعرفها‪ :‬العبادة‪.‬‬‫وهي تعرفها بكونها استعمار الإنسان في الأرض بقيم الاستخلاف‪ .‬وهذا التعريف لا يجعل‬‫الفقه متحددا بالمقاصد التي لا يعلمها إلا الله بل بحقيقة الإنسان فردا وجماعة من حيث‬‫هو عابد لله بمقومات العبادة أو الإيمان كما حددتها البقرة ‪.177‬وفيها حقيقة علم الفقه‬ ‫ومنطلق تأصيله الوجودي‪.‬‬‫أما حصر التأصيل في العلوم المساعدة التي تمكن من استخراج القوانين من النصوص فهي‬‫مهمة ثانوية وتقنية تتقدم بتقدم العلوم المساعدة ولا تعتبر من المقومات الجوهرية للفقه‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪19‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫وتأصيله‪ .‬وهذا هو جوهر الخلاف بين الشيخ البوطي رحمه الله وبيني‪ .‬وهو كذلك علة‬ ‫رفضي لنظرية المقاصد‪.‬‬‫العصر الثاني من الفقه وأصوله يتعلق بعلوم الآلة وليس بجوهر الفقه وتأصيله‪ .‬فعلم‬‫الحديث وعلم اللغة وعلم المنطق وعلم التفسير ونظرية المقاصد كلها آلية وليست جوهرية‬‫للفقه وأصوله‪ .‬ومعنى ذلك أن هذه الأعمال مهمة دون شك لكنها من شكليات الفقه وأصوله‬ ‫وليس من جوهره‪.‬‬‫وجوهر الفقه وأصوله لا يمكن أن يعلما من دون العودة إلى ما أمرت به فصلت ‪ 53‬ونهت‬‫عنه آل عمران ‪ 7‬وهو ما يمكن نسبته إلى ابن خلدون في العمل (مجال الكلام في الفقه‬‫وأصوله)‪ .‬وما كان لثورة ابن خلدون في نظرية العمل أن تتحقق لو لم يسبقها ثورة في‬ ‫النظر أنسبها إلى ابن تيمية‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪20‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫أبدأ الفصل الرابع من الشكوك بشرح كلمة شكوك‪ .‬هي مصطلح استعمله الفلاسفة‬‫والعلوم النابعة منها مثل الشكوك على بطليموس للتعبير عن مفهوم يوناني شهير هو‬‫\"ابوريا\" ويعني الطريق المسدودة‪ .‬فـ\"أ\" علامة النفي \"وبرويا\" النفاذ أو الممر‪ .‬والمعنى‬ ‫المؤلف منهما يعني طريق العلاج النظري المسدودة‪.‬‬‫في مقالة الدال من ما بعد الطبيعة عالج ارسطو ‪ 14‬شكا أو ابوريا ليؤسس \"علم\"‬‫الميتافيزيقا‪ .‬وما أحاوله هنا يماثل ما حاوله أرسطو لتأسيس ما بعد الطبيعة‪ .‬مسعاي هو‬‫تأسيس ما بعد الفقه معتبرا ما فعله الشافعي تأسيسا يوحد بين المصادر ويبين كيفية‬ ‫استعمالها أصلا لهذا العلم‪.‬‬‫ولما كان العصر الثاني لم يتجاوز هذا الفهم واكتفى بتجويده بتجويد علوم الآلة أي‬‫الحديث واللغة والمنطق والتفسير وتوقف عند المقاصد طريقا مسدودة كان من الواجب‬‫جعل الطريق سالكة بالعودة إلى ما لم يتحقق في محاولة الشافعي التي اقتصرت على توحيد‬ ‫المصادر كمعين للأحكام والحاجة إلى هذه الآلات‪.‬‬‫ولكن ذلك كان بقلب فصلت ‪ 53‬وإن بإضمار بالجرأة على آل عمران ‪ 7‬جرأة لم تتبين‬‫إلا عندما أصبح مفهوم المقاصد سائدا‪ :‬مقاصد الشرع ينطبق عليها آل عمران ‪ .7‬شرطها‬‫أن يعتبر الراسخون في العلم قادرين على تأويل المتشابه واعتبار الـ\"و\" في الآية عطفية‬ ‫وليست استئنافية‪.‬‬‫حل الشكوك أو الطرق المسدودة في الفقه وتأصيله جزء مقوم من نظرية الدولة في‬‫الإسلام‪ :‬من دون بيان مفهوم الشرعية الفقهية لا يمكن تأصيل الفقه‪ .‬وبلغة وضعية‪ :‬لا‬‫يمكن تأسيس القانون من دون تحديد مفهوم الشرعية التي يستمد منها قوته الإلزامية‪.‬‬ ‫وهو ما يقرب من مفهوم السياسة الشرعية التيمية‪.‬‬‫وكل مشكل الفقه أن الفقهاء تصوروا ان الفقه ممكن من دون السياسة الشرعية‪ .‬ولأنه‬‫من دونها صار زجريا وليس تربية بالأساس في إطار السياسة الشرعية‪ .‬ومعنى ذلك أن‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪21‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫الفقه كله وتأصيله هو فقه حالة الطوارئ التي تلت تعطيل الدستور بلغة حديثة تحول إلى‬ ‫وازع أجني بإطلاق وفقد بعد الوزع الذاتي‪.‬‬‫أزمة الفقه انعكست إلى تأصيله الذي اقتصر على شكليات التأصيل أو بصورة أدق على‬‫علوم الآلة فيه بدلا من جوهره كما تحدد في العصر الأول دون أن يطلب حقيقته لأنه‬‫اقتصر على كون الأصل هو معين الأحكام وليس ما يصبحه من طبيعة الشرعية التي تعود‬ ‫إلى وظيفته في نظرية السياسة الشرعية دون سواها‪.‬‬‫ومعنى ذلك أن الفقه وتأصيله يعودان إلى وظيفة القضاء بمعنييه (حكما قضائيا‬‫وافتائيا) في نظام سياسي خاضع لشروط الشرعية في نظرية القرآن التي تعني بعدي‬‫السياسة‪ :‬التربية والحكم على أساس الحريتين اللتين تلازم أولاهما التربية بل هي جوهرها‬ ‫أي حرية روحية تلغي كل وساطة بين المؤمن وربه‪.‬‬‫وهي شارطة لمفهوم الوزع الذاتي أو حرية الضمير وعلى اساسها تنبني الحرية السياسية‬‫أو نفي الوصاية على إرادة المؤمن عدى الحرية الأولى أو العبادة التي لا وساطة فيها بين‬‫المؤمن وربه ليكون من المستجيبين لربهم فيكون الأمر أمرهم فيسوسوه بالشورى التي‬ ‫معيارها التواصيين بالحق والصبر‪.‬‬‫فيكون دور القانون الأول الزجر بدل التربية التي تجعل الزجر اقل العوامل تحديدا‬‫للسلوك فلا يكون الوزع الأجنبي (القانون الزاجر) مقدما على الوزع الذاتي (سلطة‬‫الضمير الخلقي)‪ .‬أما السياسة المبنية على الوساطة الملغية للحرية الروحية والوصاية‬ ‫الملغية للحرية السياسية فالفقه‪.‬‬‫وإذن الانتقال من الدستور إلى حالة الطوارئ بعد الفتنة جعلت الفقه قانون حالة‬‫الطوارئ ولم يبق من الفقه إلا اسمه بل إن العلماء صاروا وسطاء والحكام صاروا أوصياء‬‫ولم يعد الإنسان المسلم مؤمنا يعمل صالحا والجماعة جماعة متواصية بالحق ومتواصية‬ ‫بالصبر صار الحكم طبيعيا وليس شرعيا‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪22‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫وهو معنى الانتقال من الخلافة النبوية إلى الملك العضوض‪ .‬فالخلافة النبوية هي التي‬‫تعتبر كل المؤمنين خلفاء فرض عين والخليفة خليفة فرض كفاية بمعنى أنه مأمر من‬‫الجماعة بحضورها الدائم في دور الخلافة العامة التي تجعله خادما للجماعة نيابة عنهم في‬ ‫إدارة الأمر الذي هو أمرهم وليس أمره‪.‬‬‫وهذا هو معنى السياسة الشرعية‪ :‬المربي ليس وسيطا والحاكم ليس وصيا بل كلاهما ينوب‬‫الجماعة في جعل التنشئة الخلقية والسياسية تنشئة تحقق الحرية الروحية (المؤمن في علاقة‬‫مباشرة بربه في كل حياته ولا تقبل أي وساطة) والسياسية (المؤمن هو صاحب الأمر فرديا‬ ‫وجماعيا يدير الشأن العام بالشورى)‪.‬‬‫وهذا يقلب العلاقة بين الوزع الأجنبي (الآتي من خارج الذات) والوزع الذاتي (الصادر‬‫عن الضمير الخلقي والديني) فتكون الجماعة محققة لمضمون سورة العصر‪ :‬فالخسر هو‬‫الجاهلية‪ .‬والاستثناء منها هو مضمونها المخمس‪ :‬الوعي بالخسر ثم فرديا الإيمان والعمل‬ ‫الصالح وجماعيا التواصيان بالحق وبالصبر‪.‬‬‫وذلك هو جوهر السياسة الشرعية المشروطة غاية للفقه وأصلا لتأسيسه وتحديد وظائفه‬‫وقيمه‪ .‬وهذه السياسة الشرعية لم تطبق إلى في المرحلتين الأوليين‪ :‬سياسة النبي وسياسة‬‫الراشدين الثلاث الأول لأن الرابع لم يحكم بسبب الحروب الأهلية التي بدأت مباشرة بعد‬ ‫الفتنة‪.‬‬‫وإذن فما حصل في التأصيل الأول كان متعلقا بالمصادر وما حدث في العصر الثاني كان‬‫متعلقا بالآلات‪ .‬وإذن فكلاهما لم يصل إلى علل مصدرية المصادر وإلى علل آلية الآلات في‬‫الفقه الإسلامي‪ .‬وهو ما يعني أن الفقه وأصوله لم يدرك حقيقته بمقتضى فصلت ‪ 53‬وآل‬ ‫عمران ‪ .7‬فغابت حقيقة ما في القرآن منه‪.‬‬‫فما في القرآن من الفقه هو ما طلب القرآن تبين حقيقته في الآيات التي يرينها الله في‬‫الآفاق والأنفس وليس في شرح نص القرآن ولا في تعليم الرسول بل هو ما في هذه من قوانين‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪23‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫نكتشف مطابقتها للسنن التي طبقها الرسول باعتباره طلبها من الآفاق والأنفس كما تبين‬ ‫سياسته ببعديها‪ :‬تربية وحكما‪.‬‬‫وقد أخذت سيد العلوم لأبين أنه قد صيغ بصورة منافية لما تقتضيه نظرية العلم ونظرية‬‫القيمة القرآنيتين بسبب قبل دلالة الآيتين فصلت ‪ 53‬وآل عمران ‪ .7‬وبدلا من جعل ما في‬‫القرآن مثالا أعلى يقاس عليه ما نكتشفه في الطبيعة والتاريخ من آيات الله لنعلم به حقيقة‬ ‫القرآن عكسوا دلالة الآيتين‪.‬‬‫تركوا ما وجه إليه الله أمرا لفهم عالم الشهادة (فصلت ‪ )53‬وانشغلوا بما دعا لتجنبه‬‫نهيا أعني وهم فهم عالم الغيب (آل عمران ‪ )7‬فانعكست وظيفة الفقه وقيمه في تأصيله‬‫وأصبح بالجوهر قانون حالة الطوارئ وليس سياسة قرآنية متعينة في وظائف دول قائمة على‬ ‫السياسة الشرعية ببعديها‪ :‬التربية والحكم‪.‬‬‫وبهذا المعنى فإن عصر التأصيل المناسب لنظرية الدولة القرآنية لم يتحقق بعد وهو يبدأ‬‫عندما نفهم معنى القول إن الأمة بسبب الفتنة الكبرى والحرب الأهلية عطلت الدستور‬‫فوضعت فقها للطوارئ ولم تكتشف إلا طريق فقه شرعي يطبق ما أمر به القرآن (فصلت‬ ‫‪ )53‬وما نهى عنه (آل عمران ‪.)7‬‬‫وهذا الفقه الذي هو قرآني شكلا فاقد لشرعية المثال القرآني الأعلى لأنه اعتمد نظرية‬‫معاكسة لما أمر به القرآن لمعرفة حقيقته ولما نهى عنه حتى لا يخلط الإنسان بين حقيقته‬‫وأمراض القلب وابتغاء الفتنة‪ :‬فالغيب لا يعلمه إلا الله ومن ثم فلا يمكن أن يبنى الفقه‬ ‫على مقاصد لا يعلمها إلا هو‪.‬‬‫الغاية من وجودنا حددها القرآن الكريم‪ .‬ولها وجهان‪ :‬بالإضافة الى الله هي العبادة‬‫(خلق الجن والإنس لعبادة الله) وبالإضافة إلى الإنسان هي امتحان أهليته للاستخلاف‬‫خلال تعمير الأرض‪ .‬وهما وجها الأمانة التي ظلم الإنسان نفسه بحملها وكلف بها مع تجهيز‬ ‫روحي (غاية) وعقلي (أداة)‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪24‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫والسياسة ببعديها تربية وحكما هي الفقه وأصوله أصغره وأكبره ولا يمكن الفصل بينهما‬‫إلا في حالة واحدة هي السياسة التي تعطل الدستور وتعمل بحالة الطوارئ‪ :‬والأمة‬‫الإسلامية عاشت على حالة الطواري منذ الفتنة الكبرى إلى اليوم‪ .‬وكل محاولات تأسيس‬ ‫الفقه التي حصلت تنتسب إلى حالة الطوارئ‪.‬‬‫ولا يمكن التشكيك فيها من حيث الدور الذي أدته فهي كانت مناسبة لظرفية الطوارئ‬‫ولم تكن مناسبة لشروط الخروج منها والعودة إلى الدستور الذي بقي مجهولا بسبب قلب‬‫فصلت ‪ 53‬وآل عمران ‪ :7‬إذا أعدنا دلالة الآيتين كما أمر القرآن ستصبح سياسته وفقهه‬ ‫ممكنين فتستأنف الامة الشاهدة دورها الكوني‪.‬‬‫وإذن فالأمر لا يتعلق ببداية من عدم بل هي بداية ثانية ما كانت لتكون ممكنة من دون‬‫البداية الأولى التي كان تاريخنا بعد الفتنة الكبرى تحريفا لها بتعطيل الدستور وفرض‬‫حالة الطوارئ التي كانت ضرورية للخروج من الحروب الأهلية فلم يحقق إلا شروط‬ ‫الاستعمار واقتصرت شروط الاستخلاف على القشور‪.‬‬‫وشروط الاستخلاف تنقسم إلى نوعين‪ :‬شروط الحرية الروحية وشروط الحرية‬‫السياسية‪ .‬والأولى هي شروط التحرر من الوساطة الروحية والثانية هي شروط التحرر‬‫من الوصاية السياسية‪ .‬وليس بالصدفة أن كانت الوساطة والوصاية قد بلغت مبلغها وأن‬ ‫الأمة بدأت تعي علاقة انحطاطها بهما‪.‬‬‫والفتنة الصغرى الحالية تناظر الفتنة الكبرى السابقة‪ :‬فهي سياسية مدارها وظيفتي‬‫الدولة تربية وحكما في علاقة بالوساطة والوصاية‪ .‬ومن المفارقات أن ما يبدو وكأنه داعيا‬‫لعكس ما عكس في الفتنة الأولى هو من نفس الطبيعة‪ :‬فالعلماني لا يختلف عن الباطني إلا‬ ‫بالأقوال‪ .‬لكن الأفعال واحدة‪.‬‬‫الباطني يجعل الدين مجرد أداة إيديولوجية للحكم والعلماني باطني صريح لا يحتاج‬‫إلى الدين إيديولوجية للحكم بل يستبدله بإيديولوجيا طبعانية هي عين ما يخفيه الباطني‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪25‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫بدين جوهرة تقية ولا تقوى‪ .‬وهو يوهم أن السياسة مستقلة تماما عما يتعالى عليها وإن‬ ‫كانت بحاجه إلى توظيف غاياته إيديولوجيا‪.‬‬‫فالماركسي يوظف كل غايات الدين ويتصورها ضده لأنه يخلص بين الدين وتوظيفاته‬‫الباطنية‪ :‬فهو يدعي الكلام باسم الحريتين اللتين هما جوهر الإنسان كما يحدده القرآن‬‫بجعلهما إيديولوجيا وليس حقيقة بدليل أن تطبيق نظرياته حقق العكس تماما‪ :‬فقد‬ ‫الإنسان تماما كلتى الحريتين‪.‬‬‫فالحزب وساطة كنسية والدولة وصاية سياسية وكلاهما دنيوي‪ .‬حصر الإنسان في الدنيوي‬‫يجعله لا يساس إلا بقوانين الطبائع أي بالقوتين المادية والرمزية أي اقتصاد الربا وثقافة‬‫الخداع المؤسسين لدين العجل عبادة لغير الله إذ هما مادة العجل وخواره‪ :‬رمز الفعل‬ ‫(العملة) وفعل الرمز(الكلمة)‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪26‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫ليست المماثلة بين الفتنتين الكبرى والصغرى حول السياسة ودور الدين أو بين التشيع‬‫والتسنن في الأولى وبين الاسلامية والعلمانية محض تناظر شكلي بين دين التقية‬‫(الباطنية) ودين العجل (العلمانية) بل علاقة بين تعينين لنفس الداء‪ :‬ما الحائل دون‬ ‫الإنسان وحقيقته أي الحريتين الروحية والسياسية‪.‬‬‫ذلك هو الداء الذي رمز إليه القرآن بدين العجل الذهبي ذي الخوار‪ .‬فالذهب هنا رمز‬‫لفاعلية الاقتصاد والخوار رمز لفاعلية الثقافة الحائلة دون حرية الإنسان الروحية‬‫والسياسية لأن أصحابهما يستعبدان البشر فتصبح مادة العجل (الاقتصاد ورمزه العملة)‬ ‫وخواره (الثقافة ورمزها الكلمة) أداتين للاستعباد‪.‬‬‫وهذا يعني أن القرآن لم يحكم المسلمين إلا أياما معدودات هي مدة حكم الرسول‬‫والراشدين الثلاث الأول‪ :‬وفيهما تحرر الإنسان ليس عامة بل العينة التي حصلت في‬‫مدتهما وعند من كان ذا صلة مباشرة بتربيتهما وحكمهما أي ببعدي سياستهما لدولة الإسلام‪.‬‬ ‫وما عدى ذلك حالة طوارئ دائمة إلى اليوم‪.‬‬ ‫وهي حالة أعادت العائقين دون الحريتين‪:‬‬ ‫‪ .1‬عائق الحرية الروحية حيث صارت التربية وساطة كنسية‪.‬‬‫‪ .2‬وعائق الحرية السياسية حيث صار الحكم وصاية استبدادية غاشمة أو ملكية‬‫عضوضة‪ .‬وهذه الصيرورة المضاعفة هي ما أطلق عليه اسم حالة الطوارئ بالقياس إلى‬ ‫حكم الرسول والراشدين الثلاثة الأول‪.‬‬‫ويمكن اعتبار حالة الطوارئ فقهيا وقانونيا حالة الضرورات التي تبيح المحظورات في‬‫نوعي التشريع الشرعي والوضعي‪ .‬ومعنى ذلك أن كل حالة يتقدم فيها دور الشوكة على‬‫دور الشرعية سواء كان التشريع منزلا أو وضعيا هي حالة طوارئ يقل فيها دور القانون‬ ‫السوي يزداد دور اللاسوي منه‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪27‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫وطبيعي أن يكون الحد من القانون السوي منزلا كان أو وضعيا نسبيا إلى دور الشوكة‬‫والشرعية‪ :‬فكلما كانت الشوكة أكثر حضورا كان الحد أكبر بسبب دور الوساطة الكنسية‬‫في التربية ودور الوصاية الاستبدادية في الحكم‪ .‬ونظام التربية ونظام الحكم هما الإطار‬ ‫الذي تتعين فيه هذه الخاصية‪.‬‬‫وغاية هذا التغير أو نهايته هي عندما يصبحان محققين لما سماه ابن خلدون فساد معاني‬‫الإنسانية أي زوال ما يعبر عن الحريتين في كيانه التاريخي فرديا وجماعيا‪ .‬فتنقلب الأمور‬‫إلى حد يصبح فيه دور القانون تثبيت هذا الفساد وليس التحرر منه لأن وظائف القانون‬ ‫تصبح أداة الدولة للقضاء على الحريتين‪.‬‬‫وهذا يصح على نوعي القانون ذي المرجعية الوضعية وذي المرجعية المنزلة عندما تصبح‬‫المرجعية مجرد غطاء إيديولوجي لما يناقض المرجعية نفسها‪ :‬فالوحي والعقل كلاهما قابل‬‫للتوظيف العجلي أي إنه يغطي على حقيقة الأفعال بخدعة الأقوال‪ .‬ومربط الفرس هو‬ ‫التوظيف أو نقيض حقيقة الوظيفة‪.‬‬‫ذلك أن الوحي (على الاقل ما لدينا منه في القرآن) والعقل (على الاقل ما نعلمه عن‬‫طريقه) كلاهما يعتبر الشرائع بخلاف الطبائع مصدرها مفهوم الحرية الروحية والحرية‬‫السياسية ومن ثم فهما متفقان على أن صلاح دور السياسة ببعديها التربية والحكم هو تنمية‬ ‫هذين الحريتين طلاحها في إعاقتهما‪.‬‬‫والحريتان ليستا من مقاصد الشريعة التي لا يعلمها إلا الله بل هما حقيقة الإنسان‬‫أوالانثروبولوجيا القرآنية أي نظرية الإنسان في القرآن بوصفه خليفة ذا علاقة مباشرة‬‫مع الله وغير مباشرة معه مجهز بالقدرة على رؤية آيات الله في الآفاق والأنفس شرطا في‬ ‫علم قوانينهما والعمل بها لتحقيق كيانه‪.‬‬‫فهو مجهز بهذه القدرة التي تكتشف قوانين الطبيعة (الافاق) وسنن التاريخ (الأنفس)‬‫والأولى من طبيعة رياضية بنص القرآن والثانية من طبيعة سياسية بنص القرآن‪ .‬فكل‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪28‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫شيء خلق بمقدار (الطبيعي والتاريخ كذلك) لكن المخلوق الطبيعي ما يرى فيه من آيات‬ ‫هو قوانينه الرياضي والتاريخي قوانينه السياسية‪.‬‬‫وكلا النوعين من القوانين لا يوجد في القرآن بل في آيات الله التي يرينها في الطبيعة‬‫وفي التاريخ‪ .‬وعندما نكتشفها بما جهزنا به من قدرة على ذلك ندرك حينها حقيقة القرآن‬‫ما هي‪ .‬هذا ما تقوله فصلت ‪ .53‬وعندما نبحث عن حقيقة القرآن في التأويل اللغوي لنصه‬ ‫متجاوزين آل عمران ‪ 7‬نصنع علوما زائفة‪.‬‬‫ويستحيل أن نكتشف قوانين الطبيعة وقوانين التاريخ مباشرة بالاعتماد على التجربة‬‫الحسية بل لا بد من مقومي العلم‪ :‬المقدرات الذهنية علما شارطا لصوغ التجارب العلمية‬ ‫المستمدة مباشرة من الطبيعة أو من التاريخ‪ .‬فكل علم مؤلف من بعدين‪:‬‬ ‫‪ .1‬مقدرات ذهنية رياضية‬ ‫‪ .2‬أو سياسية حول موضوعات مجردة‬‫وهذه المقدرات المجردة تتألف من خانات يمكن أن تملأ بمضمون وجودي يأتي من التجربة‬‫فتكون المقدرات القادرة على نظمها بصورة تعبر عنها وكأنها القالب الشكلي الذي يحول‬‫التجربة إلى علم يمكن بالاعتماد عليه تطوير التجربة التي تبقى الحكم النهائي لفرضيات‬ ‫المقدرات الذهنية‪.‬‬‫وتلك هي الطريق الوحيدة لإبداع علوم الطبائع وعلوم الشرائع‪ .‬والتاريخ مؤلف من‬‫الجنسين‪ .‬والفقه وأصوله مقوم جوهري لعلوم الشرائع بوصفها علوم المواقف القيمية من‬‫الطبائع وأهمها ما في الإنسان من مقومات فطرية (دينيا) وطبيعية (عقليا)‪ .‬وهو ما يعني‬ ‫أن القرآن خال من القوانين العينية بنوعيها‪.‬‬‫لكنه يشير إلى محلها وإلى كيفية الوصول إليها ويقدم بعض الأمثلة النموذجية من المحل‬‫ومن السعي‪ .‬وذلك هو أساس استدلاله في المسائل التي يمثل بها لنظرية المعرفة ونظرية‬‫القيمة اللتين تحددان علاقة الإنسان بذاته وبمثله وبشروط قيامه التي هي علاقته غير‬ ‫المباشرة مع الله فضلا عن المباشر منها‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪29‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وتلك هي وظيفة المرجعية فهي لا تحدد الجزئيات بل‪:‬‬ ‫‪ .1‬المبادئ العامة المتعلقة بطبيعة المطلوب‬ ‫‪ .2‬ومحل وجوده‬ ‫‪ .3‬وطريق الوصول إليه أو منهج اكتشافه‬‫‪ .4‬قيمه الأساسية ووظائفه التي تتجلى أدواره في المبادئ والمحل والطريق والقيم‪.‬‬ ‫وذلك هو دور القرآن الكريم الذي كانت السنة أول فهومه اللامتناهية‪.‬‬‫وما أخشاه هو أن يظن المتعجلون أني آت بما لم يأت به الاولين وكأني أشكك في قيمتها‬‫أو في عظمة رجالاتها مدعيا أني آت لما يأت به الأولون‪ .‬وهذا طبعا مفهوم‪ .‬لكني لم أدع‬‫شيئا وإنما أحاول فهم طبيعة الأزمة والشكوك لا تتعلق بأحد بل هي كشف عن المعضلات‬ ‫التي قللت من فاعلية الفقه واصوله‪.‬‬‫وإذن فموقفي يتعارض تماما مع كاريكاتور التأصيل وكاريكاتور التحديث‪ :‬فالأول يتصور‬‫أن العودة إلى الأصل ممكنة بالعودة إلى قشوره والثاني يتصور أن الحداثة ممكنه بتقليد‬‫قشورها‪ .‬كلاهما في الحقيقة‪ .‬والأول يريد استعادة الماضي الذاتي والثاني استعارة الماضي‬ ‫الغربي‪.‬‬‫والاستعادة استعارة والاستعارة استعادة والفرق بينهما هو في كون استعادة الأول استعارة‬‫من آباء الذات واستعارة الثاني استعادة من آباء الغير‪ .‬فالحداثة ماض غربي‪ .‬والأصالة‬‫ماض إسلامي‪ .‬والجميع اليوم يعاني من إشكالية تحرير السياسة من دين العجل‪ :‬مادته‬ ‫الذهبية وكلمته الخوارية‪.‬‬‫الأزمة التي أتكلم عليها ليس خاصة بالمسلمين وحدهم بل بالغرب كذلك لأن ما نستعيره‬‫منه هو الذي قتل الفقه ومات معه في آن‪ :‬لأن الصراع بين أصحاب الكاريكاتورين أعماهما‬‫عن الواحد في تحريف التشريعين المنزل والوضعي‪ .‬كلاهما مبني على نفي الحريتين‬ ‫بالوساطة الروحية والوصاية السياسية‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪30‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫والدليل أن حال الانتخابات في المجتمعات العلمانية صار من جنس حال البيعة في المجتمعات‬‫الإسلامية‪ :‬كلاهما صار رسما بعد أن كان عينا‪ .‬كلاهما يخفي آليات التربية والحكم الفعلية‬‫برسوم من حقائقهما هي الغطاء الإيديولوجي بتوظيف الدين أو العقل في خدمة السيدين‬ ‫الوحيدين‪ :‬المال والإيديولوجيا‪.‬‬‫كلاهما يحكمه دين العجل الذهبي ذي الخوار‪ :‬كل ما في الأمر أن سلطة اليوم التي تلغي‬‫الحرية الروحية هي الأحزاب ولوبياتها ذات الخوار وسلطة اليوم التي تلغي الحرية‬‫السياسية هي البنوك ومافياتها ذات الدينار‪ .‬ما عدا ذلك واجهة يحميها القانون زجرا‬ ‫وتلهية عن العبودية بالهموم الدنيوية‪.‬‬‫وهذا يعني أن الأمة تعيش الآن لحظة الاستئناف المعتمد على إعادة تأسيس علوم الملة‬‫بمقتضى فصلت ‪ 53‬وآل عمران ‪ 7‬ومن ثم فلا يمكن تأسيس اي علم من علوم الملة على‬‫العلاقة المباشرة بين الله والإنسان لأن وظيفتها هي جعل هذه العلاقة حضورا دائما لله مع‬ ‫الإنسان حتى يكون حرا روحيا وسياسيا‪.‬‬‫أي إن هذه العلاقة المباشرة مع الله هي الوعي الدائم بشروط الاستثناء من الخسر في‬‫سورة العصر وفروع هذا الوعي الأربعة‪ :‬الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق‬‫والتواصي بالصبر في كل أعماله الظاهرة والباطنة في نظره وعمله وتلك هي حقيقة معاني‬ ‫الإنسانية التي تفسد بغياب هذه الحال الوجدانية‪.‬‬‫والإنسان لا يكون إنسانا صالح المعاني الإنسانية وغير فاسدها (بمصطلح ابن خلدون)‬‫إلا بهذا الاستثناء من الخسر‪ .‬وهو به يصبح قادرا على تطبيق التوجه الذي يأمر به‬‫القرآن وينهى عن وهم تجاوزه حتى يصبح قادرا على رية آيات الله في الآفاق وفي النفوس‪.‬‬ ‫ومنها يبدأ العلم والعمل‪.‬‬‫والعلم والعمل هو الذي يجعل العلاقة غير المباشرة بالله تمر بنوعي مخلوقاته الشارطين‬‫لوجود الإنسان ولامتحان أهليته للخلافة خلال بيان استجابته لاستعماره في الارض بقيم‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪31‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫الاستخلاف‪ .‬فيعلم الطبيعة والتاريخ مصدري قيامه العضوي والروحي ليعمل على علم‬ ‫بشروط الاستثناء من الخسر‪.‬‬‫والفقه الذي هو أسمى علوم الملة لأنه أساس شرط تحقيق مهمة الإنسان أعني شرط‬‫انتظام الجماعة في التبادل والتعاوض العادل حماية ورعاية لوجود الفرد والجماعة‬‫والتأهل للاستخلاف لا ينبع من العلاقة المباشرة بين الله والإنسان بل من العلاقة غير‬ ‫المباشرة سلطانا نظريا وعمليا على الطبيعة والتاريخ‪.‬‬‫وتلك هي البداية الجديدة لتأصيل الفقه من منطلق تأصيل نظرية الدولة والسياسية‬‫تربية وحكما في القرآن‪ :‬تأصيل الفقه يمر بتأصيل السياسة والدولة‪ .‬فالفقه هو أداة الجمع‬‫بين الشرعية والشوكة أو هو محاولة جعل الوازع الذاتي هو القاعدة في حياة الجماعة‬ ‫والوازع الأجنبي مجرد مساعدا له‪.‬‬‫والانتقال من عكس هذه العلاقة أو النكوص إليها هو المشكل في كل ما ذكرناه من شكوك‪:‬‬‫في عصر الرسول والراشدين الثلاثة الأول حصل الانتقال من الشوكة اللاشرعية (جاهلية‬‫الحالة الطبيعية) إلى الشرعية ذات الشوكة (وظيفتي الدولة المربية والحاكمة)‪ .‬والفتنة‬ ‫حالة الطواري نكوص الأفعال دون الأقوال‪.‬‬‫والباطنية غطت عن هذا النكوص بتحريف الدين نفسه وأسست السياسية على الوساطة‬‫(كنسية شيعية أو تعليمية في الباطنية) وعلى الوصاية (الإمام المعصوم يحكم بالحق الإلهي‬‫وليس بإرادة الجماعة)‪ .‬وفقهاء السنة حافظوا في الأقوال على الحريتين لكنهم قبلوا‬ ‫بالأفعال النافية لهما‪.‬‬‫واليوم نحن في طور الاستئناف الذي يستعيد الحريتين الروحية (لا وساطة) والسياسية‬‫(لا وصاية) لا بد من فقه يؤمن بأنه لا يتأسس مباشرة في القرآن والسنة بل فيما يترتب‬‫على ما فيهما من علمي الطبيعة والتاريخ بوصفهما محددين لشروط تأسيس الفقه وتأصيله‬ ‫بمقتضى ما يتجلى من آيات الله فيهما‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪32‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫وإذن فالحضور الدائم للعلاقة المباشرة بين المؤمن وربه بوصفها حالة وجدانية تتحدد بها‬‫كل افعالنا هو أصل المرجعيات بوصفه نوع حضور الله في نظرنا وعملنا للطبائع والشرائع‬‫اللتين نستمد منهما مرجعيات فقهنا وأصوله حتى نعلم حقيقة القرآن أو الحضور الدائم لله‬ ‫معنا وفي أفعالنا‪.‬‬‫وهذا الحضور الدائم أو العلاقة المباشرة بين المؤمن وربه هو الحرز الوحيد لكي يكون‬‫الفقه والعمل به محققا لما لا يكون الحكم والقاضي حكما أو قاضيا أمينا وعادلا‪ .‬وفي هذه‬‫الحالة يكون المتنازعان كذلك جزءا لا يتجزأ من التحاكم بينهما لأن القانون الخالي من‬ ‫هذا المقوم سرعان ما يصبح ظالما‪.‬‬‫أخلاق القاضي والمتقاضين مقوم أساسي من الفقه واستقلاله عن سلطة التنفيذ التي‬‫تتحكم في سلطة التشريع‪ :‬فما يحقق استقلال القضاء رغم أنه ليس سلطة سياسية بل سلطة‬‫تقنية ومعرفية‪-‬مشروط بهذين النوعين من الأخلاق‪ .‬ففي أمة فسدت فيها معاني‬ ‫الإنسانية يصبح الجميع يسعى لإفساد القضاة واستغلالهم‪.‬‬‫الحضور اللفظي للشريعة لا يحرز القضاء أو الافتاء فيصبحان أداتين للظلم والتحيل‬‫وهو معنى استعمال الدين غطاء إيديولوجيا‪ .‬وكل تنازل من ممثل الشرعية لممثل الشوكة‬‫خيانة لله ورسوله وهذا هو الحاصل منذ الفتنة الكبرى سواء كان الحكم دينيا أو علمانيا‬ ‫بالشكل‪ :‬غطاء لفساد معاني الإنسانية‪.‬‬‫ومن دون علاج ذلك لا معنى لاستئناف الأمة دورها‪ .‬فالإسلام يمكن أن يكون مستقبل‬‫الإنسانية إذا قمنا بما حاولت وصفه في الشكوك‪ .‬ولا يمكن تحقيقه بالكاريكاتورين‪.‬‬‫فالفتنة الكبرى والفتنة الصغرى لهما نفس المآل‪ .‬الأولى أدت إلى باطنية علنية في التشيع‬ ‫وخفية في التسنن والثانية تسعى لنفس الغاية‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪33‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫في الفصل السادس ندرس الكيفية التي تفسد بها وظائف الحماية التي تنتج عن الاقتصار‬‫على الوزع الأجنبي الذي لا يصحبه الوزع الذاتي سواء كان التشريع شرعيا أو وضعيا‬‫فيكون الفقه أو القانون مجرد غطاء لهذا الفساد الناتج عن الاستبداد وتحول السياسة‬ ‫إلى الخداع النسقي في الجماعة‪.‬‬‫وما أظنني في هذا الفاصل بحاجة إلى الخوف من ألا يفهم ما سأقول فأتهم كالعادة‬‫بالتعسير هذا إذا لم يتجرأ أحد الاميين فيشكك في قدرتي على التبليغ مسقطا غباءه وعيه‬‫علي‪ .‬فما سأقوله لا يتجاوز وصف ما يعيشه كل المسلمين من الهادي الى الاطلسي دون‬ ‫استثناء‪ .‬وضع عام لوظائف الدولة كلها معكوسة‪.‬‬ ‫فوظائف الحماية انعكست تماما‪ :‬فالحماية الداخلية‪:‬‬ ‫‪ .1‬القضاء فاسد فاقد لشرطي شرعيته أي الأمانة والعدل‪.‬‬ ‫‪ .2‬الأمن فاسد لا يحمي المواطن وخاصة المؤمن بل يخيفه ويعذبه‪.‬‬ ‫والحماية الخارجية‪:‬‬ ‫‪ .3‬الدبلوماسية في خدمة حامي نوابه في محميات خاضعة له‪.‬‬ ‫‪ .4‬والدفاع فاسد يحمي الأعداء ويستبد بالأوطان‬ ‫ويبلغ فساد وظائف الحماية الغاية في‪:‬‬‫‪ .5‬المخابرات التي بدلا من أن تكون عينا حارسة للوطن والمواطنين صارت عينا عليهم‬‫للحكام وحماتهم الذين جعلوا أوطاننا محميات لا سيادة لها لأنها تابعة في كل شيء وخاصة‬ ‫في شرطي السيادة أعني القدرة على الحماية والرعاية الذاتيتين‪.‬‬‫ولا أحد من القراء بجاهل بهذا الوضع حتى وإن كان لا يستطيع فهمه لعدم إدراك‬‫علله‪ .‬وهدفي من هذه المحاولة ليس الكلام على شكوك المقاصد بل وكذلك بيان ثمرات‬‫التحريف الذي يظن علما وما هو بالعلم لأنه آل إلى ما نراه من النتائج التي لا يمكن‬ ‫تفسيرها ولو جزئيا إلا بما أصف هنا‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪34‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫وإذا كان ما قلته عن الحماية بينا للعيان ولا يحتاج إلى استدلال ولا إلى برهان فإن وضع‬ ‫الرعاية أسوأ بكثير‪ .‬ففي تكوين الإنسان‪:‬‬‫‪ .1‬التربية النظامية فاسدة لا تكون الإنسان خلقيا ولا معرفيا ومن ثم عجز الأمة‬ ‫على رعاية ذاتها شرطا في قدرتها على الحماية الذاتية‪.‬‬ ‫‪ .2‬وفساد التربية اللانظامية أسوأ‪.‬‬‫وما أسميه التربية اللانظامية هو التربية المرسلة في غير المدرسة أي في كل الجماعات‬‫التي يتألف منها المجتمع من المسجد إلى المقهى إلى أماكن العمل إلى الفضاء العام‪.‬‬‫فمجتمعاتنا الكل يشك في الكل ما يؤدي إلى التكاذب والتخادع والتغاشش وخاصة في‬ ‫التطفيف والتوظيف حتى صار المصلون يتسارقون‪.‬‬‫والعلة هي فساد شروط التموين الذي هو شرط التكوين‪ :‬فالمجتمع الذي لا يستطيع سد‬ ‫حاجات مواطنية‬ ‫‪ .3‬المادية (الاقتصاد)‪.‬‬ ‫‪ .4‬والروحية (الثقافة) ويصبح تابعا فيهما لأنه فاقد‪.‬‬‫‪ .5‬للبحث العلمي الذي يمكن من إنتاج ما يسد الحاجات بتموين ييسر التكوين يصبح‬ ‫مجتمعا عالة على غيره متسولا بدنيا وروحيا‪.‬‬‫وهو ما يعيد الجماعة إلى الجاهلية حتما حيث يكون الكل متربصا بالكل من أجل ضرورات‬‫الرعاية بوظائفها الخمس والحماية بوظائفها الخمس ولا يكون شيء تصوره مطابقا لواقعه‬‫بل هو عكسه تماما فتكون الأفعال مناقضة للأقوال ويصبح التفاهم بين المواطنين مبينا على‬ ‫سوء ظن الجميع بالجميع دائما‪.‬‬‫لا أحد يطمئن لأحد ومن ثم فالعقد الضمني للتطامن المتبادل منعدم تماما‪ .‬فلا القاضي‬‫قاض ولا الأمن أمني ولا الدبلوماسي دبلوماسي ولا الجندي جندي ولا خاصة الاستعلامي‬‫والإعلامي في خدمة هذه الوظائف هو يستخدمها لمصلحة عاجلة حتى لو حرق كل البلد‪:‬‬ ‫غياب الوازع الذاتي‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪35‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫وفوق هذه الوظائف العشر توجد هيئة الحكم التي تمثلها القوى السياسية حكما ومعارضة‬‫والرأي العام السياسي‪ .‬وهذا هو محل رأس الفساد‪ .‬ومع ذلك فلو قرأت الدساتير‬‫وتصفحت مدونات القوانين وضعية كانت أو شرعية لظننت أن من يحكمك هو الفاروق‬ ‫بعينه‪ .‬لكنها رسوم بلا أعيان‪ .‬كلام بلا مضمون‪ .‬خدعة الخدع‪.‬‬‫من يحكم بالفعل (الأحزاب الحاكمة أو القبائل لا فرق) ومن يحكم بالقوة (المعارضات‬‫الحزبية أو القبلية) ينطبق عليهم مفهوم شرعي واحد‪ :‬إنهم محتربون‪ .‬فالحرابة سرقة‬‫مسلحة‪ .‬وسلاحهم وظائف الدولة‪ .‬وطبعا يوجد من هو صالح بينهم‪ .‬لكنه ابرة في كومة‬ ‫قش‪ :‬عنف الدولة علته غياب الوازع الذاتي‪.‬‬‫وهذه الحال تستفزني خاصة عندما يكون برقعها الدين‪ .‬فالبرقع العلماني قد لا‬‫يستفزني لعلمي بأنه لا ينافق بالمعنى الديني بل يدعي أن ذلك هو منطق السياسة‬‫والميكيافيلية وخاصة إذا طبقها صاحبها في غير بلده وهو ما تفعل القوى الاستعمارية كلها‪.‬‬ ‫لكن قوانا السياسية بدت ميكيافيلة الاستعمار‪.‬‬‫فكان تشويههم للإسلام وتمريرهم لحياة المسلمين بالقانون الوضعي أو بالقانون الشرعي‬‫من أهم أدواء حضارتنا في كل عصورها باستثناء عصر النبي والراشدين الأول‪ .‬وما داعش‬ ‫بأكثر تشويها منهم للإسلام وللفقه والقانون‪ .‬والعلة مضاعفة‪:‬‬ ‫‪ .1‬التأصيل بالعلاقة المباشرة (الرسالة) بين المؤمن وربه‪.‬‬‫‪ .2‬والعجز عن التأصيل غير المباشر كما تأمر فصلت ‪ 53‬وتنهى آل عمران ‪ :7‬يجهلون‬‫علوم الطبائع وعلوم الشرائع التي لا توجد في نص الرسالة بل فيما توجه النظر إليه‪ .‬ما‬‫في الرسالة هو السبابة المشيرة للأمر الذي ينبغي علمه ليكون علما‪ .‬ظنوا الموضوع هو‬ ‫السبابة لا ما تشير إليه‪.‬‬‫ولما فعلوا ذلك تركوا عالم الشهادة مجهولا وغرقوا في عالم الغيب المحجوب حتى لا‬‫الأنبياء‪ .‬ولا عجب فهم قد اعتبروا الـ\"و\" في سابعة آل عمران عطفا للراسخين في العلم‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪36‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫على صاحب العلم المحيط فظنوا علمهم محيط يمكن أن يستخرج المشار إليه من السبابة‬ ‫المشيرة‪ .‬فكان العلم الزائف‪.‬‬‫والجهل بالآيات التي يرينها الله في الآفاق والانفس جهل بالعلاقة بين الطبيعة‬‫والجماعة‪ .‬فهذه تستمد شروط قيامها المادي من تلك‪ .‬ولا يمكن تسخير الأرض بالجهل‬‫بقوانين الطبيعة‪ .‬لذلك فحتى ما فيها من ثروات لم يصبح كذلك إلا بفضل المستعمر بعد‬ ‫أن فقدنا كل سلطان على التعمير ولم يبق إلا التدمير‪.‬‬‫والتدمير يكون في هذه الحالة تدمير علاقة الإنسان بالإنسان لأن تدمير الطبيعة هو‬‫بدوره بحاجة إلى علم قوانينها والمبالغة في استغلالها الذي يدمرها لأن كل ما فيها ناضب‬‫بالجوهر ولا يعوض إلا في التاريخ المديد التاريخ الجيولوجي‪ .‬ولا شيء يضحكني أكثر من‬ ‫الكلام على فقه الواقع‪.‬‬‫لا أفهم كيف من لا يعلم قوانين الطبيعة الرياضية وقوانين التاريخ السياسية أن يتكلم‬‫على فقه الواقع‪ .‬يجهلون أن الواقع لا يدرك وأن ما يدرك هو ما نعلم وأن ما نعلم بالقياس‬‫إلى ما نجهل هو في نسبة المتناهي الضئيل إلى اللامتناهي اللامحدود‪ .‬وما نعلمه مشروط‬ ‫بنظريات ليست في متناولهم‪.‬‬‫وإذن ففي هذه الحالة يكون الفقه والقانون رماية في عماية أو يبنى على ظنون حول ما‬‫هو بالجوهر مما لا يعلم أي الغيب المحجوب‪ .‬والقرآن يوجهنا لمعرفة حقيقته إلى الآفاق‬‫والانفس ويوجهنا إليه طبيعة قوانينهما دون أعيان قوانينهما لما كان لمفهوم عالم الشهادة‬ ‫معنى‪ :‬فهو يشهد لهذه الحقيقة‪.‬‬‫ولو كان القرآن يعتبر علم الغيب ممكنا لنا لما نهانا عن المتشابه ولما اعتبر محاولة تأويله‬‫مرضا في القلب وابتغاء للفتنة‪ .‬لكن كذب الرسوخ في العلم وكذبة وراثة الأنبياء هي التي‬‫آلت بالباحثين في علوم الملة إلى سلطة كنسية تدعي تمثيل الوحي ووراثة النبي فيما لا‬ ‫يملك فهو لم يؤول المتشابه‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪37‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫النبي لا يورث لا ماديا ولا روحيا‪ :‬هو المبلغ والمعلم وليس له سلطان غير سلطان القرآن‬‫وسلطان الاجتهاد في التبليغ والتعليم‪ .‬وسلطان القرآن هو مرجعية سلطان الأمة المؤلفة من‬‫افراد يمكن أن تكون لهم أهلية الاستخلاف بشرطين‪ :‬الحرية الروحية والحرية السياسية‬ ‫أي التحرر من الوساطة والوصاية‪.‬‬‫والله نفسه ينفي عن النبي الوساطة والوصاية‪\" :‬فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم‬‫بمسيطر\" وإذن فرسالة مبنية على الحريتين وأكثر من ذلك فهو لا يأتي بأمر ليس قائما عند‬‫مخاطبيه بل يذكر بأمر قائم عندهم‪ .‬فالقرآن مكتوب بعد في الفطرة ومنسي ووظيفة‬ ‫التنبي التذكير بها أو التحرر من الغرق في الفاني‪.‬‬‫والإيمان الصادق يتجلى عندما يشعر من يسمع تذكير النبي بصدى ما في القرآن في نفسه‬‫فيكون التناغم بينهما هو جوهر التواصل المباشر مع الله‪ .‬إنها الحالة الوجدانية التي تمثل‬‫الوزع الذاتي في كل إنسان ذي بصيرة تحرر من الوساطة والوصاية وتوجه مباشرة إلى‬ ‫الآفاق والانفس طلبا لحقيقة القرآن‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪38‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫حتى لا أتجنى على أحد من أعلام الفقه وأصوله لا بد في هذا الفصل السابع من الشكوك‬‫أن أشرح القصد بتعطيل الدستور القرآني وفرض حالة الطوارئ التي ما تزال سارية منذ‬‫أربعة عشر قرنا‪ .‬فالفقه وتأصيله لم يتجاوز تعيين أجوبة قاضي الرسول في ظرف حالة‬ ‫الطوارئ‪ :‬تعيين أبي حنيفة فمالك فأحمد فالشافعي‪.‬‬‫والثلاثة الأول حددوا مصادر الفقه جمعا ولم يحدد طبيعة الدور الذي تؤديه بنظرية‬‫يمكن اعتبارها مؤصلة للفقه‪ .‬وذلك ما يعود الفضل فيه لرسالة الشافعي‪ .‬وذلك ما نسبته‬‫إلى عصر الفقه الأول وقدمت عليه نوعين من الممارسة الفقهية كانت المصادر فيه متعينة‬ ‫في الرسول ثم في الراشدين الثلاثة الأول‪.‬‬‫والفرق بين هذين الحالتين السابقتين والحالات الثلاث الموالية هو الذي يحدد الفرق‬‫بين الحكم العامل بالدستور والحكم العامل بحالة الطوارئ وتعطيل الدستور الذي نتج عن‬‫الحرب الأهلية التي تلت الفتنة الكبرى‪ .‬وتعطيل الدستور في الممارسة بأحكام استثنائية‬ ‫ينتج بالبون بينهما فصاما في القانون‪.‬‬‫لذلك فجواب قاضي الرسول دلالته مختلفة عن دلالة نفس الجواب لدى المؤسسين‬‫الأربعة‪ :‬فهم مثل قاضي الرسول يجيبون عن أسئلة الرسول الثلاثة وسكوته بعد جواب‬‫القاضي الثالث‪ :‬أجتهد رأيي ولا آلو‪ .‬فالحكم بالقرآن والحكم بالسنة والحكم باجتهاد‬ ‫الرأي في حالة العمل بالدستور غير الحكم بها في حالة تعطيله‪.‬‬‫فإذا اعتبرنا قاضي الرسول له ما للفاروق من فهم لعلاقة أحكام الدستور بأحكام تنزيله‬‫في علاج الظرف ودور هذه في تلك فهمنا أن الموقف المعرفي لديه هو ما أمرت به فصلت ‪53‬‬‫مع حرز ما نهت عنه آل عمران ‪ .7‬بمعنى أن قاضي الرسول مثله مثل الفاروق يطلبون‬ ‫حقيقة القرآن من آيات الله في الآفاق والانفس‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪39‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫فإذا كان القرآن يحدد موضع البحث عن حقيقته فمعنى ذلك أنه لا يعتبر آيات النص‬‫هي المصدر المباشر لمعرفة حقيقته بل تجلي آيات الله في الآفاق والأنفس التي تبين هذه‬‫الحقيقة عندما نعلم قوانينها وسننها المتعلقة بالموضوع الذي يتعلق به البحث‪ :‬النظام‬ ‫القانوني ووظائفه في أي جماعة بشرية‪.‬‬‫وإذن فلا بد من التمييز بين النظام القانوني الذي يحدده الدستور والنظام القانوني‬‫الذي يعطله ويقدم عليه الأحكام الاستثنائية التي تفرضها حالة الطوارئ‪ .‬ومن ثم‬‫فالنظام القانوني في عهد الرسول والراشدين يعمل بأحكام مطابقة للدستور والنظام‬ ‫القانوني بعد الفتنة يعمل بأحكام استثنائية‪.‬‬‫وحتى أقرب الأمر إلى ذهن القارئ‪ :‬كالفرق بين حالة السلم وحالة الحرب‪ .‬أو كالفرق‬‫بين ما قبل ‪ 11‬سبتمبر وما بعدها في نظام الحريات الفردية في الولايات المتحدة‪ .‬وعادة‬‫تكون حالة الطوارئ مؤقتة‪ .‬لكنها عندنا ما تزال موجودة منذ الحرب الأهلية الأولى إلى‬ ‫اليوم في كل بلاد المسلمين‪.‬‬‫لكن الأحكام الاستثنائية تتضمن ما يشير إلى كونها استثنائية وهو سر الفصام بين‬‫الإحالة إلى الدستور مع قلب العلاقة بينه وبين الأحكام الخاصة التي صارت هي القاضية‬‫في أمره بدلا من أن يكون هو القاضي في أمرها‪ .‬فصارت الأحكام الخاصة تقدم الخاص‬ ‫وتعتبره ناسخا للأحكام العامة‪.‬‬‫وبعبارة أوضح‪ :‬فالحرية الدينية هي الحكم الدستوري العام في القرآن الكريم لكن فقه‬‫حالة الطوارئ اعتبر الأحكام الخاصة في القرآن ناسخة للأحكام العامة وأولت كل آيات‬‫القرآن في ضوء هذا القلب ما جعل فلسفة القرآن الدينية والسياسية تنقلب راسا على عقب‬ ‫بان صار الاستثناء هو القاعدة‪.‬‬‫مثال ذلك أن الآية ‪ 48‬من المائدة لم يعد لها أثر في فهم علاقة الأديان بعضها بالبعض‬‫في إطار دولة الإسلام‪ :‬فالتعدد الديني فيها مقصود لذاته ولوظيفته في تأسيس الإيمان على‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪40‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫حرية الضمير‪ .‬فلذاته هو علامة الوزع الذاتي ولوظيفته هو شرط التسابق في الخيرات‬ ‫طلبا حرا للدين الأسمى أي الإسلام‪.‬‬‫وبذلك يمكنني القول إن المميز الأساسي للفقه وتأصيله في عصره الأول الذي وصفنا هو‬‫كونه قلب العلاقة بين القاعدة والاستثناء فجعل الاستثناء محددا لدلالة القاعدة وبات‬‫الفقه وتأصيله مؤسِسين ومؤ َسسين على نظام قانوني تحدده حالة الطوارئ الدائمة فصار‬ ‫الاستثناء هو القاعدة في كل أحكامه‪.‬‬‫ولذلك فصوريا لا شيء يعاب على هذا النظام وهو نظام متناسق لكنه مضمونيا عكس‬‫النظام الذي يستند إلى الدستور ومبادئه لأنه يقلب العلاقة بين المبدئي والظرفي فيه‪.‬‬‫وذلك في أحكام الاجتهاد والجهاد والمعاملات والعبادات والعلاقات الداخلية والخارجية أي‬ ‫في كل ما يتعلق به النظام القانوني‪.‬‬‫وكما بينت فإن عصر الفقه وتأصيله الثاني لم يأت بجديد إلى في علوم الآلة‪ :‬فتقدم علم‬‫اللغة وعلم المنطق وعلم التاريخ وعلم التفسير يهدف إلى تجويد الآلة لعله يتمكن من حل‬‫معضلة العلاقة بين النص المحدود والنوازل اللامحدودة في كل نظام قانوني‪ .‬دون جدوى‬ ‫فكان المهرب الوحيد هو نظرية المقاصد‪.‬‬‫ونظرية المقاصد تعبر عن أمرين‪ :‬اليأس من النظام القانوني الذي تحدد في عصره الأول‬‫ومحاولة \"بطننة\" الفقه بأن يصبح مبنيا على وهم معرفة مقاصد الشارع والتشريع بالاعتماد‬‫عليها للإيهام بالعمل بمبادئ الإسلام المقاصدية وحينها لا يكون القرآن إلا غطاء لقانون‬ ‫وضعي بتقية دينية خالصة‪.‬‬‫لكن الخطأ الأساسي هو قلب فصلت ‪ 53‬وآل عمران ‪ 7‬لأن مقاصد الشارع لا يعلمها إلا هو‬‫إذ هي من الغيب وهو الوحيد الذي يعلم العودة ومن مقصده إلى شروط تحقيقه أو العلاقة‬‫بين الغاية والوسيلة في تحقيق المقصد‪ .‬فهل نقول إن كل ما يحقق الغاية هو المطلوب؟ ألا‬ ‫يؤدي إلى منطق الغاية تبرر الوسيلة؟‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪41‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫المقاصدية هي إذن سعي لوضع نظام قانوني وضعي متنكر في شكل قانون ذي مرجعية‬‫دينية شكلية وذلك هو جوهر الموقف الباطني الذي لا يختلف عن الموقف العلماني إلا بنوع‬‫التنكر الديني‪ .‬وهو نظام قانوني مختلف عن النظام الذي حدده العصر السابق وليس‬ ‫أفضل منه حتى وإن أوهم اصحابه أنه تطوير له‪.‬‬‫ولأن النظام القانوني المبني على المقاصدية هو بهذه الصفات فلا عجب أن يتقاسمه‬‫كاريكاتور التأصيل وكاريكاتور التحديث لأداء الوظائف الخمس التالية‪ :‬فهو أداة تعديل‬‫الموجود من التشريعات القرآنية (مثال الإرث وتغيير بالمقاصد) وإيجاد المعدوم في‬ ‫التشريعات القرآنية (كل الإحداثات التشريعية)‪.‬‬‫وبذلك يكون القرآن ظاهر وراءه باطن هو المعتمد ويؤسس على المقصد الذي يعلمه‬‫الشارع الإنساني والفرق بين القائلين به من السنة والقائلين به من الشيعة هو نسبة هذا‬‫العلم للإمام وعلمه اللدني عند هؤلاء ونسبته إلى العقل عند أولئك وشرطه القول‬ ‫بالتحسين والتقبيح العقليين (اعتزال)‪.‬‬‫وفي الحالتين يكون الإيهام باعتماد القرآن أساسا للمقاصدية تقية لأنها ذريعة لإضفاء‬‫الشرعية القرآنية على تشريع وضعي خالص لأن الأمر كله متعلق بالقدرة على اختيار‬‫الوسيلة المحققة للمقصد أي كيفية العودة من المقصد إلى الحكم الذي يحققه والذي يقتضي‬ ‫الإيمان أن يكون من الغيب في شرع الله‪.‬‬‫فالسر في فاعلية أي تشريع هو في هذه العلاقة بين الغاية والوسيلة في الأحكام‪ .‬هبنا‬‫عرفنا الغاية أو المقصد فكيف نعلم علاقته بالوسيلة التي تحققه على الوجه المناسب بكل‬‫يقين؟ فعدم التناسب بينهما يمكن أن يؤدي إلى عكس المقصود لأن الطرق الموصلة إلى نفس‬ ‫الغاية لا متناهية‪.‬‬‫وحتى في الفلسفة فإن الحكمة كل الحكمة هي في هذه العلاقة بين الغاية والوسيلة بل هي‬‫جوهر الحكمة العملية لأن الفلاسفة يعتبرون الغايات فطرية والوسائل هي التي يحتاج‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪42‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫الإنسان أن يحددها بحذر وحكمة وتدبر‪ .‬والعلة هي أن التحسين والتقبيح ليسا من جنس‬ ‫الوصف النظري للذاتيات في موضوع العمل‪.‬‬‫صفات الشيء الذاتية قابلة للتحديد العقلي وهي موضوع العلم النظري‪ .‬لكن الحسن‬‫والقبح الخلقيين ليسا من الصفات الذاتية المقومة للأفعال بل هي مقومة لعلاقات الفعلة‬‫وهي من ثم إضافية لما تواضعوا عليه من شروط التعامل الأقل كلفة على شروط وجود‬ ‫الجماعة وبقائها وهي مادة التعاقد بينهم‪.‬‬‫والتعاقد بين البشر ليس بالضرورة مصوغا في نصوص صريحة رغم أنه لا يمكن تصور‬‫عيشا مشتركا من دونه‪ :‬فهو نظام قانوني قد يكون مجرد عرف‪ .‬وقيمه هي المعروف والمنكر‬‫وهي عقد بين البشر من دونه لا يمكن أن توجد جماعة من الأسرة فصاعدا‪ .‬ولما كان علمنا‬ ‫غير محيط فتشريعنا الوضعي نسبي دائما‪.‬‬‫والديني بالجوهر في كل الأديان ‪-‬حقيقة كانت أو مزيفة‪-‬هو الإيمان بنظام قانوني نتج‬‫عن علم محيط ينسب الله الذي هو ليس خالقا فسحب بل وآمر‪ .‬الشريعة هي ما نعتقد أنها‬‫أمر الله لخلقه المكلفين‪ .‬والله يقول إن معرفة أمر الله وخلقه هي حقيقة القرآن التي‬ ‫ينبغي طلبها من آياته في الآفاق والانفس‪.‬‬‫وإذن فكل طلب للفقه والنظام القانوني الذي يبين حقيقة أمر الله لخلقه المكلفين لا بد‬‫أن يتوجه إلى الآفاق والأنفس أي إلى الطبيعة ذات القوانين الرياضية (تقديرا ذهنيا‬‫وتجربة) والتاريخ ذي القوانين السياسية (تربية وحكما) بحسب طبيعة الموضوع ووظائفه‬ ‫المحققة لقيام الإنسان معمرا ومستخلفا‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪43‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫تبين مما تقدم أنه لا معنى للكلام على النظام القانوني بوصله مباشرة بالنص القرآني‬‫بوصفه عين العلاقة المباشرة بين المؤمن وربه بدلا من وصله بما وجه إليه النص القرآني‬‫بوصفه علاقة غير مباشرة تشهد لحقيقة القرآن أو للعلاقة المباشرة بين المؤمن وربه‪ :‬إنها‬ ‫آيات الله في الآفاق والأنفس‪.‬‬‫وهذا موضوع بحثنا في الفصل الثامن من الشكوك‪ .‬فالنظام القانوني الذي يبين حقيقة‬‫التشريع القرآني ليس آيات النص بل ما تشير إليه بالتوجيه الذي ورد في فصلت ‪ 53‬أمرا‬‫في آل عمران ‪ 7‬نهيا لمعرفة حقيقة القرآن الذي هو التواصل المباشر بين المؤمن وربه حول‬ ‫شروط قيامه معمرا للأرض ومستخلفا فيها‪.‬‬‫وذلك يعني أن النظام القانوني والخلقي (الفقه) لا يتأصل مباشرة في آيات القرآن‬‫النصية بل فيما وجهت إليه من آيات الله في الآفاق والانفس المتعلقة بوظائف النظام‬‫القانوني الذي يترتب على النظام المحقق لشروط استعمار الإنسان في الارض بشروط‬ ‫الاهلية للاستخلاف‪ :‬النظام السياسي تربية وحكما‪.‬‬‫حقيقة القرآن الذي هو التواصل المباشر بين الإنسان وربه لا تعلم من منه بل هي تعلم‬‫مما أشار إليه القرآن إشارة توجه الإنسان للبحث عنها فيه‪ .‬وإذن فعلم الطبائع والشرائع‬‫لا يستمد من القرآن مباشرة بل مما أشار إليه محلا لآياته التي تتجلى فيها حقيقته‪ :‬شروط‬ ‫قيام الإنسان الطبيعية والتاريخية‪.‬‬‫ومعنى ذلك أن التواصل المباشر يوجه الإنسان إلى التواصل غير المباشر الذي يتم خلال‬‫تعمير الإنسان للأرض بوصف ذلك امتحانا لأهليته للاستخلاف‪ .‬وهذه الشروط هي عين‬‫مقومات كيان الإنسان المستعمر في الأرض لتحقيق شروط قيامه المادية لامتحان أهليته‬ ‫للاستخلاف لتحقيق قيامه الروحي‪.‬‬‫وبهذا تتحدد حقيقة القرآن دليلا مذكرا للإنسان بمقومي كيانه المادي (وشرطه تعمير‬‫الارض أو تسخيرها لقيامه المادي) وكيانه الروحي (وشرطه أن يكون ذلك التعمير خاضعا‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪44‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫لاختبار مدى أهليته للاستخلاف أو مدى تحرره مما وصفته به الملائكة ومن دعوى ابليس‬ ‫بعدم أهليته)‪.‬‬‫والأمر هنا لا يتعلق بالغيب بل بوظائف الرسالة التي هي القرآن كما يعرف نفسه علاقة‬‫مباشرة تذكر الإنسان بأنه في امتحان دائم هو عين كيانه المادي والروحي كما يتعين في‬‫الطبيعة التاريخ علاقة غير مباشرة مشدودة إلى ما في العلاقة المباشرة من تحديد لهويته‬ ‫العضوية والروحية‪ :‬مستعمر ومستخلف‪.‬‬‫ولما كان مكلفا أي حرا مخيرا قادرا على تطبيق التكليف وعدم تطبيقه بات الأمر متعلقا‬‫بسياسة ذاته تربية وحكما أو بنظرية الأمة ذات الدولة إطارا الامتحان لتحقيق مقومي‬‫الكيان أي التعمير والاستخلاف فإن النظام القانوني يتأسس في نظرية الدولة كما حدد‬ ‫القرآن مثالها أي سياسة الله للعالم‪.‬‬‫وهذا هو الدستور الذي عطل وعوض بحالة الطوارئ كما وصفت‪ .‬فما هو هذا الدستور؟‬‫وكيف يتألف من الحريتين الروحية (لا وساطة بين الله والإنسان) والسياسية (لا حكم‬‫بالحق الإلهي) شرطين في الاختبار؟‪ :‬كيف يمكن أن يحاسب الإنسان إذا لم يكن حرا روحيا‬ ‫وحرا سياسيا لئلا يحمل مسؤولية أفعاله لوسيط ووصي‬ ‫فما هو هذا الدستور؟‬‫حددته الآية ‪ 38‬من الشورى‪\" :‬وَالَّذِينَ ا ْس َت َجا ُبوا ِل َر َبِّ ِهمْ وَ َأقَا ُموا ال ّصَ َلا َة َوأَمْرُ ُهمْ شُو َرىٰ‬‫َب ْي َن ُه ْم َومِمَّا َر َز ْقنَا ُهمْ يُنفِ ُقو َن\"‪ .‬العلاقة المباشرة هي الاستجابة للرب‪ .‬وعلامتها إقامة‬ ‫الصلاة‪ .‬والإشارة الواردة فيها تحدد مقومات هذا الدستور‪.‬‬‫فمرجعية الدستور هي الاستجابة إلى الرب‪ .‬وطبيعته هي نسبة الأمر للجماعة‪ .‬وأسلوبه‬‫هو سياسته بالشورى‪ .‬وأهم مجالاته هي الإنفاق من الرزق الذي هو ثمرة التعمير والذي‬‫الأمر في إدارته هو غاية الاستخلاف‪ .‬وينتج عن ذلك أن النظام السياسي الذي يشير إليه‬ ‫القرآن وظيفته الخروج من الخسر‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪45‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫فالمرجعية تحددها سورة العصر‪ :‬وله أصل وأربعة فروع‪ .‬الأصل هو وعي الإنسان‬‫بشروط الاستثناء من الخسر الذي قد يرد إليه إذا لم ينجح في اختبار أهلية الاستخلاف أو‬‫في الحياة الدنيا تعميرا بقيم الاستخلاف‪ :‬والفروع الاربعة اثنان منها متعلقان بالذات‬ ‫الفردية يضاف إليهما واثنان بعلاقة الذوات أو بالجماعة‪.‬‬‫فالفرد المكلف والذي يختبر ثم يحاسب كفرد يوم يأتي ربه فردا مطالب بالإيمان والعمل‬‫الصالح‪ .‬وبوصفه عضوا في جماعة لا بد من التواصي بالحق والتواصي بالصبر (المشاركة‬‫في الحالتين)‪ .‬ومن ثم فالاستجابة للرب في الشورى ‪ 38‬أصحابها هم هؤلاء‪ .‬وهم أصحاب‬ ‫الامر وهم مطالبون بسياسته بالشورى‪.‬‬‫فلنحلل الشورى ‪ .38‬فهي تعرف النظام السياسي وتضعه بين حدين‪ :‬المرجعية التي‬‫وصفنا والمجال الأساسي الذي بمقتضاه يمتحن الإنسان في التعمير بقيم الاستخلاف أي‬‫الإنفاق من الرزق‪ .‬تنزل النظام السياسي بين نظامين أولهما علاقة الإنسان بالرب والثاني‬ ‫مركز علاقة الإنسان بالإنسان‪ :‬الرزق‪.‬‬‫فكل علاقة بين البشر مدارها ثمرة الاستعمار في الأرض (الرزق) في ضوء علاقة الإنسان‬‫بربه المذكورة أو المنسية وبين هذين الحدين يأتي النظام السياسي والقانوني لتنظيم‬‫هذين العلاقتين المباشرة بين الإنسان وربه وغير المباشرة بين الإنسان مجال اختبار الأهلية‬ ‫الأساسي أي الانفاق من الرزق‪.‬‬‫ولنأت الآن إلى تعريف النظام السياسي والقانوني الذي يحقق هذه الإشارة والذي هو‬‫المثال الأعلى الذي ينبغي أن تكون الدولة في الجماعة الصالحة مشدودة إليها بوصفه محققا‬‫لاختبار الاهلية الذي يتحقق في سياسة الإنسان لوجوده الدنيوي باعتباره مستعمرا في‬ ‫الأرض ضرورة ومستخلفا اختيارا‪.‬‬‫واختبار الأهلية يقع بمدى تطبيق قيم الاستخلاف في أفعال التعمير وفي سياسة تمراتها‪.‬‬‫وهذا هو مضمون الآية ‪ 177‬من البقرة‪ .‬وليحصل الاختبار لابد أن يكون النظام السياسي‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪46‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫والنظام القانوني مبنيا على شروط اختبار الأفعال الحرة التي يكون فيها الأمر أمر الجماعة‬ ‫المؤلفة من أفراد يمارسون الحريتين‪.‬‬‫فالآية وضعته بين الاستجابة للرب والإنفاق من الرزق‪ .‬وفيه مقوما النظام السياسي‬‫والقانوني اللذين يتوفر فيهما شرط اختبار الحريتين‪ :‬طبيعة النظام وأسلوب النظام‪.‬‬‫فنسبة الأمر إلى الجماعة تحدد طبيعة النظام جمهورية (أمر الجماعة=راس بوبليكا)‬ ‫وأسلوب إدارته بالشورى يعني ديموقراطية‪.‬‬‫وهذه الجمهورية الديموقراطية تتأسس على مرجعية الاستجابة إلى الرب بداية وعلى‬‫اجتماعية الرزق غاية فيكون النظام القانوني المناسب لهذا النظام السياسي نظاما هدفه‬‫الوصل بين طبيعة التعمير وأهدافه وطبيعة الاستخلاف ودوره في جعل التعمير يثبت أهلية‬ ‫الإنسان للاستخلاف أو عدم أهليته‪.‬‬‫تأصيل النظام القانوني والخلقي أو تأصيل الفقه ينطلق من هذا التعريف للنظام‬‫السياسي حكما (النظام القانوني) وتربية (النظام الخلقي) في جماعة مؤمنة بدلالة‬‫حددتها سورة العصر لاخراج الإنسان من الخسر الممكن خلال اختبار الاهلية في الاستخلاف‬ ‫كما وصفنا‪.‬‬‫وهذا يعني أن تأصيل الفقه لا يؤسس مباشرة على نص القرآن بل على ما وجهنا اليه من‬‫طلب آيات الله في الآفاق والأنفس طلبا قد ينتهي إلى تحقيق اهلية الاستخلاف وقد ينحرف‬‫فيبعدنا عنا‪ .‬وما نحاسب عليه هو ما نضعه من قوانين وأخلاق في سياسة الامر الذي هو‬ ‫أمرنا بالشورى فنحمل مسؤولية ما يترتب عليها‪.‬‬‫فإذا ناسب تشريعنا الذي نضعه بالشورى شروط اهلية الاستخلاف كان شرعيا وإن لم‬‫يناسبها كان لا شرعيا‪ .‬والمناسبة تتحقق بفضل صفات القانون والأخلاق التي تجعلها تحقق‬‫قيم الاستخلاف وهي الأمانة والعدل في حالة الفقه والقانون‪ .‬ومبدأ عدم إجماع الأمة‬ ‫المؤمنة على الخطأ يؤيد هذا التصور‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪47‬‬ ‫الأسماء والبيان‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook