Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore نظرية الحرب والاستراتيجيا - كيف تصير مسودة ابن خلدون نظرية مكتملة- أبو يعرب المرزوقي

نظرية الحرب والاستراتيجيا - كيف تصير مسودة ابن خلدون نظرية مكتملة- أبو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2019-07-23 17:30:21

Description: نظرية الحرب والاستراتيجيا - كيف تصير مسودة ابن خلدون نظرية مكتملة- أبو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪re nils frahm‬‬ ‫كيف تصير \"مسودة\" ابن‬ ‫خلدون نظر ية مكتملة؟‬ ‫الأسماء والبيان‬





‫المحتويات ‪2‬‬ ‫‪ -‬الفصل الأول ‪1 -‬‬ ‫تمهيد‪1 :‬‬ ‫الفصل الأول ‪2‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثاني ‪8 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثالث ‪14 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الرابع ‪20 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الخامس ‪26 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل السادس ‪33 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل السابع ‪39 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثامن ‪45 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل التاسع ‪53 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل العاشر ‪59 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الحادي عشر ‪65 -‬‬ ‫‪72‬‬

‫‪--‬‬ ‫لما شرعت في قراءة القرآن قراءة فلسفية كان أول مشكل اعترضني تعريف القرآن‬ ‫الكريم من حيث طبيعته ‪-‬دون الحكم في كونه نصا دينيا أو نصا فلسفيا لأن الوجهين فيه لا‬ ‫ينفصلان وهما جوهر السياسة بمعناها الكوني الذي لا تفصل بين العالم وما بعده وبين‬ ‫النظر والعقد في رؤيته المعرفية لقوانين الطبيعة وبين العمل والشرع في رؤيته القيمية‬ ‫لسنن التاريخ‪.‬‬ ‫فانتهيت إلى اعتباره كما هو بين من عنوان القراءة \"استراتيجية التوحيد القرآنية ومنطق‬ ‫السياسة المحمدية\" معتبرا القسم الاول من العنوان قسما النظرية الاستراتيجية والقسم‬ ‫الثاني قسم التطبيق الاستراتيجي‪ .‬والتوحيد هو في آن المعنى الديني (توحيد الله)‬ ‫والمعنى السياسي (توحيد الإنسانية بعبادة الله وحده)‪.‬‬ ‫وهذه المحاولة هدفها التدليل على ما تتميز به رؤية القرآن الاستراتيجية ليس بالاعتماد‬ ‫على نص القرآن لأن ذلك قد لا يقنع إلا المؤمنين به وهدفي يتجاوزهم إلى الإنسانية كلها‬ ‫تبعا للغاية من الاستراتيجية القرآنية التامة‪ .‬وسأعتمد لتحقيق ذلك التحديد الدقيق‬ ‫والسريع بشرط الجمع والمنع لأصناف الاستراتيجيات المستعملة حاليا كما وردت‪.‬‬ ‫وهي كما سيتبين أربعة أصلها هو المرض الذي يعالجه القرآن لتحرير العباد من عبادة‬ ‫العباد الذي هو شعار الفتح التطبيق الحرفي لهذه الاستراتيجية القرآنية‪.‬‬ ‫وقد نسبت المحاولة إلى ابن خلدون لأني اعتبر مقدمته محاولة لبيان هذه الفرضية التي‬ ‫اعتمدها في قراءة القرآن حتى وإن بقيت محاولته في شكل مسودة اعتبر من واجبي في‬ ‫مسعاي لبناء خلدونية محدثة أن اطورها بما يؤسسها وبما يترتب عليها وذلك بقيسها إلى‬ ‫أصناف الاستراتيجية المعلومة حاليا وبيان مصدرها القرآني كما فهم ذلك أحد تلاميذه‬ ‫الذي يرمز إلى النكبتين (الأندلس بدايته مالقة وفلسطين نهايته القدس) وصائغي‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪1‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫مضمون المقدمة في شكل مضاعف يتوازى فيه الدليل التاريخي والدليل القرآني في كتابه‬ ‫بدائع السلك في طبائع الملك‪.‬‬ ‫أنوي اليوم الكلام على الحرب والاستراتيجيا مع العلم الأكيد الذي يلامس عين اليقين‬ ‫أن ذلك ليس مما يعني العرب حكاما ومعارضين لأن من همهم الدنيا وربهم هواهـم لا‬ ‫يعشقون إلاه‪ .‬والحروب لا تجري إلا بين الشعوب الحرة أما العيال (ابن خلدون) الذين‬ ‫فسدت فيهم معاني الإنسانية فصاروا أسفل سافلين فيتحاربون في ما بينهم ولا يحاربون من‬ ‫يحاربهم بل يستسلمون له تماما كما وصفهم ابن خلدون في كلامه على «العيال» الذين‬ ‫فسدت فيهم معاني الإنسانية‪.‬‬ ‫كلامي إذن لا يتوجه لمحاربين عرب موجودين حاليا بخلاف ما كان عليه احدادهم وصناع‬ ‫مجدهم‪ .‬لكنهم منشودون في المستقبل‪ .‬وكل مستقبل يكاد يصبح حاضرا إذا أحيا ما كان له‬ ‫في الماضي مما يشجعه على الحضور‪ .‬فـما كان ممكنا مرة يعسر أن يصبح مستحيلا في‬ ‫المستقبل بخلاف رأي من يزعم استحالة دولة الإسلام في المستقبل‪ .‬لذلك فالكلام يمكن أن‬ ‫يصلح في مرحلتي الدفاع المعد للهجوم في حروب المطاولة‪.‬‬ ‫وأبدأ بدحض خرافة يكثر الجميع تكرارها وهي حرب الأحزاب والخندق التي تجعل نصر‬ ‫المسلمين ثمرة نصيحة جاء بالصدفة من أحد الصحابة‪ .‬الملحون على أن الخندق فكرة سلمان‬ ‫الفارسي قد يكونوا على حق لكنهم على خطأ في نسبة النصر لهذه الفكرة‪ .‬قد تكون أسهمت‬ ‫لكنها ليست علة النصر‪ .‬فالحرب لم يربحها المسلمون بفضل الخندق لأن الخندق كان سهل‬ ‫التجاوز حتى بقفز الخيل أو بملئه بالرمال والماء أيسر من الحفر فضلا عن وضع جذوع‬ ‫النخل لتجاوز الخنادق‪ .‬ثم هو لم يحط بالمدينة كلها بدليل الخيانة التي حصلت‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪2‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ليس قصدي تكذيب القصة بل تكذيب طابعها الحاسم‪ .‬وهي لا تعنيني إلا بوصفها أفسد‬ ‫مدخل لفهم تاريخ الحروب الإسلامية التي تعرضها المسلسلات وكأن النصر فيها هو دائما‬ ‫ثمرة صدفة لكأن المسلمين كانوا يحاربون كما يحارب عرب اليوم «دزها تخطف» يعني‬ ‫(بالتونسي بالصدفة) أي دون استراتيجية ودون علم بالجغرافيا والشعوب على الأقل‪.‬‬ ‫فهذه النسبة هي التي أخفت سر نجاح الفتح كله أعني الاستراتيجية الحربية التي مكنت‬ ‫شعب شبه بدائي كان مفتتا كحال العرب الآن استطاع أن يتحد وأن يسقط أكبر‬ ‫امبراطوريتين في عصره حتى وإن لم تكونا في أحسن حال‪ .‬هدفي البحث في الاستراتيجيا‬ ‫الحاسمة التي جعلت المسلمين الاول يحققون في أقل من نصف قرن ما صار يعتبر من‬ ‫المعجزات‪.‬‬ ‫ومرة أخرى فالمنطلق من ابن خلدون ‪-‬في السعي لمواصلة ما نصح به في خاتمة المقدمة‪ .‬فقد‬ ‫كتب فصلا مطولا في فن الحرب ورغم أهميته فهو ليس عمدتي في هذه المحاولة‪ .‬وغالبا ما‬ ‫يتكلم الناس على نظريتين كبريين في الحرب واحدة لفيلسوف ألماني والثانية لفيلسوف‬ ‫صيني وسأضيف نظريتين اخريين في غاية البحث كلتاهما مبنية على دين العجل واحدة‬ ‫للصهيونية والثانية للصهيونية اليهودية المسيحية‪ .‬ورغم أن الاستراتيجية التي سأتكلم‬ ‫عليها متقدمة عليها جميعا في الزمان فهي أكثر مناسبة للحرب التي تهدف إلى بناء الإنسان‬ ‫وتحريره من الحرب التي تهدم إلى تهديم الإنسان واستعباده‪.‬‬ ‫لكن نظرية ابن خلدون قلما تجد لها ذكرا في الكلام على الاستراتيجية الحربية‪ .‬ودونها‬ ‫ذكرا استراتيجية القرآن التي طبق بعضها في حروب الفتح‪ .‬ولا أدعي أن ذلك بسبب‬ ‫الإهمال فحسب بل لأن ابن خلدون هو بدوره كما في كل فصول المقدمة يرمي بالنظريات‬ ‫في شكل مسودات لم يحررها ولم يعد عليها ليضفي عليها الطابع النظري المكتمل الذي يجعلها‬ ‫نظرية بالمعنى العلمي‪.‬‬ ‫وسأعتمد التبسيط قدر الإمكان فأبدأ بتقسيم الحرب بمنطق الفيلسوفين إلى الحرب‬ ‫العنيفة (كلاوس فيتز) والحرب اللطيفة (سن تسو) علما وأن كليهما يستعمل النوعين لكن‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪3‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الألماني غالب كلامه على العنيفة والصيني على اللطيفة حتى لا يكاد الأول يهتم باللطيفة‬ ‫والثاني بالعنيفة‪ .‬وفي الحقيقة فكلاهما يجعل ما أهمله تابعا لما اهتم به ولا يستغني عنه‬ ‫بالكلية‪.‬‬ ‫فسون تسو (الصيني) تكاد نظريته تتمثل في السعي للاستغناء عن الحرب العنيفة بالحرب‬ ‫اللطيفة التي تجعل العدو ينهار من الداخل فيستغني الإنسان عن محاربته بالسلاح‪.‬‬ ‫وكلاوسفيتز بالعكس يذهب بالتدمير الحربي إلى حد تيئيس العدو من المقاومة فيستسلم‬ ‫بعد كسر الجيش واحتلال الأرض وقتل روح الصمود‪.‬‬ ‫ولم أختر هذين القطبين في نظرية الحرب بقصد الكلام على نظريتهما في الحرب ‪-‬وكذلك‬ ‫النوعين الآخرين اللذين سأختم بهما البحث وهما من وضعي الشخصي‪-‬بل بقصد فهم علة‬ ‫الرؤيتين وراء النظريتين‪ :‬فلو سألنا عن علة الحل الصيني والحل الألماني لوجدنا أنها علة‬ ‫واحدة وهي كيفية تطويع إرادة العدو أو فرض إرادة الذات عليه‪ .‬وإذن فاختلاف الحل‬ ‫يتعلق بما يعتبر أنجع وسيلة لتطويع إرادة العدو التي الهدف من الحرب ومن ثم فهي تسعى‬ ‫لإلغائه من حيث هو إنسان حر‪ .‬وسنرى أن ذلك هو جوهر الفرق مع الاستراتيجية القرآنية‬ ‫وأساس الفتوحات‪ :‬الهدف تحرير إرادة الإنسان وتخليصه من عبادة العباد بعبادة رب‬ ‫العباد‪.‬‬ ‫وإذن فالخلاف المتعلق بأداة تحقيق الغاية الواحدة هو مفهوم القوة وشروط استعمالها‬ ‫الأقل كلفة لتحقيق الغاية من الحرب أي لتغيير إرادة العدو وتطويعها لتصبح خاضعة‬ ‫لإرادة صاحب الاستراتيجية الأنجع‪ .‬والقوة كما أسلفت نوعان‪ :‬عنيفة وهي التهديم المادي‬ ‫ولطيفة وهي التخريب المعنوي‪ .‬ولا ينبغي أن نخلط فنتصور الأولى سلاح والثانية ذكاء‪.‬‬ ‫فلا وجود لحرب من دون السلاح والذكاء إلا عند عرب الانحطاط حيث إنها بلا سلاح وبلا‬ ‫ذكاء لأن كليهما مستوردان أي إن من يحارب ليس العرب بل مرتزقة يدفع لهم العرب‬ ‫ليفكروا ويقاتلوا بدلا منهم (طبعا اقصد الأنظمة العربية الغنية ولا أقصد كل العرب ولا‬ ‫خاصة الشعوب التي تقاوم) لأنهم متفرغون للأخلاد إلى الأرض والاكل أكل الأنعام‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪4‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فالحرب العنيفة لا بد لها من الذكاء والحرب اللطيفة لابد لها من السلاح‪ .‬والمشكلة ليس‬ ‫في وجودهما بل في التراتب بينهما وفي \"الدوزة\" من دورهما‪ .‬وهنا يأتي دور ابن خلدون‬ ‫ونظريته التي هي أفضل من نظرية الصيني والألماني رغم أنها مهملة ولم تبرز للعيان لأن‬ ‫صاحبها لم يضع منها إلى مسودة يعسر ترجمتها في نظرية مكتملة الأركان‪.‬‬ ‫وهي ليست حلا وسطا بين هذين الحدين‪ .‬فالكل يعلم أني أكره التعريف بالسلب المضاعف‬ ‫من جنس الإسلام ليس ماديا مثل اليهودية ولا روحانيا مثل المسيحية أو اقتصاديا مثل‬ ‫الرأسمالية ولا اجتماعيا مثل الاشتراكية إلخ‪ ...‬منه خرافة الحل الثالث والوسطية وهلم‬ ‫جرا من كاريكاتور التفكير الوسطي تقليدا لأمر غير مفهوم في نظرية الفضيلة والأخلاق‬ ‫الأرسطية‪.‬‬ ‫وقبل الغوص في عرض النظرية التي يمكن استخراجها من \"مسودة\" ابن خلدون في نظرية‬ ‫الحرب ‪-‬والفصل المخصص للحرب جزء منها وليس هو وحده المقصود‪-‬لا بد من القول إن‬ ‫الذراعين والعدوين المساندين لهما حاليا يستعملون أربعتهم نفس الاستراتيجية التي‬ ‫جعلت العرب بفضل الإسلام يستطيعون رغم عدم التناسب في القوة هزيمة أكبر جيوش‬ ‫عصرهم في فارس وبيزنطة‪ .‬لكنهم بخلاف استراتيجية الإسلام يستعملونها بنفس الغاية‬ ‫التي وضعها الصيني والالماني أي التخريب الروحي والتهديم المادي لاستعباد الإنسان وليس‬ ‫لتحريره‪.‬‬ ‫وإذن فهم يستعملون شيئا قريبا من استراتيجية الإسلام من حيث الأدوات ولكن بنقيض‬ ‫الغايات التي تحددها الاستراتيجية التي نبحث عنها في مسودة ابن خلدون‪ .‬فهم يكتفون‬ ‫بالجمع بين الصيني والألماني كالحال في كل الحروب الحديثة التي تعتمد على ما سميته‬ ‫بعدي دين العجل أداتي كل سلطان مادي ولا مادي أو عنيف ولطيف‪ :‬الأموال (معدن‬ ‫العجل) والأقوال (خوار العجل)‪.‬‬ ‫فالحرب العنيفة تستعمل المال شرط القوة المادية أو الحرب المسلحة والأقوال شرط القوة‬ ‫اللامادية أو الحرب الدبلوماسية‪ .‬والحرب اللطيفة تستعمل الأقوال شرط القوة الرمزية‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪5‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫أو الحرب الإيديولوجية والمال شرط القوة العنيفة بشراء الضمائر وجيش العملاء من‬ ‫الطوابير الخامسة لدى العدو‪.‬‬ ‫وبهذا المعنى فلا إيران تستطيع التأثير في إسرائيل ولا إسرائيل في إيران ولا روسا في‬ ‫أمريكا ولا أمريكا في روسيا إلا بالحرب العنيفة لأنهم جميعا يستعملون نفس الحرب‬ ‫اللطيفة‪ .‬فيكون معيار الغلبة في الحرب هو عين معيار الغلبة في السلم‪ .‬كلامي على ضعف‬ ‫إيران وروسيا حكم مؤسس استراتيجيا‪ :‬خسرا السباق في القوة المادية ولا يمكن أن يكون‬ ‫لهم القوة المعنوية أكثر من عدويهما‪.‬‬ ‫ومثله حكمي على علاقتهم بالعرب‪ .‬فهؤلاء لسوء الحظ الحرب اللطيفة تخترقهم اختراق‬ ‫السكين للجبن‪ .‬والحرب العنيفة يكفي انهيار‪ 67‬حتى نعلم أن جيوش العرب يخترقها‬ ‫الأعداء أكثر مما يخترق السكين الجبن‪ .‬وما أظن جيوشهم اليوم أفضل من جيش مصر‪67‬‬ ‫ويكفي دليلا حرب اليمن لتعلم ما عليه الحال دون سؤال‪.‬‬ ‫وبهذا المعنى فقد اقتربنا من منطلق البحث في ما أنسبه إلى ابن خلدون‪ .‬ولا بد من‬ ‫الانطلاق من مفهومه لـ\"فساد معاني الإنسانية\" المؤسس على رؤيته الانثروبولوجية (نظرية‬ ‫الإنسان)‪ .‬والمنطلق هو الحكم الذي جاء في القول إن عرب اليوم \"فسدت فيهم معاني‬ ‫الإنسانية\" ففقدوا المنزلة الوجودية التي هي حقيقة الإنسان بوصفه كما عرفه ابن خلدون‬ ‫«رئيسا بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له»‪.‬‬ ‫وإليكم كيف يعرف ابن خلدون فساد معاني الإنسانية وفقدان المنزلة الوجودية‪ \":‬وفسدت‬ ‫معاني الإنسانية التي له (للإنسان) من حيث الاجتماع والتمدن وهي الحمية والمدافعة عن‬ ‫نفسه أو منزله وصار عيالا على غيره في ذلك بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل‬ ‫والخلق الجميل فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها فارتكس وعاد في أسفل سافلين\"‬ ‫(المقدمة الباب‪ 9‬الفصل ‪.)40‬‬ ‫وصف سياسي وخلقي يترتب عليه فقدان المنزلة الوجودية بالعودة في أسفل سافلين وهي‬ ‫منزلة يحددها القرآن باعتبارها نكوصا عن منزلة الإنسان الأصلية (في أحسن تقويم ثم‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪6‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫رددناه أسفل سافلين)‪ .‬وهو نكوص ينتج عن التربية والحكم العنيفين في الرؤية الخلدونية‬ ‫وهي رؤية مستمدة حتى من مراحل الرسالة لان المرحلة المكية هي للتربية والمرحلة المدنية‬ ‫هي للحكم‪ .‬وبهما تكونت الأمة التي تمكنت باستراتيجية التوحيد القرآنية ومنطق السياسة‬ ‫المحمدية الشروع في تحقيق الدولة الإسلامية باستراتيجية بناء الإنسان بدل تهديمه‬ ‫وتحريره بدل استعباده‪.‬‬ ‫نظرية ابن خلدون في الحرب تتجاوز الكلام على الحرب كحالة منعزلة وتعتبرها وضعية‬ ‫ملازمة لوجود الجماعات وبحضور الآية ‪ 60‬من الانفال‪-‬من هنا كلامه على العالة على الغير‬ ‫في الدفاع عن النفس والمنزل في صلة مباشرة بمنزلة الإنسان الوجودية التي بها يعرف‬ ‫الإنسان اساسا لفلسفة العمران والاجتماع‪.‬‬ ‫الكلام في الحرب والاستراتيجية المناسبة لها لا يمكن أن يكون كلاما مفيدا إذا لم ينطلق‬ ‫من نظرية الإنسان (الانثروبولوجيا) ومن نظرية المجتمع (السوسيولوجيا) ومن دور‬ ‫التربية ودور الحكم فيهما أي مما يكون في الإنسان وازعه الذاتي (الضمير) ووازعه‬ ‫الأجنبي (القانون) أي فلسفة الأخلاق وفلسفة السياسة‪.‬‬ ‫وحتى يكون الأمر واضحا وجليا شديد الجلاء فلأشرح مفهوما يتكرر حتى صار يفيد عكسه‬ ‫تماما‪ .‬فالتمييز القرآني بين \"حياة\" و\"الحياة\" يقال بعبارة أخرى هو \"من يهاب الموت\" لا‬ ‫يحب الحياة‪ .‬فصار عند حداثيي العرب مثلبة لأن من لا يقبل أن يكون عالة يعتبر كارها‬ ‫للحياة لفرط الخلط بين \"حياة\" و\"الحياة\" عند من شبعوا من الإذلال وفقدوا معنى الجلال‪.‬‬ ‫ولذلك فتهمة الإرهاب التي توجه لأي مقاوم للاحتلال ليست تهمة استعمارية فحسب بل‬ ‫هي صارت \"لازمة=لايتموتيف\" عند نخب العرب الجامعية حداثية كانت أو تقليدية بدعوى‬ ‫علاج الكراهية وتأسيس المحبة لكأنه من المحبة أن تتنازل على دارك لجارك وعلى حريمك‬ ‫لغريمك‪ .‬فهما تعتبران القبول بالتربية والحكم العنيفين وبالعيش في المحميات من نعم‬ ‫الحياة السعيدة التي يحسدون عليها‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪7‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ختمت الفصل الأول بعبارة ذات صلة بالحياة والموت‪ .‬ولا عجب‪ .‬فالكلام على الحرب‬ ‫وفنونها لا معنى له ما لم يكن ذا صلة بصلة الحياة والموت وإذن بمعنى الوجود عامة‪ .‬فلا‬ ‫يمكن تصور الحرب من دون عمق ديني في أي حضارة وفي أي مرحلة من مراحلها‪ .‬وأكثر‬ ‫من ذلك لا يمكن تصور أي شيء في مخاطرة مقامرة من دون اعتقاد في الغيب‪.‬‬ ‫فحتى لاعب القمار والميسر والرياضي في أي مقابلة لا يمكن أن يكون \"واقعيا\" بالمعنى‬ ‫المبتذل للحداثيين العرب الذين لا أكاد أصدق أن لهم بعدا وجدانيا يغوصون فيه بل جلهم‬ ‫قشة رماها القدر على سطح الأمواج‪ .‬كل إنسان ذو وجدان وفرقان يكون دائما ذا بعد‬ ‫عقدي خفي يجعله يؤمن بما هو مستحيل التوقع بكامل اليقين ومن ثم فلا بد من شيء من‬ ‫الإيمان باللامتوقع وبالا منتظر خيرا أو شرا‪ .‬وفي الحرب اللامتوقع يكاد يكون هو الغلب‬ ‫وهو يحصل مهما استعلمنا عن العدو‪.‬‬ ‫ولهذه العلة فإذا وجدت مجتمعات نخبها تحارب هذا الوجه من أعماق النفس البشرية‬ ‫فاعلم أنها جماعة أخلدت إلى الأرض و\"فسدت فيها معاني الإنسانية\" بلغة ابن خلدون‬ ‫و\"عادت في أسفل سافلين\" وصارت \"عالة على الغير\" في رعايتها وحمايتها‪ :‬وهذه حقيقة حال‬ ‫قيم التربية والحكم عندنا حاليا‪.‬‬ ‫فإذا اعتمدت نظرية الصيني ونظرية الألماني فإني أستطيع القول إن غاية الحرب كما‬ ‫تحددها الرؤيتان هي استسلام المغزو وتخليه عن المقاومة وهذه الغاية تبدأ في كل جماعة‬ ‫من نظام تربية وحكم يفسدان معاني الإنسانية ويغيران منزلة الإنسان الوجودية من‬ ‫الرئاسة بالطبع والاستخلاف إلى العبودية بالعادة والانكشاف‪.‬‬ ‫ومعنى ذلك أن نهاية الحرب التي يسعى إليها الغازي حاصلة بحسب سياسة العرب الحالية‬ ‫في التربية والحكم بحسب فكر النخب الساهرة عليهما التي تمثل في الحقيقة‪-‬طبعا بغير‬ ‫قصد ربما‪-‬مقدمة جيش الغازي ومؤخرته أي إنها تفتح له الطريق وتختم المعركة لصالحه‬ ‫بمجرد إفساد معاني الإنسانية والرد أسفل سافلين‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪8‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫بدأنا الآن ندرك الأعماق التي يغوص إليها ابن خلدون للكلام على \"الحمية والمدافعة‬ ‫عن نفسه أو منزله وصار عيالا على غيره في ذلك\" ثم يعرف ذلك بكونه \"معاني الإنسانية‬ ‫التي له (للإنسان) من حيث الاجتماع والتمدن\"‪ .‬وما أن نفهم ذلك حتى نفهم علة بدايتي‬ ‫المحاولة بقصة الخندق في حرب الأحزاب‪.‬‬ ‫فقصدي ليس استنقاص دور سلمان‪-‬وإن كنت اعتقد أن المبالغة في دوره من توابع‬ ‫الأكاذيب الشيعية لأنهم ضموه إلى آل البيت وهي أيضا كذبة شيعية لأن أهل بيت رسول‬ ‫الله (وليس آل بيته) هم أمهات المؤمنين لا غير وقد نضم إليهن بناته‪-‬بل القصد البحث‬ ‫عن سر النصر ما هو ومن ثم طبيعة الاستراتيجية التي اعتمدت عليها الفتوحات‪.‬‬ ‫فيمكن للعرب اليوم أن يشتروا أفضل سلاح ابتدعه العقل الإنساني لكن ذلك لن يغير‬ ‫أمر كونهم نفسيا وروحيا وتربويا وحكميا مهزومين بمعنى أن غاية حرب أي عدو عليهم‬ ‫حاصلة بعد لأن الغاية في كل حرب سواء بالمعنى الصيني أو بالمعنى الألماني هي استسلام‬ ‫العدو وهم مستسلمون قبل خوض أي حرب وتلك علة تنازلات نخبهم بلا حساب ولا عقاب‪.‬‬ ‫وإذا كان كلامي على سلمان سيعده الكثير من ذوي النفوذ في كل المحافل العربية طائفية‪-‬‬ ‫وما هو كذلك لأن دحض أسس الطائفية لا يعد طائفية وإلا لكان بيان الحقيقة بدحض‬ ‫الكذب كذبا‪-‬فكلامي على العرب قد يعتبر عنصرية عند يزايد البعض علي في العروبة‬ ‫لكونه يستعملها \"اصلا تجاريا\" لا مصيرا وحقيقة قيام مثلي‪.‬‬ ‫وحتى يتأكد القارئ من كذبة التعليل للهزائم بتفوق العدو التقني والعلمي فليذكر أنها‬ ‫كانت حجة الاستعداد للتكافؤ الاستراتيجي التي كان آل الأسد يخفون بها اتفاقهم مع‬ ‫اسرائيل على ما يجانس اتفاق إيران وحزب الله معها لمغالطة الرأي العام العربي‬ ‫بالعنتريات والعمل على الثأر من الفتوحات‪.‬‬ ‫وهو ما نراه في الأفعال رغم الأقوال التي تجعل القوميين العرب يعتبرون الأسد وحزب‬ ‫الله مقاومين وإيران تنوي تحرير فلسطين وهي تحتل كل الهلال ومعه اليمن‪ .‬وحتى أكون‬ ‫عادلا فنفس اللعبة ونفس الأدوار تجدهما عند من يدعون مقاومة إيران الآن وهم في‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪9‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الحقيقة يقاومون ثورة شعوبهم المطالبة بالحرية والكرامة والسيادة‪ .‬ذلك أنهم لو كانوا‬ ‫حقا يريدون ردع إيران فليس أيسر من ذلك‪ .‬فتمكين المقاومة العراقية سابقا والسورية‬ ‫حاليا من حد أدني كاف وزيادة لو أرادوا ذلك حقا‪.‬‬ ‫فالمقاومة السورية رغم ما عوملت به من تلاعب وتنكر من العربان استطاعت أن تهزم‬ ‫النظام وإيران وكل ميليشياتها وجزب الله‪ .‬ولولا التدخل الروسي لكانت أيران قد خرجت‬ ‫من سوريا تجر ذيل الهزيمة‪ .‬لكن من يدعون الحرب عليها هم من مول التدخل الروسي لمنع‬ ‫هزيمة إيران ومول طيران أمريكا وبنى له القواعد في ارضه لحماية الحشد في العراق‬ ‫ومول انقلاب الحوثي وهلم جرا‪.‬‬ ‫لكن ما يعنيني ليس الحاضر حتى وإن كان ضرب الأمثلة منه يساعد على فهم المسألة‬ ‫التي أريد علاجها لأن الاستراتيجيا الحربية بالمعنى الخلدوني الذي له صلة بحروب الفتح‬ ‫والتصدي لما تلاه من غزو لبلاد الإسلام التي عاش ابن خلدون نوعيها وخاصة حرب المغول‬ ‫وحرب الاسترداد وكان ذا صلة مباشرة بهما‪ .‬نظرية ابن خلدون في الحرب ذات مستويين‪:‬‬ ‫الأول يتعلق بالحرب مباشرة ويمكن اعتباره النظرية الاستراتيجية التي تقبل المقارنة‬ ‫مع نظرية الصيني والألماني أي نظرية الحرب منصلة عن شروطها العميقة وهي ليست همي‬ ‫الأول في المحاولة لأنها تتعلق بالأمر الواقع بسبب انحطاط الامة وفي وضع صارت فيه‬ ‫الحاميات جلها مرتزقة أجانب لخوف الحكام من شعوبهم‪.‬‬ ‫الثاني وهو الأعمق هو النظرية الاستراتيجية التي ينفرد بها وهي إسلامية خالصة وسر‬ ‫الفتوحات وهي مضمون المقدمة كلها بوصفها محاولة تشخيص الادواء التي أوصلت الأمة‬ ‫إلى النوع الأول وتقديم البدائل المحررة منها لاسترداد الاستراتيجية القرآنية‪.‬‬ ‫وأعود مرة أخرى إلى حرب الأحزاب وقصة الخندق‪ .‬فكما بينت فالخندق لم يكن محيطا‬ ‫بالمدنية بدليل خيانة من أوهموا المسلمين بالحلف معهم‪ .‬كما ان الرياح العاتية وإن ساعدت‬ ‫ربما كما ساعد الخندق فإنها مثله لا تفسر نصر المسلمين لأن الأعداء كان يمكن انتظار‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪10‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫انتهاء الزوبعة لمواصلة الحرب لو لم يكونوا قد حسبوا أمورا أخرى تأكدوا منها لما رأوا تحفز‬ ‫المسلمين وخاصة حضور القائد في الصدارة‪.‬‬ ‫وقد يعجب القارئ إذا سمعني أقول إن الذي جعل الخندق يؤثر ليس الخندق بل \"دلالة‬ ‫حفره\" أي كون الرسول قد نزل بنفسه ليشارك في حفره‪ .‬فهذا هو المؤثر‪ :‬دور القائد‬ ‫الحكيم الذي يندمج في جيشه‪ .‬لو كان القائد مثل قادة الجيوش العربية في حرب ‪67‬‬ ‫لاستحال أن يحدث الخندق الفرق‪ .‬لما يكون القائد في الصدارة وجاهزا للموت مع جيشه‬ ‫يحصل الفرق‪.‬‬ ‫وسأبدأ بالمستوى الأعمق ما دمت قد عدت لمثال الخندق ودلالة دور الرسول في حفره‬ ‫الذي هو المفيد عندي وليس الخندق‪ .‬فلأشرع في الكلام على أعماق الاستراتيجيا التي‬ ‫تفسر الفتوحات‪ .‬وأول شيء يلفت الانتباه لدلالته الثابتة على ما كان في وعي المسلمين من‬ ‫فهم للرسالة‪ .‬فالطابع العفوي لإدراك حقيقة هذا العمق يتبين من خلال جواب ربعي ابن‬ ‫عامر دون أن يلقنه أحد الجواب عن سؤال لم يتوقعه أحد لما بعث رسولا للجيش بطلب من‬ ‫قائد الجيش الفارسي‪:‬‬ ‫\"الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله‪ ،‬ومن ِضيق الدنيا إلى س َع َتها‪،‬‬ ‫ومن جَ ْور الأديان إلى عدل الإِسلام\"‪.‬‬ ‫والآن فلأسأل السؤال الجوهري‪ :‬لماذا قضى الرسول نصف زمن الرسالة في وظيفة التربية‬ ‫والنصف الثاني في وظيفة الحكم؟ ولماذا كان الإسلام دستورين؟ فيمكن بصورة دقيقة القول‬ ‫إن القرآن المكي هو دستور التربية وإن القرآن المدني هو دستور الحكم‪ .‬والأول كون نواة‬ ‫الجماعة المسلمة التي هي عينة من الإنسانية في مفهوم القرآن بوصفه رسالة كونية‪ .‬والثاني‬ ‫كون نواة الدولة الكونية للإنسانية بمنطق النساء ‪ 1‬والحجرات ‪ 13‬وبترجمة قانونية‬ ‫دستورية هي دستور الرسول‪ .‬ويمكن الآن تعريف الحرب‪:‬‬ ‫فهي سلبا ليست قتالا بين جيشين وشعبين كل منهما يسعى للقضاء على الثاني كما في‬ ‫الرؤية الصينية بالتخريب الروحي وفي الرؤية الألمانية بالتدمير المادي‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪11‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫بل هي إيجابا جزء من التسابق في الخيرات بين أمتين ورؤيتين للحياة والوجود انطلاقا‬ ‫من منزلة للإنسان إما بوصفه كما يعرفه ابن خلدون فلسفيا ودينيا \"رئيسا بطبعه بمقتضى‬ ‫الاستخلاف الذي خلق له\" أو بوصفه عبدا لأصحاب دين العجل‪.‬‬ ‫ما ينقص الصيني والألماني هو النظر في الحرب من حيث هي صراع قوى مادية وروحية‬ ‫هو صرف النظر عن تحديد طبيعة دورها في منزلة الإنسان الوجودية بوصفها جزءا من‬ ‫التسابق في الخيرات بين من يعتبر الإنسان \"رئيسا بطبعه (فلسفة) بمقتضى الاستخلاف‬ ‫الذي خلق له (دين)\" ومن يجعله عبدا لأصحاب دين العجل‪ .‬فمن هم أصحاب العجل؟‬ ‫إنهما‪:‬‬ ‫النظام الثيوقراطي الذي يستعبد به بعض البشر بقية البشر باسم الله وساطة في التربية‬ ‫(الكنسية) ووصاية في الحكم (الحق الإلهي)‪ .‬ومثاله إيران‪.‬‬ ‫النظام الأنثروبوقراطي التي يستعبد به بعض البشر بقية البشر باسم الإنسان بنفس‬ ‫الأداتين بعد إضفاء الطابع العلماني عليهما ومثاله إسرائيل‪.‬‬ ‫الثيوقراطية والانثروبوقراطيا يبدوان في الظاهر متنافيتين ومتعاديتين‪ .‬لكن بنيتهما‬ ‫العميقة واحدة‪ :‬وهي الأبيسيوقراطيا أو نظام التربية ونظام الحكم باسم العجل ببعديه‬ ‫معدنه وخواره‪ .‬فمعدنه هو أداة الحكم الوصي على الإنسان في أمره (المال) وخواره هو‬ ‫أداة التربية الواسطة بين الإنسان والحقيقة (الإيديولوجيا)‪ .‬وكلاهما أدوات استعباد‬ ‫الإنسان للإنسان وليس تحريره منهما أي النقيض التام لجواب رسول المسلمين لقائد الجيش‬ ‫الفارسي‪ .‬وذلك هو جوهر الفرق بين الفتح والغزو‪ .‬ولست غافلا بأن الاعتراض الجاهز‬ ‫مضاعف وهو اتهامي بأني أجمل الفتح على حساب الغزو خاصة والاعداء يحاولون الآن‬ ‫تجنيد علمانيي العرب والأكراد والأمازيغ وقبلهم الأتراك لاعتبار الفتح غزوا والإسلام‬ ‫إيديولوجيا عربية لاستعمارهم رغم أنهم كلهم بمن فيهم العرب لم يكونوا شيئا مذكورا قبل‬ ‫التاريخ الإسلامي بل كانوا مستعمرين من فارس وبيزنطة‪:‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪12‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫اولا لا يمكن أن توجد دولة من دون العملة والكلمة أي من دون معدن العجل وخواره‪.‬‬ ‫وهذه المغالطة الأولى وهي أصلية‪.‬‬ ‫وثانيا لا يمكن أن ننكر أن الدول الإسلامية ربت وحكمت بهما مثلها مثل غيرها من‬ ‫الدول‪ .‬هذه المغالطة الثانية وهي فرعية‪ .‬فكيف ذلك؟‬ ‫وجوابـي على الاعتراض الأصلي هو التمييز بين ضرورة العملة والكلمة أداتين للتبادل‬ ‫والتواصل وجريمة تحولهما إلى أداتي سلطان على المتبادلين والمتواصلين‪ .‬في الحالة الأولى‬ ‫هما أداتان لا سلطان لهما على المتبادلـين والمتواصلين‪ .‬وفي الحالة الثانية العكس يصبح‬ ‫المتبادلون والمتواصلون عبيدا للمستحوذين عليهما‪ :‬والعلة هي ربا المال وربا الأقوال‪.‬‬ ‫أما جوابي عن الاعتراض الثاني فيسير‪ .‬لا أحد يزعم أن التاريخ من حيث هو أمر واقع‬ ‫يمكن أن يكون دائما مطابقا للأمر الواجب‪ .‬لم أزعم أن العرب لم يحيدوا على رؤية‬ ‫الاسلام‪ .‬ذلك أنهم لو حافظوا عليها لما انحطوا‪ .‬فتلك هي علة وضعنا‪ .‬والمشكل هو توهم‬ ‫تقدم الغرب كافيا للظن أن ما يفعله هو الواجب‪ .‬وعلة يه الهزيمة الروحية التي أتكلم‬ ‫عليها‪ :‬استسلامنا له مثالا هزيمة تغنيه عن محاربتنا‪ .‬فكلام الغرب مثلا على حقوق الإنسان‬ ‫أقوال وليس أفعالا‪ .‬فلماذا يصدق الحداثيون في الإقليم كلامه ويتغافلون على أفعاله؟‬ ‫لماذا يقارنون أفعال المسلمين بأقوال الغرب ولا يقارنون أفعاله بأفعالنا وأقواله بأقوالنا‬ ‫لو كانوا حقا باحثين عن الحقيقة؟‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪13‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫سيقال تعريفك للحرب لا يطابق حقيقتها إذ جعلتها شاملة لكل حياة الجماعة وليس أحد‬ ‫أنشطتها التي تتمايز بينها عن بعض حتى وإن تداخلت بنحو ما‪ .‬وإذن فالتشكيك في‬ ‫التعريف هو ما ينبغي مناقشته‪ .‬سبق ان كتبت منذ كنت في ماليزيا محاولات في الاستراتيجيا‬ ‫بمناسبة مقاومة احتلال وإيران للعراق بتوسط القوة الأمريكية والخيانات العربية (نشر‬ ‫العمل)‪ .‬ونبهت في تلك المحاولة إلى ضرورة التمييز بين مستويين من الحرب وخاصة في‬ ‫المقاومة الشعبية تقني وخلقي‪:‬‬ ‫فالحرب عمل تقوم به الجماعة كلها من حيث وجهها التقني والخلقي‪ .‬إذا كانت المقاومة‬ ‫لا تستطيع التمييز بين الحكم والشعب في الوجه التقني‪.‬‬ ‫فالواجب أن تميز بينهما في الوجه الخلقي‪ .‬وكل مقاومة تنتصر على أي جيش بهذا‬ ‫التمييز لأنه شريط تشتيت صف العدو‪.‬‬ ‫وأسست هذه القاعدة على إحدى وصايا اخلاق الحرب في الإسلام وفيها آية قرآنية حول‬ ‫معاملة الأسرى‪ .‬فـحسن معاملتهم يجعلهم سفراء المقاومة لدى شعوبهم عند عودتهم‪ .‬وقد‬ ‫كتبت ذلك احتجاجا على ما سموه بغباء \"التوب تان\" في التعامل مع القتلى الأمريكان‬ ‫وتعليقهم على الجسور‪ .‬فهذا خطأ استراتيجي لأنه يقوي صف الحكومة الأمريكية بما فيه‬ ‫من تحد لشعور الشعب‪.‬‬ ‫وليس من مصلحة أي مقاومة خسران شعب العدو بل عليها جعله معها بنزع الحجة الخلقية‬ ‫التي تجعل الشعب يؤيد العدوان‪ .‬ومن هنا جاء تعريفي للحرب‪ .‬فهي قبل التقدم التقني‬ ‫بالقوة البدنية والشجاعة المباشرة أو بعده بالقوة التقنية والخداع تبقى دائما حرب تسهم‬ ‫فيها الجماعة كلها ماديا وخلقيا‪.‬‬ ‫وقبل التقدم التقني كان الدفاع خاصة فرض عين على الجميع لأن الحرب لم تكن بحاجة‬ ‫لكفاءة تقنية كبيرة‪ .‬وكان يكفي السلامة البدنية والشجاعة الخلقية‪ .‬وكانت تشمل‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪14‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الجماعة كلها بجنسيها وخاصة بين القبائل والأقوام خلال الترحال والصراع على أسباب‬ ‫العيش‪ .‬ولا يزال الأمر كذلك مع تغير طبيعة المساهمة‪.‬‬ ‫فقد صار دور البحث العلمي والتقدم التكنولوجي والقوة الاقتصادية لتمويل ذلك أهم‬ ‫عوامل الحرب وشروط الانتصار فيها طبعا مع العامل الخلقي في مستوى هذه الأمور لإبداعها‬ ‫وانتاجها أولا ثم في مستوى استعمالها وهذه هي مهمة الجيش‪ .‬فيكون الجيش مجرد رأس‬ ‫حربة في الحرب وليس هو المحارب الوحيد‪.‬‬ ‫وبهذا المعنى فجيوش العرب خسرت منطق الحرب القديم دون الحصول على منطقها‬ ‫الجديد‪ .‬فلا هي محافظة على الحرب التي كانت الجماعة كلها تشارك فيها بأبدانها‬ ‫وشجاعتها‪ .‬ولا هي وصلت إلى الحرب التي تكون فيها الجامعات والتقنيات والاقتصاديات‬ ‫قادرة على أداء الدور الجديد في الحروب‪ :‬فهي لا شيء من الناحيتين بل هي أعجز حتى‬ ‫على أنتاج أدوات عملها‪ :‬كل الجامعات العربية سواء كانت علمية أو أدبية مستوردة لأدواتها‬ ‫ولا تنتج شيئا عدا الخريجين للبطالة أو للهجرة‪.‬‬ ‫وإذن فالحرب سواء بين الشعوب البدائية أو بين الشعوب المتقدمة علميا وتقنيا تبقى‬ ‫حرب بين جماعتين وليس بين جيشين إلا في الظاهر‪ .‬ومن يعتبرها بين جيشين فحسب لماذا‬ ‫لا يعتبرها كذلك بين سلاحين دون حاجة للجيشين‪ .‬فالجيش في الحرب من دون ما ذكرت‬ ‫يصبح مجرد أداة مثل السلاح لولا حضور أخلاق الجماعة فيه بفضل التربية والحكم‬ ‫ومشاركة بقية الجماعة كل بسهمه‪.‬‬ ‫وبهذا المعنى فكل المقاومات التي لا تستطيع الفصل بين الحكم الذي يحاربها وشعبه لا‬ ‫يمكن أبدا أن تربح الحرب مهما طالت لأن العدو لن يخسرها ما ظل شعبه معه ليس تقنيا‬ ‫فحسب فهذا لا يمكن الفصل بينهما فيه بل خلقيا‪ .‬ومعنى ذلك أن البحث العلمي والتنقي‬ ‫والاقتصادي يبقى مشاركا في الحرب العدوانية‪.‬‬ ‫لكن المقاومة تعلم ذلك ولا يخيفها لأنها أولا ‪-‬إذا كانت ذات قيادات راشدة‪-‬لا تدخل مع‬ ‫جيش العدوان في حرب مناجزة ومباشرة لكأنها جيش مثله بل هي تقود حرب مطاولة بالكر‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪15‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫والفر وبالعامل الخلقي في أخلاق الحرب إزاء الجيش وإزاء شعبه حتى تحد من الدوافع‬ ‫الخلقية لديه وجعله يتكاسل في الدفاع عن الظلم‪ .‬والمفاجئات في الحرب الشعبية لا تفعل‬ ‫بكثرة خسارة العدو بل بحصولها نفسه‪ :‬لأنه ما يخيفه ليس الخسارة الحاصلة بل الممكنة ما‬ ‫ظلت المفاجئات تحصل‪.‬‬ ‫وهنا أكون قد وصلت إلى سر نجاح الفتوحات رغم الفارق الكبير بين جيوش‬ ‫الامبراطوريتين الفارسية والبيزنطية فضلا عن كون العرب حينها لم يكادوا يخرجوا من‬ ‫حرب أهلية هي حرب الردة وما سبق الإسلام من ثارات بين القبائل ومن فوضى الجاهلية‬ ‫وحتى من ذل الاستعمار بين المناذرة والغساسنة‪ .‬فهذه معجزة لا بد من فهمها‪.‬‬ ‫فيكون البحث لفهم هذا السر لا يكتفي بدرس الحرب من حيث شروطها وفنياتها التقنية‬ ‫فحسب سواء تعلقت بالحرب العنيفة أو بالحرب اللطيفة‪-‬الوجهان الغالبان على رؤية‬ ‫الصيني والألماني بصرف النظر عن رهان الحرب القيمي والاقتصار على صدام القوى‪-‬بل‬ ‫من حيث شروطها القيمية ومنزلة الإنسان الوجودية‪.‬‬ ‫ولتيسير فهم القصد فلنقارن بين حروب العرب في الفتح وحروب المغول في الغزو‪ .‬فلو‬ ‫كان العرب مثل المغول غزاة‪-‬وهم قد كانوا جماعة بدوية ليست متحضرة مثل الفرس‬ ‫والبيزنطيين وأقرب إلى بداوة المغول منهم إلى حضارة الفرس والبيزنطيين‪-‬من دون‬ ‫رسالة مبدؤها إن عبدتم الله بدلا من العباد يصبح لكم ما لنا وعليكم ما علينا هل كانوا‬ ‫يحققون ما حققوه في نصف قرن؟‬ ‫لن أتكلم على سند من الملائكة ولا على نصر سماوي لأن القرآن نفسه يعتبره قد حصل‬ ‫في غفوة أو سنة نوم ولعله ‪-‬حلم‪-‬بل اكتفي بما يمكن التأكد منه علميا دون حاجة للتصديق‬ ‫الإيماني لأن الكلام ليس مع المسلمين وحدهم بل مع أي إنسان بصرف النظر عن رأيه في‬ ‫الأديان‪ .‬فما حدث تاريخي فعلي وليس قصصا تحكى عن بطولات يغلب عليها الخرافة‪.‬‬ ‫فأثرها ما يزال موجودا‪ .‬ومن ثم فلست معتمدا في كلامي على الأحاديث بل على الاحداث‪:‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪16‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الإسلام أنهى الامبراطوريتين وحرر اهل الاقليم من استعمارهما لهم ومعهم بقية دار‬ ‫الإسلام‪.‬‬ ‫ولعل أفضل مثال يبين ما أدعيه هو أن الفاروق وهو في ذروة قوة دولة الخلافة قبل‬ ‫شرط رجل دين طلب منه القدوم إلى القدس فاستجاب وكتب العهدة العمرية التي ليس‬ ‫لها مثيل في التاريخ الإنساني أو كذلك ما عرف عن صلاح الدين من أخلاق التعامل مع‬ ‫الصليبيين رغم وحشيتهم‪ .‬وهذا دليل على ما أقول‪.‬‬ ‫بهذا وحده ‪-‬ولم أحتج لدليل آخر‪-‬عرفت أن ما يسمى بالخلافة أو داعش لا يمكن أن‬ ‫تكون ممثلة للإسلام ولا حتى للإسلام بعد أن صار فقهاؤه أميين وحمقى مثل أمرائها وفقهائها‬ ‫يتصورون القوة هي الفرقعات التي تزيد العدو قوة والتي إن لم يفعلوها يتطوع هو ليفعلها‬ ‫بدلا منهم لأنه يحتاجها حتى يجعل شعبه معه في العدوان‪.‬‬ ‫ومن يظن هذه الأخلاق دليل ضعف لا يمكن ألا يكون ضعيف العقل والوجدان‪ .‬ذلك أن‬ ‫القوة ليست وحشية إلا إذا كانت قوة مادية عمياء وليست قوة روحية ذات بصيرة‪ .‬فالقوة‬ ‫أداة‪ .‬والأداة يكفيها تحقيق الغاية أي ما هي أداة له‪ .‬فإذا كان ما فعله الفاروق جوهر‬ ‫القوة الروحية فإن ما يفعله الحمقى هو الوحشية والضعف الروحي والخلقي‪.‬‬ ‫ولهذه العلة راجعت تعريف كلاوسفيتز لمراحل الانتصار في الحرب التي عدها ثلاثا وبينت‬ ‫أنـهـا خمس وليست ثلاثا لأن الأولى والثانية كلتاهما مضاعفة لتضمنهما لب الأخيرة الذي‬ ‫يوجد فيهما يوجد فيها بوصفها قائمة بذاتها في الشعب كله‪.‬‬ ‫فالأولى عنده هي انكسار الجيش والثانية هي احتلال الأرض لمنع إعادة بنائه‪.‬‬ ‫والأخيرة عنده هي قبول الجماعة بالأمر الواقع والتسليم وعدم المقاومة‪.‬‬ ‫لكن انكسار الجيش له دلالتان في الحروب‪:‬‬ ‫انكسار سلاحه‪.‬‬ ‫وانكسار معنوياته‪.‬‬ ‫واحتلال الأرض له معنيان في الحروب‪:‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪17‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫السيطرة على الثروات‪.‬‬ ‫والسيطرة على البشر‪.‬‬ ‫وصمود الجماعة هو حضور روحها في جيشها وفي أفرادها رجالا ونساء وفيها من حيث هي‬ ‫جماعة حرة‪ .‬وكلتا المرحلتين الأوليين سر قوتهما هو سر روح الجماعة وهي مبدأ وحدتها‬ ‫كجماعة تقاوم لأن من يقاوم هو الشعب كله بمن فيهم الجيش بمعنوياتهم والتضحيات التي‬ ‫هي ما يقدر به وعي الإنسان بمنزلته الوجودية رفضا للإذلال وتمسكا بالجلال‪.‬‬ ‫ومن علامات التمييز بين السلاح والمعنويات علامتان لا يجادل فيهما إنسان شريف‪:‬‬ ‫فالجندي الذي يرمي سلاحه ويفر من موقعه هزمت معنوياته وليس سلاحه‪ .‬وهذا رأيناه‬ ‫كثيرا في ‪ 67‬وحتى قائدهم‪-‬عبد الناصر‪ -‬يحكى أحد قادته أنه فر من القتال في ‪ 48‬بنفس‬ ‫الطريقة‪.‬‬ ‫واحتلال الأرض ليس احتلال البشر‪ .‬وكلنا يعلم أن من هزم نابليون في روسيا ليس جيشها‬ ‫ولا معنوياته ولا ثروة روسيا بل أهل الأرض الذين فهم نابليون من سلوكهم أن معركته‬ ‫خاسرة لا محالة‪ .‬فإذا فر اصحاب الأرض التي احتلها العدو بعد انكسار الجيش لما استطاعت‬ ‫روسيا أعادة بناء القوة واستئناف المقاومة وهزيمة نابليون في بداية القرن التاسع عشر ثم‬ ‫هتلر لاحقا في منتصف القرن العشرين‪.‬‬ ‫ولو كان الأمير عبد القادر في الجزائر أو بطل الريف في المغرب أو أسد ليبيا ضد‬ ‫الإيطاليين قد فرو أو استسلموا للأعداء لما كان للأمة أبطال تفاخر بهم حتى لو لم‬ ‫يستطيعوا هزيمة العدو في الحال لكنهم هزموه ف المآل لمجرد أن الأمة لم تستسلم وظلت‬ ‫تقاوم حتى هزمة ولو بعد حين‪ .‬وفلسطين شاهدي‪.‬‬ ‫وهذا المعيار هو الذي يجعلني أعتبر إيران أخطر على الأمة عامة وعلى المسلمين خاصة‬ ‫من إسرائيل‪ .‬ذلك أن قوتها ليست مادية وهي لا تعتمد عليها في حربها على العرب بل هي‬ ‫تسعى إلى احتلال الأرواح قبل الأرض فمن يتشيع يصبح أداتها لاحتلال أرضه وعبدا‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪18‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫للملالي‪ .‬هي إذن أميل لرؤية الصيني‪ .‬وهو مستحيل على إسرائيل مهما فعلت لذلك فهي‬ ‫أميل لرؤية الألماني‪.‬‬ ‫واحتلال الأرض قابل للرجع بمجرد تغير ميزان القوة‪ .‬لكن احتلال الروح لا يقبل‬ ‫الرجع‪ .‬فاليوم مشكل المشاكل مع العلمانيين العرب والأمازيغ والأكراد والأتراك هي أنهم‬ ‫أكبر حلفاء الاستعمار الجوهري أعني الاستعمار الروحي الذي يجعلهم أكبر المدافعين عن‬ ‫الاستسلام الحضاري بدعوى التنوير المقلوب‪.‬‬ ‫ولما تسأل أكثره عداوة للذات وللتاريخ عن علة عدم اقتناع مثالهم الاعلى برؤاهم التي‬ ‫يدعون محاكاته فيها ليصبحوا متقدمين مثله لأنه هو بدوره يؤسس مشروعه على هويته‬ ‫وهي بالأساس دينية حتى لو لم يكن مؤمنا بل حتى لو كان من عتاة الملحدين فحمقهم يمنع‬ ‫فهم الحاجة لأصل الكيان ومضمون الوجدان‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪19‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫في الفصل الرابع أبدأ بالإشارة إلى ما لا يمكن أن تجده في نظرية الصيني ولا في نظرية‬ ‫الألماني الحربيتين‪ .‬يتكلمان على الحرب بوصفها صدام قوى منفصلا عن أصل القوى ذاته‬ ‫فيصبح كلامهم في الحرب من جنس كلام الطبيب الذي يصف السم ولا يصف البلسم‬ ‫(الانتيدوت)‪.‬‬ ‫وابن خلدون يبحث علة الداء والدواء ككل نطاسي‪.‬‬ ‫وأولى نصائح ابن خلدون‪ -‬وهي جوهر النظرية الإسلامية في الحرب‪ -‬هي أن الأمم لا‬ ‫تحميها الجيوش بل الشعوب وأن الجيش إذا صار حامية مختصة في الدفاع وصار الدفاع‬ ‫فرض كفاية صار هو الدولة وأصبح مهيمنا على أمة من \"العيال\" تحتمي بالحامية وتعجز عن‬ ‫حماية نفسها لأن \"معاني الإنسانية\" تكون قد فسدت فيها‪.‬‬ ‫وبهذا المعنى فأكثر شعوب العالم التي جردت من شروط حماية نفسها هي شعوب الإقليم‬ ‫عامة والعرب منهم خاصة‪ .‬ما يزال اليمن شعبا مسلحا لكنه ليس جماعة واحدة إلا بالتراث‬ ‫الإسلامي واللغة العربية‪ .‬لكن القبلية تحول دونه والتحول إلى جماعة يمكن أن تستقر‬ ‫فيها دولة إذ كما قال ابن خلدون إذا كثرت العصائب استحال استقرار الدولة حتى لو كانت‬ ‫شكلا موجودة كالحال في اليمن‪.‬‬ ‫أمة واحدة وغير منزوعة السلاح ذلك هو معنى الشعب الحر والكريم‪ .‬وبهذا المعنى‬ ‫فملكية السلاح ليست دليلا على الفوضى إذ الفوضى موجوده حتى من دون سلاح‪ .‬فما بين‬ ‫العرب من مناكفات فوضى يمكن أن تتحول إلى حروب أهلية حتى بالعصي والسكاكين كما‬ ‫كانوا في جاهليتهم ولا حاجة للسلاح الحديث‪ .‬وتسليح الأمريكان أو الإسرائيليين لم يلغ‬ ‫النظام فيهما دون سيطرة جيش يحتل الشعوب كما عند العرب‪.‬‬ ‫وأبرز مثال على صحة هذه النظرية هي أنه لو كان جيش الفتح جيشا محترفا وكان‬ ‫الدفاع فرض كفاية لما قبل خالد بن الوليد عزل الفاروق له ولكان ربما انقلب عليه بجيش‬ ‫يعتبره مثالا أعلى قي القدرات العسكرية وليس مثل الخونة الذين من جنس قيادات‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪20‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الجيش الذي انقلب على الشرعية في مصر والذين ليس لهم من الجيش إلى النياشين التي‬ ‫تدل على الغباء والنذالة والعمالة‪.‬‬ ‫لست أشكك في إيمان خالد وليس لي علم بسريرته‪ .‬والأمر لا يتعلق بشخصه بل بثقافة‬ ‫كان فيها الدفاع فرض عين وليس فرض كفاية وكان كل المسلمين جيش الدولة بل إن‬ ‫الرسول كان يشكوا أحيانا من عجزه المادي عن تجهيز المتطوعين (أي الذين ليس لهم ظهر‬ ‫يركبونه)‪ .‬أما اليوم فجل الجيوش من الأميين والمتعلمون لا يقوم بالواجب والمثقفون جلهم‬ ‫عملاء أو جبناء‪.‬‬ ‫ولست غافلا حتى أدعي أن الأمة لا تحتاج لمحترفين في الدفاع لأنه فرض عين إذ لو فعلت‬ ‫لكنت كـمن يقول الأمة لا تـحتاج إلى معلمين لأن العلم فرض عين‪ .‬ما هو فرض عين هو‬ ‫الدفاع وليس القدرة على تعليم الشباب فن الدفاع مثله مثل العلم‪ .‬ما هو فرض عين هو‬ ‫العلم وليس القدرة على تعليم العلم‪ .‬ذلك هو القصد‪.‬‬ ‫والمعلم في الحالتين في الدفاع وفي العلم من المفروض أن يكون صاحب الخبرة والنموذج‬ ‫في المجال تقنيا وخلقيا بمعنى أنه ليس مثل جل جنرالات العرب عديم الخبرة الفنية‬ ‫وعدمي الشرط الخلقي لأنه النموذج في التهاون بدليل كروشهم وسعيهم للعروش بدل‬ ‫الشرف والتضحية من أجل أمتهم وقيمها‪.‬‬ ‫والآن هل الجامعات العربية تساهم في الدفاع عن الأوطان؟‬ ‫هل طول اللسان في ترديد \"الخوار\" واللغو فكر ناهيك عن العقم الإبداعي في العلوم‬ ‫التي يمكن أن تكون تطبيقاتها مصدرا لأدوات الثروة أولا ثم لأدوات الدفاع ثانيا؟‬ ‫إذا كان التعليم ما يزال دون مرحلة محو الأمية فكيف يمكن انتظار مشاركة فعلية؟‬ ‫وهل الاقتصاديون والتجار والمزارعون يشاركون في الدفاع عن شيء أم هم \"بقر الله في‬ ‫زرع الله\" بل ومستعدون للتعاون من المحتل بعضهم بداعي الحاجة اليومية وبعضهم لأن في‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪21‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ذلك فرصة ليصبح من الأعيان ومن ثم فجل حكام العرب صاروا أمراء وهم أحفاد غفراء‬ ‫نصبهم الاستعمار؟‬ ‫وهل يمكن بهؤلاء أن تقاوم وأن تصمد؟‬ ‫وهل يحتاج الصيني أو الألماني لاستعمال فينات الحرب التي يتكلمان عليها؟‬ ‫فالنتيجة التي يستهدفانها حاصلة بعد دون حاجة لنهجهما‪ .‬لما تعلم أن مستعمرات إسرائيل‬ ‫بناها عمال ورجال أعمال فلسطينيون فمن ستلوم؟‬ ‫ألا يوجد من يخلص لفلسطين وهم أصحاب الحق إخلاص اليهود لإسرائيل وهم المغتصبون؟‬ ‫وعندي مثال آخر تونسي كان سببا في خلافات بيني وبين بعض قيادات النهضة‪.‬‬ ‫إنها مسألة تعويض المجاهدين الذي قضوا عمرهم في السجون وحرمت أسرهم من كل‬ ‫الحقوق وضاع أبناؤهم وأزواجهم‪ .‬أما كان تعويضهم يتم حتى بزكاة المنتسبين إلى الحزب‬ ‫بدلا من جعلها قضية سياسية عليهم لا لهم؟‬ ‫ألا يوجد اغنياء فلسطينيون‪-‬فضلا عن أغنياء العرب‪-‬كان يمكن أن يحدثوا في الضفة‬ ‫من المشروعات الاقتصادية ما يغني الشعب الفلسطيني من أن يبني ما به يحتل العدو‬ ‫أرضه؟‬ ‫لذلك فإني أعجب من طوال اللسان الذين قد يعيبون على الجوعى أنهم لا يقاومون لكأن‬ ‫من يموت جوعا يمكن أن يقاوم غير الموت‪.‬‬ ‫إن نظرية ابن خلدون في الحرب التي هي كما أسلفت مسودة نظرية وليست نظرية ينبغي‬ ‫أن نقرأها بمعنيين‪:‬‬ ‫وصفا للموجود دون معيارية مع بعص التعليقات المعيارية حول التقنيات والأخلاقيات‬ ‫الحربية‪.‬‬ ‫تحديدا لـمنشود مضمر أو ما كان يمكن أن تكون عليه الحال لو لم تفسد معاني الإنسانية‬ ‫وبقي الإنسان رئيسا‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪22‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وقد أتجرأ فأقول إن القسم الأول هو وصف الأمر الواقع في الدويلات الإسلامية التي‬ ‫نتجت عن تفتت أرض الخلافة الأولى لأن كل ما تلاها كان تفتيتا ‪-‬بعد الأموية تعدد‬ ‫الخلافات وانقسمت كل خلافة إلى دويلات شبه مستقلة بما في ذلك في الخلافة الأخيرة‬ ‫العثمانية‪-‬وهو ابن خلدون ليس راضيا عنه‪.‬‬ ‫أما القسم الثاني فهو ما يمكن اعتباره فهم ابن خلدون لاستراتيجية الإسلام ومحاولات‬ ‫تحقيق نواتها في الدولة الإسلامية الراشدة وهو أمر لم يستطع الصمود أمام الحروب‬ ‫الأهلية الأربعة التي تمكنت الدولة الأموية من اخمادها لكنها انتهت تقريبا بانتهائها لأن‬ ‫العباسيـين غرهم الدهاء الفارسي‪.‬‬ ‫وأبطال الدولة الاموية مثل معاوية وعبد الملك بن مروان ‪-‬وخاصة الحجاج‪-‬صاروا‬ ‫ملعونين بدعوى الدفاع عن المبادئ والقيم لكأن الدول عندما تسقط في الحروب الأهلية‬ ‫يمكنها الخروج منها بالمثاليات‪ .‬وهو أمر يشارك فيه مفكرو السنة ليس بسبب الحرص على‬ ‫القيم والمبادئ إذ بينت الثورة نفاق جلهم بل لعدم فهم معنى الاستراتيجيات في بناء الامم‬ ‫وخاصة عندما تكون من جنس العرب الذين كانوا على هامش التاريخ وفي حرب أهلية‬ ‫دائمة‪.‬‬ ‫ولو طبقت الدولة الأموية ما يخرف به هؤلاء الحمقى لكانت العراق منذ ذلك الحين قد‬ ‫صارت ما هي عليه الآن بعد احتلالها الإيراني‪ .‬العراق وبعدها سوريا ولبنان وقد تلحق‬ ‫اليمن والكويت والبحرين والإمارات وقطر إذا واصل العرب سياستهم التي تتمثل في دفع‬ ‫الجزية لأمريكا وإسرائيل وروسيا وإيران بدلا من أن يصبحوا قوة‪.‬‬ ‫وقد كانت محاولات هارون الرشيد سدى لأن تغلغل الباطنية في الدولة حال دون عمل‬ ‫شيء معتبر‪ .‬ولو لم يقيض الله التدخل التركي الأول في بداية القرن الخامس‪-‬السلاجقة‬ ‫عسكريا وعلميا لأن أول تنظيم مؤسسي للتعليم السني هم أصله للتصدي للتعليم الباطني‬ ‫في القاهرة‪-‬لصارت الأمة عبيد ملالي فارس الذين أراد ابن بنتهم المأمون بإخضاع الفكر‬ ‫الديني لسلطان الدولة رسميا‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪23‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فقصة خلق القرآن أبعد غورا من كونها مسألة كلامية اجتهادية‪ .‬إنما القصد كان استعادة‬ ‫دور الوساطة الكنسية والوصاية السياسية للدولة بمعناها الذي كان سائدا في فارس وبيزنطة‬ ‫قبل أن يهزمهما الإسلام‪ .‬ولو لم يوجد ابن حنبل لكانت الغالبية السنة قد انقرضت‬ ‫ولأصبح الإسلام دينا ذا كنيسة وذا حكم بالحق الإلهي ولقبرت ثورة الإسلام‪ .‬وثورة‬ ‫الإسلام على نظام فارس ونظام بيزنطة وعلى تحريف الديني والفلسفي مضاعفة‪:‬‬ ‫تحرير الإنسان من الوساطة بين المؤمن وربه في التربية‪.‬‬ ‫وتحريره من الوصاية بينه وبين أمره في الحكم‪.‬‬ ‫والثورتان وردتا في الآيتين ‪ 22-21‬من الغاشية \"فذكر أنما مذكر (تربية) * لست عليهم‬ ‫بمسيطر (حكم)\"‪ .‬وإذا كان الله ينهى الرسول عن تجاوز دور التذكير وعن ادعاء السيطرة‬ ‫فليس ذلك بالصدفة‪ .‬فالتذكير يعني أن ما يذكر به الرسول موجود في ما فطر عليه الإنسان‬ ‫وهو إذن علاقة مباشرة بين المؤمن والله والرسول يذكره بما يعلم ونسيه وليس بشيء لا‬ ‫يعلمه وهي الطريقة السقراطية‪ :‬المعلم يذكر الناسي‪.‬‬ ‫تمسك ابن حنبل بقدم القرآن أو بقدم علم الله الذي فيه يعني أن ما فطر الله الإنسان‬ ‫عليه يوجد في القرآن كذلك وليس للدولة عليه سلطان فتكون هي التي تحدد دلالاته‬ ‫بدعوى كونه مخلوقا وعلماؤها ‪-‬الكنسية الاعتزالية‪-‬هي التي تحددها وليست علاقة‬ ‫مباشرة بين القرآن والمؤمن في حوار مباشر بينه وبين ربه‪.‬‬ ‫وإذا صار القرآن يحدد دلالاته سلطة روحية ‪-‬كنسية هي علماء الاعتزال ‪-‬فإن المقابل‬ ‫هو أن هذه السلطة الروحية ‪-‬الكنيسة ‪-‬هي التي ستضفي الشرعية على \"الحكم بالحق‬ ‫الإلهي\" للأيمة من آل البيت وهذا ما كان يميل إليه المعتزلة وما لم يخفه الباطنية وخاصة‬ ‫المأمون والهدف هو استرداد سلطة أخواله بتوسط دولة العباسيين‪.‬‬ ‫وما كنت لأتكلم على كل هذا لو لم يكن جزءا من قضية الحرب‪ .‬ذلك أن منزلة الإنسان‬ ‫في هذه الحالة تصبح من جنس العلاقة بين الشعب المختار والجوهيم‪ .‬فنحن السنة نوجد‬ ‫أمام هذين المدرستين‪:‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪24‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫واحدة تتكلم على أسرة مختارة وهي النزعة الصفوية‪.‬‬ ‫والثانية على قبيلة مختارة وهي النزعة الصهيونية‪.‬‬ ‫فالإسلام يحرر الإنسانية من هذين النزعتين إذ هو قد حدد منزلة للإنسان عامة هي‬ ‫منزلة الاستخلاف‪ .‬ولذلك فأساس نظرية الوجود الإنساني في السلم وفي الحرب هو كونه‬ ‫خليفة مكلف بتعمير الأرض بمنطق الأخوة البشرية (النساء‪ )1‬والمساواة بين كل البشر‬ ‫(الحجرات ‪ )13‬فلا يبقى إلى التفاضل بالتقوى أي باحترام الشرع‪.‬‬ ‫ومنزلة الإنسان الوجودية هذه \"رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\" تجعل‬ ‫الدفاع عنها عين المقوم الأساسي للإيمان أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر انشاء (آل‬ ‫عمران ‪ )104‬وخبرا (آل عمران ‪ )110‬وهما شرط الانتساب إلى الخيرية‪ :‬خير أمة‬ ‫اخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر‪.‬‬ ‫وبهذا المعنى نفهم قصدي بأن الحرب جزء من التسابق في الخيرات (المائدة ‪ )48‬لأن‬ ‫التسابق يقتضي تطبيق أمرين هما مضمون ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض‪:‬‬ ‫حماية الحرية الدينية بحماية دور العبادة كلها‪.‬‬ ‫حماية البشر والمستضعفين من الفساد في الأرض‪.‬‬ ‫وذانك هما مدلول الجهاد الهجومي وليس الدفاعي عن الذات وهما من جنس حق‬ ‫التدخل الإنساني في القانون الإنساني الحديث‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪25‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫من يصدق أن الخراسانيين ثاروا على دولة بني أمية حبا في اسلام العباسيين ينبغي أن‬ ‫يكون درويشا خاصة إذا علم مآل دولة العباسيين في أزهى عهدها كمن يتصور احتلال إيران‬ ‫الحالي للعراق من أجل اسلام العراقيين‪ .‬ومن يتصور الانقلاب على عثمان كان من أجل‬ ‫الإسلام كمن يصدق أن انقلاب السيسي كان من أجل الديموقراطية‪.‬‬ ‫ومهما قيل في دولة بني أمية من سفهاء الشيعة ومن اغبياء السنة فله صلة بتضخيم الأمر‬ ‫الواقع ونسيان الحروب الاهلية التي تلت اغتيال عثمان‪ .‬فلا تجد فقيها واحدا فرضت عليه‬ ‫دولة بني أمية أن ينفي أن شرعية التغلب أمر واقع وليست نظرية الإسلام الواجبة‪ .‬لا‬ ‫أحد جدل منهم جادل في مبدأ البيعة الحرة ومبدأ لجنة الترشيح ومبدأ شروط المرشح‬ ‫ومبدأ مرجعية الشريعة‪.‬‬ ‫لم يجادل فيها أحد في الأمور الواجبة شرعا ما يعني أن الأمر الواقع كان هو بدوره خاضعا‬ ‫لمبدأ الضرورة التي تبيح المحظور بسبب الحروب الأهلية ولم يكن عن طيب خاطر حتى‬ ‫وإن كان طبيعيا أن يواتي ميلا في النفس التي كما قال ابن خلدون لا يسهل عليها التخلص‬ ‫من «حب التأله» في السياسة خاصة والعرب لم يتخلصوا بعد من العصبيات وليس من اليسير‬ ‫أن تغير أربعين سنة من عمر الدولة ثقافة دامت قرونا قبل الإسلام‪.‬‬ ‫لذلك فـحتى الانقلاب على عثمان فإن ابن خلدون لا يفسره بما ينسب إليه من انحراف‬ ‫بل بموقف القبائل العربية الكبرى التي كانت تحتقر قريش ولا تعتبرها جديرة بحكمها‬ ‫فهي أكبر وذات حضارة من أطراف الجزيرة ومتأثرة بفارس(المناذرة) وببيزنطة‬ ‫(الغساسنة)‪ :‬انتقال عاصمة الخلافة إلى الكوفة ثم دمشق ليس صدفة‪.‬‬ ‫لماذا أقول هذا‪-‬وأنسبه إلى ابن خلدون إذ هو ذكر ذلك في فصل ولاية العهد من الباب‬ ‫الثاني من المقدمة حيث وضع نظرية عدم التأثيم بنظرية الطابع الاجتهادي لمسألة الحكم‬ ‫لقلب صفحة الفتنة الكبرى‪-‬لأني شرعت في الكلام على الأمر الواقع قبل الكلام على الأمر‬ ‫الواجب‪ .‬فقد بدأ بهذه الحالة الاستثنائية‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪26‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ولا يمكن أن تكون الأمة قد انتقلت بالطفرة من العهد الراشدي إلى الخلافة العضوض‬ ‫من دون ما حصل من مقاومة لثورة الإسلام في نظرية التربية وفي نظرية الحكم أي في بعدي‬ ‫السياسة التي تتردد بين حفظ رئاسة الإنسان كما حددها القرآن أو تفسد معاني الإنسانية‬ ‫كما آلت إليه بفعل الأمر الواقع الذي كان يكفي فيه الاستناد إلى السنن التي كانت سائدة‬ ‫في الامبراطورتين اللتين كانتا مسيطرتين على الاقليم فضلا عن عادات الجاهلية‪.‬‬ ‫وبهذا المعنى فكل تحليلات التشيع والاخوان ‪-‬وخاصة السيد قطب‪-‬مبنية في حالة حسن‬ ‫النية والسذاجة عند الثانين مبنية على عدم اعتبار سنن التاريخ وتوهم قيم الاسلام قابلة‬ ‫للتطبيق من دون تغيير ثقافي يتطلب قرونا حتى يصبح الأمر الواقع ساعيا للاقتراب من‬ ‫الأمر الواجب‪ .‬وأولى مراحل هذا الانتقال هو الانتقال في التشخيص الذي لا يكتفي بتعليل‬ ‫أحداث التاريخ بالإرادات بل لا بد من اكتشاف الموانع الموضوعية وتلك هي غاية المقدمة‪.‬‬ ‫فحتى قبل دور الخراسانيين الذين أنهوا مع العباسيين دولة بني أمية كانت الحرب الاهلية‬ ‫قد بدأت بين العرب مباشرة بعد وفاة الرسول أولا بين ما كانوا تصورونا الخلافة وراثية‬ ‫(جماعة علي) ومن يتصورونها قبلية (منا أمير ومنكم أمير) ومن حاولوا الشروع في تطبيق‬ ‫المفهوم القرآني للخلافة (الفاروق وأبو بكر)‪ .‬فانقسمت قريش يوم توفي الرسول واكتمل‬ ‫انقسام العرب مباشرة في حرب الردة‪ .‬فهذه لم تكن حربا دينية من أجل دفع الزكاة ‪-‬حتى‬ ‫وإن كان تبريرها كذلك‪-‬بل كانت حربا أهلية من أجل الاعتراف بالحكم بعد وفاة الرسول‬ ‫وعدم الرضا بالحل الذي حصل‪.‬‬ ‫فتردد علي في البيعة لم يكن من أجل دفن الرسول لأن الدفن لا يدوم شهورا بل كان‬ ‫رفضا للحل وكادت الدولة تضيع منذ اليوم الأول لولا حزم الفاروق والصديق‪ .‬وأنا‬ ‫شخصيا أعتقد أن عليا لم يكن أهلا للخلافة حتى لما وصل إليها بدليل أني لا أعلم أن الرسول‬ ‫كلفه بقيادة معركة واحدة من حروبه التي فاقت الستين بخلاف الاساطير التي تتكلم على‬ ‫بطولاته وقيادته‪ .‬وحتى البيعة بعد وفاة عثمان فهي لم تكن مكتملة فضلا عن موقف‬ ‫المتردد أمام الانقلاب على الشرعية بحضوره‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪27‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫كما أن اغتيال الفاروق وبيد من كان ذلك دليلان قاطعان عن طبيعة المشكلة ودور وضع‬ ‫العرب الهش في الدولة الجديدة وخاصة بعد الانقسام والشروع في الانتقال من العهد‬ ‫الراشدي إلى حالة الاستثناء أو حالة الطوارئ‪.‬‬ ‫وقد اضطررت لعرض هذا المنطق للأحداث حتى نخرج من السردية التي فرضها تأويل‬ ‫التاريخ بالمنظار المتشيع أو بالمنظار المثالي الذي لا يجيد قراءة التاريخ في بدايات تأسيس‬ ‫الدول‪ .‬والقاضي ابن العربي مثلا لم يكن يمزح عندما قال إن يزيد قتل بشرع جده‪.‬‬ ‫فالخروج على خليفة ‪-‬حتى وإن كانت شرعيته مقدوحة وقد فند ابن خلدون كل الحجج‪-‬‬ ‫في ظرف الطواري والحروب الأهلية لشرع جده فيه حكم معلوم‪.‬‬ ‫ولا وجه للمقارنة مع موقف الجامية الحالي‪ .‬فالقاضي ابن العربي ليس جاميا ولم يكن أي‬ ‫عالم فهو ند للغزالي وزميله في الدراسة‪ .‬لكنه كان يعلم طبيعة ما مرت به الخلافة بعد‬ ‫الانقلاب على عثمان وكان يعلم أن المبادئ التي ذكرتها كلها والمتعلقة بالأمر الواجب كانت‬ ‫محفوظة وأن الجميع كان يعلم أن ما يحدث أمر واقع في حالة طوارئ بمعنى أنه كان فعلا‬ ‫من الضرورات التي تبيح المحظورات وليس هو الأمر الواجب كما يرى الجاميون‪.‬‬ ‫فعندما أقرأ السيد قطب وكلامه على دولة الراشدين وكأنهم ملائكة وعلى الدولة الأموية‬ ‫وكأنها دولة شياطين أفهم أن الرجل لا يفهم في السياسة ولم يقرأ نظرية عدم التأثيم‬ ‫الخلدونية التي تؤسس التعددية السياسية وتنفي أن تكون السياسة بعدم التناقض‬ ‫وبالثالث المرفوع بل هي اجتهاد متعدد بالجوهر‪.‬‬ ‫فالرهان كان المحافظة على وحدة الأمة وحماية الاستراتيجية التي كانت فلسفة الفتح‬ ‫لتحرير الإقليم كله من الامبراطوريتين اللتين كانتا مسيطرتين عليه وكانت نخبهما قد‬ ‫اخترقت صف أقرب المقربين من \"آل\" البيت المزعومين لبث الفتنة في قريش وانهاء حكم‬ ‫الإسلام والعودة إلى ما سعى إليه الخرسانيون‪.‬‬ ‫ولهذه العلة اعتبرت دولة الإسلام التي وحدت داره وأقامت صرحه بنيت على خمسة‬ ‫أقوام هم أهل الإقليم وهم من يراد إدخالهم في حرب أهلية اثنية أو طائفية أو طبقية لمنع‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪28‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫استعادتهم لدورهم التاريخي‪ :‬العرب فالأتراك فالأكراد فالأمازيغ فالأفارقة أي أقوام‬ ‫ملتقى القارات القديمة الثلاثة ممن لم يكن لهم سبب للانتقام من الإسلام ولا من العرب‬ ‫بل كانوا مثلهم أقواما يستمدون دورهم ومجدهم من إنجازهم لتاريخه‪.‬‬ ‫وهذه مناسبة لأنزه ابن خلدون من تهمة تقال عادة لادعاء أنه كان قلبا في السياسة وكان‬ ‫ماكيافيليا وانتهازيا بمناسبة لقائه مع المغول في دمشق‪ .‬لقد كان ابن خلدون بذلك يبحث‬ ‫عما حدث بعده ببعض عقود قوة تعيد للأمة وحدتها‪ .‬فحقق العثمانيون ما كان ابن خلدون‬ ‫يبحث له لما أصبحوا هم القوة التي يحلم بها لتحقق ما ظن اكتشافه في المغول (بعد وفاته‬ ‫بقرن ونيف)‪.‬‬ ‫وكان طبيعيا أن يفعل وأن يكون من يطلب هذا الانقاذ من الغرب الإسلامي لأنه عاش‬ ‫مآسي الاندلس موطن أسرته وكان فيها سفيرا لما بقي من الطوائف المتناحرة والتي في‬ ‫النهاية كلنا يعلم ما آل إليه حال الأمة فيها وفي ما حولها خلال حروب الاسترداد وسعيها‬ ‫لاستعادة المغرب كله إلى إسبانيا والخليج إلى البرتغال لولا العثمانيين‪.‬‬ ‫وهذا هو بيت القصيد في كلامي على الاستراتيجيا الخلدونية‪ .‬فما نراه اليوم من تشويه‬ ‫كلاب الثورة المضادة للخلافة العثمانية هو من سموم بقايا الصليبيين والباطنيين بين‬ ‫القوميين في القرن ‪ 19‬وبداية ‪ 20‬للتمهيد لدور لاورنس العرب و\"الثورة العربية الكبرى\"‬ ‫وسايكس بيكو الأولى ووعد بلفور‪.‬‬ ‫فهم الآن يعدون لسايكس بيكو الثانية ووعد ترومب لإتمام صفقة بلفور بصفقة ترومب‬ ‫ولدور إيران وروسيا في ذلك دفع الأنظمة العربية العميلة للارتماء في أحضان إسرائيل‬ ‫وأمريكا بحيث تكون نفس الجماعة مرة ثانية ضحية للاورنسات متعددة هم الآن مستشارو‬ ‫\"زعماء\" الثورة المضادة ونخبها من الصفين‪.‬‬ ‫ما قلته عن ابن خلدون وقضية المغول في دمشق هدفه بيان أن الرجل لم يكن مجرد منظر‬ ‫للاستراتيجيا بل كان ممارسا لها ويعيش مآسي الأمة في عصره‪ .‬وقد كان يبحث عن نفس‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪29‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫جديد للأمة بشعب أكثر حيوية ‪-‬وهو يعتبر الحيوية رهن التوسط بين البداوة والحضارة‬ ‫التي تكون قاتلة للدول والعمران إذ بلغت أوجها‪ .‬وهو ما سأختم به المحاولة‪.‬‬ ‫وهذا الحل يصف الأمر الواقع ولا يتكلم على الأمر الواجب‪ .‬ذلك أن الأمر الواجب هو‬ ‫نظرية الإسلام في حصانة الامم المتحفزة دائما للرعاية والحماية شرطي السيادة للجماعة‬ ‫وشرطي الرئاسة للإنسان إذ يكون نظام التربية ونظام الحكم يجريان بالغاشية ‪22-21‬‬ ‫تربية الرسول وحكمة لحفظ معاني الإنسانية‪.‬‬ ‫وبهذا المعنى فالمقدمة كلها محاولة لتحديد الاستراتيجية التي يمكن أن تخرج الأمة من‬ ‫مآسيها باستخراج القوانين التي تحكم العمران البشري والاجتماع الإنساني بالتخلص من‬ ‫المدرستين اللتين كانتا سائدتين في تفسير الظاهرات السياسية والتاريخية‪:‬‬ ‫مدرسة المدن الفاضلة ممثلة بأفلاطون وبنوع من الباطنية والتشيع عند الفارابي وابن‬ ‫سينا بمنطق مدرسة اخوان الصفا التي تقابل بين الظلام والأنوار ممثلا بالتعليمية التي‬ ‫نقدها الغزالي‪.‬‬ ‫مدرسة الأحكام السلطانية ممثلة بكل فقهاء السياسة الذي يعتقدون أن السياسة تطبيق‬ ‫للشريعة وان خلدون لا يعتقد أن السياسة بحاجة إلى التأسس على الدين حتى وإن لم ينف‬ ‫أن الدين يزيدها قوة لكن أساسها هو العصبية بمراحلها الخمس‪.‬‬ ‫والآن فلنشرع في الكلام على تعليله لفساد معاني الإنسانية الذي يحول دون الرؤية‬ ‫الإسلامية دون أن يعتمد على مثالية أفلاطون ولا على الأحكام السلطانية‪ .‬فإليك ما يقول‪:‬‬ ‫(العلة الأولى الحكم) أما إذا كانت الأحكام بالعقاب فمذهبة للبأس بالكلية لأن وقوع‬ ‫العقاب به (بالإنسان) ولم يدافع عن نفسه يكسبه المذلة التي تكسر من سورة بأسه بلا‬ ‫شك‪.‬‬ ‫(العلة الثانية التربية) وأما إذا كانت الأحكام تأديبية وتعلمية واخذت من عهد الصبا‬ ‫ارت في ذلك بعض الشيء لمرباه على المخافة والانقياد فلا يكون مدلا ببأسه (‪.)....‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪30‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫\"ولا تستنكر ذلك بما وقع في الصحابة من أخذهم بأحكام الدين والشريعة ولم ينقص ذلك‬ ‫من بأسهم بل كانوا أشد الناس بأسا لأن الشارع صلوات الله عليه لما أخذ المسلمون عنه دينهم‬ ‫كان وازعهم فيه من أنفسهم لما تلا عليهم من الترغيب والترهيب لو يكن بتعليم صناعي ولا‬ ‫تأديب تعليمي إنما هي أحكام الدين وآدابه المتلقاة نقلا يأخذون أنفسهم بما رسخ فيهم من‬ ‫عقائد الإيمان والتصديق‪ .‬فلم تزل سورة بأسهم مستحكمة كما كانت ولم تخدشها أظفار‬ ‫التأديب والحكم‪ .‬قال عمر رضي الله عنه \"من لم يؤدبه الشرع لا أدبه الله\" حرصا على‬ ‫أن يكون الوازع لكل أحد من نفسه\"‪(.‬المقدمة الباب الثاني الفصل السادس)‪.‬‬ ‫وهنا يبرز البعدان في الاستراتيجيا التي تعنيني من كل هذه المحاولة‪:‬‬ ‫تربية الإنسان الحر‪.‬‬ ‫وحكم الإنسان الحر‪.‬‬ ‫والإنسان الحر هو الذي لم تفسد فيه معاني الإنسانية والذي هو \"رئيس بطبعه بمقتضى‬ ‫الاستخلاف الذي خلق له\" والمفهوم يعني أنه لا يعبد العباد بل يعبد رب العباد ومن ثم‬ ‫متصف بالفضائل الـخمس‪ .‬وهذا الفضائل الخمس هي التي تتأسس عليها استراتيجية‬ ‫الرعاية والحماية في الإسلام‪:‬‬ ‫الإرادة الحرة‪.‬‬ ‫العلم الصادق‪.‬‬ ‫القدرة الخيرة‪.‬‬ ‫الحياة الجميلة‪.‬‬ ‫الوجود الجليل‪.‬‬ ‫فمن كانت هذه صفاته فلا يمكن أن يقبل بـ\"حياة\" بديلا من \"الحياة\" وتلك هي قيمة القيم‬ ‫القرآنية وسر الجلال الوجودي‪ .‬والاستراتيجيا التي يهتم بها ابن خلدون مضاعفة‪ :‬ما‬ ‫الذي يفسد هذه المعاني أو القيم؟‬ ‫وكيف يمكن إصلاحها؟‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪31‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫تلك هي الاستراتيجية التي ينبغي تحديدها في \"علم العمران البشري والاجتماع‬ ‫الإنساني\" بصورة مختلفة تماما عما كان سائدا في المدرستين الفلسفية والدينية في عصره أي‬ ‫في ما وصفته بعلوم الملة المحرفة الخمسة‪ :‬التفسير أصلا للعلمين النظريين الكلام والفلسفة‬ ‫وللعلمين العمليين الفقه والتصوف‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪32‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫سؤال الاستراتيجيا عند ابن خلدون ليس متعلقا بالحرب بوصفها نشاطا معزولا ‪-‬وهذا‬ ‫سؤال تكتيكي وليس استراتيجيا‪-‬السؤال هو طبيعة دور الحرب في التسابق في الخيرات‪:‬‬ ‫{وَ َأن َز ْلنَا إِ َليْكَ الْ ِك َتابَ بِا ْلحَ ِقّ ُم َصدِّقًا ِّل َما بَ ْينَ يَ َديْ ِه ِمنَ الْ ِكتَا ِب وَمُ َهيْمِنًا َعلَ ْي ِه ۖ فَا ْح ُكم‬ ‫بَ ْي َنهُم بِ َما أَنزَلَ ال َّل ُه ۖ وَ َلا َتتَّبِ ْع َأ ْه َوا َء ُهمْ عَ َمّا َجا َء َك ِم َن الْحَ ِّق ۖ ِل ُكلٍّ َج َع ْل َنا ِمنكُمْ ِشرْ َع ًة‬ ‫َومِنْهَا ًجا ۖ وَ َلوْ َشاءَ ال َّل ُه لَ َج َعلَ ُكمْ أُ َمّةً وَاحِ َدةً َو ٰلَكِن ّلِ َيبْ ُلوَكُمْ ِفي َما آتَاكُمْ ۖ فَاسْتَبِ ُقوا ا ْل َخيْ َراتِ‬ ‫ۖ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُ ُكمْ َج ِميعًا َف ُينَبِّ ُئكُم ِب َما كُنتُمْ فِي ِه تَ ْخ َتلِ ُفو َن (‪})48‬‬ ‫فتكون الاستراتيجيا هي كيف تكون الحرب من أدوات التسابق في الخيرات وله شرطان‪:‬‬ ‫‪ .1‬الاعتراف بتعدد الخيارات الدينية‪.‬‬ ‫‪ .2‬المترتب على شرط حرية المعتقد‪.‬‬ ‫‪ .3‬الذي هو تبين الرشد من الغي‪.‬‬ ‫‪ .4‬والكفر بالطاغوت‪.‬‬ ‫‪ .5‬للإيمان بالله الذي هو المعبود الوحيد والذي كلفه بتعمير الأرض بقيم‬ ‫الاستخلاف‪.‬‬ ‫وهذا التعريف إذن متعلق بأبعاد التسابق في الخيرات أو بأبعاد منزلة الإنسان الوجودية‬ ‫وشروط تحقيقها ومنع فسادها أو علل الانحطاط من التقويم الأحسن إلى الرد أسفل‬ ‫سافلين‪ .‬فالآية ‪ 48‬من المائدة تحدد الهدف باعتباره تحقيق فرصة الوصول إلى الحقيقة من‬ ‫خلال الاختيار الحر للطريقة الموصلة إليها‪.‬‬ ‫وبهذا المعنى فالاستراتيجيا هي مضمون الأنفال ‪ 60‬بمعناها التام أو الاستعداد الرادع‬ ‫الذي يغني عن الحرب‪ .‬وإذا حصلت فهو يضمن النجاح فيها لأنها ليست صدام قوى فحسب‬ ‫بل هي تسابق في الخيرات أي الدفاع عن شروط حرية الخيار وتبين الرشد من الغي ومن‬ ‫ثم فهي استراتيجية سياسية خلقية للتربية والحكم بالأساس‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪33‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ليست إعداد جيش للحرب بل إعداد أمة لا أحد يجرأ على حربها لأن هزيمتها مستحيلة‪.‬‬ ‫فهي شعب من الأحرار لا يعبدون غير الله ولا يسمحون بأن يفرض أحد على أحد طريقه‬ ‫إلى الله‪ .‬وهو معنى \"ولولا دفع الله الناس بعضم ببعض لهدمت صوامع (مسيحية) وبيع‬ ‫(يهودية) وصلوات ومساجد (اسلام)‪.‬‬ ‫ففي البقرة ‪ 62‬ذكر دينا طبيعيا هو الصابئة‪ .‬وفي المائدة ذكر دينا طبيعيا ثانيا هو‬ ‫المجوسية وفي الحج ‪ 17‬ذكر حتى الشرك فاعتبر خيارا دينيا كذلك‪ .‬واشترط الوعد لأربعة‬ ‫بثلاثة شروط وأبقى اثنين (المجوسية والشرك ليوم الدين)‪ .‬والشروط هي الإيمان بالله‬ ‫واليوم الآخر والعمل الصالح‪ .‬وكلها تشارك في التسابق في الخيرات لتبين الرشد من الغي‪.‬‬ ‫لست أدعي أن المسلمين عملوا بهذه الاستراتيجية بل ولا حتى حافظوا على مبدئيتها‬ ‫بحجة أن بعضها قد نسختها آية السيف‪ .‬لكني أتكلم على استراتيجية السلم العالمية التي‬ ‫كان الإسلام يسعى إليها بمنع أهم علل الصراعات بين الأمم الصراع الديني الذي قضى‬ ‫بجعل حسمه يوم الدين وليس في الدنيا‪.‬‬ ‫طبعا وهذه السلم العالمية لا يمكن أن تتحقق من دون القدرة على ردع من يعكرها وذلك‬ ‫هو مضمون الآية ‪ 60‬من الأنفال وهي مضمون الاستراتيجية الدفاعية المؤلفة من القوتين‬ ‫ومن تحديد أصناف الأعداء المحتملين الخمسة الذين ينبغي الاستعداد لهم‪ .‬وهو تصنيف‬ ‫جامع مانع للمتوقع واللامتوقع من الأخطار‪.‬‬ ‫فأولا تحديد مفهوم القوة التي يحتاجها الردع ينقسم إلى نوعين‪ :‬القوة عامة ثم القوة‬ ‫العسكرية برمزها الأقوى أي رباط الخيل لكأنك قلت الآن الطيران مثلا‪ .‬أما القوة عامة‬ ‫فهي علة كل القوى الأخرى وهي صنفان كلتاهما ضرورية للرعاية والحماية وتستعمل علوم‬ ‫الطبيعة وتطبيقاتها وعلوم الإنسان وتطبيقاتها‪.‬‬ ‫وقد يظن المتسرع أني أقضي في الأمر تحكميا إذ ما أدراني أن القوة عامة هي ما ذكرت؟‬ ‫فلأورد الدليل‪ .‬كلنا يعلم أن فصلت ‪ 53‬تقول إن من يريد أن يتبين حقيقة القرآن فلينظر‬ ‫في ما يريه الله للإنسان من آياته في الآفاق وفي الأنفس‪ .‬فآيات الله فالآيات التي في الآفاق‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪34‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫هي قوانين الطبيعة وسنن التاريخ والآيات التي في الأنفس هي تجهيز الإنسان بما يجعله‬ ‫رئيسا بعلومهما وتطبيقاتها وخليفة بقيمهما وتطبيقاتها‪.‬‬ ‫ومرة أخرى نورد شهادة ابن خلدون‪:‬‬ ‫\"واستولت أفعال البشر على عالم الحوادث بما فيه فكان كله في طاعته وتسخره وهذا هو‬ ‫معنى الاستخلاف المشار إليه في قوله تعالى \"إني جاعل في الأرض خليفة\" فهذا الفكر هو‬ ‫الخاصة البشرية التي تميز الإنسان عن غيره من الحيوان‪ .‬وعلى قدر حصول الأسباب‬ ‫والمسببات مرتبة تكون إنسانيته‪ .‬فمن الناس من تتوالى له السببية في مرتين أو ثلاث ومنهم‬ ‫من لا يتجاوزها ومنهم من ينتهي إلى خمس أو ست فتكون إنسانيته أعلى واعتبر ذلك‬ ‫بلاعب الشطرنج‪ .‬فإن في اللاعبين من يتصور الثلاث حركات والخمس التي ترتيبها وعض‬ ‫ومنهم من يقصر عن ذلك ذهنه\" (المقدمة الباب السادس الفصل الحادي عشر)‪.‬‬ ‫هل يحتاج الأمر إلى مزيد من البيان؟ طبعا علماء الملة لم يفهموا هذا الكلام بدليل أنهم‬ ‫بدلا من أن يبحثوا في هذه القوة التي هي سلطان الإنسان على ما سخره الله له ليقوم‬ ‫بمهمته بشرط معرفة قوانينها واستعمالها في التعمير بقيم الاستخلاف وتلك هي دلالة فصلت‬ ‫‪ 53‬فضلوا تركها من اجل ما نهت عنه آل عمران ‪ 7‬والغرق في الرجم بالغيب‪.‬‬ ‫ولذلك فكل علوم الملة كانت ثرثرة لا تجدي نفسها لأنها لا تحقق سلطانا على ما سخره‬ ‫الله للخليفة بل حاولوا بدعوى علوم بما في آيات النص من تأويلات تهم عالم الغيب مثل‬ ‫الذات والصفات في الكلام ومثل الكشف في التصوف ومثل الاحكام في الفقه ومثل‬ ‫الإسرائيليات في التفسير والمطابقة في الفلسفة‪.‬‬ ‫والغريب أن أي متدبر للقرآن يرى أن القرآن لا يستدل بشرح آياته النصية بل بآيات‬ ‫الآفاق والأنفس أي بالنظام والترتيب الذي يتكلم عليه ابن خلدون في هذا النص البديع‬ ‫والذي يصل قدرة الفكر والذهن أو قوى الإنسان الإبداعية في تحقيق السلطان الذي‬ ‫للخليفة على شروط التعمير المادية والخلقية‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪35‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وطبعا لا ألوم من لا يصدق ما أقول في علوم الملة لأنه من العسير القول إن فشل الأمة‬ ‫الذريع في التعمير وفي الاستخلاف علته علوم الملة مضمونا والتربية والحكم شكلا وهي‬ ‫ثلاثتها أزالت معاني الإنسانية من المسلمين ولم تحقق أيا من شروط \"رئاسة الإنسان بطبعه‬ ‫بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\"‪.‬‬ ‫ولولا أن سبق وعد الله بحماية دينه وقرآنه لكانت الأمة قد انقرضت كما يتوقع ابن‬ ‫خلدون لكل أمة تفسد فيها معاني الإنسانية فترد في أسفل سافلين لأنها في الحقيقة انتقلت‬ ‫إلى الخسر فلم تعد تؤمن ولا تعمل صالحا ولا تتواصي بالحق ولا تتواصي بالصبر وتلك هي‬ ‫صفات جل الأمة حاليا إذا صدقنا القول‪.‬‬ ‫وعندما أسمع تخريف جماعة الإعجاز العلمي والإعجاز العددي أتساءل هل أصحابها‬ ‫قرأوا القرآن حقا واتبعوا وصاياه أم هم مازالوا يخرفون بخرافة \"أمك سيسي\" (مثل‬ ‫تونسي على السذاجة) ولم يقرأوا ما يقوله ابن خلدون في سخافة اعتبار حساب الجمل ذا‬ ‫دلالة علمية وهو مجرد مواضعة لكتابة الأعداد‪.‬‬ ‫وقد خصص ابن خلدون فصولا مطولة للعلوم الزائفة التي كانت سبب الانحطاط مثل علم‬ ‫الحروف والتنجيم وخفة الأصابع بالأرقام وحساب الجمل وكلها تدجيل في تدجيل ولا سلطان‬ ‫لها على أي شيء عدا مخيال العامة لأن القرآن يقول إن تبين حقيقتي ليس في نصي في‬ ‫الآيات التي في الآفاق وفي الأنفس‪.‬‬ ‫القرآن يوجهنا لمكامن القوة وعلماؤنا المزعومون يبحثون عن مكامن الضعف أعني‬ ‫الخرافة التي ليست صالحة حتى لاستعمال الرياضية الفكرية مثل الشطرنج‪ .‬فهب أن ما‬ ‫يقال عن الاعجاز العددي صحيح في نظم القرآن فذلك لا يقدم ولا يؤخر لأن نظمه لا‬ ‫يؤثر بطابعه العددي بل بطابعه الموسيقي‪.‬‬ ‫وتأثيره الموسيقي يمكن أن كون له دور في نفسية الإنسان حتى تقبل السماع اليه والتمعن‬ ‫في استدلاله العقلي على وجود الله وحكمة أفعاله ووحدانيته وعلاقته بالإنسان وبالعالم‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪36‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫من حيث هو خالقهما وآمرهما‪ .‬لكنهم لم ينطلقوا من ثم إلى معرفة قوانين خلق العالم رغم‬ ‫أن القرآن حدد طبيعتها‪ :‬بقدر‪.‬‬ ‫لو كانوا يفهمون معنى علم لما اعتبروا الإشارة إلى ما يشير إليه القرآن يسمى سبقا‬ ‫علميا‪ .‬فمثلا عندما يتكلم على ما يشبه الجاذبية فهذا ليس علما بل العلم أن يكتشف‬ ‫الإنسان العبارة الرياضية الدقيقة لقانون الجاذبية وقس عليه كل ما يتوهمون انه اعجاز‬ ‫مثل دحاها بمعنى كورها أو بسطها إلخ‪...‬‬ ‫وهذا العبث يمكن اعتباره تعويض العاجزين عن العجز بادعاء أن القرآن صندوق‬ ‫أدوات يجدون في كل شيء ولا يحددون طبيعة هذا الشيء الكل ما هو‪ .‬في حين أن القرآن‬ ‫يحدده‪ .‬وهو نوعان لا ثالث لهما‪ .‬فإذا تكلم على نفسه تكلم على دوره كرسالة وإذا تكلم‬ ‫على غيره أشار إلى ما ينبغي البحث عليه فيه‪.‬‬ ‫وبعبارة وجيزة وحاسمة‪ :‬كل علوم الملة لم تبق علوما بل هي موضوع تاريخ العلوم في‬ ‫مرحلة ماتت نهائيا وعلينا البحث عن بدائل وقد حاولت بما سميته المدرسة النقدية العربية‬ ‫بناء غزالي وتيمية وخلدونية محدثة متحرر من القول بالمطابقة المعرفية والقيمية واعتبار‬ ‫المعرفة والقيم اجتهادات إنسانية‪ .‬والقرآن من حيث هو رسالة يشير إلى ما على الإنسان‬ ‫عمله ليحقق مهمتيه‪:‬‬ ‫‪ .1‬التعمير‬ ‫‪ .2‬بقيم الاستخلاف‪.‬‬ ‫وقد جهزه الله بشروط التعمير وهي ما أشار إليه ابن خلدون في النص الذي أوردته أي‬ ‫العلم وتطبيقاته والقيم وتطبيقاتها ولا علم ولا قيم إلى ما أبدعه العقل الإنساني وذلك‬ ‫ما يقوله القرآن صراحة‪ .‬فلا يمكن أن يكون القرآن رسالة من مرسل (الله) إلى مرسل‬ ‫إليه (الإنسان) تحتوي على ما أعلنت صراحة أن الإنسان لا يستطيع علمه‪ :‬ما أعلمته‬ ‫بوجوده واعلنت أن مضمونه لا يمكن أن يعلمه لا يمكن أن تحتوي عليه‪ .‬وإلا أصبح مضمونه‬ ‫عديم الفائدة‪ .‬إنها إذن لا تتضمن علما بالغيب بل إعلام بوجوده وبضرورة الإيمان به‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪37‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫دون القدرة على علمه في الحياة الدنيا‪ .‬ولما كان النبي نفسه لا يعلم الغيب فإن من يدعي‬ ‫وجود مضمونه وعلمه في القرآن دجال‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪38‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫سأعود للكلام على تصنيف الأعداء في الأنفال ‪ .60‬وسبق أن كتبت في ذلك‪ .‬أما الآن فعلينا‬ ‫أن نتكلم في الاستراتيجية التي هي ليست متعلقة بجيش يحارب بل بأمة تستعد للمشاركة في‬ ‫سباق الخيرات لتحقيق شروط رئاسة الإنسان أو جدارته بمنزلته الوجودية التي هي‬ ‫الخلافة‪ .‬وذلك بالتربية والحكم‪.‬‬ ‫وإذا كانت التربية تعده علميا وقيميا بوصفهما فرض عين للرعاية (التعمير) والحماية‬ ‫(الخلافة) فإن التكوين في الدفاع جزء من التربية تماما كالعلوم وتطبيقاتها وكالقيم‬ ‫وتطبيقاتها حتى يكون الإنسان أهلا للرعاية والحماية‪ .‬وهذا هو أول مرحلة في‬ ‫الاستراتيجيا أو البعد الأول من السياسة‪.‬‬ ‫إذا كان التكوين العلمي والقيمي فرضـي عين على الذكر والأنثى وكان الغاية منهما هي‬ ‫اعداد الإنسان للتعمير بقيم الاستخلاف فالتربية العلمية والخلقية والدفاعية هي الجزء‬ ‫الأول من الاستراتيجيا الإسلامية للرعاية (سد الحاجات) والحماية (بقيم الاستخلاف التي‬ ‫تقلل من السلوك العنيف وتعوضه بالسلوك اللطيف)‪ .‬كيف ذلك؟‬ ‫لا ننس نص ابن خلدون‪ :‬التربية النبوية لا تفسد معاني الإنسانية لأنها تنمي الوازع‬ ‫الذاتي النابع من النفس وتحد من الحاجة إلى الوازع الأجنبي الذي يكون فيه الوزع آتيا‬ ‫من خارج الذات‪.‬‬ ‫وهنا لا بد من الإشارة إلى أمر لم يبرزه ابن خلدون‪ .‬وهو كيف يخرج الإنسان من الخضوع‬ ‫لإنسان آخر؟‬ ‫أو كيف يكون أمر من كلف بالأمر فرض كفاية ليس هو الآمر في الحقيقة بل القانون الذي‬ ‫أمده بشرعية أن يكون آمرا‪.‬‬ ‫فعندما يطيع زيد أمرا صدر عن عمرو فإن الأمر يكون إما تعبيرا عن إرادة عمرو لا غير‬ ‫أو عن طاعة عمرو هو بدورة لإرادة كلاهما متساويان أمامها وهي الإرادة التي تضفي‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪39‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الشرعية على الأمر من الآمر والطاعة من المأمور‪ .‬وذلك هو ما يضفي السلمية على العلاقة‬ ‫أعني المساواة أمام الأمر الذي يكون صاحبه ليس الآمر المباشر بل الآمر غير المباشر الذي‬ ‫يضفي الشرعية التي تجعل ممثلا لإرادة يتساويان أمامها‪ :‬وهنا يتدخل الوازع الذاتي أي‬ ‫طاعة القانون أو التقوى‪.‬‬ ‫وهذا العلاقة تقال سلبا‪ :‬لا طاعة في معصية‪ .‬زيد لا يطيع عمرو لأنه عمرو بل لأنه هو‬ ‫بدروه يطيع الله‪ .‬فإذا رأي زيد أن أمر عمرو ليس طاعة لله بل فيه معصية صار من حقه‬ ‫رفض الأمر إذ لا طاعة في معصية‪ .‬فيكون مطيعا لله وليس لعمرو‪ .‬وهذا يعني أن الطاعة‬ ‫شرط فرض عين حتى وإن كان الأمر بيد من عين ليقوم به فرض كفاية‪.‬‬ ‫ولما كان المأمور هو الذي يحدد إن كان الآمر مطيعا للشارع في أمره فإن الحكم هو بيد المأمور‬ ‫وليس بيد الآمر‪ .‬زيد يطيع أمر ما أطاع عمرو نفس الأمر الذي يصدر عن الشارع سواء‬ ‫كان تشريع رب العباد أو تشريع الجماعة التي هي خليفته إذا شرعت بحرية بمنطق‬ ‫الشورى ‪ .38‬لا يوجد عبد يأمر عبدا إلا إذا كان المأمور في وزعه الذاتي يشعر بأن الأمر‬ ‫فيه طاعة لتشريع شرعي وليس طاعة للمكلف بتبليغ الأمر في النظام‪.‬‬ ‫وهذا يصح في المعرفة وفي القيمة وفي الرعاية وفي الحماية‪ .‬ففي العلم المتعلم لا يطيع‬ ‫المعلم في مسألة البحث عن الحقيقة بل يطيع علاقة عقله المدرك الحقيقة المدركة باعتبارها‬ ‫هي المرجع المعبر عن إرادة الله أو آياته في الآفاق وفي الأنفس‪ .‬في القيمة نفس الشيء‪.‬‬ ‫وفي المعاملات وخاصة في الحرب نفس الشيء‪ :‬قيام الجندي بواجبه لا يطيع القائد إذا كان‬ ‫عاصيا‪.‬‬ ‫وهذا يعني أن كل وازع أجنبي ينبغي ألا يكون وازعا بسبب الخوف أو الطاعة العمياء بل‬ ‫لأن الوازع الذاتي مقتنع بأن الوازع الخارجي (القانون) شرعي أي له شرعية الصدور عن‬ ‫ذلك الشخص الذي كلف فرض كفاية باسم الأمة التي هي صاحبة الأمر بأن يكون قائدا في‬ ‫تلك المهمة‪ .‬فطيع القانون وليس الناطق باسمه‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪40‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وبذلك يصبح الجميع‪-‬وهذا فرض عين‪-‬رقيبا على شرعية القانون‪ .‬فالقانون يعبر عن‬ ‫إرادة الجماعة إذا كان وضعيا وهـي في النهاية إرادة الله في ما فوضه الله للإنسان من‬ ‫اعتبار الأمر أمر الجماعة تديره بالشورى (الشورى ‪ .)38‬ومن ثم فالوازع الخارجي‬ ‫(القانون) يستمد قوته من الوازع الذاتي (الضمير الخلقي)‪.‬‬ ‫وقد يثير ما أقوله سؤالا مهـما‪ :‬كيف يمكن أن تسير الأمور إذا كان كل فرد مراقبا لشرعية‬ ‫القانون؟‬ ‫فهل يمكن للدولة أن تعمل في هذه الحالة وخاصة في حالة الحرب؟‬ ‫والجواب إذا كان المجتمع قد ربى أجياله على هذه الأخلاق فإن الأمر لا يتعلق بالأشخاص‬ ‫بل بشرعية القانون وغالبا ما يكون الجميع مؤديا دوره بحرص لا مثيل له‪ .‬والسؤال حينها‬ ‫يكون هل له شرعية الأمر والنهي باسم الجماعة أم لا وغالبا ما يكون المكلف بذلك حريصا‬ ‫على عدم المس بهذا المبدأ لأنه يتعامل مع من يقول للفاروق مثلا‪ :‬لو رأينا فيك اعوجاجا‬ ‫لقومناه بحد السيف‪.‬‬ ‫وهذا هو معنى الجماعة المؤلفة من الأحرار‪ .‬فالحر لا يطيع الحر إلا لأن الحر الآمر هو‬ ‫بدوره يطيع القانون وحاز منزلة الآمر باسم القانون حيازة شرعية وليس مغتصبا لهذا‬ ‫الدور‪ .‬وهو معنى \"والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما‬ ‫رزقناهم ينفقون\"‪ .‬وهذا هو خط الدفاع الأول على منزلة الإنسان الوجودية بوصفه خليفة‬ ‫\"رئيسا بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\"‪.‬‬ ‫أما خط الدفاع الثاني فهو الحكم بنفس المنطق الذي ذكرناه في التربية‪ .‬إذا كان طلب‬ ‫الحقيقة بالعقل هو الحكم بين المعلم والمتعلم وليس للمعلم سلطة على المتعلم غير سلطة‬ ‫العقل في إدراك الحقيقة ونفس الأمر في إدراك القيم فالأمر كذلك في إدراك المصلحة‬ ‫وشرعية من يتكلم باسمها نيابة شرعية عن الأمة‪.‬‬ ‫ما من أحد يقرأ هذا الكلام على التربية أو على الحكم إلا ويعتقد أنه من المثاليات‬ ‫الأفلاطونية‪ .‬وما من أحد يقع عليه ظلم إلا وينتهي في الغاية إلى مثلها ما يعني أن المشكل‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪41‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫كله في ما سماه ابن خلدون \"حب التاله\" عند الإنسان الذي ينسى منزلة الإنسان الكونية‬ ‫فيتوهم إلغاء غيره ممكنا مع بقائه هو ولا يدري أن الغاء الإنسان في الغير إلغاء للإنسان‬ ‫في الذات‪.‬‬ ‫فمنزلة الإنسان الوجودية من خصائصها أنها لا تكون إلا كونية وتبادلية وهو معنى‬ ‫التعارف في الحجرات ‪ :13‬فكل من يتأله يلغي منزلته قبل الغاء منزلة من يتأله عليهم‪.‬‬ ‫فيكون من حيث لا يعلم يخادع نفسه قبل مخادعة غيره‪ .‬فأي مستبد وفاسد‪-‬وهو المتأله‬ ‫بالقوة المادية أو بالقوة الروحية‪-‬يكون عبدا لمستبدين وفاسدين يحمي بهم استبداده‬ ‫وفساده‪.‬‬ ‫وأبدأ بالمتأله بالقوة اللامادية‪-‬القطب الصوفي‪-‬هو أكثر الناس كذبا وتحيلا ويحتاج‬ ‫لإضفاء المصداقية على كذبه إلى شهود زور يمثلون بطانة يعلم أنها تعلم أنه كاذب‬ ‫فيقاسمهم ثمرة تألهه \"تحت الطاولة\" ويتظاهر الجميع بأن ما يدعيه حقيقة وأنه ذو‬ ‫كرامات وأنه يعلم الغيب وأنه إلخ‪ ...‬وكل ذلك كذب في كذب‪.‬‬ ‫وقس عليه المتأله بالقوة المادية‪ .‬هو أيضا يحتاج إلى شهود زور يكونون في الغالب أكثر‬ ‫انحطاطا منه‪ .‬فلو لم يكن السيسي مثلا محيطا نفسه بمن هم أفسد منه ويستفيدون بما‬ ‫يقوم به لكانت رصاصة واحدة من رجل صادق كافية لمحوه من الوجود‪ .‬التأله ماديا كان أو‬ ‫لا ماديا عرض لظاهرة هي السلطان الكاذب لمافية تختار من بينها من تدعي له قوى خارقة‬ ‫في الظاهرة وهو دمية‪.‬‬ ‫والمثال هو المرجعيات في النظام الشيعي وهم كما يعلم الجميع أفسد مخلوقات على وجه‬ ‫البسيطة إلا من رحم ربي وكلهم دمى لمافيات ويصح ذلك على جل ما يسمى رجال الدين‬ ‫إلا ما ندر في كل الأديان‪ .‬والدكتاتوريون في النظام العسكري دمى لمافيات وغالبا ما يكون‬ ‫جبناء‪ .‬والممانعون أبطال أمام الشعب وهم دمى بيد المافيات الشيعية والتقدميون أبطال‬ ‫في راي المثقفين وهم دمى بيد المافيات العسكرية‪ .‬ومن ثم فكل ما يجري من بطولات وهمية‬ ‫خدع الذراعين في الإقليم‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪42‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فالحمقى الثلاثة الذين يقودون الثورة المضادة‪-‬السيسي وأمير المنشار ووجه الحمار‪-‬‬ ‫دمى تحركها المافية الصهيونية والفرق بنيهم وبين من سبقهم هم أن هؤلاء بعد الثورة لم‬ ‫يعودوا قادرين على اخفاء هذه اللعبة‪ .‬ونفس الأمر في للحمقى الثلاثة الآخرين الذين‬ ‫تحركهم المافية الصفوية‪ :‬بشار ولسان الجرو وشلايك العراق‪.‬‬ ‫الكلام على الحكم من حيث هو جزء من الاستراتيجيا القرآنية التي يعبر عنها ابن خلدون‬ ‫هو علاج هذه الظاهرات‪ :‬كيف لا يكون الحكم تالها بيد دمى تحركها مافيات‪ .‬حل القرآن‬ ‫هو ما وضعته الآية ‪ 38‬من الشورى‪ .‬وفيه خمسة عناصر وهي مقومات الحكم الراشد بحق‬ ‫والحائل دون التأله في التربية والحكم‪.‬‬ ‫فماذا تقول الآية؟‬ ‫أولا تحدد طبيعة الجماعة السوية بسلوكها ومرجعيتها‪\" :‬والذين استجابوا لربهم\"‪.‬‬ ‫الاستجابة سلوك والرب مرجعية‪ .‬والاستجابة فعل حر‪ .‬والرب أعم من الإله‪ .‬وإذن‬ ‫فالاستجابة تشمل البشرية كلها‪ .‬والكلام على الإنسانية كلها من حيث هي محافظة على‬ ‫منزلتها الوجودية استجابة حرة لرب‪.‬‬ ‫ثم تذكر الآية علامة على الاستجابة وهي إقامة الصلاة ‪-‬دون تحديد نوعها وإذن فالقصد‬ ‫عبادة الإنسان لربه بحرية ولا تعني صلاة معينة مثل صلاة المسلمين أو غير المسلمين أي‬ ‫عبادة وأدناها الدعاء وهو المعنى الأدنى لمفهوم الصلاة‪ .‬وهي علامة على العنصر الأول‬ ‫وليست من عناصر الآية المقومة لها‪.‬‬ ‫ثم يأتي العنصر الثاني وفيه ضمير لأن \"وأمرهم\" تعني \"والأمر الذي هو أمرهم\" أي‬ ‫سياسة الشأن العام وهو معنى الأمر ومنها الأمير والإمارة و\"أمير المؤمنين\" اللقب الذي‬ ‫اختاره الفاروق وهو أفضل من خليفة رسول الله ولو أبقينا على لقب الخليفة لكان الأفضل‬ ‫القول خليفة الخلفاء أي الامة‪ .‬وهذا يعني تحديد طبيعة النظام السياسي‪ .‬فهو أمر‬ ‫الجماعة التي استجابت لربها بالمعنى الذي شرحت أي سلوك حر كوني ليس تابعا لدين‬ ‫معين‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪43‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فتكون \"أمرهم\" تعني \"أمر الجماعة التي استجابت لربها بحرية وعن قناعة\" ومن ثم التي‬ ‫لا تعبد سواه فتخلصت من عبادة العباد برب العباد‪ .‬وذلك هو \"شعار الفتح\" وما يترتب‬ ‫عليه من أن الذي يسلم يصبح له ما للمسلمين وعليه ما عليه‪ .‬وهذا يسمى بالمصطلح‬ ‫الفلسفي لطبيعة الأنظمة السياسية في لغة العصر الذي نزل القرآن أي باللاتينية \"راس‬ ‫‪+‬بوبليكا\" أي جمهورية‪ :‬النظام جمهوري‪.‬‬ ‫ثم يأتي العنصر الثالث وهو \"شورى بينهم\" أي يدار بالتشاور بين الجماعة التي استجابت‬ ‫لربها لأن الأمر أمرها‪ .‬فيكون المعنى تحديد أسلوب الحكم بعد طبيعته‪ .‬فبعد تحديد سلوك‬ ‫الجماعة الوجودي (الاستجابة الحرة) وتحديد المرجعية الروحية (الربوبية) وتحديد‬ ‫طبيعة النظام (طبيعة النظام) يأتي تحديد أسلوب حكمه‪.‬‬ ‫وأسلوب الحكم عرف هنا بالمصطلح الذي كان سائدا عند نزول القرآن وهو حكم الشعب‬ ‫لذاته \"شورى بينهم\"‪ .‬وهو باليونانية في ذلك العصر ديموقراطية ولكن ليس بالمعنى‬ ‫التحقيري الذي كان للكلمة عند أفلاطون خاصة وحتى عند أرسطو في تصنيف الأنظمة‬ ‫بمعياري عدد الحكام وأخلاقهم‪.‬‬ ‫وبذلك نصل إلى العنصر الأخير في تحديد السياسي عندما يكون في جماعة حرة وهو علة‬ ‫كل الصراعات بين البشر وهدف هذه المرجعية وهذا النظام وهذا الأسلوب هو حله سلميا‪:‬‬ ‫إنه الانفاق من الرزق‪ .‬وتلك هي شروط الحكم الراشد الخمسة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪44‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫من يعتقد الكلام على السياسة بوجهيها تربية وحكما من حيث الأدوات ورعاية وحماية‬ ‫من حيث الغايات ليس من الاستراتيجيا فقد أرشدته لمعناها عند الصيني (سنت تسو)‬ ‫والألماني (كلاوس فيتز)‪ .‬لكني مـهتم بها عند ابن خلدون الذي هو أبعد غورا من هذين‬ ‫الرجلين على ما لهما من فضل في تحليل فنون الحرب بالصورة التي وصفت بداية‪.‬‬ ‫وقد بينت أن الحرب في الإسلام ليست معركة بين جيشين بل هي معركة بين أمتين على‬ ‫الأقل وهي في المنظور القرآني ليست للتخريب كما يراها الصيني ولا للتهديم كما يراها‬ ‫الألماني بل هي جزء لا يتجزأ من معركة وجودية هدفها التسابق في الخيرات لأن الحرب من‬ ‫أدوات احقاق الحق رغم أنها قد تستعمل في عكس غايتها مثل العلم الذي يمكن أن يصنع‬ ‫الدواء والسم وأن يسهم ي الحماية والعدوان‪.‬‬ ‫ولأن الإسلام أقر هذه الحقيقة‪-‬وهي حقيقة سواء كان المجتمع بدائيا أو متحضرا‪-‬فإنه‬ ‫أنشا الجماعة التي لا يمكن أن تهزم أبدا‪ .‬فإذا سقط شعب مسلم عوضه شعب مسلم آخر‬ ‫يعتبر حرب الأمة حربه فتتوالى الفزات ولا يمكن أن تسقط دولة الإسلام أبدا مهما ضعفت‬ ‫لتوالي الشعوب على حمايتها وقد ذكرت خمسة منهم‪.‬‬ ‫وبهذا المعنى يعتبر ابن خلدون الدولة رغم كونها لا تتأسس إلى على العصبية أو القوة‬ ‫السياسية بدرجاتها الخمس (الدم والولاء المصلحي والولاء القومي والولاء العقدي الجزئي‬ ‫والولاء العقدي الكوني الذي يشمل الإنسانية وهو المعنى القرآني للأمة المخاطبة بالرسالة‬ ‫الخاتمة) فإنها يمكن أن تستغني عنها عندما تصبح جزاء من العقيدة التي تجعلها عين قيام‬ ‫أمة الأحرار التي تعمل كالجسد الواحد وهو معنى الأمة والدولة التي تتجاوز الأعراق‬ ‫والأقوام بمنطق \"جعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا\"‪.‬‬ ‫فلما ضعف الشعب العربي أخذ المشعل الشعب الكردي ثم التركي في المشرق ثم الأمازيغي‬ ‫وثم الافريقي في المغرب وبقي الإسلام عزيزا رغم كل ما مر به من مآس وهو اليوم يعيد‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪45‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫السعي للاستئناف رغم تكالب جل قوى العالم عليه لما فيه ولموضعه المكاني والزماني في‬ ‫جغرافية الإنسانية وتاريخا العالميين‪.‬‬ ‫ولا يعنينـي كيف نربح معركة بصرف النظر عن أهدافها سواء بالقوة اللطيفة أي بالتحيل‬ ‫والاختراق (الصيني) أو بالقوة العنيفة أي بوسائل تدمير العدو (الألماني) بل العكس من‬ ‫ذلك تماما كما يعنيني هو كيف نبني أمة هدفها تحرير الإنسانية من هذين الأسلوبين‬ ‫المنافيين للأخوة البشرية (النساء ‪ )1‬وللمساواة بينهم (الحجرات ‪.)13‬‬ ‫ولهذه العلة فابن خلدون لم يسم علمه باسم خاص بأمته أو قومه بل سماه \"علم العمران‬ ‫البشري و(علم) الاجتماع الإنساني\"‪ .‬والأول يتكلم في شروط التعمير من أجل البشر‬ ‫كلهم‪ .‬والثاني يتكلم في شروط قيم الاستخلاف من أجل الإنسانية كلها‪ .‬وهذه هي‬ ‫الاستراتيجية القرآنية في الرسالة الكونية الخاتمة‪.‬‬ ‫وإذا كنت ألح على الطابع الكوني والإنساني في فكر المدرسة النقدية العربية (الغزالي‬ ‫وابن تيمية وابن خلدون) فلأني في آن ألوم واعذر من يكذب هذا الموقف من الكونية في‬ ‫الرسالة الخاتمة‪ .‬ألوم نفاتها لأنها بينة لكل ذي عقل سليم وحكم نزيه‪ .‬واعذرهم فمآل‬ ‫الرسالة في علوم الملة وسلوكها يؤيد نفيهم‪.‬‬ ‫والمعلوم أن الغزالي شرع في النقد ولم يصل إلى ثمرته لنكوصه إلى القول بالمطابقة من‬ ‫خلال القول بالكشف ثم من خلال تبني الرؤية السينوية وجعلها أصل ما سيتحقق بعده من‬ ‫قول الكلام بالمطابقة في النهاية‪.‬‬ ‫لكن ابن تيمية عالج مسألة النظر والعقد ليبين امتناع القول بنظرية المعرفة المطابقة‬ ‫ومن ثم فقد غير نظرية الكلي الذي يطلبه العلم‪ .‬لم يعد مقوما لموضوع العلم الذي نبحث‬ ‫عن شروط التعامل معه دون التأكد من أن ما نختاره من أعراضه هو حقيقته وبل صار‬ ‫مقوما للعلاج الإنساني عن طريق التقدير الذهني الذي يجعل المعاني نفسها رموزا لقول ما‬ ‫ندركه من الأشياء‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪46‬‬ ‫الأسماء والبيان‬