Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore مراجعة وسمية أو التخميس بنية أدنى للمفهوم والقيمة - أبو يعرب المرزوقي

مراجعة وسمية أو التخميس بنية أدنى للمفهوم والقيمة - أبو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2019-10-09 10:17:34

Description: مراجعة وسمية أو التخميس بنية أدنى للمفهوم والقيمة - أبو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪re nils frahm‬‬ ‫مراجعة وسمية‬ ‫أو التخميس بنية أدنى للمفهوم‬ ‫والقيمة‬ ‫الأسماء والبيان‬





‫المحتويات ‪2‬‬ ‫‪ -‬الفصل الأول ‪1 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثاني ‪13 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثالث ‪22 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الرابع ‪30 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الخامس ‪39 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل السادس ‪49 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل السابع ‪57 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثامن ‪65 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل التاسع ‪76 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل العاشر ‪84 -‬‬ ‫المعادلة الوجودية أو رموز كيان الإنسان ‪88‬‬ ‫‪ -‬خاتمة ‪91 -‬‬

‫‪--‬‬ ‫بدأت منذ أكثر من عقدين أي منذ شرعت في قراءة القرآن فلسفيا المراجعة الوسمية‬ ‫(مراجعة نظرية السيميوتكس) بهدف تأسيس رؤية للمعاني الكلية تعتبرها رموزا من جنس‬ ‫اللغة والكتابة وتنفي عنها ما كان ينسب إليها من وظيفة تجعلها مقومة لماهيات الأشياء‪.‬‬ ‫فقد كانت تعتبر في الفلسفة القديمة والوسيطة وصارت بعد هيجل وماركس من جديد ما‬ ‫كانت في القديم والوسيط مقومات للأشياء التي ترمز إليها بعد محاولات المثالية الألمانية‬ ‫نفي ثمرة النقد الكنطي وتمييزه بين الفينومان والنومان أو بين علم الظاهرات وامتناع‬ ‫علم حقيقة الأشياء في ذاتها‪.‬‬ ‫ورغم أن النكوص الهيجلي الذي تبناه ماركس فيه دور للثليث المسيحي فإن العلة الدينية‬ ‫ليست دافعي لمراجعة بنية المفهوم والقيمة وبيان طابعها المخمس لأن وصولي إلى هذه‬ ‫القناعة ليس فيه للدين دور أصلي حتى لو طابق ذلك دور المخمس في الكثير من معاني‬ ‫الإسلام وخاصة في أحكام أفعال العباد‪.‬‬ ‫فلست أسعى إلى تعويض التثليث بالتخميس بدافع ديني‪ .‬ذلك أنه حتى لو سلمنا بوجود‬ ‫هذا الدافع فإنه ليس من طبيعة الدافع الهيجلي لان التثليث المسيحي يتعلق بكيان الرب‬ ‫الذي هو مطلق الوحدانية في الإسلام ومن ثم فلا يكون من جنسه لعدم تعلقه بالذات‬ ‫الإلهية‪ .‬فالتخميس الإسلامي يتعلق بنظام القيم والأحكام ليس في ذاتها بل من حيث هي‬ ‫أحكام إنسانية على أفعال البشر في تعاملاتهم وليس في حقائقهم بسبب كون هذه من‬ ‫السرائر التي لا يعلمها إلى الله‪.‬‬ ‫وإذن فلست معنيا لا بالتثليث ولا بتعويضه بالتخميس من منطلق ديني رغم أن هيجل وصل‬ ‫التثليث المنطقي والوجودي بالتثليث المسيحي‪-‬في فلسفة الدين‪-‬ما جعل فلسفته تطابق بين‬ ‫المنطق والميتافيزيقا وبين الأنطولوجيا والثيولوجيا إذ هو جعل محاولة قول الإنسان الوجود‬ ‫عين الوجود واعتبر ذلك مصالحة بين الله والعالم‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪1‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫منطلقي لا علاقة له بهذه القصة رغم أن الكلام فيها ترتب علي علاجي لها من منطلقين‬ ‫لا علاقة لهما بما يظن خيارا تحكميا له دوافع دينية رغم أن هذه الدوافع ليست غائبة في‬ ‫الحل الهيجلي‪ .‬فتعويضي للتثليث الذي سيطر بمقتضى الرؤية الجدلية التي أسس عليها‬ ‫هيجل منطقه الجدلي علته فلسفية خالصة تماما كما حصل للقاء الأول مع الفلسفة التي‬ ‫كانت تقول بعلة رفضي لهذه الرؤية التي تعود إلى وهمين علتهما إطلاق العقل ونفي الغيب‬ ‫بسبب‪:‬‬ ‫• القول بنظرية المطابقة في المعرفة‪.‬‬ ‫• القول بنظرية المطابقة في القيمة‪.‬‬ ‫ولا أنفي أن العلة الفلسفية الخالصة ذات صلة بما حصل في النقلة الهيجلية من المنطق‬ ‫ثنائي القيمة إلى المنطق ثلاثي القيمة أي من منطق أرسطو إلى منطق هيجل وصلا بين‬ ‫التحريفين الفلسفيين اللذين لا يمكن أن يقبلهما العقل فضلا عن الدين‪ .‬لكن علاقة‬ ‫محاولتي بهذه العلاقة بالتحريفين وصلتهما بالتثليث ليست مباشرة بل هي نتجت عما ترتب‬ ‫عليها في مسألة الوسميات ونظرية المعرفة ونظرية القيمة‪.‬‬ ‫فالتثليث يتألف من الوضع (تاز) ونقيضه (انتاز) والحصيلة (سنتاز) بفضل مفهوم‬ ‫التجاوز الهيجلي أو النسخ المحافظ على المشترك ‪ Aufhebung‬بين الوضع ونقيضه وعلته‬ ‫الخفية هي ما كان يعتبر في المنطق الأرسطي ثالثا مرفوعا نتيجة للقول بالمنطق الثنائي أو‬ ‫علة له وصار في المنطق الهيجلي موضوعا بوصفه حصيلة تفاعل المتناقضين‪.‬‬ ‫والحاجة إلى هذه المراجعة أوصلني إليها مصدران مختلفان تماما عن الرؤية الهيجلية التي‬ ‫أسس عليها التثليث‪ .‬وهما يبينان أن التخميس الذي ملت إليه بخلاف ظن الكثير ليس ذا‬ ‫مصدر ديني مثل التثليث لعدم علاقته بمفهوم الرب رغم ما يبدو من تماثل سطحي من حيث‬ ‫العلاقة بالدين المسيحي في التثليث والعلاقة بالدين الإسلامي في التخميس‪ .‬لكن هذا يتعلق‬ ‫بقيم الأحكام على أفعال العباد وذاك يتعلق بكيان الرب‪ .‬وشتان بين الأمرين لأن الاول‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪2‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫له علاقة مباشرة بنظرية المعاني الكلية من حيث هي رامزة والثاني يتعلق بجوهر الذات‬ ‫الإلهية‪.‬‬ ‫فلو كان المنطق الجدلي مقبولا عندي لقبلت بنظرية الرمز وعلاقته بمرمزوه ونظرية‬ ‫المعرفة وعلاقتها بموضوعها ونظرية القيمة وعلاقتها بموضوعها السائدة ثلاثتها ولما رفضت‬ ‫الحل الهيجلي حتى لو وصله هو بحجته الدينية لأن هذا الوصل ليس مهما عندي ما دمت‬ ‫لست ابحث عن الحقيقة في الرؤية الدينية ولا أنقد رؤاها في الأديان المتعددة إذ حتى من‬ ‫منظور إسلامي فالحسم في تعدد الرؤى الدينية مؤجل إلى يوم الدين‪.‬‬ ‫وإذن فدافعي علته أعمق من ذلك بكثير‪ .‬فأنا أرفض ما أسس عليه هيجل نظرية القضية‬ ‫التأملية بدعوى تجاوز القضية الحملية بالمعنى الأرسطي للكلمة تأسيسا كان دافعه فيه‬ ‫محاولة فلسفية هي الموضوع المشترك لكل المثالية الألمانية وهي تجاوز الثنائية الكنطية بين‬ ‫الفينومان والنومان وقد يكون الدافع اللاوعي عندهم من جنس الدافع الديني عند هيجل‬ ‫للخروج من مأزق سر الأسرار بلغة هيجل نفسه في الرؤية المسيحية أعني التثليث خاصة وقد‬ ‫تركز النقد في علم الكلام المسيحي طيلة قرون بالبحث عن علاج لهذا الميستار‪.‬‬ ‫فالتثليث اعتبره هيجل حلا يحرر الفكر من المنطق ثنائي القيمة الأرسطي ومن العقل‬ ‫الاستريائي أو الحصاة ‪ Der Verstand‬ليصل إلى العقل التأملي أو النهى ‪Die Vernunft‬‬ ‫بتغيير جذري لنظرية القضية في التصور ومن ثم بتغيير الحكم ‪ . Das Urteil‬وبهذه‬ ‫الصورة تسقط كل ردود علم الكلام والفكر التنويري المعتمدة على منطق أرسطو ثنائي‬ ‫القيمة والقائلة برفع القيمة الثالثة‪.‬‬ ‫لكن هذه الردود الكلامية والتنويرية سقيمة لأن أرسطو نفسه دون حاجة لتجاوز منطقه‬ ‫استعمل التثليث في كلامه على المحرك الأول ما يعني أنه لو كان يتنافى مع منطقه لكان أول‬ ‫من امتنع عن استعماله‪ .‬فهو يعرف المحرك الأول الذي لا يتحرك بكونه \"عقل يعقل عقله\"‬ ‫وهو مع ذلك واحد‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪3‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ليست غايتي إذن الرد على دافع هيجل الديني رغم أهميته ورغم تأييده من قبل بورس‬ ‫مؤسس علم الوسميات الذي يفضله لهذه العلة الدينية بحج منطقية ووسمية إذ هو يؤسسه‬ ‫على تثليث وظيفة الرمز عامة وهو تثليث جعله بنية المفهوم والقيمة في منطقه الذي هو‬ ‫متافيزيقاه وهما دلالتا السيميوتكس في رؤية بيرس‪ .‬فهي عنده لا تقوم على ثنائية الدال‬ ‫والمدلول بالمعنى التقليدي كما عند مؤسس اللسانيات في رأي لسانيي اوروبا والعرب من‬ ‫بعدهم بل على ثلاثية إذ لا بد فيها من طرف ثالث يكون وسيطا بينهما من دونه لا يمكن‬ ‫الجمع بينهما‪ .‬وتلك هي وظيفة المؤول في نظريته‪ .‬ولهذه العلة فهو ميال لما وضعه هيجل‬ ‫في مسألة التثليث مع الاستدلال الصريح بأهمية المسألة في التثليث المسيحي‪.‬‬ ‫فتأييد بورس للحل الهيجلي بنظريته في الوسميات أضافت علة ثانية لرفضي الحل‬ ‫الهيجلي ومعه رؤية بيرس في الوسميات لأن الرمز لا يعمل بهذا الحل إذ لا توجد علاقة‬ ‫بين رمز منفصل عن نظام الرموز ومرموز منفصل عن نظام المرموزات فتكون العلاقة‬ ‫بالضرورة مخمسة‪:‬‬ ‫‪ .1‬الرمز‬ ‫‪ .2‬علاقته بنظامه‬ ‫‪ .3‬المرموز‬ ‫‪ .4‬علاقته بنظامه‬ ‫‪ .5‬الفعل الرمزي هو العلاقة غير بين منزلة الرمز في نظامه بمنزلة المرموز في نظامه‬ ‫فيكون الوسيط بين هذه العناصر هو التناظر بين المنزلتين في النظامين‪ .‬وهذا الوسيط ذي‬ ‫الالتفاتين عنصر خامس وهو أصل العناصر الاربعة التي تقدمت عليه‪.‬‬ ‫ذلك أن الاستدراك على نظريته في الترميز تمثل أحد منطلقاتي في علاج مسألة التخميس‬ ‫فضلا المسألة المنطقية وعلاقتها بالمسالة الوجودية ونظرية المعرفة والقيمة‪ .‬وكان حتما‬ ‫علي أن أبدا بهذا الاستدراك قبل الشروع في قراءة القرآن الكريم قراءة فلسفية‪.‬‬ ‫فلخياري علتان تتعلق‪:‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪4‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .1‬أولاهما مصدرها نظرية اللسان عامة في علاقة بالترميز عامة‪ .‬وقد عالجتها في شكل‬ ‫أولي خلال كتابتي للشعر المطلق والاعجاز القرآني‪ .‬ثم خصصت لها عدة محاولات لست‬ ‫راضيا عن الاستدلال فيها لعسر المسألة أولا ولأني لم أصلها بنظرية المعرفة النافية‬ ‫للمطابقة كما كان ينبغي أن يكون ذلك‪.‬‬ ‫‪ .2‬والثانية مصدرها النظرية المنطقية في علاقة بنظرية المعرفة عامة‪ .‬وقد عالجتها في‬ ‫بيان امتناع الوقوف بعد ثنائية القيم التي تعطى لمتغيرات القياس مثلا عند ثلاثة بل لا من‬ ‫الوصول إلى خماسية القيم‪ .‬فالحدان في التناقض مثلا لما يلتقيان لا يكونان ثلاثية بل‬ ‫رباعية لأن ثمرة لقائهما مضاعفة إذ لا يمكن أن نخلط بين ذهابها من أحدهما إلى الثاني‬ ‫وذهابها من الثاني وذهابها الأول حتى لو كانت الثنائية حاصلة في الواحد نفسه كما يراها‬ ‫هجل بين بعده الموجب وبعده السالب‪.‬‬ ‫ذلك أن أصل هذين العلتين اللسانية والمنطقية وما بينهما من تفاعل في الاتجاهين أي فعل‬ ‫نظرية اللسان في المنطق وفعل نظرية المنطق في اللسان هو محاولة التحرر من القول‬ ‫بنظرية المعرفة وبنظرية القيمة المطابقتين للوجود لنفيي أن يكون العلم والعمل‬ ‫الإنسانيان محيطين‪ .‬فمن يقول بالمطابقة في العلم وفي العمل أو في المعرفة والقيمة ينبغي‬ ‫أن يدعي أن حقيقة الموجود أو العلم وحقيقة المنشود أو القيمة شفافتان وأن العقل‬ ‫الإنساني نفاذ يدركهما على ما هما عليه‪.‬‬ ‫ومعنى ذلك أن دافعي هو إدراكي لاستحالة أن يكون الإنسان قادرا على ذلك لأن ادعاءه‬ ‫يعني تأليهه والغفلة عما يشوب علمه وعمله من نقص لا يمكن أن يكون الإنسان غير واع‬ ‫به ويبقى علمه علما وعمله عملا بحق‪:‬‬ ‫‪ .1‬العلة الأولى مراجعة نظرية عناصر اللغة العربية المثلثة‪-‬الاسم والفعل والحرف‪-‬‬ ‫وبيان تقدم عنصرين آخرين فيها وقعت الغفلة عنهما وإعادتهما تقلب العلاقة بين دور‬ ‫النحوي ودور البلاغي فيها‪ .‬فالتواصل اللساني يتقدم فيه عنصران آخران نراهما بالعين‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪5‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫المجردة عند الأطفال قبل الكلام وهما يبقيان ملازمين للكلام بعد تعلمه ولا يكون الكلام‬ ‫في الغالب إلى ترجمانا عنهما‪.‬‬ ‫‪ .2‬العلة الثانية مراجعة نظرية علوم اللسان الحديثة وهي مثلثة كذلك‪-‬السنتاكس‬ ‫والسيمنتيكس والبرجماتيكس‪-‬وبيان تقدم عنصرين آخرين فيها وقعت الغفلة عنهما‬ ‫وإعادتهما تقلب العلاقة بين الوظيفة الإحالية والوظيفة الإبداعية للسان‪ .‬والعنصران‬ ‫الآخران المتعلقان بالوظيفة الإبداعية للرمز أصلا للوظيفة الإحالية يصاحبان السيمنتيك‬ ‫والبراجماتيك بما يتجاوزانهما به كما سابين‪.‬‬ ‫فالقصد بالوظيفة الإحالية هو اعتبار اللغة تابعة لعالم سابق الوجود عليها من طبيعة غير‬ ‫رمزية وبيان أن هذا النوع من الوظائف اللسانية تال عن وظيفة أعمق منها هي وظيفة‬ ‫إبداع العوالم بالرمز والتي يكون رامزها ومرموزها من صنع الإنسان لكأن للإنسان فاعلية‬ ‫\"كن\" ليس في الوجود بل في الرموز‪.‬‬ ‫وإذا كان العنصران اللذان أضفتهما لعناصر اللغة العربية يبدوان وكأنهما منتسبين إلى‬ ‫عالم موضوع الكلام وعالم فعل الكلام فإن العنصرين اللذين أضفتهما لعناصر علوم اللسان‬ ‫يبدوان وكأنهما ينتسبان إلى فاعلية الترميز المبدع للمرموز الذي ليس له مرجعية من‬ ‫طبيعة غير رمزية في عالم التجربة الحسية‪.‬‬ ‫• وقد مثل ابن تيمية للنوع الأول من الرمز الذي يبدع المرموز بالمنطقيات والرياضيات‬ ‫وقد سماه بالمقدرات الذهنية النظرية‪ .‬وحصر مفهوم العلم النظري البرهاني فيه دون‬ ‫سواه‪.‬‬ ‫• وقد قست عليه النوع الثاني من الرمز الذي يبدع المرموز ومثلت له بالأديبات‬ ‫والاخلاقيات وسميته بالمقدرات الذهنية العملية‪ .‬وحصرت العلم العملي البرهاني فيه دون‬ ‫سواه‪.‬‬ ‫فتكون المقدرات الذهنية الأولى أصلا لكل المعاني التي تحتاج إليها علوم الطبيعة عند‬ ‫تطبيقها على التجربة الطبيعية‪ .‬وتكون المقدرات الذهنية الثانية أصلا لكل المعاني التي‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪6‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫تحتاج إليها علوم الإنسان عند تطبيقها على التجربة التاريخية‪ .‬ومن ثم فنسبة الرياضيات‬ ‫إلى المعاني الكلية التي تحتاج إليها معرفة الطبيعة من حيث هي البنية المثالية المجردة لكل‬ ‫عالم طبيعي ممكن ليست الطبيعة التي لنا بها علاقة في عالمنا إلا عينة منه هي نفس نسبة‬ ‫الأخلاقيات إلى المعاني الكلية التي تحتاج إليها معرفة التاريخ من حيث هي البنية المثالية‬ ‫المجردة لكل عالم تاريخي ممكن ليس التاريخ الإنساني في عالمنا إلا عينا منه‪.‬‬ ‫وهذه المعاني الكلية تعد مقومات لموضوع العلم الطبيعي أو التاريخي إذا قلنا بالمطابقة‬ ‫واعتبرناها عناصر مقومة لحقيقة الشيء وليست رموزا من جنس اللسان والكتابة للإشارة‬ ‫إليه في كلامنا على ما ندركه من أعراضه دون أن نزعم أن ما ندركه منها مطابق له في‬ ‫ذاته‪ .‬وهذا هو الحل التيمي في العلوم النظرية والمفهومات والذي قست عليه الحل في‬ ‫العلوم المعملية والقيم‪.‬‬ ‫ومن ثم فالحل الأفلاطوني والحل الأرسطي لنظرية الكلي كلاهما مرفوض أولا لأنه يعتبر‬ ‫المعاني الكلية مقومة للشيء الذي نتكلم عليه في علومنا النظرية والعملية وليست رموزا‬ ‫مثل اللغة والكتابة كما يراها ابن تيمية مثلا‪ .‬وثانيا لأن كون الكليات مفارقة أو محايثة لا‬ ‫يغير من الأمر شيئا لأنها لا تعتبر عندهما رموزا بل من عناصر الشيء المقومة لكيانه وبها‬ ‫تصاغ الماهية التي تدرك بالحدس ولا تقبل التدليل (أرسطو الفصل الاخير من التحليلات‬ ‫الأواخر)‪.‬‬ ‫وهذا هو الحل الذي نكص إليه هيجل وتبعه فيه ماركس فلم يبق فرق بين ما ندركه من‬ ‫الوجود والوجود ذاته وأطلق علمنا وعملنا فألهنا الإنسان واعتبرنا الوجود الذي ندركه‬ ‫كل الوجود ولا وجود لغير العالم الذي هو موضوع مداركنا‪ .‬وذلك من ثمرات ما ظنت‬ ‫المثالية الألمانية أنها قد تخلصت منه أعني المقابلة الكنطية بين الشيء في ذاته الذي نفكر‬ ‫فيه ولا نعلمه ‪-‬من جنس عالم الغيب في الدين‪-‬والظاهرات التي هي الوحيدة التي نعلمها‬ ‫ونعتبرها محيلة إلى الشيء في ذاته‪-‬من جنس عالم الشهادة في الدين‪ -‬بالنسبة إلى‬ ‫الإنسان‪:‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪7‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .1‬فهيجل اعتبر المعاني الكلية التي يطبق عليها المنطق الجدلي التثليثي مقومة للشيء في‬ ‫ذاته‪ .‬ومن ثم فالمنطق الجدلي هو عين الميتافيزيقا بمعنى أنه ليس قانونا رمزيا للقول في‬ ‫الوجود بل هو قانون الوجود ذاته‪.‬‬ ‫‪ .2‬وماركس له نفس الرؤية للمعاني الكلية‪ .‬والفرق بينه وبين هيجل ليس في الطابع‬ ‫المقوم للمعاني الكلية بل في طبيعتها بمعنى أنه لا يعتبرها من طبيعة مختلفة عن المادة نفسها‬ ‫من حيث هي عين صورتها كما يقوله أفلاطون وأرسطو‪.‬‬ ‫وكلاهما يقول إذن بأمرين‪:‬‬ ‫‪ .1‬المعاني الكلية التي يستعملها العلم ليست رموزا للشيء مثل اللغة والكتابة كما يقول‬ ‫ابن تيمية بل هي مقومات لكيان الشيء في ذاته‪.‬‬ ‫‪ .2‬المعرفة مطابقة لموضوعها ولا معنى للتمييز الكنطي بين الظاهرات والشيء في ذاته‬ ‫بمعنى أن علمنا محيط بالحقيقة في ذاتها‪.‬‬ ‫وإذا كان من اليسير اقناع أي إنسان بخطأ هذه المسألة الثانية فإنه يصعب إقناع حتى كبار‬ ‫المفكرين أن المعاني الكلية ليست مقومة للشيء وأنها مجرد رموز مثلها مثل الألفاظ في اللغة‬ ‫والأشكال في الكتابة تبعا لرؤية ابن تيمية وخاصة إذا علموا نسبتها إليه‪.‬‬ ‫ولذلك كان البلوغ إلى هذه الغاية يقتضي إعادة النظر في نظرية اللغة العربية أولا وفي‬ ‫نظرية علوم اللسانيات ثانيا وفي نظرية المنطق ثالثا وفي نظرية العلاقة بين المقدرات‬ ‫الذهنية النظرية والعلم الطبيعي وعلاقة نظرية المقدرات الذهنية العلمية والعلم‬ ‫التاريخي وتأسيس ذلك كله على التخميس بالصورة التالية‪.‬‬ ‫وسأنطلق من المنطق الأرسطي‪ .‬فقانون العقل الأول أو قانون عدم التناقض الذي يعتبره‬ ‫أرسطو في آن قانونا وجوديا في تأسيسه تأسيسا جدليا مفاده استحالة الكلام في أي شيء من‬ ‫دون التسليم به وما يترتب عليه من رفع للثالث واستحالة ثبات هويات الأشياء‪ .‬ولهذه‬ ‫العلة فإثباته جزء من أثبات نظرية الوجود في كتاب الميتافيزيقا (أنهيت ترجمته إلى‬ ‫العربية اعتمادا على أفضل ترجمة ألمانية لبونيتس صاحب \" دليل المفهومات‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪8‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الأرسطية‪ \"Index Aristotelicus‬أعدها في منتصف القرن التاسع عشر وروجعت ثم نشرت‬ ‫في نهاية القرن)‪.‬‬ ‫ثم أمر إلى المنطق الهيجلي‪ .‬فرفض الحل الأرسطي يعني استعادة الثالث المرفوع ليصبح‬ ‫ثالثا موضوعا ورفض قانون عدم التناقض والقول بعدم ثبات الهويات والزعم أنها عين‬ ‫تجليها في أعراضها ممثلا بعلاقة الطاقة بمفعولها الذي ترد إليه ليقيس عليها علاقة ذات‬ ‫الجوهر بأعراضه معتبرا إياها ليست شيئا آخر غير تجليها في أعراضها‪.‬‬ ‫والمآل كما في حالة أرسطو هو أن قانون القول في الوجود هو عين قانون الوجود نفسه ما‬ ‫يعيدنا إلى بارميندس القائل إن الوجود والعقل متطابقان‪ .‬وهو قول لا يميز بين العقل‬ ‫الإلهي إن صح التعبير وادارك العقل الإلهي فيفترض المطابقة بين العقلين‪ .‬وهو المبدأ‬ ‫الذي يرفضه ابن تيمية في النظر وابن خلدون في العمل وكلاهما يعتبره دليل سذاجة‬ ‫فلسفية وكلامية علتها رد الوجود إلى الإدراك‪.‬‬ ‫وعندما جمعت بين هذين الحلين وأصلهما تبين أن التطابق بين العقل والوجود أو ما صار‬ ‫عند هيجل التطابق بين العقل والواقع توصلت إلى نتيجة هي أنه ينبغي أن يكون منطلقي‬ ‫لدحض التثليث سواء قلنا برفع الثالث (أرسطو) أو بوضعه (هيجل) رغم الموافقة على‬ ‫الانطلاق من التثنية حتما لأن الوحدة لا تقبل التحليل ولا التعليل‪.‬‬ ‫فلا شيء يمكن أن يكون موضوعا للكلام فيه من دون ما يرد إلى علاقة المبتدأ والخبر‬ ‫وقيمتي الصدق والكذب وهما قطبا الثنائية المنطقية المقيمة للثنائية اللسانية والتي تظن‬ ‫نسخة من الوجود‪ .‬وهذا الوضع يصح حتى لو اقتصرنا على الإشارة دون العبارة لأننا نشير‬ ‫إلى شيء (المبتدأ) وإلى ما يعنينا منه في إشارتنا إليه (الخبر) أي ما أشرنا إليه والمشار‬ ‫إليه في الإشارة هو ما يدور حوله الكلام وما يخبر به عنه‪ .‬ونحكم بأن ما أشرنا إليه وما‬ ‫نعنيه من الإشارة إليه فيه حكم مضاعف كلاهما بحاجة إلى الاثبات أو التثبت منه‪:‬‬ ‫• الأول يسمى حكم \"إن\"‪ :‬بمعنى أننا ندعي أن ما نشير إليه موجود وهو الموضوع في‬ ‫الوجود والمبتدأ في اللغة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪9‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫• الثاني يسمى حكم \"هل\"‪ :‬بمعنى الخبر عن علاقة المحمول بالموضوع مثبتا أو مسلوبا في‬ ‫الوجود والخبر في اللغة‪.‬‬ ‫ومن ثم فنحن أمام عنصرين تضع بعض اللغات بينهما وصلا هو الرابطة الوجودية لإفادة‬ ‫أحد هذين المعنيين وتستغني بعض اللغات الأخرى عن ذلك‪ .‬وقد كان ذلك من المعضلات‬ ‫في ترجمة الفلسفة اليونانية إلى العربية التي حاول فلاسفة الإسلام حلها‪ .‬فالعربية من‬ ‫اللغات المستغنية عن الرابطة الحملية في الحكم إذ هي تتبع المبتدأ بالخبر دون وصل بينهما‬ ‫برابطة وجودية‪ .‬فلا يحتاج العربي في اثبات صفة لذات أو في نفيها لاستعمال رابطة‬ ‫وجودية إثباتا أو نفيا‪.‬‬ ‫لكن الفلاسفة حاولوا ترجمتها بواحدة من كلمتين هما \"هو\" و\"يوجد\" (اجتهاد الكندي‬ ‫والفاربي وابن رشد مثلا)‪ .‬وكلتاهما تحتوي على المطابقة بمعنى أنها تفيد اسقاط حكم‬ ‫الذات على الشيء فيعتبر وكأنه حقيقة في الشيء وليس في حكم صاحب الحكم‪ .‬ومعنى‬ ‫ذلك أن ما هو \"موقف قضوي ضمني\" متعدد الدرجات بالطبع أصبح وكأنه حكم نهائي‬ ‫مصدره \"مضمون قضوي صريح\" وليس موقف القاضي‪:‬‬ ‫‪ .1‬فإذا قلت السماء زرقاء حكمت بزرقتها لكني لم أقل إن ذلك هو حقيقتها بل أخبرت‬ ‫السامع بحكمي على ما أرى‪.‬‬ ‫‪ .2‬لكن إذا قلت السماء \"توجد\" زرقاء أو \"هي\" زرقاء فلكأني لم اكتف بالحكم بل أضمرت‬ ‫موضوعية الحكم وتخليت عن ذاتيته‪.‬‬ ‫وها هو هم العلم الذي يتصوره الفلاسفة كلاما في المضمون القضوي من غير موقف قضوي‬ ‫منه أي بافتراض موقف يزعم أن حكمه هو عين الحقيقة وذلك هو المشكل الذي حسم‬ ‫بطريقتين في نوعي الألسن التي فيها فعل الوصل الوجودي والالسن التي ليس فيها فعل‬ ‫الوصل الوجودي‪:‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪10‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .1‬فالحسم في اللغات التي فيها فعل الوصل الوجودي بين الموضوع والمحمول ومنه وهم‬ ‫المطابقة بين الذاتي والموضوعي إذ إن \"هو\" و\"يوجد\" فيها شبه نفي لنسبة الحكم لصاحبه‬ ‫وإثبات أن ذلك هو كذلك في الوجود الفعلي‪.‬‬ ‫‪ .2‬والحسم في اللغات التي ليس فيها فعل الوصل الوجودي بين الموضوع والمحمول ومنه‬ ‫الابتعاد عن هذا الوهم والإبقاء على الحكم في مستوى لا يفرض الحسم في مطابقة الذاتي‬ ‫للموضوعي‪.‬‬ ‫فالخبر بعد المبتدأ واضح أنه منسوب لحكم المتكلم الذي هو صاحب الخبر‪ .‬ولذلك فهو‬ ‫يفترض \"أقول\" السماء زرقاء بمعنى أعتقد أو أظن أو أرى إلخ‪ ...‬و\"إن\" التي يمكن أن‬ ‫تؤدي وظيفة فعل الوصل الوجودي المضمرة في \"اقول\" تقاس بمصداقية القائل ومن ثم فهي‬ ‫تعير بمعايير تقيم الذات القائلة التي هي معايير قبول شهادته أو رفضها وهو معنى شاهد‬ ‫عدل‪ .‬ومنه جاء منهج علم الحديث الذي يهتم بمصداقية الرواة قبل الكلام في صحة المروي‬ ‫والمروي هو بدوره فعل إنساني وليس سواء كان رواية لحديث أو رواية لحدث‪.‬‬ ‫والمعلوم أن \"قل\" ملازمة لكل ما هو خبري في نص القرآن وحتى في علم الكلام‪ .‬ومثاله \"إذا‬ ‫قلتم قلنا إلخ‪...‬ليس بمعنى أرد على قولك بقولي بل بمعنى إن كان رأيك كذا فرأيي في‬ ‫ما أبديت فيه رأيك هو كذا إلخ‪ .»...‬وإذا وجد مضمون قضوي وموقف قضوي حدين‬ ‫يتألف منهما الحكم فإنه لا بد من وجود علاقة تفاعل في الاتجاهين وهما تفاعلان مختلفان‬ ‫ويمثلان عنصرين إضافيين للأصلين المتفاعلين أي‪:‬‬ ‫‪ .1‬أثر المضمون القضوي في الموقف القضوي‪ .‬وهو معيار تحديد درجة العقد في الموقف‪.‬‬ ‫وذلك هو أصل التثبت في الخبر لتقييم أمانة المخبر وحرصه على الموضوعية العلمية‪.‬‬ ‫‪ .2‬أثر الموقف القضوي في المضمون القضوي‪ .‬وهو معيار تحديد درجة الإيديولوجي في‬ ‫العلمي‪ .‬وذلك هو أصل التثبت في المخبر لتقييم دور أيديولوجية المعرفة التي يعتمدها‪.‬‬ ‫وبذلك فالمطلوب دراسته في هذه المحاولة هو علاج المسائل التالية‪:‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪11‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .1‬مسألة العنصرين المتقدمين على ثالوث الاسم والفعل والحرف في اللغة الغربية بل وفي‬ ‫كل لغة إنسانية‪.‬‬ ‫‪ .2‬مسألة العلمين الإضافيين المتقدمين على ثالوث السنتاكس والسيمنتكس‬ ‫والبراجماتكس‪.‬‬ ‫‪ .3‬مسألة المعاني الكلية التي تودي وظيفة الرمز وليست مقومة للأشياء التي تعرف بها‪.‬‬ ‫وهي مركز كل الإشكالية ومن عالجها علاجا نقلها من وظيفة التقويم الوجودي إلى الإشارة‬ ‫الوسمية هو ابن تيمية قبل كل فلاسفة عصره وما يزال علاجه لها ثورة فلسفية لم نسبر‬ ‫أغوارها كما ينبغي أن نفعل‪.‬‬ ‫‪ .4‬مسألة نظرية المعرفة والقيمة وكونهما غير مطابقتين لحقائق الأشياء التي لا نعلمها‬ ‫بل نشير اليها وإلى ما اخترناه من أعراضها للعبارة عنها لا غير‪.‬‬ ‫‪ .5‬وأخيرا دلالة التخميس في صفات أفعال العباد في النظرية الفقهية والتي لا يمكن تصور‬ ‫القانون الوضعي من دونها حتى وإن لم يعترف بذلك‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪12‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫أبدأ الفصل الثاني بتحديد المطلوب في المحاولة كلها لأشرع في علاج مسائلة الواحدة تلو‬ ‫الأخرى فاثبت أن البنية الدنيا في المفهوم وفي القيمة بعد الوحدة هي المخمس وأن التثليث‬ ‫مبنى على اعتبار العلاقة بين عنصرين واحدة دون تمييز بين وجهتيها المتقابلتين من الأول‬ ‫إلى الثاني ثم من الثاني إلى الأول‪ .‬ولأذكر بالمسائل التي أحصيتها في الفصل الأول‪:‬‬ ‫‪ .1‬مسألة العنصرين المتقدمين على ثالوث الاسم والفعل والحرف في اللغة العربية‬ ‫وفي كل لغة إنسانية أي اسم الفعل واسم الصوت‪.‬‬ ‫‪ .2‬مسألة العلمين الإضافيين المتقدمين على ثالوث السنتاكس والسيمنتكس‬ ‫والبراجماتكسى أي ما يتجاوز الدلالة إلى المعنى‪.‬‬ ‫‪ .3‬مسألة المعاني الكلية التي تودي وظيفة الرمز وليست مقومة للأشياء التي تعرف‬ ‫بها وهي المقدرات الذهنية النظرية التي تكلم عليها ابن تيمية والمقدرات الذهنية العملية‬ ‫التي قستها عليها‪.‬‬ ‫‪ .4‬مسألة نظرية المعرفة ونظرية القيمة وكونهما غير مطابقتين لحقائق الأشياء‬ ‫وقيمها التي لا نعلمها بل نشير اليها وإلى ما اخترناه من أعراضها للعبارة عنهما لا غير‬ ‫وهي إما رموز من التقدير الذهني النظري ومثالها الرياضيات أو رموز من التقدير العملي‬ ‫ومثالها الأخلاقيات‪.‬‬ ‫‪ .5‬وأخيرا دلالة التخميس في صفات أفعال العباد في النظرية الفقهية والتي لا يمكن‬ ‫تصور القانون الوضعي من دونها حتى وإن لم يعترف بذلك إلا مؤخرا عندما اضاف ما‬ ‫يناظر المكروه والمندوب إليه والتحرر الظرفي بأخذ الضرورة الشرطية بعين الاعتبار أو‬ ‫بأخذ الحرية الشرطية بعين الاعتبار‪.‬‬ ‫وسأخصص هذا الفصل الثاني لهذه المسألة الأخيرة التي هي أبرز مثال عيني من أصل‬ ‫كل المسائل أعني طبيعة المعاني الكلية بوصفها رموزا وليست مقومات‪ .‬وهي كلها ترجع إلى‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪13‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫التقييم الإنساني للأفعال ومفعولاتها وتنفي عنها المطابقة بينها وبين حقيقة القيم ومنها‬ ‫القيم المعرفية في ذاتها واقتصارها على ما هو إضافي إلى الإنسان‪.‬‬ ‫وأفعال الإنسان كما بينا لا تتجاوز أفعال الإرادة وأفعال المعرفة وأفعال القدرة وافعال‬ ‫الذوق أو الحياة وأفعال الرؤية أو الوجود‪ .‬وكلها معان كلية بها يتجلى الإنسان في أفعاله‬ ‫دون أن ندري طبيعة ما وراءها يجعل الإنسان شبه استثناء بين الموجودات‪ .‬فهذه الأفعال‬ ‫كلها مصحوبة بوعي متعدد الدرجات بها وبعلاقاتها بصاحبها وبكل ما حوله‪ .‬وتلك هي علة‬ ‫اعتباري الإنسان ليس تابعا لقانون الضرورة الشرطية مثل الظاهرات الطبيعية بل هو‬ ‫تابع لقانون الحرية الشرطية بمعنى أنه بما له من وعي بقانون الضرورة الشرطية يبدو‬ ‫متحررا منها بإرادته ومعرفته وقدرته وذوقه ورؤيته‪.‬‬ ‫والقصد بالتخميس في مسألتنا والذي هو عينة من اعتبار المعاني الكلية رموزا للأشياء‬ ‫وليس مقومات لها هو تخميس أحكام أفعال العباد في الفقه‪ .‬وهذه العينة لا تحتاج لشرح‬ ‫طويل من حيث فهمها الفقهي التقليدي‪ .‬لكنها عند قراءتها بمنطق نظرية القيمة تجعل‬ ‫نظام التقييم المخمس له دلالات ذات علاقة بضرورة التخميس في كل تقييم بما في ذلك في‬ ‫المعرفة‪ .‬فهي بدورها خاضعة للتقييم لأن الحقيقة هي بدورها قيمة ودرجات إدراكها‬ ‫خاضعة للتخميس إذ بين علمها وجهلها ثم أثر فعل علمها في غيابه أو في جهلها وهو نوع من‬ ‫الظن وأثر جهلها في علمها هو نوع من الرأي الفاسد تجعل العلاقة مربعة وليست ثنائية‪.‬‬ ‫وهذه الأبعاد الأربعة لها أصل واحد تتفرع عنه هو قدرة الإنسان المعرفية حضورا وغيابا‬ ‫الفطري منها والمكتسب‪.‬‬ ‫وهذا النظام المخمس له قلب هو مفهوم \"المباح\" الذي يمكن أن نعتبره \"القيمة صفر\"‪-‬أي‬ ‫ما يمكن اعتباره باقيا على البراءة الأصلية أو على النفي الأصلي بلغة الغزالي في المستصفى‬ ‫بمعنى أنه ليس موصوفا بأي قيمة متقدمة على موقف الإنسان منه بل الأمر متروك له‬ ‫يقيمه كما يريد بحسب ما يعلم وما يقدر عليه وبذوقه وبمقتضى رؤيته للأشياء‪:‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪14‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .1‬ونجد على يمين المباح حكمين هما * المندوب الذي يجازى الإنسان إن فعله ولا‬ ‫يعاقب إن تركه * والواجب الذي لا بد أن يفعله ويعاقب إن لم يفعله‪.‬‬ ‫‪ .2‬ونجد على يسار المباح حكمين كذلك هما * المكروه الذي يجازى إن تركه ولا يعاقب‬ ‫إن فعه * والمحظور الذي يعاقب إن لم يفعله‪.‬‬ ‫ولم استعمل مفهوم \"الحرام\" بل استعملت مفهوم \"المحظور\" لأن مقابل الحرام هو الحلال‬ ‫الذي لا يقابله مقابلة النقيض إذ إن بقية الأحكام من الحلال‪ .‬وبين أننا أمام أحكام تجمع‬ ‫بين رموز تشير إلى موقف الذات في علاقة برموز تشير إلى موقف سلطة مشرعة للقيم من‬ ‫خارجها هي التي تحدد عنصري كلا الجناحين وتترك القلب مطلق الحرية للذات أعني بقية‬ ‫الافعال والأشياء التي ليست من الأنصاف الأربعة الأخرى‪ ..‬وسنرى أن هذه السلطة التي‬ ‫تشرع فتضع هذه الأحكام ليست مطلقة لأنها تعترف بحرية من تشرع له إذ يتبين أن الحكم‬ ‫هو في النهاية للذات الفاعلة في الحالتين‪:‬‬ ‫‪ .1‬حالة الضرورة التي تبيح المحظور وفيها يكون الفاعل هو الذي يشرع لنفسه‬ ‫بتقدير هذه الضرورة فيحول الحظر إلى إباحة ما يجعل الحكم النهائي فيها له أي الذات‬ ‫الفاعلة‪ :‬وحينها تتجلى الحرية ودلالة الفعل الخلقية‪.‬‬ ‫‪ .2‬وحالة الحرية التي تحظر الواجب وفيها يكون الفاعل هو الذي يشرع لنفسه‬ ‫بتقدير هذه الحرية فيحول الإباحة إلى الحظر ما يجعل الحكم النهائي فيها له أي للذات‬ ‫الفاعلية وفيها تتجلى الحرية ودلالة الفعل الخلقية‪.‬‬ ‫وقد عالجت القضية سابقا وبينت بهذا المعنى أن هذه القيم أو الأحكام الخمسة هي من‬ ‫جنس المعاني الكلية التي هي رموز للشيء الذي هو فعل مبني على تقييم الأشياء التي‬ ‫تتفاعل معها الذات من خلال قدرتها على تغيير التشريع ومن ثم فالأشياء خاضعة لنوعين‬ ‫من الأحكام‪:‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪15‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .1‬أحكام التشريع الموضوعي أو أحكام السلطة المشرعة لكائن حر في علاقته بأشياء‬ ‫خارجية يتفاعل معها‪ .‬وتطبيقه للتشريع دليل اختيار خلقي وروحي سواء كان التشريع من‬ ‫سلطة ذات مرجعية دينية أو من سلطة ذات مرجعية وضعية‪.‬‬ ‫‪ .2‬أحكام الذات الفاعلة في تلك الأحكام بحسب تقديرها لما يحررها من الأحكام في‬ ‫العلاقة بنفس الأشياء بنفس الاحترام وهو كذلك دليل اختيار خلقي وروحي بنفس‬ ‫الشروط‪.‬‬ ‫وفي الحالتين فإن هذه الأحكام رامزة لحرية الفعل وخلقيته وليست مقومات للشيء أو‬ ‫للوضعية المقيمين بها وذلك بمقتضى جعلها تابعة لحكم الإنسان على تقييم أفعاله بحسب‬ ‫ظرف الفعل‪ .‬فلو كانت مقومة للأشياء لاستحال أن تتغير بمقتضى حكم الفاعل التقديري‬ ‫لشروط التكيف مع الظرف فيعمل بمعيار تقدير الضرورة التي تبيح المحظور (مثلا أكل‬ ‫الميتة) أو الحرية التي تحظر الواجب (مثلا صوم المريض) لأن الضرورة لو كانت بحق‬ ‫مطلقة لاستحال أن يترك للفاعل تقديرها تقديرا يسمح له بأن يجعل ما كان محظورا مباحا‬ ‫أو ما كان واجبا محظورا‪.‬‬ ‫وهذان الإمكانيتان يرجعان الأفعال والأشياء إلى البراءة الأصلية أو إلى النفي الأصلي‬ ‫بلغة الغزالي فيصبح الإنسان مشرعا لنفسه إيجابا أو سلبا ما يناسب الوضعية فيصبح هو‬ ‫المشرع للقيم وفي حل من تشريع السلطة التي تشرع للجماعة والتي تكون حرية الإنسان‬ ‫فيها هي القبول الطوعي للعمل بمقتضى التشريع الموضوعي فتعمل به في الظروف العادية‪.‬‬ ‫‪ .1‬فعند الضرورة الشرطية التي تبيح المحظور يصبح الحكم خاضعا لتقدير الفاعل‬ ‫للموجود في حالة الضرورة ومدى قدرته على تحملها‪ .‬لكن عند العجز عن تحملها والشعور‬ ‫بأنها تهدد حياته يعطيه الحق في اعتبار ما كان حراما مباحا مثل أكل الميتة لئلا يموت جوعا‬ ‫أو شرب الخمر لئلا يموت ضمأ‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪16‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .2‬وعند الحرية الشرطية التي تحظر الواجب يصبح ما كان واجبا محظورا‪ .‬فمن‬ ‫الواجب منع الذات من الوقوع في التهلكة‪ .‬لكن هذا الواجب يصبح محظورا في الحرب لأن‬ ‫تولية الدبر خيانة للوطن والأمة وفقدان للشرف‪.‬‬ ‫وفي الحالتين تكون الذات الفاعلة هي الحكم وهي الحكم في التقييم ما يعني أن القيمة‬ ‫ليست صفة ذاتية للشيء المقيم وليست من مقوماته وليست كذلك من ا لتشريع المفروض‬ ‫من فوق بل هي من الرموز التي نعرف بها تعييرنا الذاتي للأشياء لتحديد السلوك المناسب‬ ‫وهي من ثم رموز دالة على أفعال الذات الحرة وليست صفات مقومة للأشياء المشار إليها‬ ‫بها‪.‬‬ ‫وهو ما يعني أن رؤية ابن تيمية للمعاني الكلية في المعرفة وفي القيمة بوصفها رموزا‬ ‫مشيرة إلى الأشياء والأفعال وليست مقومات لها هي الأقرب إلى الحقيقة من الرؤية التي‬ ‫تقول بأنها مقومات للأشياء لأنها تتصور المعرفة والقيمة مطابقتين للوجود‪ .‬ولا يمكن فهم‬ ‫هذه الرؤية من دون التمييز بين مستويين للوجود‪:‬‬ ‫‪ .1‬عالم الشهادة وهو ما ندركه من الوجود ونعلمه بحسب تطور مداركنا الحسية‬ ‫وتجهيزاتها الآلية والنظرية أي ما يضيفه الإدراك العقلي الذي يمتحن المدارك الحسية‬ ‫بالتجهيز الآلي والمفهومي‪.‬‬ ‫‪ .2‬عالم الغيب وهو ما نفكر فيه ولا نستطيع علمه لأن مداركنا التي في المستوى‬ ‫الأولى لا متناهية التطور ويبقى دائما المجهول من الموجود في نسبة اللامتناهي إلى المتناهي‬ ‫المعلوم منه‪.‬‬ ‫ومن ثم فكل قول بنظرية المعرفة وبنظرية القيمة المطابقتين ليس إلا من علامات‬ ‫السذاجة الفكرية التي يعتقد أصحابها أن العالم واحد وأنه مقصور على ما يدركه منه‬ ‫الإنسان وأن ارادة الإنسان وعلمه وقدرته وحياته ووجوده مطلقات وليست علامات‬ ‫شديدة النسبية على أعراض لا نعلم ما وراءها لكنها تمكن من التعامل مع الأشياء ومع‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪17‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الذات بالقدر المناسب لإرادتها وعلمها وقدرتها وحياتها ورؤاها الوجودية‪ .‬وحين إطلاقها‬ ‫والتغافل عن نسبيتها يمكن‪:‬‬ ‫‪ .1‬لمن يظن إرادته مسيطرة على إرادة غيره أن يعتقد أن إرادته مطلقة فيصبح‬ ‫مستبدا على إرادة غيره‪.‬‬ ‫‪ .2‬ولمن يظن علمه مسيطرا على علم غيره أن يعتقد أن علمه مطلق فيصبح مستبد‬ ‫على معرفة غيره‪.‬‬ ‫‪ .3‬ولمن يظن قدرته مسيطرة على قدرة غيره أن يعتقد أن قدرته مطلقة فيصبح‬ ‫مستبدا على قدرة غيره‪.‬‬ ‫‪ .4‬ولمن يظن ذوقه مسيطرا على ذوق غيره أن يعتقد أن ذوقه مطلق فيصبح مستبد‬ ‫على ذوق غيره‪.‬‬ ‫‪ .5‬ولمن يظن رؤيته للوجود مسيطرة على رؤى الآخرين أن يعتقد أن رؤيته مطلقة‬ ‫فيصبح مستبد على رؤية غيره‪.‬‬ ‫وبذلك تصبح علاقة إرادة زيد متنافية مع إرادة عمرو ونفهم ما يسمى بجدلية السيد‬ ‫والعبد في المنطق الجدلي المبني على التنافي بدل التكامل بين الإرادات في الجماعة شرطا في‬ ‫وجودها بدأ من الأسرة‪ .‬وقس عليه العلم والقدرة والحياة والوجود‪ .‬وهذه الرؤية‬ ‫العدمية التي تجعل البشر في حرب لا تتوقف في السياسة (الإرادات) وفي المعرفة (صراع‬ ‫المذاهب) وفي القدرات (الصراع الاقتصادي والثقافي) وفي الحياة (الأذواق) وفي الوجود‬ ‫(الرؤى الدينية والفلسفية)‪.‬‬ ‫وقد تبنى فكر الإسلاميين هذه الخرافة بمفهوم تصوروه قرآنيا وهو مناف للقرآن تماما‬ ‫هو مفهوم \"التدافع\"‪ .‬فالقرآن يتكلم على \"دفع الله الناس بعضهم ببعض\" وليس على تدافع‬ ‫الناس‪ .‬والله بدفعه الناس بعضهم ببعض يحول دون المنطق الجدلي والصراع بين الإرادات‬ ‫والعلوم والقدرات والأذواق والرؤى لأن التعدد من آيات الله في الألوان واللغات وحتى في‬ ‫الأديان‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪18‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ويفسر ابن خلدون ما يترتب على الصراع الذي يترتب على الرؤية الجدلية بما يسميه‬ ‫نزعة التأله عند الإنسان وخاصة الاستبداد السياسي واستبداد الإرادة والعلم والقدرة‬ ‫والذوق والرؤى الوجودية بين الناس‪ .‬ولان ذلك أمر وهمي وكاذب يميز الإسلام بين‬ ‫الاجتهاد ويشجع عليه مع العلم أنه يصيب ويخطئ ويجازي حتى الخطأ إذا كان القصد فيه‬ ‫السعي في طلب الحقيقة‪ .‬وبذلك يصبح الصدق في طلبها هو المعيار وليس المطابقة مع‬ ‫الحقيقة التي لا يحيط بها إلا علم الله‪.‬‬ ‫وقياسا على العلم الذي صار اجتهادا وليس معرفة مطلقة يمكن أن نعتبر العمل قد صار‬ ‫جهادا ومجاهدة تقوى واستقامة (ابن خلدون) وليس مطابقة مع قيم الأشياء لأن المهم في‬ ‫العمل ليس المطابقة مع الحق‪-‬كما يدعي المتصوف الذي يقابل بين الرسم الفقهي والحقيقة‬ ‫الصوفية مدعيا معرفتها بالكشف ونافيا الغيب في القيم نفيه إياها في العلم‪ -‬بل قصد الحق‬ ‫مع التسليم بأن الحق المطلق ليس في متناول الإنسان لأنه مشروط بالإرادة والعلم والقدرة‬ ‫والحياة والوجود التي تكون كلها مطلقة وهي مما نرمز به إلى مفهوم الله والرب وليست‬ ‫مما نرمز به إلى الإنسان الذي يحكم بالظاهر والله يتولى السرائر‪.‬‬ ‫ويترتب على ذلك ان كل ما جاء في القرآن من أحكام هي لتحديد المثل التي تتحقق في‬ ‫سياسة عالم الغيب ولا يمكن أن تتحقق في عالم الشهادة‪ .‬وإذن فالمطلوب ليس تحقيقها‬ ‫تحقيقا مطابقا بل السعي الصادق والدائم المشدود إليها بوصفها غاية المنشود وليست عين‬ ‫الموجود‪ .‬لذلك فكل ما فيه لا يمكن أن يكون مما يناسب فعل الإنسان إلا إذا توهم أنه قادر‬ ‫على الاطلاع على السرائر شرط سياسة عالم الغيب لأن القاضي فيها هو الله نفسه وليس‬ ‫الإنسان‪.‬‬ ‫وهذه المسافة بين السرائر والظاهر هي التي تجعل عبارة \"تلك حدود الله فلا تقربوها\"‬ ‫غير مقصورة التوجه إلى المتهم الذي يحاكم لأنه اقترب منها بفعله‪ .‬إنها تشمل القاضي‬ ‫أيضا إذا اقترب منها بحكمه عليه متوهما أنه مؤهل للحكم بالظاهر الذي يكون بديلا من‬ ‫السرائر مفترضا أن القاضي والقضاء تتوفر فيهما الصفات التي تمكن من ذلك‪ .‬فالحدود‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪19‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الواردة في القرآن قد نقبل أن يطبقها الرسول الذي نعلم أنه يتصف بصفتي الحكم‬ ‫القرآنيتين (النساء ‪ :58‬الأمانة والعدل) والقضاء تحت سلطته الشرعية يتمتع بالاستقلال‬ ‫التام إذ لا سلطان عليه في قضائه رغم أنه لا يطلع على السرائر مثلنا لكنه مطلق العدل في‬ ‫الحكم بالظاهر ومطلق السداد في تحديد الظاهر الدال أكثر من غيره ومطلق الاستقلال‬ ‫عن السلطة الظالمة التي لا وجودها لها فوقه‪.‬‬ ‫اما من عداه من القضاة فإن الشرطين فيهم لا شيء يثبت وجودهما وخاصة شرط‬ ‫الشروط أعني كونه مطلق الحرية والاستقلال عن إرادة مستبدة وعلم مستبد وقدرة‬ ‫مستبدة وذوق مستبد ورؤية مستبدة تمثل إرادة السلطة التي يأتمر بأمرها وعلمها وقدرتها‬ ‫وحياتها ورؤيتها التي تتصف بهذا الاستبداد فيصبح اقترابه من حدود الله في هذه الحالة‬ ‫بزعم تطبيقها عين الظلم والقهر لأن ما يسمى إرادة الله وعلم الله وقدرة الله وحياة الله‬ ‫ورؤية الله يعني أن الحاكم الظالم صار بديلا من الله‪.‬‬ ‫وحتى لو افترضنا قابلية القضاء للتحرر من ذلك كله فإنه من العسير أن يكون القاضي‬ ‫قادرا على تحقيق المناط بصورة تحرره من الالتباس في ظرفيات النوازل وما يكتنفها من‬ ‫العلل والأسباب التي تحول دون معرفة الحقيقة معرفة تمكن من العدل والأمانة شرطي‬ ‫الحكم في القرآن (النسا ‪ .)58‬وهذا الاقتراب من حدود الله في تطبيق الأحكام من دون‬ ‫الشروط يسمونه باطلا تطبيق الشريعة التي تعني في الغالب تطبيقها على الضعفاء في‬ ‫الصغائر والتغاضي عنها مع الـأقوياء في الكبائر كما في تطبيق حد السرقة‪ .‬فقد تقطع يد‬ ‫من يسرق خبزة لأنه جائع ويسكت القضاء على تطبيق الشريعة على \"أولياء الأمر\"‬ ‫المزعومين وهم في الحقيقة أولى بأن يطبق عليهم حكم الحرابة لأنهم يسرقون أرزاق الناس‬ ‫وبيدهم سلاح الدولة‪.‬‬ ‫وإذن فلا يمكن تطبيق الشريعة في دول لا تسير بها شؤونا السياسية والاجتماعية اعني‬ ‫بشروط يحددها القرآن وتعتمد على كل ما تشترطه الشريعة في تنظيم الإرادات‬ ‫(السياسة) والعلوم (البحث عن الحقيقة العلمية) والقدرات (دور الإنسان في الانتاجين‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪20‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الاقتصادي والثقافي) والحياة (الأذواق) والوجود (الرؤى) بصورة يكون فيها الإنسان كل‬ ‫إنسان ذكرا أو أنثى كما عرفه ابن خلدون \"رئيسا بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق‬ ‫له\" وبمعياري الأخوة الإنسانية (النساء ‪ )1‬والمساواة (الحجرات ‪ )13‬دون تفريق عرقي‬ ‫أو جنسي أو طبقي‪.‬‬ ‫ولما كان ذلك شبه مستحيل إذ حتى في عصر الرسول والصحابة لم يتحقق ذلك بإطلاق‬ ‫لأنه يتعلق بالمثال الأعلى في سياسة عالم الغيب التي تقاس عليه سياسة عالم الشهادة مع‬ ‫الفارق بينهما فإن النتيجة هي أن الشريعة ينبغي أن تنسب فيطبق منها ما يجعل من يخلط‬ ‫بين إرادة الله وعلمه وقدرته وحياته ووجوده وإرادة الحكم والعلم والقدرة والحياة‬ ‫والرؤية التي بيد سلطان إنساني لا يمكن أبدا أن يصل على تحقيق الشروط الموضوعة في‬ ‫احكام الله وإلا أصبح حكم الطغاة وعلمهم وقدرتهم وحياتهم ورؤاهم عين ما أمر به الله‬ ‫وتلك هي الفرعونية‪.‬‬ ‫وبذلك يتبين أن كل الذين يقولون بالمطابقة في المعرفة وفي القيم لا يمكن أن يكون فهمهم‬ ‫لدلالة مفهوم الغيب مفهوما حدا يمكن من تحرير الانسان من الاستبداد والفساد في سياسة‬ ‫عالم الشهادة وخلطها بسياسة عالم الغيب تربية وحكما علما وعملا ما يجعل القول بالمطابقة‬ ‫وبوحدة العالم وحصر الكيان في الوجود ونفي المنشود كلها من أدواء العصر الذي نكص‬ ‫إليهما بعد أن حاول كنط التحرر منهما وقبله ابن تيمية وابن خلدون شرطين في فهم معنى‬ ‫تبين الرشد من الغي شرطا في حرية المعتقد (البقرة ‪ )256‬وتعدد الأديان شرطا في‬ ‫التسابق في الخيرات (المائدة ‪.)48‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪21‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ما معنى البنية الأدنى للمفهوم وللقيمة؟‬ ‫ولماذا هي مخمسة بالضرورة؟‬ ‫تلك هي الإشكالية التي أخصص لها هذا الفصل الثالث مقدمة للمسألة الأولى من المسائل‬ ‫الذي ذكرتها المسالة الأولى سأعالجها في الفصل الرابع الموالي‪ .‬أما هذا الفصل فأخصصه‬ ‫لأمثلة تطبيقها على عين من المعاني الكلية التي تعتبر رموزا للإشارة إلى الأشياء والأفعال‬ ‫وليست مقومات لكيانها فتكون ماهياتها سواء بالمفهوم الأرسطي الذي تكون فيه المعاني‬ ‫الكلية محايثة وهي صورتها أو مفارقة وهي مثالها الذي تشارك فيه بالمعنى الأفلاطوني‪.‬‬ ‫والمعنيان يرفضهما ابن تيمية رفضا قاطعا معتبرا المعاني الكلية رموزا تشير إلى الأشياء‬ ‫وليست مقومات محايثة أو مفارقة‪ .‬وقاس دورها في الإحالة إلى الأشياء على دور ألفاظ‬ ‫اللغة ورسوم الكتابة إلى الأشياء‪ .‬لكن ذلك لا يفسر لنا الأمرين اللذين سبق أن خصصنا‬ ‫لهما محاولات سعينا فيها للجواب عن سؤالينا التاليين تذكيرا بما بدأنا به هذا الفصل‬ ‫الثالث‪:‬‬ ‫‪ .1‬ما معنى البنية الأدنى أو التي لا يمكن النزول دونها ولا نحتاج لتجاوزها لنحصل‬ ‫على بنية المفهوم أي مفهوم وبنية القيمة أي قيمة؟ فذلك هو القصد بالحد الأدنى للبنية‬ ‫التي هي بنية المفهوم في المعاني الكلية المعرفية وبنية القيمة في المعاني الكلية القيمية‪.‬‬ ‫ومعنى ذلك أن المفهوم من حيث هو مفهوم يمكن من الإشارة إلى ما صدق معين والقيمة من‬ ‫حيث هي قيمة تمكن من الإشارة إلى سلم قيمي معين لا بد فهما من أصل وأربعة فروع تكون‬ ‫وحدتها مخمسا فيه عنصران حدان متفاعلان في الاتجاهين يوحدهما الأصل الذي هو المعنى‬ ‫المفهومي أو القيمي اللذين يوحدانها‪ .‬وقد سمى ابن تيمية أولاها مقدرات ذهنية نظرية‪.‬‬ ‫وضرب منها مثال الرياضيات ونظام العدد‪ .‬وقست عليها الثانية فسميتها مقدرات ذهنية‬ ‫عملية‪ .‬وضربت منها مثال الأخلاقيات وسلم القيم‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪22‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .2‬ولماذا هي خمسة وليست دون ذلك وما الذي يغنيها عن تجاوزها الأربعة عناصر‬ ‫وأصلها الذي تتفرع عنه أو الواحد الذي هو وحدة المفهوم في النظر والعقد ووحدة القيمة‬ ‫في العمل والشرع؟ وقد سبق فشرحت القصد بالجمع بين النظر والعقد لأنه لا يمكن أن‬ ‫يوجد مضمون نظري ليس مصحوبا بموقف منه‪ .‬فلا توجد قضية لا يكون مضمونها القضوي‬ ‫مصحوبا بموقف قضوي منه في ذهن الاقضي بها‪ .‬فلا يمكن لا يتحرر الإنسان من وهم‬ ‫المطابقة الذي يلغي الموقف القضوي لكأن القضية ليست صادرة عن حكم نسبي من شخص‬ ‫قاض محدود العلم بل صادرة عن ذات قاضية لها علم محيط مثل الرب‪ .‬وذلك هو سر‬ ‫القول بالمطابقة في المعرفة وفي القيمة‪ .‬وبصورة عامة فيمكن أن نضرب أمثلة على المعاني‬ ‫الكلية المقدرة ذهنيا من العدد واللغة لفهم معنى بنية المفهوم ومن الاقتصاد والثقافة لفهم‬ ‫معنى القيمة‪.‬‬ ‫وليكن مثالنا الأول من العدد‪ .‬فلو أخذنا الواحد بصورة مطلقة وبمفرده كواحد لاستحال‬ ‫أن نقول عنه شيئا مقبولا عقلا إذا ما تخلصنا من تخريف الفيثاغوريين ومحاولات استعماله‬ ‫في إلهيات الباطنية وما تؤدي إليه من علم الكلامي المعتمد على المقاربة بالسلب بين الإنسان‬ ‫والله‪ .‬ولا بد للكلام عليه من تجاوزه إما بالزيادة أو بالنقصان لندرك معاني مفهومه حتى‬ ‫لو بقينا في الحد الذي كان عليه تصورهم الخالي من مفهوم الصفر الذي لم يكن معتبرا‬ ‫عددا‪.‬‬ ‫وهبنا اقتصرنا على الزيادة بتكراره مرة واحدة‪ .‬فحتما سندخل علاقة بين الواحد الأول‬ ‫والواحد الثاني الذي أضفناه رغم أنهما من \"طبيعة\" واحدة‪ .‬لكننا نكتشف أنه بذلك تبرز‬ ‫للفكر علاقتان مختلفتان وليس علاقة واحدة كما يتوهم أصحاب التثليث والمتكلمين على‬ ‫العدد التعدادي متناسين العدد الترتيبي‪ .‬بمجرد تكرار الواحد نكون قد أدخلنا مفهوم‬ ‫الترتيب ولم تكتف بمفهوم التعداد‪ .‬فتكرار الواحد يضعنا أمام معنى‬ ‫\"الأردينال=الترتيبي\" ويبرز الفرق مع\"الكردينال=التعدادي\" في مفهوم العدد‪ .‬فنصبح‬ ‫أمام أربعة معان كلية جزئية في بنية مفهوم العدد وحدتها هي مفهوم العدد‪ :‬العدد الأول‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪23‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫والعدد الثاني الذي أضفانه وعلاقة التعدادي وعلاقة الترتيبي اللتني هما علاقتان‬ ‫حتيمتان‪.‬‬ ‫ذلك أنه لا يمكن أن يكون الترتيبي عين التعدادي ولا أن يكون أثر الأول في الثاني عين‬ ‫أثر الثاني في الأول تحديدا لتنويع المفهوم وثرائه البنيوي أعني ما يصبح قادرا على مدنا‬ ‫به من بنى مجردة تصلح في التعامل مع أي ظاهرة نريد أن نعالجها بصورة علمية بأداة‬ ‫العدد وما يتفرع عنها من معان كلية‪ .‬والعاملان المضافان أي هذان الاثران أكثر ثراء من‬ ‫العاملين الأولين أي الواحد ومكرره‪ .‬ويجمع بين هذه المعاني الكلية الأربعة مفهوم العدد‬ ‫سواء كان طبيعيا أو حقيقيا أو مركبا‪.‬‬ ‫وإذا أخذنا أي قاعدة للتعداد عشرية كانت أو زوجية فإننا نختار رموزا ممثلة لعناصر‬ ‫القاعدة وللقاعدة ولأرضية العدد التي تستعمل القاعدة للسيطرة على تناهيه باضافة‬ ‫مفهوم المنزلة على أرضيتها بحيث أستطيع بعشرة رموز في القاعدة العشرية مثلا أو برمزين‬ ‫في القاعدة الزوجية أن \"أقول\"كل ما اريد قوله بالنظام العددي الذي اخترته تماما كما‬ ‫يحصل في اللغة عندما اكتفي بعدد الحروف لأقول أي لفظة مؤلفة من بعضها كما فعل‬ ‫الفراهيدي بنظرية التواليف في معجم العين‪ .‬وأستطيع بعدد معين من القواعد النحوية‬ ‫تركيب ما اريد من الجمل بالالفاظ التي اختارها والتي صارت مستعملة من بين التواليف‬ ‫الممكنة إلخ‪..‬‬ ‫ومن ثم فالبنية الأدنى تتألف من عنصرين حدين ومن أثر ما يترتب على علاقتهما‬ ‫المضاعفة دائما لأنها تكون بين الأول والثاني في الاتجاهين ويجمع هذه العناصر وحدة هي‬ ‫ما بعلاقاته يصبح منفصلا عما عداه وذلك هو حده ‪-‬كما يعرف ابن تيمية الحد أي ما يميز‬ ‫الشيء عما عداه كما في الحد بين قطع الارض في الملكية‪-‬تلك هي البنية الأدنى للمفهوم‬ ‫وللقيمة أي كان المجال الذي تتعلق به المفهومات والقيم‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪24‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وسآخذ مثالا ثانيا من مفهوم القيمة الاقتصادية بمستوييها الاستعمالي والتبادلي وهو‬ ‫أيسر فهما لأنه من التداول اليومي عند الإنسان العادي الذي يمكن ألا يكون داريا بتعقيد‬ ‫المفهومات النظرية‪ .‬فأولا القيم الاقتصادية أيا كانت استعمالية أو تبادلية تتحدد بأمرين‪:‬‬ ‫‪ .1‬أحدهما هو طبيعة الحاجة إلى الأمر الذي يقيمانه وهي علاقة بين كيان الإنسان‬ ‫وما يستمده لقيامه من كيان الاشياء التي هي ضرورية لحياته سواء كان ذلك ضرورة‬ ‫عضوية أو روحية وهي علاقة عمودية مع الطبيعة وعلاقة أفقية مع الجماعة‪ .‬فهي عمودية‬ ‫مع الطبيعة لأن الإنسان يستمدها من الطبيعة‪ .‬لكنها أفقية مع الجماعة لأن يستمدها منها‬ ‫بتوسط تقسيم العمل للحصول عليها‪.‬‬ ‫‪ .2‬والثاني هو طبيعة التنظيم الجماعي لعملية تحصيل ذلك الأمر في الجماعة التي‬ ‫تتبادله وهي علاقة تقسيم العمل في فعل الإنتاج وشروطه الناتجة عما يجعل الإنتاج ممكنا‬ ‫تقينا أي العلم وتطبيقاته في التعامل مع الطبيعة وممكنا خلقيا أي العمل وتطبيقاته بنظام‬ ‫تقسيم العمل في التعامل بين البشر‪ .‬وهذا كله بحاجة إلى ولاية سلطة راعية وتلك هي‬ ‫أهم وظائف السياسة والدولة‪.‬‬ ‫ويقتضي هذا التنظيم مستويين من التقدير الكمي والكيفي للحاجة والأمر الذي يسدها‬ ‫وهو إذن متعلق بكم الحاجة وبكيفها وبكم ما يسدها وبكيفه وكل ذلك بحاجة إلى نظام‬ ‫قانوني يضبطه ويحميه‪ .‬ولا من مستويين من الترميز لمستويي التقدير الكمي والكيفي‬ ‫اللذين يضبهما القانون وتحميها سلطته في الاتفاق والاختصام حولهما وهذا أهم مجالات‬ ‫القانون المدني وما قد يترتب عليه من قانون جنائي إذا حصل مس بالحقوق وأصحابها‪:‬‬ ‫‪ .1‬والأول هو الموازين والمكاييل للأمر الذي يسد الحاجة وهو شرط تعيير المشاركة‬ ‫في الإنتاج بثمرته التي تقبل القيس الكمي أولا مرحلة أولى للتقييم الكيفي‪.‬‬ ‫‪ .2‬والثاني هو القيم التي تعطى للمقادير الكمية مما يسد الحاجة بحسب كيف‬ ‫الحاجة فتكون منازل الحاجة هي التي تحدد القيم سواء كانت استعمالية أو تبادلية‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪25‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لكن هذه القيم التي تجعل التبادلى أسمى من الاستعمالي في الغالب ليست ذاتية للأشياء‬ ‫بل هي إضافية إلى ظرف التبادل‪ .‬فالاستعمالي يمكن أن يصبح أسمى من التبادلي إذا‬ ‫وجدت الجماعة في ظرفية الندرة المطلقة كما يحدث في الحروب مثلا‪ .‬ففي تلك الحالة يمكن‬ ‫أن يشتري الغني خبزة بلوحة لبيكاسو‪ .‬وفي الصحراء يمكن لمن نفد ما عنده من الماء أن‬ ‫يعطي كل ما يملك من أجل جرعة ماء‪.‬‬ ‫لذلك فمفهوم القيمة حتى الاقتصادية بمعنييها ليس مفهوما بسيطا وليس مفهوما مثلثا‬ ‫كما في التحليل الماركسي ناهيك عن القيم الأسمى من ا لقيم الاقتصادية بل هي كما نبين‬ ‫مخمسة الأركان أعني اصلا موحدا وفروعا أربعة‪:‬‬ ‫‪ .1‬فهي علاقة بين البشر شرط قيام يقدرونها‪ :‬الوعي بطبيعة العلاقة‬ ‫‪ .2‬بمقتضى علاقتها بحاجاتهم‪ :‬الوعي بمصدرها‬ ‫‪ .3‬التي لا تسد إلا بالتعاون بينهم‪ :‬الوعي بشرط علاجها‬ ‫‪ .4‬على تحصيلها بنظرهم وعملهم‪ :‬الوعي بعلاقة التراث الفكري بالثروة ا لمادية‪.‬‬ ‫‪ .5‬ولا يكون ذلك إلا بنظام التعاون بينهم وتلك هي وظيفة نظام الجماعة الذي لا‬ ‫بد له من سلطة ضابطة وناظمة وحامية وتلك هي وظيفة الدولة‪ :‬الوعي بشرطها السياسي‬ ‫الذي يعلل نجاحها أو فشلها ومن ثم فالقيم مسألة تتعلق بالإرادة (سياسة) والعلم (علم‬ ‫وتطبيقاته) والقدرة (فعل إنتاج مادي وثقافي) والحياة (دافع ذوقي) والوجود (رؤية‬ ‫للوجود ودور الجماعة الحرة المتعاونة بالتبادل العادل)‪.‬‬ ‫وهذا دليل قاطع على سخف الحل الماركسي الذي يتصور تحقق الاشتراكية الشيوعية‬ ‫مغنيا عن الدولة التي هي شرط الشروط في المستويات الأربعة المتقدمة على البنية الدنيا‬ ‫لمفهوم القيمة الاقتصادية سواء كانت استعمالية أو تبادلية في السلم وفي الحرب على حد‬ ‫سواء‪ .‬وعندما أقول ذلك فالقصد بيان سخف الرؤية الجدلية التي تجعل المسألة علاقة بين‬ ‫أصحاب رأس المال واليد العاملة‪.‬‬ ‫وقد بينت أن بنية الإنتاج الاقتصادي مخمسة بالضرورة لأنها تتألف من‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪26‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .1‬الفكرة‬ ‫‪ .2‬واستثمارها‬ ‫‪ .3‬وتمويلها من أجل‬ ‫‪ .4‬استهلاك وكل ذلك يقتضي‬ ‫‪ .5‬عملية تحقيقها أو نظام الانتاج لما يسد حاجة هذا الاستهلاك‪ .‬ولا يهم إذا كان‬ ‫المستثمر هو نفسه الممول وحتى إذا هو نفسه صاحب الفكرة وكان هو نفسه رب المعمل وهو‬ ‫نفسه المستهلك‪ .‬فهذه الوظائف مختلفة وقد تجتمع في نفس الشخص أو نفس الاسرة قبل‬ ‫تعقد تقسيم العمل‪ .‬فالأمر لا يتعلق بالأعيان بل بالمفهوم‪ .‬فالمفهوم هو ما ذكرت في تحليل‬ ‫مفهوم القيمة أعلاه وهو سر الانتاجين المادي (الاقتصاد) والرمزي (الثقافة) في كل‬ ‫حضارة‪.‬‬ ‫فيكون لدينا‪:‬‬ ‫‪ .1‬الانتاج الرمزي أو الفكرة‪ :‬وهو العلة الفاعلة في الاقتصاد‪.‬‬ ‫‪ .2‬الحاجة الاستهلاكية‪ :‬وهي العلة الغائية في الاقتصاد‪.‬‬ ‫‪ .3‬استثمار الفكرة لسد الحاجة‪ :‬وهو استعمال ‪ 1‬لعلاج ‪.2‬‬ ‫‪ .4‬تمويل الاستثمار ممن لديه فائض مدخر من المال‪ :‬وهو تمويل الموجود للمنشود‬ ‫ويقابله الامروتيسمون الذي يسدد كلفته مما يحققه في المستقبل‪.‬‬ ‫‪ .5‬الإنتاج المادي الذي يحول الفكرة إلى ما يسد الحاجة‪ :‬والمنتج هو الذي يحمل‬ ‫القيمة الاقتصادية التي تعينت إما في بضاعة أو في خدمة‪ .‬وكان ابن خلدون أول من عرف‬ ‫القيمة بكونها كلفة العمل المنتج بمعنى كل ما ذكرنا وليس عملية الإنتاج التي هي القلب‬ ‫قبلها الفكرة والاستثمار علة فاعلة وبعدها التمويل والاستهلاك علة غائية‪.‬‬ ‫وأختم بمثال القيم الثقافية أي قيم الانتاج الرمزي سواء كان علميا أو عمليا أعني‬ ‫المجالين الذي ينطبق فيهما ما سماه ابن تيمية المقدرات الذهنية النظرية وخاصة‬ ‫الرياضيات في الطبيعيات والذي ينطبق فيه ما سميته قياسا عليه المقدرات الذهنية العملية‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪27‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وخاصة الأخلاقيات في التاريخيات‪ .‬ولا بد هنا من بيان حمق من يعتبرون الانتاج الثقافي‬ ‫بخلاف الانتاج الاقتصادي فعل الأفراد وليس فعل الجماعات‪ .‬فالإنتاج الثقافي مثله مثل‬ ‫الإنتاج الاقتصادي فعل جماعي مخمس مثله وذلك بمعنيين‪:‬‬ ‫‪ .1‬أولا هو فعل تعاوني في الجماعة المتساوقة لسد حاجة استهلاكية روحية وليست‬ ‫مادية أي إنها تستجيب لحاجة الروح (المعرفة والقيمة) وليس لحاجة البدن (البضائع‬ ‫والخدمات) وهي ضرورية لسد حاجة البدن بصورة غير مباشرة لأنها هي مصدر الفكرة‬ ‫التي تستثمر في الاقتصاد سواء من حيث هي بضاعة أو خدمة (بدافع الذوق) أو من حيث‬ ‫هي شرط الانتاج تقنيا أو خلقيا (أي أدوات الأنتاج تقنيا لأنها تطبيق للبحث العلمي‬ ‫الطبيعي أو مناهج تنظيمه وتنظيم السلطان عليه لأنها تطبيق للبحث العلمي الإنساني)‪.‬‬ ‫‪ .2‬وبهذين المعنيين فهي لا يمكن أن تكون مقصورة على الجماعة المتساوقة بل هي‬ ‫تعتمد خاصة على الجماعة المتوالية أي على تراكم العلوم وتطبيقاتها في المجالين الطبيعي‬ ‫والإنساني وعلى تراكم التنظيم التعاوني في الجماعة الباحثة في العلوم وفي الفنون‬ ‫والآداب‪ .‬ومعنى ذلك أن الانتاج الثقافي وحتى الانتاج الاقتصادي ليسا قوميين ولا ثقافيين‬ ‫بمعنى الانتساب إلى أمة معينة أو حضارة معينة بل هما عمل كوني وإنساني حتى وإن بدا‬ ‫وكأن بعض الشعوب أسهمت فيه أكثر من غيرها وفي هذا الظن الكثير من اعتداد بعض‬ ‫الشعوب بدورها وهو اعتداد مبالغ فيه وكاذب‪.‬‬ ‫ولنا من هذا الاعتداد المبالغ فيه إلى حد الكذب كذبتان شهيرتان‪:‬‬ ‫‪ .1‬كذبة المعجزة اليونانية التي يذهب إصحابها إلى أن الحضارة اليونانية لا تدين‬ ‫بشيء لمن تقدم عليها نفيا لدور مصر وما بين النهرين على الأقل‪.‬‬ ‫‪ .2‬كذبة المعجزة الأوروبية التي يذهب أصحابها إلى أن الحضارة الغربية الحديثة‬ ‫لا تدين بشيء لمن كان فاصلا بينها وبين اليونان نفيا لدور العرب والمسلمين على الأقل‪.‬‬ ‫أما الحمقى الذين يعتقدون أن الفكر سواء كان فرديا أو جماعيا يمكن أن يدرك ما‬ ‫يطلبه بالضربة القاضية وليس بالنقاط اللامتناهية فيتوهمون أنه قابل للعبارة عنه في مرة‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪28‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫واحدة بمحفوظاتهم الدالة على الموت والغباء ويسمون ذلك فكرا فلسفيا وهو عين الغباء‬ ‫الذي لم يشم أصحابه رائحة الفكر فضلا عن الفكر الفلسفي‪ .‬لذلك فمواصلة الحفر‬ ‫ومعاودة العبارة الأدق والأعمق لا يفهمه من لم يتجاوزوا اجترار ترديد المحفوظات ولم‬ ‫يصلوا إلى الاجترار بمعناه النيتشوي الذي ليس هو ظاهرة عرضية بل جوهر عمل الفكر‬ ‫الفلسفي‪.‬‬ ‫لذلك فهذه الرؤية الببغاوية التي تكرر كتب القرون الوسطى الصفراء وحدها كافية‬ ‫للدلالة على أنهم لم يفكروا قط في حياتهم متصورين توارد الخواطر أو فيض الخاطر فكرا‬ ‫ككل خريجي مدارس المحفوظات التي تقتل الفكر فتجعلهم منتفخين بالهواء وهم ممثلو‬ ‫جوهر الداء الذي ما تزال الأمة تعاني من آثاره لكونه هو علة الانحطاط والتخلف‪.‬‬ ‫فهذا الداء الذي يعلل ما تعاني الأمة رمزه أنهم صاروا إما أمراء حرب عنيفة تحرف‬ ‫الجهاد إلى قتال عبثي لتكوين إمارات رأينا أثرها في كل بلاد الإسلام التي صاروا علة‬ ‫تفتيتها أو أمراء حرب لطيفة حمقاء تحرف الاجتهاد بكاريكاتور التأصيل المناظر لكاريكاتور‬ ‫التحديث‪ .‬وكلاهما يمثل جوهر الاستبداد الذي يحول دون تعريف الإنسان القرآني كما‬ ‫صاغه ابن خلدون “رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلقه” أي متحرر من الوساطة‬ ‫الروحية ومن الوصاية السياسة بنص ما أمر به النبي في علاقته بمن أرسل لتذكيرهم‬ ‫(الغاشية ‪ )22-21‬بما فيهم مرسوما في ما فطروا عليه وشهدوا على أنفسهم بالالتزام به‬ ‫وهم في ظهور آبائهم (الأعراف ‪.)173-172‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪29‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لماذا ينبغي أن تكون اللغة العربية مخمسة البنية مربعة الفروع إذ العنصر الخامس هو‬ ‫أصل المربع المتفرع عنه؟‬ ‫كلنا يعلم أن النحاة العرب اعتبروا العربية مؤلفة من ثلاثة عناصر هي الاسم والفعل‬ ‫والحرف دون أن يحددوا البنية التي تجعل العربية مؤلفة من هذه العناصر تحديدا يكون‬ ‫جامعا ومانعا‪ .‬لم أجد جوابا شافيا يعلل الاقتصار على ثلاثة لا أكثر ولا أقل ولماذا كانت‬ ‫هذه الثلاثة تلك الثلاثة بالذات حتى لو قبلنا بأن الاستقراء أوصلهم إلى ذلك أو مجرد‬ ‫تقليد اليونان‪.‬‬ ‫وقد عالجت هذا المشكل في كتاب \"الشعر المطلق والإعجاز القرآني\" دون أن يكون حينها‬ ‫قصدي مناقشة التثليث المنطقي والوجودي في فكر هيجل وصلته بالحاجة إلى تجاوز القضية‬ ‫الحملية بمعناها الأرسطي إلى القضية التأملية بمعناها الهيجلي‪ .‬فقد كان الدافع إلى علاج‬ ‫المسألة هو محاولة فهم الوظائف الشعرية للألسن عامة وللسان العربي خاصة ولدوره في‬ ‫القرآن بصورة أخص‪.‬‬ ‫سأترك \"الحرف\" الذي يمكن تعريفه بالوصلة الضرورية بينهما عندما يكون الفعل قاصرا‬ ‫أو للوصل بين الجمل للدلالة على تحييز عمل اللسان في الحيز المكاني والحيز الزماني أو‬ ‫لتحييز مفعوله في الحيز الخطابي والحيز المنطقي وذلك في علاقة التواصل بين مستعملي‬ ‫اللسان لذاته أو لعلاقة بالتبادل بينهم‪ .‬ووظائف الحرف هذه التي اعرفها تعريفا جامعا‬ ‫مانعا غير مسبوق هي التي تجعله أصل الترميز اللساني في كل لسان رغم أنه يبدو أقل‬ ‫أهمية من الاسم والفعل‪.‬‬ ‫ولهذه العلة فقد اعتبرت الحرف الأصل في هذه الحالة في كل ما هو لساني من حيث هو‬ ‫فعل ترميز لما يمكن اعتباره حرية المرمز في الوصل بين الرموز وسياقها الخارجي (التحييز‬ ‫في المكان والزمان) أو سياقها الداخلي (التحييز في الخطاب والمنطق)‪ :‬فتلك هي وظائف‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪30‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الحرف في أي لسان أعني الرمز الواصل بين الاسم والفعل أو بين المركبات منهما عند‬ ‫الاقتصار على المثلث التقليدي في تعريف اللسان‪.‬‬ ‫وسأمر إلى الاسم والفعل وهما إحالة إلى الأشياء والمخاطبين والغائبين والمتكلمين‬ ‫(الاسم) والتعامل معهم بالكلام (الفعل) تعاملا جوهره هو ما ذكرت في كلامي على الحرف‬ ‫أعني الوظيفة التحييزية بمعانيها الأربعة وما يحدث في الأحياز من المعاملات الممكنة‬ ‫بوظائف اللسان‪:‬‬ ‫‪ .1‬فأسأل عن عمل الاسم هل يمكن تصوره ممكنا إذا لم يكن له شرط متقدم عليه‬ ‫هو نتوء المسمى بما يعرض منه ليكون قابلا لوصفه وصفا يسميه؟‬ ‫‪ .2‬ثم أسأل عن عمل الفعل هل يمكن تصوره ممكنا إذا لم يكن له شرط متقدم عليه‬ ‫هو نتوء الفعل بما يعرض منه ليكون قابلا لوصفه وصفا يفعله؟‬ ‫ولما طرحت هذين السؤالين تساءلت ألا يوجد في اللسان العربي أثر لهذين الشرطين‬ ‫مهما كان حضورهما في اللسان شديد الخفاء وهامشيا؟‬ ‫ألسنا نتكلم على ظاهرتين لعلهما في علاقة بهذا الأمر الذي أطلبه ولم أجد له أثرا في‬ ‫بيان عناصر اللسان التي تتألف منها بنيته المخمسة لأنه ربما اختفى بسبب رده إلى العناصر‬ ‫المذكورة في نظرية اللسان المثلثة أعني؟‬ ‫• أولا اسم الفعل‪ :‬فما حقيقته ولماذا اعتبر اسم فعل؟‬ ‫• ثانيا اسم الصوت‪ :‬فما حقيقته ولماذا اعتبر اسم صوت؟‬ ‫لما حاولت فهم هذين الأمرين والجواب عن السؤالين بهرني دورهما المصاحب للاسم‬ ‫والفعل دائما عندما لا يظهران بذاتهما منفصلين عن الاسم والفعل لاختلاف ذلك عن‬ ‫ظهورهما الهامشي عندما يكون محضا غير مصاحب للاسم والفعل عامة‪ .‬وهما إذن ذانك‬ ‫الشرطان اللذان بحثت عنهما في نسبة الوظيفة الاسمية للأسماء ونسبة الوظيفة الفعلية‬ ‫للأفعال‪ .‬فإذا أضفتهما للسان صار مخمسا وليس مثلثا‪:‬‬ ‫‪ .1‬اسم الفعل‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪31‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .2‬اسم الصوت‬ ‫‪ .3‬الفعل‬ ‫‪ .4‬الاسم‬ ‫‪ .5‬الحرف الذي هو أصل الاربعة المتقدمة عليه لأنه هو الذي يصل بينها وبينها وبين‬ ‫الحيزين الخارجيين المكان والزمان والحيزين الداخليين الخطاب والمنطق فيحقق وحدة‬ ‫الأحياز ووحدة العناصر الاربعة وتلك هي بنية الترميز اللساني‪.‬‬ ‫لذلك اعتبرت الحرف كما ذكرت أصلها جميعا لأنه هو جوهر فعل الكلام بحق من حيث‬ ‫هو المحيز للترميز في الحيزين المكاني والزماني خارجه وفي الحيزين الخطابي والمنطقي فيه‬ ‫ما يجعل الترميز عالما قائما بذاته هو فاعلية الإنسان بوصفه كائنا مرمزا‪ .‬ولولا ذلك‬ ‫لاستحال فهم الشعرية عامة والشعرية المطلقة التي هي ما يحاول جعل الشعر قولا يقترب‬ ‫مما في القول القرآني من الاعجاز القولي لأنه لا يكتفي بالتحييز المكاني والزماني‬ ‫والخطابي والمنطقي بوصفها أربعتها متقدمة عليه في الوجود بل هو وجدها بوصفه متقدما‬ ‫عليها في الوجود إذ هو موجدها وله علاقة مباشرة بنوعي المعاني التي سمى ابن تيمية نوعها‬ ‫النظري تقديرات ذهنية رياضية للعلوم الطبيعية والحقيقة وقست عليها نوعها الثاني‬ ‫وسميته تقديرات ذهنية خلقية للعلوم التاريخية والقيمة‪.‬‬ ‫فإذا أردنا أن نفهم معنى التسمية فلا من فهم اسم الصوت وأن نفهم معنى الفعلية من‬ ‫فهم اسم الفعل فلا أن نفهم معنى اسم الصوت واسم الفعل‪ .‬فيصبح ما يبدو هامشيا في‬ ‫اللسان هو الأصل ونفهم حينها علة اعتبار الحرف أهم وظائف عناصر اللسان فيكون هو‬ ‫أصل العناصر الأربعة التي تتألف منها بنية اللسان المخمسة باعتبار الأصل واحدا منها لأنه‬ ‫موجود في كل واحد منها وذو قيام ذاتي خارجها‪ .‬ولكن قبل ذلك لا بد من الكلام على‬ ‫خصيصة في العربية محيرة لم أجد لها مثيلا لا في الفرنسية ولا في الانجليزية ولا في الألمانية‬ ‫وهي أن دلالة الأفعال على الزمان فيها على نوعين‪:‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪32‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .1‬الأول نوع لا يكتفي بالتحييز الزماني من خلال دور الفعل التصريفي الدال على‬ ‫الظرفية الزمانية ماضيا ومضارعا ومستقبلا للفعلية بل هو يعين لحظة الزمان ليشتق الفعل‬ ‫من اسمه‪ :‬مثل أصبح وأمسى وبات وأضحى إلخ‪..‬‬ ‫‪ .2‬الثاني نوع لا يكتفي بالتحييز المكاني من خلال دور الفعل التصريفي وما يصبحه‬ ‫من دوال على الظرفية المكانية مطبقا عليه التحييز الزماني السابق بل هو يصله بالوجود‬ ‫نفسه‪-‬لأن كان من الكون الذي هو كل المكان ومن الكيان الذي هو الوجود إذ إن \"مكان\"‬ ‫أشبه بالمصدر الميمي من كان‪ -‬وحينها يصبح التحييز المكاني والزماني مجتمعين فيه هما عين‬ ‫التحييز الوجودي خارج الخطاب والمنطق‪.‬‬ ‫والأكثر تحييرا هو أن القرآن يستعمل ذلك لتجاوز التحييزين الخطابي والمنطقي‬ ‫المتعلقين بنظام عالم الشهادة المتقدم على الرمز اللساني إلى نظام عالم الغيب الذي للرمز‬ ‫الساني فيه تقدم على العالم تقدما يجعل الرمز قبل المرموز بحيث إن \"كن\" تصبح خالقة‬ ‫وآمرة ولا تلتزم بمكان ولا بزمان يحيزان الأفعال والأسماء بل هي فوق المكان والزمان‬ ‫لأنها متخلصة من‪:‬‬ ‫• الضرورة الشرطية المتحكمة في نظام الطبيعة (أرسطو)‪.‬‬ ‫• والحرية الشرطية المتحكمة في نظام التاريخي (قياسا مني عليها)‪.‬‬ ‫وهذا التخلص يجعل عالم الغيب محكوما باللاضرورة الشرطية وباللاحرية الشرطية‬ ‫بمعنى يحول دون مقارنته بعالم الشهادة‪ .‬وذلك هو معنى \"ليس كمثله شيء\" لأنه فوق‬ ‫الضرورة الشرطية خلقا وفوق الحرية الشرطية أمرا‪ .‬وهو ما يقتضي التمييز بين الكلام‬ ‫الذي موضوعه هذا العالم الذي ليس كمثله شيء وعالمنا فلا يكون دالا على حقيقته التي‬ ‫لا نعلمها لأنه من الغيب المحجوب‪.‬‬ ‫ومن ثم فكل تأويل له برده إلى الكلام الذي موضوعه عالم الشهادة قيسا عليه بالإيجاب‬ ‫أو بالسلب هو التأويل المنهي عنه في آل عمران ‪ 7‬لأنه دليل زيغ في القلب وابتغاء الفتنة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪33‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وذلك مصدر تغيير ابن تيمية نظرية اللغة ونظرية المعاني الكلية التي صارت رموزا وليست‬ ‫مقومات للأشياء التي ترمز إليها مثلها مثل اللسان والكتابة‪.‬‬ ‫والآن حان الكلام على اسم الصوت أصلا لوظيفة التسمية اللسانية واسم الفعل اصلا‬ ‫لوظيفة الفعل اللساني ومن ثم منطلقا لإضافة البعدين الناقصين في التثليث اللغوي فيصبح‬ ‫لدينا‪:‬‬ ‫‪ .1‬اسم الفعل أصلا‬ ‫‪ .2‬الفعل عامة فرعا عنه من حيث وظيفة الفعلية‬ ‫‪ .3‬اسم الصوت أصلا‬ ‫‪ .4‬الاسم عامة فرعا عنه من حيث وظيفة التسمية‪.‬‬ ‫‪ .5‬الحرف الذي هو أصلها جميعا‪.‬‬ ‫فما معنى اسم الفعل؟ إنه اختيار ما لحركة أو عبارة بدنية تصور المعنى المقصود إفادته‬ ‫كما في \"صه\" بمعنى \"اسكت\"‪ .‬وهي حركة الشفتين يتصاحب فيها جهاز التصويت وعبارة‬ ‫الجسد كما في هيئة الناطق خلال النطق أو في وضع الإصبع على الشفتين وهي إذن \"رسم‬ ‫لفعل\" ومن ثم فلها صلة بالمكان‪.‬‬ ‫فإذا جمعنا الأمرين حصل لنا أصل مهم وهو أن الشرط المتقدم على الاسم وعلى الفعل‬ ‫يشتركان في كونهما مستمدين من فعلين ملازمين لكل لسان‪:‬‬ ‫• الرسم أو الفن التشكيلي إما المحاكي لشيء يعبر عن الفعل أو المجرد بالنسبة إلى‬ ‫الفعل بالمعنى‪ .‬وقانونه الكناية بعلاقة أوجه التعليل‪.‬‬ ‫• والفن الإيقاعي بالنسبة إلى الاسم إما المحاكي بالصوت أو المجرد بالمعنى الذي يفيد‬ ‫التناغم بين الاسم والمسمى‪ .‬وقانونه الاستعارة بعلاقة أوجه الشبه‪.‬‬ ‫وذلك يوصلنا إلى السؤال الثاني وهو‪ :‬ما معنى اسم الصوت؟ إنه اختيار صوت الشيء‬ ‫الذي سنسميه اسما لذاته من جنس زقزق ورفرف وجل \"الاونوماتوبي” هو من هذا الجنس‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪34‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وهو إذن تناظر نظمي أو إيقاعي بين الاسم والمسمى‪ .‬وطبعا ليس \"الأنوماتوبي\" هي التي‬ ‫تعنيني بحد ذاتها بل كون الاسم عامة يشتق من بعض أعراض الشيء بمنطق التناظر‬ ‫النظمي بين الاسم والمسمى لتسميته به من حيث الخصائص النظمية سواء كانت صوتيه كما‬ ‫في الأونوماتوي أو معنوية كما في التناظر النظمي المجرد عامة دون أن يكون له حامل صوتي‬ ‫مثلها‪.‬‬ ‫وهذه خاصية تعم جل الأسماء في العربية‪-‬انظر مثلا أسماء السيف أو أسماء الحيوانات‬ ‫وخاصة الأليفة لكنها ظاهرة عامة سواء كانت اللغة يغلب عليها خاصية الاشتقاق أو خاصية‬ ‫النخب علما وأن كل اللغات فيها النوعان مع غلبة أحدهما على البعض والآخر على البعض‬ ‫الآخر‪ .-‬وحتى أسماء العلم للأشخاص أو للأشياء فهي تدل على أن الآباء لما يختارون الاسم‬ ‫يعبرون عما ينشدون من الابن أو البنت من الصفات التي علقت بذلك الاسم على التبرك‬ ‫في تسمية الأشياء‪.‬‬ ‫فتكون هاتان الآليتان البلاغيتان‪-‬الكناية والاستعارة‪ -‬هما الأصل المتقدم على وظيفة‬ ‫الفعل وعلى وظيفة الاسم بالمعنى اللساني الذي يلي المعنى البلاغي‪ .‬ومعنى ذلك أن‬ ‫الإنسان من حيث هو ناطق يعبر كنائيا لرسم الأفعال بتشكيل ما يرمز إليها في رسميا ويعبر‬ ‫استعاريا بتشكيل الأسماء بتنغيم ما يرمز إليها موسيقيا‪ .‬ولما توضع الأفعال والأسماء أول‬ ‫مرة تصبح جهازا تواصليا في الجماعة تتوارثه الأجيال ويتراكم ليصبح نظاما لسانيا خاصا‬ ‫بجماعه يجمع دائما بين اللفظ المسمي للفعل وللاسم والتلفظ المستعمل لهما والمركز على ما‬ ‫بينهما وبين العبارة الجسدة من علاقات‪.‬‬ ‫فالتشكيل الرسمي يعتمد على الكناية ووجوه التعليل بين الفعل والمفعول سواء كان‬ ‫بالرسم المحاكي أو بالرسم المجرد‪ .‬والتنغيم يعتمد على الاستعارة ووجوه الشبه بين الاسم‬ ‫والمسمى سواء بالتناغم الصوتي المحاكي أو بالتناغم المعنوي المجرد‪ .‬والآليتان ملازمتان لكل‬ ‫أفعال اللغة ولكل أسمائها‪ .‬وبهما يفهم الطفل ما حوله قبل تعلم اللغة بل بهما يتعلم اللغة‪.‬‬ ‫فرسوم الأشياء تنتأ عند النظر إلى الشيء الذي يرغب فيه أو يرغب عنه علة لعبارته‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪35‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وبها يعبر في مخاطبته أمه لأنها تبرز في إشارته إليها‪ .‬ولنا في تاريخ اكتشاف الكتابة الدليل‬ ‫القاطع على ان الكتابة الرسمية أصل ثابت في الكلام اللساني وهو الذي يثبته في توالي‬ ‫الأجيال‪.‬‬ ‫فالكتابة الأولى رسم للأشياء وهي تصويرية‪ .‬ونجد الكثير منها في الكتابة‬ ‫الهيروغليفية‪ .‬وحتى الكتابة الألفبائية فهي رسم للحيوانات التي اختيرت لأن أول حرف‬ ‫من حروف اسمها ليكون رسمها رمزا للحرف فيكون النص المكتوب سلسلة من رسوم الحيوانات‬ ‫التي جعل أول حرف من اسمها رسما للحرف في الكتابة الألفبائية‪.‬‬ ‫كما أن الطفل يُنتيء بعض مقاطع من صوته عندما يعبر بتنغيم الصوت قبل تعلم اللغة‬ ‫وغالبا ما يكون تصويتا بكائيا ليعين الأشياء أو على الأقل لينادي أمه أو ليعبر عن حاجته‪.‬‬ ‫ولنا كذلك الدليل القاطع في اللغات البدائية التي هي \"ميلودي\" تعبر بتنغيم الصوت‬ ‫ونبراته أكثر مما تعبر بالصوت الكلامي‪ .‬وقد أسمح لنفسي بالقول إن التعبير البدني‬ ‫نوعان‪:‬‬ ‫• بدن موضوع الكلام‪.‬‬ ‫• وبدن صاحب الكلام‪.‬‬ ‫وهذا التعبير البدني المضاعف متقدم على التعبير اللساني التقليدي وملازم له وهو رسم‬ ‫وتنغيم‪ .‬وإذن فالأصلان المتقدمان على العناصر الثلاثة في النظرية اللغوية هما الرسم‬ ‫والموسيقى‪ .‬ومن قرأ القرآن بتأمل يجد أنه يستعمل الأمرين‪:‬‬ ‫‪ .1‬فهو رسم للمشاهد الفعلية ولا شيء أكثر اقناعا لسامه من القصص الذي هو‬ ‫بالأساس رسم لمشاهد حوارية بين شخوص لكأن القرآن يستعمل لغة المسرح وهو قريب جدا‬ ‫من شكل العبارة الشعرية اليونانية‪.‬‬ ‫‪ .2‬وهو تنغيم للأقوال المسمية ولعل السر في أهمية تجويد القرآن من أهم أدوات‬ ‫تأثيره على السامعين حتى لو كانوا لا يفهمون لغته وأكاد أجزم ان ذلك يصح على العرب‬ ‫صحته على غيرهم من المسلمين‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪36‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لا شك أن الكثير سيعترض لكن ذلك الرسم والتنغيم كلاهما يبدوان تاليين على اللغة‬ ‫ذات العناصر الثلاثة‪ .‬وهذا صحيح إذا اعتبرنا هذه العناصر الثلاثة دون تحولها إلى رموز‬ ‫لا ترمز بذاتها بل بمعانيها الكلية التي تجعلها من جنس الرسم في الكتابة‪ .‬فالشاعر مثلا‬ ‫يرسم بالكلام وينغم بإيقاع الكلام‪ .‬ولذلك فالشعر الحديث عند العرب لم يصبح بعد شعرا‬ ‫لأنه يتجاهل هذين الأمرين ويقتصر على المعاني العامة التي حولته إلى حكم شعبية ظنوها‬ ‫فلسفة وهي شعارات سخيفة لا تعني شيئا لفقدانها شرطي فاعلية الشعر‪.‬‬ ‫وعندما نفهم ذلك نفهم أن الجرجاني عندما يتكلم على معنى المعنى يجعل المعنى الأول‬ ‫مجرد رسم صار رمزا للمعنى الثاني‪ .‬وهو لم يكتشف نظير ذلك في التنغيم وكان عليه أن‬ ‫يناظر بين مفعول الرسم ومفعول الموسيقى في المعنى الاول الذي يصبح مجرد رمز لأداء‬ ‫المعنى الثاني أو معنى المعنى‪ .‬وعندما نفهم ذلك نصبح في حل من خرافة المقابلة بين‬ ‫الحقيقة والمجاز‪ .‬فلا الأول حقيقة ولا الثاني مجاز بل الأول صار مثل فرشاة الرسام أو‬ ‫مثل الكتابة التصويرية وليس لها دلالة غير وصف الرسم الذي صار رمزا‪ .‬وكان ينبغي أن‬ ‫يكون لذلك نظير في الموسيقة الصوتية مثل الرسم الشكلي‪.‬‬ ‫فمثلا عندما أقول \"يقدم رجلا ويؤخر أخرى\" فقد رسمت حركة مترددة‪ .‬والقصد هو‬ ‫التردد في الحالتين‪ .‬لكن ما في الجملة \"يقدم رجلا ويؤخر أخرى\" لا يعنيني معناه بل ما‬ ‫يعنيني أنه أداة لقول معنى \"تردد\" الذي هو المعنى المقصود والعبارة عنه هي رسم التردد‬ ‫في حركة المتردد‪ .‬وكلاهما \"مجاز\" في الحقيقة لأن الرسم في الجملة لا علاقة له بحركة‬ ‫التقدم والتأخر المقولة إلا من حيث هو رسم يرمز لها وليس هو حقيقتها‪ .‬وما يؤديه معنى‬ ‫الجناس والطباق مثلا ‪-‬الاليتيراسيون صوتيا في الجناس والعلاقة المنطقية التقابلية في‬ ‫الطباق‪-‬له نفس الوظيفة‪.‬‬ ‫والتردد المقصود لا علاقة له بحركة التقدم والتأخر في الرسم إلا كونها معنى مجردا‬ ‫رسمته بهذه الصورة باعتباري إياه حالة نفسيه جعلت من رسمته مقدما رجلا ومؤخرا أخرى‬ ‫متحيرا في حركته وإذن فالرسم رسم لعلة للحالة النفسية التي اعتبرها علة للحركة‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪37‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫المترددة‪ .‬ولذلك اعتبرت اسم الفعل أصله الكناية‪ .‬ولا أحتاج لنفس التحليل لإثبات أن‬ ‫أصل اسم الصوت أصله الاستعارة‪.‬‬ ‫وختاما فاللغة أي لغة تتألف من خمسة عناصر أربعة فروع وأصل‪ .‬والفروع الأربعة ظنت‬ ‫اثنين لأن اسم الصوت يندمج في الاسم بما بينه وبين الاسم المعنوي (ويظن وجوديا) من‬ ‫تناظر إيقاعي واسم الفعل يندمج في الفعل اللساني لما بينه وبين الفعل المعنوي (ويظن‬ ‫وجوديا) من تناطر شكلي‪ .‬لكن الاندماج لا ينفي الثنائية في كل منهما‪ .‬والأصل كما بينت‬ ‫هو الحرف وقد حللت القصد بكونه هو الأصل‪ .‬ذلك أن مجرى الكلام في المكان وفي الزمان‬ ‫وفي الخطاب وفي المنطق هو الذي يجعل الإحالة إلى هذه الأحياز الأربعة عين وظايف‬ ‫الحرف في أي لغة إنسانية‪.‬‬ ‫وما كنت لأكتشف ذلك لولا البحث في سر الشعرية وسر الاعجاز القرآني الذي لا يمكن‬ ‫للشعر حتى المطلق أن يصل إليه وإن كان فيه ما في الإنسان من تعال على الموجود إلى‬ ‫المنشود‪ .‬فالإعجاز القرآن يجعل القول خالقا لموضوعه وليس قائلا له بل القول هو الذي‬ ‫يخلق المقول ومن ثم فهو متحرر من حدود الزمان والمكان والخطاب والمنطق‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪38‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫أمر الآن إلى المسألة الثالثة مسألة علوم اللسان كما تبدو في نظريتها التي أجمع عليها‬ ‫اللسانيون الحاليون‪ .‬فلماذا اعتبرها بحاجة إلى إضافة علمين آخرين مع الثلاثة التي‬ ‫أجمعوا عليها أي السنتاكس (علم نظام اللغة) والسيمنتكس (علم الدلالة) والبراجماتكس‬ ‫(علم التداول)؟ وما الحاجة التي دعتني إلى وضع علمين آخرين كما فعلت مع اللغة عامة؟‬ ‫الست أتكلف لأصل إلى التخميس وكأني أرد على التثليث لعلة إيديولوجية أو عقدية لأن‬ ‫ما حددته في عناصر اللغة العربية مثلا وإضافتي عنصرين آخرين يظهران نادرا مفصولين‬ ‫عن البقية‪-‬أعني اسم الصوت واسم الفعل‪ -‬لا يدركه من يقصورون المعرفة على حفظ‬ ‫الحاصل بدلا من كونها محاولة فهمه والسعي لبيان ما يضمره فيدركوا مثلا أن الاسم‬ ‫والفعل والحرف تثليث ليس مطابقا لحقيقة اللسان ولا يكفي لفهمه وفهم علاقته بالرسم‬ ‫والموسيقي شرطي الشعر الذي هو أقرب الأشكال التي تتعين فيها قدرة التواصل بين البشر؟‬ ‫قبل أن أجيب عن هذين السؤالين المحرجين جدا لما يبدو من غرابة في ما أدعيه ‪ -‬وخاصة‬ ‫إذا سلمنا بأن للحمقى رأيا في اللطائف وهم لم يخرجوا من التخريف المدرسي والتقليد‬ ‫البليد للمسترزقين بموضات الفلسفة المروحنة مسيحيا بتنكر هايدجري لا يدركون ما فيه‬ ‫من وهم تميز لغة عن لغة بالقدرة على قول الوجود افضل من اللغات الاخرى ما يجعل‬ ‫التوارد الفيلولوجي المتكلف شبه معين التخريف الذي يزعم فكرا يحدد مصير الحضارات‬ ‫المتفاضلة تفاضل ارواح الشعوب بهيجلية متنكرة‪ -‬سأبدأ بأصل المشكل كما برز عند‬ ‫فيلسوفين كبيرين في فلسفة المنطق‪.‬‬ ‫‪ .1‬أولهما يثبت ما أسست عليه فرضيتي أعني اختلاف المعنى عن الدلالة‪.‬‬ ‫‪ .2‬والثاني يبدو للوهلة الاولى نافيا لوجود معنى مختلف عن الدلالة وكأنها المقصود عند‬ ‫الاول‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪39‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وكلاهما معاصر لنا رغم أن تاريخ وفاة الأول قريب من تاريخ مولد الثاني‪ .‬ومن ثم يمكن‬ ‫القول إنهما في القرنين الأخيرين أفضل من يمثل الإشكالية التي أريد علاجها في مراجعة‬ ‫نظرية اللسان الحديثة رغم أن الرجلين كلاهما مختص في المنطق وليس في اللسانيات‪:‬‬ ‫• فالأول هو جوتلب فراجه وهو ألماني توفي سنة ‪.1925‬‬ ‫• والثاني هو فيلارد فان أورمان كواين أمريكي وتوفي سنة ‪.2000‬‬ ‫لما ميز فراجه بين المعنى ‪ Der Sinn‬والدلالة ‪ Die Bedeutung‬كان يتكلم على أمر لساني‬ ‫في خلال بحث منطقي سعيا لوضع كتابة تيسر لغة المنطق‪ .‬ولما نفى كواين هذا التمييز كان‬ ‫هدفه تجاوز المقابلة الكنطية بين التحليلي والتأليفي القبلي‪ .‬وكان يبدو وكأنه يتكلم على‬ ‫نفس الأمر اللساني‪ .‬وإذا فهمنا هذه الـ”يبدو” أمكن أن نفهم أبعاد الإشكالية وعمقها‪.‬‬ ‫وقد ترجمت مقالته حول \"معتقد ْي التجريبية\" وكتابيه في المنطق البسيط (الذي نشر منذ‬ ‫أكثر من عقين) ومناهج المنطق (الذي لم ينشر بعد رغم أني ترجمته منذ عقدين)‪.‬‬ ‫فبدا وكأني استند إلى أمر يثبته أحد الكبار وينفيه من ليس أقل منه منزلة في فلسفة‬ ‫العلم رغم كونه ربما دونه في تاريخ الثورات الفلسفية الريادية‪ .‬لكنه أكثر منه تأثيرا في‬ ‫فلسفة المنطق الحديثة بل وحتى في نظرية الوجود المتحررة من الخلط بين الكلام العلمي‬ ‫وعرض أحوال النفس عند الهيدجريين‪.‬‬ ‫فعندما نحلل رؤية كواين لطبيعة المعرفة العلمية وعلاقتها بالنظام العقلي الذي يؤسسها‬ ‫ننتهي إلى أن ما ينفيه ليس ما يثبته فراجه بل هو ينفي الفرق بين الدلالة والمعنى بمنظور‬ ‫مختلف تماما عن القصد بهما عنده‪ .‬فعنده أن النظام العقلي الميثولوجي والنظام العقلي‬ ‫العلمي لا يختلفان من حيث الدور في تأسيس الدلالة التي لم تعد أمرا مقصورا على الاحالة‬ ‫للوجود بمعناه الطبيعي أو التاريخي اللذين يعتبران من \"الواقع\"‪ .‬لذلك فهو يسلم بما‬ ‫يقوله فراجه إذا فهمنا معنى الدلالة عنده‪ .‬والفرق الوحيد هو أنه يعتبر الدلالة بمعناها‬ ‫عند فراجه أحد أشكال المعنى عنده أعني أنها ليست ما يحيل إلى الواقع بل ما يحيل إلى‬ ‫أي قيمة للمتغيرات في النظام العقلي الذي بنيت عليه النظرية حتى لو كانت خرافية من‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪40‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫جنس الميثولوجيا‪ .‬والعلة هي أن ما يفكر فيه فراجه هو التمييز بين الإحالة إلى شيء‬ ‫حقيقي من العالم الذي يعتبر واقعا والمعنى الذي هو في حل من هذه الإحالة‪.‬‬ ‫لكن كواين لا يعتبر ما تحيل إليه الدلالة شيئا حقيقيا من هذا العالم الواقعي بالضرورة‬ ‫بل هي الإحالة بحسب النظام العقلي سواء تعلق بالعالم الطبيعي مثلا أو بالعالم المثيولوجي‬ ‫لأن الدلالة عنده ليست إحالة إلى شيء واقعي بل هي إحالة إلى قيمة لمتغيرات النظام‬ ‫بحسب \"التزامه الوجودي\"‪ .‬ومن بين هذه القيم أشياء العالم الحقيقي في نظام العلم ذي‬ ‫النظام العقلي الحالي وهي قابلة للتغير إذا كان ذلك ضروريا لمواءمته مع الحاجة إلى‬ ‫التناسق الأبسط‪.‬‬ ‫وكنت أعجب من مدرسي المنطق والإبستمولوجيا في جامعة تونس الأولى الذين لم يدركوا‬ ‫هذا الفرق رغم تطاوسهم ولم ينتبهوا إلى ثورتي كواين في فلسفة المنطق ونظرية المعرفة‬ ‫تورثتيه اللتين تتجاوزان الخلاف بين الكنطية (رفض المقابلة تحليلي تأليفي لتأسيس‬ ‫التأليفي القبلي) والهيجلية (رفض وحدة العقلي والواقعي) ومن ثم فهو المؤسس الحقيقي‬ ‫لأساسي ما بعد الحداثة أعني ذاتوية المعرفة الإنسانية عند كنط ورفض المقابلة بين‬ ‫الظاهرات والأشياء في ذاتها عند هيجل‪.‬‬ ‫لكنه يؤسسها على فلسفة منطقية ولغوية متينة وليس بالصورة التي تنسب إلى نيتشة أو‬ ‫من يحاكيه بسطحية من فلاسفة يدعون الابداع ويكتفون بحدوس ينسبونها إلى الفن‬ ‫والشعر اللذين لا يتجاوزان التوارد اللساني مع انتفاخ أوداج يدعي أصحابه أن العلوم لا‬ ‫تفكر وأن الفلسفة هي التي تفكر‪ .‬فكان المآل خرافة السرديات وانحطاط الفلسفة حتى‬ ‫صارت هذيان أدعياء الابداع بالتوارد عدم الأسس المنطقية‪.‬‬ ‫فنظرية النظام العقلي الذي من خلاله يلامس الإنسان أشياء التجربة الحية بأطراف‬ ‫النظام هي التي تمكن من اكتشاف تناظر بين منظومة رموزه ومنظومة مرموزاته ما يجعل‬ ‫العقل يحافظ عليه إما بتبسيط الأولى أو بتأويل الثانية سواء كانت التجربة الحية مع‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪41‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫العالم الذي نعتبره واقعا أو مع العالم الذي نعتبره ميثولوجيا‪ .‬عندي إذن رؤيتان حسب‬ ‫تعريف المرجع‪ .‬فالمرجع هو ما يحيل إليه الرمز‪:‬‬ ‫• إما شيء حقيقي في الدلالة التي تحيل إلى عالم التجربة الطبيعية‪ .‬وهذا هو قصد‬ ‫فراجه الذي يميزها عن المعنى‪.‬‬ ‫• أو قيمة بالمعنى الرياضي لمتغير هي إحدى الدلالات الممكنة بمقتضى النظام العقلي‬ ‫الذي يعتمد عليه‪ .‬وهذا هو قصد كواين‪.‬‬ ‫فلا يكون كلام كواين مقصورا على عالم التجربة الطبيعية المعتادة ومن ثم فكلامه يمكن‬ ‫أن يجمع بين المعيين اللذين يميز بينهما فراجه‪ .‬وقد يكون المعنى في هذه الحالة خزان‬ ‫الحلول الممكنة لتغيير نظام الأشياء في عالم التجربة الطبيعية للإبقاء على نظام الرموز‬ ‫التي هي النظام العقلي الذي يمكن من التعالم مع نظام الأشياء المشار إليها بنظام الرموز‪.‬‬ ‫وبهذا المعنى فكواين من نفاة الفرق بين القول الفلسفي والقول العلمي وبين القول‬ ‫الفلسفي وأي قول ذي نظام عقلي معين بما في ذلك الميثولوجيات والأديان وحتى الأدب‬ ‫الخيالي والروائي‪ .‬ويمكن القول إن كل النظام الرمزي الإنساني جزء من رؤيته للمعرفة‬ ‫وهو شديد التأثر بيار دوهام الذي كان لي شرف ترجمة الباب الذي خصصه لمصادر الفلسفة‬ ‫العربية من الجزء الرابع من كتابه الضخم وعديد الأجزاء حول نظام العالم‪.‬‬ ‫أعتقد أن هذه المقدمة في فلسفة المنطق واللغة عند هذين العملاقين كافية لتنزيل‬ ‫الإشكالية التي أريد علاجها وهي على كل كافية لمنطلقي في بيان الحاجة إلى إضافة فرعين‬ ‫آخرين لعلوم اللسان حتى أستطيع فهم التعريف الجديد لدور المعاني الكلية بوصفها رموزا‬ ‫للأشياء مثلها مثل اللغة والكتابة وليست مقومات لجوهرها ومحددات لماهيتها وتأسيس‬ ‫نظرية ابن تيمية في المقدرات الذهنية النظرية مثالها الرياضيات وما قسته عليها من‬ ‫مقدرات ذهنية علمية مثالها الأخلاقيات لأن دور هذه في العمل والتشريع والعلوم‬ ‫الإنسانية والقيمية مجانس لدور تلك في النظر والعقد والعلوم الطبيعية والمعرفية‪:‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪42‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .1‬الضرورة الشرطية ونظرية ابن تيمية في المقدرات الذهنية النظرية ومثالها‬ ‫الرياضيات الضرورية لعلم الطبيعة‪.‬‬ ‫‪ .2‬والحرية الشرطية وما قسته على نظرية ابن تيمية لتأسيس نظرية المقدرات الذهنية‬ ‫العملية مثالها الاخلاقيات الضرورية لعلم التاريخ‪.‬‬ ‫وبذلك أكون قد عللت استحالة القول بنظرية المعرفة والقيمة المطابقتين دون الوقوع في‬ ‫المقابلة بين الظاهرات والحقائق لأني لا أومن بأن العالم وحد ومثله الحقيقة‪ .‬فما يعلمه‬ ‫الإنسان حقيقة لكنها نسبية إليه في عالم الشهادة الذي‬ ‫يختلف عن عالم الغيب‪ .‬لذلك فاعتبار المعرفة اجتهادية والقيمة جهادية يجعلهما حقيقيين‬ ‫رغم أنهما لا يطابقان الموجود المطلق معرفة ولا يطابقان المنشود المطلق قيميا بل هما‬ ‫نسبيان إلى العالم الشاهد من حيث هو أحد العوالم وليس العالم الوحيد‪.‬‬ ‫وما يستثنى في الحالتين هو مفهوم الغيب أو لاتناهي الموجود والمنشود وتناهي علمنا وعملنا‬ ‫بالجوهر ما يعني أن هذه المقابلة بين عالم الشهادة الذي يخضع للضرروة الشرطية والحرية‬ ‫الشرطية يقابله عالم الغيب الذي لا شيء يثبت أنه يخضع لهما‪ .‬ومن ثم فهو فعلمنا وعملنا‬ ‫ليس ظواهر مقابلة لحقائق بل هما حقائق مناسبة لعالمنا وهما غير محيطين بما ورائه من‬ ‫عالم الغيب الذي يمكن أن يكون نظامه ضرورة لا شرطية وحرية لا شرطية أي ما يمكن‬ ‫أن يفهم بمعنى الصدفة لتفسير الوجود ككل في رؤية ملحدة أو بمعنى العناية الربانية في‬ ‫رؤية مؤمنة لتفسير الوجود‪.‬‬ ‫وكلتاهما ممكنة عقلا ولا يميز بينهما إلا حرية الاختيار الإنسانية وهي معنى الأمانة أو‬ ‫الحرية في القرآن التي يمكن أن يكون الإنسان جديرا بها أو غير جدير‪ .‬وهذه المفهومات‬ ‫سبق شرحها في محاولات تقدمت على هذه ويمكن الاطلاع عليها لأنها منشورة في مدونتي‬ ‫بالشبكة‪.‬‬ ‫والآن أصل إلى بيت القصيد فأسأل‪ :‬ما الفرق بين المعنى والدلالة بعد أن بينت أن كواين‬ ‫لم ينفها بل اعتبر الدلالة بالمعنى التقليدي أحد مجالات تحديد القيم للمتغيرات في التزام‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪43‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وجودي محدد يعتبر عالم التجربة الطبيعية العالم الوحيد الممكن‪ .‬وهذا المنظور دليل على‬ ‫ضيق الحوصلة بلغة الغزالي عند من يسمون بالواقعيين الذين قتلوا حتى الإبداع الأدبي‬ ‫الذي صار نسخة مشوهة من التاريخ بأن جعلوا ما يسمونه واقعا واجبا ومثالا أعلى للمكن‬ ‫مثل من يعتقد أن العلم مثاله الأعلى ما يستمد من التجربة الطبيعية فتكون الرياضيات‬ ‫نسخا للطبيعة وليس العكس حيث تكون هي أحد ممكنات الرياضيات؟‬ ‫فالدلالة بمعناها البسيط والساذج لا يتضمن المعنى لأنها تتحدد بعلاقة بين الرمز والمرموز‬ ‫الذي يحيل عليه أي بين اللغة وما يمثل مراجعها في العالم الخارجي‪ .‬لكن المعنى رمز لا‬ ‫يحيل لمرموز معين من العالم الخارجي بل هو لا يحيل إلى شيء موجود بالضرورة ولا يخضع‬ ‫لشرط إمكان الوجود بمنطق العالم الطبيعي‪ .‬وقد يكون منتسبا إلى عالم متخيل يبدو‬ ‫مستحيل الوجود في العالم الواقعي‪ .‬لكني سأكتفي بالقول إن تحديد المرجعية إن سلمنا بأن‬ ‫الرمز لا بد له من مرجعية يحيل عليها لأنه ثابت الدلالة غير ممكن بالنسبة إلى المعنى‬ ‫لأنه لا يحيل إلى شيء معين في الوجود الطبيعي المعتاد‪.‬‬ ‫وإذن فلا بد من أن يوجد علم المعنى إلى جانب علم الدلالة وهو يشمل الدلالة الملتبسة‬ ‫أو ما يسميه القرآن المتشابه أي ما يقبل عدة تأويلات قد تكون لامتناهية فيكون التمييز‬ ‫بين اللغة الطبيعية واللغة الصناعية جزءا من هذه المقابلة بين ما له دلالة بينة مثل اللغة‬ ‫الصناعية في العلوم وما له دلالة ملتبسة في النصوص الدينية وما ليس له دلالة أصلا أو ما‬ ‫يعتبر ذا دلالة مستحيلة رغم كون العبارة عنه سليمة لغويا‪.‬‬ ‫وبهذا الفصل بين الدلالة والمعنى يصبح بالوسع فهم معنى المقدرات الذهنية النظرية التي‬ ‫وضعها ابن تيمية والتي مثل لها بالرياضيات لأنها لا تحدد مرجعية محددة بل تحدد‬ ‫متغيرات قابلة لأن تنطبق على عدة مرجعيات ممكنة‪ .‬وهو لا يعترف بالكلية والبدهية‬ ‫والبرهانية والمحضية في المعرفة العلمية إلا لهذه المعاني الكلية المقدرة ذهنيا سواء في‬ ‫الرياضيات أو في الأوليات ويعتبر كل ما عداها من العلوم النظرية نسبية إلى تجربة‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪44‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫طبيعية معينة ولموضوعات معينة منها‪ .‬ومن ثم فهي دائما استقرائية حتى لو استنتجت قبليا‬ ‫من القياس على النموذج النظري المستمد من المقدرات الذهنية‪.‬‬ ‫وقياسا عليه وضعت مفهوم المقدرات الذهنية العملية والتي مثلت لها بالأخلاقيات‪ .‬ولا‬ ‫أعترف بالكلية والبدهية والبرهانية والمحضية في المعرفة القيمية إلا لها واعتبر كل ما‬ ‫عداها من العلوم العملية نسبية إلى تجربة تاريخية معينة ولموضوعات منها معينة‪ .‬ومن ثم‬ ‫فهذه العلوم العملية التاريخية تستمد نماذجها من تلك المقدرات الذهنية العملية كما تستمد‬ ‫العلوم النظرية الطبيعية نماذجها من الرياضيات‪.‬‬ ‫وبذلك يكون عالم الرياضيات وعالم الأخلاقيات عالمي المعاني أو المعاني الكلية التي هي‬ ‫رموز وليست مقومات للأشياء والتي ليس لها مراجع خارجية تحيل عليها لأنها هي التي‬ ‫تبدع بنى مجردة يمكن أن تنطبق على مراجع خارجية متعددة هي عوالم تجربة إنسانية‬ ‫ممكنة سواء كانت التجربة طبيعية أو تاريخية‪ .‬ولذلك فما وصفت بخصوص علاقة المعنى‬ ‫بالدلالة وما أدت إليه من إضافة علم المعنى إلى علم الدلالة التي هي مجرد تطبيق على‬ ‫عالم محدد ينبغي أن يجعل التداولية بالضرورة مضاعفة مثلها مثل الدلالة‪:‬‬ ‫‪ .1‬فيكون علم الدلالة بحاجة إلى رديف هو علم المعنى الذي هو أعم منه ويشمله كحالة‬ ‫خاصة منه تتعلق بعالم التجارب الطبيعية والتاريخية‪.‬‬ ‫‪ .2‬ومثله يكون علم التداولية بحاجة إلى رديف في مجال عالم المعاني ويكون شاملا‬ ‫للتداولية التي تتعلق مجال عالم الدلالات‪.‬‬ ‫فالتداول بين أهل الاختصاص ذي الصلة بعالم التجربة الطبيعية أو التاريخية أي بعالم‬ ‫الدلالة جزء من التداول عامة ذي الصلة بعالم المعاني التي قد تتسع لعوالم اخرى مختلفة‬ ‫تماما عن عالم التجربة الإنسانية سواء كانت طبيعية أو تاريخية‪ .‬والتداولية التي تتعلق‬ ‫بالدلالة في أي علم أو عمل أيسر ألف مرة من التداول العام الذي من هذا الجنس حتى لو‬ ‫كان باللغة الطبيعية ولكن خاصة التداول في مجال الفنون والذوق التي تحتمل ما لا يتناهى‬ ‫من التأويل‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪45‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وقد يبدو كلامي متناقضا مع حكم ابن تيمية بأن الأولية والبداهية والكلية والمحضية‬ ‫والبرهانية لا توجد إلا في المقدرات الذهنية‪ .‬فهذا يتنافى مع القول إن التداولية فيها‬ ‫أعسر من التداولية في عالمي التجربة الطبيعية والتاريخية مثلا‪ .‬فالرياضيات والأخلاقيات‬ ‫من حيث هي مقدرات ذهنية تبدو عديمة اللبس وأيسر من علوم الطبيعة وعلوم الإنسان‬ ‫التي هي تطبيقات لهما بوصف هذين حالات خاصة من ذينك‪.‬‬ ‫وهذا هو الخطأ الرئيس في فهم معنى المعنى‪ :‬ففي علوم التجربة الطبيعية والتاريخية يكون‬ ‫اللبس تطبيقيا بمعنى أن النموذج الرياضي أو الخلقي المطبق فيهما هو الذي يكون مدار‬ ‫اللبس في تاويل كلياته بما يشبه تحقيق المناط في الفقه بمعنى وضع الجزئي تحت الكلي في‬ ‫المعرفة الإنسانية‪ .‬وهذا اللبس الذي يتجلى في تطبيق المقدرات الذهنية جوهري لها لأن‬ ‫الذي يبدع المقدرات الذهنية لا يبدعها شكلا خاليا بل هو يبدع عالما يكون موضوعا لعلمه‪.‬‬ ‫فيكون علمه وصفا لعالم ليس من التجربة الطبيعية ولا من التجربة التاريخية‪ .‬ولا أدري‬ ‫ما طبيعته‪.‬‬ ‫لكني أشبهه بعالم الشعر وبعالم الوحي وهو عين الإبداع الرمزي وأصل السيميوتكس‬ ‫التي هي عين تعريف الإنسان في القرآن بوصفه قد عُلم الأسماء كلها‪ .‬وأعلم جيدا أن هذا‬ ‫الجواب لا يرضي أحدا وأنا أول من لا يرضى به ولا عنه‪ .‬لكن ليس عندي جواب أفضل‬ ‫حاليا لتفسير قدرة الإنسان على التقدير الذهني بالمعنى التيمي وبالمعنى الذي قسته عليه‪:‬‬ ‫‪ .1‬وهكذا فقد أضفت إلى عالم الدلالة عالما أوسع منه هو عالم المعنى الذي لا يحيل إلى‬ ‫مرجع يدل عليه بوصفه موجودا خارج النظام الرمزي وسابق الوجود عليه‪.‬‬ ‫‪ .2‬وأضفت بالتالي إلى عالم التداول الدلالي عالما أوسع منه هو عالم التداول المعنوي‬ ‫وهو من ثم الصنف الرابع من العلوم التي هي ضرورية لفهم ظاهرة اللسان‪.‬‬ ‫فحصلت على أربعة علوم مختلفة رغم ما بين كلا الزوجين من علاقة هي علاقة الأعم‬ ‫بالأخص مع اختلاف جوهري في العلاقة بالعالم الطبيعي والتاريخي من حيث التقدم والتأخر‬ ‫عليهما‪ .‬ويبقى الأصل الذي هو علم خامس مختلف عنها وهو أصل وعنصر في آن‪ .‬إنه‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪46‬‬ ‫الأسماء والبيان‬