Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore قانون التساخر بين السخرية والتسخير السياسيين - أبو يعرب المرزوقي

قانون التساخر بين السخرية والتسخير السياسيين - أبو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2022-08-17 01:27:46

Description: قانون التساخر بين السخرية والتسخير السياسيين - أبو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪re nils frahm‬‬ ‫‪ -‬القسم الأول ‪-‬‬

‫قانون\" التساخر\"‬ ‫بين السخرية والتسخير السياسيين‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪ -‬القسم الأول ‪-‬‬ ‫تونس في ‪ 19‬محرم ‪1444‬‬ ‫الموافق لـ‪ 17‬اوت ‪2022‬‬

‫محتويات الكتيب‬ ‫محتو يات ال كتيب ‪1‬‬ ‫‪ -‬الفصل الأول ‪1 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثاني ‪10 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثالث ‪22 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الرابع ‪35 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الخامس ‪45 -‬‬ ‫‪-‬الفصل السادس ‪57 -‬‬ ‫– الفصل السابع – ‪70‬‬ ‫– الفصل الثامن – ‪79‬‬ ‫– الفصل التاسع – ‪94‬‬ ‫– الفصل العاشر – ‪105‬‬ ‫‪-‬الفصل الحادي عشر – ‪110‬‬

‫‪--‬‬ ‫‪ -‬الفصل الأول ‪-‬‬ ‫دون القطع مع الأحداث التي يعيشها المسلمون في مسعاهم الاستئنافي أعود إلى أعماق‬ ‫العلاج السياسي باعتباره جوهر الرسالة القرآنية التي تذكر بالقوانين الكلية والسنن ال كونية‬ ‫التي تحكم منزلة الإنسان الوجودية من حيث هو مستعمر في الأرض استعمارا لا يكون‬ ‫سو يا إلا متى يكون مشدودا إلى قيم الاستخلاف‪.‬‬ ‫والعودة هي لبنية القرآن العميقة باعتباره استراتيجية توحيد الإنسانية التي كانت‬ ‫السياسة المحمدية عينة أولى منها لتحديد مقومات مشروع التوحيد‪ .‬وهذا اللب هو ما‬ ‫أطلقت عليه اسم البنية الوجودية التي حددتها الآية قبل الأخيرة من فصلت‪:‬‬ ‫فإذا قرآناها بالترتيب الوجودي لا المعرفي فينبغي البدء من النهاية أي ب \"ألم يكف‬ ‫بربك أنه على كل شيء شهيد\" لمعرفةكيف يعلم الإنسان أن القرآن حق‪ ،‬وذلك برؤ ية‬ ‫آيات الله في الانفس وفي الآفاق‪.‬‬ ‫فإذا عدنا إلى الترتيب المعرفي أمكن أن نفهم أن الإنسان يبدأ برؤ ية آياته في الآفاق‬ ‫التي هي الطبيعة والتاريخ ثم ينتقل إلى رؤ ية آياته في علاقة كيانه الذاتي بهما أي كيانه‬ ‫العضوي وكيانه الروحي وتلك هي ا لمعادلة الوجودية التي قمتها فهم شهادة الله‪.‬‬ ‫وهي شهادة تتجلى في ما يراه الإنسان من آياته ‪-‬شهادته تترجم عنها آياته‪-‬التي يذكر بها‬ ‫القرآن فتكون مراحلها النظر في الطبيعة ثم في التاريخ ثم في كيان الإنسان العضوي ثم‬ ‫في كيانه الروحي‪ .‬وذلك هو الموضوع الأول والأخير للقرآن ال كريم بوصفه جوهر الديني‬ ‫في الأديان والفلسفي في الفلسفات‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪--‬‬ ‫وسأنطلق في هذه المحاولة من قانون يجمع كل هذه المعاني هو '‬ ‫\"قانون التساخر \" الذي يحكم عناصر المعادلة الوجودية ل كونه يجعل كل إنسان في‬ ‫خدمة بقية البشر ومخدوما منهم في بعدي وجوده هذين من حيث هو مستعمر في‬ ‫الأرض ومستخلف فيها‪.‬‬ ‫وهذا التخادم المتبادل الذي لا تخلو منه جماعة يتردد بين حدي علاقة الفعل‬ ‫والانفعال في حالتين يكون التفاعل فيهما بين البشر بمقتضى منزلة الاستخلاف التي هي‬ ‫منزلةكل إنسان أو بمقتضى الغفلة علنها بتفاضل بين الخدمات ومنازل القائمين بها فتتحول‬ ‫إلى علة للحرب الدائمة بينهم فيزول معيار التعارف معرفة ومعروفا الذي تحدده الآية ‪13‬‬ ‫من الحجرات ومعيار الاخوة بين البشر الذي تحدده الآية الأولى من النساء فلا تبقيان‬ ‫مؤثرين في العلاقات بينهم‪.‬‬ ‫وبدلا من أن يكون التفاضل بالتقوى وليس بالعرق ولا بالطبقة ولا بالجنس فيجعلون‬ ‫رحمة الرب تابعة وليست متبوعة لقسمة المعيشة في الحياة الدنيا يصبح جمع الثروة هو‬ ‫المعيار الوحيد في تقسيم المعيشة وتفاضل البشر وتلك هي علة الطبقية بينهم وعلة ال كبر‬ ‫أكره صفات الإنسان في القرآن ال كريم‪.‬‬ ‫ويتحول تراتب الخدمات تراتبا بين القائمين بها في حين أنها كلها ضرور ية للعيش‬ ‫المشترك السلمي رغم أن التراتب ضروري للتنافس ولتعدد القدرات التي يمثل مجموعها‬ ‫شرط تقاسم العمل الجماعي وتجويده‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪--‬‬ ‫ل كن الآية تحرف فيصبح التراتب الضروري لهذه الغايات سببا لتكون التمييز الطبقي‬ ‫وما يترتب عليه من تحاسد وتحارب دائمين‪ .‬وبدلا من التسابق في الخيرات نجد التنافس‬ ‫في الشرور والتحيل والغش والطغيان‪.‬‬ ‫وما كان ذلك يكون كذلك لولا التحر يف الذي يفصل الاستعمار في الأرض عن‬ ‫صلته بقيم الاستخلاف المحدد لمنزلة الإنسان المتجاوزة لما يكسب المرء إذا كان بمعيار‬ ‫العدل وجزاء الجهد والمشاركة في شروط حياة الجماعة حتى لا يبقى إلا تفاضل واحد‬ ‫هو التفاضل بالتقوى عند الله أي احترام قيم الاستخلاف الذي تشير إليه آية السخر ية‬ ‫باعتبار رحمة الرب التي تفضل ما يجمعون أي الثروة‪ .‬كل المحاولة تقبل الرد إلى تأو يل‬ ‫الآية الثانية والثلاثين من الزخرف في ضوء الآية الأولى من النساء والآية الثالثة عشر‬ ‫من الحجرات‪.‬‬ ‫فالآية ‪ 32‬من الزخرف مثلها مثل ال كثير من آيات القرآن تحرف بمجرد قراءتها وكأن‬ ‫القصد من رفع الناس بعضهم فوق بعض مفاضلة بينهم وليست سلما لقسمة العمل‪.‬‬ ‫غفلوا عن المقابلة بين قسمتين‪:‬‬ ‫قسمة رحمة الرب‬ ‫وقسمة المعيشة‬ ‫شرطين في قسمة العمل‬ ‫شرطين لقانون التساخر‪ .‬فالآية لا تجعل التفاضل بالمال بل برحمة الرب وهي متعينة‬ ‫في الأخوة البشر ية والتعارف معرفة ومعروفا المترتب على التقوى‪:‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪--‬‬ ‫أه ُ ْم ي َ ْق ِسمُو َن رَ ْحم َ َت رَب ِ َك ۚ َنحْ ُن ق َسَ ْمن َا ب َيْنَه ُم َّمع ِيشَتَه ُ ْم ف ِي ا ْلحيَ َاةِ ال ُّدنْي َا ۚ وَرَف َعْن َا ب َعْض َهُ ْم‬ ‫ف َوْ َق ب َعْ ٍض دَرَجَا ٍت ل ِي َّت ِخذَ ب َعْض ُهُم ب َعْ ًضا ُسخْرِ ًّيا ۗ وَرَ ْحم َ ُت رَب ِ َك خَيْرٌ مَِّما يَجْم َعُو َن‪.‬‬ ‫وهكذا يتبين أن الإشكالية بعيدة الغور وشديدة العمق‪ .‬فالآية ليست تبريرا لتفاضل‬ ‫بالثروة ولا دعوة للقبول بالتسخير المتنافي مع العدل بل هي تعلل الحاجة إلى التعاون‬ ‫المعتمد على التراضي حتى لا تكون درجات العمل علة للتفاضل بين المتعاونين‪.‬‬ ‫ولأن المشكل عو يص فلا بد أن اقلب ترتيب العلاج‪ .‬فسأبدأ بمثال من تعين قانون‬ ‫\"التساخر\" (التسخير المتبادل بين البشر)‪ .‬وإذن فالآية تقبل قراءتين‪:‬‬ ‫التراتب في تقاسم العمل المحقق لشروط الاستعمار في الأرض بشروط قيم‬ ‫الاستخلاف‪.‬‬ ‫والتراتب فيه المحقق لشروط الاستعمار في الأرض من دون شروط قيم الاستخلاف‪.‬‬ ‫وشروط الاستخلاف نوعان‪:‬‬ ‫وحدة الإنسانية لأن البشر اخوة ولهم رب واحد حتى وإن تعددت الشعوب والقبائل‬ ‫والتصورات الدينية تقديما للرحم الكلي على الرحم الجزئي وتقديما لوحدة الرب على‬ ‫اختلاف الألوهية في الأديان‪.‬‬ ‫المساواة بين البشر لان التعدد هدفه التعارف معرفة ومعروفا فلا يكون التفاضل بين‬ ‫البشر عند الله إلا بالتقوى أي بتعاملهم كأخوة متساوين يسعون إلى التعارف معرفة‬ ‫ومعروفا وتلك هي رحمة الله‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪--‬‬ ‫سأنطلق في دراسة هذه المسألة العو يصة من أدنى مستو ياتها أعني شكلها المؤسس‬ ‫للعبودية عند التغاضي عن هذين الشرطين اللذين يمثلان قيم الاستخلاف منزلة وجودية‬ ‫لكل إنسان بسبب تحول الانشغال بشروط الاستعمار في الأرض إلى حائل دون تذكر‬ ‫قيم الاستخلاف وعدم الاهتمام بكيفية تجليها والغاية الوصول إلى أرقى مستو ياتها أعني‬ ‫شكلها المؤسس للحر ية بقيم الاستخلاف التي تذكر بها العلاقة بين القسمتين‪ :‬القسمة التي‬ ‫تبين الحاجة إلى التعاون والقسمة التي تحدد رحمة الله لا يصبح الأخوة أعداء فتصبح‬ ‫الثروة أساس التفاضل بدلا من التقوى‪.‬‬ ‫ولما كان الحدان متلازمين دائما فإن حضور قيم الاستخلاف يكون في شكل تذكير‬ ‫بها وهو دور الديني في التاريخ كما يعرضه القرآني في الرسالات المتوالية ودور الفلسفي‬ ‫في التاريخ كما يعرضه تاريخ الفلسفة ومن هنا نفهم التلازم الدائم بين الرسل والصلحاء‬ ‫من المنحازين إليهم‪.‬‬ ‫ل كن غلبة الغرق في شروط الاستعمار في الأرض يغلب النسيان عن الذكران وتكون‬ ‫الملهيات عن قيم الاستخلاف فيتحول النجاح في الاستعمار في الأرض مولدا لمعنى‬ ‫من الاستخلاف مناقض لمعنى الربوبية‬ ‫لأن الحاصلين على شروطه يتألهون بالمعنى الخلدوني فننتقل من الوثنية الطبيعية إلى‬ ‫الوثنية التاريخية أي تأله المسيطرين على القوة المادية والقوة الرمزية‪.‬‬ ‫وذانك هم الحدان اللذان ترمز إليهما رسالة نوح التي بينت أنها ثورة التحرر من طغيان‬ ‫الطبيعة بقوة مد الماء والعلاج بالتقنية والزرعة والتحرر من الرحم الجزئي رمزا للرحم‬ ‫‪5‬‬

‫‪--‬‬ ‫ال كوني ورسالة موسى التي بينت أنها ثورة التحرر من طغيان الدولة الفرعونية بقوة جزر‬ ‫الماء وهزيمة السحر والاقتصار على الرحم الجزئي فآلت إلى تعميم أداتي الاستعباد الأول‬ ‫فصار التحرر الثاني ملغيا للتحرر الأول لأن الدولة الفرعونية هي الشكل المحرف من‬ ‫ثورة موسى أي تأسيس الابيسيوقراطيا عبادة لمعدن العجل وخواره‪.‬‬ ‫ولهذه العلة فإني سأحاول تحديده ليس بالمستو يين الاقصيين فحسب بل بهما وبما بين‬ ‫المستو يين الأدنى والأسمى بوصف مجراها الفعلي جامعا بينهما جمعا لتفاعليهما في الاتجاهين‬ ‫جمعا محددا لإيقاع التاريخ الإنساني الذي هو أصل الحدين والتفاعلين في علاقة بما يتعالى‬ ‫عليهما‪.‬‬ ‫فرغم كونهما يبدوان متقابلين في الظاهر هما في الحقيقة متلازمان تلازم عنصري‬ ‫الامتحان‪ :‬فالاستعمار في الأرض هو نفسه امتحان أهلية الإنسان لمنزلته الوجودية أي‬ ‫الاستخلاف‪.‬‬ ‫لذلك فهما يمثلان في الباطن حقيقة ما يتعلق به السياسي من حيث هو سياسي في‬ ‫الجماعة البشر ية خلال مسعاها لتحقيق شروط الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف‬ ‫أي التحرر من الخسر الذي تشير إليه سورة العصر بالعمل بالتقويم الأحسن‪.‬‬ ‫وحتى يكون البحث شبه ملموس المعطيات للقارئ يكون المثال الذي انطلق منه هو‬ ‫تبعية تونس إلى مستعمرها في علاقة نخبها التي تستلذ العبودية وما يترتب عليها من التساخر‬ ‫بمعنى السخر ية التي تحول التسخير إلى سخرة‪ .‬وهو يقبل بلغة تونسية عامية أن يسمى‬ ‫المركوبية في الداخل وفي الخارج بحيث يكون الراكب في الداخل مركوبا في الخارج‬ ‫‪6‬‬

‫‪--‬‬ ‫علاقة سلطة بين الحائزين على سهم من حكم المستعمرات بمقتضى التبعية بينهم في‬ ‫الداخل وبينهم وبين منصبيهم من الخارج‪ .‬والمركوب المطلق هو الشعب التونسي‬ ‫والراكب المطلق هو من يحمي الراكبين عليه في الداخل‪.‬‬ ‫وانطلاقا منه هذا المثال‪-‬وهو مثال ينطبق على كل بلاد العرب والمسلمين وكل‬ ‫مستعمرات الامبراطور يات الغربية سابقا والتي انضمت اليها الامبراطور يات الشرقية‬ ‫وأدوات نوعي الامبراطور يات من القوى المعادية للإسلام وللمستضعفين عمان أعني‬ ‫إيران وإسرائيل‪-‬‬ ‫أمر إلى دراسة الظاهرة لل كشف عن قانون هذه العلاقة بين سطح ظاهرة التساخر‬ ‫وعمقها باعتبارها عين ما يعالجه الفكر السياسي في كل الوضعيات دون تمييز بين غالب‬ ‫ومغلوب لأن قانون التغالب الذي اكتشفه ابن خلدون قانون واحد في العمق واحد‬ ‫حتى وإن بدا في السطح مختلفا‪:‬‬ ‫وقد خصص له ابن خلدون الباب الأول من المقدمة وبين أنه ناتج عن الأحياز‬ ‫الخمسة بوصفه نصيب الجماعات الحاصل من بتقاسم الجغرافيا مكانا والتاريخ زمانا وثمرة‬ ‫فعل الثاني في الأولى (الثروة) والأولى في الثاني (التراث) واصلها جميعا أي‪:‬‬ ‫ما تتألف منه الجماعة عضو يا (نحلة العيش والمائدة)‬ ‫وما تتآلف منه الجماعة روحيا (الديموغرافيا والسرير)‪.‬‬ ‫‪7‬‬

‫‪--‬‬ ‫وفيه تلتقي قوانين طبيعية وسنن تاريخية تقبل الرد إلى ما اصطلحت عليه باسم المعادلة‬ ‫الوجودية والوعي بها تطبيقا للآية الثالثة والخمسين من فصلت أي رؤ ية آيات الله في‬ ‫الآفاق وفي الانفس‪.‬‬ ‫وحينها نفهم أنه لا فرق بين الأنظمة السياسية لأن السياسي يعالج هذه العلاقة بين‬ ‫المستو يين الدالين على ما يسميه القرآن \"السخر ية\" التي ينبني عليها اجتماع البشر في‬ ‫مستوى العمران البشري والاجتماع الإنساني بلغة ابن خلدون‪.‬‬ ‫فيكون أول درس لسطح الظاهرة وصف كيفية التراكب بين السلط في المجتمعات‬ ‫البشر ية في نفس الجماعة وبين الجماعات في مستوى أول تمثله المؤسسات الوسيطة الخمس‬ ‫في كل جماعة قبل تشكل الدولة القيمة عليها أي الاسرة والمدرسة والمعبد والمعمل‬ ‫والجماعة وذلك هو المجتمع الأهلي؟‬ ‫وهذا السؤال محير وينبغي تحديد قانونه لفهم ما يجري في العالم لأنه النواة الأولى لكل‬ ‫سياسة ومنه ننطلق إلى محاولة فهم منزلة العرب خاصة والمسلمين عامة منزلتهم المتردية‬ ‫في نظام العالم قبل الإسلام ثم منذ الانحطاط؟‬ ‫ولا بد هنا من استعمال طر يفة اقصى تعميم لتبين حدود الحل الممكن‪ .‬فالحاصل‬ ‫ليس عرضيا بل لا بد منه‪ .‬فأحد مجالات التوظيف للمركوبين يسل كه حلا للتموقع في‬ ‫سلم مراتب السلط المحلية والدولية‪ .‬فالتبرجز يكون بالمال نعم ل كن الوصول إليه يكون‬ ‫بالسياسة وهي حتما توظيف للقيم‪ .‬ومنها القيم الدينية التي هي الأيسر توظيفا بسبب‬ ‫‪8‬‬

‫‪--‬‬ ‫شمولها للإنسان من حيث هو إنسان واع بهشاشته رغم كونها الأعسر تحقيقا على الإنسان‬ ‫العادي وتحتاج إلى قدرة عجيبة تجمع بين النفاق خلقيا والتقية سياسيا‪.‬‬ ‫‪9‬‬

‫‪--‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثاني ‪-‬‬ ‫وهكذا يتبين أن قانون التساخر يتعين في التاريخ في شكل قانون التفاوض بين‬ ‫الربح والخسارة الوجوديين أي المتعلقين بالمعادلة الوجودية نتيجة لدور مقومي‬ ‫الأنفس المحددين لوجود الإنسان العضوي والروحي بسبب علاقتهما بمكوني‬ ‫الآفاق‬ ‫فهذان يقومان شروط بقاء المقوم العضوي والمقوم الروحي نوعين من علاج‬ ‫التفاوض حول قيم الاستعمار في الأرض شارطا لقيام الإنسان العضوي وعلاج‬ ‫التفاوض حول قيم الاستخلاف فيها شارطا لقيام الإنسان الروحي‪.‬‬ ‫ويمكن بشيء من الهزل رغم كونه جوهر الجد أن اثبت هذه الفرضية بتحليل‬ ‫ما يشبه النظر ية السياسية حول \"التراكب بين الافراد\" في قوى الجماعة السياسية‬ ‫وطنيا ودوليا قواهما التي تتراكب هي بدورها وطينا ودوليا‪.‬‬ ‫فيتجلى قانون التساخر في صورة \"التفاوض\" العنيف واللطيف\" حول السلطة‬ ‫السياسية محليا ودوليا باعتبارها‪ .‬فكل راكب مركوب وكل مركوب راكب‬ ‫و يعسر ان نحدد المركوب غير الراكب والراكب غير المركوب حدين للمتوالية‬ ‫أدنى وأعلى بمعنى ان السلسلة لامتناهية في الاتجاهين صعودا ونزولا‪.‬‬ ‫‪10‬‬

‫‪--‬‬ ‫وإذن فليس الأمر خاصا بنا بل هو يشمل العالم كله دون ان يعني التساوي‬ ‫في المركوبية والراكبية‪ .‬والحاجة إلى التفاوض علتها أن القانون هو منطق التجارة‬ ‫أي حساب الربح والخسارة في اللجوء للطف (القضاء وطنيا والدبلوماسية دوليا)‬ ‫أو للعنف (الأمن وطنيا والجيش دوليا)‪.‬‬ ‫والتناظر لا يصح على المحميات لأن شأنها الداخلي دولي من الأصل ومن ثم‬ ‫فلا معنى للتمييز بين الأمن والجيش ولا بين القضاء الدبلوماسية‪ :‬إذ لا وجود‬ ‫للطف أصلا بل إن القضاء تابع للأمة والدبلوماسية للجيش التابعين هما بدورهما‬ ‫للقوة التي تحمي النظام العميل من الشعب لصالح المستعمر الحامي الذي يستعبد‬ ‫به الشعب ويستغل ثروات البلاد‪.‬‬ ‫ولما كان امتحان اي فكرة مقتضيا الذهاب بها إلى غاية اطلاقها في الاتجاهين‬ ‫فلأجرب ذلك على مثال النهضة في تونس باعتبارها القوة السياسية الوحيدة التي‬ ‫حافظت على وحدتها لمدة تاريخية أطول من الأحزاب الأخرى حتى وإن بدأت‬ ‫تفقدها‪.‬‬ ‫فكل النخب يحاربونها ويركبونها‪ .‬فالسؤال الذي يكون جوابه اختبارا لهذا‬ ‫القانون هو‪ :‬كيف يمكن الجمع بين الحرب عليها وركوبها أي بين التلطف حتى‬ ‫‪11‬‬

‫‪--‬‬ ‫تحقيق الركوب والتعنف بعدهكمن يطوع الدابة حتى يصل إلى الغاية ثم ينحرها‬ ‫حتى لا ترفع رأسها؟‬ ‫تلك هي المعجزة التي صار الجميع يراها بالعين المجردة منذ الحركة الوطنية الأولى‬ ‫ليس في تونس وحدها لأن من اخرج الاستعمار هو الإسلام السياسي ومن‬ ‫نصبه الاستعمار للحكم باسم الاستعمار غير المباشر هم عملاؤه في كل بلاد‬ ‫الإسلام وليس تونس وحدها‪.‬‬ ‫وكذلك كان الامر من \"طيب\" نظام ابن علي وهراه هم الإسلاميون ل كنه‬ ‫استعملهم كخو يفة ليحقق انقلابه وكذلك كان بعد الثورة سواء خلال هندسة‬ ‫الترو يكا بحمق لا مثيل له‪:‬‬ ‫فمن يتنازل عن المالية (التي هي في نسبة الدورة الدمو ية للبدن) وعن الخارجية‬ ‫(التي هي عين صورة البلاد في العالم)‬ ‫وعن الدفاع (الذي هو أداة التطو يع الداخلي في غياب القدرة الخارجية‬ ‫للمحميات)‬ ‫لا يمكن أن يكون حقا يفهم في السياسة (حتى لو عين وزير الخارجية منه‪.‬‬ ‫فهو لا سلطان له عليها فضلا عن كونه لا تكوين له لمثل هذه المهمة التي هي‬ ‫من اعس المهام السياسية)‪.‬‬ ‫‪12‬‬

‫‪--‬‬ ‫ثم توالى الامر مع السبسي ثم مع الشاهد ثم مع الفخفاخ‪-‬حتى صار وزراء‬ ‫النهضة شواش عند عبو‪ -‬إلى أن تم العزل النهائي مع الدمية وهو عزال اعتبره‬ ‫نعمة إذا فهم قادة النهضة ان الطمع في سترابونتان في حكم تابع ليس شرط‬ ‫الاستئناف بل هو الحائل الاساسي دونه‪.‬‬ ‫ل كني أخشى ألا يتجاوز طموح الجماعة ترضية الدمية حتى يحاورهم لعل ذلك‬ ‫يساعدهم على سترابونتان أو حتى على حق الخروج كما فعلوا مع ابن علي وترك‬ ‫اهل البلاء في البلاء مرة أخرى ولست أدري اين المفر مما ليس منه بد أي‬ ‫استئناف المشروع التحريري ولا تحرير للمواطن في أوطجان تابعة هي محميات‬ ‫بالطبع‪.‬‬ ‫لسوء الحظ فقدت كل الحركات الإسلامية الطموح الاستئنافي منذ أن‬ ‫صارت تحلم بأن تخدم في محمية‪ .‬فتقبل من ثم بأن تكون مثل الآخرين في خدمة‬ ‫الاستعمار غير المباشر لأن من يشارك في الحكم مهما ضؤل دوره يتهم نفسه صار‬ ‫\"شيئا\" كبيرا ولا يدري أنه من دون سيادة مجرد عبد حقير‪,.‬‬ ‫فالدولة القطر ية مهما كبرت لا تكون إلا محمية لما هو أكبر منها وخاصة في‬ ‫عصر العولمة‪ .‬وتلك هي علة لجوء كل دول العالم لتكون احلاف مستمدة من‬ ‫وحدة حضار ية بحجم يقتضيه توازن القوى في العالم الحالي‪.‬‬ ‫‪13‬‬

‫‪--‬‬ ‫وإذن فالجواب هو أنه لا أحد ممن يحارب النهضة وامثالها من القوى السياسية‬ ‫ذات المرجعية الإسلامية يمكن أن يحكم بطر يقة اللطف التنويمي والعنف‬ ‫الاستئصالي فيركب عليها رغم كونه من خارجها من دون أن يكون معتمدا‬ ‫على من يركب قاعدتها من داخلها لأنه تخلى عن شروط الاستئناف وبات‬ ‫يبحث عن سهمه من الحكم مهما كان ذليلا‪ .‬والجواب لا يقتصر على النهضة بل‬ ‫هو يشمل كل الحركات الإسلامية التي تصورت أنها مخيرة بين حمق الجهاديين‬ ‫وجبن المتنازلين لكأن السياسة يمكن أن تكون عنف الغباء ولطف الإماء‪.‬‬ ‫فما يظهر من جبل الجليد يوهم بأن الركوب على الحركات الإسلامية ممكن‬ ‫من خارجها وأن داخلها بريء من ذلك‪ :‬وهذا تمو يه مطلق لأن الانقلابات‬ ‫على مرجعيتها غالبا ما تقع داخلها قبل أن يقع الانقلاب عليها من الخارج‪.‬‬ ‫ل كن الحقيقة هي أن الراكبين نوعان والمركوببن نوعان‪ .‬فكل جماعة لا تركب‬ ‫من خارجها ما لم تركب من داخلها‪.‬‬ ‫وهو قانون ينطبق على النهضة انطباقا يمكن أن يغنيني عن الإطالة لأن كل‬ ‫الحركات الإسلامية متشابهة إذ هي تعتقد تبعا للرؤ ية التي فرضها الاستعمار على‬ ‫الإسلاميين أنها مخيرة بين‪:‬‬ ‫‪14‬‬

‫‪--‬‬ ‫غباء سلفية الجهاد بلا عقل وهم مجانين العنف الاعمى بسبب ما دسه بينهم‬ ‫الاستعمار من عملاء هم بالذات امراء الحرب في كل حركة جهادية وذروتها‬ ‫داعش‬ ‫وسلفية الاجتهاد بلا إرادة وهم مخانيث اللطف ‪-‬بلغة مجنون المقامات‪-‬بسبب‬ ‫ما دسه بينهم الاستعمار من عملاء هم بالذات امراء \"السلم\" في كل حركة‬ ‫اجتهادية وذروتها سلفية الإسكندر ية‪.‬‬ ‫الذين يجهلون أن الاستراتيجيات طو يلة النفس جمع بين الإرادة التي لا بد لها‬ ‫من أدوات العقل والعقل الذي لا بد له من غايات الإرادة ولا إرادة تطابق‬ ‫طموح الأمم العظيمة من دون الحجوم المناسبة للظرفية العالمية في كل ازمة‬ ‫التاريخ الإنساني وهي تتعين في حجوم الأحياز الخمسة‪:‬‬ ‫• حجم الحيز الجغرافي الكافي لشروط السيادة المادية بمعنى الاستعمار في‬ ‫الأرض‪.‬‬ ‫• حجم الحيز التاريخي الكافي لشروط السيادة الروحية بمعنى الاستخلاف في‬ ‫الأرض‬ ‫• وثمرة فعل الحجم الأول في الحجم الثاني الذي يكون المناعة المادية أي قوة‬ ‫الاقتصاد‬ ‫‪15‬‬

‫‪--‬‬ ‫• وثمرة فعل الحجم الثاني في الحجم الأول الذي يمكن من الحصانة الروحية أي‬ ‫قوة التراث‬ ‫• والأصل الجامع بين هذه الحجوم التي تؤسس للحضارات ال كونية هو المرجعية‬ ‫التي تصل المناعة المادية أي الثروة شرط السيادة الأولى بالحصانة الروحية أي‬ ‫التراث شرط السيادة الثانية‪ .‬وكل المحميات فاقدة للسيادتين أي إنها فاقدة‬ ‫للمناعة المادية وللحصانة الروحية‪.‬‬ ‫والراكب من داخل الحركات الإسلامية وسيط بين \"شعبها\" كما يسميه‬ ‫المرزوقي مثلا في كلامه على قاعدة النهضة جهرا وتسميه جوقته التي باعته لما‬ ‫فقد ما تنتظره منه \"قطيعا\"‪.‬‬ ‫فيكون المرزوقي مثلا ‪-‬أو من يحاكيه حاليا في ما يسمى بجبهة الانقاذ‪-‬قد‬ ‫ركب النهضة ولا يدري أن كل من اختارهم حوله كانوا راكبين عليه وكان‬ ‫الجميع مركوبا للمقيم العام الفرنسي‪ .‬ثم تطور الامر مع السبسي وخاصة مع الشاهد‬ ‫الذي انقلب عليه بركوب راكبي النهضة‪.‬‬ ‫وهذه سلسلة طو يلة‪ .‬والفرق الوحيد منذ أن جاء الدمية هو بروز دور الراكب‬ ‫الأجنبي الذي كان خفيا والاعلان عن الراكب الأجنبي الدائم منذ سايكس‬ ‫‪16‬‬

‫‪--‬‬ ‫بيكو ووعد بلفور‪ :‬تونس اليوم يركب نخبها خمسة قوى متراكبة ولها خمسة‬ ‫مقيمون عامون يدبرون أمر الراكبين من الداخل‪:‬‬ ‫• المقيم العام الفرنسي‬ ‫• والمقيم العام الإيراني‬ ‫• والمقيم العالم الإسرائيلي‬ ‫• وممولي التراكب من الثورة العربية المضادة‬ ‫• والمهندس التابع للثلاثة الأول تخطيطا للانقلاب وللمولين العرب ضد الثورة‬ ‫أي بلحة مصر‪.‬‬ ‫وفي الجملة فلا بد من الزوجية في التراكب حدا ادنى أي أن يكون الراكب‬ ‫نوعين والمركوب نوعين في الداخل ونوعين ثملهما في الخارج‪ .‬في حالة العرب‬ ‫بلغ التراكب الحد الأقصى هي الخمسة التي ذكرتها‪.‬‬ ‫رواكب مافية الحزب ورواكب مافية الدولة في الداخل‪ .‬ورواكب مافية‬ ‫الدولة الأجنبية في الخارج والمافية المسيطرة عليها في الخارج‪ .‬مثال مافية مسيطرة‬ ‫على النهضة مركوبة من مافية مسيطرة على الدولة بعد الثورة ومافية فرنسية‬ ‫مسيطرة مركوبة من مافية صهيونية في الخارج‪.‬‬ ‫‪17‬‬

‫‪--‬‬ ‫والمافية الصهيونية مسيطرة على أداتي السيطرة المحلية والإقليمية وال كونية أي‬ ‫رمز الفعل (العملة أداة التبادل والبنك أداة ربا الأموال) وفعل الرمز (الكلمة‬ ‫أداة التواصل والاعلام أداة ربا الأ قوال)‪.‬‬ ‫وبذلك نصل إلى الأصل الذي رمزت إليه بما أطلقت عليه اسم نظام الحكم‬ ‫الأبيسيوقراطي‪ :‬أي نظر ية العجل الذي يحكم العالم بمعدنه (الذهب) وبلغته‬ ‫(الخوار)‪.‬‬ ‫فالسامري هو الذي وضع نظام العالم في بنيته العميقة تحر يفا لدين موسى ومن‬ ‫ثم نقلا للتساخر الذي هو‪:‬‬ ‫قانون التعاون والتعاوض العادل شرطا للاستعمار السلمي في الأرض وقانون‬ ‫التفاهم والتواصل الصادق شرطا للاستخلاف السلمي في الأرض‬ ‫ل كن التحر يف نقل ذلك كله إلى نقائضه وهو معنى النكوص إلى الخسر بعد‬ ‫التقويم الحسن الذي تذكر به الرسالات فيعوص الظلم العدل في التبادل وال كذب‬ ‫الصدق في التواصل‪.‬‬ ‫وقد سمى ذلك ابن خلدون بفساد معاني الإنسانية ورده إلى التربية العنيفة‬ ‫والحكم العنيف الدي ينقل البشر من اخلاق الاحرار إلى اخلاق العبيد‪ .‬وكل‬ ‫حكام المحميات العربية ونخبهم يعيشون بأخلاق العبيد إد ما تظاهروا بالطغيان‬ ‫‪18‬‬

‫‪--‬‬ ‫والعدوان في الداخل ضد شعوبهم فهم أدل من العبيد أمام حاميهم ضد سعي‬ ‫شعوبهم للعدل والصدق أي لأخلاق الحر ية وال كرامة عملا بقيم الاستخلاف‬ ‫التي ينبغي أن تحكم قيم الاستعمار في الأرض‪.‬‬ ‫وكان يمكن ان يفهم \"عنف\" بالمعنى الوحيد الدي أشار إليه في كلامه على‬ ‫تربية الأطفال لو لم يقس عليه عنف الحكم الدي اعتبره من نفس الجنس‪ .‬ولا‬ ‫يمكن أن يكون القصد مقصورا على الضرب بهذا المعنى‪.‬‬ ‫وإذن فالمعنى الدي يعنيه في كلامه على الحكم هو ما مثل له بقتل ما يسميه‬ ‫الوازع الذاتي أو السلطة الخلقية للضمير وتعو يضه بالوازع الخارجي أو السلطة‬ ‫السياسية للطغيان‪ .‬وإدن فكلام ابن خلدون يتعلق بالطغيان في التربية والطغيان‬ ‫في الحكم‪.‬‬ ‫فمادا يمكن أن يكون الطغيان في التربية لأن الطغيان في الحكم معلوم أو قل‬ ‫من يجهله‪ .‬الطغيان في التربية هو السر الدفين للتراكب الروحي التي يتأسس‬ ‫عليه السر الدفين للتراكب المادي‪ :‬وليكن مثالنا التربية في المغرب ال كبير‪.‬‬ ‫فمن موريتانيا إلى تونس وبعض الوقت إلى ليبيا كان التجر يف الحقيقي للحصانة‬ ‫الروحية للجماعة متغطيا بخدعة التحديث التي تقتل التراث والتاريخ واللغة‬ ‫لاستعمار الأرواح بدعوى تنويرها‪.‬‬ ‫‪19‬‬

‫‪--‬‬ ‫وكل ذلك مبني على مغالطات مقصودة من الراكب الأجنبي وحماقات في‬ ‫الغالب غير مقصودة من الراكب الداخلي الدي يوهم بكونه لا يريد الحرب‬ ‫على شروط السيادة المادية أي المناعة وشروط السيادة الروحية أي الحصانة‪.‬‬ ‫فبدلا من توجيه التعليم لتمكين النشء من أدوات التنمية المادية والروحية‬ ‫أي من شروط الاستعمار في الأرض لمعرفة قوانين الطبيعة التي هي مصدر كل‬ ‫ثروة والاستخلاف فيها لمعرفة قوانين الحضارة التي هي مصدر كل تراث فرض‬ ‫المستعمر على عبيده جعل التعليم إيديولوجيا فرض حضارته والحرب على شروط‬ ‫البقاء المتحرر من التبعية فصار اسم التنوير هو في الحقيقة التظليم والتبهيم‬ ‫والتحميق‪ .‬حتى صار العنوان صريحا واسمه تجفيف المنابع‪.‬‬ ‫ولما حصلت العشر ية السوداء في الجزائر التي بدأت قبل كل العرب ثورة‬ ‫الربيع في العشر ية الأخيرة من القرن الماضي كان الحمقى من المسؤولين على‬ ‫التربية قد استوحوا من سياسة الشرفي في تونس سياسة تجفيف المنابع لكأن‬ ‫النهوض رهن الحرب على الإسلام وعلى الحر يات الفردية في اللباس والتعبد‬ ‫ولكأن الشعوب تنهض بما يسيمه ابن خلدون رموز القوة القشر ية التي تجعل‬ ‫التابع يتصورها علة تفوق المتبوع‪.‬‬ ‫‪20‬‬

‫‪--‬‬ ‫ونفس الشيء حصل مؤخرا في المغرب لما نكص النظام التربوي إلى الفرنسية‬ ‫بديلا من مراحل التعريب لكأن فشل التعريب الشكلي هو العلة في تخلف‬ ‫المغرب وليس تبني نظام تعليم يكون الإنسان التكوين السليم‪.‬‬ ‫والتكوين السليم هو الذي يمكن الإنسان فيصلح فيه معاني الإنسانية ولا‬ ‫يفسدها بأن يربيه على اخلاق الاحرار لا على الخلاق العبيد‪ .‬ولا حر ية لمن لم‬ ‫يتمكن من شروط الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف فيها ويحول المدرسة‬ ‫إلى بديل كنسي علماني من الكاثوليكية التبشير ية لا غير‪ .‬لم يروا أنه ما من أمة‬ ‫تقدمت بغير هدين الشرطين‪:‬‬ ‫• جعل التربية تكوينا يعد الإنسان لدوره في الاستعمار في الأرض أي في‬ ‫تحقيق شروط المناعة المادية للجماعة وهو ما يمكن حصره في مفهوم جامع مانع‪:‬‬ ‫عدم التبعية في شروط البقاء والاكتفاء الذاتي الذي هو أصل كل سيادة‬ ‫حقيقية ومناعة مادية‪.‬‬ ‫• جعل التربية تمكينا للإنسان من أداة التواصل بينه وبين تاريخه أي اللغة‬ ‫الوطنية حتى يحصل التراكم الحضاري أولا وحتى يسهل الاستيعاب العلمي‬ ‫وتطبيقاته والعملي وتطبيقاته‪ :‬فتعريب العلوم غني عن فرنسة الشعب وأقل كلفة‬ ‫وأيسر تحقيقا‪.‬‬ ‫‪21‬‬

‫‪--‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثالث ‪-‬‬ ‫نعود الآن إلى البحث في دلالة قانون التساخر بعد مرحلته الأولى من حيث‬ ‫هو قانون تفاوض في الجماعات البشر ية سواء كانت جزئية أو كونية خلال‬ ‫التاريخ الفعلي ول كن من حيث هو مشدود إلى قانون اسمى من التساخر‪.‬‬ ‫ننتقل من تقاسم العمل المادي وتقاسم العمل الروحي في عالم الشهادة إلى‬ ‫علاقتهما بعالم الغيب فيكون حينئذ قابلا لان يسمى قانون\" جاذبية السرمدية\"‬ ‫للتاريخية تقتضيها كونية العلاقة بين الاستعمار في الأرض شرطا في قيام الإنسان‬ ‫العضوي والاستخلاف فيها شرطا في قيامه الروحي ومثالين أعليين من عالم الغيب‬ ‫لا بد منهما في أي استراتيجية سياسية حتى لو كان أصحابها ملحدين‪.‬‬ ‫ذلك أن الملحد لا يرفض التمييز بين الأمر الواقع والأمر الواجب وإلا لجعل‬ ‫كل افعاله انفعالا بما حوله وبما يجري في كيانه العضوي ونزواته‪ .‬وحتى من‬ ‫يقول بهذه الرؤ ية في الظاهر فهو في اعماقه ينفيها خاصة إذا كان ضحيتها وإلا قبل‬ ‫كل عدوان على حقوقه‪ .‬و يكذب إذا قال إن الحقوق هي المواضعات بين البشر‪.‬‬ ‫ذلك أن المواضعات القيمية لا يحصل الاتفاق على جعلها مرجعية قيمية إلا‬ ‫إذا تصورت مختلفة عما يحصل من المواضعة القهر ية وليس المواضعة التي تعتبر‬ ‫ما يتوصل إليه العقل الإنساني شرطا للعيش المشترك السلمي الطوعي بين البشر‪.‬‬ ‫‪22‬‬

‫‪--‬‬ ‫بحثنا في الفصل السابق التعيين الأقصى بالمثال التونسي ليس في تقسيم العمل‬ ‫عامة بل في تقسيم العمل السياسي بين القوى السياسية في الداخل وفي الخارج‬ ‫وكلاهما في الإسلام فرض عين أمر الآن إلى التعميم الأقصى بالرؤ ية ال كونية‬ ‫الذي تتعلق به الآية ‪ 32‬من الزخرف التي هي من الحواميم أعني من السور التي‬ ‫تبدأ بحرفي الحاء والميم المقطعين والتي أولتها كلها باعتبارها رمز العلاقة بين الحياة‬ ‫والموت‪.‬‬ ‫والسؤال الذي أريد الجواب عنه في هذه المحاولة يمكن صوغه كالتالي‪ :‬هل‬ ‫سياسة عالم الشهادة يمكن أن تكون راشدة من دون نموذج سياسي مرجعيته‬ ‫مستمدة من عالم الغيب المحددة للمثل؟‬ ‫وما هو منطق العلاقة بين العالمين عالم الشهادة الذي يغلب عليه قانون الأمر‬ ‫الواقع وعالم الغيب الذي يغلب عليه الأمر الواجب؟ فالقرآن يؤسس استراتيجية‬ ‫توحيد البشر ية على العلاقة بين العالمين بمنطق التفاوض الذي يتعين أفضل تعين‬ ‫بالمنطق التجاري فهو المنطق الحاكم في التبادل والتعاوض العادل شرطين للعيش‬ ‫المشترك السلمي وفي التواصل والتفاهم الصادق شرطين للوعي بمنزلة الإنسان‬ ‫وبالمبدأين اللذين تحددهما الآية الأولى من النساء والآية الثالثة عشرة من‬ ‫الحجرات‪.‬‬ ‫‪23‬‬

‫‪--‬‬ ‫والمنطق التجاري ينطبق في العالمين لأنه أوضح مثال على الجمع بين حساب‬ ‫الربح والخسارة في الحالتين سواء انطلقنا من منظور قاض دنيوي في عالم الشهادة‬ ‫أو من منظور قاض أخروي في عالم الغيب‪ .‬القاضيان يتمايزان‪:‬‬ ‫• بكون الثاني علمه محيطا ولا محدودا وعمله تاما ولا محدودا‪.‬‬ ‫• وبكون الأول علمه اجتهاديا وعمله جهاديا وكلاهما محدودا‪.‬‬ ‫فلا يكون القاضي الدنيوي قاضيا أمينا وعادلا ‪-‬النساء ‪- 57‬إلا إذا توفر‬ ‫شرطان‪:‬‬ ‫ان يكون المتنازعان والقاضي مؤمنين بالقاضي الأخروي الذي يكون حاضرا‬ ‫دائما بوصفه شهيدا ومطلعا على سرائر المتخاصمين الشاهدين على نفسيهما وهو‬ ‫شرط سلامةكل تعاقد بين البشر في التبادل‬ ‫وفي التواصل أعني التساوي بين المتعاقدين بضمانة أصل التعاقد وضامن عدله‬ ‫في التبادل وصدقه في التواصل لأن عدم المساواة بين المتعاقدين يعني أن‬ ‫الضعيف يخضع لإرادة القوي فتكون المشاركةكاذبة في عبارة تعاقد‪.‬‬ ‫وهي صادقة في حالة وحيدة عندما تكون بين الإنسان وربه‪ .‬فلا يستطيع‬ ‫الإنسان التحيل في التعاقد إلا على انسان مثله ل كون لا أحد من طرفي العقد‬ ‫‪24‬‬

‫‪--‬‬ ‫يمكنه أن يعلم عمل اليقين نية الثاني لعدم العلم بالسرائر والبناء على فرضيات‬ ‫مستمدة من علامات الصدق وال كذب والأمانة والخداع‪.‬‬ ‫ل كن ذلك مستحيل مع الرب عند المؤمنين حتى لو توهموا أن الرحمة الإلهية‬ ‫تسع كل شيء لأن ذلك ليس صحيحا إلى في العقد بينه وبين الإنسان وليس في‬ ‫التعاقد بين البشر لأنه حينها يكون حكما بينهما وكل رحمة للظالم تعتبر مساندة‬ ‫لظلمه وخذلانا للمظلوم‪ .‬وبهذا المعنى فالتعاقد مخمس الأطراف دائما‪:‬‬ ‫• الطرفان الظاهران في عالم الشهادة‬ ‫• الطرفيان الخفيان اللذان لا يظهران إلا في عالم الغيب‬ ‫• والضامن الأسمى الذي يذكره المظلوم الضعيف وينساه الظالم القوي‪.‬‬ ‫فالقاضي الأخروي هو الله نفسه وهو أقرب إلى الإنسان من حيل الوريد‪.‬‬ ‫ل كن المتألهين من الحكام ومن النخب يغفلون عنه وقد يذكرونه إذا صاروا‬ ‫ضحايا الظلم لا المضحين بالمظلومين‪ .‬والعلاقة بين نوعي التفاوض في عالم الشهادة‬ ‫وفي عالم الغيب يتجلى فيها الفرق بين نوعي الحكم‪:‬‬ ‫فالحكم الدنيوي تحكمه الأبيسيوقراطيا أي الحكم باسم العجل الذهبي معدنه‬ ‫وخواره وهو وثني بالطبع في عالم الشهادة ولهذا الحكم تأثير حتمي في القضاء‬ ‫الدنيوي‪.‬‬ ‫‪25‬‬

‫‪--‬‬ ‫ولما كان الحكم الدنيوي قد يتدثر بتحر يف معايير الحكم الأخروي فإنه يستعملها‬ ‫تقية فيصبح ثيوقراطيا أي حكما بالحق الإلهي إما بمقتضى نظر ية شعب الله المختار‬ ‫في اليهودية والمسيحية أو بنظر ية أسرة الله المختارة في الباطنية الشيعية‪.‬‬ ‫ل كن القضاء الأخروي الذي هو نموذج القضاء الدنيوي الذي يستمد من‬ ‫احتذائه عدله هو بدوره حتى دون تحر يف يطبق منطق التجارة مع عكسه منطق‬ ‫الأبيسيوقراطيا والثيوقراطيا لأن حكم الله في الآخرة يعكس قضاؤه المنطق‬ ‫التجاري‪.‬‬ ‫فهو يلغي ربا الأقوال أو شهادة الزور وربا الأموال الذي لا يقتصر على الربا‬ ‫بالمعنى الفقهي بل يشمل كل تطفيف وغش وظلم في سلم الأجور المناسب‬ ‫لتقسيم العمل أي استغلال القوي للضعيف فيجعل ربا الأفعال وربا الأقوال‬ ‫في الجزاء من حق القاضي القادر على العدل المطلق بسبب علمه المطلق فيحق‬ ‫له أن يتفضل في الجزاء كما يريد فينفل ل كنه لا يظلم أبدا‪.‬‬ ‫والخروج من الخسر مشروط برؤ ية آيات الله في الآفاق وفي الأنفس أساس‬ ‫المعادلة الوجودية التي سبق شرحها في عديد المحاولات لأنها هي التي تحدد‬ ‫الإسلام باعتباره استراتيجية توحيد البشر ية والعينة منها بمنطق السياسة المحمدية‪.‬‬ ‫‪26‬‬

‫‪--‬‬ ‫وذلك المعنى العميق لعلاقة الإسلام بسياسة العالم التي هي استراتيجية‬ ‫الاستعمار في الأرض تاريخيا المشدودة إلى قيم الاستخلاف سرمديا بمعنى‬ ‫اعتبار سياسة الرب للخلق والأمر في الوجود مثالا اعلى لسياسة خليفته لما‬ ‫يناسبهما في الحضارة وذلك هو مضمون الرسالة الخاتمة التي هي عين الفاتحة‪.‬‬ ‫ومن ثم فبنية القرآن هي عين المعادلة الوجودية‪.‬‬ ‫وهي تذكير بمعلوم وليست اخبارا بمجهول لأنها مرسومة في ما تتجلى فيه آيات‬ ‫الله التي جهز الإنسان بما بمكنه من رؤ يتها أعني بقدرة الإدراك لعلم قوانين‬ ‫الطبيعة المساعدة على الاستعمار في الأرض وبقدرة الإرادة لعمل سنن التاريخ‬ ‫المساعدة على الاستخلاف فيها‪.‬‬ ‫فيكون ما في الآفاق أي الطبيعة والتاريخ هو عينه ما في الأنفس أي إن كيان‬ ‫الإنسان العضوي يستمد الزاد المادي لقيامه الطبيعي كيانه الروحي يستمد الزاد‬ ‫الرمزي لقيامه الروحي‪.‬‬ ‫ولما كانت رؤ ية آيات الله في الآفاق أي الطبيعة والتاريخ وفي الأنفس أي‬ ‫البدن والروح تمكن الإنسان من تبين أن القرآن حق فمعنى ذلك أن القرآن من‬ ‫حيث هو رسالة تذكير مداره إيقاظ الإنسان ليرى ما ير يه الله من آياته في‬ ‫‪27‬‬

‫‪--‬‬ ‫الآفاق وفي الأنفس‪ .‬ما يجعل بنية القرآن العميقة عين ما تحيل عليه المعادلة‬ ‫الوجودية فيه أي‪:‬‬ ‫• صورة عن المرسل تبلغ باستعارة من أفعال المرسل إليه مع حزر كون‬ ‫المرسل ليس كمثله شيء ولا يقاس بالإنسان لا بذاته ولا وصفاته‪ .‬والقيس في‬ ‫هذه الحالة من جنس الرسم في درس الهندسة مثلا حيث يرسم الأستاذ الشكل‬ ‫الهندسي و يعلم الجميع أنه لا يوجد رسم يشبه حقيقة الدائرة مثلا‪.‬‬ ‫ولهذه العلة قست كل العقائد من حيث هو تقديرات ذهنية ليس لها تعين‬ ‫محسوس على كل المعاني الر ياضية من حيث هي تقديرات ذهنية ليس لها تعين‬ ‫محسوس‪ .‬وكل من يخلط بين المعاني الدينية المشار إليها في العبارة القرآنية بينها‬ ‫وبين العبارة عنها كمن يخلط بين المعاني الر ياضية المشار إليها في العبارة الر ياضية‬ ‫والعبارة الر ياضية التي ترسمها أو تصوغ مفهومها‪.‬‬ ‫• حقيقة المرسل إليه حتى تكون له صورة على ذاته يتأكد منها بمحاسبة نفسه‪.‬‬ ‫وهذا القسم من الرسالة يحدد مستويي التذكير أي سياسة التربية وسياسة الحكم‪.‬‬ ‫وكل من يخلط بين تصوره لذاته بمقتضى ما يمكن اعتباره علم النفس الذاتي‬ ‫وذاتهكما يتكلم عليها القرآن لا يمكن أن يفهم معنى حصر القضاء في عالم الشهادة‬ ‫على الحكم بالظاهر والله يتولى السرائر‪.‬‬ ‫‪28‬‬

‫‪--‬‬ ‫وهذا الغموض الاستراتيجي إن صح التعبير هو الشرط الضروري والكافي‬ ‫للتعايش بينهم لأن أحكامهم بعضهم على البعض ينبغي أن تكون دائما احكاما‬ ‫نسبية وخاصة في كل ما يتعلق بالمعتقدات الدينية‪.‬‬ ‫• حقيقة الرسول لا يتميز عن غيره إلا بكونه الأقدر على ايقاظ الإنسان دون‬ ‫ان يكون وسيطا بينه وبين المرسل ولا وصيا بينه وبين شانه الدنيوي‪ .‬لذلك‬ ‫فكل ما نسج حول الرسول في سيرته من عجائب كذب محض‪.‬‬ ‫فالقرآن يقص علينا أهم خصائص الرسول واخلاقه ولا ينفي عنه كل ما‬ ‫يمكن أن يصيب البشر من أسباب الضعف البشري إذ هو لم يستثنه من نزع‬ ‫الشيطان وذلك فهو يركز على تحذيره من شيطان الإنس والجن وخاصة في‬ ‫المعاملات السياسة‪.‬‬ ‫• حقيقة التذكير بوصفه ‘يقاظ ما جهز به الإنسان للإدراك أي القدرة على‬ ‫تحقيق شروط بقائه بالاستعمار في الأرض والإرادة على تحقيقها بقيم‬ ‫الاستخلاف أو بعدمها‪ .‬وهو مؤلف من بعدين كلاهما مضاعف‪ .‬فالأول نقدي‬ ‫للتحر يف برد الرسالات السابقة إلى الديني ال كوني الذي يمثله الإسلام‪ .‬وذلك‬ ‫هو منهج التصديق والهيمنة‪.‬‬ ‫‪29‬‬

‫‪--‬‬ ‫فهو يصدق الرسل ويهيمن على تحر يف الرسالات وهو تحر يف علته العلاقة‬ ‫السياسة بين رجال الدين ورجال الحكم والأول هو ربا الاقوال أي تحر يف‬ ‫الرسالة والثاني هو ربا الأفعال أي تحر يف نموذج الحكم‪.‬‬ ‫وينبغي ألا يفهم القارئ أن \"رجال الدين\" تعني شيئا آخر غير أصحاب الأقوال‬ ‫بلغة الفارابي حتى لا يستثني كل النخب التي عوضت الكنائس الدينية بالأحزاب‬ ‫السياسة ومرجعياتها العلمانية مثلا‪.‬‬ ‫وأفضل مثال هو اليعقوبية والماركسية‪ :‬فكلتاهما أيديولوجيا لها الخاصية التي‬ ‫ينسبها القرآن إلى تحر يف الكلم أي ربا الاقوال أو خوار العجل بلغة‬ ‫الأبيسيوقراطيا أو سحرة فرعون ومنهم خاصة الاعلاميون‪.‬‬ ‫ويمكن أن أسمي النخب عامة ومنهم رجال الدين الجيش الذي يعمل بالرمز‬ ‫عمل الجيش بالسلاح هما أداة الحكم الرمزية سواء كان ظالما أو عادلا مثل‬ ‫الجيش الذي هو أداة الحكم سواء كان ظالما أو عادلا‪ .‬فيعود الأمر كله‬ ‫‪-‬وتلك هي عبقر ية ابن خلدون‪-‬إلى فساد معاني الإنسانية أو صلاحها الناتج‬ ‫عن التربية العنيفة والحكم العنيف لأنهما هما ما ينقل الإنسان من كونه \"رئيسا‬ ‫بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\" إلى كل الصفات الذميمة الذي‬ ‫ذكرها بوصفها عين فساد معاني الإنسانية أي اخلاق العبيد‪.‬‬ ‫‪30‬‬

‫‪--‬‬ ‫• حقيقة الرسالة أي الأمر بسياسة الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف‬ ‫فيها والنهي عن سياسته من دونها‪ .‬فكون مهمة الرسول التذكير بأسلوب البشير‬ ‫والنذير وكونها تربية بما يتضمنه القرآن‬ ‫من سياسة تكوين الإنسان الحر والرئيس بالطبع بمقتضى الاستعمار في‬ ‫الأرض بقيم الاستخلاف وحكم بنفس المقتضيات لتحقيق شروط المناعة المادية‬ ‫وشروط الحصانة الروحية في الجماعة الجزئية والجماعة ال كونية‪.‬‬ ‫وتلك هي علة كون الرسالة موجهة للبشر ية كلها وكون مبدئيها هما مضمون‬ ‫الآية الأولى من النساء والآية الثالثة عشر من الحجرات وكلتاهم تتوجه للناس‬ ‫وليس لجماعة بعينها‪ .‬ولا يتضمن القرآن شيئا آخر‪.‬‬ ‫ذلك أن الكلام في ما أدى إليه تحر يف هذه المسائل الخمس هو القسم النقدي‬ ‫لما يترتب على الاستعمار في الأرض من نسيان قيم الاستخلاف وذلك هو‬ ‫مصدر التحر يف الذي يعالجه القرآن بمنهج التصديق والهيمنة‪ .‬وتلك هي علة‬ ‫الكلام في الرسالات التي حرفت والتي يصلح تحر يفها ولا يرفضها جملة‪.‬‬ ‫ذلك أن تعدد الأديان مثل تعدد الشعوب والقبائل مقصود‪ .‬فكما الأول التعدد‬ ‫الأول هدفه التعارف معرفة ومعروفا فإن التعدد الثاني هدفه تحقيق شرط حر ية‬ ‫‪31‬‬

‫‪--‬‬ ‫العبادة التي تقتضي تبين الرشد من الغي للوصول إلى التدين الذي لا يمكن‬ ‫للإكراه أن يؤثر فيه‪ .‬وعلامته ال كفر بالطاغوت أي عدم نسيان قيم الاستخلاف‪.‬‬ ‫وأهم تحر يف يتعلق بهذه المعاني الخمسة و يترتب عن الشرك الذي هو جوهر‬ ‫الطاغوت لأن الأوثان ليست رموزها بل ما ترمز إليه أي إما تأليه القوى‬ ‫الطبيعية أو تأليه القوى السياسية‪ .‬وذلك هو الخسر الذي ينحط إليه الإنسان بعد‬ ‫التقويم الأحسن‪.‬‬ ‫فمفهوم الخسر هو المنزلة الوجودية التي يرد إليها الإنسان فيخرجه من التقويم‬ ‫الحسن الذي يتلازم فيه الاستعمار في الأرض مع الاستخلاف فيها‪ .‬وشروطه‬ ‫وردت في سورة العصر‪ .‬ففيها نجد المعاني التي وظيفتها تكوين الإنسان المستعمر‬ ‫في الأرض الجدير بالاستخلاف‪:‬‬ ‫فرديا بالإيمان وهو التحرر من الشرك بالمعنيين أي عبادة القوى الطبيعية‬ ‫وعبادة القوى السياسية وبهما يفقد الإنسان منزلته الوجودية التي هي‬ ‫الاستخلاف والعمل الصالح هو الذي يصحب فيه كل فعل القيم الدالة على‬ ‫الاهلية لمنزلة الاستخلاف‪.‬‬ ‫وجماعيا بالتواصي بالحق أصلا للاجتهاد الذي هو استعمال قدرة الإدراك‬ ‫لأهلية الاستعمار في الأرض والتواصي بالصبر أصلا للجهاد الذي هو استعمال‬ ‫‪32‬‬

‫‪--‬‬ ‫قدرة الإرادة لأهلية الاستخلاف‪ .‬والقدرتان هما ما يوقظه التذكير القرآني من‬ ‫حيث هو سياسة تربية وسياسة حكم‪.‬‬ ‫ستتألف فصول المحاولة بعد الفراغ من هذا التمهيد في هذا الفصل من المسائل‬ ‫التالية التي ترد القانونين الأخيرين إلى أصلهما أي القانون الأول وتستنتج منهما‬ ‫ما يترتب على تفاعليهما في مجالات انطباق التساخر وهي التي تحددها‪:‬‬ ‫• فقانون التساخر يتجلى أولا في المؤسسات الوسيطة الخمس التي تمثل المجتمع‬ ‫الأهلي أي الاسرة والمدرسة والمعبد والمعمل والأمة أو الجماعة الجزئية‬ ‫• ثم في المؤسسات الخمس التي تمثل المجتمع السياسي أي المرجعية والقوى‬ ‫السياسية والدستور ووظائف القوامة ثم وظائف الجماعة‬ ‫• ثم في حدي هذين المستو يين أي الفرد والإنسانية اللذين يمثلان فكرتين‬ ‫مجردتين ليس لهما وجود إلا في المثال حدين اقصيين لا حقيقة لهما إلا في عالم‬ ‫الغيب المتعالي على عالم الشهادة‪.‬‬ ‫ثم في بيان ما يترتب على الحدين من تطبيق نفس المنطق الذي يطبق على‬ ‫المستو يين الأولين تطبيقه على الفرد وكأنه أمة بمفرده وعلى الإنسانية وكأنها امة‬ ‫واحدة جسرا واصلا بين الجزئي والكلي في السياسة التي تصل التاريخي‬ ‫بالسرمدي‪.‬‬ ‫‪33‬‬

‫‪--‬‬ ‫لأنهي البحث في الكلام على سياسة العالم كما وردت في القرآن ال كريم أي‬ ‫في السورتين لأنهي البحث في الكلام على سياسة العالم كما وردت في القرآن‬ ‫ال كريم أي في السورتين اللتين اخذت منهما المبدأين مبدأ الاخوة ومبدأ التعارف‬ ‫في العالم الذي تكون في الأمة في رتبة الاسرة والتراث ال كوني في رتبة المدرسة‬ ‫والأديان في رتبة المعبد وتقاسم العمل في العالم في رتبة المعمل والإنسانية في‬ ‫رتبة الأمة‪.‬‬ ‫‪34‬‬

‫‪--‬‬ ‫‪ -‬الفصل الرابع ‪-‬‬ ‫قد يبدو هذا الفصل الرابع خارج الموضوع لأنه استطراد عديم العلاقة المباشرة بموضوع‬ ‫المحاولة‪ .‬فالتساخر كما بينت في الفصول الثلاثة السابقة هو لب السياسة وسر العيش‬ ‫السلمي الطوعي بين البشر‪.‬‬ ‫والفلسفة السياسية ليست مجال اختصاصي الذي مارسته باعتباري أستاذا جامعيا‪.‬‬ ‫لذلك فلا بد من تعليل كلامي فيها ما الذي جاء به إليه‪.‬‬ ‫الاستطراد يجيب عن هذا السؤال لعرض ما عانيت منه في ممارسة تخصصي الذي‬ ‫لم يكن قابلا للفهم من دون وصله بفلسفة السياسة التي هي جوهر الفلسفة عامة سواء‬ ‫تعلقت بالنظر والعقد أو بالعمل والشرع‪.‬‬ ‫لذلك فهذا الاستطراد يعرض محاولاتي للتحرر من الأحكام المسبقة التي سيطرت‬ ‫على فكرنا الفلسفي قديمه وحديثه القائلين بالمطابقة في النظر والتمام في العمل والمقدمين‬ ‫للميتافيز يقا على الميتاتاريخ بعكس ما أعتقده حاجتهما لعكس العلاقة بين الطبيعة والتاريخ‬ ‫بتقديم الثاني على الأولى إذا تحررنا من إطلاق علمنا بالحقيقة وعملنا بالحق‪.‬‬ ‫لذلك فهذا الفصل الاستطرادي الأول والذي يليه يمثلان وسيطين بين وضع‬ ‫المشكل في ما تقدم عليهم وعلاجه في ما سيليهما من الفصول وهي عديدة قد تصل إلى‬ ‫عشرين فصلا‪.‬‬ ‫فأمر الأحكام المسبقة التي تهمين على فكر النخب العربية الحديثة وخاصة بعد أن‬ ‫وصل حاضره بماضيه سواء عند كار يكاتور التحديث في الفكر الفلسفي أو عند كار يكاتور‬ ‫‪35‬‬

‫‪--‬‬ ‫التأصيل في الفكر الديني ازداد حدة عندما خلصت في قراءتي للقرآن بأن الإسلام ليس‬ ‫دينا من الأديان بل هو الديني في كل دين وإلا لما عرف نفسه بكونه الدين الفاتح‬ ‫والدين الخاتم وهو كذلك الفلسفي في كل فلسفة وإلا لما كان كل استدلاله بعكس‬ ‫الأديان السابقة لا يعتمد على الخوارق بل على النظام‪.‬‬ ‫وما كان ذلك ليكون كذلك لو لم يكن في قطيعة مع الأديان والفلسفات السابقة‬ ‫مستبدلا الوساطة ال كنسية والوصاية السياسة في العمل والوساطة الميتافيز يقية والوصاية‬ ‫المعرفية في النظر لو لم يلغ أدوات سلطان الأديان السابقة التي تستند إلى وهم علم الغيب‬ ‫وأدوات سلطان الفلسفات السابقة التي تستند إلى خرافة العلم المحيط‪.‬‬ ‫ويمكن جمع الإلغاء في الاستعاضة عن الميتافيز يقا والميثولوجيا بما يمكن أن اسميه ما‬ ‫بعد تاريخ لحاجة المتناهي إلى اللامتناهي والآفل إلى الباقي‪ :‬وذلك هو القصد بالوصل بين‬ ‫التاريخي والسرمدي‪.‬‬ ‫لا بد من وجود ما يؤسس للسياسي من حيث هو سياسي هو جوهر الأخلاقي ال كوني‬ ‫المحدد لوحدة الإنسانية في الوجود لئلا يطغى بمعيار الأخوة والمساواة ترجمة لشروط‬ ‫العيش المشترك السلمي لئلا يؤدي التنافس على شروط الاستعمار في الأرض نسيان‬ ‫التعاون بقيم الاستخلاف فيها‪.‬‬ ‫وذلك هو معنى الآية الأولى من النساء أساس الأخوة البشر ية والآية الثالثة عشرة‬ ‫من الحجرات أساس المساواة بين البشر وبتعليل التعدد للتعارف معرفة ومعروفا فلا‬ ‫يتفاضلون عند رب الجميع الذي لا رب سواه بغير التقوى‪.‬‬ ‫‪36‬‬

‫‪--‬‬ ‫فتكون سياسة عالم الشهادة التاريخية مشدودة إلى نموذج من عالم الغيب ما بعد‬ ‫التاريخية‪ .‬ومنها يستمد الخلقي في السياسي ببعديه أي من حيث هو استراتيجية التربية‬ ‫التي تكون الإنسان وباستراتيجية الحكم التي تحافظ على حريته وكرامته‪.‬‬ ‫و يكون المشترك بين الديني والفلسفي الفعل النظري والعملي الدي يحول دون فساد‬ ‫معاني الإنسانية بمعناها الخلدوني لئلا ينكص الإنسان إلى اخلاق العبيد لأن الغاية من‬ ‫التربية والحكم الإبقاء على الإنسان رئيسا بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق لهكما‬ ‫قال أي تحريره من الاخلاد إلى الأرض‪.‬‬ ‫قراءة القرآن قراءة فلسفية مستحيلة من دون بيان هذه العلاقة بينه وبين استراتيجية‬ ‫سياسة ذات مستو يين أولهما التربية ال كونية والثاني الحكم ال كوني لمنع الخسر الذي يجعل‬ ‫الإنسان مخلدا إلى الأرض‪.‬‬ ‫ومن هنا فالإسلام بالجوهر ما بعد تاريخ يؤسس لسياسة الإنسانية سياسةكونية لا تمييز‬ ‫فيها بين الخاص بجماعة دون أخرى بل قوانينه لا تميز بين الداخل والخارج ولا تعترف‬ ‫بالحدود بين البشر بمقتضي مبدأين‪:‬‬ ‫• أولهما هو مبدأ الأخوة البشر ية صيغ صراحة في الآية الأولى من النساء‬ ‫• والثاني هو مبدأ المساواة بين البشر صيغ صراحة في الآية الثالثة عشر من الحجرات‪.‬‬ ‫فكان الجمع بين هذين المبدأين علته وصولي إلى حقيقة تلامس اليقين وتتمثل في اعتبار‬ ‫القرآن رسالة موضوعها المركزي هو العلاقة الجوهر ية بين وشرطها الاعتراف بالتعدد‬ ‫الديني شرطا في التسابق في الخيرات كما حددت ذلك الآية ‪ 38‬من المائدة‬ ‫‪37‬‬

‫‪--‬‬ ‫حتى يكون العقد الديني حر ية مطلقة يصل إليها الإنسان بعد تبين الرشد من الغي‬ ‫بنفسه فيكفر بالطاغوت و يؤمن بالله كما حددت ذلك الآية السادسة والخمسون بعد‬ ‫المائتين ممن البقرة‪ .‬ومن ثم فهو‪:‬‬ ‫• فلسفة دين من حيث هي حكمة نظر ية وعملية تحدد غايات الوجود الإنساني في‬ ‫عالم الشهادة بنماذج من عالم الغيب المحجوب‪.‬‬ ‫• وفلسفة تاريخ من حيث هي تعين الوقائع التي تؤكد هذه الحكمة بما تعالجه من عقبات‬ ‫تعترض الإنسان في مسعاه لتحقيق تلك الغايات‪.‬‬ ‫فيكون بذلك ما بعد تاريخ يصل التاريخي بالسرمدي بديلا من ما بعد الطبيعة التي‬ ‫تنفي التاريخي برده إلى الطبيعة التي تسرمد في ميثولوجيةكسموجونية رمزها مقالة اللام‬ ‫فانتقلنا من المتيافيز يقا فهمها لفلسفة افلاطون وارسطو قديما إلى المادية الجدلية‬ ‫الماركسية فهما للهيجلية يردها إلى كسموجونية ليس بتوسط الفلك بل بالطبيعةكلها‪.‬‬ ‫وتلك عودة إلى تاليه الإنسان حديثا وعودة الميثولوجيا العكسية‪ :‬انقلنا من قيس الرب‬ ‫على الإنسان في القديمة إلى قيس الإنسان على الرب تأليها قاتلا لهما معا‪ :‬وهو ما يسميه‬ ‫اصحابه ما بعد الحداثة التي صارت حدوثة انصاف المثقفين‪.‬‬ ‫ل كن الحل القرآني الذي يرفض ال كسموجونيا الطبيعية ويستعيض عنها بما بعد التاريخ‬ ‫يمثل معضلة المعضلات إذ كيف لما هو من عالم الغيب أن يمدنا بنماذج تحدد الغايات‬ ‫التاريخي للإنسان في عالم الشهادة إذا كان عالم الغيب محجوبا وهو مما لا عين رأت ولا‬ ‫أذن سمعت ولا خطر على بال بشر؟‬ ‫‪38‬‬

‫‪--‬‬ ‫هذه المعضلة هي التي جعلت حل هذه ىالمعضلة تصبح شغلي الشاغل‪ .‬وكان يمكن ألا‬ ‫ابالي بها لو كان الامر مقصورا على الدفاع عن الرؤ ية الواردة في القرآن عند من يؤمن‬ ‫بها فحسب‪.‬‬ ‫فهي مما لا غناء عنه حتى بالنسبة إلى الملحدين والكافرين بكل دين‪ .‬وفي ذلك يكمن‬ ‫سر المعضلة‪ :‬كيف للرؤ ية القرآنية وهي دينية أن تكون ضرور ية حتى للملحدين؟‬ ‫أي ما الدي يجعل القول بالمطابقة والاحاطة في النظر والقول بالمطابقة والتمام في‬ ‫العمل قولين ليس لهما أساس لأن ما نجهله لا متناهي وما نعلمه متناه ولأن ما نعمله‬ ‫يحتاج دائما إلى المراجعة سواء كنا مؤمنين أو ملحدين‪.‬‬ ‫وما كان امر الملحدين يشغلني لو لم أكن أعيش في عصر عربي فكر اقزامه الذين‬ ‫يدعون العلم المحيط بالواقع والعمل التام فيه يعتبر الفلسفة في قطيعة مطلقة مع الدين‬ ‫وخاصة منذ أن سيطرت الماركسية واليعقوبية على النخب العربية التي تدعي الحداثة‬ ‫والتنوير في الساحتين السياسية والأكاديمية الجاهلين بدين الفلاسفة وبفلسفة المتدينين‪.‬‬ ‫فلا يظنن أحد أن هذا الموقف من علاقة الفلسفة بالدين ظاهرة جديدة إذ إن فلاسفتنا‬ ‫القدامى كانوا ينقسمون إلى فر يقين أحدهما كان صريحا بأن الدين الذي لا يستمد من‬ ‫كسموجونيا فلسفة أرسطو أو افلاطون خرافات‬ ‫والثاني لم يكن بهذه الصراحة ل كنه بالتأو يل يحاول أن يلغي من الدين كل ما لا يقبل‬ ‫الرد إلى علم الراسخين في العلم الذي هو مزيج من فلسفة أفلاطون وارسطو برؤ ية‬ ‫أفلوطينية‪ .‬والأول يمثله الفارابي بداية والثاني يمثله ابن رشد غاية‪.‬‬ ‫‪39‬‬

‫‪--‬‬ ‫وأكثر من ذلك فكبار من كانوا يعتبرون مجرد متكلمين أو فقهاء كانوا إلى حد كبير‬ ‫اعلم بالفلسفة ممن كانوا يتصورونها تحليل نصوص كما يفعل الأميون من مدرسيها في‬ ‫كل العصور‪.‬‬ ‫فالفلسفة روح لا يخلو منها فكر دينيا أو فلسفيا في الانتسابات التصنيفية بمعنى‬ ‫الاختصاص في النظام الأكاديمي‪ .‬ولهذه العلة فإن من يرى من بين الفلسفي والديني‬ ‫من صلات وطيدة هم في الغالب من كبار العلماء الذين كتبوا فيهما ما يعبر عن تحولاتهما‬ ‫التي حددت تاريخهما‪.‬‬ ‫ولا فرق بين الموقفين لأن ما يرد إليه ابن رشد الديني بالتأو يل إلى الفلسفي يعني‬ ‫الفلسفي بهذا المعنى أي القائل بالعلم المطابق والمحيط وبالعمل المطابقة والتام‪.‬‬ ‫بحيث إني وجدت نفسي بين حدين أولهما يعتبر ما ليس أفلاطونيا وأرسطيا من الدين‬ ‫خرافة في ثقافتنا المزعومة فلسفية في القرون الوسطى والثاني يعتبر ما ليس هيجليا‬ ‫وماركسيا من الدين أيديولوجيا في ثقافتنا المزعومة فلسفية في عصرنا الراهن‪.‬‬ ‫ولهذه العلة فقصي لعلاقتي بهذه الرؤى الأربعة ومحاولة ردها إلى تفسير واحد يثبت‬ ‫خطأ أصحابها بسبب رؤيته لنظر ية المعرفة ولنظر ية القيمة رؤيته القائلة بالتطابق‬ ‫ابستمولوجيا في نظر ية المعرفة وبالتمام أكسيولوجيا في نظر ية العمل‪.‬‬ ‫ومن ثم فما حال دون إدراك ما أشرت إليه بوصفه جوهر المشترك بين الديني من‬ ‫حيث هو ديني والفلسفي من حيث هو فلسفي ليس هو شيئا آخر غير هذين العائقين‬ ‫الابستمولوجي الذي يلغي تاريخية العلم والأكسيولوجي الذي يلغي تاريخية العمل‪.‬‬ ‫‪40‬‬

‫‪--‬‬ ‫ومن هنا اكتشافي أهمية المدرسة النقدية العربية والتناظر العجيب بين رؤ يتها‬ ‫الأبستمولوجية والأسكيولوجية ورؤ ية المدرسة النقدية الألمانية فيهما‪.‬‬ ‫والمشترك هو الحكمة التي لا تدعي العلم المطلق ولا العمل التام في سياسة الإنسان‬ ‫لبعدي وجوده من حيث هو مستعمر في الأرض أي من حيث علاقته بالطبيعة مصدر‬ ‫رزقه المادي والعالم بقيم الاستخلاف أي من حيث علاقته بالتاريخ مصدر رزقه الروحي‬ ‫طوعا في يكون في سلام او كرها فيكون في حرب أهلية دائمة‪.‬‬ ‫ولما كنت منذ بدأت تعليل مواقفي في محاولاتي بخلاف العادة في ما أكتبه تفسيرا‬ ‫للقرآن وعناية بالشأن العام سأدخل بعض الكلام على علاقة هذا البحث بالسيرة الذاتية‬ ‫بدءا بتعليل انطلاقي في هذه المحاولة من الأحداث السياسية الراهنة‪.‬‬ ‫والغاية من تعليل المواقف يستهدف وصل البحث في القرآن الذي عرفته بكونه‬ ‫استراتيجية توحيد الإنسانية التي تعينت في القرآن نظر ية وفي السنة تطبيقا وممارسة فسميت‬ ‫محاولتي لقراءة القرآن قراءة فلسفية‪.‬‬ ‫وكما أن الهدف من هذا الوصل يتجاوز علاقة القرآن بالتاريخ السياسي بل هو يحيل‬ ‫مباشرة إلى موقف إعادة الفلسفة والدين سيرتهما الأولى‪.‬‬ ‫فما يسيطر من دعوى تعر يفيهما بما يتقابلان فيه سطحيا أعرفهما بما يشتركان فيه باطنيا‪.‬‬ ‫فالإشارة إلى السيرة الذاتية تتصل خاصة بهذا الوجه الذي ليس امرا طر يفا إلا لأن‬ ‫الحمقى تصوروا أنفسهم أذكى من أفلاطون وأرسطو قديما ومن لايبنتس وكنط حديثا‪.‬‬ ‫فهؤلاء الأربعة وخاصة من يتوسط بينهما أعني ديكارت‬ ‫‪41‬‬

‫‪--‬‬ ‫فهو مؤسس الفلسفة الحديثة الذي يجعل ممتنعا فهم عملهما الفلسفي من دون المنزلة‬ ‫التي أسسها لبيان هذا المشترك بين الديني في الأديان والفلسفي في الفلسفات موضوعا‬ ‫أولا ومطلوبا ثانيا ومنهجا ثالثا ودافعا رابعا ووصلا بين العالمين عالم الشهادة وعالم الغيب‬ ‫أصلا لها جميعا اخيرا‪.‬‬ ‫فديكارت هو الوحيد الذي قد يشكك القارئ المتأثر بالتأو يلات اليعقوبية لفلسفته‬ ‫هو الذي احتاج إلى التذكير بأني قد كتبت فيه مقالة بعنوان الميتاايثقا بالفرنسية بمناسبة‬ ‫احياء الجامعة التونسي الأولى ذكرى ميلاده أي ما بعد الاخلاق بديلا من الميتافيز يقا‬ ‫لوصف فلسفته التي اعتبرها ملحدو اليعاقبة وكانها عديمة العلاقة بالديني في الأديان في‬ ‫حينا أن مدارها هو المشترك بين الديني والفلسفي بالمعنى الذي حددته أي الحكمة النظر ية‬ ‫والعملية ليس بدين فلسفي متناف مع الأديان المنزلة‪.‬‬ ‫فما يسمى تأملات ميتافيز يقية في فكر ديكارت هو منظومة من الأدلة على وجود الله‬ ‫بوصفه الضامن الوحيد لمعيار وجود الحقيقة وقابليتها للمعرفة‪.‬‬ ‫وديكارت فكره الذي تتضمنه نصوصه وليس صورة الملحدين عنه أقرب إلى الأشعر ية‬ ‫منه إلى كل فلاسفة القرون الوسطى وكل متكلميها‪ .‬فحتى مبادئ العقل هي عنده‬ ‫خيارات إلهية حرة غيرها ممكن عقلا‪.‬‬ ‫وحتى عمليا فإن ديكارت قد هاجز بدافع سياسي لأن الهجرة إلى هولندة هي هروب‬ ‫من السلطة السياسية والدينية المستبدة دون اعلان القطيعة لأنه فضل القول إني‬ ‫سأعتمد الاخلاق القائمة في انتظار الوصل إلى اثبات الأخلاق التي أومن بها حقا‪.‬‬ ‫‪42‬‬

‫‪--‬‬ ‫ل كن هجرته تدل على أنهكان يبحث عن بلد فيه حر ية الفكر وبدايات الديموقراطية لأن‬ ‫هولندة كانت من الأقطار الأوروبية الأولى التي وقعت فيها ثورة سياسية ديموقراطية‬ ‫مختلفة عما حصل لاحقا في الثورة اليعقوبية الدكتاتور ية أكثر من النظام المل كي‪.‬‬ ‫وبهذا المعنى فإن اللقاء بين الفلسفي والديني في اللقاء بين المدخلين إلى الحكمة من‬ ‫النظر نحو العمل فلسفيا ومن العمل نحو النظر دينيا هو الذي اردت قصه في مساري‬ ‫الشخصي في معضلة البحث عن المشترك بين الديني في الأديان والفلسفي في الفلسفات‬ ‫أصلا لل كوني في المدخلين الممكنين لفهم الوجود عامة والوجود الإنساني خاصة‪.‬‬ ‫والمحاولة بعكس ما كانت عليه الرؤ ية الميتافيز يقية القديمة لم تعد تنطلق من الطبيعة‬ ‫إلى التاريخ بل هي بالعكس بحيث إن المقابلة هي بين ارسطو وابن خلدون‪.‬‬ ‫فالعلم الرئيس عند ارسطو هو الميتافيز يقا‪ .‬والعلم الرئيس عند ابن خلدون هو‬ ‫الميتاتاريخ‪ .‬والخيار الثاني هو الأسلم والأكثر تمثيلا لما نعلم من تكوينية النظر والعمل في‬ ‫الحضارات البشر ية لأن الفكر الإنساني كان ولا يزال دائما ذا أفق ديني من حيث‬ ‫السرمدي فيه حتى عندما ينفيهكما في الرؤى المادية وآخرها الماركسية وذا أفق فلسفي‬ ‫دائما من حيث التاريخي فيه حتى عندما ينفيهكما في الرؤى المثالية وآخرها الهيجلية‪ .‬فلا‬ ‫يكون الفرق بين الأفقين ناتجا إلا عن عدم النظر في المشترك بينهما وهو ليس السرمدي‬ ‫ولا التاريخي بل الترابط بينهما وهو ترابط شارط لفعل العقل وفعل الإرادة‪ .‬والعلاقة‬ ‫هي إذن بين الغاية والأداة‪ :‬العقل أداة والإرادة غاية‪.‬‬ ‫‪43‬‬

‫‪--‬‬ ‫وشرط تحقيق الغاية التمكن من الأداة فيكون التاريخي الذي هو تحقيق الأدوات‬ ‫إيجابا أو سلبا هو الفعل الذي يستعمل العقل لخدمة الإرادة التي تطلب السرمدي‪.‬‬ ‫وذلك هو الترتيب الخلدوني وتلك هي العلة التي تجعل التاريخي الإنساني مقدما على‬ ‫الطبيعي الوجودي الذي لا نحيط به علما ونتعلم منه ما نجربه بصورة لامتناهية دون‬ ‫يقين بالمطابقة معه أبدا‪ .‬ومن ثم فالعلم الرئيس هو الميتاتاريخ وليس الميتافيز يقا‪.‬‬ ‫‪44‬‬

‫‪--‬‬ ‫‪ -‬الفصل الخامس ‪-‬‬ ‫أواصل الاستطراد الذي تزامن مع عيد ميلادي الخامس والسبعين وفيه من‬ ‫الله فضل كبير لما مكنني منه بالخروج مما اعتبرته في شبابي مأزقين روحي‬ ‫وعلقي‪.‬‬ ‫ولما كنت قد جئت للاعتناء بالسياسة ومن محاولة الخروج من المأزقين وصلت‬ ‫الاستطراد بمتابعة الأحداث السياسية ليس بوصفها مطلوبة لذاتها أو لنفع‬ ‫سياسي حتى حين باشرتها بالمشاركة فيها‪.‬‬ ‫والمعلوم أني سرعان ما غادرتها إذ استقلت احتراما للالتزام الأدبي بأن‬ ‫الانتخاب كان للتأسيس ولمدة سنة وليس للحكم ثلاث سنوات‪ .‬لم أقبل ما فرضه‬ ‫الرئيس المرزوقي على من استلذوا ال كراسي الشكلية فتفصوا من التزامهم الادبي‬ ‫بالانتخاب لسنة تخصص لكتابة الدستور‪.‬‬ ‫رغم أن السلطة الفعلية لم تكن بيدهم لأنها بقيت بيد من كانوا يحكمون قبل‬ ‫الثورة بتوسط سيطرة النقابة على الشارع وتعميم المزايدات الاجتماعية والحقوقية‬ ‫التي تتجاوز إمكانات الدولة المادية‪.‬‬ ‫‪45‬‬

‫‪--‬‬ ‫فكان ما تلا السنة الأولى ناتجا عن أول انقلاب على ما تم التوافق عليه‪ .‬ثم‬ ‫إني ما نويت يوما أن امتهن عملا ذا وظيفة سياسية مباشرة رغم اهتمامي‬ ‫بالاطلاع على كل القوى السياسية في الساحة‪.‬‬ ‫وليس عزوفي عن السياسة خوفا من تحمل المسؤولية رغم علمي بثقلها إذا‬ ‫مورست بمقتضى ما أومن به بل لأني اعتقد أن ما ينقصنا ليس وجود المباشرين‬ ‫بأي كيف بل ما كنت أشعر بفقدانه وبضرورة تقديمه لأن غيابه هو علة‬ ‫انحطاط الأمة بسبب الممارسة الرعوانية على الاستراتيجية الحكيمة ذات‬ ‫التأسيس النظري في مرجعية الأمة‪.‬‬ ‫ولما كنت لا أبحث عن تموقع في الخطط السياسية المعهودة بالأخلاق السائدة‬ ‫التي تجعل السياسة استرزاقا بالأساس وكان علم هذه الحالة التي وصفها ابن‬ ‫خلدون بكونها علة فساد معاني الإنسانية فإن عنايتي بها يمكن اعتبارها ذات‬ ‫صلة بما انتهى إليه ابن خلدون فهو قد يئس منها وقرر اعتزالها لسبر أغوارها‬ ‫قوانينها‪ .‬فالهدف هو فهم ما يجري في عمقها الذي يكون في الغالب عكس ما‬ ‫يجري في سطحها من توز يع للسلطة بقوانين خفية أريد فك شفرتها التي ترد إلى‬ ‫سلوك خلقي يعسر تحمله في مجتمع وصفه ابن خلدون نفسه بكونه قد فسدت‬ ‫فيه معاني الإنسانية لقرون‪.‬‬ ‫‪46‬‬

‫‪--‬‬ ‫وقد شخص ابن خلدون علة هذا الفساد بنظام التربية وبنظام الحكم العنيفين‬ ‫وقيمهما في المجتمع الإسلامي وبه يعلل الانحطاط إلى أخلاق العبيد والتحول‬ ‫إلى عالة على الغير والتبعية وهو عين الخسر والرد أسفل سافلين‪.‬‬ ‫فقد صارت أخلاق الأمة أقرب إلى اخلاق العبيد منها إلى أخلاق الأحرار‬ ‫الذي كان يمكن فيها للمواطن أن يقول لابن الخطاب \"والله لو رأينا فيك‬ ‫اعوجاجا لقومناه بحد السيف\"‪.‬‬ ‫فنحن في وضعية لم يعد فيها بوسع المواطن أن يكون مستعدا للأمر بالمعروف‬ ‫والنهي عن الم كر بالقلب ناهيك عنه باللسان وخاصة باليد‪ :‬استسلام تام للأمر‬ ‫الواقع والحياة حياة المواشي‬ ‫أصل الآن إلى زبدة الاستطراد لبيان الغاية التي يسعى إلى بيانها من علاقة‬ ‫الانشغال بالسياسة وبالتفسير موضوعا مشتركا بين الفلسفي والديني ومحاولة تحقيق‬ ‫شروط الجمع بينهما ما أمكن لي ذلك دون الزعم بالوصول إلى ما اتمناه مكتفيا‬ ‫بما ختم به ابن خلدون مقدمته التي اعتبر ما قدمه فيها مجرد بداية‪.‬‬ ‫فالجهد في هذا المجال يتطلب أجيالا من الباحثين المتخلصين من الكار يكاتورين‬ ‫التحديثي والتأصيلي لأن الأول شوه الفلسفة والثاني الديني فجعلاهما في حرب‬ ‫لا تتوقف‪.‬‬ ‫‪47‬‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook