Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore إعادة البناء لشروط الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف – أبو يعرب المرزوقي

إعادة البناء لشروط الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف – أبو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2018-02-27 14:32:32

Description: إعادة البناء لشروط الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف – أبو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫الأسماء والبيان‬



‫المحتويات‬ ‫‪1‬‬ ‫‪ -‬القسم الأول ‪-‬‬ ‫‪1‬‬ ‫‪ -‬الفصل الأول ‪-‬‬ ‫‪6‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثاني ‪-‬‬ ‫‪13‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثالث ‪-‬‬ ‫‪18‬‬ ‫‪ -‬الفصل الرابع ‪-‬‬ ‫‪23‬‬ ‫‪ -‬الفصل الخامس ‪-‬‬‫‪29‬‬ ‫‪ -‬القسم الثاني ‪-‬‬ ‫‪29‬‬ ‫‪ -‬الفصل الأول ‪-‬‬ ‫‪34‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثاني ‪-‬‬ ‫‪39‬‬ ‫‪-‬الفصل الثالث ‪-‬‬ ‫‪44‬‬ ‫‪ -‬الفصل الرابع ‪-‬‬ ‫‪49‬‬ ‫‪ -‬الفصل الخامس ‪-‬‬‫‪55‬‬ ‫‪ -‬القسم الثالث ‪-‬‬ ‫‪55‬‬ ‫‪ -‬الفصل الأول ‪-‬‬ ‫‪60‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثاني ‪-‬‬ ‫‪66‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثالث –‬ ‫‪71‬‬ ‫‪ -‬الفصل الرابع ‪-‬‬ ‫‪76‬‬ ‫‪ -‬الفصل الخامس ‪-‬‬‫‪81‬‬ ‫‪ -‬القسم الرابع ‪-‬‬ ‫‪81‬‬ ‫‪ -‬الفصل الأول ‪-‬‬ ‫‪86‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثاني ‪-‬‬ ‫‪91‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثالث ‪-‬‬ ‫‪96‬‬ ‫‪ -‬الفصل الرابع ‪-‬‬ ‫‪101‬‬ ‫‪ -‬الفصل الخامس ‪-‬‬‫‪106‬‬ ‫‪ -‬القسم الخامس ‪-‬‬ ‫‪106‬‬ ‫‪ -‬الفصل الأول ‪-‬‬ ‫‪111‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثاني ‪-‬‬ ‫‪116‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثالث ‪-‬‬ ‫‪121‬‬ ‫‪ -‬الفصل الرابع ‪-‬‬ ‫‪126‬‬ ‫‪ -‬الفصل الخامس ‪-‬‬

‫‪ -‬القسم الأول ‪-‬‬‫هبني الآن قد حسمت مسألة علوم الملة وغامرت بمحاولة إعادة التأسيس بالاعتماد على‬‫فصلت ‪ 53‬أمرا وآل عمران ‪ 7‬نهيا في الدستور القرآني الخاص بالمعرفة والتربية فكيف‬‫سيكون؟ وماذا يمكن ان يحصل ذلك وما ثمرته في معركة الاستئناف التي لا تتنكر لماضيها‬ ‫لأن نقده لا ينكره بل يتجاوزه إلى الأفضل‪.‬‬‫فالعملية ليست قطعا مع القرآن والسنة بل قطعا مع نوع الاعتماد عليهما المشروط‬‫بالطريقة التي حدداها لفهمهما بما يحيلان عليه وليس بشرح ألفاظهما شرحا ليس له ناظم‬‫ولا حاكم إلا التحكم التأويلي الذي بلغ الذروة في الفهم الباطني الملغي لهما إلغاء فعليا‬ ‫بلدنية تشبه الوحي المتصل للأيمة‪.‬‬‫وهو في الحقيقة جوهر استعادة ما حررنا منه الإسلام أعني الوساطة الكنسية في العلم‬‫والتربية والوصاية السياسية في العمل والحكم أعني النظامين اللذين كانا سائدين عند‬‫نزول القرآن في الامبراطوريتين الكبريين امبراطورية فارس وامبراطورية بيزنطة وهما‬ ‫ما تبنته دولة الإسلام بعد الفتنة الكبرى‪.‬‬‫والشيعة التي تبنتهما صراحة كانت مثل المعارضة في دولة الإسلام والسنة تبنته خفية‬‫فعاشت فصاما بين الأقوال والافعال أي إنها في أقوالها تعتبر ما تجري عليه أفعالها من‬‫المحظورات التي تبيحها الضرورات بحيث إن الحكم صار حقا طبيعيا للقوة وهو معنى أضفاء‬ ‫الشرعية على المتغلب‪.‬‬‫ولأن المتغلب يعلم أن التغلب يمكن أن يؤدي إلى سلسلة لا متناهية من التغالب فيأتي من‬‫يتغلب عليه وهكذا دواليك احتاج إلى التحريف الثاني وهو تحريف المعرفة بجعل الفقهاء‬‫والمتصوفة سلاحه اللطيف أو الناعم بلغة الكافرين بالنعمة‪ :‬فأصبحوا موظفين لديه يختار‬ ‫من يطوع الواجب للواقع‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪1‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫وهذه هي حالة الطوارئ التي تكلمت عليها والتي دامت أربعة عشر قرنا من تاريخنا أي‬‫منذ نهاية الحروب الأهلية التي ترتبت عليها إلى بداية ثورة الشباب التي يظن أنها عديمة‬‫العمق التاريخي والتأسيس النظري فاعتبرت إما فزة عفوية أو مؤامرة استعمارية لكأن‬ ‫الاستعمار بحاجة للتآمر على عملائه حكام العرب‪.‬‬‫ولا يظنن أحد أني أتكلف فيما أدعيه لثورة الشباب بجنسيه فأطلب لها تأسيسا في تاريخ‬‫الإسلام وشروط فهم القرآن باعتباره محددا للدستورين المعرفي والسياسي وجمعهما هو ما‬‫يعتبره القرآن جوهر ما يقتضيه كيان الإنسان لسياسة علاقته بالعالم وعلاقة البشر بعضهم‬ ‫بالبعض باعتبارهم اخوة متساوين‪.‬‬‫ذلك أنه لا يمكن أن يكون اختيار أهم شعار للثورة وليد الصدفة أو التولد الطبيعي‪:‬‬‫فأن يختار الشباب في كل بلاد العرب بيتي الشابي شعارا لثورتهم دليل قاطع أنهم بوعي أو‬‫بغير وعي كانوا يعلمون أن ما حل بالأمة سببه فهم القضاء والقدر بعكس ما قصده القرآن‬ ‫الكريم‪ :‬بيان دور الإنسان في التاريخ‪.‬‬‫أدركوا العلة العميقة لفقدان الامة دورها في التاريخ بسبب نظرية القضاء والقدر التي‬‫كان \"علماء\" الامة يبررون بها كل خيانات \"أولي الأمر\" (العلماء والأمراء) للأمانة وللعدل‬‫بالمعنى الذي حددته النساء ‪ 58‬شرطا للحكم سواء بمعناه القضائي أو العلمي أو السياسي‬ ‫أو الخلقي في سلوك الإنسان‪.‬‬ ‫أعلم أنه سيرد علي بلغة القذافي أو بلغة السيسي‪ :‬من أنت؟‬‫كيف تدعي ما يشبه تسفيه أجيالا من العلماء والامراء ممن حافظوا على كيان الأمة‬‫رغم ما تعيب عليهم من إخراجها من التاريخ الفاعل وابقائها في التاريخ المنفعل مستعبدة‬ ‫مرتين منهم وممن يستعبدنا بهم بسبب تحويلنا أوطاننا إلى محميات؟‬‫وحاشا أن أسفه أحدا حتى لو كان إنسانا أميا فكيف بمن لا أشك في تكوينهم العلمي‪.‬‬‫لكن من شروط العلم أنه يتطور وأنه في الحقيقة تاريخ إخطاء البشر الاجتهادية بالطبع‪.‬‬‫لذلك فكل محاولة لتجاوز الماضي في المعرفة ليس انكارا للماضي بل تثمين لما بينه حتى سلبا‬ ‫لأنه يلغي انتهاج الطرق المسدودة‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪2‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫وطرق المعرفة المسدودة نعرفها بنتائجها‪ :‬فإذا كانت هذه العلوم قد انتهت إلى جعل الامة‬‫عزلاء وعاجزة عن تحقيق مهمتي الأنسان أي الاستعمار في الأرض بالعمل على علم بقوانين‬‫الطبيعة والاستخلاف فيها بالعمل على علم بسنن التاريخ فمعنى ذلك أن هذا العلم زائف‬ ‫وأنه آل إلى طرق مسدودة‪.‬‬‫فيكون بذلك على سلبيته ذا وجه موجب هو إفهامنا معنى فصلت ‪ 53‬وآل عمران ‪ 7‬بمعنى‬‫أننا صرنا ندرك معنى قوله جل وعلا إن تبين حقيقة القرآن ليست في نصه بل فيما يحيل‬‫عليه من آيات الله في الآفاق والأنفس وأنها ليست في المتشابه أي الغيب بل في عالم‬ ‫الشهادة‪ .‬وهذه ثورة سببها فشل الماضي‪.‬‬‫وهي ثورة تبين أن القرآن معجزة ليس لأنه يتضمن خرافة الأعجاز العلمي فيكون مدونة‬‫للعلوم أعني ما فهمه الماضي ‪-‬والغريب أن أصحاب هذه الفكرة يدعون العلم الحديث‪-‬بل‬‫هو معجزة بقلبه مفهوم الإعجاز‪ :‬الإعجاز القرآني ليس خرق النظام الطبيعي والتاريخ بل‬ ‫إثباته ومطالبته لنا بتبين حقيقته منهما‪.‬‬‫ولا علاقة لهذا التصور بما ينسب إلى المعتزلة أو الفلاسفة من العقلانية‪ :‬فعقلانيتهم‬‫المزعومة لا يقول بها أي عاقل يفهم معنى العقل ومعنى ما بينه ابن خلدون من الوجود لا‬‫يمكن ان يرد إلى الإدراك ومن ثم فنظرية المعرفة المطابقة متنافية مع اي عقل سليم‪ .‬ما‬ ‫نعلمه من الوجود مضوأة منظورية‪.‬‬‫وما نجهله حتى من الشاهد فضلا عن جهل الغيب كله لامتناه بالقياس إلى ما نعلمه وهو‬‫شديد التناهي‪ .‬توهم ما نعلمه مطابق للحقيقة في ذاتها تأليه زائف للإنسان بزعم علمه‬‫محيطا‪ .‬تلك هي عقلانية المعتزلة والفلاسفة وكل القدامى بمن فيهم أعظم فيلسوفين‬ ‫يونانيين أفلاطون وأرسطو‪.‬‬‫ومن يفهم هذه الحقيقة يدكر عمق ما قاله ابن تيمية شرحا لعبارة \"من تمنطق فقد‬‫تزندق\" التي تبدو نفيا للعقلانية وهي في الحقيقة ليست نفيا للعقلانية بل نفي لتوهم‬‫قوانين المنطق القديم مطابقة لقوانين الوجود‪ .‬فهو لم ينقد المنطق كمنطق بل للظن أنه‬ ‫منطق الوجود وليس منطق نوع من الكلام عليه‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪3‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫صحيح أن الكلام على الوجود يحتاج إلى منطق ما مثل الكلام على الله يحتاج إلى‬‫\"انتروبومورفية\" ما المنطق \"لوجيكومورفية\" ضرورية للكلام على الوجود ضرورة‬‫الانتروبومورفية للكلام على الله‪ .‬لكن الانثروبومورفية تحتاج إلى احتزاز ليس كمثله‬ ‫شيء و\"اللوجيكومورقية\" تحتاج إلى احتراز ليس كمثله شيء‪.‬‬‫قياس الله على الإنسان في كلامنا عليه وقياس الوجود على المنطق في كلام عليه من نفس‬‫الطبيعة‪ :‬لا بد من عدم نسيان الفارق بين المقيس والمقيس عليه‪ .‬فالله لا يقاس على‬‫الإنسان والوجود لا يقاس على المنطق‪ .‬لكن ذلك من ضرورات التعامل مع الغيب التي تقبل‬ ‫بشرط الاحترازين الديني والفلسفي‪.‬‬‫فالاحتراز الدين جاء في القرآن بشكل \"ليس كمثله شيء\" رغم تحريف ابن عربي لظنه‬‫أن من ينفى عنه المثيل هو المثيل أي إن الإنسان مثل الله ولا مثيل له‪ .‬والاحتراز الفلسفي‬‫هو المقابلة بين علم الإنسان النسبي وعلم الله لمحيط‪ .‬وهو أصل الخلاص من بنظرية المعرفة‬ ‫المطابقة‪.‬‬‫وبذلك يتبين أن من كان يعتقد أنه ظلامي وضد العقل هم العقلاء بحق في المعرفتين‬‫الدينية والفلسفية لأنهم ميزوا بين المقيس والمقيس عليه ولم يطلقوا مقايسة دينية بين‬‫الله والإنسان كما توهم من ظن أن ما تقتضيه حاجة الإنسان للكلام على الله قيسا على‬ ‫الإنسان دليل تماثل حقيقي بينهما‪.‬‬‫وحذار من توهم أن دعاوى التنزيه المعتزلي أو تعطيل الصفات تحرر من هذا الوهم‪.‬‬‫ذلك أنهم إن فعلوا بحق ينبغي أن يصلوا إلى أن الله هو العدم‪ .‬لذلك فهم يتوهمون أن‬‫الابقاء بعض الصفات دون ما كل ما ورد في القران منها يحقق وهمهم فما أبقوه على أساس‬ ‫قيس الغائب على الشاهد مثل ما نزهوا عنه الله‪.‬‬‫فالإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود هي بدورها ذات جوارح في الإنسان ولا يمكن‬‫تصورها من دونها فنبقى عليها وننفي اليد والاستواء‪ .‬إذا كانت كلها مستمدة من قيس‬‫الغائب على الشاهد فكلها كما قال ابن تيمية خاضعة لنفس الشروط أعين قيس الله على‬ ‫الإنسان بشرط ليس كمثله شيء‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪4‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫ومن ثم فالتنزيه لا يختلف عن التجسيم إذا تصور صاحبه أن ما يقوله عن الله علم به‬‫ذاته وصفاته وليس مجرد تصوره بالقياس إلى الإنسان \"انثروبومورفية\" وهو بنحو ما خلق‬‫لصورة الله في ضمير المتصور ولا علاقة له بحقيقة ذات الله التي هي الغيب المطلق‪ .‬ومثل‬ ‫ذلك يقال عن قياس الوجود على المنطق‪.‬‬‫وختاما فالإنسان لا يدرك إلا بالاسترماز سواء تعلق الأمر بتجاوز آل عمران ‪ 7‬للكلام في‬‫المتشابه وعليه ينبني زيف كل علوم الملة الماضية كما بينت أو بالاقتصار على فصلت ‪ 53‬التي‬‫يمكن علمها من تحقيق شروط الاستعمار في الأرض والاستخلاف دون المطابقة ورد الوجود‬ ‫إلى مداركنا المنطقية والتقنية‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪5‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫إعادة البناء التي أسعى اليها تبدأ بالسؤال عن دور الاسترماز كما يمكن فهمه من خلال‬‫التجربة الإنسانية في البعد الثاني من الآفاق أعني في التاريخ الذي هو ما يضيفه الاسترماز‬‫للوجود الطبيعي في العالم وفي الإنسان ليتضاعف تاريخه فلا يبقى زمانه طبيعيا بل يتحول‬ ‫إلى زمان طبيعي ورمزي‪.‬‬‫وهي إشارة قرآنية في النص لكنها لا تفهم بشرح النص بل بطلب آيات الله الخاصة بها في‬‫الآفاق والانفس أي فيما به اعتبر آدم أهلا للاستخلاف في استعماره للأرض شرطا في قيامه‬‫العضوي المتقدم على قيامه الروحي والمتعين في الاستعداد للاستخلاف‪ :‬علمه الأسماء علمه‬ ‫البيان علمه القرآن‪.‬‬‫وهي ثلاث مستويات من القدرة الترميزية وبينها الاول والثاني وسيط وبين الثاني‬‫والثالث وسيط وهي مستويات الترميز أو الاسترماز (أي ترجمة الوجود الفعلي بالرموز‬‫الممكنة من التعامل معه‪ :‬طلب رموزه أو الآيات التي يرينها الله فيه)‪ .‬فمن الأسماء إلى‬ ‫البيان ومن البيان الى القرآن وسطيان‪.‬‬‫فالإنسان من حيث هو إنسان مسم‪ .‬وإذن فهي صفة عامة‪ .‬لكن البيان ليس عاما بل لا بد‬‫فيه من قدرة على فهم علاقة الاسم بالمسمى أو التمييز بين الحقيقة والأسماء التي‬‫سميتموها أنتم وآباؤكم وإذن بداية تحري الصدق وعدم عبادة التحريف الذي يفسد‬ ‫الأديان والاذهان‪ .‬ومن البيان إلى القرآن وسيط‪.‬‬‫وهذا هو مربط الفرس‪ :‬القرآن يقول إن تبين حقيقته ليس في آيات نصه (فقراته) بل‬‫فيما يرينه من آيات في الآفاق والانفس‪ .‬وإذن فالوسيط لتعلم القرآن هو آيات الله في‬‫الطبيعة وفي التاريخ وما يوحيان إلى الإنسان من تجاوز للسؤال عما ورائهما أصلا للأسئلة‬ ‫الوجودية ومناط السؤال الديني الفلسفي‪.‬‬‫ومن لم يفهم الترابط بين هذه المستويات الترميزية في كيان الإنسان لا يمكن أن يدرك‬‫حقيقة قولي إن الأسئلة الوجودية الكونية هي عين مناط السؤال الديني والفلسفي الكوني‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪6‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫وأنهما شيء واحد إلى عند أنصاف المثقفين الذين تسكرهم زبيبة فيتصور الفلسفة للخاصة‬ ‫بالجوهر والدين للعامة بالجوهر‪.‬‬‫ولما كان سكرانا بزبيبة فهو لا يفقه أن دعواه الإلحاد بحجة التفلسف دليل على غبائه‬‫الفلسفي لأني ما عملت فيلسوفا ملحدا أبدا لأنه إن لم يكن قائلا بالإله الشخص فهو حتما‬‫قائل بما يشيه تأليه الطبيعة كلها أو بعضها أو تأليه التاريخ كله أو بعضه أو مختل عقليا‬ ‫لا يميز بين المادي والروحي‪.‬‬‫فمجرد عودته على نفسه ليكون الذات التي تعي نفسها موضوعا قائما بذاته خارج وعيها‬‫يعني أن المستوى الثاني من ذاته غير المستوى الاول من ذاته وأن هذا المستوى الثاني‬‫يسمي ذاته ويبين ما يصدر عنها ويطلب آيات الله فيها ليعلم قوانينها ولا يبقى له إلا‬ ‫الإيمان لأن من وصل إلى هنا لا يكذب أبدا‪.‬‬‫والإيمان لا يعني اليقين المطلق بل هو خيار حر بين رؤيتين للوجود‪ :‬قابلة به كما هي‬‫وراضية به أو رافضة له وغير راضية به‪ .‬لكن التنطع ليس علما والشك ليس جهلا بل هو‬‫التردد والنوسان الذي لا يخلو منه إنسان بمن في ذلك الانبياء وإلا لما قال القرآن {حتى‬ ‫إذا استيأس الرسول وظنوا ‪.}...‬‬‫فالصمود أمام سيلان الوجود وتلاطم أمواجه ليس في متناول كل البشر إذ حتى الانبياء‬‫يقعون في مطباته التي يذكرها القرآن وخصص لها سورة الرحمن كلها وهي سورة لي معها‬‫قصة شخصية أحب التذكير بها‪ .‬لما كنت طفلا كنت أعجب من المخاطبين بهما‪ :‬فبأي آلاء‬ ‫ربكما تكذبان‪ .‬إنهما من لم يخلقا إلا للعبادة‪.‬‬‫ولم أتخلص من حيرتي ‪-‬كيف لمن لم يخلق إلا للعبادة أن يكذب بآلاء ربه‪-‬إلا بفضل‬‫التمييز بين الإنشاء الذي يبدو خبرا‪ :‬فالقول وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدوني\"‬‫خبرية وحصرية ومؤكدة من حيث الصيغة اللغوية لكنها من حيث الدلالة الروحية هي‬ ‫تحديد إنشائي يأمر بشرط أهلية الاستخلاف‪.‬‬‫فشرط أهلية الاستخلاف هو أن يجعل الإنسان وجوده عبادة لله في استعماره للأرض بقيم‬‫الاستخلاف لأن الله لم يستخلفه إلا لهذه الغاية فيكون المقصود بالعبادة هو تحقيق‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪7‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫الاستعمار في الارض بقيم الاستخلاف اختبارا لهذه الاهلية وهي رهان الله على الإنسان‬ ‫الحر والكريم والمكلف قبل الدنيا وبعدها‪.‬‬‫إنها منزلة الإنسان الوجودية‪ :‬ومنها يبدأ المعنى الديني والمعنى الفلسفي لوجود الإنسان‬‫ولتجربته الروحية خلال حياته الدنيوية وما يتجلى له فيها من آيات تبين له حقيقة القرآن‬‫أي حقيقة كلامه على المعادلة الوجودية بقطبيها الله والإنسان وعلاقتيهما مباشرة وغير‬ ‫مباشرة بتوسط الطبيعة والتاريخ‪.‬‬‫خصصنا فصلا كاملا للتمهيد لإعادة البناء وفي الحقيقة لم يكن هذا الفصل إلا خاتمة عدة‬‫محاولات بدت وكأنها تهدم الموجود بهدف الانطلاق نحو المنشود‪ .‬لكنها كانت محاولات بيان‬‫حاجة الموجود لتجاوزه بعد أن فقد نسغه الحي وقدرته على تحقيق شروط الاستعمار في‬ ‫الارض فضلا عن شروط الاستخلاف‪.‬‬‫وليس لذلك أدنى علاقة بمنزلة المرجعية الروحية للأمة بل هو متعلق بقراءاتها‬‫وتأويلاتها السابقة علما وان السرمدي في المرجعية أزلا وأبدا هو كونها معينا لا ينضب‬‫للتأويل والتحليل ليس بالمضمون بل بما توجه إليه وعي الإنسان من مناظير لرؤية ما في‬ ‫الآفاق والانفس من آيات الله‪.‬‬‫وعندي أن كل من يجمد دلالات القرآن ومعانيه المحدد لمناظير الرؤية يوثنون ما توصلوا‬‫إليه في مراحل نضوح الوعي بالاعتماد على نظرية المعرفة المطابقة ليجعلوها مضاعفة‪:‬‬‫مطابقة بين ما يوجه إلى القرآن من مناظير ومنظورهم وبين حصيلة \"علومهم\" وحقائق‬ ‫الوجود على ما هي عليه‪.‬‬‫فيصبح كل مس بـ\"علومهم\" مسا بالمرجعية التي توهموا مطابقة أولى بين علومهم وما تشير‬‫إليه المرجعية إشارات تزدادا ثراء كلما نضج الوعي بمستويات الترميز الخمسة التي‬‫ذكرتها وبقدرة الإنسان على ترجمة علاقاته بالوجود الطبيعي والتاريخي وما يفترضه‬ ‫وراء لهما إلى المستوى الثاني من كيانه‪.‬‬‫والمستوى الثاني من كيان الإنسان هو إن صح التعبير حصيلة تاريخ الإنسان أو ما أضافه‬‫الإنسان إلى عالم الطبائع وقد سميته عالم الشرائع أي ما وضعه الإنسان لترجمة العلاقتين‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪8‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫العمودية (بينه وبين الطبيعة) والأفقية (وبين البشر) واعترافا لابن خلدون بالفضل‬ ‫مستويي‪ :‬العمران والاجتماع‪.‬‬‫وغاية هذا النضوج يمكن ترجمتها دينيا بما سماه القرآن \"تين الرشد من الغي\" الذي‬‫يلغي الحاجة إلى الإكراه في الدين أو يحقق شروط الحرية الروحية التي تجعل الإنسان‬‫يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فيشعر بأن كيانه صار مطابقا للمعادلة الوجودية التي وصفت‪:‬‬ ‫وهي العروة الوثقى التي لا انفصام لها‪.‬‬‫وهذا هو الإيمان الحر أو الآلهية (فعل والله هو المألوه وهي علاقة حب) في مقابل‬‫الإيمان المضطر أو المربوبية (انفعال والله هو الرب) فيحصل التناظر بين الموقفين الذي‬‫يمكن من كلام على {رضي الله عنهم} و{رضوا عنه} التي كنت استغربها لظني أن الله‬ ‫غني عن رضانا عنه‪.‬‬‫وما دام هذا كلامه فلست أدرى منه بما يريد‪ :‬هو لا يستغني عن رضا عباده‪ .‬والمعنى أن‬‫تحرير الإنسان المشروط في التكليف والاختيار والحساب على الاجتهاد والجهاد يجعل‬‫الإيمان الحر وبيان أهلية الاستخلاف هما علامة رضاهم عن الله وعلامة رضا الله عنهم‬ ‫وهي إذن نفس العلامة‪.‬‬‫ولأبدأ الآن بأول علوم الملة الذي أريد إعادة بنائه‪ :‬الفقه وأصوله‪ .‬لا بد من شرطين‬‫إذا كنا نريده أن يكون علما يقوم بوظيفته التي تتعلق بالقانون وبالأخلاق في حدود عالم‬ ‫الشهادة‪:‬‬ ‫‪ .1‬الأول أن يأتمر بما أمرت به فصلت ‪ 53‬وأن ينتهي عما نهت عنه آل عمران ‪.7‬‬ ‫‪ .2‬والثاني فهم مفهوم التشريع للتشريع‪.‬‬‫وهذا المعنى الثاني جوهري لأننا لو حاولنا جعل القرآن تشريعا للنوازل لوقعنا في‬‫محظورين أو هما غصب دلالات الأحكام حتى نصدق قول القرآن بأنه ما فرط في الكتاب‬‫من شيء بقصد غير مفهوم ولجعلنا قياسات خرقاء وكأنها مناظرة لتشريعات نتوهمها في‬ ‫القرآن فنضفي عليها قدسيته وهي إنسانية‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪9‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫فينتج عن ذلك وحتى لا نكذب القرآن ولا نغتصب قدسية زائفة نضفيها على تشريعات‬‫وضعية متنكرة علينا أن نعترف بأن المشرع للنوازل هو الإنسان ولا أحد غيره وأن المشرع‬‫للتشريع هو الله ولا أحد غيره‪ .‬وهذا يصح على النظر والعمل عامة‪ .‬فقوانين الطبيعة‬ ‫وسنن الأخلاق ليست من صنع الإنسان‪.‬‬‫لكن أعيان القوانين التي يكتشفها الإنسان هي من تشريعه وهي تكون تشريعا شرعيا ما‬‫لم تتناف مع شروط طلبها بمقتضى طبيعتها أعني البحث عنها بشروط منهجية لا يمكن من‬‫دونها الوصول إليها وتلك هي تشريعات التشريع العلمي في النظر وفي العمل الإنسانيين‪.‬‬‫وما دمت أتكلم على الفقه أو التشريع الإنسان للعلاقات بين البشر والنوازل التي تحصل‬‫عن الخلافات حول ما يتنافسون عليه من شروط العيش (الاقتصاد خاصة) وشروط المنزلة‬‫في الجماعة (الاخلاق خاصة) والوجود (اساس نوعي الشروط) فإن الامر يتعلق بشروط‬ ‫حماية حريتي الذات وضعا وخضوعا للقانون‪.‬‬‫وهو معنى المساواة أمام القانون بالمشاركة في وضعه وبالمشاركة في الخضوع اليه بحيث‬‫تكون الذات ذاتية التشريع وذاتية الطاعة وهما وجها التقوى المشار إليها في الحجرات‬‫‪ .13‬الذات الإنسانية مكلفة بأن تشرع وأن تخضع للتشريع بتشريع أسمى يحدد ما به‬ ‫يكون تشريعهم شرعيا بمعيار الحرية والمسؤولية‪.‬‬‫فيكون الفقه هو نظام الحريات والحقوق والواجبات في جماعة أفرادها أحرار روحيا (لا‬‫وسيط بينهم وبين ربهم) وسياسيا (لا وصي عليهم بينهم وبين أمرهم)‪ .‬أساس الفقه كعلم‬‫للتشريع المتعين في تنظيم جماعة معينة لعلاج نوازل معينة إنساني بمعايير تشريع التشريع‬ ‫الذي هو إلهي (دينيا) أو طبيعي(إلحاديا)‪.‬‬‫ومعنى ذلك أنه لا فرق من حيث البنية المنطقية للقانون بين الديني والإلحادي‪ :‬كلاهما‬‫يعتبر التشريع الأصلي ليس تشريعا للنوازل العينية بل هو تشريع لهذا التشريع أي إنه‬‫محدد للمعايير التي إذا توفرت في التشريع المباشر يكون تشريعا شرعيا بمقتضى معايير‬ ‫التشريع غير المباشر‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪10‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫فيكون الفرق بين المؤمن والملحد هو اسم التشريع غير المباشر‪ :‬المؤمن يسميه تشريعا‬‫إلهيا لشروط شرعية التشريع للنوازل والملحد يسميه تشريعا طبيعيا لشروط شرعية‬‫التشريع للنوازل‪ .‬وبالتدقيق فالملحد يسميه حقوق الإنسان وهو ما يطابق ما يسميه المؤمن‬ ‫واجبات الإنسان نحو ذاته والعالم‪.‬‬‫ذلك أن اعتبار حقوق الأنسان طبيعية أو إلهية قضية عقد وليست قضية علم‪ .‬ما هو‬‫علمي في الحالتين هو ان الإنسان لا يمكنه أن يشرع كما يهوى بل توحد شروط ليكون‬‫التشريع تشريعا مشروعا‪ :‬بمعنى أن صفات القانون هي التي تضفي عليه فعل القانونية‬ ‫وهذه ليست تحكمية ولها علاقة مباشرة شبه موضوعية‪.‬‬‫وحتى هذه المبادئ فهي لا تؤخذ من النص بل مما وجه إليه النص الإنسان لتبين حقيقة‬‫القرآن أي من الآفاق والانفس في الفقه من التجربة التاريخية التي تبين نجاعة تجارب‬‫التشريع الإنسان في تحقيق وظائفه ومنها تستنتج المبادئ العامة التي تضفي الشرعية على‬ ‫التشريع وهي مؤيدة لحقيقة القرآن‪.‬‬‫وبهذا المعنى فالفرق بين النوعين لا يتعلق بالحاجة إلى المستويين‪ :‬التشريع للنوازل‬‫بأعيانها المتحيزة في المكان والزمان بكل ملابساتها الظرفية والتشريع لهذا التشريع أو‬‫وضع المبادئ العامة التي تجعله تشريعا مشروعا في الحضارة الإنسانية عامة لأن العلاقتين‬ ‫العمودية والافقية مقومان كونيان‪.‬‬‫وهذا هو اساس الدولة أو التي هي تعين السياسة في ذات مجردة تمثل تشخيص معنوي‬‫للجماعة بوصفها حامية وراعية لذاتها حكما وتربية في علاقة بالعالم الطبيعي وبالعالم‬‫التاريخي‪ :‬فلا توجد جماعة تعرف بالداخل وحده بل هي تعرف كذلك بما يحدها من‬ ‫الجماعات المحيطة بها مكانا وزمانا‪.‬‬‫ولهذه العلة فلا يوجد قانون داخلي محض بل لا بد أن يكون مصحوبا بقانون خارجي‬‫لأن السياسة الدولية متقدمة على السياسة الداخلية لعلتين‪ :‬فقبل وجود ما يقبل هذا الاسم‬‫كل القبائل توجد أمام تحد داخلي غالبا ما تسيطر عليه بسلطة معنوية وتحد خارجي لا بد‬ ‫من سلطة مادية (قوة عسكرية)‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪11‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫ويمكن أن نقول إن أول قانون شبه خارجي هو قانون الهدن الدينية أو الاشهر الحرم‬‫بين القبائل المنتسبة إلى نفس المجال الحضاري وهو قانون خلقي معنوي يوقف دور القوة‬‫المادية‪ .‬ولما تكبر الجماعات وتتجاوز الجماعة القبلية لتصبح دولة فإن القوة المادية تصبح‬ ‫ضرورية في الداخل والخارج‪.‬‬‫تلك هي مجالات النظام القانوني في أي جماعة وهي ترى بوصفها آيات الله في الآفاق‬‫والأنفس وعندما ندرسها فيها نجدها مطابقة لما يوجهنا إليه القرآن الكريم إيجابا وسلبا‪:‬‬‫فرسالة التذكير الاخير يعرفها القرآن كذلك بأن رسولها بشير لمن يتذكر ونذير لمن ينسى‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪12‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫لحد الآن لم نر من الفقه إلا أحد وجهيه‪ .‬وحتى نفهم ذلك فلنذكر تمييز ابن خلدون‬‫بين نوعي الوزع في أنظمة حياة البشر‪ :‬الوزع الأجنبي أو الخارجي وهو ما حاولنا فهمه في‬‫الفصل السابق من الفقه‪ .‬والوزع الذاتي أو الباطني وهو ما سنشرع الآن في علاجه وهو‬ ‫يمكن أن يفهم كوزع ديني أو كوزع خلقي‪.‬‬‫وما يحول دون فهم وحدة الوصفين ديني أو خلقي هو عينه ما يحول دون فهم وحدة‬‫النسبتين ديني وفلسفي‪ .‬فعندما نخلط بين الدين والسلطة الدينية لمن يدعي تمثيله يصبح‬‫الدين غير الاخلاق أنه يصبح وزعا خارجيا للوسيط بين الإنسان وربه فضلا عن تصوير‬ ‫سلطان الرب على الإنسان كسلطان الإنسان عليه‪.‬‬‫لكن إذا حررنا الديني من هذا التحريف وحررنا الفلسفة من ظنها عملية منطقية لا‬‫علاقة لها بهذا الدافع الذاتي لفهم معضلات الوجود فإنهما يصبحان نفس الفاعلية‬‫الإنسانية للتعامل مع المعادلة الوجودية ويصبح الديني والخلقي شيئا واحدا هو الوزع‬ ‫الذاتي أو الوزع الباطني ويرد إلى مبدأين بسيطين‪.‬‬‫المبدأ الأول أن يعامل الإنسان غيره كما يريد أن يعامله غيره في المسائل التي إذا لم‬‫يطبق فيها هذا المبدأ يحصل العدوان بين البشر حول ما يتنافسون عليه أعني شروط‬‫العيش والمنزلة في الحياة‪ .‬والمبدأ الثاني السلوك الأسلم للرد على العدوان لئلا تنكص‬ ‫الإنسانية إلى قانون التاريخ الطبيعي‪.‬‬‫ومعنى ذلك أن من شروط الوزع الذاتي السوي أن يوجد وزع خارجي سوي يحول دون‬‫تحصيل الناس حقوقها ورد العدوان عليها بذاتها بل وجود حكم رادع خارجي يمثل سلطة‬‫الجماعة في الفصل بين أفرادها عندما لا يعمل الوزع الذاتي فتحصل نزاعات وتظلمات‬ ‫وكذلك في حالة العدوان الخارجي عليها‪.‬‬‫وإذن فالوزع الذاتي هو الاصل وهو بمقتضى القرآن وبمقتضى العقل (لمن لا يؤمن‬‫بالقرآن) فطري في الإنسان إما بمقتضى خلق الإنسان الإلهي عند المؤمن أو الطبيعي عند‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪13‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫الملحد‪ :‬فالإيمان وعدمه في القضية لا يغير من الامر شيئا‪ .‬فلا يمكن القبول بأن الإنسان‬ ‫يولد عبدا ويتحرر بل يولد حرا ويستعبد‪.‬‬‫ومجموع الوزعين هو السياسة سواء اخذنا هذا المفهوم بمعناه الديني أو خاصة بمعناه‬‫الفلسفي‪ :‬السياسة هي الحكم (الوزع الخارجي) والتربية (الوزع الذاتي)‪ .‬وتقدم الثاني‬‫على الاول هو الذي جعل ابن خلدون يعتبر التربية العنيفة علة الحكم العنيف والعنفان‬ ‫علة فساد معاني الإنسانية في الفرد والجماعة‪.‬‬‫وبذلك وصلنا إلى الوجه الثاني من الفقه أو الأخلاق وهو يلغي مفهوم التصوف من أصله‬‫لأنه لا يبقي إلا على مفهوم المجاهدتين الأوليين مما يسمى عادة تصوفا‪ :‬أي مجاهدة التقوى‬‫أو العمل بالمبدأين اللذين وصفت ومجاهدة الاستقامة أي المواظبة على مراقبة النفس‬ ‫وحركاتها وسكناتها أو ديمومة التقوى‪.‬‬‫والوجه الأول من الفقه أو الوزع الخارجي هو فعل الجماعة كدولة والوجه الثاني من‬‫الفقه هو فعل أفراد الجماعة بمقتضي ما ينبغ من ضمائرهم من أخلاق سلوك التعامل التي‬‫قد تغني عن اللجوء لقوة الدولة بوصفها الحكم بينهم عند حصول العدوان حتى لا يرد‬ ‫عليه بعدوان فيتسلسل‪.‬‬‫ولما كانت العلاقة بين الجماعات تمر ببعدها كدولة وليس كضمائر فردية ولما كانت لا‬‫توجد دولة كونية تمثل الوازع الخارجي بين الدول فإن الاحتكام بين الدول هو في الغالب‬‫إلى السلاح وقلما تنجح الدبلوماسية إذا لم يكن وراءها ما يحقق ردع المعتدي‪ .‬وللإنسانية‬ ‫دائما قانون دولي ولو مبدئيا‪.‬‬‫والجميل في أمر الفقه القرآني هو أنه يضع الوجهين دائما معا ويقدم الوزع الذاتي أو‬‫الباطني على الوزع الاجنبي أو الخارجي‪ .‬وذلك خاصة في المؤسسات التي بين الفرد والدولة‬‫كالأسرة‪ .‬فأحكام الأسرة مبنية أولا على الوزع الذاتي والاخلاق والوزع الخارجي حل أخير‬ ‫بعد فشل وساطة الجماعة خلقيا‬‫وقد يلومني القارئ المتسرع فيرى فيما أقول تعارضا مع نفيي الاستعمال المباشر لنص‬‫القرآن وضرورة المرور بالآفاق والأنفس لأني أرجعت الوزع الباطني إلى الديني المحرر‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪14‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫من الوساطة الإنسانية والوصاية السياسية‪ .‬وحتى أوضح ذلك لا بد من تعريج طويل‬ ‫احتاج فيه إلى صبر القراء‪.‬‬‫وسيبدو ذلك وكأنه استطراد لكنه في الحقيقة تأسيس للعلاقة بين الوزعين الأجنبي (حكم‬‫القانون في الأفراد والجماعات أو الدولة) والذاتي (حكم الضمير في الأفراد والجماعات‬‫أو الاخلاق)وكلاهما لا تخلو منهما دولة مهما كان أصحابها ملحدين كما يتوهم من يعتبر‬ ‫الدولة الحديثة والعلمانية لا أخلاق لها‪.‬‬‫وإذا جاز لي القول العابث الذي من جنس اتهام الدولة الحديثة والعلمانية بأنها عديمة‬‫الأخلاق بمنظور من يحصر الاخلاق في الدولة الدينية فإن العكس هو الأصح‪ :‬فالدولة‬‫العلمانية وحتى الملحدة أكثر تناسقا في المسألة لأنها تعتبر أخلاقها هي أخلاق القانون‬ ‫الطبيعي والحقوق هي ثمرة توازن القوى‪.‬‬‫وهي إذن لا تنافق وتعتبر أن من حق الإنسان أن يدافع عن حقوقه بمنطق أخلاق القوة‬‫فلا تخضعه لتحريف عقيدتها فتجعل طاعة المستبدين والفاسدين من أخلاقها بل من‬‫واجباتها الدينية بخلاف القرآن والدين السوي‪ :‬الدولة الدينية تحريف للإسلام الذي‬ ‫ينفي اساسيها‪ :‬الوساطة الروحية والوصاية السياسية‪.‬‬‫فالقضية كلها تعود إلى أن الإنسان من حيث هو إنسان كما يعرفه القرآن له مقومان‬‫أحدهما يضعه في علاقة عمودية مع الطبيعة مصدر شروط قيامه العضوي كفرد (الغذاء)‬‫وفي علاقة أفقيه مع البشر مصدر بقائه كنوع (الجنس) وأن العلاقة الأفقية مقدمة على‬ ‫العمودية لأنها شرط حل معضلاتها بالعلم والعمل‪.‬‬‫وهذا هو ما سميته الاسترماز‪ :‬لولا التواصل بين البشر المتساوقين في الوجود والمتوالين لما‬‫تحقق للإنسان جملة العلوم والفنون والممارسات التي تمكنه من استثمار ما يسمى بتسخير‬‫الطبيعة حتى يحقق شروط بقائه (الغذاء) التي هي ثمرة عمل جماعي دائما‪ :‬تقاسم العمل‬ ‫والتبادل والتعاوض بين البشر‪.‬‬‫فيكون جل البشر بهذا المعنى لا صلة لهم مباشرة بالطبيعة إلا من كان منهم \"نحلة عيشه\"‬‫(بلغة ابن خلدون) في صلة مباشرة بها مثل البدو والمزارعين‪ .‬وهؤلاء كما هو معلوم أحرص‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪15‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫الناس على هذه العلاقة المباشرة واحترام الطبيعة التي يعلمون أنها مورد رزقهم وشرط‬ ‫بقائهم‪.‬‬‫وفي المقابل تجد من يسميهم القرآن بالمترفين الذين لا علاقة لهم بالطبيعة بل إن بينهم‬‫وبينهم كل الجماعة التي تخدمهم عبيدا تعمل بهم ما تريد ولا يهمها أن تفسد في الأرض‬‫ولا تحترم العلاقة العمودية والعلاقة الافقية‪ .‬ولهذا كان القول إن المترفين بفسقهم‬ ‫يجعلون القول صادقا على قريتهم فتدمر‪.‬‬‫طبعا فالقصد بالتدمير ليس الزلازل والكوارث الطبيعية وإن كان ذلك ليس مستبعدا‬‫بعد أو وصلت فنون البشر التقنية إلى التلويث الكافي لجعل المناخ نفسه مصدر تدمير لكن‬‫القصد الاول هو أن علاقات البشر بسبب ما يتنافسون عليه تصبح مصدر التدمير الذاتي‬ ‫للبشر أنفسهم بأنفسهم‪.‬‬‫فنرى عندئذ العلاقة بين القانون والأخلاق أو بين الوزعين الأجنبي والذاتي‪ .‬فما يفسد‬‫الفطرة وتأثيرها هو فقدان الوعي بدور العلاقتين العمودية بين الإنسان والطبيعة‬‫والأفقية العلاقة بين الإنسان والإنسان في كيانه كفرد \"يرضع\" الطبيعة مباشرة و\"ترضعه\"‬ ‫الحياة مباشرة وسيطا بينهما يعمر ويخلف‪.‬‬‫واختلال أي من الدورين ‪-‬يعمر ويخلف أو يعمر بأخلاق الاستخلاف‪-‬هو الذي يتعلق دور‬‫الفقه بحمايته بالوزعين الذاتي والاجنبي والثاني من دون الاول وخاصة إذا قضى عليه‬‫هو الاستبداد والفساد‪ .‬والفقه الذي عاشت عليه الأمة نهى عن منكر بما هو أنكر‪ :‬الخوف‬ ‫من الفوضى آل إلى جعلها قانونا‪.‬‬‫وذلك هو قصدي بالقوانين الاستثنائية لحالة الطوارئ‪ :‬خوفا من فوضى الحروب الأهلية‬‫التي تلت الفتنة الكبرى شرع الفقه تعطيل الدستور القرآني وقبل بإضفاء الشرعية على‬‫المتغلب فانتقلت الامة من الخلافة إلى الملك العضوض حكما وتربية حتى وإن حافظت على‬ ‫اسم الخلافة‪.‬‬‫لم يبق للضمير وجود (وهو معنى فساد الإنسانية الخلدوني) ولم يبق للحكم طبيعته ولا‬‫اسلوبه ولا أخلاقه‪ :‬فطبيعته (أمر الجماعة) وأسلوبه (شورى بينهم) وأخلاقه (الامانة‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪16‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫والعدل)‪ .‬فصار الفقه مصابا بالفصام أقواله غير أفعاله ثم بالتدريج صارت الأفعال‬ ‫المنافية للدستور مفروضة حتى على الاقوال‪.‬‬‫والفرق الوحيد بين الفقه السني والفقه الشيعي هو أن الثاني ألغي الفصام بأن ألغى‬‫ثورتي الإسلام‪ :‬أعاد الكنسية وأعاد الحكم بالحق الإلاهي وهما الثورة الروحية والثورة‬‫السياسية اللتين أسست لهما الرسالة الخاتمة أو التذكير الاخير للبشرية بمقومات دستورها‬ ‫النظري (العلم) والعملي (السياسة)‪.‬‬‫وقد قلت إن الضمير الممثل للوازع الذاتي والذي هو الديني الفطري (بشرط عدم‬‫الخلط بينه وبين السلطة الدينية التي هي مؤسسات وضعية ولا علاقة لها بالديني من حيث‬‫هو ديني‪ :‬هي شرطة الوساطة والوصاية) والاخلاقي الفطري ينهي مسالة التصوف ولا‬ ‫يبقي إلا المجاهدتين‪.‬‬‫التصوف في شكليه الذي يشجعه الاستعمار والاستبداد هو تحريف المجاهدتين وجعلهما‬‫خدعة للسيطرة على ضمائر الافراد وإرادة الشعوب التي تريد أن تكون كما يصفها القرآن‬‫شعوبا حرة وكريمة ولا تتفاضل إلا بالتقوى أي بالمجاهدتين اللتين هما الضمير الخلقي‬ ‫والروح الديني في الإنسان المستخلف‪.‬‬‫وهو تعالم زائف يدعي أصحابه العمق لكنه لا يصح فيه إلا ما قاله فيه نيتشه‪ :‬التصوف‬‫ليس عميقا فسحب بل هو ليس حتى سطحيا‪ .‬هو دجل‪ :‬فإذا كان الرسول يعترف بأنه لا‬‫يعلم الغيب فكيف بالدجالين من جنس من يجندهم طاغوت الاستبداد والفساد وعملاء‬ ‫الاستعمار أن يكون لهم ما يزعمون‪.‬‬‫لا وجود لعلم لدني وكشف للغيب‪ .‬والنبي نفسه لم يكشف له الغيب ولم يرد على‬‫المعاجزين إلا بالقول إنه لو كان يعلم الغيب لبجل نفسه بكل الخيرات‪ .‬والقرآن ليس‬‫معجزا بكونه مدونة علمية بل هو معجزة لقوله بالنظام الطبيعي والتاريخي والخلقي‬ ‫وبالسنن الثابتة الدالة على الحكمة خلقا وأمرا‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪17‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫مثلما بينت أن الوجه الثاني من الفقه أو الأخلاق والضمير يغني عن التصوف ولا يبقي‬‫منه إلا على المجاهدتين مقومي الاخلاقي والديني فإني سأبين أن الفلسفة لها وجه ثان‬‫يغني عن الكلام الذي هو مثل التصوف (ادعاء تجاوز الفقه‪ :‬الحقيقة مقابل الرسوم)‬ ‫يدعي تجاوز علم الشاهد إلى علم الغيب‪.‬‬‫والفرق الوحيد بين دعوى التصوف الكشف ودعوى الكلام غلم الغيب أو تجاوز آل عمران‬‫‪ 7‬بعطف \"الراسخين في العلم \" على الله في قدرة تأويل المتشابه هو الفرق بين التشبهين‬ ‫الأول بالأخلاق والثاني بالعلم على أساس ممتنع عقلا ونقلا‪.‬‬‫فلا الاخلاق بحاجة إلى الكشف ولا يمكن اعتبار ما يعنى به الفقه رسوما والحقيقة‬‫الغيبية ورائه بحاجة إلى كشف الغيب لعلمنا بامتناع علم الغيب على العلم غير المحيط ولا‬‫الإنسان مهما رسخ علمه بقادر على تجاوز علم الشاهد بل إن رسوخه في العلم هو اعترافه‬ ‫بهذه الحقيقة العقلية والنقلية في آن‪.‬‬‫أما عطف علم الراسخين في العلم المزعومين على علم الله في تأويل المتشابه فعلته نظرية‬‫المعرفة المطابقة التي كان أصحابها يتوهمون ان الوجود يرد إلى إدراكنا‪ .‬ونسوا أن الله‬‫يقول إننا لا نحيط بشيء من علمه إلا بما شاء وقد شاء ابقاء غالب الأشياء الشاهدة خارج‬ ‫علمنا فضلا عن الغيب‪.‬‬‫وحتى من لا يؤمن بالقرآن فهو يعلم كذلك أن علمه بالقياس إلى جهله لا يكاد يذكر وأنه‬‫كلما ازداد علما اكتشف هذه الحقيقة فالنسبة بين ما نعلم إلى ما نجهل من جنس ما نراه من‬‫الافق كلما تقدمنا نحوه ابتعد والظلمة المحيطة ببصيص النور الذي لعقلنا محيط أظلم‬ ‫متلاطم لا شاطئ له‪ .‬فعلام الكذب؟‬‫فالله اعلم ليست تواضعا بل هي اعتراف بحقيقة ولا تجد منتفخي الأوداج بما يزعمونه‬‫من علم إلا بين من تسكرهم زبيبة وهو لا يعلم أن ما علمه لا يمثل خطوة أولى في لا متناه‬‫من السعي في المجهول الوجودي يجعله أي اختصاص مادة لبحثه ومحاولة الإمساك بتلابيبه‪.‬‬ ‫فعلام الكذب؟‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪18‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫كل ما نقدمه بوصفه علما هو \"استرماز\" مؤقت أي صوغ لتصوراتنا عن الموضوع الذي نريد‬‫قول شيء حول ما أدركناه منه مهما أضفنا لمداركنا الطبيعية (الحواس والبناء العقلي لما‬‫نستمده منها من معطيات منقوله عما نسميه الوجود الخارجي) من أدوات تقنية تزيدنا‬ ‫حيرة سواء في لامتناهي الصغر أو الكبر‪.‬‬‫وإذن لم يبق إلى \"حب الحكمة\" أو الفلسفة التي اقتنعت اخيرا بفساد نظرية المعرفة‬‫المطابقة وسلمت بأن الدين متقدم عليها في هذا الوعي بحدود العلم دون نفس جدواه (ابن‬‫خلدون) وأن العلم بالشاهد هو بالأساس لعلاج مسألتين ناتجتين عن مقومي الوجود‬ ‫الإنساني في العالم‪ :‬كيانه العضوي وكيانه الروحي‬‫فلو كان الإنسان كائنا عضويا فحسب لكان منغمسا في ضرورات حياته العضوية بوصفه‬‫جزءا من الطبيعية المتغاذية بدورتها الذاتية ولما احتاج إلى علاج علاقته العمودية معها‬‫بالبحث العلمي والتقنيات التي يستعملها ليستخرج رزقه منها ولما كان شرط ذلك التعاون في‬ ‫الجماعة وبين الجماعات كلها‪.‬‬‫وهذا التعاون في الجماعة الواحدة ثم بين الجماعات المتعاصرة والمتوالية لمراكمة التجربة‬‫في معرفة مصادر الرزق وشروط استخراجها واستعمالها بصورة لا تؤدي إلى الموت‪ :‬فاكتشاف‬‫اللاسام من النباتات والصالح من الأغذية وإن نساه الجميع هو أول مجال للبحث العلمي‬ ‫المنسي في تاريخ البشرية‪.‬‬‫وترويض الحيوان وزراعة المغذيات وفنون توزيع العمل وشروط التبادل والتعاوض‬‫ومنع أن يكون ذلك داعيا للنكوص إلى القانون الطبيعي من خلال تنظيم الحياة الجماعية‬‫لتكون شبه جهاز إنتاج مادي لشروط الحياة وشبه إنتاج رمزي لفنون البحث العلمي‬ ‫والتطبيق التقني للخبرة كل ذلك ينساه أنصاف المثقفين‪.‬‬‫وينساه خاصة اشباه فلاسفة الخصوصية‪ .‬فما من جماعة لا تشارك بقية الإنسانية في هذه‬‫الكليات والمثال الأشد وضوحا هو أنه لا توجد جماعة ليس لها كل أنظمة المكاييل والموازين‬‫التي هي شرط التعاوض العادل الذي هو شرط التبادل الذي هو علة التعاون الذي من‬ ‫دونه ينكص الإنسان لقانون الطبيعة كحيوان‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪19‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫والعلامة التي لا تقبل الإخفاء هي أن كل جماعة مهما كانت بدائية فلا بد لها من‬‫الرمزين الكونيين في تاريخ البشرية‪ :‬رمز التبادل ورمز التواصل‪ .‬والأول مشروط حتى‬‫في المقايضة والثاني مشروط حتى في التواصل المباشر‪ .‬ففي المقايضة بين البضائع‬ ‫والخدمات العملة موجودة حتى باعتماد النسب بينهما‪.‬‬‫ومعنى ذلك أن المتقايضين لبضاعتين يقدران قيمة البضاعتين والنسبة بين القيمتين‬‫وهذه عملة حتى وإن لم تتعين في مادة كما حصل لاحقا في الذهب والفضة ثم في ا لورق وفي‬‫العملة الكتابية كالصكوك إلخ‪ ...‬وتقدير النسب يكون إما بالوزن كميا أو بطبيعة الحاجة‬ ‫إليه كيفيا‪ :‬العملة هي رمز الفاعلية‪.‬‬‫ونفس الامر في التواصل‪ .‬فمهما اقترب المتواصلان فلا بد لهما من جهاز رمزي هو اللغة‬‫التي من دونها لا يمكن أن يتواصلا لأن ما سيتواصلان حوله ليس كله حاضرا بينهما‬‫والإشارة إليه لا تكونه بعينه بل باسمه‪ .‬فيكون الاسم بديلا من المسمى في التواصل‪ .‬وهو‬ ‫دور الرمز عامة والكلمة خاصة‪ :‬فعل الرمز‪.‬‬‫وإذن فرمز الفاعلية المادية في التبادل أو العملة ورمز الفاعلية الرمزية في التواصل أو‬‫الكلمة شرطان مقومان لوجود الإنسان كإنسان ولا خصوصية في ذلك بل الخصوصية في المادة‬‫التي تؤخذ لتكون حاملة للرمزية فيه‪ .‬فالأمريكي اختار ورقة زرقاء سماها دولار والتونسي‬ ‫ورقة سماها دينار شكلي‪.‬‬‫فهذا من جنس المادة التي تتأثر بالثقافات المختلفة دون ان تغير جوهر الشيء الذي تعين‬‫ثقافيا‪ :‬مثل ذلك قطع الشطرنج‪ .‬فالمسيحي يجعل الملك بلباس ملوكه والمسلم بلباس أمرائه‬‫لكن القطعة هي دورها في اللعبة ولا أثر لهذا التعين الثقافي فيه لأن هذا الدور يحدده‬ ‫تعريفه وقواعد اللعبة‪.‬‬‫والعلم ينشغل بقواعد اللعب الوجودية في علاقتي الإنسان بالعامل وبالإنسان وبما‬‫ورائهما المتخيل والذي لا يستطيع التوقف عن تخيله دون أن يعتبر ذلك علما بل هو انشداد‬‫روحي إلى ما يتجاوز ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة وهو علامة الروحي فيه‪ .‬وسره في‬ ‫الذاتين المتلازمتين‪ :‬الله والإنسان‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪20‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫وتلازم الذاتين الله والإنسان هو الماوراء المطلق في المعادلة الوجودية ما وراء الطبيعة‬‫(الله) وما وراء التاريخ (الإنسان) وهو في آن جوهر الديني وجدانيا وجوهر الفلسفي‬‫عقليا‪ .‬وليس بالضرورة أن يكون ذلك مرئيا من الإنسان بعين الرضا فقد يكون مصدر‬ ‫الإيمان والرضا ومصدر الكفر والسخط‪.‬‬‫وتلك علة قولي إن الالحاد مستحيل بل أكثر قلت إنه لو كان ممكنا لكنت أول الملحدين‪.‬‬‫ذلك أن الإلحاد هو الإيمان السالب بمعنى أن الملحد يكفر لفرط ما ينزه‪ .‬فلسان حاله يقول‬‫لو كان الله موجودا لما وجد ما ينافي ما انتظره منه بحكم عقلي (نفي الظلم والمرض إلخ‪..‬‬ ‫من تشوهات الطبيعة والتاريخ)‬‫وأكاد أجزم بأن كل محاولات علم الكلام صادقها بداية زائفها غاية تسعى إلى الانتقال‬‫من هذا الإيمان السالب إلى الإيمان الموجب‪ .‬وهي محاولات صادقة بداية لتوهم الإيمان‬‫ثمرة فعل عقلي وليس ثمرة فعل وجداني مجهول الطبيعة وزائفة غاية لأنها تتحول إلى‬ ‫مرض الزعامة الجدلية المنافقة‪.‬‬‫ويعلم الله أني لا أقول شيئا فيما أكتب لم أعشه ولم أجربه ولم أكتشف زيفه لأن قصدي‬‫ليس التعليم الموجه للشباب فحسب بل وكذلك شبه الاعتراف بمراحل التطور الفكر ي‬‫والروحي الذي لا أريده أن يمر سدى وأن أسجله حتى يستفيد به ذو الفطنة بموجبه وسالبه‬ ‫ككل اجتهاد انساني شديد النسبية‪.‬‬‫والحصيلة التي وفقني الله إلى استنتاجها من قراءة القرآن فلسفيا (هكذا سميت عملي‬‫ربما لعادة مهنية) أن الفقه هو عمل القانون وعلم الأخلاق كما وصفت وأن الفلسفة هي‬‫علم الوسطين الطبيعي والتاريخي وعلم ماورائهما أي الثيولوجيا والانثروبولوجيا أو علم‬ ‫تصورات الإنسان لله ولذاته‪.‬‬‫فتكون العلوم البديلة للاستئناف هي‪ :‬فقه القانون أو فلسفة القانون بكل اصنافه وفقه‬‫الاخلاق أو فلسفة الأخلاق وهما فرعا الفلسفة العملية أو الفلسفة السياسية بمعناها الاتم‪.‬‬‫أما في فلسفة النظر فالعلوم البديلة هي فقه الطبيعة وفقه التاريخ أو علومهما الرياضية‬ ‫والسننية‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪21‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫وفقه الطبيعة أو فلسفة الطبيعة هي العلوم الطبيعية ذات البنى الرياضية التجريبية‬‫وفقه التاريخ هي فلسفة التاريخ أو العلوم الإنسانية ذات بالبنى الرمزية الأشد تعقيدا‬‫من الرياضيات والتجريبيات لأنها بالجوهر تأويليات وهي غاية الاسترماز فمع كونها تنحو‬ ‫للعلمية تبقى صورة الإنسان عن ذاته‪.‬‬‫ثم وراء هذين الفلسفتين الماوراء المضاعف‪ :‬ما وراء فلسفة الطبيعة أو سؤال الثيولوجيا‬‫(فقه رؤية الإنسان لله) وما وراء فلسفة التاريخ سؤال الانثروبولوجيا (فقه رؤية الإنسان‬‫لذاته) والفقهان متلازمان تلازم الذاتين بمعنى أن الثيولوجيا والانثروبولوجيا أختان‬ ‫توأمان لا بالرضاع (ابن رشد)‪.‬‬‫والتوأمية هي بنية الوعي الإنساني‪ :‬فمهما فعل الإنسان متصوفا كان أو متكلما لا يمكنه‬‫في محاولة التخلص منها أن ينفي أحد قطبيها من دون أن ينتهي إلى نفي الثاني‪ :‬فلما قال‬‫هيجل إن الله قد مات (ويقصد يأس المسيحيين بعد هزيمتهم في الصليببات) آل في دلالته‬ ‫النيتشوية إلى موت الإنسان‪.‬‬‫لكن موت الإنسان النيتشوي جعل النيتشوية سعيا لتحديد كيان فوق الإنسان ودون الله‬‫في غياب القطبين وهو مفهوم متناقض لأن المسعى ذاته دليل على بداية وغاية ونفي‬‫البداية والغاية هو عدم النهاية وهو ما سماه في الحقيقة بالعود الأبدي فتكون الطبيعة‬ ‫الفنانة بمعزل عن الخير والشر هيجان اللامعنى‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪22‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫ونصل اخيرا إلى غاية المحاولة في فصلها الخامس والاخير بعد أن أرجعنا العلوم الفرعية‬‫الاربعة إلى ما وصفنا وأشرنا إلى بيت القصيد فيها بوصفه رمز العلاقة بين الذاتين الآلهة‬‫(الإنسان) والمألوهة (الله) وقد يرد الأول إلى اللامحدد في التاريخ والثاني إلى اللامحدد‬ ‫في الطبيعة‪.‬‬‫وكانت سبيلنا إلى ذلك ما بيناه من تحريف في الفقه وأصوله وفي الكلام وأصوله وفي‬‫الفلسفة وأصولها وفي التصوف وأصوله والأصول التي حرفت استمدت كلها من تحريف أصل‬‫الأصول أو تفسير القرآن الكريم من منطق توهمه مدونة علوم يكفي شرح ألفاظه‬ ‫لاكتشافها بدل العمل بما أمر به وبما نهى عنه‪.‬‬‫فتكون آخرة مسائلها لتحقيق الاستئناف بشروطه التي هي عين مقومات الإنسان وشروط‬‫وجوده وهي كونية ولا شيء فيها خصوصي إلا الفلكلور بمعنى أن أدعياء فلسفة الخصوصية‬‫والمقابلة الأنا والأخر لا علاقة لهما بالفلسفة ولا بالدين على الأقل الإسلامي‪ :‬كلها‬ ‫إيديولوجيات لا تعني العلم الذي يطلب الكوني‪.‬‬‫ولا يعني ذلك أن أدعي أن الإنسان يحقق ذلك فعلا بأتم ما يمكن التحقيق لكني أعني‬‫أن العلم هو ثمرة هذا التشوف والانشداد إلى الكلي والمشترك الإنساني ولا يتقيد بالعيني‬‫والمختلف اللذين هما من الفلكلور‪ .‬والنسبة بينه وبين مطلوب العلم كالنسبة بين ألوان‬ ‫الجلد ووحدة النوع الإنساني‪.‬‬‫فتعدد الألوان من مفاعيل المناخ وردود فعل الجلد للتكيف لكن قوانين البايولوجيا التي‬‫جعلت ذلك ممكنا هي عينها التي جعلت الجلد أبيض حيث تقل الشمس‪ .‬ومن ثم فالبنيوي‬‫يتعين بالتكيف مع الظرفي بنفس القوانين التي هي مطلوب العلم دون أن نهمل التكيفات مع‬ ‫الظرف التي يحكمها نفس القانون‪.‬‬‫وما يجعلني اشدد كثيرا على هذه المسألة هو أن بعض المغفلين بنوا الأساس الثاني‬‫للعنصرية بعد أن تخلى بدا بعض نماذجهم يتخلى عن الأساس الاول واستبدله بالأساس‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪23‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫الثاني‪ .‬كان أساس العنصرية عضويا ثم صار ثقافيا‪ .‬وأساس العنصرية الثقافية هو أساس‬ ‫صدام الحضارات‪ :‬الثقافات جزر لا وصل بينها‪.‬‬‫ودعوى التفاضل بين الأعراض عوضت بدعوى التفاضل بين الثقافات وكانت فكرة‬‫أرواح الشعوب تجمع بين الأمرين في فلسفة هيجل ثم تأسس علم الاجتماع الفرنسي في‬‫نهاية القرن التاسع عشر على خرافة الثقافات العقلانية والثقافات التي دون مرتبة العقل‬ ‫وهلم جرا‪ .‬وبعض متفلسفة العرب فرعون بما بعد الحداثة‬‫ما تتمايز به الشعوب والثقافات مهم لكنه أسلوبي وليس جوهريا‪ :‬خذ مثالين هما الأدل‬‫على معنى الكونية في الحياة الإنسانية أعني آداب المائدة وآداب السرير أي فن الغذاء‬‫وفن الجنس‪ .‬فهما جوهر العلاقتين العمودية بين الإنسان والطبيعة والأفقية بين الإنسان‬ ‫والإنسان وكل ما عدهما استرماز لهما‪.‬‬‫ومعنى استرمازهما مضاعف‪ :‬العبير عنهما وإضفاء قيم الجمال الحاصل والمأمول الذي‬‫يجعلهما يتجاوزها مجرد الوظيفة العضوية إلى الوظيفة الجمالية والروحية ومن فأكبر‬‫استثارة للإنسان في الإنسان قرآنيا هي وصفه بأنه يأكل كما تأكل الأنعام ويمكن أن نضيف‬ ‫أنه يلامس كما تلامس البهائم‪.‬‬‫فليأتني أي قائل الخصوصية بجماعة إنسانية ليس فيها آداب المائدة والسرير بوصفهما‬‫فنين يضفيان الجمال والجلال على أهم علاقتين في حياة الإنسان بالطبيعة أولا وبالإنسان‬‫ثانيا والأولى هي مصدر قيام الإنسان الفرد عضويا والثاني هي مصدر قيام النوع عصويا‬ ‫وكلتاهما مشروطة بهذا المعنى الروحي‪.‬‬‫أما أن تكون المائدة من خشب أو على الأرض وأن يكون السرير سدة أو حتى رمل في‬‫الصحراء فهذا كله من الظرفيات والأساليب التي ترد إلى الفلكلور ولا علاقة لها بحقيقة‬‫الأدبين والفنين اللذين هما مطلوب البحث العلمي وإلا لاستحالت المعرفة فالتنوع الأسلوبي‬ ‫لا متناهي لكن مضمون العبارة واحد‪.‬‬‫ولهذا المعنى اعتبر القرآن التعدد معجزة وآية لأنه شبه كليديوسكوب الألوان التي تبقى‬‫واحدة رغم تقازيحها المختلفة‪ .‬تقازيج قوس قزح لا تمنع من كونه خاضعا لنفس قانون‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪24‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫انعكاس الضوء على عتمة السحب وتفرق الألوان التي يتألف منها الضوء‪ :‬ما يعني العلم‬ ‫هو قانون الانعكاس (البصريات) وبنية الضوء‪.‬‬‫سأحاول أذن بمعزل عن تخريف الباحثين عن الخصوصية الإسلامية التي هي منافية تمام‬‫المنافاة للقول إن القرآن رسالة خاتمة للعالمين اللهم إلا إذا أردنا أن نفرض خصوصياتنا‬‫الفلكلورية على غيرنا مدعين أنها الأفضل فنصبح عنصريين ثقافيا رد فعل ناتج عن عقدة‬ ‫نفس لهزيمتنا التاريخية‪.‬‬‫رد الفعل بمدح خصوصية الذات ليس اعتزازا بها بل هو عقدة نقص لا تخرج الأمة من‬‫هزيمتها التاريخية‪ .‬ما يخرجها منها هو فهم الكونية القرآنية التي هي رسالة تذكير نهائية‬‫بما يوحد البشرية‪ :‬النساء ‪1‬والحجرات ‪ 13‬وبما يمكن من العلم والعمل على علم بقوانين‬ ‫الطبيعة وسنن التاريخ وليس بشرح النصوص‪.‬‬‫وحتى لا يظن أن كل هذا الكلام لف ودوران يخفي موقفا سلبيا من التراث الذي يتصور‬‫الكثير أنه تراث مبني على الإسلام وليس على حالة الطوارئ التي عطلت كل أحكام‬‫الإسلام في التربية والحكم ومصدريهما أي العلم والعمل على علم بحيث إننا لو بركة القرآن‬ ‫والسنة لانفرط عقدنا كما حصل لخوالي الأمم‪.‬‬‫وبعيارة وجيزة فإن أصل العلوم الأربعة التي سبق أن بينت معناها هو في آن بينة الوعي‬‫الإنسان بالمعادلة الوجودية التي هي عين كيان الإنسان وعين كيان الوجود في شكله‬‫الطبيعي وفي شكله التاريخي وعين الدراما التي يعرضها القرآن في مستويي علاقة الإنسان‬ ‫بالله مباشرة وبتوسط الطبيعة والتاريخ‪.‬‬‫وبعبارة ابسط فأصل الأصول يبقى بالنسبة إلى المسلم على الأقل كبداية هو تفسير‬‫القرآن بوصفه دراما العلاقة بين الذاتين المستخ ٍلفة والمستخلَفة مباشرة في وعي الإنسان‬‫وبصورة غير مباشرة فيما يطلبه الإنسان من أساس يفهم به علاقته بالطبيعة وعلاقته‬ ‫بالتاريخ اللذين يحيطان به ولا ينفك عنهما‬‫وليس مهما أن يوجد من ينفي هذه المعادلة‪ .‬فالذي ينفيها منحصر فيها سلبا أي إنه يحدد‬‫ذاته بالإضافة إليها إضافة سلبية ولا يستطيع منها فكاكا مهما حاول‪ :‬فلا تصوف وحدة‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪25‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫الوجود الطبعانية (سبينوزا) لا تصوف وحدة الوجود الذاتوية (هيجل) ولا تصوف الجمع‬‫بينهما (ابن عربي) ولا تصوف الوحدة المطلقة (التلمساني مثلا) ولا محاولة الخروج من‬‫غاية الشك عند ديكارت أو عند الغزالي كل ذلك لا يغير من الأمر شيئا‪ :‬بنية وعي‬‫الإنسان هي هذا التلازم بين الذاتين مباشرة وبصورة غير مباشرة من خلال الوسيطين‬ ‫الطبيعي والتاريخي فتكون حياته كلها محاولة فهم المعادلة الوجودية‪.‬‬‫وهذا هو سر تأثير القرآن في نفس الإنسان مهما كان جلفا لأنه عندما يتدبره يشعر وكأن‬‫الله نفسه يعزف على أوتار وجدانه سر كيانه فلا يمكن ألا يسمو عن حدثانه إلى أسرار‬‫المعادلة الوجودية‪ .‬ولولاه لاستحال على الرسول الخاتم الذي لم يقدم معجزات من جنس‬ ‫الأنبياء السابقين أن يحقق ما فشلوا فيه‪.‬‬‫وقبل أن أفهم هذه الحقيقة كنت مذ كنت طفلا أتعلم القرآن في كتابنا الخاص (والدي‬‫رحمه الله كان شيخا ذار رتبة كبيرة في القادرية وصاحب أملاك) أعجب من قصة الفاروق‬‫مع الرسول‪ .‬كيف انتقل من العجرفة والجلفية إلى ألطف عباد الله وأكثرهم حماسة‬ ‫لتحقيق قيمه في التاريخ الفعلي للإنسانية‪.‬‬‫ولعل السر في اقدامه على تأبيد الطابع الثوري للإسلام بوضع تقويم تاريخي محدث‬‫لكأنه بداية جديدة للإنسانة هي التاريخ الهجري علته أنه فهم حقا طبيعة هذه الخاصية‬‫العجيبة التي لو أمدني الله بعمر نوح ما فرغت من الكلام عليها لفرط أهميتها وحقيقة‬ ‫تحديدها منزلة القرآن في وجدان الإنسان‪.‬‬‫وكان يمكن لعرب الجزيرة الذين كانوا تحت سلطان الاسرائيليات والجاهليات والكنسيات‬‫سواء كانت مسيحية أو مجوسية أو صابئية أو شركية أن يكذبوا الرسول بمجرد المعاجزة‬‫فكان جوابه المفحم‪ :‬وهو أن المعجزات ليست هي دعامة رسالته لأنها للتخويف بل دعامتها‬ ‫فصلت ‪ .53‬كل بها يشهد على نفسه‪.‬‬‫فهو يخاطب \"الوازع الذاتي\" أي إن عبارة \"في الآفاق وفي أنفسهم\" هي المرآة التي تعكس‬‫آيات الله التي يستدل بها القرآن والتي يكفي الإنسان أن يغوص في نفسه حتى يصبح هو‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪26‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫الشاهد على تبين حقيقة القرآن فلا يحتاج إلى معجزات برانية قد تكون من خدع السحرة‬ ‫(مشهد موسى)‪.‬‬‫لذلك جاء \"وفي أنفسهم\" أي في ذواتهم‪ :‬بدنيا وروحيا وليس في نفسهم بمعنى موضوع علم‬‫النفس المقابل لموضوع علم البدن‪ .‬معجزة المعجزات الإلهية هي المعبد الذي صنعه الله‬‫نفسه في الدراما القرآنية أي الإنسان من حيث هو هذا الوعي بالأكوان وبالإنسان وبخالق‬ ‫كل شان حتى لو عاند فكذب على نفسه‪.‬‬‫لا شيء يمنع الإنسان من أن يرى نفسه مجرد حيوان‪ .‬لكن لا يوجد إنسان لا يعلم أن لم‬‫يكن ثم كان وأنه لن يكون بعد أن كان‪ .‬ومن ثم فالوعي بالحياة والموت هما أول سر يجعل‬‫الإنسان مختلفا عن الحيوان‪ .‬وهذا هو أصل كل ضمير ووازع ذاتي بل هو سر الأخلاق من‬ ‫حيث آداب التعامل بين البشر‪.‬‬‫لذلك فكل كلام على الأخلاق يؤدي إلى اعتزال البشر تنكر لجوهرها لأن الأخلاق ليس‬‫قولا فيها بل فعل بها‪ .‬ومن أهمها آداب المائدة وآداب السرير لأن الأولى تحدد مسؤولية‬‫المستعمر في الأرض والثانية تحدد مسؤولية المستخلف فيها‪ .‬لذلك فمنزلة المرأة والأسرة‬ ‫في القرآن هي أساس كل الوجود الإنساني‪.‬‬‫وأكبر الأدلة على أن علوم الملة انحرفت وتحتاج إلى ما أحاوله أو إلى ما يجانسه إذ قد‬‫يوجد من هو أقدر على ذلك مني لأني لم أدع أني مصلح القرن هو منزلة المرأة في حضارتنا‬‫بعد عصر الراشدين‪ .‬إنها منزلة لا تفهم بأخلاق الإسلام بل بأخلاق الناكصين إلى‬ ‫الجاهلية‪ :‬رددنا أسفل سافلين‪.‬‬‫ولا يظنن أحد أني بذلك أمدح منزلة المرأة في الثقافة العربية‪ :‬فهي منزلة أسوأ من‬‫منزلتها عندنا حتى بنكوصها إلى الجاهلية‪ .‬منزلتها لا تحددها الأساليب الثقافية في التعامل‬‫معها بضاعة مستباحة أو بضاعة ممنوعة باسم شرف عند فاقدي كل شرف ملازم لكرامة‬ ‫الإنسان وحريته‪.‬‬‫لن أطيل الكلام في منزلة المرأة التي اخذتها مثالا على نكوصنا فقد كتبت في ذلك ما‬‫يكفي‪ .‬فلأختم هذه المحاولة‪ :‬تفسير القرآن هو تفسير المعادلة الوجودية وهو بحث في‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪27‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫جوهر العلاقة بين الذاتين الحرتين الآلهة والمألوهة أو في منزلة الاستخلاف بمستوياتها‬ ‫الخمسة التي سبق تعريفها‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪28‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪ -‬القسم الثاني ‪-‬‬‫كان كلامي في المجموعة السابقة مقصورا على البدائل من العلوم الزائفة لكني لم استوف‬‫الكلام على شروط الاستئناف بنوعيها للاستعمار في الارض وللاستخلاف‪ .‬أو بصورة أدق ما‬‫نتج عن زيف علوم الملة من قتل شبه نسقي لعلوم الآلة وتطبيقاتها وللمبدعات المعبرة عن‬ ‫الذوق الطبيعي والذوق الوجودي‪.‬‬‫ويجمع بين هذين النوعين من الإبداع غاية الاسترماز أو ما يرفع الإنسان إلى ذروة‬‫الفاعلية المادية في إدراك الطبائع والشرائع بفضل العلوم المساعدة أو علوم الآلة‬‫وتطبيقاتها ويرفعه إلى ذروة الذائقية الوجودية بفضل الإبداعات الفنية الجمالية التي‬ ‫هي معالم العبادة الروحية في كل حضارة‪.‬‬‫فيمكن القول إننا لم نتجاوز الحد الأدنى من العلوم المساعدة وتطبيقاتها التقنية‬‫لاسترماز الطبائع والشرائع الذي هو جوهر المعرفة النظرية جعلها لا تكاد تتجاوز ما ورثناه‬‫عن اليونان من البصريات وتطبيقاتها في الفلك مثلا حتى وإن لم ينفي أحد أننا قد جودنا‬ ‫الكثير منها‪.‬‬‫لكن ما ينبغي الاعتراف به هو أن سيطرة العلوم الزائفة التي حاولنا النظر في طبيعة‬‫زيفها ونتائج سلطانها هي التي صحرت الذائقة إلى حد كاد يلغي دور الفنون الجميلة في‬‫حياة الامة‪ .‬ذلك أن زخرفة قصور الملوك أو المساجد وإن انتسبت إلى الفن فهي موروث‬ ‫اقليمي أضافتنا فيه ليست بعمق ثورة الإسلام‪.‬‬‫وأعجب أمر يحيرني هو أن حتى الحداثيين عندما يتكلمون عن الفنانات والراقصات‬‫تجدهم يكررون تقريبا ما يقوله الفقهاء الذين سلطهم الجهل على كل ذوق يعبر عن روح‬‫الإسلام لكأنهم قرروا اخلاء حضارته من كل ذوق لتكون صحراء لا يرى الإنسان تضاريس‬ ‫الوجود وأمواجه الهادرة في الوجدان‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪29‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫لا يرون أن غلبة الانحطاط وحتى التدني الخلقي الذي يصلونه بأهل الفن ليس خاصية‬‫ذاتية للفن والفنانين بل لهذا الموقف الذي يجعلهم وكأنهم من المنبوذين خلقيا ولكأن الفن‬‫من حيث هو تعبير عن الذوق التواصلي معاد للأخلاق من حيث تعبير عن الذوق التساكني‬ ‫بين ما يتجاوز الأبدان إلى الاذهان‪.‬‬‫ولهذا كان جل الفنانين من الاجانب أو من اليهود وحتى الشعر فإن تحوله إلى تكد جعله‬‫يصبح أبعد ما يمكن أن يتعاطاه ذو وعي بمنزلة كريمة وشريفة كما يقول ابن خلدون‪:‬‬‫يعني حتى أسمى فنون العرب دنس فصار بضاعة متسولين وهو معنى الكدية‪ .‬والعلة هي‬ ‫حاجة مرضى الحكام للمدح بما لم يعملوا‪.‬‬‫فمن يعمل غني عن المدح إذ لا أمدح من الأعمال للنساء والرجال وللحضارات والأجيال‪:‬‬‫فآثار الفعل ومعامله هي المدح الوحيد الذي يعتد به عند من يؤمن بأن الإنسان لا يقاس‬‫إلا بالإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر في اجتهاد الاسترمازي‬ ‫وجهاده التحقيقي‪.‬‬‫ويمكن اعتبار هذه المجموعة الثانية جزءا ثانيا من المجموعة السابقة في \"إعادة البناء‪:‬‬‫لشروط الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف\"‪ .‬وتليها مجموعة ثالثة في المؤسسات السياسية‬‫ومجموعة رابعة في المؤسسات التربوية لتكون المجموعة الاخيرة في المؤسسات الاجتماعية‬ ‫وهي حصيلة ذلك كله واصله في آن‪.‬‬‫وسأبدأ بالكلام على العلوم المساعدة (في علوم الملة التقليدية يسمونها علوم الآلة) وهي‬‫تسمى مساعدة لأنها هي أدوات الاسترماز كنظريات للصوغ والمنهج العلمي أولا وكتطبيقات‬‫للنظريات لامتحان النظريات بأدوات تقوية الحواس (البصر للرؤية في البصريات والسمع‬ ‫للسبر عن طريق الموجات الصوتية)‪.‬‬‫فأدوات رؤية البعيد والدقيق وسمع الأمواج كلاهما من معدات فاعلية الإدراكين الذي‬‫يعتمد عليهما التجريب شرط اختبار النظريات التي تصوغ معطيات الوجود الخارجي وهي‬‫بالضرورة نقلية عن الوجود بتوسط الحواس التي يهدي إدراكها الفرض العلمي ويؤيده أو‬ ‫يكذبه الإدراك الحسي بفضلها‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪30‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫وهي بصنفيها كأدوات تنظير وكـأدوات تجريب أدوات استرماز بمعنى الصوغ الرمزي لما‬‫لنا من معلومات حول الطبيعية والتاريخ كنظرية فرضية قد تصبح حقيقة مؤقتة لأن تجويد‬‫الأدوات قد يتجاوزها فيغيرها كما يحدث في كل تغير كيفي في النظريات العلمية التي هي‬ ‫دائما \"قوانين\" مؤقتة‪ :‬سر تقدمها مؤقتيتها‪.‬‬‫وذلك هو الدليل الأتم على فساد نظرية المعرفة المطابقة‪ .‬فلو كان علمنا مطابقا لموضوعه‬‫لاستحال تغير النظريات العلمية‪ .‬فالحقيقة إذا كانت حقيقة مطلقة فهي لا تتغير‪ .‬وتلك‬‫هي علة رفضي الأساسية لخرافة الاعجاز العلمي في القرآن‪ .‬العلم متغير‪ .‬اعتباره مدونة‬ ‫علوم يؤرخنه‪ :‬وهو فوق التاريخ‪.‬‬‫القرآن في حد ذاته معجزة لكنه ليس معجزة بالأعجاز العلمي ولا بالإعجاز البلاغي ولا‬‫بالإعجاز التشريعي بل بكونه تذكيرا للإنسانية بمقومات كيانها الطبيعي والتاريخي أو‬‫المادي والروحي بحيث إن كل إنسان ما كان إنسانا سيجد فيه جوهر كيانه ونسغ وجدانه‬ ‫إذا هو تدبر علاجه لمعضلات الوجود‪.‬‬‫ويمكن أن نميز في العلوم المساعدة نوعين أحدهما يغلب على الفنون الدينية والثانية‬‫على الفنون الفلسفية مع تقاطع أو تشارك بين الفنين في استعمال النوعين‪ :‬علوم اللسان‬ ‫والتاريخ يغلبنا على النوع الاول وعلوم الرياضيات والمنطق يغلبان على النوع الثاني‪.‬‬‫والتطبيقات التي تعطى مدى أدبر للحواس في المكان (البصر والسمع) تطبيقات رياضية‬‫فيزيائية (مثل البصريات والصوتيات) وتطبيقات لسانية في الزمان رمزية (البصر‬‫والسمع) لحفظ التراث الماضي للحضارات التي كتبت كلامها حول ما درسته من ظاهرات‬ ‫تاريخية وحتى طبيعية‪.‬‬‫ولولا العلوم المساعدة وتطيبقاتها لاستحال على الإنسان تجاوز مدى الحواس الطبيعي‬‫المكاني والزماني ولظل علمنا بالطبيعة والتاريخ محدودا بمحدودية الحواس على الاقل ما‬‫تحققه التجربة من أثبات أو نفي لفرضياتنا العلمية‪ .‬وهذا هو الميدان فإن دورنا لم يكن‬ ‫في المستوى المناسب لوزن حضارتنا‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪31‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫صحيح أنه في العصر الذي سادت في حضارتنا إذا قيس بأوروبا كان متقدما جدا‪ .‬لكن‬‫ذلك يصح على أوروبا ولا يصح على اليونان مثلا‪ .‬وهما بالغنا في إضافتنا وهي ليست بما‬‫يستهان به فإنها لم تكن بالقدر المنتظر من امبراطورية سيطرت على كل العالم المتحضر في‬ ‫عصرها طيلة ستة قرون على الاقل‪.‬‬‫وكل من يفاخر الغرب من \"علمائنا\" الحاليين يتجاهلون أن محدودية هذا الدور على‬‫أهميته سببها \"علماؤنا\" الذين حرفوا علوم الملة واعتبروا هذه العلوم الضرورية من العلوم‬‫التي لا تفيد وحتى إذا أفادت فهي مثل الخمر ضررها أكثر من نفعها فنقلوها بل واستثنيت‬ ‫من نظام التربية الرسمي‪.‬‬‫ولهذه العلة كان كل علمائها والفلاسفة منهم عصاميين‪ :‬أي إنهم تعلموا هذه العلوم خارج‬‫النظام الرسمي للتعليم الذي كان همه منصبا على ما سماه الغزالي علوم الدين التي ماتت‬‫هي بدورها وإلا لما كتب في إعيائها‪ .‬وهي ماتت بمعنى أنها لم تؤد وظيفتها وكان ذلك لزاما‬ ‫لأنها استدارت بظهرها لها‪.‬‬‫ولا يمكننا أن نتدارك ما فات إلا بالاعتراف والتخلي النهائي عن الفخر الزائف الذي‬‫يغني عن اكتشاف الخلل‪ :‬لا يمكن أن نكون قد تخلفنا بالصدفة‪ .‬فساد نظام التربية وطبعا‬‫فساد نظام الحكم وما سميته حالة الطوارئ في السياسة (حكما وتربية) وفي المعرفة نظرا‬ ‫وتطبيقا هما العلة ولا يوجد سواها‪.‬‬‫فحتى الغزو الخارجي الذي لا ينكر أحد دوره التدميري فهو من جنس ما يحدث للبدن‬‫عندما تقل مناعته‪ :‬فلو كان المسلمون يعملون حقا بالأنفال ‪ 60‬أي بتوفير شروط الردع‬‫القوة (عامة وهي علمية واقتصادية) والقوة العسكرية (خاصة رباط الخيل) لكانت الأمة‬ ‫قادرة على حماية ذاتها ضد الصليبيات والمغوليات‪.‬‬‫ولا يزال العرب على هذه الحال‪ :‬فلا علموا شروط الحجم الحيزي (الجغرافيا وثمرتها‬‫المادية والتاريخ وثمرته الرمزية وأصلها جميعا أو نظام الرؤى التي تجعل الامة قيمة على‬‫شروط بقائها) ولا علموا وظيفتي الدولة‪ :‬الحماية والرعاية الذاتيتين‪ :‬لذلك فدولهم‬ ‫محميات ذرية وسيادتهم قطعة جبن للفئران‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪32‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫ألا يحق لي حينئذ أن اقول ما قاله ابن خلدون قبلي‪ :‬الامة فسدت فيها معاني الإنسانية‬‫فصارت عالة على غيرها في شروط عيشها حماية ورعاية ومن ثم فهي أمة عبيد وليس أمة‬‫أحرار وهم عبيد لمن يحميهم ويرعاهم‪ .‬وكل من لا يحمي نفسه ولا يرعاها لا يعبد الله بل‬ ‫يعبد إنسان يحميه ويرعاه‪.‬‬‫لذلك فما يسمونه دولا عربية أشبه بالمرأة التي لا شرف لها وتتصور أنها يمكن أن تجد‬‫فسحة حرية إذا عددت الحماة والرعاة فتتصور نفسها في موضع المرأة المطلوبة والتي تتدلل‬‫على المتغزلين بها ولا تدري أنهم جميعا يستحيون حرمتها ويستبيحون شرف أمتها ولا‬ ‫يحمونها ولا يرعونها إلا لحاجة مؤقتة‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪33‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫سأتكلم في المسألة التربوية كما أسلفت وضرر حصول علمائنا وفلاسفتنا وحتى ثقافة‬‫متكلمينا وفقهائنا فيما يتعلق بالعلوم الآلات الأهم لم يكن من مسار التعليم الرسمي بل كان‬‫جله عصاميا لكني الآن أريد أن أتكلم فيما هو أهم‪ :‬الداء الذي أفسد كل علوم الملة هو‬ ‫ظن العلم متحا مباشرا من معين جاهز‪.‬‬‫وهذه الجاهزية التي يتصورونها معين المعرفة هي ما يسمونه النص والواقع وكل خرافات‬‫الحداثيين العرب اليوم هو المقابلة بين النصيين والواقعيين‪ .‬وقد كتبت فيما سميته \"هبل\"‬‫الحداثيين العرب‪ .‬ويمكن الاطلاع على النص فهو منشور‪ .‬لكن المقابلة من أصلها لا معنى‬ ‫لها‪ .‬فلا توجد أمة بلا نص‪.‬‬‫فحتى الأمم التي لم تتجاوز المرحلة الشفوية لا بد لها من نص لأن النص ليس بالضرورة‬‫مكتوبا بل هو رواية لمرجعيات دنيوية وأخروية لا تخلو منها جماعة هي حصيلة تجاربها‬‫الفعلية والخيالية وهي في الغالب ميثولوجية ومن ثم فخرافة نحن أمة نصية دليل جهل‬ ‫انثروبولوجي وليست دليل فطنة فلسفية‪.‬‬‫والأهم من ذلك لا توجد جماعة لها \"مدخل ‪ \"accès‬مباشر لما يسمونه واقع‪ .‬فبين‬‫الإنسان أي إنسان وما يسمى واقع كل طبقات التراث التي لا يمكن أن نحدد فيها نقطة‬‫بداية يكون ما \"الواقع\" عريا عن تأثير التراث الذي هو نص بالمعنى الذي عرفت‪ :‬الاسترماز‬ ‫طبقات حشية رمزية بين الفكر والوجود الخارجي‪.‬‬‫وهذا يصح على العلوم صحته على الآداب فضلا عن التراث الروحي للجماعة‪ .‬فلنترك‬‫هذه الأسطورة عند بعض الماركسيين العرب الذين ليس لهم منها إلا عمومياتها العامية‬‫كناصر حامد أبي زيد أو بعض ما بعد الحداثيين السذج من جنس أركون وتلامذته ممن‬ ‫يتصورون النقد الديني لعبة أطفال‪.‬‬‫فعندي أن من يسمي واقعا البنية التحتية الماركسية ينسى أن هذه التسمية مستمدة من‬‫نص هو نظرية ماركس في المادية الجدلية وهي تراث يندرج في الرؤى الفلسفية التي من‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪34‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫دونها لا معنى لهذه المقابلة‪ .‬وكل من يميز يطلق دور اللاوعي ينبغي أن يتخلى عن علم‬ ‫التحليل النفسي إذ لعله مفعول اللاوعي‪.‬‬‫هذه الخرافات لا تهمني كثيرا ولا أعنى بإطالة الكلام عليها خاصة وقد كتبت فيها مقالين‬‫حول النص وحول الواقع‪ .‬ما يعنيني هو ظنهما معينين مباشرين للعلم وحتى للمعرفة‬‫العادية‪ .‬فمشكل المشاكل في المعرفة العلمية هي كيف نصل إلى هذا النص وهذا الواقع‪:‬‬ ‫وهنا نفهم معنى اللامباشرة الشارطة للعلم‪.‬‬‫والقرآن الكريم يبين ذلك بجلاء فضلا عن فلسفة العلم‪ :‬ففصلت ‪ 53‬لم تقل إن حقيقة‬‫القرآن في الآفاق والانفس بل قالت فيما يرينا الله فيهما من آياته‪ .‬وهذه فهمتها بمعنى ما‬‫يتجلى فيها من قوانين وسنن علينا أن نبحث عنها لنستخرجها وهي \"واقع\" يبقى دائما في‬ ‫غاية البحث كغاية البارسباكتيف في الرسم‪.‬‬‫فالرسام يضع الـ\"‪ \"vanishing point‬ليحقق شروط البارسباكتيف لكنها نقطة خيالية‬‫وليست حقيقية وكذلك الواقع هو في العلم نقطة خيالية وهي أكثر خيالية من الفانيش‬‫بوينت لأنها لا تتعلق بمنظورية مشهد يرسم بمقاييسه المحدودة بل هي ترسم كائن بمقاييس‬ ‫شبه لامحدودة لأننا لا نعلم لها بداية ولا غاية‪.‬‬‫ولا شيء يحزنني أكثر من سماع فقهاء \"عقاب الزمان\" يتكلمون على فقه الواقع‪ .‬يكاد‬‫كلامهم يشبه ما يقول ساسة العرب عن اكراهات السياسة‪ :‬يضع نفسه في وضعية التاريخ‬‫للأمر الواقع ظنا أنه الواقع ولا يدري أنه بهذا المعنى اسم فاعل من الوقوع أي السقوط‬ ‫الذي عليه من لا إرادة له ولا قدرة على تغييره‪.‬‬‫فحتى أدق العلوم لا تعلم الواقع ما هو بل هي تصل إلى صورة مما تفترضه واقعا ولا‬‫يمكنها أن تتوهم أنها غاية ما يمكن أن يكون عليه الواقع‪ .‬وتلك هي علة القول إن نظرية‬‫المعرفة المطابقة ليست دليل عقلانية بل هي \"بهمانية\" من البهامة نسبة إلى البهيم الذي‬ ‫يتصور واقع المرعى هو ما يراه ويأكله‪.‬‬‫لا أجهل أن كلامي هذه فيه ما يغيض الكثير لكني ضقت ذرعا بقشور الكلام على المقابلة‬‫بين الأمم النصية والامم المتحرر من سلطة النص‪ .‬كل الأمم خاضعة لسلطة نص ما‪ .‬وكل‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪35‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫الامم تسعى إلى التحرر من الخلط بين مطلوب العلم في معطيات الوجود الخارجي وظاهرها‬ ‫الذي يسميه الاميون واقعا‪.‬‬‫بعد التخلص من هذه المقابلة الزائفة والتخلص من اعتبارهما مصدرين جاهزين‬‫للاستعمال في العلم والتخلص من دعاوى معرفة دلالة النصوص ومعانيها (خاصة وبد بينت‬‫الفرق الشاسع بينهما) ومعرفة الواقع والاعتماد على القول بنظرية المطابقة والعلم‬ ‫بالشيء على ما هو عليه يمكن أن نواصل‪.‬‬ ‫الباحث العلمي الجاد ثائر دائما على عقبتين‪:‬‬ ‫‪ .1‬عطالة التراث في اختصاصه علميا كان أو غير علمي تشده إلى حصيلة الماضي‬‫‪ .2‬عطالة \"الواقع الزائف\" أي ما يرميه به الوجود الخارجي موضوع بحثه من رسائل‬‫تتلقاها مداركه قد يغمره سلطانها فلا يلمح فيها \"آيات\" الله أو القوانين والسنن الكلية‬ ‫غاية العلم‬‫وبهذا المعنى فالعلم لا يؤخذ طوعا من النص و\"الواقع\" بل يؤخذ منهما كرها وعنوة‪:‬‬‫يوجد صراع بين ظاهر النصوص وظاهر \"الواقعات\" تماما كما يحصل لمستخرج الذهب من‬‫التراب والزيت من الزيتون وكل ثمين في كل جرم حامل له‪ :‬النص جرم والواقعات جرم‬ ‫والجرمان المطلوب فيهما هو لبهما وحقيقتهما‪.‬‬‫لذلك فكل من تصور أن الله وضع أسرار الوجود وقوانين الطبيعة وسنن التاريخ وحقيقة‬‫الإنسان فضلا عن حقيقة الله في العراء ويكفي شرح النصوص للوصول إليها عابث ولا يقدر‬‫حقيقة ما يطلب‪ :‬الله سماها آياته ولا يعني فقرات القرآن بل ما يرينه في الآفاق والانفس‬ ‫لنتبين حقيقة القرآن‪.‬‬‫العامي قد يتوهم أن قوانين الطبيعة وسنن التاريخ وحقيقة الوجود والإنسان والله وما‬‫بينهما من علاقة مباشرة وغير مباشرة بتوسط الطبيعة والتاريخ يكفي فيها معرفة العربية‬‫وشرح الالفاظ فيظن تفسير القرآن كافيا ومغنيا عن البحث العلمي كما حاولت وصفه‬ ‫أفهم‪ .‬أما أن يعتقد ذلك علماء فمصيبة‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪36‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫وأن يظن العامي أن ما يوحد خارجه كما يصل غليه عن طريق حواسه ‪-‬وهو معنى البنية‬‫التحتية إذا عرفناها بوسائل الانتاج وعلاقاته‪-‬قد أفهم أما الذي يدعي الحداثة والفلسفة‬‫المادية الجدلية وهلم جرا من الكلمات الرنانة فذلك أيضا مصيبة أكبر‪ .‬لذلك فما حصل‬ ‫في التاريخ بسبب الموقفين لا يختلف كثيرا‪.‬‬‫فالماركسية مثلها مثل الكاثوليكية‪ :‬كنسية (=الحزب الشيوعي) لها كهنوت‬‫(النومونكلاتورا) وبابا (كستالين وأي رئيس حزب شيوعي) وتتفتت النخب فيه بنفس‬‫الطريقة التي تتفتت به المذاهب والطوائف الدينية وبدلا من أن يكون غطاء هذا السلطان‬ ‫اسم الله يصبح اسم الإنسان‪.‬‬‫ويسمون ذلك علما ثم يقلبون العلاقة بين العلم والمعلوم فيفرضون بالقوة أن يكون المعلوم‬‫تابعا للعلم تماما كما يفعل الكهنوت فالإنسان عندهم يخضع لعلمهم الإلهي‪ .‬وقد يكون‬‫كلامهم أكثر تناسقا لأنه لا يوجد من يعصي علم الله إذا صدق أنه علم الله‪ .‬لكن من‬ ‫يصدق أن علم ستالين هو الحقيقة؟‬‫من يصدق خرافات ملالي التشيع بأن ما يقولونه يمكن أن يكون دينا صادرا عن إله ذي‬ ‫عقل وحكيم؟‬‫وتجد من بين من باعوا ذمتهم من يصبح لسان دفاع عن هذه الخرافات التي تنسب إلى‬‫الله من قوم يجعلون الله خاضعا لأهواء من يسمونه أيمة ويسمون ذلك علما يريدون به‬ ‫قيادة البشر‪.‬‬‫ولا يظنن أحد أن السنة في أفضل حال‪ .‬كلامهم يبدو أقرب إلى العقل من كلام الشيعة‬‫لكن الأفعال متماثلة لأن الفرق في الحقيقة هو ما يسميه التشيع الحق الإلهي في الحكم‬‫للأيمة يسميه فقهاء السنة التابعين للبلاط شرعية المتغلب فيصبح الحق الطبيعي (القوة)‬ ‫بديلا من الحق الإلهي‪.‬‬ ‫وإذا كانت هذه حال ما يعتبر في حضارتنا العلم الأسمى فكيف بحالة العلوم الأدنى؟‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪37‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫أخلاق العلم القرآنية كلا الفريقين تخلوا عنها وصار الدين نفسه وسيلة للجميع‪ :‬لمن‬‫يحكم باسمه ولمن يعارض باسمه‪ .‬وكل الخرافات التي تسمى علم هي ليست للعلم بل‬ ‫لتوطيد سلطان العلم الكاذب والنفاق الجاذب‪.‬‬‫ولا شيء أكره لنفسي من سماع بعض المنافقين يقصون أمورا يكثرون من القسم على انها‬‫وقعت والكل يعلم أنه كاذب لأنها من المستحيلات العقلية والنقلية يقصها ليوطد سلطانه‬‫على العامة كذلك المتصوف الدجال الذي يستعمله أعداء الثورة عندما تكلم عن مد‬ ‫الرسول يده من قبره ليحيي شيخا صوفيا‪.‬‬‫لذلك فلا وجود لحكاية العلماء ورثة الانبياء‪ .‬النبي لا يورث لا ماديا ولا رمزيا‪ .‬وحتى‬‫لو سلمنا بأن القصد تشريف العلم فهو بالعلم الكاذب تدنيس سمعة الرسول‪ .‬ثم إن الرسول‬‫لم يدع علما لدنيا وإذن فهم يرثون من النبي ما لا يملك‪ .‬ذكرت هذا لأنه ثقافة تفسد‬ ‫مفهوم العلم فلا يتحرر من العطالتين‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪38‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫عندما اعتبرت العلم يؤخذ غلابا مما يسمونه نصا وأسميه التراث في المجال ومما يسمونه‬‫الواقع أسميه مركز التلاشي في الرسم (شرطا في البارسباكتيف) فالقصد في النهاية أنه‬‫يؤخذ غلابا من ذات الباحث‪ :‬فلكأن الباحث مضطر لنزع ثيابه حتى يستحم في محيط‬ ‫الحقيقة التي تجبره على الشك فيما لديه‪.‬‬‫ولست أتكلم على الشك المنهجي سواء بمعناه عند الغزالي في المسائل الروحية (طلب‬‫اليقين لتأسيس المعرفة الدينية) أو عند ديكارت في المسائل الابستمولوجية (طلب اليقين‬‫لتأسيس المعرفة الفلسفية) والمعنيان يلتقيان إذا حررناهما من الأساليب الثقافية بل هو‬ ‫نوع آخر من الشك‪.‬‬‫فهو ليس شك للتأسيس ولا شك للبدء في العلم بل هو شك ذو توجهين‪ :‬ويشبه ما يحصل‬‫لمن يمشي في الادغال فيضطر للالتفات إلى ما ورائه وما قدامه وما على يمينه وما على‬‫شماله وحتى ما فوق رأسه وما تحت قدميه لأنه بخلاف ما يتصور الكثير فأي اختصاص غابة‬ ‫بكر في عين الباحث كلها رمل متحرك‪.‬‬‫فما ان تلمس قطعة من الرقعة (كالشطرنج) حتى تتغير دلالات كل القطع الاخرى في‬‫مجرى اللعبة الاسترمازية طبعا بالنسبة إلى الباحث وليس إلى من يأخذ الاختصاص كفن‬‫تعلمه ويعلمه وكأنه متن جاهز وثابت ولا شيء فيه يتحرك ويكفي فيه الحفظ وقوة‬ ‫الذاكرة لاستعراض مضمون المتن المشترك‪.‬‬‫وهذه العلاقة الاولي بالاختصاص العلمي شرط ضروري والحاصل عليه هو \"العالم\" بمعنى‬‫السكولار اي المطلع على التراث في ذلك العلم إلى آخر لحظة في تكوينيته أو ما هو سائد في‬‫حاضره‪ :‬ويمكن أن نسميها حال الفن وهي حال يشترك فيها أهل ذلك الاختصاص‪ .‬وهذا‬ ‫هو الالتفات الاول‪ .‬فما الالتفات الثاني؟‬‫هذا هو الالتفات الثاني الذي يمكن أن أمثل له بالغزالي وابن تيمية وابن خلدون‪.‬‬‫فالغزالي في التهافت غير الغزالي في المنقذ‪ .‬التفاته في التهافت ليس التفات التأسيس أو‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪39‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫البداية في المعرفة كما في المنقذ بل هو التفات المتسائل من داخل الاختصاص الذي اسمه‬ ‫الميتافيزيقا ونظرية المعرفة‪.‬‬‫ورغم أن شك التهافت غير شك المنقذ فإن بينهما علاقة لأن مطلوب الثاني هو علة مطلوب‬‫الاول رغم الترتيب الزماني العكسي في حياة الغزالي في الظاهر لأني اعتقد أن الغاية هي‬‫مطلوب الثاني من البداية وإلا لما هدأت نفسه من دون أن يذهب إلى وضع البديل‬ ‫الفلسفي‪ :‬حل المنقذ كفاه فمال الى التصوف‪.‬‬‫وهو حل \"كسول\" يمكن أن يطمئن النفس فيسكن آلامها الروحية لكنه لا يسهم في الحل‬‫الذي يحررها من الخضوع لمعيقات الروح الدنيوية بمجرد الاستسلام لها أو الهروب منها‪:‬‬‫فالاستعمار في الأرض لا يكفي فيه الاستسلام لضروراتها التي تجعل الجماعة عابدة‬ ‫لحاجاتها أكثر من عبادة ربها‪.‬‬‫والنتيجة أن هذا الهروب الوهمي يؤدي إلى العودة إلى القبول بما كان الشك فيه في‬‫التهافت بداية إلى التحرر منه‪ :‬ومعنى ذلك أن الغزالي حرك رواكد الميتافيزيقا في التهافت‬‫ثم سكنها في المنقذ وعاد إلى رواكد الميتافيزيقا السينوية وتبناها فلم يحصل بعمله تقدما‬ ‫يذكر في إعادة بناء الفلسفة‪.‬‬‫ولأمر إلى ابن خلدون لأن الكلام في ابن تيمية وتجربته الجنيسة أعسر على الإفهام ولا‬‫أريد أن أخوض فيها بعد أن خصصت لها الكثير من المحاولات التي جرأت علي الكثير من‬‫أنصاف المثقفين الذين يتصورون الحملة عليه لأسباب معلومة يمكن أن تردعني عن قول ما‬ ‫أراه حقا في شأنه‪.‬‬‫لو كنت أخشى أحدا غير الله ما خصصت له نصف رسالتي الجامعية في بلد الكل يعلم أنه‬‫علماني وأن الكلام على مثله يعد شبه جريمة خاصة في نخبة تدعي اليساروية والتقدمية‬‫ويعتبرونه ومثله الغزالي ممثلا للظلامية والتخلف والوهابية إلخ‪ ..‬من كلام الاميين في‬ ‫تاريخ الفكر الإسلامي خاصة والإنساني عامة‪.‬‬‫ما من أحد يدعي التخصص في ابن خلدون لا يعلم أن ثورته علتها هذين الشرطين‪:‬‬‫التخصص والشعور بالرمل المتحرك فيه‪ .‬لكن ما لا يعلمه الكثير من المختصين الذين لا‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪40‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫يهتمون بابن خلدون لذات عمله بل لأنهم وجدوا فيها شبها بمن يبنون عليه نظرية السبق‬ ‫من منطلق عقدة النقص‪ :‬قيمته في شبهه بأحد‪.‬‬‫لا يعنيهم من ابن خلدون إلا ما فيه من كونت أو من ماركس أو حتى من هيجل‪ .‬أما علمه‬‫في ذاته فقل من حاول الولوج إليه لبيان دلالة الالتفات الثانية التي أنسبها إليها والتي‬‫جمعت بين الغزالي وابن تيمية فلا تفهم من دون حصيلة ثورتيهما على رواكد المعرفة‬ ‫السائدة في علومنا بصنفيها‪.‬‬‫لو كان التفات ابن خلدون مقصورا على التاريخ وإصلاح الكتابة التاريخية لاستحال عليه‬‫أن يكتشف علم العمران البشري والاجتماع الإنساني ولكان أقصى ما يصل إليه جنيس ما‬‫وصل إليه علماء الحديث أي التثبت من صدق الوثيقة‪-‬وهي عندهم الرواة‪-‬وتقاطع‬ ‫الوثائق دون تواطؤ من أصحابها وهذا كاف للتاريخ‪.‬‬‫لو لم يكن ابن خلدون قد التفت في مجال آخر كان ينفي قابلية التاريخ لأن يكون علما‬‫بمقتضى طبيعة موضوعه لما حصلت ثورته فيجعل شروط علميته موضع سؤاله أو مطلوب‬‫بحثه الذي سيؤدي إلى تغيير الفلسفة كلها وليس مجرد كتابة التاريخ‪ .‬وهذا لا يكفي البحث‬ ‫عن السبق قياسا إلى كونت او ماركس إلخ‪..‬‬‫ولا يكفي فيه خاصة كلام بعض الحمقى الذين يقولون‪ :‬ابن خلدون يفهم في عصره وكلامه‬‫لم يعد مفيدا لأنه ابن عصره‪ .‬ولو كان ابن عصره لكان مثل مؤرخي عصره ولما أبدع ثورة‬‫تغير الابستمولوجيا الفلسفية التي كانت تستثني التاريخ من الأرشيتاكتونيك الفلسفية‬ ‫استثناء مبدئيا بنظرية المعرفة وموضوعها‪.‬‬‫فمجرد قوله في فاتحة المقدمة‪-‬خطبة الكتاب‪-‬أن التاريخ كان جنسا أدبيا وينبغي أن يصبح‬‫جنسا فلسفيا مجرد هذا القول يعني أن الثورة التي يدعو إليها تبدو في الظاهر ثورة في‬‫علم التاريخ لكنها في الحقيقة هي ثورة في نظرية المعرفة الفلسفية‪ :‬كيف يمكن أن يصبح‬ ‫التاريخ من الارشيتاكتونيك الفلسفية‪.‬‬‫وهذا هو قصدي بأن تحريك قطعة من رقعة الشطرنج المعرفية في أي اختصاص تغير دلالة‬‫دور القطع الاخرى في اللعبة‪ .‬ففيها قد يصبح أحد البيادق أهم من الرخ أو من حتى من‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪41‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫الوزير بحسب الحال التي وصلت اليها اللعبة هجوما او دفاعا‪ .‬جملة ابن خلدون رد صريح‬ ‫على جملة لأرسطو في كتاب الشعر‪.‬‬‫ولا يهمني كثيرا إن كان ابن خلدون واعيا بذلك أم لا وليس بالضرورة أن يفعل المبدع‬‫ما هو به واع‪ .‬المهم أن ما فعله غير ما كان في تاريخ المعرفة حائلا دون فعله فيكون فعله‬‫وكأنه كسر لقفل يعوق علاج مسألة ابستمولوجية لم يكن يتصورها فكر عصره ممكنة‪ :‬تلك‬ ‫هي الالتفاتة التي انتجت علم العمران‪.‬‬‫لكن إنتاج علم العمران لم يكن مجرد تحديد لموضوع التاريخ أو للظاهرات التي يؤرخ لها‬‫المؤرخ لئلا يبقى التاريخ رهن الاسر الحاكمة والحروب بين الدول بل كل الظاهرات التي‬‫يتألف منها وجود الجماعات البشرية بوصفها ما ينتج عن علاقاتها فيما بينها وعن علاقاتها‬ ‫مع العالم‪ :‬كل منتجاتها الحضارية‪.‬‬‫وبذلك تحدث الثورة الاهم وهي أن العلم الرئيس لم يعد الميتافيزيقا (ما وراء الطبيعة)‬‫بل أصبح الميتاتاريخ (ما بعد التاريخ) وهي ثورة قلبت بنية المعرفة الإنسانية كلها رأسا‬‫على عقب‪ :‬ما بعد الطبيعة هو نفسه ظاهرة اجتماعية ومن ثم فهو يفهم بما بعد التاريخ‪.‬‬ ‫ويكفي قراءة باب المقدمة الاول‪.‬‬‫فالجغرافيا التي هي ظاهرة طبيعية تبدو هي البداية‪ .‬لكن سرعان ما يأتي نظيرها‬‫الاسترمازي في القسم الثاني من الباب الاول ليجعلها في المرتبة الثانية لأن تشوف الإنسان‬‫للمستقبل والاستعداد لمفاجآتها هو الاسترماز الأسطوري والديني الذي يحولها إلى محل‬ ‫قيام إنساني دلالته من هذا التشوف‪.‬‬‫حرثت المقدمة ألف مرة وما هدأت حتى اكتشفت هذا السر الخلدوني الذي جعله عندي‬‫مؤسس العلوم الإنسانية وقالب العلاقة بين الطبيعي والتاريخي ومن ثم مؤسس ما بعد‬‫التاريخ علما رئيسا بديلا مما بعد الطبيعة التي هي من مبدعات تثبيت الوجود لتسكين‬ ‫حيرة الإنسان في علاقته بمحيطه \"الطبيعي\"‪.‬‬‫والنتيجة هي أن ثورة ابن خلدون تكاد تقول \"لا شيء طبيعي في الطبيعي المحيط‬‫بالإنسان\" إنه تطبيعي وليس طبيعيا‪ .‬والتطبيعي في علاقتنا بالطبيعي هو ما سميته‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪42‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫الاسترماز‪ .‬وهو ما سماه القرآن الكريم \"علمه الأسماء كلها\" أو \"علمه البيان\"‪ .‬وإذن‬ ‫فالتاريخي متقدم على الطبيعي الذي هو رؤية تاريخية‪.‬‬‫لكن حذار فالرؤية التاريخية ليست تاريخانية‪ :‬القصد ليس الصيرورة المنفلتة التي تلغي‬‫ما يطلبه العلم أعني القوانين والسنن بل الصيرورة ذات النظام المستمد من قطبي المعادلة‬‫الله والإنسان وبينهما الطبيعة والتاريخ علاقة غير مباشرة تنتظم في ضوء العلاقة المباشرة‬ ‫التي تواصل استرمازي‪.‬‬‫الله ‪-‬أو أي قوة غير محددة الطبيعة‪-‬تخاطب الإنسان بآيات أو رموز يؤولها الإنسان‬‫برموز أو أسماء هي التي بها ينظم عالمه الطبيعي والتاريخي بدءا بالتمييز بين الطبيعي‬‫(الضرورة) والتاريخي (الحرية) وختما بتحديد التراتب بينهما‪ :‬ابن خلدون قلب التراتب‬ ‫بين ما بعد الطبيعي وما بعد التاريخي‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪43‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫قبل الشروع في درس ما اعتبره قصورا في العلوم المساعدة نتج عن زيف علوم الملة التي‬‫تحولت إلى علة ما آل إليه حال الأمة من الانحطاط وفقدان شروط الاستعمار في الارض‬‫والاستخلاف‪ ،‬فلأبدأ منطلقا من الحال الراهنة لا مما حدث في الماضي بسبب الفتنة الكبرى‬ ‫والذي أراه يتكرر في الفتنة الصغرى‪.‬‬‫فما أسميه فتنة صغرى يناظر ما سمي فتنة كبرى‪ :‬كلتاهما مدارها الصراع حول الحريتين‬‫الروحية والسياسية والسنة كانوا في المرتين بين فكي كماشة من ينكص بالإسلام إلى ما ثار‬‫عليه وينكص بالحداثة إلى ما ثارت عليه في الحريتين‪ :‬لا وساطة بين الإنسان وربه ولا‬ ‫وصاية عليه في حكم نفسه‪.‬‬‫ومن اليسير في هذه الثورة الإسلامية أن يحصل النكوص بالعودة إلى ما ثارت عليه وهو‬‫الموقف الشيعي من نظرية الحكم والعلم القرآنية أو أن يحصل النكوص إلى ما ثارت عليه‬‫الحداثة بالوقوع في العلمانية اليعقوبية والسياسة الاستعمارية التي تعامل المواطن‬ ‫كأنديجان يحدث عنوة‪ .‬وهذه هي الفتنة الصغرى‪.‬‬‫لا يهمني هذا التوصيف في دلالته السياسية لذاتها وإن كانت مهمة كما سنرى في المحاولة‬‫التي سأخصصها للمؤسسات السياسية‪ .‬ما يعنيني الآن هو ما نتج عن الفتنة الصغرى الحالية‬‫في مسألة علاقة علماء السنة التقليديين بما أضافته الحداثة إلى العلوم المساعدة ولم‬ ‫يستفيدوا منه‪.‬‬‫ويكفي أن أذكر علامتين من الموقف العقيم الذي نتج عن سوء تقدير من يوجد في موقف‬‫رد الفعل والخائف من الحديد في فكر جمد ولم يعد يميز بين الفكر والاستعمال‬‫الايديولوجي للفكر‪ .‬العلامة الاولى هي الموقف من الاستشراق والعلامة الثانية هي الموقف‬ ‫ممن يدعي التتلمذ عليه من العرب‪.‬‬‫فأعدى أعداء الحداثة هم الحداثيون العرب‪ .‬تماما كما أن أعدى أعداء الاصالة هم‬‫الأصاليون العرب‪ .‬ذلك أن كليهما توهم أن مقابله ممثل لما يدعي تمثيله‪ .‬فيخلط الحداثي‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪44‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫السطحي بين قيم الإسلام الفعلية وما يمثله الأصاليون العرب وعمدتهم ما وصفت من علوم‬ ‫الملة الزائفة‪ .‬والعكس بالعكس‪.‬‬‫فكت يمثله الحداثي العربي لا علاقة له بالحداثة بل هو أبعد عنها من الأصالي عن‬‫الإسلام‪ .‬كيف ذلك‪ :‬فالحداثي العربي يعتبر أن العلوم الأدوات أدوات وينسى أنها علوم‪.‬‬‫لذلك فهو لا يرى منها إلا كونها أدوات تمكنه من بيان حداثته يجعل ما يتوهمه علما أداة‬ ‫لإبراز حداثته فيما يظنه نقدا للدين‪.‬‬‫ولو كان حقا يفهم معنى نقد الدين وكان صادقا في كلامه على القرآن لاكتشف أن النقد‬‫الديني الحديث لم يتجاوز قيد أنملة نقد القرآن للأديان‪ :‬فكل ما توصل إليه النقد‬‫الحديث للأديان هو إما متعلق بمادة مرجعياتها تمييزا بين الصحيح والموضوع أو بجوهر‬ ‫مضمونها تمييزا بين الخرافي والمقبول عقلا‪.‬‬‫وما يتجاوز ذلك ويتعلق بالإيمان بها أو بعدمه ليس من النقد الديني بل هو من الموقف‬‫العقدي لصاحب النقد وهو في القرآن موقف صاحبه حر فيه لأنه لا إكراه في الدين لمن تبين‬‫الرشد من الغي وتحرر من الطاغوت‪ .‬ويبدو أن كل ادعياء الحداثة لا يفهمون هذا الفرق‬ ‫لأنهم خاضعون للطاغوت‪.‬‬‫وواضح كذلك أن الرادين عليهم من أدعياء التأصيل لا يميزون بين الامرين‪ .‬فينتهون‬‫إلى أن هذه العلوم المساعدة ليست إلا أدوات للحرب على الإسلام في حين أن أصحابها‬‫استعملوها أولا في نقد أديانهم قبل أن يستعملوها في نقد أديان غيرهم وثانيا أنهم هم‬ ‫الذين شوهوا الإسلام لأن النقد موجه لصورته‪.‬‬‫وصورته الشوهاء نتجت عن مآل علوم الملة في حالة الطوارئ بعد الفتنة الكبرى‪ .‬وهم‬ ‫إذن يكررون نفس الخطأ في الفتنة الصغرى‪ .‬فماذا حدث بعد الفتنة الكبرى؟‬‫هل كانت السنة تصبح حربا على الفلسفة ومشتقاتها العلمية لو لم تكن الباطنية قد‬ ‫وظفتهما في حربها على الإسلام الناشئ وطري العود؟‬‫ومع ذلك ورغم أني لست أشعريا فإني أتحدى كل أدعياء العقلانية الإعتزالية أن‬‫يذكروا لي علما واحدا أبدعه غير الأشاعرة والحنابلة في تاريخ الأمة وهنا أتكلم على‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪45‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫العلوم المساعدة سواء بأنواعها الخمسة‪ :‬اللسان والتاريخ والرياضيات والمنطق وأصلها‬ ‫جميعا نظرية المعرفة المتحررة من وهم المطابقة‪.‬‬‫فحتى التفسير الذي يباهي به ادعياء العقلانية الإعتزالية (كشاف الزمخشري) فإنه‬‫مستحيل التصور من دون نظريات لغوية وبلاغية واضعوها أشاعرة (مثل الجرجاني) وكل‬‫أصول الفقه والكلام النسقي والتصوف حتى القائل بوحدة الوجود واضعوه إما أشاعرة أو‬ ‫حنابلة أو سنة قبل ذلك‪.‬‬‫ولم أر فيلسوفا عربيا واحدا أبدع شيئا يذكر في مشتقات الفكر الفلسفي العلمي أو في‬‫مشتقات الفكر الديني النسقي بل كل مواقفهم كانت شروح نصوص لعلم قديم لم يتجاوز‬‫أرسطو في الفلسفة ولعلم تقليدي لم يتجاوز الغزالي في الأصول‪ .‬ومن ثم فليتواضع أدعياء‬ ‫العقلانية ولنتعاون لإعادة البناء‪.‬‬‫وأقص عليكم قصة عجب لها لما درست فلسفة العلوم اليونانية وشروح كتاب اقليدس في‬‫الرياضيات‪ .‬عجبت من اعتراض الخيامي وهو عالم رياضي كبير على ابن الهيثم وهو لا‬‫يقل عنه علما بالرياضيات وخاصة بتطبيقاتها على البصريات‪ .‬كان اعتراضا يبين أن‬ ‫الفلسفة كانت عائقا لتقدم الرياضيات والفلكيات‪.‬‬‫لا احتاج للتذكير بإعاقتها للفلكيات‪ .‬فرمز هذه الإعاقة تجدونها في محاولة ابن رشد‬‫العودة إلى الفلك الأرسطي في إطار البطلمية دون اعتبار لمحاولات تجاوز بعض الفلكيين‬‫المسلمين لبطليموس فضلا عن أرسطو‪ .‬ما يهمني المشكل بين عالمين كبيرن والعائق الفلسفي‬ ‫القائل بمبدأ عدم تواصل الأجناس‪.‬‬‫اعتمد اقليدس نظرية أرسطو في البناء الأكسيومي لجمع النظريات الرياضية التي كانت‬‫موجودة قبله بقرون (شهادة أرسطية أثبتها ابستمولوجيون كثر راجع كتابي منزلة‬‫الرياضيات في علم أرسطو) وفيها ثلاثة أنواع من المقومات‪ :‬تعريف الحدود البسيطة‬ ‫تعريف القواعد الضابطة لعلاقاتها أو الأكسيومات‪.‬‬‫وهذان المقومان لم يكن عليهما خلاف (وهما ما بقي معمول به في أكسيومية حديثة‬‫الحدود البسيطة وقوانين علاقاتها أو استعمالها) ثم المسلمات‪ .‬وهنا نجد مشكل المشاكل‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪46‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫الذي علاجه أدى إلى تعدد الرياضيات وتجاوز اقليدس‪ .‬وكان الرياضيون يحاولون اثبات‬ ‫المسلمة الخامسة المتعلقة بالمتوازيات‪.‬‬‫وقد بينت أن أرسطو توقع إمكانية تجاوز الرياضيات الإقليدية إذا غيرنا مفهوم المثلث‬‫فلم نسلم بما يجعل مجموع زواياه يساوي ‪ °180‬بمجرد تغيير مفهوم المستقيم الإقليدي‪.‬‬‫لكن ليس هنا المربط‪ :‬فابن الهيثم أراد أن يثبت صحة المسلمة الخامسة بتحريك قطعة‬ ‫مستقيم قائمة على المستقيمين المتوازيين‪.‬‬‫وكان قصده أنه إذا أثبت أن هذه القطية القائمة على المستقيمين المتوازيين يمكن أن‬‫تقوم بحركة لا متناهية ستثبت أن المستقيمين لا يلتقيان أبدا ما ظلا على نفس السطح‪.‬‬‫فماذا كانت حجة الخيامي ضد هذه المحاولة؟ لا يمكن استعمال مفهوم الحركة في الهندسة‬ ‫لأنه مفهوم فيزيائي وليس رياضيا‪.‬‬‫وهذه الحجة أساسها مبدأ عدم تواصل الأجناس الأرسطي (في نظرية المقولات)‪ .‬ولا‬‫أريد أن أزيد الأمر تعقيدا لأن ابن الهيثم لم يكمل محاولته ولم يؤسسها والخيامي لم‬‫يشرح علة موقفه وظني أنه بهذا قد أفسد محاولة لا أدعي انها تحل مشكل المسلمة الخامسة‬ ‫ولكنها تتجاوز العائق الفلسفي كعقيدة‪.‬‬‫وحتى لا أطيل فإن تحول النظريات إلى عقائد سواء كانت فلسفية أو دينية وتحولها من‬‫ثم إلى أدوات صراع عقدي هو الذي قتلها وقتل إمكانية تبنيها من قبل السنة التي كانت في‬‫حالة دفاع \"غبي\" دون شك كما يحدث الآن عندما يرفض مثلا تطور مناهج الهرمينوطيقا‬ ‫لأن دجل الحداثيين قصرها على نقد الأديان‪.‬‬‫ولو كانوا بحق يفهمون طبيعتها بوصفها علما مساعدا لأدركوا أنها إنما ابدعت إلا لبيان‬‫حقيقة الأديان وليس لنفيها ومعنى ذلك أن ابداعها كعلم مساعد علته قصور المناهج‬‫التحليلية في فهم الظاهرات الروحية التي لا ينفيها إلى غبي‪ .‬فكل الفنون والإبداعات‬ ‫الرمزية بل والإنسان نفسه لا يفهم من دونها‪.‬‬‫لذلك فحتى ما كان يسمى علوم صحيحة في مقابل ما يسمى بعلوم الإنسان حطا من‬‫مستواها بالمقابل مع الاولى لم يعد أحد ممن يعتد به بين العلماء يقول بالمقابلة بينهما‪:‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪47‬‬ ‫الأسماء والبيان‬