Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore تأملات فلسفية - التحرر من التحريفين الديني والفلسفي- أبو يعرب المرزوقي

تأملات فلسفية - التحرر من التحريفين الديني والفلسفي- أبو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2019-10-01 18:57:02

Description: تأملات فلسفية - التحرر من التحريفين الديني والفلسفي- أبو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪re nils frahm‬‬ ‫تأملات فلسفية‬ ‫التحرر من التح ريفين الديني‬ ‫والفلسفي‬ ‫الأسماء والبيان‬



‫المحتويات ‪1‬‬ ‫‪ -‬الفصل الأول ‪1 -‬‬ ‫تمهيد‪1 :‬‬ ‫تحرير المشكل ‪1‬‬ ‫أبعاد التوالج والتشاجن معرفيا ووجوديا ‪8‬‬ ‫صنفا التلقي الديني والفني ‪9‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثاني ‪13 -‬‬ ‫المرحلة اليونانية ‪13‬‬ ‫المرحلة العربية ‪13‬‬ ‫المرحلة اللاتينية‪16 .‬‬ ‫المرحلة الغربية الحديثة ‪17‬‬ ‫مراحل العلم الرئيس‪18 .‬‬ ‫الانقلاب الكنطي‪18 .‬‬ ‫المرحلة ما بعد الحديثة‪19 .‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثالث ‪23 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الرابع ‪39 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الخامس ‪53 -‬‬ ‫مفهوم الإنسانية ‪53‬‬ ‫جوهر الإنسانية سؤالاها الديني والفلسفي ‪54‬‬ ‫علاج القطب الأول من المربع الأول ‪56‬‬ ‫علاج القطب الثاني من المربع الأول ‪57‬‬ ‫في دلالة شرح ْي مدارج السالكي ‪59‬‬ ‫تأويل دلالة المربع الأول ‪60‬‬ ‫تأويل دلالة المربع الثاني ‪61‬‬ ‫الإنسانية ولعبة المربعي ‪63‬‬ ‫القلب النظري والقلب العملي ‪63‬‬ ‫تدارك قبل الكلام في المرجعية ‪65‬‬

‫‪-‬الفصل السادس‪66 -‬‬ ‫المشترك بي الدين والفلسفة ‪70‬‬ ‫وجها الإشكالية ‪72‬‬ ‫الوجه الأول‪ :‬التفكيك النقدي للتح ريف ولما يترتب عليه ‪73‬‬ ‫الوجه الثاني‪ :‬استراتيجية التوحيد‪\" :‬الجلي في التفسير\" ‪75‬‬ ‫أسلوب القرآن التعليمي ‪76‬‬ ‫‪ -‬الفصل السابع ‪ -‬المرجعية ‪78‬‬ ‫مستويا المرجعية ‪78‬‬ ‫طبيعة فعل نقيض المرجعية ‪80‬‬ ‫كيف تعمل المرجعية ‪81‬‬ ‫القرآن مرجعية كونية ‪82‬‬ ‫كيف تمدد المرأة وتبضع ‪84‬‬ ‫العلاقة بمسألة المرجعية ‪85‬‬ ‫‪ -‬الخاتمة ‪ -‬منزلة المرأة أو غاية التحريفي ‪89‬‬ ‫‪100‬‬

‫‪--‬‬ ‫تمهيد‪:‬‬ ‫هذه مقدمة بحث في التحرر من التحريف الفلسفي شرطا في الاستئناف من منطلق التحرر من‬ ‫التحريف الديني الذي كان شرطا في النشأة الأولى للحضارة الإسلامية‪ .‬ويتألف البحث من سبعة‬ ‫فصول أولها هذا وهو لوضع المشكل والبقية خمسة لمستويات الأحياز ‪-‬الفردي والجمعي والكلي‬ ‫والكوني والمرجعي‪ -‬والأخير للحصيلة العامة‪.‬‬ ‫وهذه المستويات تكلمنا عليها في بحث سابق يمكن اعتباره بروبيدوتيك (اعداد منهجي) للكلام على‬ ‫هذه اللطائف التي تصل الفلسفي بالديني‪.‬‬ ‫آمل أن يكون في ذلك ابتعادا من الانغماس في الأحداث دون قطيعة لأنه انغماس في ما وراءها مما‬ ‫يضفي عليها المعنى لأن مجرى الأحداث ليس وليد الصدف بل هو خاضع لمنطق يمكن أن يفهمنا علة‬ ‫كونه على ما هو عليه‪.‬‬ ‫ولست أزعم بهذا الحسم في اعادة البناء النسقي للفكر في لحظة تطمح الأمة فيها إلى ما يعيد‬ ‫دورها التاريخي الكوني إلى ما هي أهل به من مشاركة في تحديد آفاق البشرية من جديد‪.‬‬ ‫تحرير المشكل‬ ‫هل لنظرية الأحياز وأدوات تفعيلها في الموضوعات التي نريد تفسيرها بها دور معرفي يمكن من‬ ‫اعادة النظر في العلوم عامة وفي نظام تراتبها خاصة؟‬ ‫لا شك ان العلوم الدقيقة كان من شروط تأسيسها وفاعليتها التفسيرية فصلها بعضها عن البعض‬ ‫بالتمييز بي مجالاتها ومناهجها رغم وحدة العلوم الأدوات‪.‬‬ ‫والأدوات الواحدة في كل العلوم هي اللسان والرياضيات ويوحد بينهما المنطق وما بعده أو‬ ‫السيميوتيكا (الوسميات) أي بما به نرمز للأشياء وللرموز ذاتها وما نعبر به عنهما (بيرس مثلا)‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪1‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فلهذه الأدوات خاصية عجيبة هي خاصية الانعكاس على الذات أي أنها ترمز لغيرها وتقوله وترمز‬ ‫لذاتها وتقوله‪ .‬وهي بهذا مناظرة لما نسميه وعي الإنسان بذاته‪.‬‬ ‫فخاصية وعي الإنسان الأساسية أنه وعي بالذات ملازم للوعي بأي شيء آخر‪ .‬ومن هنا ننطلق‬ ‫لبيان دور نظرية الأحياز وأدوات تفعليها معرفة موضوعاتها‪.‬‬ ‫فمثلما أن الوعي بأي شيء يلازمه الوعي بالذات فإن الوعي بالذات يلازمه كل عالم الذات الذي‬ ‫له علاقة بنوع الوعي ذي الصلة بمجال معي من العالم‪.‬‬ ‫مثال ذلك أن وعي المزارع بذاته يكون دائما ملازما لوعي بأمر ذي صلة بالأرض وبهمومه‬ ‫كمزارع‪ .‬والعالم يكون وعيه بذاته ملازما دائما لمسائل علمه دون أن يكون ذلك علما بعد لأنه‬ ‫شرط العلم وليس علما‪.‬‬ ‫والمعلوم أن الوعي بالذات وبكل موضوعاته المتلازمي ليس علما بل هو شرط كل علم‪ .‬والخلط‬ ‫بينه وبي العلم هو أساس كل المثالية الألمانية التي تصورت إمكانية حل مشكل الثنائية الوجودية‬ ‫بي العلم وموضوعه ‪-‬وبي الذات والموضوع عامة‪ -‬أو تأسيس المثالية المطلقة (البداية مع فشت ثم‬ ‫مع شلنج والغاية كانت حل هيجل)‪.‬‬ ‫وبصورة عامة فإن ما يشبه المحيط أو البيئة الملازمة للوعي بالذات تمثل ما يشبه الهالة حول‬ ‫الذات تكون كالخلفية التي تنتأ عليها الذات كالصورة‪ .‬وكل ما يسمى بالفينومينولوجيا هو محاولة‬ ‫وصل العلوم بهذا الشرط ومحاولة رد الثاني إلى الاول بمفهومي القصدية‪.‬‬ ‫مفهوم العناية والمعنى السينوي أفصح رغم أنه يتكلم على العناية في علم الله وليس في علم‬ ‫الإنسان ويكون فيها المفهوم في العلم وليس في الوجود الخارجي‪ .‬والحياد الوجودي بعدم الجزم‬ ‫بالوجود في العالم الفعلي للكلام على عالم المعاني المتعالية أو الترانسندنتالي بمعناه عند هوسرل‬ ‫للتحرر من الوعي الطبيعي وتعويضه بالوعي الفلسفي (رفع الحكم‪ .) Epoche‬سؤالي هو‬ ‫التالي‪ :‬هل لهذا التلازم بي الوعي بالذات والوعي بالعالم سواء كله أو بعضه سواء مع الجزم‬ ‫بالوجود أو رفع الحكم دور في كل معرفة وعلم أم هو مجرد مفعول نفسي لا دخل له؟‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪2‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وإذا كان له دخل ما طبيعته هل هي عرضية أم بنيوية ؟‬ ‫وهل الفصل الشارط لفاعليته العلمية كاختصاص لا يفسد ما يمكن أن يرد إلى تأثير هذه العلاقة‬ ‫في المحتوى المعرفي والوجودي؟ علاقة القضية بنشأة حضارتنا واستئناف دورها‪.‬‬ ‫نبحر في بحث قد لا يعني القارئ الرافض لنوافل الفكر والغارق في وحل الأحداث وشروط العيش‬ ‫الدنيا‪.‬‬ ‫لكن الاستئناف الذي هو مطلب الأمة الأساسي يحتاج انقلابا معرفيا متصلا بهدف النشأة الأولى‪.‬‬ ‫فالنشأة الأولى كان مطلبها تحرير الإنسانية من تحريف الأديان‪-‬القرآن تذكير وإصلاح‪-‬لتوحيد‬ ‫الإنسانية حول الاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها أي إن تحقيق مطلب الرسالة الإسلامية في‬ ‫نشأتها الأولى اقتضى تعيي علة الحرب الأهلية الكونية في عصر نزول القرآن فكان الجواب‪:‬‬ ‫علاج تحريف الأديان في تاريخ الإنسانية كلها (طبعا كلها يعني كل ما يمثلها من نماذج هي مضمون‬ ‫القصص القرآني)‪.‬‬ ‫وكل من تدبر القرآن يصل إلى هذه النتيجة‪ :‬البحث في علل التحريف ومحاولة علاجها لتوحيد‬ ‫البشرية بتدريج توحيد الألوهية ليطابق توحيد الربوبية‪ :‬إذن مستويان متوازيان تاريخي وما‬ ‫بعد تاريخي وأولهما فهو موضوع فلسفة التاريخ والثاني موضوع فلسفة الدين‪.‬‬ ‫ولهذه العلة اعتبر القرآن التعدد الديني مشروعا إلهيا مقصودا هدفه تمكي البشرية من التسابق‬ ‫في الخيرات لتحقيق التطابق بي الألوهية والربوبية (المائدة ‪. )48‬‬ ‫وتحقيق التطابق بي الألوهية والربويية فضلا عن التوحيد بمعناه الديني يحقق تطابقا ثانيا هو‬ ‫أساس الأخوة البشرية بالتطابق بي الرحم الخاص بجماعة معينة والرحم العام (النسب الإنساني‬ ‫النساء ‪ )1‬وهو التوحيد بمعناه التاريخي‪.‬‬ ‫فالآية الأولى من النساء تضع‪( :‬رحم عام ‪ +‬ربوبية) ثم (رحم خاص‪ +‬ألوهية)‪ .‬والهدف من‬ ‫التسابق في الخيرات (المائدة ‪ :)48‬تحقيق المطابقة بي المجموعتي لإخراج البشرية من‬ ‫التحريف‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪3‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫والتحريف الذي عالجته النشأة الأولى للحضارة الإسلامية ديني بالأساس ومن ثم فهو من جنس‬ ‫العقد في الأذهان لكن ثمرته تاريخية لأنها تتعلق بالشرع في الأعيان (السلوك الفردي والجمعي‬ ‫أخلاقا وسياسة)‪ .‬لذلك كان الإسلام من حيث فلسفة الدين حركة إصلاح للتحريف الديني‬ ‫وتذكير بالدين الفطري وليس وضعا لدين وهو من حيث فلسفة التاريخ تربية عقدية وسياسة‬ ‫شرعية أو دين الأخلاق ودولة القانون‪.‬‬ ‫لكن مشكل عصرنا ليس تحريف الدين بل زعم بإلغائه وهي عودة تحريفه بسبب تحريف الفلسفة‬ ‫وخاصة في نظرية الجدل الهيجلي المبنيى على خطأ بدائي في المنطق ناتج عن رد الغيرية لشكل‬ ‫وحيد هو التناقض‪ .‬فكون الشيء تتحدد هويته بذاته التـي يعرفها بكونها \"أ\" و\"لا أ\" لا ترد إلى‬ ‫التناقض بي \"أ\" و\"لا أ\" بل هي \"أ\" و\"غير أ\"‪ .‬وغير ألف ليس نقيضه بل هو غير ألف الذي يمكن‬ ‫أن يكون ما يشاركه في شيء ويخالفه في شيء وهو إما ما ينتسب إلى مجموعته فيكون مكمله فيها‬ ‫بمعنى نظرية المجموعات أو ما ينتسب إلى كل الموجودات في عالمه فيكون غيره هو العالم إلا ذلك‬ ‫الشيء‪ .‬ولا شيء يدل على أن هذا الغير مناقض له ‪:‬‬ ‫• فإذا كان مكمله في مجموعته كان عناصر المجموعة إلا ذلك الشيء‪.‬‬ ‫• وإذا كان مكمله في العالم كله كان العالم كله إلا ذلك الشيء‪.‬‬ ‫وإذن فالقضية المعدولة ليست قضية مؤسسة على التناقض وكل ما يبنيه هيجل على نظرية الجدل‬ ‫اديولوجي هدفه تأسيس التثليث وليس فهم مقومات هوية الشيء‪ .‬وحتى هذا التأسيس فهو‬ ‫خاطيء‪ .‬فحتى لو قبلنا بأن المقابلة \"أ\" و\"لا أ\" مقابلة تناقضية فإنها لا يمكن أن تنتهي إلى التثليث‬ ‫بل هي تنتهي إلى التخميس حتما إذ يكفي أن نعلم أن العلاقة أ ولا أ غير العلاقة لا أ وأ‪ .‬فتكون‬ ‫المسألة اذن مؤلفة من أربعة عناصر وأصل هو مجموعتها ‪-1 :‬أ ‪-2‬لا أ ‪-3‬من أ إلى لا أ ‪ 4‬من لا أ‬ ‫إلى أ ثم الأصل وهو المجموعة وهذه بنية مختلفة تماما عن القول بالتاز والانتيتاز والسنتاز‪ .‬ومن‬ ‫ثم فالثالوث خرافة لا أساس لها منطقيا ولا وجوديا‪.‬‬ ‫وهذا هو القصد بتحريف الفلسفة الذي مثل نكوصا عن المحاولة الكنطية لتجاوز القول بنظرية‬ ‫المعرفة المطابقة التي تنتهي إلى نفي شرط شروط المسلمات الكنطية لتأسيس الاخلاق والدين في‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪4‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫آن بل وتأسيس الأولى على الثاني حتى وإن كان التأسيس مبنيا على مسلمات لأن اثباتها مستحيل‬ ‫ومن ثم فهي تتسلم لأنه من دونها يمتنع استثناء الإنسان من الضرورة الطبيعية التي هي اساس‬ ‫العقل النظري فيمتنع حينها استعماله في المجال العملي‪ .‬ولا وجود لعقل عملي في الحقيقة بل‬ ‫يوجد استعمال عملي للعقل النظري بشرط تسلم تلك المسلمات الثلاث التي وضعها كنط أي حرية‬ ‫الإنسان وخلود النفس ووجود الله‪ .‬ومن دونها يكون استثناء الإنسان من قواني الطبيعة لتاسيس‬ ‫الاخلاق مستحيلا لأنه كما يقول سبينوزا ليس دولة (الإنسان) في الدولة (الطبيعة)‪.‬‬ ‫لكن تعيي غاية النكوص الفلسفي في الهيجلية والماركسية له أصل أعمق مما جرى في الفلسفة بعد‬ ‫أن بلغت إلى العجز عن استيفاء شروط استنادها إلى العلم بعد أن آلت النظرة للعلوم إلى‬ ‫الاقتصار على فاعلية الاختصاص المعزول وما يتبعها من اسقاط على فاعلية موضوعه بعضا من‬ ‫الوجود معزول‪.‬‬ ‫مثال من علوم الإنسان‪ :‬هل يمكن تصور بسيكولوجيا (علم نفس) من دون سوسيولوجيا (علم‬ ‫مجتمع)؟‬ ‫وهذه من دون انثروبولوجيا عضوية وثقافية (علم إنسان)؟‬ ‫وهذه من دون كسمولوجيا (علم العالم)؟‬ ‫وهذه من دون انطولوجيا؟‬ ‫لا نتكلم على ثيولوجيا (علم ربوبية) لأنها من الكلام وليست من الفلسفة‪.‬‬ ‫نعم من شروط تأسيس هذه العلوم وفاعليتها فصلها بعضها عن البعض‪ .‬لكن هل فاعليتها الناتجة‬ ‫عن الفصل سليمة أم هي ذات آثار جانبية ضارة بالإنسان ضررا هو ما نعتبره ناتجا عن التحريف‬ ‫الفلسفي الذي يرد الغيرية إلى الفصل التناقضي بدل الوصل البنيوي ؟‬ ‫وليكن مثالي علم النفس‪ .‬فنظرياته مترددة بي حلي فصلا أو وصلا‪ :‬إما برد الذات كلها إلى‬ ‫البدن (الأعصاب) أو إلى النفس دون معرفة طبيعتها (التحليل النفسي) أو بالجمع بينهما تبعا‬ ‫للثنائية الديكارتية حتى وإن لم يصرح علماء النفس بذلك‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪5‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فبعد التخلي نهائيا عن علم النفس الفلسفي الذي ينبني على مزاعم ميتافيزيقة تقول بجوهرية‬ ‫النفس وانفصالها عن البدن لا معنى لوضع مبدئي تفسير دون بيان طبيعة ما ينسب إلى النفس‪.‬‬ ‫لكن العلاج السريري اكتشف بالتدريج أن هذه الحلول الثلاثة لا تكفي ووجه إلى ما يشبه ما‬ ‫أشرنا إليه في نظرية الأحياز الفردية والجمعية على الأقل وهي إذن تحييز للغيرية في الكل فلا‬ ‫يكون الشيء متقصرا على نقيض يتقابل معه في هوية صدامة بي أ ولا أ بالمعنى الهيجلي‬ ‫والماركسي ومنطق الحرب الدائمة بي المتناقضات‪ .‬فللبدن علاقة بالمكان وثمرته وللنفس علاقة‬ ‫بالزمان وثمرته والكائن له علاقة بالمرجعية التي تصل المكان بالزمان وثمرة تفاعلهما التي تقيم‬ ‫كيان الإنسان العضوي (الثروة) والتي تقيم كيانه الروحي (التراث) كما تتعي جميعها في بيئتيه‬ ‫الثقافية والطبيعية‪.‬‬ ‫فالعلاقة بالمكان تكون بتوسط ثمرته التي هي الثروة ذات تأثير فيزيائي على كيانه العضوي‬ ‫وبتوسط رمزها رمزيا أعني دلالات الثروة التي تحدد المنزلة في الجماعة والعلاقة بالزمان بتوسط‬ ‫ثمرته التي هي التـراث ذات تأثير رمزي يفعل في الفيزيائي والعضوي (مثل النظام الغذائي‬ ‫ونظام التصاهر)‪ :‬فيصبح المرض النفسي ذا صلة برمز الثروة (العملة) وبرمز التراث (الكلمة)‬ ‫أي بدورهما في قيام النفس السوية وليس بالمكان والزمان وحدهما‪ :‬الرمز الأول للقدرة المادية‬ ‫والثاني للقدرة الرمزية‪.‬‬ ‫والدور في النفس السوية يتبي خاصة من خلال حاجة المريض للسردية الهذيانية التي تعوض‬ ‫فقدان القدرتي‪.‬‬ ‫كان أستاذنا في علم النفس المرضي (طبيب بورقيبة) يلقانا في مستشفى الرازي للأمراض العقلية‪.‬‬ ‫وكانت حصص الدرس التطبيقي مرتي في الشهر لمدة أربع ساعات كل مرة بحضور المرضى لنحلل‬ ‫السرديات الهذيانية‪ .‬وهنا يبرز دور فعل الرمز (التراث) ورمز الفعل أداتيا (الثروة) المكان‬ ‫والزمان وعلامتي تعويض فقدان القدرتي‪.‬‬ ‫فكان مدار السرديات الهذيانية على سلطة رمز الفعل بفعل الرمز‪ :‬قصة حول سلطة المال والجاه‬ ‫والحكم والجنس أعني العلاقة بالمكان والزمان وثمرتيهما في تعينهما الرمزي‪ .‬أذكر مرة أن أحد‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪6‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الهاذين كان يعتبر نفسه ماو تسي تونج‪ .‬وكانت سرديته الهذيانية تدور حول سلطان ماو وثورته‬ ‫الثقافية وهو الذي يأمر العالم وينهاه‪.‬‬ ‫فاقتنعنا أن الذات ليست موضوعا معزولا بدنيا أو نفسيا وأن كيانها المستقل عن الأحياز من‬ ‫الأوهام بل إن كيانها المتعي متوالج مع شبكة علاقات لا تكاد تتناهى تشده إلى شبكة الأحياز‬ ‫المتشاجنة‪ .‬والمرض خلل في هذه الشبكة‪.‬‬ ‫وعلاج أي خلل عضوي مثلا لا يكون عضويا فحسب إلا لإصلاح ذلك الخلل الذي هو غالبا ما يكون‬ ‫معلولا لا علة‪ .‬وهو ما يقتضي تفكيك السردية الهذيانية لإعادة بناء الشبكة السوية قدر‬ ‫الإمكان‪ :‬أساس العلاج التحليلي النفسي لكنه ليس إلا بدايته‪.‬‬ ‫نظرية الأحياز تمكن من تجاوزه وفهم بنية الشبكة السوية فتتجاوز العلاج البعضي لمدارس‬ ‫التحليل وحتى ذلك التحليل الوجودي (كل الانثروبولوجيات الفلسفية) وتمكن من إصلاح‬ ‫الشبكة‪ .‬وإذن فالعلاج ليس مقصورا على علم النفس بل على ما يغيبه فصله عما يصل النفس‬ ‫بالأحياز الذاتية والخارجية‪ .‬ومن ثم فهو يتعلق بما ينتج عن الفصل المنهجي الضروري للاختصاص‬ ‫لكنه يخفي الضروري للعلاج بإهمال التشاجن مع الأحياز‪ .‬فإسقاط الفصل المنهجي على الوجود‬ ‫يجعل الوجود نفسه يبوب تبويب الاختصاصات المعرفية فيهمل الروابط ولا يدرك الوحدة العميقة‬ ‫وذلك هو ما اعتبره تحريفا فلسفيا‪.‬‬ ‫والتحريف الفلسفي الناتج عن تحريف فصل الاختصاصات بإضفاء الإطلاق عليه وإسقاطه على‬ ‫الوجود يتمثل في اعتبار الشبكة السوية من جنس شبكة قطع الغيار في الآلات الميكانيكية‪ .‬وقد‬ ‫بدأت هذه الفكرة مع نظرية ديكارت حول مفهوم \"الإنسان الآلة\" ‪L'homme machine‬‬ ‫وهي نظرية لا تبعد كثيرا من حيث الاستعارة التكنولوجية المشتركة مع الهيولومورفية‬ ‫الأفلاطونية الأرسطية (نموذج البايولوجيا تكنلوجي في الحالتي)‪.‬‬ ‫وتلك هي بداية تأسيس ما يسمى بالمكننة وهي لا تقتصر على بداية إزالة سحر الوجود‬ ‫‪ Entzauberung‬التي تنتهي إلى العلمنة المطلقة بفرض المكننة على الجماعة والدولة (ماكس‬ ‫فيبر) بل هي في الحقيقة بداية تفتيت الوجود بتغييب التوالج والتشاجن الوجوديي‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪7‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وهذا كله ثمرة التحريف الثاني تحريف الفلسفة بعد التحريف الأول تحريف الدين‪ :‬لماذا الدين‬ ‫ثم الفلسفة؟ لأنهما يمثلان عي شبكة الوجود الرمزية‪.‬‬ ‫فالوعي الإنساني متلازم مع كيان الإنسان الذي هو ظارف للعالم ومظروف به في آن‪ :‬الإنسان حال‬ ‫في العالم ببدنه والعالم حال في الإنسان بوعيه‪ .‬توالج لا تنفصم عراه‪.‬‬ ‫موضوع كلامي اليوم هو هذا‪ :‬ما علاقة هذا التوالج الذي لا ينفصم بنظرية الأحياز وأداتيها‬ ‫الرمزيتي أعني فعل الرمز أو العلمة ورمز الفعل أو الكلمة؟‬ ‫أبعاد التوالج والتشاجن معرفيا ووجوديا‬ ‫سنغوص في درس علاقة التوالج وفائدتها لتحريرنا من التحريف الثاني ومن ثم فهم التناظر بي‬ ‫مهمة الاستئناف الإسلامي ومهمة النشأة الاولى فلنواصل التمهيد‪.‬‬ ‫سأعكس في التمهيد مقدما التجربة الابستمولوجية على التجربة المعيشة‪ .‬فمن عجائب التجربة‬ ‫الأولى أن مؤسس الفلسفة الوضعية انتهى بعكس ما بدأ به‪.‬‬ ‫فكونت تصور أنه قد ألغى مرجعية الشبكة الدينية (الميتافيزيقا في نظرية المراحل الثلاث للفكر)‬ ‫ليعوضها بالفكر الوضعي آخرة المراحل في فلسفته وتصنيف العلوم بنظام الموضوع من الأبسط إلى‬ ‫الأعقد‪.‬‬ ‫فجمع الفصل والوصل الإبستمولوجيي والوجوديي اعتمادا على حصيلة المعرفة الوضعية ووقع في‬ ‫خطأ أنطولوجي لا مخرج منه لأن التعقيد المعرفي لا يطابق التعقيد الوجودي‪.‬‬ ‫صحيح أن الرياضيات أبسط من الفلكيات وهذه من الطبيعيات وهذه من الإحيائيات وهذه من‬ ‫الاجتماعيات (وهو ينفي النفسيات)‪ .‬لكن الوجود درجات تعقيده هي عكس ذلك تماما‪ .‬ولعل‬ ‫العلة الأساسية في اضطراره لوضع دين وضعي في الغاية ليس مجرد لقائه بامرأة وحبه الجنوني لها‬ ‫حد العبادة بل لأن نظام الشبكة الوجودية أعقد مما يفرضه التحريف الفلسفي‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪8‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فالدين الوضعي لا يحل المشكل المطروح لأنه تأليه للفلك (ما قبل ثورة إبراهيم عليه السلام)‬ ‫والعودة إلى بانتيون للعلماء وثني أي إخفاء تحريف بتحريف‪.‬‬ ‫ولنأت إلى التجربة المعيشة‪ .‬هل يدرك الناس لماذا يكون السجن الأشد هو بتضييق الزنزانة؟‬ ‫هل يدرك الناس لماذا يمرض البدوي عندما ينزل في شقة؟‬ ‫من لا يفهم هذين التجربتي المعيشتي لن يفهم العلة في كون خريجي السجون عادة ما يتحولون‬ ‫إلى وحوش‪ .‬ولن يفهم علة أن المبدع يعتبر العالم نفسه سجنا‪.‬‬ ‫ولن يفهم قول ابن سينا‪:‬‬ ‫هبطت إليك من المحل الارفع * ورقاء ذات تدلل وتمنع‪.‬‬ ‫لن يفهم الدين ولا الفلسفة ولا الفن ولا الحياة ولا التاريخ ولا أي شيء‪.‬‬ ‫ذلك هو اللغز الذي نريد الخوض فيه استئناسا بحد القرآن الكريم للإنسان والعالم ونظرية‬ ‫الأحياز واداتيها لعلاج مشكلي طبيعة الإنسان‪ :‬استعماره في الأرض واستخلافه فيها‪ .‬وأهم شيء لا‬ ‫يمكن أن يدركه من لا يتدبر التجربة المعيشة والتجربة الابستمولوجية‪ :‬أن ظاهر الوجود السلطة‬ ‫فيه للمجرمي وادواتهم من أغبياء البشر‪.‬‬ ‫والعلة البينة هي أن «استعمار الإنسان في الأرض\" ممكن من دون الاستخلاف وهو الغالب على‬ ‫تاريخ البشرية والتخلص من التحريف يكون بالتذكير بالاستخلاف وتحقيق قيمه المتجاوزة‬ ‫للاستعمار في الأرض المخلد لها‪.‬‬ ‫والنشأة الأولى للحضارة الأسلامية محاولة لتحرير البشرية من تحريف الاستخلاف بالإخلاد إلى‬ ‫الأرض دينيا فإن الاستئناف هو تحريرها منه فلسفيا‪.‬‬ ‫صنفا التلقي الديني والفني‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪9‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫والتحريران متطابقان‪ :‬فالإسلام خاتم بهذا المعنى دينه فلسفي وفلسفته دينية بمعنى أنه تربية‬ ‫وحكم يصلان استعمار الإنسان في الارض بقيم الاستخلاف‪ :‬ومن وقد سبق فأشرت إلى التعاكس بي‬ ‫المعرفي والوجودي في قضية درجات التعقيد‪ .‬كيف ذلك؟‬ ‫الفليكيات تبدو أعقد من الرياضيات معرفيا لأنها تضيف مضمونا معينا هو الظاهرات الفلكية‪.‬‬ ‫لكن الرياضيات في الحقيقة أعقد لأن الفلكيات تبدو مجرد تطبيق للرياضيات بتكييف معي‬ ‫لقوانينها إذ إن مضمونها الممكن المطلق إذا قسنا أصنافها بالتنازل المتدرج على القيود المنطقية‬ ‫وافترضنا ذلك ذاهبا إلى ما لا نهاية له‪.‬‬ ‫كلما أنقصنا القيود ازداد العموم فقربنا من مطلق الإمكان‪ .‬بهذا أمكن تجاوز هندسة اقليدس‪.‬‬ ‫ممكن العقل عند إطلاقه اعتبار تقييد العقل بمضمون قيدا‪.‬‬ ‫لو تفطن كونت لهذا لما اعتبر الوضعي معيارا كافيا لفهم شبكة الوجود ولما ظن أن الأديان‬ ‫تخريف‪ .‬فالفن والدين أوسع من العلم لتجاوزها حاصل الدنيا‪.‬‬ ‫فحتى واجب الوجود (بالمعنى الكلامي) ليس إلا ممكن الوجود المطلق‪ :‬الواجب موجود لمجرد كونه‬ ‫ممكنا بلغة كنط‪ .‬وهو واجب لأن مجرد إمكانه وجود‪ .‬ليت المتكلمي يفهمون‪.‬‬ ‫فلو فهموا هذه الحقيقة لتخلصوا من وهم إثبات واجب الوجود بإمكان العالم (حدوثه)‪ .‬فالله هو‬ ‫الممكن الذي لمجرد كونه ممكنا وغير ممتنع يوجد‪.‬‬ ‫وهذه الحقيقة هي الأساس لكل دين وفلسفة‪ :‬الخروج من مجرد الممكن الحاصل إلى الممكن الواجب‬ ‫بذاته هو الأصل في كل إبداع تلقيا وبثا‪ :‬فالتلقي والبث إبداع‪.‬‬ ‫الدين إبداع التلقي من قديم الممكن والفن ابداع التلقي من حديث الممكن‪ .‬الأول صلة بما وراء‬ ‫العالم‪ .‬والثاني صلة بما في العالم من آيات ما ورائه‪.‬‬ ‫لذلك فالفن الراقي هو أولى العبادات‪ .‬والفن الراقي غيرما نراه في ثرثرات السكارى الذين‬ ‫يعيشون بالتخدير والتبذير وخدمة كل حقير من شعراء التكدي‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪10‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫والدين والفن بما هما تلق مبدع هما صنفا الوحي‪ :‬الوحي من المقدس له والوحي من مخلوقاته‬ ‫التي تبث في كل نفس ذواقة آيات واجب الممكن المطلق‪ :‬الله‪.‬‬ ‫الشبكة التي نبحث عنها لا تتعلق بالتلقي من واجب الممكن أو الله فهذا من الغيب الذي لا يعلمه‬ ‫حتى الأنبياء لأنه سر الاصطفاء الإلهي فلا ندعيه‪.‬‬ ‫الشبكة التي بحثنا عنها وصغناها بنظرية الأحياز وأداتيها هي شبكة التلقي من الممكن الحادث‬ ‫القائم بمدد من غيره أعني شبكة آيات الآفاق والأنفس‪.‬‬ ‫والمصدر الذي نؤسس عليه هذه النظرية هو فصلت ‪ 53‬التي تقول إن معرفة حقيقة القرآن لا‬ ‫يراها الإنسان مباشرة بل يراها في ما يريه الله من آيات الآفاق والأنفس‪.‬‬ ‫والنقلة من آيات الآفاق والأنفس إلى الشبكة لفهم التحريف الفلسفي يمر بعملية تعويض الآفاق‬ ‫بالعالم موضوع علوم الطبيعة وتعويض الأنفس بالتاريخ موضوع علوم الإنسان‪ .‬لكن لا بد من‬ ‫العلوم الأدوات التي يرمز إليها القرآن بالرؤية (سنريهم)‪ :‬اللسانيات والرياضيات‪ .‬والقرآن‬ ‫يعرف الإنسان بالأولى والعالم بالثانية‪.‬‬ ‫فيكون لدينا أساسا للشبكة علوم العالم وعلوم التاريخ (موضوعا) وعلوم اللسانيات وعلوم‬ ‫الرياضيات (أدوات) والقرآن الكريم (مرجعية المعنى والغاية)‪.‬‬ ‫ذلك هو نسيج الجلي في التفسير الذي شرعت في تصنيفه في ماليزيا أو \"استراتيجية التوحيد‬ ‫القرآنية ومنطق السياسة المحمدية\" لتحقيق التحررمن التحريفي الديني أولا والفلسفي ثانيا‪.‬‬ ‫ولهذه العلة وصف التفسير بكونه قراءة فلسفية للقرآن الكريم هدفها بيان هذا الدور‬ ‫الاستراتيجي في تحقيق وحدة الكيان بمستوياته الخمسة التي وصفت في نظرية الأحياز‪.‬‬ ‫فكيف يعرف القرآن الإنسان باللسانيات ويعرف العالم بالرياضيات؟ لا يحتاج أي مسلم لدليل على‬ ‫ذلك‪ .‬فما المعرف منهما‪ :‬أهلية آدم للاستخلاف بتسمية كل شيء‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪11‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وأضاف القرآن البيان‪ :‬علمه الأسماء كلها (البقرة) وعلمه البيان (الرحمن)‪ .‬إذن الترميز‬ ‫والتواصل هما حد الإنسان في القرآن أداتيا والاستعمار في الارض والاستخلاف غائيا‪ .‬وهذا‬ ‫التعريف أبلغ وأدق من التعريف‪ :‬حيوان ناطق‪.‬‬ ‫أما تعريف العالم بالرياضيات فيعني أولا بنية التكوين والنظام ويعني ثانيا قابلية العلم بما جهز‬ ‫به الإنسان التسمية التي هي كل لسان بما فيه الرياضيات لسان الكون‪.‬‬ ‫فـ\"سنريهم آياتنا\" تعني أن للإنسان فضلا عن البصر بصيرة رياضية يرى بها الكون وذاته أي‬ ‫علوم الطبيعة وعلوم الإنسان لأنه مجهز بقدرة التسمية اللسانية والرياضية‪.‬‬ ‫وكما أسلفنا فإن اللسانيات والرياضيات وهما جوهر ما تتعي فيه الوسميات لهما خاصية العودة على‬ ‫الذات أي إنهما يقولان ما عداهما ويقولان ذاتيهما تماما كالوعي بالغير وبالذات في آن‪ .‬يمكن إذن‬ ‫أن نستخرج الشبكةمن الأداتي والأحياز بصورة تمكن من فهم بينة الموضوع الوجودي والشكل‬ ‫الإبستمولوجي للتحررمن التحريفي ماضيا ومستقبلا‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪12‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫نواصل التأملات الفلسفية (في هذا الفصل الثاني) ‪-‬وننطلق من مقدمتي‪:‬‬ ‫الأولى تذكير بشبكة مستويات التوحيد بالأحياز‪.‬‬ ‫والثانية مراحل المآل إلى تحريف الفكر الفلسفي في الغاية‪.‬‬ ‫لكننا سنقدم الثانية على الأولى فنبدأ بالمراحل قبل الشبكة بإطلاق اسم عليها يبي طبيعتها‪ :‬إنها‬ ‫مراحل الفشل المتدرج لكل \"ميتافيزيقا ممكنة\" بلغة كنط والبديل المحرف منها‪ .‬المرحلة اليونانية‬ ‫وبشيء من التبسيط الضروري يمكن القول إن هذه المراحل‪:‬‬ ‫‪ .1‬يونانية‪.‬‬ ‫‪ .2‬فعربية‪.‬‬ ‫‪ .3‬فلاتينية‪.‬‬ ‫‪ .4‬فغربية حديثة‪.‬‬ ‫‪ .5‬فغربية مابعد حديثة وهي أشبه بالعودة إلى الشرق القديم والفكر الميثلوجي‪.‬‬ ‫المرحلة اليونانية‬ ‫اي الناطقة باللسان اليوناني وليس الخاصة باليونانيي كعرق‪ -‬صاغها أفلاطون وأرسطو‪ .‬لكن‬ ‫سرعان ما اختلطت بمزيج من فكر ديني وسحري بسبب الخلط بي الفلك والتنجيم والغنوصيات‬ ‫الوهمية‪ .‬ولذلك لن نطيل الكلام عليها لأن ما يعنينا هو لقاء حضارتنا الثاني بالفلسفة في شكلها‬ ‫الغرب الأوروبي لا الأول باليونان الذي تجاوزه فكرنا تجاوزا يمكن اعتباره قد مثل مرحلة معدة‬ ‫للحداثة وحتى لعلاج مآلها ومآلها ما بعدها كما سنبي إن شاء الله‪.‬‬ ‫المرحلة العربية‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪13‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫أي الناطقة باللسان العربي وليس الخاصة بالعرب كعرق‪ -‬حاولت التخلص مما شابها‪ .‬لكن الأمر‬ ‫كما في حالة العملة المزيفة التي تغلب الحقيقية فآل أمرها إلى ما عرفه منها التصوف الفلسفي‬ ‫المعلوم وإلى الاستعمال الذي لم يتجاوز الأيديولوجيا كما عليه الأمر حاليا في علاقة حداثيينا‬ ‫بالهيجلية والماركسية شبه مواصلة للتوظيف الباطني للفلسفة القدية‪.‬‬ ‫وهذه المرحلة هي التي تعنينا خاصة من حيث دلالتها في علاقة بمسألتنا‪ .‬فنحن نعلم أن ابن خلدون‬ ‫حاول دحض العلوم الزائفة والتحريف الميتافيزيقي موضوعنا‪.‬‬ ‫وقبله حاول ابن تيمية نفس المحاولة بعمق أكبر ولكن دون تطبيق على العلوم بل بالردود على‬ ‫الكلام والتصوف والفلسفة وهو من عيوب فكره‪ :‬اسلوب خصامي يفسد عليه نسقية فكرة فيعسر‬ ‫فهمه‪.‬‬ ‫يكفينا أن نقدم عنوان النقد الخلدوني الذي هو تعبير دقيق على ما تقدم عليه عند ابن تيمية‬ ‫دون صوغ الفلسفي المفيد‪ :‬مفهوم رد الوجود إلى الإدراك‪.‬‬ ‫وهو بذلك حدد طبيعة التحريف وأرجعنا إلى بدايته الفلسفية حتى وإن كان ابن خلدون يجهلها‬ ‫لأنها لم تكن متوفرة في عصره‪ :‬شذرة بارمينيدس الخامسة‪.‬‬ ‫فالشذرة ترد الوجود إلى الإدراك بالقول إن الوجود هو النوس والنوس هو الوجود وهو قول لا‬ ‫يختلف عنه قول هيجل‪ :‬قول ما هو عقلي واقع وكل ما هو واقع عقلي‪.‬عبارة بارمينيدس ملتبسة‬ ‫أصبحت بلغة هيجل الواقع هو العقلي والعقلي هو الواقع‪ .‬وهي ملتبسة مثلها أو أكثر لأن العقل‬ ‫معنى متشابه‪ .‬أي عقل؟عقل الإنسان أم عقل مطلق مطابق للوجود؟‬ ‫لكأن مسلما قال‪ :‬الوجود هو اللوح المحفوظ واعتبر اللوح المحفوظ هو عقل الإنسان‪.‬‬ ‫ومعنى ذلك أن وهم هذا المبدأ المؤسس يظن الوجود مطلق الشفيف والعقل الإنساني مطلق النفاذ‬ ‫إلى أسراره ومن ثم فالوجود هو ما يدركه الإنسان لا غير‪ .‬بعبارة دينية هذا التصور ينفي الغيب‬ ‫في الوجود لأنه يطلق العلم الإنساني برده إياه إليه‪ .‬الأمر إذن قديم منذ شذرة بارمينيدس‬ ‫الخامسة‪ :‬وجود=عقل‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪14‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وفي ذلك تأسيس للجبروت النظري ويستنتج منه الجبروت العملي‪ :‬فمن يدعي علم الحقيقة‬ ‫بإطلاق يكون موقفه العملي وجوب فرضه على الجميع بالعنف حتما‪ .‬لم يتمكن الفكر الإسلامي من‬ ‫الخروج من هذا المأزق فانقسم إلى موقفي‪:‬‬ ‫‪ .1‬باطني يؤمن بهذه الخرافات ويلجأ إلى العنف والإرهاب لفرضها بتقية دينية وهو متعي‬ ‫حاليا في الموقف الشيعي وتمثله دولة ثيوقراطية هي إيران‪.‬‬ ‫‪ .2‬وموقف سني غبي دام إلى أن تحققت القفزة النوعية في المدرسة النقدية التي لم تعمر‬ ‫طويلا ولم يكن أثر يذكر لأنها ما حاولت بيانه لم يكون قابلا للفهم في ذلك العصر‪.‬‬ ‫فنتح عن هذا الموقف رفض الفلسفة وليس رفض شكلها المحرف لظن حقيقتها هي ما فرضه موقف‬ ‫الفكر الباطني من الحقيقة لكأننا حاليا ينبغي أن نرفض الفلسفة الحديثة بسبب فساد نكوص‬ ‫الهيجلية والماركسية‪ .‬وقد رمز ابن تيمية لتجاوز هذا الموقف الغبي بأن فسر مدلول \"من تمنطق‬ ‫فقد تزندق\" لأن حل الغزالي الذي أراد أن ينقذ المنطق كان قريب الغور‪.‬‬ ‫فهو لم يدرك الأساس الميتافيزيقي للمنطق الأرسطي أو بصورة أدق لم يتمكن من تحرير المنطق‬ ‫من الأساس الميتافيزيقي البي في التحليلات الثواني‪.‬‬ ‫فمن دون نظرية المعرفة القائلة بـ\"الحقيقة المطابقة\" يمتنع أن يكون المنطق الأرسطي معيارا‬ ‫يتجاوز نسقية الخطاب إلى اكتشاف نسيج الحقائق الوجودية‪.‬‬ ‫لذلك فالمنطق الأرسطي يفترض أن نسيج الوجود مطابق لنسقية الخطاب أو بصورة أدق يرد‬ ‫الأول إلى الثاني أي إلى الهيلومورفية أو النموذج الصناعوي البدائي‪.‬‬ ‫وعندما تترجم هذه البنية المعرفية تكتشف أنها تعود إلى \"الإنسان مقياس كل شيء\" السوفسطائي‬ ‫المعلوم‪ .‬ما فسر به ابن تيمية \"من تمنطق فقد تزندق\"‪ .‬وكم سخر سخفاء التفلسف من هذه الجملة‬ ‫ظنا أنها مجرد موقف يمكن أن يهزؤوا منه بل ويتهمونه حتى بالتكفير لفقدان البصيرة الفلسفية‬ ‫والجهل بأبعادها النظرية‪ .‬فهو قد فسرها بمعنيي‪:‬‬ ‫‪ .1‬تزندق في النظر (أي جعل الإنسان مقياس كل شيء)‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪15‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .2‬وتقرمط في العمل (اي التقية الدينية أداة سياسية)‪.‬‬ ‫لذلك ففكره أعمق فلسفيا من فكر ابن خلدون‪.‬‬ ‫المرحلة اللاتينية‪.‬‬ ‫ولنمر إلى المرحلة اللاتينية‪ .‬ماذا حدث؟‬ ‫بخلاف سخافة ما ينسب إلى ابن رشد فالنهضة الغربية انطلقت برفض الرشدية لا بتبنيها والغاية‬ ‫في هذا الرفض ما كتبه لايبنتس (وقد ترجمت نصه والترجمة نشرت في موقع حكمة)‪.‬‬ ‫والرفض كان دينيا وفلسفيا في آن‪ .‬بدأ الفكر اللاتيني فتحرر من الرشدية التي كفرها لأنها‬ ‫إسلامية ناسبي إليها نفي خلود النفس الفردية ودهرية العالم ونظرية النفس الكلية‪.‬‬ ‫ونص لايبنتز الداحض لنظرية ابن رشد في النفس الكلية ونفي خلود النفس الفردية نشرته منذ‬ ‫أكثر من عقدين في مجلة الحياة الثقافية التونسية‪.‬‬ ‫لكن ما الحيلة والموضة جعلت من يسمون أنفسهم بالرشديي العرب يضخمون الرشدية اللاتينية‬ ‫المزعومة فيدعون أن فكره هو الذي أسس للحداثة والعلمانية بمجرد فتوى حسبوها عملا فلسفيا‬ ‫خرف حوله المرحوم الجابري حتى شبع وأشبع متفلسفة عقاب الزمان‪.‬‬ ‫فمقالة \"فصل المقال\" فتوى تصف فعل التفلسف بأحكام الفعل الفقهية (بكونه على الأقل مباحا أو‬ ‫أقوى بدرجة مندوب ولم يصل إلى درجة الفرض) وليست عملا فلسفيا‪ .‬لكن من لا يميز بي‬ ‫الفلسفة والفتاوى يمكن أن يجعلها فتحا وهي فتوى مبتذلة تقيس المنطق على التذكية في الذبائح‪.‬‬ ‫وفي الحقيقة فهذا ذبح للفلسفة‪.‬‬ ‫ولا تعجب عندئذ أن ينفوا عن ابن تيمية الفلسفة بسبب فتاواه التي حجبت فتوحه الفلسفية في‬ ‫كتبه غير الفقهية وأن يسموا ابن رشد مؤسس النهضة الأوروبية بسبب فتوى فصل المقال‪ .‬النهضة‬ ‫الأوروبية في العصر اللاتيني (إلى بداية الكتابة باللغات القومية) ذات مسارين‪ :‬ديني وعلمي‪ .‬في‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪16‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الأول المؤثر الحقيقي هو الغزالي وابن سينا‪ .‬أما في المسار العلمي فالتأثير جاء من العلماء وليس‬ ‫من الفلاسفة أي من الرياضيي والفلكيي والأطباء والمهندسي‪ .‬كالكندي وابن الهيثم إلخ‪...‬‬ ‫المرحلة الغربية الحديثة‬ ‫ولنأت إلى المرحلة الرابعة المرحلة الغربية الحديثة التي بدأت بالإصلاح الديني وثنت الإصلاح‬ ‫الفلسفي وبينهما تقدم في العلم عامة وخاصة في الرياضيات وثمراتهما في المجتمع والعلوم النظرية‬ ‫والعملية‪.‬‬ ‫هنا توقف فيها بصورة شبه نهائية الإبداع الإسلامي وبدأ الغرب يتفوق علي المسلمي رغم أن‬ ‫الفكر النقدي الإسلامي تفطن منذ القرن الرابع عشر للركود الإسلامي في مجال العلوم والفلسفة‪.‬‬ ‫ابن تيمية عامة وابن خلدون خاصة (المقارنة بي عدوتي المتوسط) حاولا تشخيص الداء وتقدم‬ ‫الثاني فدرس مرض العمران والاجتماع ترجع الداء خاصة إلى فساد النظام السياسي والتربوي‬ ‫واستبدادهما‪ .‬لكن الداء استفحل ففات الفوت‪.‬‬ ‫إلى حد الآن يمكن القول إن كلامنا يدور حول تاريخ سحيق يعسر الجزم فيه بغير آراء قد تعتبر‬ ‫ذاتية ومنحازة إلى محاولة تنزيل الفكر الإسلامي فيه‪.‬‬ ‫أما الآن فسنمر إلى مرحلة ليس فيها للفكر الإسلامي دور يذكر ومن ثم فلا وجود لشبهة الذاتية‬ ‫بمعنى الانحياز الدفاعي للذات بل هي نظرة للغير ذاته‪.‬‬ ‫لا يمكن أن أحاول الانحياز لطرف دون آخر لأن المسلمي لا ناقة لهم ولاجمل في ما حصل في الفكر‬ ‫الإنساني بعد القرن ‪ 15‬ميلادي والقرن ‪ 9‬هجري‪.‬‬ ‫سقطنا في غيبوبة وسبات شتوي إلى أن أيقظنا الاستعمار الذي احتل الأرض وشرع في احتلال‬ ‫العقول والنفوس أعني حصيلته الآن في فكر النخب وسلوكها‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪17‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫بخصوص ما يعنينا في بحثنا هو نظام العالم أو العلم الرئيس \"الارشيتاكتونيك\" الفلسفية التي‬ ‫حاولت تجاوز المراحل الأربع السابقة بصوغ روح الفكر‪.‬‬ ‫مراحل العلم الرئيس‪.‬‬ ‫ولصوغ هذه الأرشيتاكتونيك خمس محاولات شهيرة آخرتها محاولة كنط التي قضت على محاولة‬ ‫ديكارت ولايبنتر وفولف وموسوعة العلوم والصناعات الشهيرة‪ .‬لن أطيل الكلام في شجرة ديكارت‬ ‫ولا في مصالحة لايبنتز بي الدين والعلم الحديث دون قطيعة بالأسلوب الديكارتي مع أرسطو سأمر‬ ‫مباشرة إلى الأخريي‪.‬‬ ‫فالموسوعة ومحاولة فولف تتميزان بالنزعة التنسيقية للحصيلة التاريخية في العلوم بمعناها الوضعي‬ ‫الحديث خاصة وفي العلوم بمعناها الفلسفي التقليدي‪.‬‬ ‫وبي أن تجاوز الحصيلة الميتافيزيقة الفولفية لن تبقي إلا على الحصيلة العلمية الموسوعية بعد‬ ‫التجاوز الكنطي رغم ترميم المثالية الألمانية بعده‪.‬‬ ‫ما يعنينا هو آخر حالة للميتافيزيقا قبل كنط‪ :‬ذلك هو أرشيتاكتونيك فولف‪ :‬الأنطولوجيات‬ ‫الأربع‪1 :‬عامة و‪ 3‬خاصة اي الثيولوجيا والكوسمولوجيا والانثروبولوجيا‪.‬‬ ‫وأربعتها هي مضمون فلسفة كنط النقدية‪:‬‬ ‫• دحض الانطولوجيا العامة‪.‬‬ ‫• ‪ 3‬دحوض خاصة للثيولوجيا والكوسمولوجيا والانثروبولوجيا في نقد العقل الخالص‪.‬‬ ‫الانقلاب الكنطي‪.‬‬ ‫وعلى هذا النقد بنيت أبستمولوجيا جديدة (نفي نظرية المطابقة ورد الوجود إلى الإدراك)‬ ‫وعليها أسست أكسيولوجيا جديدة (تأسيس الأخلاق والجماليات)‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪18‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وذلك هو مضمون النقدين الآخرين (العملي) والجمالي‪ .‬وهذا الثاني هو الذي يمكن أن نقول‬ ‫بأنه الأرشيتاكتونيك الجديد‪ :‬ملكة الحكم تصل النقدين الأولي‪.‬‬ ‫أما محاولة المثالية الألمانية للتخلص من الثنائية الكنطية بنفي \"الشيء في ذاته\" فنكصت إلى \"رد‬ ‫الوجود إلى الإدراك\" مع فشت (نظرية العلم) فشلنج (المثالية المطلقة) وبلغ هذا النكوص الذروة‬ ‫مع هيجل (فلسفة الدين والمنطق أي ميتافيزيقاه)‪.‬‬ ‫وهنا بدأ الرد الذي يمكن القول إنه يصدر عن موقف الموسوعة أي الحصيلة التاريخية الوضعية‪:‬‬ ‫بدايات تجاوز المثالية الألمانية في صنفي المعرفة‪.‬‬ ‫الزهو بالعلم الوضعي وتطبيقاته أدت إلى قيس الإنسانيات على الطبيعيات قيسا للتاريخ الحضاري‬ ‫على التاريخ الطبيعي فبدأت أرضية الفكر تربو وتهتز ببذرة ما بعد الحداثة‪.‬‬ ‫المرحلة ما بعد الحديثة‪.‬‬ ‫ما بعد الحداثة ليست إلا التعبير عن فشل هذا القيس والرد‪ :‬فشل رد علوم التاريخ الحضاري‬ ‫لعلوم التاريخ الطبيعي جعل فكر التحليل يصبح تابعا لفكر التأويل أي عكس ما كان مقصودا من‬ ‫الوضعيي‪.‬‬ ‫فلم يعد الفرق بي ذروتي العلم والفن فرقا جوهريا‪ :‬الإبداع الرياضي لا يختلف كثيرا عن‬ ‫الإبداع الأدبي والعلم الرئيس أو الميتافيزيقا سردية أدبية (كواين ورورتي)‪.‬‬ ‫ومعنى ذلك أن محاولة رد علم الطبيعة ‪ Naturwissenschaft‬إلى علم الإنسان‬ ‫‪ Geisteswissenschft‬والفهم ‪ Verstehung‬إلى التفسير ‪ Erklärung‬فشل فشلا‬ ‫ذريعا لأنه بي الحاجة إلى النقيض تماما‪.‬‬ ‫فمحاولات رد العلوم الإنسانية إلى العلوم الطبيعية فشلت وتطور النظرية الفيزيائية بما تفطنت‬ ‫إليه من نسبية الحتمية عكس الاتجاه فصار كل علم مهما كان دقيقا وصارما فيه شيء من التأويل‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪19‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫والعجيب هو أن الفيلسوف الذي ذهب إلى الغاية في رد التاريخ الحضاري إلى التاريخ‬ ‫الطبيعي(نيتشة) هو نفسه مؤسس ما بعد الحداثة ثمرة فشل رد الإنساني إلى الطبيعي من العلوم‬ ‫فشلا ذريعا‪.‬‬ ‫أعلم أن فهم هذه اللطائف يمكن أن يزعج المستريحي في موضة الفلسفة الصحفية التي لا ترى من‬ ‫تاريخ الفكر الفلسفي إلا ثرثرة الفضائيات الفرنسية أو عموميات جوجل‪ .‬والجري الصبياني وراء‬ ‫الموضة‪.‬‬ ‫فمن دون خلفية نسقية تتصف بصفات الفكر الفلسفي الذي لا يتميز إلا بميزة البناء النسقي‬ ‫والمنطقي لا معنى للاستطرادات المزعومة فيلولوجية وخاصة من اللغات الميتة (اليونانية واللاتينية‬ ‫لكأن البشرية ليس لها تعددية لسانية تناسبها تعددية تأويلية لمعاني الوجود)‪ .‬ونيتشة أسس‬ ‫الصوغ المكتمل لما بعد الحداثة بمعنيي‪:‬‬ ‫• طبيعة الفكر‪.‬‬ ‫• واسلوب الكتابة‪.‬‬ ‫وطبيعة الفكر تؤول إلى تجاوز الفرق بي العلم والفن بردهما إلى فيلولوجيا عامة ليس للرمز‬ ‫اللساني وحده بل لكل رمز أعني جوهر الإبداع الفني الذي لا يكتفي بإنتاج الرمز بل ينتج‬ ‫المرموز كذلك‪.‬‬ ‫أما الأسلوب فهو تحرير الفكر الفلسفي من مزاعم النسق العلمي الذي هو جهاز نظري وأداة بناء‬ ‫لتحديد مسالك البحث العلمي وليس وصفا لحقيقة الوجود ولا لحقيقة التعبير عنه‪ .‬ومعنى ذلك‬ ‫أني في عملي هذا اعاكس رؤية نيتشة لبيان صحتها بالطريقة النسقية الواعية بكونها أسلوب‬ ‫عرض لا يدعي أن الحقيقة يمكن أن تقال بصورة تطابقها لأن الوجود لا يرد إلى الإدراك‪.‬‬ ‫ولهذه العلة فإن ما بات يعني نيتشه ليس قول الحقيقة بل قل آليات إضفاء طابع الحقيقة على‬ ‫المبدعات الخيالية بآليات جينيالوجية وسمية (‪ .)Semiotics‬وهذا هو جوهر الإبداع الفني‪:‬‬ ‫وأساس هذه التصور ينبغي أن يؤول إلى موقف \"منظوري\" (‪ )Perspectivism‬مطلق زاوية‬ ‫النظر مثل احداثيات التصوير هي المحددة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪20‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وهذا هو جوهر ما يمكن تسميته بالعالم الافتراضي الذي لم يعد مجرد لعبة خيال بل اصبح من‬ ‫الممكنات تكنولوجيا ومن ثم بات من الواجب تأويل ذلك كله‪.‬‬ ‫مطلوبنا‪ :‬هل يمكن بشبكة مستويات الأحياز أن نفهم ما يجعل ما بعد الحداثة تتخلص من المنظورية‬ ‫المطلقة وثمرتها حرب الكل على الكل في زمن العولمة؟ وإذا كان ذلك مستحيلا فإن الاستئناف لن‬ ‫تكون له رسالة هي مضمون مشروعه ومن ثم المهمة التي يمكن أن توحد المسلمي قطبا محررا من‬ ‫مادية العولمة‪.‬‬ ‫نتوقف عند هذا الحد ونؤجل الكلام في مسألتنا الثانية التي تجيب عن هذا السؤال للفصل‬ ‫الموالي‪ .‬وستكون جزءا من الكلام على توحيد الفرد الإنساني‪.‬‬ ‫وحصيلة الفصل هي أن المرحلة الاخيرة في الارشيتاكتونيك أو العلم الرئيس لم تتخلص من رد‬ ‫الوجود إلى الإدراك حتى وإن تخلصت من حصر الإدراك في العلمي‪ .‬فأعادت البشرية إلى‬ ‫التحريف الديني مع المحافظة تعميق التحريف الفلسفي‪:‬‬ ‫• فالثاني عاد إلى الميثولوجيا‪.‬‬ ‫• والأول عاد إلى عنصرية خرافات الشعب المختار (المسيحية الصهيونية مثلا)‪.‬‬ ‫ومعنى ذلك أن فلسفة نيتشه لم تكن ما كانت بالصدفة بل إن هي كما وصفها صاحبها مجرد قلب‬ ‫لسلم القيم الأفلاطوني في صورته الشعبية أو المسيحية‪.‬‬ ‫بمعنى مبسط ما كان عالم مثل يفسر عالم النسخ قلب نيتشة وظيفة التفسير فيهما فصار كلا‬ ‫العالمي ترجمانا على انفجار حيوي في تاريخ الإنسان الطبيعي‪.‬‬ ‫النيتشوية داروينية مطلقة‪ .‬لكنها ليست عضوية فحسب بل عضوية ورمزية حتى يصبح التاريخ‬ ‫الحضاري هو نفسه جزءا من قانون التكيف وصراع الانتخاب الطبيعي‪ :‬جوهر العولمة‪.‬‬ ‫الآن تبينت الأرضية النظرية في إطار ما سميناه بالتحريف الفلسفي الذي يطلق قانون التاريخ‬ ‫الطبيعي ويجعل صدف صراع الانتخاب الطبيعي قانون الوجود‪ .‬فجوهر العولمة ليس إلا التحقق‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪21‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الفعلي في مجالات الوجود الإنساني المعبر عن الإرادة والعقل والقدرة والحياة والوجود بقانون‬ ‫الانتخاب الطبيعي‪.‬‬ ‫ليس صحيحا أن الانتخابات الديموقراطية تعبير حر عن إرادة الجماعة‪ .‬وليس صحيحا أن الإعلام‬ ‫تعبير عن حرية الفكر‪ .‬وليس صحيحا أن السوق تعبير عن حرية المبادرة‪ .‬وليس صحيحا أن‬ ‫الإبداع تعبير عن حرية الذوق‪ .‬وأخيرا ليس صحيحا أن رؤى العالم والوجود تعبير عن حرية‬ ‫الإنسان الخلقية والروحية‪.‬‬ ‫هل هذا تحامل أم وصف موضوعي؟ كلا‪ .‬هو ملاحظة موضوعية لما يجري‪ :‬في الأول انظر‬ ‫الانتخابات الأمريكية‪ .‬في الثاني انظر الإعلام في العالم‪ .‬في الثالث أنظر الاحتكارات‪ .‬في الرابع‬ ‫انظر مفاعيل هوليوود‪ .‬في الأخير يكفي ما يجري من حرب لفرض صورة للإسلام يريدها الغرب‬ ‫لتكون خاضعة لرؤاه عن العالم والوجود‪ .‬من ينكر هذه الحقائق؟‬ ‫والسر أنها جميعا صارت خاضعة لهذا الأخير ولاستتباعه للأولي والأخيرين‪ :‬فصاحب رمز الفعل‬ ‫(العملة) يسيطر على صاحب فعل الرمز (الكلمة) وبهما تتم السيطرة على ممثل الإرادة والعقل‬ ‫والحياة والوجود‪.‬‬ ‫وهذا هو ما أطلقت عليه دين \"العجل الذهبي\" الذي يسيطر على رمز الفعل (المال ممثلا بالعملة)‬ ‫وفعل الرمز (الخيال ممثلا بالكلمة)‪ :‬وذلك هو الاستبداد والفساد ما ظهر منهما وما بطن‪.‬‬ ‫وما كنت لأكتب حرفا في المسألة لو لم تكن كل الخدع الخمس هي جوهر العولمة ما بعد الحداثية‬ ‫التي يتغزل بها سطحيو النخب التي أخلدت إلى الأرض فاستكلبت بالمعنيي‪ .‬المعنى القرآني في‬ ‫علاقة بمفعول الحمل على الكلاب وعدمه والمعنى الفلسفي بمعنى السينيزم أو النزعة الكلبية التي‬ ‫تخلط بي قلة الحياء والجرأة الفكرية‪.‬‬ ‫وكان يمكن أن اقبل وضع \"الصم البكم العمي الذين لا يعقلون\" لو لم يصم آذاني أدعياء التفلسف‬ ‫إما بالمزايدة على عصور الانحطاط أو على ما بعد الحداثة‪ .‬وهما يلتقيان‪ :‬فالنكوص إلى تصوف‬ ‫وحدة الوجود في شكله الشعبي والتجاوز المزعوم إلى ما بعد الحداثة في شكلها العامي كلاهما في‬ ‫الحقيقة من مبتذلات القول بقانون التاريخ الطبيعي‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪22‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫قبل مواصلة الكلام على التحريفي لا بد من بيان علة النكوص الهيجلي إلى القول‬ ‫بنظرية المطابقة بعد تخلص المثالية الألمانية من ثمرة النقد الكنطي الأساسية‪ .‬فهذا النكوص‬ ‫هو غاية التحريف الأعم الذي أفسد الفلسفة والدين في آن ذلك أن عودة إلى ما حاول‬ ‫كنط في غاية الحداثة تحريرهما منه‪ :‬القول بنظرية المعرفة في العلم والقيمة في العمل‬ ‫المطابقتي‪.‬‬ ‫فنفي المطابقتي الكنطيتي هو ثمرة الفصل بي الفينومان أو ما يظهر للإنسان من‬ ‫الأشياء والنومان أو الأشياء في ذاتها واعتراف بنسبية العمل والعمل الإنسانيي اللذين لا‬ ‫يمكن أن يرد إليهما الموجود والمنشود‪ .‬وهو ما يعني أن حقائق الأشياء وقيمها ليست في‬ ‫متناول الإنسان بتجاوز الإضافة إليه‪ .‬لكن إدراك ذلك يعني أنه بالوسع التفكير في ما‬ ‫يتجاوز العلم والعمل دون القدرة على علمه وعمله‪ :‬وذلك هو جوهر الافق الديني‬ ‫والفلسفي وشرط الحرية والإبداع‪ .‬ورمز ذلك هو المقصود بالشيء في ذاته‪.‬‬ ‫فيكون للإنسان مفهوم حد ‪-‬يشبه مفهوم الغيب الديني‪-‬يجعله يعتقد أن الوجود لا يرد‬ ‫إلى الإدراك كما قال ابن خلدون‪ .‬وإدراك ذلك يعني أن الإدراك يدرك محدوديته‬ ‫فيدرك في آن امكان وجود إدراك لا محدود للوجود كما هو في ذاته لكنه غير إنساني‪.‬‬ ‫وذلك هو الأفق المحرر من الإخلاد إلى الأرض‪ .‬ومن ثم فعلمنا وعملنا رغم محدوديتهما‬ ‫وعدم تجاوزهما الذاتية الإنسانية يبقيان مفتوحي على أفق متعال فيحرر الإنسان من‬ ‫الانحباس في المتناهي‪.‬‬ ‫وهذا المعنى الناتج عن نفي القول بالمطابقتي المعرفية والقيمية هو الذي تقدم ابن‬ ‫تيمية فأول دلالته الفلسفية فأسس للقطع مع علة القول بالمطابقة التي كانت أساس الفلسفة‬ ‫القديمة والوسيطة‪ .‬فقد بي أن المعاني الكلية سواء اعتبرت مثلا مفارقة بالمعنى‬ ‫الأفلاطوني أو صورا محايثة بالمعنى الأرسطي ليست مقومة للأشياء التي ندركها بحواسنا‬ ‫خارجنا ونعلن قوانينها وقيمها بعقولنا مقدرات ذهنية ورموز نشير بها إليها بعد أن اخترنا‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪23‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫بعض أعراضها فجعلناها دالة عليها وهي لا تختلف عن الفاظ اللغة ورسوم الكتابة وليست‬ ‫مقومة للأشياء التي نشير بها إليها بدليل أمرين‪:‬‬ ‫• الأول هو كونها وسيلة لتصنيف الأشياء بما تشترك فيه بالقياس إلى هذه الرموز‬ ‫المحددة لها دون أن تكون مقومة لها بل هي أسماء متغيرة من ثقافة إلى ثقافة ومن لغة‬ ‫إلى لغة ومن نظام تصنيف إلى نظام تصنيف آخر حتى في نفس الثقافة بدليل تطور رؤية‬ ‫الأشياء بحسب تطور ما نختاره من أعراضها لتسميتها‪.‬‬ ‫• الثاني وهو الأهم هو كونها متغيرة بتغير معرفتنا بأعراض أخرى أهم في التصنيف ما‬ ‫يجعل هذه الحدود ليست إلا رموز لما نتصوره حقائق الأشياء وماهياتها لكنها لا يمكن أن‬ ‫تكون في آن حقائقها ومتغيرة لأن التغير هو في الأسماء وليس في المسميات‪.‬‬ ‫لذلك فهيجل يعتبر الماهيات صيرورة عروض أعراضها التي تتجلى فيها وأنه لا شيء‬ ‫وراء ظهور الأعراض مثلما أنه لا شيء وراء فعل الطاقة غير فعلها بحيث إن مجرى الفعل‬ ‫الطاقي ليس له حقيقة وراءه هي التي توحده ليكون هو هو أصلا ثابتا لعروض أعراضه‪.‬‬ ‫وهو بهذه الرؤية يؤسس الانتقال من القضية الحملية بالمعنى الأرسطي إلى القضية التأملية‬ ‫بالمعنى الهيجلي‪.‬‬ ‫وفي ذلك رد الوجود لإدراكه أو لما ندركه من أعراض الكائنات وخلط بي صيرورة ما‬ ‫اخترناه من أعراضها للكلام عليها وصيرورة حقيقتها التي هي عي عروضها‪ .‬فلكأنه تصور‬ ‫أن استعمال الإنسان لنظرية المجموعات مثلا إذ يقابل بي مجموعة جزئية اختارها معتبرا‬ ‫بقية المجموعة المرجعية مكملة لها بمقتضى نظرية المجموعات دالا على أن كلامه مطابق‬ ‫لحقيقة الأشياء التي طبق عليها هذا التعبير بنظرية المجموعات وليس مقصورا على نظام‬ ‫تصنيفها في المجموعة أداة للتعبير من جنس الأدوات اللسانية والرسوم الكتابية بلغة ابن‬ ‫تيمية‪.‬‬ ‫فما نجريه من عمل على الرموز من حيث هي بنية مجردة دون تعيي يجري بمقتضى‬ ‫قانون الرموز ولا شيء يثبت أنه مطابق لقانون الأشياء التي نطبقه عليها حتى لو بدا‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪24‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫مطابقا لحي‪ .‬فقانون الأشياء التي نرمز إليها بعمليتنا على الرموز سواء كانت هذه الرموز‬ ‫مجردة كما في الرياضيات والمنطق أو في التجربة يبقى غاية لا يدرك بدليل تقدمنا في ما‬ ‫نعبر به على ما نفترضه مؤقتا‪.‬‬ ‫وإذا قلنا بنظرية المعرفة المطابقة أي إذا نفينا ما اضطر إليه كنط في فلسفته النقدية‬ ‫من تمييز بي الظاهرات الخاضعة لنظام الضرورة الطبيعية وقانون التجربة الممكنة‬ ‫والمعقولات أو النومان التي لا شيء يثبتها خضوعها لها وقعنا في الخلط الهيجلي والماركسي‬ ‫وهو نكوص إلى الخلط الأفلاطوني والارسطي بي علمياتنا على الرموز وما يجري فعلا في‬ ‫الأشياء التي نرمز إليها بها‪ :‬وهذا هو القصد بالذاتية المطلقة للمعرفة الإنسانية في الرؤية‬ ‫الكنطية‪.‬‬ ‫ودليل سطحية هذه النظرية الماركسية التي تبنت الرؤية الهيجلية القائلة بالمطابقتي‬ ‫المعرفية والقيمة الذهاب بها إلى الغاية في جعل ذلك مردودا إلى رؤية مادية خالصة الغفلة‬ ‫عن كون المعرفة والقيمة ومنجزاتهما من البعد الرمزي‪ .‬وهم بذلك يدحضون أساس‬ ‫فكرهم مباشرة بمجرد وضعهما في القاعدة الأساسية بلغتهم جزاء منها وليس أصلا لها‪.‬‬ ‫والعلوم والقيم مثلا منتج رمزي مثلهما مثل منجزاتهما أو تطبيقاتهما وهما إذن جزء من‬ ‫البنية الفوقية ‪-‬بلغتهم مرة أخرى‪-‬التي يحاولون ردها إلى البنية التحتية تفسيرا لها بها‬ ‫أو بتاريخ العامل الاقتصادي في تغيير الفكر ورؤى العالم‪.‬‬ ‫لم يدركوا مثلا أن القيمة الاقتصادية والاقتصاد اللذين يفسران بهما تاريخ المجتمعات‬ ‫محاطان بالرمزي بداية وغاية وتوسطا بي البداية والغاية لأن علتهما الفاعلة هي الرمز‬ ‫العلمي وعلتهما الغائية هي الرمز الذوقي‪ .‬وما يبدو ماديا في الاقتصاد هو أدواته وليس‬ ‫ذاته وهي ليسا أدوات من حيث هي مادية بل من حيث ما فيها من أثر العلم بداية والذوق‬ ‫غاية إنها هي بدورها رمزية لأن دورها يأتي من كونها تطبيقا للعلم بداية وتحقيقا للذوق‬ ‫غاية‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪25‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لكن الأكثر دلالة على السطحية هو ظن الاقتصاد متعلقا ببعد مادي في الجوهر لكأن سد‬ ‫الحاجات المادية مادي‪ .‬فلا يرون أن القيمة بمعنييها الاقتصاديي مرتهنة بالقيمة الرمزية‬ ‫بمعنييها‪ .‬فالفرق بي قيمة الاستعمال وقيمة التبادل الاقتصاديتي لا معنى له لو لم يكن‬ ‫التبادل والاستعمال متصلي بقيم ثقافية معينة‪ :‬البدوي لن يشتري لوحات بيكاسو بمليم‬ ‫واحد لأنها لا تعني له شيئا‪.‬‬ ‫ولو صح فكر الماركسية البدائية لما كان للدعاية التسويقية وحاجة التسويق ‪-‬الماركتينج‪-‬‬ ‫للتكيف مع ثقافة الشعوب التي يستهدفها المنتج لأن أي بضاعة أو خدمة ذات معنى‪.‬‬ ‫فالبضاعة أو الخدمة قيمتهما ثقافية قبل أن تكون مادية لأن مطلوببيتها تحددها الثقافة‬ ‫والتقاليد حتما وخاصة ما كان منها ذا صلة بالذوق‪.‬‬ ‫وآخرة الحجج وأقواها هي دور علم النفس في سلوك الفواعل الاقتصادية (طلبا وعرضا‬ ‫واستثمارا وخاصة تمويلا للاستثمار)‪ .‬فيمكن لخبر أو دعاية أو تخوف أن يقلب الكثير من‬ ‫التوقعات فيصيب سوقا بأزمة كبيرة والأهم ما يلي‪.‬‬ ‫فعلم الاقتصاد نفسه ما كان ليوجد لو لم يكن مبنيا على مفهوم لا شيء يثبته موضوعيا‬ ‫إلا عندما يحصل بالقصد خاصة أو في الأزمات الحادة كالحروب أو الجائحات الطبيعية‪:‬‬ ‫مفهوم \"الندرة\" الذي يفعل في الحقيقة بوصفه مفهوم \"الخوف من الندرة\" المتوقعة أكثر مما‬ ‫يفعل بوصفه الندرة الفعلية‪ .‬وذلك هو اساس دور الاحتكار في الاقتصاد‪ .‬فالخوف من‬ ‫الندرة يؤدي إلى التخزين حتى من دون قصد الاحتكار‪.‬‬ ‫والتخزين يحدث الندرة خاصة إذا صار احتكارا‪ .‬والندرة ترفع السعر‪ .‬ورفع السعر‬ ‫بالندرة مفهوم أداة تجارية أساسها الاحتكار وسيلة للربح السريع‪.‬‬ ‫والاحتكار بهذا المعنى هو الربا غير المعتمد على العملة رغم كونها في الغاية هي هدفه‬ ‫لأنه رفع اصطناعي في الأسعار بالتدخل في العرض للزيادة في الطلب بعامل الخوف من‬ ‫الندرة التي يخلقها الاحتكار‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪26‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫والعملة هي أهم وسيلة لاحتكار الثروة في شكل رمزي‪ .‬وبه تكون البنوك أو أصحابها‬ ‫ربويي بالضرورة لأن العملة هي الكلي في تبادل البضائع والخدمات مثل الكلمة في تبادل‬ ‫المعاني والدلالات لأنه يكثفها رمزيا فيمكن من رفع الأسعار ومن تخفيضها بالتحكم في‬ ‫السيولة المالية والنقدية مع خاصية الكلية أي القابلية للتبادل المطلق بخلاف المقايضة‪.‬‬ ‫فهذه الرموز مؤثرة وفاعلة أكثر مما يتصوره الماركسيون الفاعل الأساسي وذلك لسطحية‬ ‫فهمهم‪ .‬وسواء آمنا بأن الدين من الله أو من أساطير الأولي‪-‬وهو من أكثر الرمزي تأثيرا‪-‬‬ ‫فإن الكلام على التأثير في التاريخي يجعل الرمزي المعبر عن النفسي دوره أكبر من المادي‬ ‫المعبر عن العضوي في كيان الإنسان وفي تاريخ الأمم‪.‬‬ ‫وكل ذلك ليس ماديا وهو بمصطلحهم من حيل البنية الفوقية لكنه مقوم جوهري في كل‬ ‫اقتصاد حقيقي ولا دخل فيه للتحيل أو للإرادة الإنسانية التي تظن مطلقة الحرية‪.‬‬ ‫وبذلك فنحن نبي أن ماركس لم يجعل هيجل يمشي على رجليه بعد أن مقلوبا بل هو الذي‬ ‫قلبه لأنه لم يفهمه‪.‬‬ ‫لا يعني ذلك أني أقول بما يقول به هيجل لكني لكن رفض فلسفته لا يعني أنه مخطئ‬ ‫في كل شيء‪.‬‬ ‫ومنذ شبابي لم أتوقف عن مصارعة فلسفة هيجل لأبي أن ما يقوله حتى وإن كان أقرب‬ ‫إلى الحقيقة من الماركسية في ما يتعلق بدور الرمزي فهو ليس الحقيقة على الأقل كما أفهمها‬ ‫فلسفيا ودينيا ولهما نفس المعنى ‪-‬وهو ما يقول به هيجل من حيث كونهما طلبا للحقيقة‪-‬‬ ‫حتى وإن اختلفت أساليب العبارة عنهما‪ .‬وها أنا قد أتممت توضيح ما اقصده بالنكوص‬ ‫الهيجلي والماركسي والخطأ الذي أسس للقول بالتثليث الجدلي الذي يتناقض تماما مع قانون‬ ‫الإفادة الرمزية التي لا تتمثل في التقابل بي حدين تقابل التناقض بل هي تتأسس على‬ ‫التناظر بي النظام البنيوي للنظام الرمزي الدال والنظام الرمزي المدلول لأن الإفادة‬ ‫الرمزية هي التناظر بي موقع الرمز في منظومتة وموقع المرموز في منظومته‪ .‬وتكون‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪27‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫المنظومة المرموزة في صيرورة دائمة بالتضايف مع المنظومة الرامزة وتلك هي آلية عمل أي‬ ‫علم سواء كان طبيعيا أو إنسانيا‪ :‬ذلك أن عناصر المنظومة المرموزة هي قيم للمنظومة‬ ‫الرامزة في نسبة القيم إلى المتغيرات‪.‬‬ ‫*********‬ ‫ولأعد الآن إلى قضيتي‪ .‬كان سؤالنا الثاني المؤجل في الفصل السابق حول طبيعة شبكة‬ ‫الأحياز وطبيعة توالج مستوياتها وتشاجن علاقاتها‪ .‬وذلك هو موضوع هذا الفصل الثالث‬ ‫من التأملات‪ .‬فالأحياز هي‪:‬‬ ‫‪ .1‬المكان‬ ‫‪ .2‬وثمرته خلال الزمان باعتباره مصدر الثروة‪.‬‬ ‫‪ .3‬والزمان‬ ‫‪ .4‬وثمرته باعتباره مصدر التراث‬ ‫‪ .5‬والمرجعية التي توحد رؤية الجماعة رؤيتها المحيطة بهذه العناصر الأربعة التي‬ ‫هي واحدة بالجنس في كل حضارة ومختلفة بالنوع بالخصوصيات الحضارية‪.‬‬ ‫ومستويات تعينها تكون في الفرد وفي الجماعة وفي الإنسانية وفي العالم وفي ما وراء ذلك‬ ‫سواء نسبناه إلى اللـه أو ما يعتقده غير المسلمي قائما بدور الله أعني الماوراء المطلق‬ ‫للطبيعة والتاريخ والإنسان فردا وجماعة وجنسا بشريا‪ .‬وبداية التشاجن في وعي الفرد‬ ‫الإنساني هي تناظر التوحيد والتلازم بي الأول والأخير أي بي الفرد الإنساني والله أو‬ ‫من يؤدي دوره في غير الإسلام‪.‬‬ ‫ولا أدعي أن ما في وعي الإنسان هو الحقيقة‪ .‬لكنه حقيقة إضافية إلى الإنسان‪ .‬ويلي‬ ‫التناظر الأول تناظر ثان هو تناظر التوحيد والتلازم بي الثاني والرابع أي بي الجماعة‬ ‫والعالم الطبيعي وا لتاريخي‪ .‬فكل جماعة تمثل عالما متحدا في وعي أفرادها وتمثل أحيازها‬ ‫أبعاضا من الأحياز متصلة بالعالم الطبيعي والتاريخي الذي يتجاوز الجماعات إلى الكون‬ ‫المحيط بالإنسان من حيث هو إنسان‪ .‬فالحضارات متوارثة دائما ولا توجد حضارة خالية‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪28‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫من أثر من تقدم عليها ويساوقها ومؤثرة في ما يليها ويساوقها (وهو البعد الذي أضافه‬ ‫الفكر الإسلامي لنظرية التاريخ والانثروبولوجيا بدأ بالفارابي وختما بابن خلدون لكن‬ ‫الاصل هو في العرض النقدي للأديان والحضارات في القرآن)‪.‬‬ ‫ويبقى قلب المعادلة أي الوسط الذي فوقه مستوى العالم ومستوى الله أو ما يؤدي وظيفته‬ ‫في غير الإسلام ودونه مستوى الجماعة ومستوى الفرد‪ .‬إنه \"الإنسانية\" التي تصل بي‬ ‫الجناحي ما فوقها وما دونها‪.‬‬ ‫فالإنسانية هي لغز الوجود الأشد تعقيدا لأن ما عداها ‪-‬المستويات الأخرى‪-‬قد يعتبر‬ ‫مما أبدعته من حلول لألغاز الوجود فلا تكون إلا توابع مبدعاتها بوصفها شروط وجود‬ ‫الإنسانية أو باعتبار الإنسانية أحد عروضها الممكنة‪.‬‬ ‫ولهذه العلة ناوست رؤى العالم في كل الحضارات بي حدين اقصيي بي نوعي من وحدة‬ ‫الوجود‪:‬‬ ‫‪ .1‬الأولى هي الوحدة المطلقة التي تعتبر ما عدا الإنسان من أوهامه ومن صنع خياله‬ ‫(ابن خلدون شفاء السائل وفصل التصوف من المقدمة)‪.‬‬ ‫‪ .2‬الثانية عكسها تماما حدا مقابلا يعتبر الوجود شلالا ماديا خالصا ل ايتوقف خاضعا‬ ‫لسلسلة من العلل اللامتناهية والإنسان ظاهرة تافهة فيه وليس دولة في الدولة‪.‬‬ ‫ولعل أفضل تمثيل هو نظرية التطور وأصل الإنسان ككل حيوان دون أدنى امتياز (أصله‬ ‫قرد)‪ .‬وهذه المراوحة بي التعالي إلى حد التأله والتسفل إلى حد التذرر يمثلان قطبي‬ ‫شبيهي بحركة التنفس زفيرا وشهيقا يصعب ألا يعيشهما كل من غاص في نفسه‪ .‬الفضل‬ ‫لابن خلدون‪.‬‬ ‫سأبدأ البحث في التوالج والتشاجن في الفرد الإنساني عي ونموذج من الإنسانية‪ .‬فحياة‬ ‫الفرد الروحية إن وجدت هي الإبداع المتواصل لفهم لغز الإنسانية هذا‪ .‬ومن لم يعش‬ ‫جحيم هذا الشلال الفوار فهو في سبات‪ .‬وللأمانة العلمية فإن المراوحة بي التأله والعبودية‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪29‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫باعتبارها دالة على جوهر الإنسان من حيث هو \"رئيس بالطبع\" نظرية أول من وضعها‬ ‫وحاول شرحها ابن خلدون في المقدمة‪.‬‬ ‫وهو قد وضعها ليفسر بها ظاهرة الاستبداد والثورة على العبودية وسقوط الحضارات‬ ‫وصعودها‪ :‬إنها انثروبولجيا فلسفية تنطلق مما يعتبره ابن خلدون حقيقة الإنسان‪ .‬ففي‬ ‫فصل‪\" :‬في أن الأمة إذا غلبت وصارت في ملك غيرها أسرع إليها الفناء\" من باب المقدمة‬ ‫الثالث يقدم ابن خلدون نظريتي‪:‬‬ ‫‪ .1‬ثقافية سياسية‪.‬‬ ‫‪ .2‬وانثروبولوجية فلسفية‪.‬‬ ‫فيقول في الانثروبولوجية الفلسفية‪ \":‬وفيه والله أعلم سر آخر وهو أن الإنسان رئيس‬ ‫بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له‪ .‬والرئيس إذا غلب على رئاسته وكبح عن غاية‬ ‫عزه تكاسل حتى عن شبع بطنه وري كبده‪ .‬وهذا موجود في أخلاق الأناسي‪ .‬ولقد يقال‬ ‫مثله في الحيوانات المفترسة وإنها لا تسافد إذا كانت في ملكة الآدميي (=الإنسان يشارك‬ ‫الحيوان المفترس في هذا الخلق)‪ .‬فلا يزال هذا القبيل المملوك عليه أمره في تناقص‬ ‫واضمحلال إلى أن يأخذهم الفناء‪ .‬والبقاء لله وحده‪ .‬واعتبر ذلك في أمة الفرس ‪....‬‬ ‫وقد أحصى سعد منهم في ما وراء النهر ‪( 137000‬بعد هزيمتهم) منهم ‪ 37000‬رب بيت‪ .‬ولما‬ ‫تحصلوا في ملكة العرب وقبضة القهر لم يكن بقاؤهم إلا قليلا ودثروا كأن لم يكونوا\"‪.‬‬ ‫ويمكن أن نضرب مثال اليوم بالهنود الحمر في أمريكا الشمالية‪ .‬كانت امبراطوريات‬ ‫وشعوب فلم يبق منها إلا بعض الجماعات زهيدة العدد‪ .‬فكيف نفهم؟‬ ‫لهذه الظاهرة وضع ابن خلدون ما سماه بـ\"خلق التأله\" الذي هو نقيض ما وصف عند‬ ‫الخانعي والولعي بمحاكاة الغالب أو الذين ينقرضون كما وصف الصراع التاريخي‪.‬‬ ‫خلق التأله‪\" :‬فصل في أن من طبيعة الملك الانفراد بالمجد\" يقول‪\" :‬فمن الطبيعة الحيوانية‬ ‫خلق الكبر والأنفة‪ .....‬ويجيء خلق التأله الذي في طباع البشر مع ما تقتضيه السياسة‬ ‫من انفراد الحاكم لفساد الكل باختلاف الحاكم \"ولو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا\"‪ .‬وهذا‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪30‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ما يهمله شراح ابن خلدون وهذا هو بيت القصيد في تناظر العلاقة بالأحياز المقصود بي‬ ‫الفرد الإنساني والله‪ .‬وقبل أن أواصل تحليل هذا التوالج والتشاجن فلابد من ملاحظتي‬ ‫أساسيتي في قراءة فكر ابن خلدون‪.‬‬ ‫• فأولا أهم ثورات ابن خلدون يهملها أدعياء التفلسف من العرب لأنهم يبحثون عن‬ ‫غيره فيه‪ .‬لذلك فما يعنيهم ليس فكر ابن خلدون بل إما ما فيه من فكر ماركس أو من فكر‬ ‫أوغست كونت ثورته الفلسفية التي هي أهم من نسبة المادية التاريخية أو علم الاجتماع‬ ‫إليه لا تعنيهم‪.‬‬ ‫• وثانيا أن ذلك لم يكن صدفة بل له تعليلان‪ :‬التعليل الأول هو الجهل بأهم خاصية في‬ ‫الفلسفة اليونانية ما يحول دون التفطن للجديد بالقياس إليها في فلسفة النظر (ابن تيمية)‬ ‫وفي فلسفة العمل (ابن خلدون)‪.‬‬ ‫والتعليل الثاني هو الجهل بالفلسفة الغربية الحديثة‪ .‬فمن يبحث عن السبق على ما‬ ‫يجهل ما به يمكن أن يقع السبق يتوهم سبقا كاذبا فيغالط نفسه ويعزيها‪ .‬فأما ما به تجاوز‬ ‫ابن خلدون الفلسفة اليونانية فهو ما ذكره في بداية المقدمة وفي غايتها‪ :‬لا يصبح التاريخ‬ ‫علميا إلا إذا اصبحت الفلسفة تاريخية (فاتحة المقدمة)‪.‬‬ ‫والفلسفة لا تصبح تاريخية إلا إذا تخلصت من مبدئي تأسست عليهما الفلسفة اليونانية‬ ‫وخاصة عند أرسطو (في باب المقدمة الأخير)‪:‬‬ ‫• الكلي المعلوم ليس حصيلة تاريخية‪.‬‬ ‫• والتاريخ ليس علما (ارسطو كتاب الشعر)‪.‬‬ ‫لذلك فالتاريخ لا يوجد في جدول العلوم اليونانية‪-‬وهذا لا يعني أن اليونان ليس لهم‬ ‫مؤرخون عظام‪-‬بل أن الفلسفة لا تعتبر ذلك علما بل مجرد فن وصناعة تدرس الجزئي‬ ‫الذي هو ليس موضوع علم‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪31‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وإذن فثورة ابن خلدون تعني إعادة تعريف الفلسفة بصورة تجعلها تاريخية بتاريخية‬ ‫المعلوم وذلك بي من خلال تعريفه علوم العقل ودحضه للميتافيزيقا في الباب السادس‬ ‫والأخير من المقدمة‪.‬‬ ‫**********‬ ‫نعود إلى موضوعنا‪ :‬ابن خلدون يفسر تاريخ البشرية كله وعلاقة الحرية بالعبودية‬ ‫وعلاقة بقاء الحضارات والشعوب وفنائها بخاصيات انثروبولوجية إنسانية تبي ما في‬ ‫الإنسان من \"خلق التأله\" ونقيضه عند الخضوع للعبودية ونتائجهما‪.‬‬ ‫والنتائج تحصل بتوسط الوجود في الأحياز وبصورة أدق بفنيات تنظيم الوجود في الأحياز‬ ‫أي النظام التربوي والنظام السياسي أساسي الحضارة والثقافة‪ .‬لكن الملاحظ هو أن ابن‬ ‫خلدون لم يكتف بالانثروبولوجيا الفلسفية بل وصلها بتصور ديني لأنه يعتبر ذلك من‬ ‫علامات \"الاستخلاف الذي خلق الإنسان له\"‪ .‬وهذه الملاحظة لا ينبغي فهمها فهم المتخلفي‬ ‫ممن يتصورون الدين من أساطير الأولي‪ .‬ولو كانوا يفهمون لأدركوا أن ذلك لا يلغي‬ ‫أهمية دوره حتى لو كان من اساطير الأولي‪.‬‬ ‫إن كلامنا على نتائج إهمال الأحياز ودور شبكتها قد يجعل المتعجل يتوهم أننا خرجنا عن‬ ‫الموضوع وصرنا نتكلم في دور ابن خلدون وهيجل وماركس ولا نرى العلاقة بموضوع البحث‪:‬‬ ‫التوالج والتشاجن بي الأحياز‪.‬‬ ‫وفي الحقيقة فكل ما قلناه هو لبيان نتائج عدم الاهتمام بهذا التوالج والتشاجن في قراءة‬ ‫فلسفتنا والفلسفة الغربية من قبل \"مفكرين تسكرهم زبيبة\"‪.‬‬ ‫فمن دوافع إقدامي على هذه المحاولة هذا النوع من الفكر العجول الذي أضاف إلى ما‬ ‫نعانيه من انحطاط ذاتي لوث رد الفعل بالبحث عن الغير فيه‪.‬‬ ‫والغريب أن النوعي يمثلان نفس التلوث وإن باسمي متقابلي تماما‪:‬‬ ‫• نقد التراث‪.‬‬ ‫• وإحياء التراث‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪32‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فكلاهما يمسخه بما لا يراه فيه أو بما يخيل إليه فيه‪.‬‬ ‫وأذكر أن أول نص ترجمته لنيتشه في سبعينات القرن الماضي نظرية وظائف التاريخ‬ ‫الثلاث‪ :‬المتحفي والمعلمي والنقدي وهو يفيها حقها بالعدل ولا يبخس أيا منها‪.‬‬ ‫وكلما قرأت لقراء التاريخ بالبتر أو بالتضخيم تذكرت قولة هيجل تعريضا بشلنج في‬ ‫فاتحة ظاهراتية الروح‪\" :‬كل الأبقار تصبح دكناء عند غروب الشمس\"‪.‬‬ ‫فغروب الشمس يحول دون نفاذ الحكم إدراكا للفروق الحاسمة‪ :‬فعبارة ابن خلدون‬ ‫\"للاستخلاف الذي خلق له\" لا يمكن تفسيرها بالتقية لنسبة المادية الجدلية له في حي أنها‬ ‫تتنافى تماما مع ما ينفيه بالقصد الصريح أعني القول بنظرية المعرفة المطابقة أي برد‬ ‫الوجود إلى الإدراك‪.‬‬ ‫التلوث الناتج عن العقد الانثروبولوجيا الخلدونية فلسفية دينية في آن دون شك وليست‬ ‫تقية كما يزعم البعض عندما يفسرون كثرة الشواهد القرآنية حيلة لتمرير ماديته‬ ‫الجدلية المزعومة‪ .‬وهذا هو ما سميته التلوث الناتج عن رد فعل المهزوم الذي يقيم ذاته‬ ‫بما يتصور أنه ممكنه من الندية مع غيره بشرط أن تكون ذات قيمة عند غيره‪.‬‬ ‫فهذا من \"آليات الدفاع النفسي\" التي تثبت الهزيمة ولا تخلص منها لأنك تصل إلى الموقف‬ ‫التالي‪ :‬لن ترى قيمة في تراثك إلا ما يعتبره غيرك قيمة‪.‬‬ ‫والنتيجة أنك تشرع في تهديم الباقي فتكون أنت معول تهديم ذاتك بمعيار حدده‬ ‫عدوك‪ :‬وأفضل دليل هو ما يتصوره العلمانيون والليبراليون العرب فكرا‪.‬‬ ‫والكاريكاتور التام من هذا النوع من الفكر هو البليهي أو القمني أو كل الذين أصبحوا‬ ‫يدعون النقد الديني من أجل الإصلاح ليس بمعيار ذاتي أو أجنبي‪.‬‬ ‫والآن نمر إلى الدليلي القاطعي مع خطابي على أن ما يحول دوننا وفهم التوالج‬ ‫والتشاجن الأحيازي في الذات البشرية بما هي فرد هو هذا التلوث‪.‬‬ ‫مثال أول من التلوث‪ :‬بنية النفس مثال ذلك‪ :‬سخافة قيس نظرية النفس القرآنية‬ ‫بنظرية النفس الفرويدية‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪33‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وطبعا فهذا مثال من التلوث الناتج عما يزعم من إعجاز علمي‪ .‬فلكأن القرآن يزدادا‬ ‫شرفا ورفعة إذا سبق فرويد‪ .‬كل من يعمد إلى هذا الفكر لا يؤمن بأن القرآن نص إلهي‬ ‫إذا هو يقيسه بنص معلوم المصدر الإنساني‪.‬‬ ‫فأولا نظرية فرويد ليست علمية بل هي فرضية تجاوزها علم النفس‪ .‬وثانيا حتى لو‬ ‫كانت علمية فإن ما يتكلم عليه القرآن لا علاقة له بنظرية فرويد‪.‬‬ ‫وسأبي الفرق الجوهري‪ .‬لكن قبل الكلام عليه فلأذكر المثال الثاني‪ :‬فبعد وحدة الفرد‬ ‫الإنساني النفسية (علم النفس) سنتكلم على وحدة مناظره في التشاجن أي ذات الله (علم‬ ‫الكلام)‪.‬‬ ‫**********‬ ‫لم أر أكثر سطحية من الظن أن عقيدة \"النفس الأمارة واللوامة والمطمئنة\" مناظرة‬ ‫لفرضية\" الهو والأنا الأعلى والأنا\" الفرودية‪ .‬وهي ناتجة عن مشكل التلوث الناتج عن‬ ‫عقد النقص لدى الكثير ممن يزعمون الدفاع عن الإسلام‪.‬‬ ‫فلا يحتاج أي إنسان مهما كان بليدا لفطنة خارقة حتى يرى أن عقيدة النفس وأحوالها‬ ‫تتعلق بصفات لكائن واحد (النفس) هي أحوال مر بها وليست فرضية حول سلط يتصورها‬ ‫فرود دون أن يحدد طبائعها ولا علل الفروق بينها‪.‬‬ ‫وهذه الأحوال هي عينها التشاجن مع الأحياز‪ :‬فالنفس الأمارة حال تشاجنها مع‬ ‫الاستعمار في الأرض‪ .‬والنفس اللوامة حال تشاجنها مع الاستخلاف فيها‪ .‬والنفس المطمئنة‬ ‫حال تشاجنها مع الله أو حال رؤية برهان الرب‪.‬‬ ‫وإذن فالقرآن حدد طبيعة هذه الأحوال من خلال تحديد منزلة الإنسان في الأحياز‬ ‫الخمسة ولم يميز بي نفوس أو عناصر النفس‪.‬‬ ‫والوسيط بي الإنسان ومنزلتيه هما ثمرة المكان (العملة رمز الثروة) وثمرة الزمان‬ ‫(الكلمة رمز التراث)‪ .‬فحال النفس الأمارة ذات صلة بثمرة المكان أي بالثروة ومغريات‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪34‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الدنيا المتصلة بها‪ .‬وحال النفس اللوامة ذات صلة بثمرة الزمان أي بقيم التراث وكوابح‬ ‫الإخلاد إلى الأرض‪.‬‬ ‫والكوابح ليست مختلفة عن المغريات بخلاف ما في نظرية الأنا الأعلى بل هي ايضا فطرية‬ ‫وذاتية للنفس البشرية وليست أجنبية ترد عليها من خارجها‪ .‬فالتربية تربي الموجود فيها‬ ‫ولا تنتجه‪.‬‬ ‫وحال النفس المطمئنة ليست سلطان الأنا الذي لا نعلم ما طبيعته عدى الزعم بأنه توازن‬ ‫بي مبدأ الواقع ومبدأ اللذة بل هي رؤية برهان الرب (يوسف)‪ .‬وهي جوهر الإيمان‬ ‫المحرر من الحال المرضية‪.‬‬ ‫وبذلك فلأحوال التي تمر بها النفس التي هي واحدة خمس وليست ثلاثا‪:‬‬ ‫‪ .1‬حال الأمارة‬ ‫‪ .2‬وحال اللوامة‬ ‫‪ .3‬وحال المناوسية بينهما بالتساوق وليس بالتوالي‪.‬‬ ‫‪ .4‬وحال الهروب بالهذيان التخديري أو بالهذيان الدفاعي في المرض النفسي‪.‬‬ ‫‪ .5‬والحال التي تسمى النفس المطمئنة هي الحال التي تتحقق لما يتمكن الإنسان من‬ ‫اعتبار هذه الاحوال هي عي النضوج الروحي‪.‬‬ ‫وبهذا المعنى يمكن اعتبار القرآن شفاء للنفس البشرية وليس بمعنى تخريف الراقي‬ ‫الذي يتجاهل ما يأمربه القرآن نفسه‪ :‬فهو شفاء بالتدبر وليس بمجرد قراءة الدجالي‪.‬‬ ‫وللتخدير شكلان‪:‬‬ ‫• شكل الانغماس في الملهيات ومنها خاصة اللامتناهي الزائف أو مرض الجري وراء الثروة‬ ‫والسلطة (وهم السيادة)‬ ‫• أو شكل الانغماس في التخدير المادي الذي يحقق الغيبوبة القصدية التي تتحول إلى‬ ‫إدمان (حقيقة العبودية)‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪35‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وإذن فشتان بي فرضية فرويد التي هي رؤية مادية صرفة (رغم التناقض في مفهوم‬ ‫النفس مجهول الطبيعة) بينها وبي عقيدة دينية تجعل الوجود مشدودا لما ورائه‪ .‬والغفلة‬ ‫عن هذا العنصر الثري دليل غباء ناتج عن عقدة نقص من لا يرى قيمة في فكره إلا ما‬ ‫يعده غيره ذا قيمة‪ .‬وذلك هو التلوث العام الذي يمثله فكر نقاد التراث له أو عليه‪.‬‬ ‫**********‬ ‫مثال ثان من علم الكلام فلنذهب الآن إلى علم الكلام‪ .‬ما الشيء الذي يسمونه علم‬ ‫الكلام الجديد أو الكاريكاتور من الثيولوجيا المسيحية؟‬ ‫وهذا من توابع زعم لاعتزال عقلانية‪ .‬ولأجمل فيم يتمثل التلوث‪ :‬تعطيل الذات‬ ‫الإلهية بدعوى الحرب على الحشوية في الكلام القديم يصبح في الكلام الحديث نسبة تلك‬ ‫الصفات إلى الإنسان المزعوم عقلانيا‪.‬‬ ‫مسيحيا قد أفهمها‪ :‬فهم يرون أن المسيح ابن الله‪ .‬المسيح يحل في المسيحي فيصبح مثله‬ ‫أو بصورة أدق هو يحل في السلطة الروحية التي تمثله أي في الكنيسة‪ .‬وإذن فالكلام‬ ‫الجديد مسيحية متنكرة‪ .‬وليس صدفة أنه دخل إلى المسلمي عن طريق التشيع أساسا‪.‬‬ ‫والكلام الجديد هو إذن قلب للاعتزال‪ :‬ما نفي عن الله من صفات في التعطيل ينسب إلى‬ ‫الإنسان‪ .‬لكن المشكل أن الاعتزال هو أدنى فرق الكلام عقلانية‪ .‬ولو لم يكن إلحادا ذات‬ ‫تقية يدعي تأويل القرآن بالنقيض التام لكل دلالاته (باطنية) لكان قابلا للوصف بأنه‬ ‫ينتسب إلى العقلانية الساذجة التي كانت تتصور الوجود شفافا والعقل نفاذا‪.‬‬ ‫فدعوى رد المنقول إلى المعقول ممتنع من دون نفي الغيب ورده إلى الغائب الذي يقاس‬ ‫على الشاهد‪ .‬لكن الغيب ليس الغائب بل هو ما لا يقاس على الشاهد‪ .‬أما الغائب فمؤقت‬ ‫ويقبل أن يصبح شاهدا‪.‬‬ ‫العقلانية الساذجة مفهومة لأن صاحبها لا ينطلق من دين صريح الإثبات للغيب بل ينطلق‬ ‫من فكرة عامية تقول بنظرية الحقيقة المطابقة‪ :‬رد الوجود إلى الإدراك‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪36‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫القرآن صريح الكلام على نسبة الأحياز لله مكانا وثمرة وزمانا وثمرة ومرجعية‪ .‬وكلها‬ ‫أحياز مما لاعي رات ولا أذن سمعت ولا خطر على بال بشر‪ :‬ليس كمثله شيء ذاته وصفاته‬ ‫التي هي عي علاقاته بالأحياز‪.‬‬ ‫وهذه الدعوى مرة أخرى هي ما بنفيه تمكن ابن خلدون من دحض الكلام الاعتزالي‬ ‫والميتافيزيقا‪ .‬وهذه عقلانية ساذجة‪ .‬وذلك تقية إلحادية لأن الله المعطل عدم فضلا عن‬ ‫كونه يخفي نفي الغيب‪.‬‬ ‫وفي الحقيقة فإن سخف نفي هذه الأحياز عن الله يضمر أن أصحابه يعرفون حقيقة المكان‬ ‫والزمان وثمرتهما ومرجعيتهما حتى في الطبيعة فضلا عنها وراءها‪ .‬وكل ذلك يبي أمرين‬ ‫بخصوص فكر ابن تيمية‪ :‬أولا فهم القصد العميق من الكلام وقدم الفهم الجدير بما يبدو‬ ‫حشوية برده إلى أسلوب تبليغ بآليات التناظر الذي يبي النسب ويبقى على فارق الطبيعة‬ ‫بي العالمي الدنيوي والاخروي‪.‬‬ ‫وكل الأوهام الكلامية علتها تعريف المتكلمي للمادة التي يدعون تنزيه الله عنها‪ .‬فهم‬ ‫سجناء التعريف الأفلاطوني الأرسطي اي ما يقابل الصورة (الخير) من حيث عدم التحدد‬ ‫ومن حيث كونها لذلك علة الشر في الوجود‪ .‬مفهوم المادة والمدد‪ .‬لكن المادة في القرآن‬ ‫ليست كذلك‪ :‬فهي اسم \"المدد\" عامة وعي الجوهر خاصة سواء تعي مفعوله في الإرادة أو‬ ‫في العقل أو القدرة أو في الحياة أو في الوجود‪ .‬ليست مجرد الطينة‪.‬‬ ‫والمدد هو عي العلاقة بالأحياز‪ :‬فالمدد مكاني وهو ثمرة المكان والمدد زماني وهو ثمرة‬ ‫الزمان والمدد مرجعي وهو ثمرة المرجعية أي المدد المطلق الذي به يمكن فهم معنى ما في‬ ‫الفاني من باق‪ .‬فكوني كفرد‪-‬مثلا‪ -‬أحيا زماني متواليي عضويا مثلا مهما تقاربا وكان‬ ‫الفاصل بينهما حتى واحد من مليار من الثانية وكون ذلك يحصل بتعويض ملايي الخلايا‬ ‫يخرج فيها الميت من الحي ويخرج فيها الحي من الميت هو إحدى معجزات هذا المدد المطلق‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪37‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وهذا هو مفهوم الفقر إلى الله الذي خلطه فقهاء التخلف فاعتبروا أن الفقر بمعنى‬ ‫التخلي عن العمل المنتج لتحقيق شروط الاستعمار في الأرض هو المقصود‪ :‬فانحطت الأمة‬ ‫وصارت متسولة‪.‬‬ ‫لكن كوني كفرد استمد من حيزي المكاني ما به أحيا عامة واغتذي خاصة ومن الزمان ما‬ ‫يجعلني حلقة في سلسلة الأجيال عضويا ومن ثمرته حلقة واعية من سلسلة الأجيال رمزيا‬ ‫أيضا معجزة من مدد المكان والزمان‪.‬‬ ‫وكون ذلك ليس مجرد أحداث تجري كرها بل إني أعيشها أيضا بوصها مددا يصدر عن‬ ‫الخالق طوعا فذلك هو عي الوعي الديني الذي لا يخلو منه إنسان حتى لو ادعى الألحاد‬ ‫لأنه ينسبه إلى الطبيعة التي يؤلهها بذلك‪.‬‬ ‫وأخيرا فالقرآن يعتبر ذلك كله عي الفطرة التي فطر الله الناس عليها وأن الأمر في‬ ‫الغفلة عنها هو الذي يقتضي وجود الرسالات التي لا تتحقق إلا بتبي الرشد من الغي‪:‬‬ ‫فيكتمل الدين في وعي كل فرد اكتماله الكوني الذي هو عند الله الإسلام‪.‬‬ ‫ولما كان الإسلام خاتما فينبغي أن يظل قائما إلى يوم الدين‪ .‬وقيامه يعني أن له دولة لا‬ ‫يمكن أن تزول لأنها شرط الشهادة على العالمي ومثابة كل البشرية التي لن يصلح أمرها‬ ‫إلا القرآن‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪38‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ولنعد الآن إلى بحثنا فنواصل الكلام على الأحياز الخمسة وما يترتب عليها في رؤى العالم‬ ‫المؤسسة على التحريفي الديني والفلسفي ورؤيته التي تحرر الإنسانية منهما فتوحد‬ ‫الإنسانية حول مفهوم الاخوة الإنسانية (النساء ‪ )1‬والتعارف بي البشر والمساواة بينهم‬ ‫تجاوزا لكل الفروق لئلا يكون التفاضل بينهم مبينا على غير التقوى أو احترام القيم التي‬ ‫تشد سياسة عالم الشهادة إلى قيم عالم الغيب (الحجرات ‪.)13‬‬ ‫فـموضوعنا في هذا الفصل الرابع من التأملات هو التناظر بي المستوى الثاني والرابع‬ ‫من التعي التاريخي للإنسان وللإنسانية أي التناظر بي الجماعة والعالم بعد كلامنا في‬ ‫الفصل الثالث على التناظر بي الفرد الإنساني والله أصل الكل‪:‬‬ ‫فكل جماعة مهما كانت صغيرة متحيزة في مكان محدود وفي ثمرته وفي زمان محدود وفي‬ ‫ثمرته ولها مرجعية محددة تضفي المعنى على هذه التحيزات لتضفي معنى على تحيزها في‬ ‫الأحياز الأربعة الأولى لكيان الجماعة المتطور على الأقل بي الحدين اللذين يحددان‬ ‫بداية التحيز وغايته وبنى عليهما ابن خلدون مستويي علمه أعني العمران البشري‬ ‫والاجتماع الإنساني‪ :‬البداية البدوية والغاية الحضرية‪.‬‬ ‫والتوالج والتشاجن بي هذه الأبعاد يحدد نسبة أحيازها إلى أحياز العالم بوصفه الكل‬ ‫المحيط بها إذ إن مكانه وثمرته يتحددان بحصة الجماعة منهما وزمانه وثمرته بحصتها منهما‬ ‫ومرجعيته بحصتها من ضروب إضفاء المعنى على التحيز سواء جاء بعبارة دينية أو بعبارة‬ ‫فلسفية إذ إن العبارتي متداخلتان وتتراضعان كل منهما ترضع الاخرى وترضعها‪.‬‬ ‫فالجماعة تتحيز في مكانها وثمرته وفي زمانها وثمرته وفي مرجعيتها تحيزا مدركا لهذه‬ ‫العلاقة بأحياز كلية متجاوزة لأحيازها ومحيطة بها فعلا وتخيلا وذلك هو معي رؤيتها للعالم‬ ‫والوجود المحيطة بكل إنتاجها وإبداعها المحقق لإرادتها ومعرفتها وقدرتها وحياتها‬ ‫ووجودها‪ .‬والإدراك الفعلي لما يتجاوز أحيازها رغم كونه ليس إدراكا مطلقا لما يحيط بهذه‬ ‫الأحياز من خارجها ليس إدراكا لخلاء بل هو إدراك لحدود وتخوم دون فيميز بي ما يمكن‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪39‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫تجاوزه وذلك للزيادة في حصته من المكان والزمان ليزيد في حصته من ثمرتهما وبي ما لا‬ ‫يمكن أن يتجاوزه عندما يطلق بخياله هذه التجاوز الاول الذي هو مجال التنافس بي‬ ‫الشعوب إلى مجال يتجاوز الإنسانية وما تدركه بوصفه العوالم الممكنة واللامتناهي‬ ‫الوجودي الذي هو مصدر السؤال الوجودي دينيا وفلسفيا‪.‬‬ ‫وبذلك يصبح المكان وثمرته والزمان وثمرته والمرجعية أو الحيز المؤسس ومضفي المعنى‬ ‫ليس مجرد فضاء تنزل فيه الجماعة بل هو مجالات حيوية لقوى تتصارع عليها‪ .‬ولو كان‬ ‫الصراع على المكان والزمان متعلقا بهما وحدهما لكان صراعا طبيعيا خالصا من جنس‬ ‫استحالة حلول جوهرين في نفس المكان ونفس الزمان بمقتضى مبدأ التمانع في ـأدلة وجود‬ ‫الإلهي‪ .‬وفي تلك الحالة لا يكون للصراع إلا دلالة فيزيائية هي تصادم الأجرام والقوى‬ ‫وليس لها دلالة تحددها المرجعية التي هي الحيز الأخير‪.‬‬ ‫فما الدور الذي تؤديه المرجعية؟ دور المرجعية ينقلنا من صراع الأجوار الفيزيائي‬ ‫(تصادم الأجرام) إلى صراعهم التاريخي الطبيعي (صراع الكائنات الحية) بسبب إضافة‬ ‫الصراع إلى ثمرة المكان‪ .‬ولو اقتصر الصراع في الجماعات أو بينها على هذه لظللنا في‬ ‫التاريخ الطبيعي ولما انتقلنا إلى التاريخ الحضاري‪ .‬فالصراع على ثمرة الزمان هو الذي‬ ‫يحقق هذه النقلة الثانية مما يعود إلى دوافع عضوية إلى ما يعود إلى دوافع قيمية‬ ‫وحضارية بعد النقلة الأولى من الفيزيائي إلى الحيوي‪.‬‬ ‫وثمرة الزمان هي التي تنقل الإنسان من الزمان الطبيعي المثلث‪-‬حاضر وما قبله‬ ‫(الماضي) وما بعده (المستقبل)‪-‬إلى الزمان المخمس بإضافة حديث الماضي حول حدثه‬ ‫الحاصل وحديث المستقبل حول حدثه المتوقع‪ .‬وعندئذ تصبح ثمرة المكان هي بدورها‬ ‫مـخمسة الأبعاد‪:‬‬ ‫‪ .1‬سد الحاجة العضوية‪.‬‬ ‫‪ .2‬ماضي حدث سدها‪.‬‬ ‫‪ .3‬وحديث ماضي سدها‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪40‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .4‬وحديث مستقبلها‪.‬‬ ‫‪ .5‬حاضر السد بي الأولي والثانيي‪.‬‬ ‫مثال ذلك في تاريخ الأمة هو ما يعيشه المسلم عندما يستعرض في حاضره كيف كانت‬ ‫الأمة تعيش قبل الإسلام في حديثه عنه وكيف تنوي العيش في المستقبل وما تعمل لتحقيق‬ ‫ذلك وكل ذلك في قراءة تاريخ علاقته بسد الحاجات‪ .‬فيصبح لثمرة المكان ما يشبه الزمان‬ ‫الـحضاري بدل الزمان الطبيعي للعلاقة بالطبيعة أعني خاصة الملكية بما هي رصيد الثروة‬ ‫الذي له حدث ماض وحكاية لهذا الحدث وله حديث مستقبلي يحكي ما ينوي فعله على‬ ‫الاقل للحفاظ على ذلك الزاد الذي هو عي كيان الإنسان بمنظور الممكن‪ .‬فـملكية الثروة‬ ‫(ما‪+‬له) بالنسبة إلى انتقال المكان من الطبيعي إلى الحضاري تناظر وجودية التراث‬ ‫(ما‪+‬هو) بالنسبة إلى الانتقال من الزمان الطبيعي إلى الزمان الحضاري‪ .‬والانتقال الأول‬ ‫هو مفهوم \"ما‪+‬له\" رمز القدرة‪ .‬والانتقال الثاني هو مفهوم \"ما‪+‬هو\" رمز الوجود‪ .‬فتصبح‬ ‫الجماعة بقسطها من المكان والزمان تتحدد بما لها وبما هي‪ .‬وهي قوى \"حضارية\" متجاورة‬ ‫ومتنافسة داخل نفس الجماعة وبي الجماعات‪ .‬وهذه القوى الحضارية المتجاورة والمتنافسة‬ ‫في الجماعة وبي الجماعات تمثل منظومة مجالات قوى فوق مجالات القوى الطبيعية وهي‬ ‫جامعة بي الحيوي والثقافي‪.‬‬ ‫وإذن فالتنافس على \"ما‪+‬له\" وعلى \"ما‪+‬هو\" يجعل العالم بما هو مكان وثمرته وبما هو‬ ‫زمان وثمرته وبمرجعية مفترضه لها بوصفها مجالا‬ ‫‪ .1‬فيزيائيا‬ ‫‪ .2‬وتاريخيا طبيعيا‬ ‫‪ .3‬وتاريخيا حضاريا مع‬ ‫‪ .4‬حصيلتها‬ ‫‪ .5‬وعللها‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪41‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وتلك هي علل تعقيد التاريخ الإنساني الذي لا يكاد يقبل الصوغ العلمي والذي كما‬ ‫سنرى هو لغز الألغاز عندما نصل إلى قلب المستويات أي \"الإنسانية\" التي تصل المستويي‬ ‫المتقدمي عليها بالمستويي المواليي لها‪.‬‬ ‫ذلك ما نريد السعي إلى فهمه من خلال تحليل تناظر توالج الأحياز وتشاجنها في الجماعة‬ ‫وفي العالم والمقارنة بي آلياتهما داخل نفس الجماعة ثم بي الجماعات بعد أن درسنا‬ ‫التناظر بي أحياز الفرد وأحياز الله‪ .‬فإذا أدركنا هذه القضية أمكننا أن نفهم حقيقة‬ ‫الثورة الخلدونية التي أهملها الباحثي عن ماركس (المادية الجدلية) وكونت (علم‬ ‫الاجتماع) في ثورته من موقف عقدة النقص بدل فهمها كما هي وبما به تتجاوز هذين‬ ‫الرجلي على عظمتهما‪.‬‬ ‫فكما يبي عنوان المقدمة ‪-‬علم العمران البشري والاجتماع الإنساني‪-‬فإن المسألة ذات‬ ‫صلة بمخمسه البديع‪:‬‬ ‫‪ .1‬العمران‪.‬‬ ‫‪ .2‬والاجتماع‪.‬‬ ‫‪ .3‬والبشرية‪.‬‬ ‫‪ .4‬والإنسانية‪.‬‬ ‫‪ .5‬ومرجعية علاقة التاريخ الطبيعي بالتاريخ الحضاري‪.‬‬ ‫وتلك هي حبكة المقدمة وسداها‪ .‬وهذه المرجعية هي في آن انثروبولوجية وثيولوجية أي‬ ‫إنها علاقة فلسفة التاريخ بفلسفة الدين كما بينا من خلال دراسة تناظر توالج الأحياز‬ ‫وتشاجها في العلاقة بي الفرد الإنساني وأحياز الله‪ .‬وليرجع القارئ إلى ترجمة ابن‬ ‫خلدون الذاتية (التعريف بابن خلدون ورحلته غربا وشرقا)‪ .‬ففيها عرض للنموذج‬ ‫الفيزيائي لنظرية العصبية قيسا لها بالأمواج الحاصلة من رمي الحصى في بركة ماء‪ .‬وابن‬ ‫خلدون لم يقل شيئا عن رامي الحصى من يكون‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪42‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وكل فلسفة التاريخ الخلدونية مبنية على التوالج والتشاجن بي الأحياز من خلال‬ ‫الصراع على المكان وثمرته والزمان وثمرته والمرجعيات مضفية المعنى في مستوى الصراع‬ ‫بقانون الفيزياء وبقانون التاريخ الطبيعي وبقانون التاريخ الحضاري والحصيلة والتعليل‪.‬‬ ‫وما هو ثوري في العلاج الخلدوني هو تجاوز المقابلة بي داخل الجماعة وخارجها واعتبار‬ ‫هذه الصراعات كونية قوانيها في الجماعة الواحدة هي عينها قوانينه بي الجماعات‪.‬‬ ‫وبعبارة وجيزة تعبر عن غاية ذلك كله في دراسة الإنسانية يمكن القول إن السياسة‬ ‫دولية بالجوهر لأن الداخل والخارج لهما نفس القواني والجماعات محكومة بنفس التنافس‬ ‫على المكان والزمان وثمرتيهما ومرجعياتها أربعتها‪ .‬والصراع على المكان بمفرده فيزيائي‬ ‫وعلى الزمان بمفرده تاريخي طبيعي (بايولوجي) بسبب ثمرة المكان‪ .‬والصراع على ثمرة‬ ‫الزمان تاريخي حضاري فتحصل المرجعية التي تعود على الصراعات المتقدمة لتضفي عليها‬ ‫المعنى الحضاري حيث يصبح الرمز هو الأفعل‪.‬‬ ‫وعندئذ يصبح كل صراع مبررا بالمرجعية ومعللا تعليلا مزدوجا موضوعي وذاتي رغم‬ ‫أنه متعلق بثمرة المكان وثمرة الزمان‪ .‬وكلما تقدمت الإنسانية أصبح دور الرمز أفعل‬ ‫بخلاف الظن بأن الجماعات البدائية أكثر غرقا في الرمزيات‪ .‬والعلة هي تطور الرموز‬ ‫بتطور فهم أسرار الظاهرات‪ .‬ولذلك فغاية الحروب بي البشر ينبغي أن تكون صدام‬ ‫الحضارات حتما وبأدوات للرمز فيها الدول الأول‪ .‬فالصدام الذي نعيشه الآن صدام‬ ‫حضارات مداره‪ :‬هل نقنع باستعمار الإنسان في الأرض بمنطق قانون القوة والتناكر‬ ‫(العولمة العلمانية) أم إنه لا بد من الاستخلاف فيها بمنطق قوة القانون والتعارف (العولمة‬ ‫الإسلامية)؟‬ ‫إن تجاوز الفصل بي الداخل والخارج وتوحيد مجال الصراع في العالم من حيث هو تقابل‬ ‫بي مجالات حيوية فيزيائية وتاريخية طبيعية وتاريخية حضارية حصيلة وتعليلا في الجماعة‬ ‫وبي الجماعات يهدم ما بعد الحداثة‪ .‬فجوهرتها للمرجعيات الحضارية واعتبارها أحيازا‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪43‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫منغلقة وغير قابلة للترجمة المتبادلة ومن ثم نفي التعارف والاقتصار على التناكر يكذبه‬ ‫تعينها في موضوعاتها التي هي مدار عبارتها الرمزية عنها‪.‬‬ ‫فأولا لو كانت الحضارات أرخبيل جزره ليس بينها جسور لاستحال أن تتصادم لأنها تكون‬ ‫عديمة العلاقة بعضها بالبعض ولما كانت أغراض الصدام واحدة من حيث الطبيعة‬ ‫والوظيفة فيها جميعا أي الأحياز كيانا وثمرة ومرجعية‪.‬‬ ‫فالمرجعيات هي روح كل حضارة‪ .‬فهي تتعلق برهانات الإرادة (السياسة) والعقل‬ ‫(المعرفة) والقدرة (الاقتصاد) والحياة (الفنون) والوجود (رؤى العالم) وهي صيغ‬ ‫رمزية ومؤسسية تعبر عن صراع المكان والزمان وثمرتيهما ومطابقتها لدلالاتها في المرجعية‬ ‫التي تؤولها وتعللها‪.‬‬ ‫ومعنى ذلك أن الصراع على المكان و\"ما‪+‬له\" وعلى الزمان و\"ما‪+‬هو\" في نفس الجماعة‬ ‫وبي الجماعات واحد والمرجعيات ليست إلا ترجمته المؤولة والمعللة‪ .‬نفس الجماعة مؤلفة‬ ‫من جماعات دنيا بنفس العلة‪.‬‬ ‫وهذه العلة مصدرها إما استعمار الإنسان في الأرض بقانون التاريخ الطبيعي في الداخل‬ ‫والخارج حصرا فيه (العولمة) أو تجاوزه بقانون التاريخ الخلقي إلى الاستخلاف فيها وتلك‬ ‫هي الثورة التي تنبني عليها الرؤية الإسلامية التي تهدف إلى توحيد البشرية ونقلها من‬ ‫الصراع على الاحياز إلى فتح الحدود بإطلاق واعتبار المعمورة دولة واحدة ليس بي أهلها‬ ‫حدود بل هي خاضعة لمنطق الآية الاولى من النساء والآية الثالثة عشرة من الحجرات‪.‬‬ ‫وهذه هي الغاية المشتركة بي الدين والفلسفة إذا تحررا من التحريف نتيجة لعدم‬ ‫وصول المرجعية إلى التاريخ الخلقي قبل الإسلام أو لنكوصها إلى التاريخ الطبيعي بعد‬ ‫الهيجلية (صراع أرواح الشعوب) والماركسية (صراع طبقات المجتمعات)‪ .‬فالجماعات‬ ‫المتخارجة (الأمم) أو الجماعات المتداخلة (في نفس الأمة) تمثل أدوات استراتيجية في‬ ‫الصراع على المكان والزمان وثمرتيها وعلى المرجعية التي هي تأويل وتعليل لتلك‬ ‫الصراعات لها (تناكر) أو عليها (تعارف)‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪44‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ويبدو أن نوعي تكوّن الجماعات متناقضان تناقض التقسيم والتوحيد‪ .‬لكنهما في الحقيقة‬ ‫يعبران عن النفس الحقيقة التي يخفيها فرق الأحياز الإضافية‪ .‬فما يحصل من انقسام بي‬ ‫الجماعات يحصل في كل جماعة‪ .‬وكذلك التوحيد ما يعني أن كل جماعة حلف ضد أحلاف‪.‬‬ ‫فتك ّون الجماعات الكبرى المتخارجة بالإضافة إلى العالم ككل مناظرة تماما لتك ّون الجماعات‬ ‫الصغرى المتداخلة بالإضافة إلى عالم الجماعة الواحدة‪ .‬والغرض واحد في الحالتي‪.‬‬ ‫فالمطلوب هو حماية الحصة من المكان ومن ثمرته ومن الزمان ومن ثمرته وقراءة المرجعية‬ ‫الواحدة في الحالتي الجامعة لكل الإنسانية والجامعة لكل جماعة منها‪ :‬معنى العلاقة‬ ‫بالأحياز والعلاقة بالأجوار المنافسي عليها‪.‬‬ ‫لذلك فالصراع في نفس الدين (النحل) هو عينه الصراع بي الأديان (الملل) ولعله‬ ‫أحيانا أعنف والصراع في نفس الفلسفة (القراءات) هو نفسه الصراع بي الفلسفات‬ ‫(المدارس) ولعله أحيانا أعنف‪ .‬لكن ذلك لا يبرز للعي التي لم تعتد الوصل بي التجريد‬ ‫المفهومي والتعيي الوجودي فتتصور المفهومي الديني والمفهومي الفلسفي قابلي للفصل عما‬ ‫يجري في العيني ماصدقا للمفهوم‪.‬‬ ‫فالتجريد الديني بالأسلوب الأمثولي الديني والتجريد الفلسفي بالأسلوب المثالي‬ ‫بالنسبة إلى من يدرك حقيقة العلاقة بي المفهوم والماصدق فلسفيا وبي المثال والممثول‬ ‫دينيا هما تأسيس وتفسير للأحياز وما بينها من توالج وتشاجن‪ .‬فهما تأسيس لـدور الأحياز‬ ‫ولتوالجها ولتشاجنها وهما في آن تأويل وتفسير لما يجري فيهما بتحديد معاني وجود الإنسان‬ ‫من خلال \"ما‪+‬له\" و\"ما‪+‬هو\"وعلاقة \"من‪+‬هو\"ـاه النسبي بـ\"من‪+‬هو\" الله المطلق‪.‬‬ ‫وكل الذين لا يفهمون هذه المعادلة يكون موقفهم من جنس مواقف أصحاب الكاريكاتور‬ ‫الفكري من علمانيي العرب وليبرالييهم الذين لا يتجاوز فهمهم لمعضلات الوجود تفاهات‬ ‫الصحافة العامية‪ .‬فإذا صيغت هذه المعادلة بأسلوب القص وضرب الأمثال كانت علاجا دينيا‬ ‫أو مرجعية دينية وإذا كانت بأسلوب الأكسمة وصوغ المُثل كانت علاجا فلسفيا أو مرجعية‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪45‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فلسفية‪ .‬والمضمون واحد‪ .‬وفضل القرآن أنه يجمع بي الأسلوبي‪ .‬ومن ثم فهو يقدم‬ ‫العلاجي لنفس المضمون‪ :‬بالأسلوب الأمثولي (القص) وبالأسلوب المثالي (الأكسمة)‪.‬‬ ‫وتلك هي علة محاولاتي لبيان أن الدين والفلسفة الطالبي للحقيقة فعلا لا يمكن أن‬ ‫يختلفا إلا بالأسلوب وهو موقف قد يبدو هيجليا لكنه في الحقيقة يخالفه تمام المخالفة لأن‬ ‫الامر لا يتعلق بالغاية فسحب كما يرى هيجل بل حتى بالتناظر بي طرق البلوغ إليه‬ ‫واساليب التعبير عنه بضربي الترميز الأمثولي والمثالي أو القصصي والأكسيومي‪.‬‬ ‫فليست الغاية هي الواحدة وحدها بل كذلك الحلول لما يعترض الإنسان في سعيه لتحقيقها‬ ‫الغاية وخاصة في القرآن الكريم الذي يدرس التحريف الديني في التحريف السياسي مطبقا‬ ‫على الأول قواني الثاني بمعنى أن فساد الاستخلاف (ديني) يتجلى في فساد الاستعمار في‬ ‫الأرض (فلسفي) وإذن ففلسفة الدين متناظرة مع فلسفة التاريخ لكأن الأول هو النظرية‬ ‫والثاني هو التجربة‪ .‬فالجلي في التفسير الذي شرعت في كتابته ونشرت منه ثلاثة أجزاء‬ ‫منطلقه التسليم بهذا الفهم وغايته بيانه‪.‬‬ ‫ولكن لا يمكن بيانه من دون قراءة عميقة لفلسفة تاريخ الفلسفات ولفلسفة تاريخ‬ ‫الأديان ترجمة وتأليفا‪ .‬وهو خصصت له الكثير من وقتي‪ .‬واسم علم ابن خلدون ليس‬ ‫وليد الصدفة‪ .‬فهو استعمل مفهومي أحدهما أميل إلى التاريخ الطبيعي (العمران)‬ ‫والثاني إلى التاريخ الحضاري (الاجتماع)‪ .‬ونسبة العمران إلى البشرية ونسبة الاجتماع‬ ‫إلى الإنسانية كذلك ليستا نسبتي بالصدفة‪ .‬ذلك أن الآليات التي تفسر التاريخ الطبيعي‬ ‫وتؤول التاريخ الحضاري تشمل الجنس الإنساني كله بلا تمييز‪ .‬و‬ ‫العمران البشري يتعلق بالإنسان من حيث هو مستعمر في الأرض وبشرطيه المتعامدين‪:‬‬ ‫العلاقة بالمكان وثمرته لسد الحاجات المادية والعلاقة بالزمان وثمرته لسد الحاجات‬ ‫الروحية‪ .‬ولذلك كان الباب الأول من المقدمة متعلقا بالبيئة الطبيعية والمناخ المادي‬ ‫وبالبيئة الثقافية والمناخ الرمزي شرطي العمران والاجتماع الإنساني‪ .‬والمعلوم أن الباب‬ ‫الأول من المقدمة (الشرط الطبيعي والرمزي الفطري) يعدل تقريبا الباب الأخير‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪46‬‬ ‫الأسماء والبيان‬