فالعادة والتعليم الخالي من التدبر هو الذي يجعل قراءة القرآن مجرد مشعر تعبدي لا يتجاوز وظائف صارت من الممارسات التعبدية الغافلة عن المعنى.لذلك فغالبا ما يكون الغريب عن هذه الممارسات العادية ممن يطلبون الحقيقة المعرفية والخلقية في النظر والعمل أكثر الناس فهما للخطاب القرآني.ولما كنت مسلم النشأة وربيت على القرآن بالصورة التي وصفت .فمحاولة التخلص من الأثر العادي للنظر بعين بكر إلى القرآن مهمة عسيرة جدا لكنها ممكنة.وهذا يقتضي أن أتخيل وكأني التقي بالقرآن أول مرة في مسعاي لفهم الوجود من منطلق فلسفي رأينا أنه في الغاية ذهاب من الطبائع إلى الشرائع حتما.لكننا رأينا أن الفلسفة الحديثة تجاوزت هذا الموقف -من الطبائع إلى الشرائع -وعادت إلى ما يقرب من المنطلق الديني أي من الشرائع إلى الطبائع.والانطلاق من الطبائع إلى الشرائع يعني تقديم التحليل على التأويل منهجيا والانطلاقمن الشرائع إلى الطبائع يعني تقديم التأويل على التحليل :وهذا مناقض لما تعود عليه الفكر الفلسفي.والإشكال في تقديم التأويل على التحليل يمثل شبه مفارقة فلسفية :فكيف نقدم الأكثر تعقيدا على الأبسط؟ والقصد بتقديمه هو عدم إغفال تقدمه في التحليل نفسه.كما أن النزول من المعقد إلى البسيط يمكن من تحديد منزلة البسيط فيه لكن الصعود منهإليه لا يمكن من تنزيله التنزيل الملائم :إذ هو في حالة النزول تكون في المعقد قد اتضحت.ولو قسنا ذلك على الرؤية بالعين المجردة لقلنا أن الذهاب من المعقد إلى البسيط يشبه النظر من على قمة جبل لما تحته :رؤية عامة لمواضع العناصر.أما الذهاب من البسيط الى المعقد يشبه العكس الرؤية من موقع منبسط لا تمكن من رؤية مواضع العناصر فيكون التعميم فيه خطأ منهجيا ومعرفيا. 117 95
ومعنى ذلك أن تقديم التحليل بوصفه ذهابا من الأبسط إلى الأعقد أصبح أصحابه مدركين أنه تقديم منهجي لا يغفل عن التأويل الضمني الذي يحدد البداية.فما يتميز به الأسلوب الفلسفي عامة والفلسفي الحديث خاصة وما بعد الحديث بصورة أخص هو التفكير المدبر من البداية الظاهرة إلى ما وراءها باعتباره بداية خفية.وهذا ما قصدته بالكلام أمس على أسلوب الجينيالوجيا النيتشوية (دراسة التكوينية)والأركيولوجيا الفوكلدية (دراسة الأرشيف) .فما وراء البداية الظاهرة تحليل للتأويل المضمر في كل تحليل.ومعنى ذلك أن الفلسفة اكتشفت مؤخرا سذاجتها -التي اكتشفتها المدرسة النقدية العربيةسابقا-عندما كان الفلاسفة يتصورون الوجود شفافا والعقل نفاذا فتبين أن ذلك مجرد تبسيط غير واع لتعقيد الوجود وتعظيم وهمي لقدرات العقل.فلكأن هذا الأسلوب شبيه بالتحليل النفسي لخفايا ما يختزنه اللاوعي ليس الفردي (علم نفس) ولا الجمعي (علم اجتماع) بل تحليل المنظومات الرمزية المعبرة عن ذلك كله.وهذا يعني أننا يمكن أن نرى القرآن بعين بكر وذلك بوضع طابعه المقدس والديني بين قوسين مؤقتا حتى ندرسه بوصفه جنسا ثقافيا مجاله \"ما هو ما وراء\" نريد فهم طبيعته. ما هو هذا الجنس؟ وهو \"ما وراء\" ماذا؟ ثم ما طبيعة الماورائية التي يمثلها قياسا إلى ما وراء الطبيعة في الفلسفة التقليدية؟ وكيف يمكن الانطلاق منه أولا ومن تطبيقاته التاريخية ثانيا لفهم حقيقته؟وما يضاعف حيرة من يريد أن ينظر بعين فاحصة لهذا الأثر الثقافي -بعد وضعنا بينقوسين لغاية منهجية طبيعته الدينية-هو أنه هو الذي يجيب بنفسه عن هذه الأسئلة عودة على ذاته.ومعنى ذلك أنه لا يتكلم في موضوعاته التي يتلفت إليها فحسب بل هو يتكلم في كلامه على موضوعاته ليحدد طبيعة كلامه عليها. 117 96
وإذن فهو مقبل على موضوعه ومدبر على ذاته وبين ذاته وموضوعه ينزل ذاته المرسلة وذات الإنسان المرسل إليه .وكل ذلك في إطار الرسالة التي توحد هذه العناصر.وبعبارة الأساليب أدبية فإن مؤلف النص هو في آن راو إما لأقواله عندما يتكلم عليها بضمير الغائب ومتكلم بضمير المتكلم (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل).وقد يكون راويا لأقوال غيره ومخاطبا منهم في حوار أبطال القصص (ما قلت ملكة سبأ مثلا) أو المشاهد الرمزية (فقالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء).وفي كل هذه الحالات لا يكون موضوعه أشياء بل مواقف منها من خلال تقييمها وتقييمسلوك المخاطب به منها كان اقباله على ذات هي بدروها تقبل وتدبر .فيكون الجامع بين ذلك كله أن القرآن تراسل بين ذاتين :مألهة (الله) وآلهة (الإنسان).وبهذا المعنى فكل الذين يبحثون عن إعجاز علمي في القرآن بمعنى البحث عن القوانينالطبيعية أو حتى الشريعة مثلا فيه مجانبون للصواب بسبب عدم فهم هذه الطبيعة التي يتميز بها نص القرآن.فلأنه تراسل بين ذاتين حول الطبائع والشرائع ولأنه حوار وجودي وخلقي بين الله والمؤمن فإنه جوهر حقيقة الديني في كل الأديان أو في معايير النظر والعقد والعمل والشرع.لذلك سميته ما بعد الأخلاق أو ما بعد الشرائع قياسا على الميتافيزيقا التي هي ما بعد الطبيعة او ما بعد الطبائع .وفيه أن الطبائع هي بدورها شرائع.لكن إذا غادرنا هذا الوصف ونظرنا إلى القرآن كشيء قائم الذات بين أيدينا-في المصحف أو في صدور المؤمنين -فنحن أمام كيان حقيقي ذي قيام مادي شديد التعقيد.وأول ما يمكن أن يصدم من لم يرب عليه وقبل أن يغوص في أسراره هو الفوضى التيتكتنف الإحالات الداخلية المتشابكة فيه لكأنه تكرار وتواليف متوالية لأغراض متوالجة ومتشاجنة إلى حد مذهل.والمعلوم أننا كنا نجد كشباب عند تعلمه من الصعوبة ما لا يقدر للتشابه بين الآيات بل إن ذلك كان أكبر امتحان نتغالب به لاختبار الذكاء مع الحفظ. 117 97
وما زلت أذكر واقعة كنت فيها عند أهلي بطلا :أني استطعت أن اقرأ الرحمن من دون {فبأي آلاء ربكما تكذبان} اقفز عليها دون خطأ .لن أستطيع ذلك الآن.وإلى الآن ما يزال تعليم القرآن متضمنا ما هو أعقد من ذلك من اختبارات الحفظ والذكاء دون معرفة السر في نظام القرآن الذي يجعل ذلك عسيرا عقليا. أميز بين النظم الجزئي والنظم الكلي وكلاهما مضاعف:فالأول جزئي ويتعلق الوحدات الدنيا سواء أخذناها كل واحدة على حيالها أو أخذنا المتشابهات في المباني والمعاني منها.والثاني كلي ويخص الوحدات المركبة سواء أخذنا آيات كل سورة على حيالها أو آيات كل سور القرآن.ذلك أني أومن بأن ما يبدو في القرآن من فوضى ومن تشابه المباني رغم اختلاف المعاني(القرآن يقول إنه كله متشابه) مقصود لغاية كانت بداية بحثي بل لعلها علته الأساسية.فالمتشابه في القرآن له معنيان :تشابه المبنى وهو يعم كل القرآن ويقره القرآن نفسه.وتشابه المعنى وهو غير الأمهات من الآيات وقد أشارت إليه الآية السابعة من آل عمران وحرمت الاقتراب منه.منطلق فرضيتي في محاولة فهم القرآن هي وجه الشبه بين \"فوضاه\" الظاهرة وفوضى العالم الطبيعي .فقبل أن يصبح للإنسان علوم طبيعية كان يرى العالم في فوضى مطلقة.لكن الممارسة الغفلة بالتدريج مكنت من اكتشاف متدرج لبعض الانتظامات في العالمالطبيعي .ولعل أولاها كانت حركات الأفلاك التي يعد انتظامها الأظهر والأغلب في ظاهرات الطبيعة.فافترضت أن القرآن عالم ثان هو ما وراء العالم وأن له انتظاما خفيا مثله وهو انتظام لايتعلق به لذاته بل لوظيفته من حيث هو ماوراء كل ما يحدد موقع الإنسان وشروط استعماره في الأرض واستخلافه الأفضل فيها. 117 98
واعتبرت ذلك فرضية علمية مثل الفرضية التي جعلت البشر يضعون النظريات العلمية لفهم العالم وتحديد شروط التعامل معه بأقل كلفه :العلوم وتطبيقاتها. وبين أن النظريات العلمية تفترض أن للعالم قوانين من يعلمها يتمكن من أمرين:والتحرر من فوضى العالم الطبيعي تعني التحرر مما يسببه الجهل بها من آثار على الوجود الإنساني .وإذن فالدافع هو الوقاية من شرور الفوضى وتبعاتها.والفوضى هنا أسبابها ليست معلومة لكن آثارها معلوم سببها :الجهل بقوانينها .فلو طبقنا ذلك الآن على فرضيتنا حول القرآن لوجدنا فرقين بينين.وإذا كانت فوضى العالم يكفي فيها علم قوانينه فإن فوضى البشر لا يكفي فيها العلم لأن العلم نفسه يمكن أن يضاعف فوضى البشر فيما بينهم ومع العالم. وبذلك فالقرآن يعالج نوعين من الفوضى:وهما بعدا الجاهلية :وعكسها التعارف بين البشر معرفة ومعروفا والتعامل مع الأرض(العالم) بصورة تلغي ما وصفت به الملائكة الإنسان :يفسد فيها ويسفك الدماء.ولما كان القرآن بذلك علاجا للحاصل بالفعل ووقاية مما قد يحصل لحصوله بالقوة فإنه أصبح استراتيجية سياسية للبشر من أجل السلطان على أسباب نوعي الفوضى. 117 99
فيكون القرآن استراتيجية توحيد البشرية لإزالة الفوضى الناتجة عن الفرقة بينهم (الحجرات )13بالمساواة ونفي كل تفاضل عدا القيمة الخلقية :التقوى.وهو يؤسس ذلك على مفهوم الأخوة البشرية (النساء )1دون نفي التعدد ومن ثم فلصلة الرحم بين البشر مستويان :كلي لكل البشر وجزئي للقبائل والشعوب.وهنا يتحدد دور السنة :فهي تطبيق هدفه تحقيق عينة من هذه الأخوة البشرية التي يصفها القرآن والتي ليس للبشر منها نموذج في التاريخ قبل الإسلام.ولذلك سميت محاولتي في التفسير الفلسفي للقرآن :استراتيجية القرآن التوحيدية ومنطق السياسة المحمدية\" .والهدف إثبات فرضيتي حول حقيقة القرآن.تخيلت أن القرآن خبر عن عالم غيبي وراء عالم شاهد يحدد شروط الوصل بينهما بأداتين هما العلم أولا والأخلاق ثانيا .والجامع بينهما هو العمل على علم أو السياسة.من يقرأ القرآن في ضوء هذه الفرضية يكتشف أن ما كان يبدو له من فوضى أصبح الآن عين النظام عندما يعرض في شكل تعليمي ليصبح سياسة للعالم الشاهد.ولهذه العلة اعتبرت الآيتين 105و 106من الإسراء رمزا للتفسير الفلسفي لانهما مصداق هذه الفرضية .ومن يقرأ الآيتين يتأكد من ذلك بوضوح تام.وطبيعي أن تتحدد طبيعة القرآن في سورة الإسراء والمعراج :فهي ترمز إلى اللقاء المباشر بين الرسول ومضمون الرسالة ولا بد إذن من معرفة حقيقتها.والاسم ما بعد الأخلاق يتضمن ما بعد العلم والعمل في آن لأن العمل من دون علم ليس عملا بل هو ضرب في حماية فمن شروط العمل معرفة الغاية وشروطها. ويمكن إدراك الترادف بين الاسمين: لأن القصد في الحالتين قوانين السلوك الحر الذي هو عمل على علم بصدق إيماني. 117 100
والآن نكتشف السر في أن الاستثمار الاول للقرآن-علوم الملة التي آلت إلى الانحطاط -لم يعد كافيا لأنها كانت تقتصر على المباشر دون اللامباشر.ولأضرب مثالا واضحا جدا هو جوهر أزمة الفقه وأصوله :فعندما يحتار المسلم اليوم في مسألة الحدود فالعلة هي أنه يتصورها قوانين وليس نماذج قوانين.وهو يتصور العقوبة في الحدود هي الحد وليس مجرد أداة للحد .العقوبة في القانون الجزائي ليست هي القانون بل هي أداة لتعيينه وهي مقدارها الأقصى.بعبارة أوضح :فالحدود في القرآن ليست العقوبات التي هي أدواتها بل هي خلق القانون أو ما به يكون القانون قانونا شرعيا لتوفر شرط العدل القرآني فيه.ولأن الفاروق يفهم ذلك تصرف في الحدود بصورة تعبر عن روح القرآن وليس عن التطبيق الآلي للفقه المنحط الذي تصور الحد هو العقوبة وليس خلق العدل.فلأبين الآن بعدي الفرضية :القرآن استراتيجية توحيد والسنة تطبيق لها لتحقيق عينة منها في التاريخ الفعلي :وهي السياسة النبوية تربية وحكما.وأختم كلامي على الحدود بالقول إنها نماذج خلقية من اساس شرعية القانون في المجالات التي تمثل شروط ازالة عوائق الوحدة بين البشر وهي خمسة.وقد حددها القرآن واعتبر معرفتها خروجا من الغفلة :إنها مضمون سورة يوسف عليه السلام: -1العلاقة بين الجنسين -2العلاقة الاقتصادية -3العلاقة بين العلم والتوقع لشروط قيام الجماعة -4العلاقة بين ذلك كله والسياسة -5أخيرا علاقة ذلك كله بالدين أو عدم نيسان برهان الرب.حدود القرآن هي أخلاق القانون أو شروط شرعية الأحكام وتقتصر على هذه المجالات الخمس .إنها نماذج قوانين لا قوانين والعقوبة أداة حكم لا حكم. 117 101
وهذا هو المخرج من أزمة الحدود التي سال حولها الكثير من الحبر بلا فائدة لأن طبيعة الإشكال أغفلت وبات الكلام يدور حول مناسبتها للعصر من عدمه.ما الذي يثبت أن القرآن استراتيجية توحيد للبشرية في أبعاد الزمان الخمسة :حدث الماضي وحديثه وحدث المستقبل وحديثة ثم الحاضر المساوق لنزوله.فلا أحد يمكنه أن ينكر أن القرآن يتكلم على تاريخ واحد للإنسانية أحداثا وأحاديث في الماضي والمستقبل وفي الحاضر وخاصة التراث الديني والسياسي.وهذه وحدة الحيز الزماني وثمرته .فالزمان الإنساني في القرآن واحد وثمرته (التراث) واحدة وهذان حيزان يمثلان وجود الإنسان الروحي والرمزي.وهذان هما الحيزان المحددان لقيام الإنسان المادي دون تمييز بين أبيض وأسود وأحمر بل هي للبشر الذين هم أخوة من نفس واحدة (النساء .)1ولا أحد يمكنه أن ينكر أن القرآن يتكلم على الأرض كلها ولا يقتصر على جزء منها ويرفض المقابلة شرق غرب ويعتبر ثروتها ملك البشرية :مسخرة لها.ونصل الى الحيز الأصل أو ما به تتوحد الأحياز الأربعة التي ذكرنا أي الزمان والتراث والمكان والثروة أعني المرجعية الروحية للبشرية :وحدة الديني.وذلك هو مفهوم الإسلام الفطرة ومفهوم العهد بين الله وأبناء آدم (الأعراف )172-171 نصا فضلا عن وحدة التاريخ الديني كما يعرضها القرآن الكريم.لكن ذلك لا يكفي رغم أنه دليل موجب .في هذه الحالة الدليل السالب أقوى :واقصد ما يقدمه القرآن لإزالة عوائق الوحدة بين الأفراد والجماعات.وهنا نفهم القصد من الإخراج من الغفلة التي تتكلم عليها سورة يوسف مخاطبة للرسول: فالعوائق دون وحدة البشر هي الأغراض الخمسة الواردة في السورة.لذلك فالقاضي هو الذي يعين المقدار المناسب للجرم بحسب الظروف العينية بين صفر والحد الأقصى المعين في النص دون أن يكون ذلك تعديا على النص. 117 102
فالناس يختلفون ويتنافسون ويتصارعون على المرأة والثروة والعلم والسلطة والدين .وهي تتعين في الأحياز أي المكان وثمرته والزمان وثمرته والمرجعية.رأينا أن القرآن يوحد المكان والثروة والزمان والتراث والمرجعية وينسبها كلها ارثا مشتركا للبشرية بشرط الأهلية التي تجعلهم خلفاء عليها بحق.ونظام العلاقات بين البشر حولها هو أصل القانون الوطني والدولي ولا أحد ينكر أن القرآن الكريم قد اعترف بتعدد القوانين الملية ووضع قانونا دوليا.ونظم العلاقة الجنسية والاقتصادية والمعرفية والسياسية والدينية .فهو أول دين يعترف بالحرية الدينية (البقرة )256والتعدد الديني (المائدة .)48وإذن لا أحد يمكن أن ينفي أن إزالة العقبات دون وحدة الإنسانية الموضوعي منها (الأحياز) والذاتي (البينية) من أهم موضوعات القرآن الكريم.لو لم يرد ما ذكرناه هنا في خطة تربوية وسياسية لكان مجرد خطاب خلقي عام يجعل استعمال مفهوم الاستراتيجية التوحيدية مبالغة مني لا أساس لها.ورغم أن الفصل بين الخطة التربوية والخطة السياسية متساوقة في القرآن الكريم من حيث المبدأ إلا أن حكمة تنجيم القرآن جعل فاصلا زمانيا بينهما.فالقرآن المكي يغلب عليه الوجه التربوي والعقدي من الاستراتيجية والقرآن المدني يغلب عليه الوجه السياسي والشرعي من الاستراتيجية .وهذا بين.ولا يكفي أن نتكلم على خطة تربوية وسياسية لتحقيق استراتيجية توحيدية حتى نبين أن القرآن يؤسس في جوابه على أسئلتنا الخمسة وإلا لما كان محيرا. المحير في هذه الأجوبة التي سنوردها هو الأمر الحاسم في مصدر القرآن: هل هو وحي أم من تأليف الرسول؟ وهذا السؤال صيغة حديث لإشكالية خلق القرآن. 117 103
وفي الحقيقة الأمر لا يتعلق بصيغة حديثة فحسب بل هي صيغة جريئة تصرح بما تضمره الصيغة القديمة .وحتى نفهم ذلك فلنوضح أن القصد المبنى لا المعنى.فيمكن أن يكون قول المعتزلي بخلق القرآن متعلقا بالمبنى دون نفي أن الوحي هو أصل المعنى فيكون المخلوق هو المبنى لا المعنى .والمبنى هو المشكل.لأنك تجد من يقبل أن يكون المعنى إليها والمبنى نبويا وهو فهم للوحي بمعنى الإيحاء المعنوي وترك الصيغة اللغوية للنبي لأن الوحي ليس كلاما بلسان.ولأذكر حادثة وقعت لي مع قسيس في بيت الزميل حسن حنفي .قال لي :هل تصدق أن القرآن بنصه وحي إلهي؟ المعنى ممكن لكن المبنى غير ممكن .توقع احراجي.لم أجب عن سؤاله بل سألته :هل تعتقد أن المسيح مجرد معنى أم هو شخص حقيقي وجد في التاريخ الفعلي وصلب ثم بعث؟ هل إلهكم يلد لكنه أبكم؟ وهل ربكم خلق أفكار العالم الطبيعي وغيره خلق قيامه المادي؟ كيف يجيب القرآن فيحدد المابعد بأصنافه الخمسة:فما بعد الفقه وما بعد الفلسفة وما بعد أدواتهما المشتركة (المنطق والرياضيات واللسانوالتاريخ) هي ما بعد المدونة التقليدية التي لم يكن لها ما بعد في الاستثمار الأول لوظائف القرآن بسبب الاستعمال المباشر والساذج لدلالاته.لكن ما بعد البدائع التي تصل بين هذه المجالات وما بعد الروائع التي تطلب ما يوحدهابجمال الرائع وجلال المريع في الوعي الإنساني في تدبره القرآن معرفيا وخلقيا هي التي تمكن من العودة على الاستثمار الأول لتبحث فيما بعد مجالاته كلها. 117 104
وأجوبة القرآن على هذه الأسئلة هي مضمون التفسير الفلسفي الذي حاولت القيام بهبقدر الإمكان .وهي أساس ما قدمناه في هذه الفصول التسعة التي تكلمنا فيها على أبعاد الحرب اللطيفة.فالحرب اللطيفة هي بالذات ما يقدمه القرآن الكريم للحرب على معيقات وحدة البشرية وقد استعار القرآن مفهوم حرب الله في كلامه على الربا مثلا.أمر الآن وبإيجاز للكلام على منطق السياسة المحمدية بوصفها تطبيقا لهذه الاستراتيجية بتحقيق عينة من وحدة الإنسانية بهذه المعايير التي وصفنا.فهذه السياسة ينبغي أن تكون استراتيجية الاستئناف التي ستجعل القرآن دستور البشرية كلها حتى تحرر من مفارقة العولمة :وحدة مادية عداوة روحية.وتكفي أدلة سريعة دون تحليل طويل .وهي خمسة أدلة بينة بحيث لا يستطيع نفيها حتىألد الاعداء :الدستور النبوي والصحابة وخطاب الفاتحين والعلاقة بالحضارات السابقة والعلاقة بالأقوام التي أسلمت وبثقافاتها.وهذه كلها أدلة على الاعتراف بالتعدد والحريات وعدم فرض الإسلام بالقوة رغم ما يزعم نتيجة للخلط بين الحلول الثلاثة التي حددت هذه العلاقة.فالإشكال فيها جميعا أن المغرضين يرفضون دلالتها لأنهم يريدون دائما أن يبرزوا دور السيف في انتشار الإسلام ونفي دور الدعوة السلمية.وهو ليس صحيحا في التاريخ إلا ظاهريا لـما يبدو من وقوع بعض الفتوحات به وذلك للخلط بين الفتوحات الدينية والغزو السياسي وهما مختلفان تماما.لذلك هو فهم كاذب في الباطن لأن ما يقع بالسيف ليس الفتوحات بل الغزو الذي يأتي بعد رفض الدعوة الدينية وعرض الحماية فننتقل من الفتح الديني إلى الغزو السياسي.إنه حينها غزو وليس فتحا .والدليل أن البلاد المفتوحة بهذا الأسلوب الثاني قد تتجنبالحرب بقبول الصلح فتحافظ شعوبها المفتوحة على عقائدها مع الخضوع السياسي للدولةالإسلامية ودفع الجزية في حين أنها في الحالة الأولى لا تدفع شيئا بل تعامل ككل المسلمين. 117 105
وإذن فالخيار المعروض كان حقيقيا ولم يكن خدعة .وغالبا ما يكون هذا الحل حلا وسطافي شكل صلح بين الفاتحين والبلاد التي تتجنب الغزو بالعسكري فتقبل بشرط الحماية مقابل الجزية والمحافظة على عقائدها. وأبدأ بالدستور :كلمة واحدة هل هو مقصور على المسلمين؟ أثني بالصحابة :هل هم عرب فحسب؟وأصل إلى المركز أي الفتح :هل ثالوث خطاب الفتح للشعوب يفيد تقدم السيف على الدعوة؟يبدو كذلك وهو الظاهر لأنه يعرض على أنه ثالوث وهو في الواقع خمسة خيارات لأن اثنين من الثلاثة مضاعفان .الأول الإسلام والمساواة :تحقيق وحدة البشرية.وهو الغاية الروحية من الفتح أي توحيد البشرية حول الحريتين الروحية والسياسية(مضمون خطاب رسول جيش الفتح إلى رستم) :عبادة رب العباد بدل العباد وذلك هو مدلول الحريتين.الخطاب الثاني مضاعف كذلك :ترفض مساواة الوحدة إذن تكون تابعا سياسيا وتدفع الجزية .وحينئذ يصبح القصد عدم المنع السياسي لعمل الفتح التوحيدي.وعلة الخلط بين الأمرين هو أن القابلين بالصلح ودفع الجزية أو حتى المغزوين عنوةيتعرفون بالتدريج على الإسلام فيدخلونه طوعا وربما لتجنب دفع الجزية وللحصول على المساواة (بلغة المواطنة التامة).وحتى أبسط الأمر فلنقسه على سياسة حقوق الإنسان .فالقانون الدولي الحالي يوجب علىالمجموعة الدولية فرضها بالدبلوماسية أولا وإذا بلغ الأمر حدا معينا بالقوة العسكرية عند اللزوم.ولا يأتي دور السيف إلا خامسا لرفض الحلين المضاعفين الأولين :الإسلام الموحد بالمساواة والحماية الموحدة سياسيا ورفضهما =الحرب لفرض أحدهما.الأمران الأخيران دليلين على ذلك :فالتعامل مع الحضارات السابقة يخضع لمبدأ طلب الحقيقة أيا كان مصدرها والتعامل مع الشعوب احترام هويتها. 117 106
ولا توجد حضارة حافظت على هويات الشعوب التي انتمت اليها الحضارية والدينية واللسانية مثل الإسلام بدليل أن المذاهب المسيحية بقيت في أرضه.وتعدد الثراء الديني والثقافي والاثني واللغوي لم يبدأ ينتشر في الغرب إلا مؤخرا وهو ما يزال أهم مشاكله الاجتماعية وهي أمور عادية عندنا على الأقل في الواجب.لكننا لا نستثني مخالفة الواقع للواجب أحيانا .لكن مهما كان الأمر ففي هذا المجال نحنمتقدمون عليهم بقرون بدليل الخارطة الثقافية لدار الإسلام قبل انتشار المسيحية خارج أوروبا.لذلك فالنص بمبناه ومعناه والتاريخ بأحاديثه وأحداثه كل ذلك يثبت أن القرآن استراتيجية توحيد الإنسانية وأن السنة تربية وسياسة تحقق منه عينة. 117 107
وصلنا إلى الفصل الأخير في الحرب اللطيفة التي تحقق الإنسان وشروط حياته وتحميه ذاته فيه أو في غيره وتحمي الأرض بوصفها معين حياته السوية.وهذه الحرب اللطيفة التي خسرناها منذ قرون لأننا صرنا أمة عزلاء سواء في تكوين الإنسان أو شروط قيامه أو في حمايته أو في حماية الأرض من الإنسان.وكل الفصول التسعة التي سبقت كان هدفها بيان علل هذا الفقدان وشروط استعادة القدرة عليها من خلال ارجاعها إلى تحريف المرجعية وما يتفرع عنها.وقد ذكرنا أن الفنون المتفرعة عن المرجعية الروحية للجماعة أربعة لكنها في الحقيقة تبينت ثمانية لأن كل علم من هذه العلوم الاربعة يمكن ينحرف.فرأينا أن كل علم يمكن أن يكون حقيقا يطابق اسمه مسماه ويمكن أن يكون مزيفا ليس له من حقيقته إلا الاسم .وهذه العلوم المزيفة هي علة الانحطاط.فحرف علم النظر والعقائد ولم يبق منه إلا تخريف حول الميتافيزيقا والكلام وحرف علم العمل والشرائع فلم يبق منه إلا تخريف حول الفقه والتصوف.انعدمت ثمرات العلوم في مجالي وظيفتها أعني تحقيق شروط الاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها بصورة تحول دون الإخلاد إليها وفقدان معاني الإنسانية.فبين ابن خلدون وقبله ابن تيمية وقبلهما الغزالي أي ثالوث المدرسة النقدية العربية أن الازمة الحضارية الإسلامية هذا مصدرها وحاولوا الإصلاح.وكان الهدف الأساسي من هذه المحاولة التصدي لدعوى خطيرة جعلت الأمة في حرب أهلية دونكيخوتية بين صفين أحدهما يدعي تمثيل الأصالة والثاني الحداثة. 117 108
فصف الحداثة المزعوم ينطلق من واقعنا المتردي ويعلله ليس بانحراف حضاري بل يحملمسؤوليته للمرجعية نفسها واتهامها بأنها منافية للحضارة فيريد محوهما وتعويضهما بالعارية.وصف الأصالة المزعوم يتصور أن الاستئناف ممكن بالقراءة المتخلفة للمرجعية وبما نتج عنها من فروع منحرفة ويظن الحداثة ما يعرضه الصف المقابل.وفي الحقيقة فصاحب الحداثة المزعوم يحارب المرجعية التي هي الكيان الحي بدل علاجها وصاحب الأصالة المزعوم يعالجها بالقراءة المتخلفة أي بدائها.لكني لست ممن يرضون بالموقف الدفاعي .فمشكلي ليس مجرد الرد على انحرافي التشخيص والعلاج بل استئناف التشخيص من رأس لاكتشاف العلل العميقة.فالهدف هو تحقيق شروط التأصيل والتحديث بمقتضى سنن التغيير السوي في التاريخ الحضاري للأمم بصورة عامة لأننا لسنا شاذين عن سنن التاريخ الإنساني.والتشخيص يبدأ ببيان حقيقة هذين الموقفين الكاريكاتوريين من الأصالة والحداثة وكيف أنهما في الحقيقة من أعراض الداء وليسا من أصحاب الإصلاح.ولذلك سميت أصحاب كاريكاتور الأصالة بمليشيات السيف واصحاب كاريكاتور الحداثة بمليشيات القلم رغم تخصيصي الاسمين أحيانا لعملاء إيران وإسرائيل.وفي الحقيقة يصح التعميم :أصحاب الكاريكاتورين عملاء إيران وإسرائيل وإن بغير قصد بخلاف عملائهما القصديين مثل حزب الله والاعلام الخادم له.فداعش (مليشيا سيف) وفقهاؤها (مليشيا قلم) والليبرالي والعلماني العربي كل أولئك هم أكثر فائدة لإيران وإسرائيل حتى من حزب الله واعلامه لأنهم طوابير خامسة.فرأيت أن الخطاب المباشر لشباب المقاومة لا يكفي لأنه في الحقيقة ينتهي إلى ما يشبه الوعظ والإرشاد الذي لا يمكن أن يكون مبدعين نظرا وعملا.وشرعت في عرض لا يمكن أن يتابعه إلا من يغوص فيه فيصبح مفكرا بذاته ولا يتقدم فيه إلا بقدر تقدمه الذاتي في فهم الإشكالية وعلاجها معي التوازي. 117 109
وتلك هي علة شكوى الكثير من العسر :فليس يسيرا أن ينتقل المرء من ثقافة التلقين الذي يكون فيه مجرد سامع ومنفعل إلى ثقافة الفحص والبحث الذاتيين.ولهذا فكلما سمعت شكوى من العسر تيقنت أن صاحب الشكوى بدأ يدرك حقيقة النقلة من موقف تلقي التلقين إلى موقف المشاركة في الاكتشاف والاستنارة.ودون شك فالكثير سيشعر بالإحباط ويهرب .لكن يكفي أن يبقى واحد في المائة حتى تتراكم الأعداد وينشأ التحدي الذي لا يمكن للفكر من دونه أن يبدع.ويكفيني أن يكون لي سهم مهما كان مقداره ضئيلا في تكوين جيل يفحص ويبحث ويتجاوز مدرسة التلقين إلى مدرسة النقد (الغزالي وابن تيمية وابن خلدون) يكفيني فخرا.ولنشرع الآن في بيان ما نتج عن التحريفات الخمسة التي أدت إلى الانحطاط ولنقارن مآل حضارتنا بالحضارات التي تجاوزت أزمتها قبلنا فالسنن كونية.غادرت تونس سنة 2002واستقررت بماليزيا فتحررت من المنغصات-وجلها في الجامعة نفسها التي كانت اقطاعية لعملاء النظام من كاريكاتور الحداثة.وكنت أشعر أني قد استعددت لمهمة في مساري الأكاديمي من خلال دارستي لفلسفة اليونان(ارسطو خاصة) وفلسفة الألمان (هيجل خاصة) والمدرسة النقدية العربية (الغزالي وابن تيمية وابن خلدون).وطبعا فقد درست الفلسفة العربية بمعناها التقليدي ذات الميل المدرسي الشارح للفلسفة اليونانية ومحاولات فهمها والفكاك من البارادايم الذي تمثله.والمهمة عندي مهمة مقدسة :ما الذي حرف فكان علة ما حل بالأمة ما تعاني منه الآن؟ خطا ما حصل جعل تاريخنا بخلاف ما يقتضيه القرآن ويعد به الله.هذا السؤال هو الذي جعلني أعود لتدبر القرآن الذي اعترف بأني -بسبب المسار الأكاديمي الغربي بإطلاق -ابتعدت عنه بالفرقان لكني لحسن حظي لم أغادره بالوجدان. 117 110
ذلك أني تشربت الكثير منه من بداية الطفولة إلى سن الرشد فبقي ذلك منحوتا فيالوجدان إلى الآن .انطلقت من فرضية أولية :علة الخطأ هي استثمار القرآن بالمقلوب أعني في اتجاه يعكس ما حدده القرآن نفسه (فصلت .)53لكن لماذا اعتبرت درس الفلسفة اليونانية والألمانية شرطا في علاج أزمة حضارتنا؟ لعلتين: فتاريخ الأمة بدأ عربيا بصراع مع دولة اليونان وانتهي عثمانيا بصراع مع دولة الألمان.وتاريخ فكرنا بدأ مواصلة ومحاولة للقطيعة مع فكر اليونان وانتهي بمواصلة ومحاولةلقطيعة ألمانية مع فكرنا .فكان محاطا بهما :نحن أصلحنا عقلنا خلال العلاقة باليونان وهم أصلحوا عقيدتهم .خلال العلاقة بنا.فضل اليونان علينا كبير .وفضلنا على الألمان أكبر .فاليونان كانوا بداية رشد العربالعقلي أو بداية الفلسفة العربية .ونحن كنا بداية رشد الألمان الروحي أو بداية التحرر من التحريف الكنسي :فكانت المراحل خمسا. والمراحل الخمس المعتبرة في فهم أزمتنا هي: -1مرحلة فكر اليونان -2ومرحلة محاكاتنا لفكرهم -3ومرحلة القطيعة في المدرسة النقدية -4ومرحلة محاكاة الألمان لفكرنا -5ومرحلة القطيعة الألمانية مع مدرستنا المواصلة للفكر اليوناني وتلك هي الحداثة. ومعنى ذلك أن الفكر الحديث له بفكرنا علاقتان:وكل ذلك عشناه في إطار أو في ضوء مستمد من مرجعيتنا القرآنية وتفسيره السني أو من الإسلام بوصفه معين حضارة ما تزال نابضة القلب وإن تعطل العقل.ذلك هو منطلقي في محاولة تدبر القرآن لاقتراح تفسير فلسفي هو ما تكلمت عليه في الفصول السابقة وهو في الحقيقة لب الأفكار التي تعود إليها. 117 111
فكان أول مشكل ليس استثمار القرآن صائبه من خاطئه بل حقيقة القرآن ما هي؟ هل يمكن تعريف القرآن تعريفا جامعا مانعا يحدد طبيعته ومن ثم استثماره؟وبصورة أدق ألا ينبغي تقديم ما يقوله القرآن عن نفسه على ما يقوله على ما يتكلم فيه ووظيفته :اليس القرآن نصا يعرف ذاته في الكثير من آياته؟إذا اقتصرنا على ظاهر الأمور أمكن أن نقول إن المسلمين قد فهموا القرآن من هذا المنطلق. ولذلك كانت فروع الاستثمار هي الفروع الأربعة وتزييفاتها.لكن في حقيقة الأمر هم عكسوا تعريف القرآن لذاته عكسا تاما :فتعريفه لذاته لا يجعله محتويا على مضامين الفروع التي استمدوها منه بل العكس تماما.فهو يعرف ذاته بوصفه مستوى \"ماورائيا\" للفروع حتى تكون على حقيقتها وتؤدي وظيفتيها اللتين هما تحقيق شروط استعمار الإنسان في الأرض والاستخلاف فيها.وعلوم الطبائع هي الطبيعيات وعلوم الشرائع هي علوم الإنسانيات .ولهذه العلوم شروط منهجية وأدوات هي بدورها موضوع علوم هي علوم الذرائع الأربعة.وعلوم الذرائع هي :المنطق والرياضيات بالنسبة إلى الطبيعيات خاصة وهي التاريخ واللسانيات بالنسبة إلى الانسانيات خاصة .ونوعا الذرائع يعمان العلمين بنحو ما.ولما كانت هذه المجالات الثلاثة الطبائع والشرائع والذرائع مختلفة ومتواصلة فلا بد منمعرفة طبيعة الوصل الجاسر بينها .وذلك هو موضوع البدائع أو الوصلات الماورائية بينها.وحينئذ نصل إلى ما وراء كل ما وراء أو علم الروائع التي يمكن أن تكون بأسلوب ديني أوبأسلوب فلسفي أو بهما معا :وذلك هو مميز القرآن الجوهري .وعلم الروائع هو ما يمكن أن نسميه الإلهيات عامة فلسفية كانت أو دينية.تلك هي الأمور التي أضاعها الالتفات السيء في الموقف التأويلي من رسالة القرآن الكريم:بدلا من سماع دعوة القرآن بالالتفات إلى الآفاق والأنفس موضوع النظر والعمل بقي الاستثمار في شرح النص بمعان ساذجة وغفلة لا ترقى لمستوى القرآن النظري والعملي. 117 112
وفي الحقيقة فالاستثمار الذي أوصل الأمة إلى ما هي عليه جنيس ما يسمى بالإعجاز العلمي :بدلا من طلب قوانين الطبيعة منها يطلبونها من نص القرآن.فانتهى الأمر إلى العلوم الزائفة التي هي دجل في دجل كانت سابقا البحث عن نتائج علوم اليونان فيه وهي اليوم البحث عن نتائج العلوم الغربية فيه.ذلك هو التحيل على وجوب الجهد الضروري قرآنيا :النظر في الآفاق والأنفس لمعرفة حقيقة القرآن بدل النظر فيه لمعرفة حقيقة الطبائع والشرائع.هذا الخطأ التأويلي لم تظهر عوراته بسبب عنفوان البداية وكفاية المعرفة العفوية والغفلة في المجتمعات الأولى لكن عيوبه تراكمت إلى ما نراه الآن من حال الامة.ومعنى ذلك وخلافا لما يتوهم أدعياء الحداثة وأعداء الأمة وضع الأمة لا يعلله ما في المرجعية القرآنية والسنية بل ما جعلها تحرف وظائفهما فتعكسها بدل تحقيق مطلوبها.أكاد أطبق المثل الصيني :الغافل لا ينظر إلى ما تشير إليه السبابة بل إلى السبابة .لم يروا ما يشير إليه القرآن :الآفاق والأنفس وغاية النظر والعمل. فغاية النظر هي تحقيق شروط مقومي الوجود الإنساني باعتباره مكلفا بمهمتين:والثانية غير ممكنة من دون الأولى .لكن الأولى ممكنة من دون الثانية .وفي هذه الحالة يكون الإنسان كما وصفته الملائكة شخصا {يفسد فيها ويسفك الدماء}.والأخطر هو أن الذي يتصور الثانية ممكنة من دون الأولى يصبح عبدا لصاحب الأولىلأنه يكون أعزل لا يملك شروط رعاية ذاته ولا شروط حمايتها :وهذه حال المسلمين الآن.وبعبارة أوضح :فـمن يخسر الحرب اللطيفة لا يمكن أن يربح الحرب العنيفة إذا اضطرإليـها .ولهذه العلة وضعت الآية 60من الأنفال شرطين :القوة عامة (من قوة) والقوة العسكرية (من رباط الخيل).فالقوة عامة هي سلاح الحرب اللطيفة أي النظر والعمل وتطبيقاتهما لتحقيق وظيفتي الإنسان (الاستعمار والاستخلاف) ورباط الخيل هو سلاح الحرب العنيفة. 117 113
انطلاقا من هذا التحليل لتعريف القرآن كما عرف نفسه اكتشفت أن القراءة الأولى للقرآن قلبت حقيقته فجعلته مصدرا مضموني لمضامين النظر والعمل.لكنه هو يعرف نفسه بكون مصدر معياري ما بعد مضموني وما بعد منهجي وما بعد خلقي لأفعال الإنسان كلها وخاصة للنظر والعمل للاستعمار والاستخلاف.فعنونت التفسير الفلسفي بـ «استراتيجية القرآن التوحيدية ومنطق السياسة المحمدية\" أي إن القرآن وضع استراتيجية توحيد البشرية الرسول حقق منها عينة. وهذه الاستراتيجية ذات وجهين:والاستراتيجية هي بالطبع فكر ماورائي لعمل على علم :وهي ما بعد نظرية وما بعد عملية حتما .تلك هي حقيقة القرآن كما يعرف نفسه.فهو ما وراء النظر والعمل في الطبيعيات (الآفاق) وفي الإنسانيات (الأنفس) وفي الذرائعيات (ادوات المعرفة والعمل ومناهجهما) وفي الإبداعيات (الوصل بينها).وهو في الغاية ما بعد النظر والعمل في الروائعيات لتوحيد ذلك توحيدا جماليا وتوحيداجلاليا أي توحيدا يرينا رائع الانتظام في ذلك كله وتوحيدا يرينا مريع اللاانتظام في ذلك كله الصائر إلى الانتظام.وهذا التوحيد بصنفيه يمكن أن يكون مطلوبا بالأسلوب الفلسفي ويمكن أن يكون مطلوبا بالأسلوب الديني .وهو نفس الطلب التوحيدي من حيث المضمون الغائي.وذلك هو بالذات ما أنسب التفطن إليه إلى المدرسة النقدية العربية التي كتبت فيها ضميمة لترجمة المثالية الألمانية وقارنتها بنظيرتها الألمانية في مسألتين. والمسألتان هما فلسفة النظر والدين وفلسفة العمل والتاريخ: 117 114
كلاهما تجاوز اليونان في مجال إبداعه ولم يتجاوزه الألمان إلا بالمضمون والتطور الشكليفي نفس البارادايم المتجاوز لليونان وللمدرسية العربية وبنفس التوجه النظري والعملي.لكن المبدع مهما أبدع يبقى غير معصوم .إذن فبيان فضلهما لا يعني القبول بكل ما رأوهلذلك تجد الكثير من النقد الموجه لهما في كتاباتي عنهما :خطأ سد الذرائع خاصة فهو قد قتل الخيال المبدع.فشبابنا لا ينبغي أن يوثن أحدا بل عليه أن يعترف بفضله وخاصة بفضل ما جعله صاحب فضل :أي القدرة على الإبداع والنقد عامة والذاتي خاصة شرط تطور.هذا الفصل الختامي لن يكون طويلا بل هو من حجم الفصل التمهيدي :يكفي فيه بيان أهمية الحرب اللطيفة والمساهمة في تحرير الأمة من الكاريكاتورين.والمخاطب به هو شباب الثورة والمقاومين المؤمنين بضرورة الاستئناف مع تجنب الخطأ التأويلي الذي كان علة ما عليه الأمة الآن .والله المستعان.وختاما فلأشر إلى أمرين يتميز بهما القرآن الكريم واعتقد أنهما علة الحيرة التي تتملكني كلما اقتربت منه :فهو يجمع بين التناولين الديني والفلسفي لكل ما يعالجه من قضايا.والدليل على هذا الجمع هو تضمنه لضربي التأسيس الماورائي بالأسلوب التحليليوبالأسلوب التأويلي :فهو يعتمد منهجي التحليل والتأويل اعتمادا واعيا وقصديا بصورة لم تصل الفلسفة الحديث إلى ما يشبهها إلا مؤخرا.ذلك أنه يؤسس علاجه لقضايا عالم الشهادة على المفهومات بمنهج تحليلي ويؤسس علاجه لقضايا عالم الغيب على الأمثولات بمنهج تأويلي.والجمع بين هذين المنهجين يضيف ما يخلو منه الأسلوب الفلسفي لأنه أقرب إلى الأسلوبالمسرحي أي إن العلاج في الحالتين يكون في الغالب جامعا بين شكل الحوار والمشهد التمثيلي.ولعل أفضل مثال هو أمثولة اعلام الله الملائكة باستخلاف بجعل آدم خليفة في الأرض :فالله أعلم الملائكة بأنه اختار آدم ليكون خليفة في الأرض. 117 115
ثم داربين الله والملائكة برواية إلهية للحوار :حوار حول هذه المسألة وفيها تم تأسيس ما سيجعل التحليل والتأويل يصبحان ممكنين.فالحجة الحاسمة في أهلية آدم للاستخلاف كانت قابليته لتعلم التسمية أعني الوظيفةالرمزية التي بها يكونه التحليل والتأويل .وذلك رغم احتجاج الملائكة بأن آدم ليس أهلا خلقيا :يفسد فيها ويسفك الدماء.واستنادا إلى ما في احتجاج الملائكة من بعض الصواب وتوفر شرط التكليف والمسؤولية أصبحالوجود التاريخي للإنسان امتحانا لهذه الأهلية :الاستعمار في الأرض امتحان لأهلية الاستخلاف ولجدارة التكليف والمسؤولية الإنسانية.هو إذن جمع بين فلسفة الدين وفلسفة التاريخ انطلاقا من حقيقة الإنسان وأهليتهللحريتين الروحية (لا وساطة بينه وبين ربه) والسياسية (لا وجود لحق إلهي في حكم الإنسان بل هو حاكم نفسه بنفسه).وحكم نفسه بنفسه يمكن أن مباشرة أو باختيار من يقوم بالوظيفة باعتبارها في الجماعةفرض كفاية .والعناية بالأمر يبقى فرض عين لأن المؤمن يعرفه القرآن بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (آل عمران .)104والجمع بين الفرضين الكفائي والعيني يتحقق في واجب الجماعة في رقابة النائب إذ هو مستأمن على تحقيق العدل فيها :وهي لا تطيعه إلا ما أطاع الشريعة.ولهذه العلة لم تقبل حجة الملائكة ضد آدم رغم صحتها في حالة فشل الامتحان وهو معنىاتباع ابليس :فالأهلية الاستخلافية لا تكفي فيها العبادات التي ظن الملائكة أنهم بها أولى من آدم بالاستخلاف :ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك.الأهلية لا تتحقق إلا بنوعي الشروط :شروط الاستعمار في الأرض حتى لقيام الإنسان فيالتاريخ الذي فيه تمتحن الحرية والتكليف والمسؤولية وشروط الاستخلاف الذي يحرر ذلك من الإخلاد إلى الأرض :العمل بأخلاق القرآن في كل أفعال الإنسان النظرية والعملية. 117 116
ذلك هو ما فقدناه فصرنا عالة على غيرنا وفسدت فينا معاني الإنسانية كما قال ابن خلدونفي كل أمة وقعت تحت الاستبداد والفساد .ولا يمكن الخروج من ذلك إلا بالحريتين:الروحية (لا وساطة بين المؤمن وربه) والسياسية (لا حق إلهي في حكم الجماعة إلا للجماعة نفسها). 117 117
02 01 01 02تصميم الأسماء والبيان – المدير التنفيذي :محمد مراس المرزوقي
Search
Read the Text Version
- 1
- 2
- 3
- 4
- 5
- 6
- 7
- 8
- 9
- 10
- 11
- 12
- 13
- 14
- 15
- 16
- 17
- 18
- 19
- 20
- 21
- 22
- 23
- 24
- 25
- 26
- 27
- 28
- 29
- 30
- 31
- 32
- 33
- 34
- 35
- 36
- 37
- 38
- 39
- 40
- 41
- 42
- 43
- 44
- 45
- 46
- 47
- 48
- 49
- 50
- 51
- 52
- 53
- 54
- 55
- 56
- 57
- 58
- 59
- 60
- 61
- 62
- 63
- 64
- 65
- 66
- 67
- 68
- 69
- 70
- 71
- 72
- 73
- 74
- 75
- 76
- 77
- 78
- 79
- 80
- 81
- 82
- 83
- 84
- 85
- 86
- 87
- 88
- 89
- 90
- 91
- 92
- 93
- 94
- 95
- 96
- 97
- 98
- 99
- 100
- 101
- 102
- 103
- 104
- 105
- 106
- 107
- 108
- 109
- 110
- 111
- 112
- 113
- 114
- 115
- 116
- 117
- 118
- 119
- 120
- 121
- 122
- 123
- 124
- 125
- 126