Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore سلسلة الحرب اللطيفة ممهدات لفهمها وشروط لعلاجها - ابو يعرب المرزوقي

سلسلة الحرب اللطيفة ممهدات لفهمها وشروط لعلاجها - ابو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2017-05-12 09:35:39

Description: سلسلة الحرب اللطيفة ممهدات لفهمها وشروط لعلاجها - ابو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫فالعادة والتعليم الخالي من التدبر هو الذي يجعل قراءة القرآن مجرد مشعر تعبدي لا‬ ‫يتجاوز وظائف صارت من الممارسات التعبدية الغافلة عن المعنى‪.‬‬‫لذلك فغالبا ما يكون الغريب عن هذه الممارسات العادية ممن يطلبون الحقيقة المعرفية‬ ‫والخلقية في النظر والعمل أكثر الناس فهما للخطاب القرآني‪.‬‬‫ولما كنت مسلم النشأة وربيت على القرآن بالصورة التي وصفت‪ .‬فمحاولة التخلص من الأثر‬ ‫العادي للنظر بعين بكر إلى القرآن مهمة عسيرة جدا لكنها ممكنة‪.‬‬‫وهذا يقتضي أن أتخيل وكأني التقي بالقرآن أول مرة في مسعاي لفهم الوجود من منطلق‬ ‫فلسفي رأينا أنه في الغاية ذهاب من الطبائع إلى الشرائع حتما‪.‬‬‫لكننا رأينا أن الفلسفة الحديثة تجاوزت هذا الموقف ‪-‬من الطبائع إلى الشرائع‪ -‬وعادت‬ ‫إلى ما يقرب من المنطلق الديني أي من الشرائع إلى الطبائع‪.‬‬‫والانطلاق من الطبائع إلى الشرائع يعني تقديم التحليل على التأويل منهجيا والانطلاق‬‫من الشرائع إلى الطبائع يعني تقديم التأويل على التحليل‪ :‬وهذا مناقض لما تعود عليه‬ ‫الفكر الفلسفي‪.‬‬‫والإشكال في تقديم التأويل على التحليل يمثل شبه مفارقة فلسفية‪ :‬فكيف نقدم الأكثر‬ ‫تعقيدا على الأبسط؟‬ ‫والقصد بتقديمه هو عدم إغفال تقدمه في التحليل نفسه‪.‬‬‫كما أن النزول من المعقد إلى البسيط يمكن من تحديد منزلة البسيط فيه لكن الصعود منه‬‫إليه لا يمكن من تنزيله التنزيل الملائم‪ :‬إذ هو في حالة النزول تكون في المعقد قد اتضحت‪.‬‬‫ولو قسنا ذلك على الرؤية بالعين المجردة لقلنا أن الذهاب من المعقد إلى البسيط يشبه‬ ‫النظر من على قمة جبل لما تحته‪ :‬رؤية عامة لمواضع العناصر‪.‬‬‫أما الذهاب من البسيط الى المعقد يشبه العكس الرؤية من موقع منبسط لا تمكن من رؤية‬ ‫مواضع العناصر فيكون التعميم فيه خطأ منهجيا ومعرفيا‪.‬‬ ‫‪117 95‬‬

‫ومعنى ذلك أن تقديم التحليل بوصفه ذهابا من الأبسط إلى الأعقد أصبح أصحابه مدركين‬ ‫أنه تقديم منهجي لا يغفل عن التأويل الضمني الذي يحدد البداية‪.‬‬‫فما يتميز به الأسلوب الفلسفي عامة والفلسفي الحديث خاصة وما بعد الحديث بصورة‬ ‫أخص هو التفكير المدبر من البداية الظاهرة إلى ما وراءها باعتباره بداية خفية‪.‬‬‫وهذا ما قصدته بالكلام أمس على أسلوب الجينيالوجيا النيتشوية (دراسة التكوينية)‬‫والأركيولوجيا الفوكلدية (دراسة الأرشيف)‪ .‬فما وراء البداية الظاهرة تحليل للتأويل‬ ‫المضمر في كل تحليل‪.‬‬‫ومعنى ذلك أن الفلسفة اكتشفت مؤخرا سذاجتها ‪-‬التي اكتشفتها المدرسة النقدية العربية‬‫سابقا‪-‬عندما كان الفلاسفة يتصورون الوجود شفافا والعقل نفاذا فتبين أن ذلك مجرد‬ ‫تبسيط غير واع لتعقيد الوجود وتعظيم وهمي لقدرات العقل‪.‬‬‫فلكأن هذا الأسلوب شبيه بالتحليل النفسي لخفايا ما يختزنه اللاوعي ليس الفردي (علم‬ ‫نفس) ولا الجمعي (علم اجتماع) بل تحليل المنظومات الرمزية المعبرة عن ذلك كله‪.‬‬‫وهذا يعني أننا يمكن أن نرى القرآن بعين بكر وذلك بوضع طابعه المقدس والديني بين‬ ‫قوسين مؤقتا حتى ندرسه بوصفه جنسا ثقافيا مجاله \"ما هو ما وراء\" نريد فهم طبيعته‪.‬‬ ‫ما هو هذا الجنس؟‬ ‫وهو \"ما وراء\" ماذا؟‬ ‫ثم ما طبيعة الماورائية التي يمثلها قياسا إلى ما وراء الطبيعة في الفلسفة التقليدية؟‬ ‫وكيف يمكن الانطلاق منه أولا ومن تطبيقاته التاريخية ثانيا لفهم حقيقته؟‬‫وما يضاعف حيرة من يريد أن ينظر بعين فاحصة لهذا الأثر الثقافي ‪-‬بعد وضعنا بين‬‫قوسين لغاية منهجية طبيعته الدينية‪-‬هو أنه هو الذي يجيب بنفسه عن هذه الأسئلة عودة‬ ‫على ذاته‪.‬‬‫ومعنى ذلك أنه لا يتكلم في موضوعاته التي يتلفت إليها فحسب بل هو يتكلم في كلامه على‬ ‫موضوعاته ليحدد طبيعة كلامه عليها‪.‬‬ ‫‪117 96‬‬

‫وإذن فهو مقبل على موضوعه ومدبر على ذاته وبين ذاته وموضوعه ينزل ذاته المرسلة‬ ‫وذات الإنسان المرسل إليه‪ .‬وكل ذلك في إطار الرسالة التي توحد هذه العناصر‪.‬‬‫وبعبارة الأساليب أدبية فإن مؤلف النص هو في آن راو إما لأقواله عندما يتكلم عليها بضمير‬ ‫الغائب ومتكلم بضمير المتكلم (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل)‪.‬‬‫وقد يكون راويا لأقوال غيره ومخاطبا منهم في حوار أبطال القصص (ما قلت ملكة سبأ مثلا)‬ ‫أو المشاهد الرمزية (فقالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء)‪.‬‬‫وفي كل هذه الحالات لا يكون موضوعه أشياء بل مواقف منها من خلال تقييمها وتقييم‬‫سلوك المخاطب به منها كان اقباله على ذات هي بدروها تقبل وتدبر‪ .‬فيكون الجامع بين‬ ‫ذلك كله أن القرآن تراسل بين ذاتين‪ :‬مألهة (الله) وآلهة (الإنسان)‪.‬‬‫وبهذا المعنى فكل الذين يبحثون عن إعجاز علمي في القرآن بمعنى البحث عن القوانين‬‫الطبيعية أو حتى الشريعة مثلا فيه مجانبون للصواب بسبب عدم فهم هذه الطبيعة التي‬ ‫يتميز بها نص القرآن‪.‬‬‫فلأنه تراسل بين ذاتين حول الطبائع والشرائع ولأنه حوار وجودي وخلقي بين الله والمؤمن‬ ‫فإنه جوهر حقيقة الديني في كل الأديان أو في معايير النظر والعقد والعمل والشرع‪.‬‬‫لذلك سميته ما بعد الأخلاق أو ما بعد الشرائع قياسا على الميتافيزيقا التي هي ما بعد‬ ‫الطبيعة او ما بعد الطبائع‪ .‬وفيه أن الطبائع هي بدورها شرائع‪.‬‬‫لكن إذا غادرنا هذا الوصف ونظرنا إلى القرآن كشيء قائم الذات بين أيدينا‪-‬في المصحف‬ ‫أو في صدور المؤمنين‪ -‬فنحن أمام كيان حقيقي ذي قيام مادي شديد التعقيد‪.‬‬‫وأول ما يمكن أن يصدم من لم يرب عليه وقبل أن يغوص في أسراره هو الفوضى التي‬‫تكتنف الإحالات الداخلية المتشابكة فيه لكأنه تكرار وتواليف متوالية لأغراض متوالجة‬ ‫ومتشاجنة إلى حد مذهل‪.‬‬‫والمعلوم أننا كنا نجد كشباب عند تعلمه من الصعوبة ما لا يقدر للتشابه بين الآيات بل إن‬ ‫ذلك كان أكبر امتحان نتغالب به لاختبار الذكاء مع الحفظ‪.‬‬ ‫‪117 97‬‬

‫وما زلت أذكر واقعة كنت فيها عند أهلي بطلا‪ :‬أني استطعت أن اقرأ الرحمن من دون‬ ‫{فبأي آلاء ربكما تكذبان} اقفز عليها دون خطأ‪ .‬لن أستطيع ذلك الآن‪.‬‬‫وإلى الآن ما يزال تعليم القرآن متضمنا ما هو أعقد من ذلك من اختبارات الحفظ والذكاء‬ ‫دون معرفة السر في نظام القرآن الذي يجعل ذلك عسيرا عقليا‪.‬‬ ‫أميز بين النظم الجزئي والنظم الكلي وكلاهما مضاعف‪:‬‬‫فالأول جزئي ويتعلق الوحدات الدنيا سواء أخذناها كل واحدة على حيالها أو أخذنا‬ ‫المتشابهات في المباني والمعاني منها‪.‬‬‫والثاني كلي ويخص الوحدات المركبة سواء أخذنا آيات كل سورة على حيالها أو آيات كل‬ ‫سور القرآن‪.‬‬‫ذلك أني أومن بأن ما يبدو في القرآن من فوضى ومن تشابه المباني رغم اختلاف المعاني‬‫(القرآن يقول إنه كله متشابه) مقصود لغاية كانت بداية بحثي بل لعلها علته الأساسية‪.‬‬‫فالمتشابه في القرآن له معنيان‪ :‬تشابه المبنى وهو يعم كل القرآن ويقره القرآن نفسه‪.‬‬‫وتشابه المعنى وهو غير الأمهات من الآيات وقد أشارت إليه الآية السابعة من آل عمران‬ ‫وحرمت الاقتراب منه‪.‬‬‫منطلق فرضيتي في محاولة فهم القرآن هي وجه الشبه بين \"فوضاه\" الظاهرة وفوضى العالم‬ ‫الطبيعي‪ .‬فقبل أن يصبح للإنسان علوم طبيعية كان يرى العالم في فوضى مطلقة‪.‬‬‫لكن الممارسة الغفلة بالتدريج مكنت من اكتشاف متدرج لبعض الانتظامات في العالم‬‫الطبيعي‪ .‬ولعل أولاها كانت حركات الأفلاك التي يعد انتظامها الأظهر والأغلب في‬ ‫ظاهرات الطبيعة‪.‬‬‫فافترضت أن القرآن عالم ثان هو ما وراء العالم وأن له انتظاما خفيا مثله وهو انتظام لا‬‫يتعلق به لذاته بل لوظيفته من حيث هو ماوراء كل ما يحدد موقع الإنسان وشروط‬ ‫استعماره في الأرض واستخلافه الأفضل فيها‪.‬‬ ‫‪117 98‬‬

‫واعتبرت ذلك فرضية علمية مثل الفرضية التي جعلت البشر يضعون النظريات العلمية‬ ‫لفهم العالم وتحديد شروط التعامل معه بأقل كلفه‪ :‬العلوم وتطبيقاتها‪.‬‬ ‫وبين أن النظريات العلمية تفترض أن للعالم قوانين من يعلمها يتمكن من أمرين‪:‬‬‫والتحرر من فوضى العالم الطبيعي تعني التحرر مما يسببه الجهل بها من آثار على الوجود‬ ‫الإنساني‪ .‬وإذن فالدافع هو الوقاية من شرور الفوضى وتبعاتها‪.‬‬‫والفوضى هنا أسبابها ليست معلومة لكن آثارها معلوم سببها‪ :‬الجهل بقوانينها‪ .‬فلو طبقنا‬ ‫ذلك الآن على فرضيتنا حول القرآن لوجدنا فرقين بينين‪.‬‬‫وإذا كانت فوضى العالم يكفي فيها علم قوانينه فإن فوضى البشر لا يكفي فيها العلم لأن‬ ‫العلم نفسه يمكن أن يضاعف فوضى البشر فيما بينهم ومع العالم‪.‬‬ ‫وبذلك فالقرآن يعالج نوعين من الفوضى‪:‬‬‫وهما بعدا الجاهلية‪ :‬وعكسها التعارف بين البشر معرفة ومعروفا والتعامل مع‬ ‫الأرض(العالم) بصورة تلغي ما وصفت به الملائكة الإنسان‪ :‬يفسد فيها ويسفك الدماء‪.‬‬‫ولما كان القرآن بذلك علاجا للحاصل بالفعل ووقاية مما قد يحصل لحصوله بالقوة فإنه‬ ‫أصبح استراتيجية سياسية للبشر من أجل السلطان على أسباب نوعي الفوضى‪.‬‬ ‫‪117 99‬‬

‫فيكون القرآن استراتيجية توحيد البشرية لإزالة الفوضى الناتجة عن الفرقة بينهم‬ ‫(الحجرات ‪ )13‬بالمساواة ونفي كل تفاضل عدا القيمة الخلقية‪ :‬التقوى‪.‬‬‫وهو يؤسس ذلك على مفهوم الأخوة البشرية (النساء‪ )1‬دون نفي التعدد ومن ثم فلصلة‬ ‫الرحم بين البشر مستويان‪ :‬كلي لكل البشر وجزئي للقبائل والشعوب‪.‬‬‫وهنا يتحدد دور السنة‪ :‬فهي تطبيق هدفه تحقيق عينة من هذه الأخوة البشرية التي‬ ‫يصفها القرآن والتي ليس للبشر منها نموذج في التاريخ قبل الإسلام‪.‬‬‫ولذلك سميت محاولتي في التفسير الفلسفي للقرآن‪ :‬استراتيجية القرآن التوحيدية‬ ‫ومنطق السياسة المحمدية\"‪ .‬والهدف إثبات فرضيتي حول حقيقة القرآن‪.‬‬‫تخيلت أن القرآن خبر عن عالم غيبي وراء عالم شاهد يحدد شروط الوصل بينهما بأداتين‬ ‫هما العلم أولا والأخلاق ثانيا‪ .‬والجامع بينهما هو العمل على علم أو السياسة‪.‬‬‫من يقرأ القرآن في ضوء هذه الفرضية يكتشف أن ما كان يبدو له من فوضى أصبح الآن‬ ‫عين النظام عندما يعرض في شكل تعليمي ليصبح سياسة للعالم الشاهد‪.‬‬‫ولهذه العلة اعتبرت الآيتين ‪ 105‬و‪ 106‬من الإسراء رمزا للتفسير الفلسفي لانهما مصداق‬ ‫هذه الفرضية‪ .‬ومن يقرأ الآيتين يتأكد من ذلك بوضوح تام‪.‬‬‫وطبيعي أن تتحدد طبيعة القرآن في سورة الإسراء والمعراج‪ :‬فهي ترمز إلى اللقاء المباشر‬ ‫بين الرسول ومضمون الرسالة ولا بد إذن من معرفة حقيقتها‪.‬‬‫والاسم ما بعد الأخلاق يتضمن ما بعد العلم والعمل في آن لأن العمل من دون علم ليس‬ ‫عملا بل هو ضرب في حماية فمن شروط العمل معرفة الغاية وشروطها‪.‬‬ ‫ويمكن إدراك الترادف بين الاسمين‪:‬‬ ‫لأن القصد في الحالتين قوانين السلوك الحر الذي هو عمل على علم بصدق إيماني‪.‬‬ ‫‪117 100‬‬

‫والآن نكتشف السر في أن الاستثمار الاول للقرآن‪-‬علوم الملة التي آلت إلى الانحطاط‪ -‬لم‬ ‫يعد كافيا لأنها كانت تقتصر على المباشر دون اللامباشر‪.‬‬‫ولأضرب مثالا واضحا جدا هو جوهر أزمة الفقه وأصوله‪ :‬فعندما يحتار المسلم اليوم في‬ ‫مسألة الحدود فالعلة هي أنه يتصورها قوانين وليس نماذج قوانين‪.‬‬‫وهو يتصور العقوبة في الحدود هي الحد وليس مجرد أداة للحد‪ .‬العقوبة في القانون‬ ‫الجزائي ليست هي القانون بل هي أداة لتعيينه وهي مقدارها الأقصى‪.‬‬‫بعبارة أوضح‪ :‬فالحدود في القرآن ليست العقوبات التي هي أدواتها بل هي خلق القانون‬ ‫أو ما به يكون القانون قانونا شرعيا لتوفر شرط العدل القرآني فيه‪.‬‬‫ولأن الفاروق يفهم ذلك تصرف في الحدود بصورة تعبر عن روح القرآن وليس عن التطبيق‬ ‫الآلي للفقه المنحط الذي تصور الحد هو العقوبة وليس خلق العدل‪.‬‬‫فلأبين الآن بعدي الفرضية‪ :‬القرآن استراتيجية توحيد والسنة تطبيق لها لتحقيق عينة‬ ‫منها في التاريخ الفعلي‪ :‬وهي السياسة النبوية تربية وحكما‪.‬‬‫وأختم كلامي على الحدود بالقول إنها نماذج خلقية من اساس شرعية القانون في المجالات‬ ‫التي تمثل شروط ازالة عوائق الوحدة بين البشر وهي خمسة‪.‬‬‫وقد حددها القرآن واعتبر معرفتها خروجا من الغفلة‪ :‬إنها مضمون سورة يوسف عليه‬ ‫السلام‪:‬‬ ‫‪-1‬العلاقة بين الجنسين‬ ‫‪-2‬العلاقة الاقتصادية‬ ‫‪-3‬العلاقة بين العلم والتوقع لشروط قيام الجماعة‬ ‫‪-4‬العلاقة بين ذلك كله والسياسة‬ ‫‪-5‬أخيرا علاقة ذلك كله بالدين أو عدم نيسان برهان الرب‪.‬‬‫حدود القرآن هي أخلاق القانون أو شروط شرعية الأحكام وتقتصر على هذه المجالات‬ ‫الخمس‪ .‬إنها نماذج قوانين لا قوانين والعقوبة أداة حكم لا حكم‪.‬‬ ‫‪117 101‬‬

‫وهذا هو المخرج من أزمة الحدود التي سال حولها الكثير من الحبر بلا فائدة لأن طبيعة‬ ‫الإشكال أغفلت وبات الكلام يدور حول مناسبتها للعصر من عدمه‪.‬‬‫ما الذي يثبت أن القرآن استراتيجية توحيد للبشرية في أبعاد الزمان الخمسة‪ :‬حدث‬ ‫الماضي وحديثه وحدث المستقبل وحديثة ثم الحاضر المساوق لنزوله‪.‬‬‫فلا أحد يمكنه أن ينكر أن القرآن يتكلم على تاريخ واحد للإنسانية أحداثا وأحاديث في‬ ‫الماضي والمستقبل وفي الحاضر وخاصة التراث الديني والسياسي‪.‬‬‫وهذه وحدة الحيز الزماني وثمرته‪ .‬فالزمان الإنساني في القرآن واحد وثمرته (التراث)‬ ‫واحدة وهذان حيزان يمثلان وجود الإنسان الروحي والرمزي‪.‬‬‫وهذان هما الحيزان المحددان لقيام الإنسان المادي دون تمييز بين أبيض وأسود وأحمر بل‬ ‫هي للبشر الذين هم أخوة من نفس واحدة (النساء ‪.)1‬‬‫ولا أحد يمكنه أن ينكر أن القرآن يتكلم على الأرض كلها ولا يقتصر على جزء منها ويرفض‬ ‫المقابلة شرق غرب ويعتبر ثروتها ملك البشرية‪ :‬مسخرة لها‪.‬‬‫ونصل الى الحيز الأصل أو ما به تتوحد الأحياز الأربعة التي ذكرنا أي الزمان والتراث‬ ‫والمكان والثروة أعني المرجعية الروحية للبشرية‪ :‬وحدة الديني‪.‬‬‫وذلك هو مفهوم الإسلام الفطرة ومفهوم العهد بين الله وأبناء آدم (الأعراف ‪)172-171‬‬ ‫نصا فضلا عن وحدة التاريخ الديني كما يعرضها القرآن الكريم‪.‬‬‫لكن ذلك لا يكفي رغم أنه دليل موجب‪ .‬في هذه الحالة الدليل السالب أقوى‪ :‬واقصد ما‬ ‫يقدمه القرآن لإزالة عوائق الوحدة بين الأفراد والجماعات‪.‬‬‫وهنا نفهم القصد من الإخراج من الغفلة التي تتكلم عليها سورة يوسف مخاطبة للرسول‪:‬‬ ‫فالعوائق دون وحدة البشر هي الأغراض الخمسة الواردة في السورة‪.‬‬‫لذلك فالقاضي هو الذي يعين المقدار المناسب للجرم بحسب الظروف العينية بين صفر والحد‬ ‫الأقصى المعين في النص دون أن يكون ذلك تعديا على النص‪.‬‬ ‫‪117 102‬‬

‫فالناس يختلفون ويتنافسون ويتصارعون على المرأة والثروة والعلم والسلطة والدين‪ .‬وهي‬ ‫تتعين في الأحياز أي المكان وثمرته والزمان وثمرته والمرجعية‪.‬‬‫رأينا أن القرآن يوحد المكان والثروة والزمان والتراث والمرجعية وينسبها كلها ارثا مشتركا‬ ‫للبشرية بشرط الأهلية التي تجعلهم خلفاء عليها بحق‪.‬‬‫ونظام العلاقات بين البشر حولها هو أصل القانون الوطني والدولي ولا أحد ينكر أن‬ ‫القرآن الكريم قد اعترف بتعدد القوانين الملية ووضع قانونا دوليا‪.‬‬‫ونظم العلاقة الجنسية والاقتصادية والمعرفية والسياسية والدينية‪ .‬فهو أول دين يعترف‬ ‫بالحرية الدينية (البقرة ‪ )256‬والتعدد الديني (المائدة ‪.)48‬‬‫وإذن لا أحد يمكن أن ينفي أن إزالة العقبات دون وحدة الإنسانية الموضوعي منها‬ ‫(الأحياز) والذاتي (البينية) من أهم موضوعات القرآن الكريم‪.‬‬‫لو لم يرد ما ذكرناه هنا في خطة تربوية وسياسية لكان مجرد خطاب خلقي عام يجعل‬ ‫استعمال مفهوم الاستراتيجية التوحيدية مبالغة مني لا أساس لها‪.‬‬‫ورغم أن الفصل بين الخطة التربوية والخطة السياسية متساوقة في القرآن الكريم من حيث‬ ‫المبدأ إلا أن حكمة تنجيم القرآن جعل فاصلا زمانيا بينهما‪.‬‬‫فالقرآن المكي يغلب عليه الوجه التربوي والعقدي من الاستراتيجية والقرآن المدني يغلب‬ ‫عليه الوجه السياسي والشرعي من الاستراتيجية‪ .‬وهذا بين‪.‬‬‫ولا يكفي أن نتكلم على خطة تربوية وسياسية لتحقيق استراتيجية توحيدية حتى نبين أن‬ ‫القرآن يؤسس في جوابه على أسئلتنا الخمسة وإلا لما كان محيرا‪.‬‬ ‫المحير في هذه الأجوبة التي سنوردها هو الأمر الحاسم في مصدر القرآن‪:‬‬ ‫هل هو وحي أم من تأليف الرسول؟‬ ‫وهذا السؤال صيغة حديث لإشكالية خلق القرآن‪.‬‬ ‫‪117 103‬‬

‫وفي الحقيقة الأمر لا يتعلق بصيغة حديثة فحسب بل هي صيغة جريئة تصرح بما تضمره‬ ‫الصيغة القديمة‪ .‬وحتى نفهم ذلك فلنوضح أن القصد المبنى لا المعنى‪.‬‬‫فيمكن أن يكون قول المعتزلي بخلق القرآن متعلقا بالمبنى دون نفي أن الوحي هو أصل المعنى‬ ‫فيكون المخلوق هو المبنى لا المعنى‪ .‬والمبنى هو المشكل‪.‬‬‫لأنك تجد من يقبل أن يكون المعنى إليها والمبنى نبويا وهو فهم للوحي بمعنى الإيحاء المعنوي‬ ‫وترك الصيغة اللغوية للنبي لأن الوحي ليس كلاما بلسان‪.‬‬‫ولأذكر حادثة وقعت لي مع قسيس في بيت الزميل حسن حنفي‪ .‬قال لي‪ :‬هل تصدق أن‬ ‫القرآن بنصه وحي إلهي؟ المعنى ممكن لكن المبنى غير ممكن‪ .‬توقع احراجي‪.‬‬‫لم أجب عن سؤاله بل سألته‪ :‬هل تعتقد أن المسيح مجرد معنى أم هو شخص حقيقي وجد‬ ‫في التاريخ الفعلي وصلب ثم بعث؟‬ ‫هل إلهكم يلد لكنه أبكم؟‬ ‫وهل ربكم خلق أفكار العالم الطبيعي وغيره خلق قيامه المادي؟‬ ‫كيف يجيب القرآن فيحدد المابعد بأصنافه الخمسة‪:‬‬‫فما بعد الفقه وما بعد الفلسفة وما بعد أدواتهما المشتركة (المنطق والرياضيات واللسان‬‫والتاريخ) هي ما بعد المدونة التقليدية التي لم يكن لها ما بعد في الاستثمار الأول لوظائف‬ ‫القرآن بسبب الاستعمال المباشر والساذج لدلالاته‪.‬‬‫لكن ما بعد البدائع التي تصل بين هذه المجالات وما بعد الروائع التي تطلب ما يوحدها‬‫بجمال الرائع وجلال المريع في الوعي الإنساني في تدبره القرآن معرفيا وخلقيا هي التي‬ ‫تمكن من العودة على الاستثمار الأول لتبحث فيما بعد مجالاته كلها‪.‬‬ ‫‪117 104‬‬

‫وأجوبة القرآن على هذه الأسئلة هي مضمون التفسير الفلسفي الذي حاولت القيام به‬‫بقدر الإمكان‪ .‬وهي أساس ما قدمناه في هذه الفصول التسعة التي تكلمنا فيها على أبعاد‬ ‫الحرب اللطيفة‪.‬‬‫فالحرب اللطيفة هي بالذات ما يقدمه القرآن الكريم للحرب على معيقات وحدة البشرية‬ ‫وقد استعار القرآن مفهوم حرب الله في كلامه على الربا مثلا‪.‬‬‫أمر الآن وبإيجاز للكلام على منطق السياسة المحمدية بوصفها تطبيقا لهذه الاستراتيجية‬ ‫بتحقيق عينة من وحدة الإنسانية بهذه المعايير التي وصفنا‪.‬‬‫فهذه السياسة ينبغي أن تكون استراتيجية الاستئناف التي ستجعل القرآن دستور البشرية‬ ‫كلها حتى تحرر من مفارقة العولمة‪ :‬وحدة مادية عداوة روحية‪.‬‬‫وتكفي أدلة سريعة دون تحليل طويل‪ .‬وهي خمسة أدلة بينة بحيث لا يستطيع نفيها حتى‬‫ألد الاعداء‪ :‬الدستور النبوي والصحابة وخطاب الفاتحين والعلاقة بالحضارات السابقة‬ ‫والعلاقة بالأقوام التي أسلمت وبثقافاتها‪.‬‬‫وهذه كلها أدلة على الاعتراف بالتعدد والحريات وعدم فرض الإسلام بالقوة رغم ما يزعم‬ ‫نتيجة للخلط بين الحلول الثلاثة التي حددت هذه العلاقة‪.‬‬‫فالإشكال فيها جميعا أن المغرضين يرفضون دلالتها لأنهم يريدون دائما أن يبرزوا دور‬ ‫السيف في انتشار الإسلام ونفي دور الدعوة السلمية‪.‬‬‫وهو ليس صحيحا في التاريخ إلا ظاهريا لـما يبدو من وقوع بعض الفتوحات به وذلك للخلط‬ ‫بين الفتوحات الدينية والغزو السياسي وهما مختلفان تماما‪.‬‬‫لذلك هو فهم كاذب في الباطن لأن ما يقع بالسيف ليس الفتوحات بل الغزو الذي يأتي بعد‬ ‫رفض الدعوة الدينية وعرض الحماية فننتقل من الفتح الديني إلى الغزو السياسي‪.‬‬‫إنه حينها غزو وليس فتحا‪ .‬والدليل أن البلاد المفتوحة بهذا الأسلوب الثاني قد تتجنب‬‫الحرب بقبول الصلح فتحافظ شعوبها المفتوحة على عقائدها مع الخضوع السياسي للدولة‬‫الإسلامية ودفع الجزية في حين أنها في الحالة الأولى لا تدفع شيئا بل تعامل ككل المسلمين‪.‬‬ ‫‪117 105‬‬

‫وإذن فالخيار المعروض كان حقيقيا ولم يكن خدعة‪ .‬وغالبا ما يكون هذا الحل حلا وسطا‬‫في شكل صلح بين الفاتحين والبلاد التي تتجنب الغزو بالعسكري فتقبل بشرط الحماية‬ ‫مقابل الجزية والمحافظة على عقائدها‪.‬‬ ‫وأبدأ بالدستور‪ :‬كلمة واحدة هل هو مقصور على المسلمين؟‬ ‫أثني بالصحابة‪ :‬هل هم عرب فحسب؟‬‫وأصل إلى المركز أي الفتح‪ :‬هل ثالوث خطاب الفتح للشعوب يفيد تقدم السيف على‬ ‫الدعوة؟‬‫يبدو كذلك وهو الظاهر لأنه يعرض على أنه ثالوث وهو في الواقع خمسة خيارات لأن‬ ‫اثنين من الثلاثة مضاعفان‪ .‬الأول الإسلام والمساواة‪ :‬تحقيق وحدة البشرية‪.‬‬‫وهو الغاية الروحية من الفتح أي توحيد البشرية حول الحريتين الروحية والسياسية‬‫(مضمون خطاب رسول جيش الفتح إلى رستم)‪ :‬عبادة رب العباد بدل العباد وذلك هو‬ ‫مدلول الحريتين‪.‬‬‫الخطاب الثاني مضاعف كذلك‪ :‬ترفض مساواة الوحدة إذن تكون تابعا سياسيا وتدفع‬ ‫الجزية‪ .‬وحينئذ يصبح القصد عدم المنع السياسي لعمل الفتح التوحيدي‪.‬‬‫وعلة الخلط بين الأمرين هو أن القابلين بالصلح ودفع الجزية أو حتى المغزوين عنوة‬‫يتعرفون بالتدريج على الإسلام فيدخلونه طوعا وربما لتجنب دفع الجزية وللحصول على‬ ‫المساواة (بلغة المواطنة التامة)‪.‬‬‫وحتى أبسط الأمر فلنقسه على سياسة حقوق الإنسان‪ .‬فالقانون الدولي الحالي يوجب على‬‫المجموعة الدولية فرضها بالدبلوماسية أولا وإذا بلغ الأمر حدا معينا بالقوة العسكرية عند‬ ‫اللزوم‪.‬‬‫ولا يأتي دور السيف إلا خامسا لرفض الحلين المضاعفين الأولين‪ :‬الإسلام الموحد بالمساواة‬ ‫والحماية الموحدة سياسيا ورفضهما =الحرب لفرض أحدهما‪.‬‬‫الأمران الأخيران دليلين على ذلك‪ :‬فالتعامل مع الحضارات السابقة يخضع لمبدأ طلب‬ ‫الحقيقة أيا كان مصدرها والتعامل مع الشعوب احترام هويتها‪.‬‬ ‫‪117 106‬‬

‫ولا توجد حضارة حافظت على هويات الشعوب التي انتمت اليها الحضارية والدينية‬ ‫واللسانية مثل الإسلام بدليل أن المذاهب المسيحية بقيت في أرضه‪.‬‬‫وتعدد الثراء الديني والثقافي والاثني واللغوي لم يبدأ ينتشر في الغرب إلا مؤخرا وهو‬ ‫ما يزال أهم مشاكله الاجتماعية وهي أمور عادية عندنا على الأقل في الواجب‪.‬‬‫لكننا لا نستثني مخالفة الواقع للواجب أحيانا‪ .‬لكن مهما كان الأمر ففي هذا المجال نحن‬‫متقدمون عليهم بقرون بدليل الخارطة الثقافية لدار الإسلام قبل انتشار المسيحية خارج‬ ‫أوروبا‪.‬‬‫لذلك فالنص بمبناه ومعناه والتاريخ بأحاديثه وأحداثه كل ذلك يثبت أن القرآن‬ ‫استراتيجية توحيد الإنسانية وأن السنة تربية وسياسة تحقق منه عينة‪.‬‬ ‫‪117 107‬‬

‫وصلنا إلى الفصل الأخير في الحرب اللطيفة التي تحقق الإنسان وشروط حياته وتحميه‬ ‫ذاته فيه أو في غيره وتحمي الأرض بوصفها معين حياته السوية‪.‬‬‫وهذه الحرب اللطيفة التي خسرناها منذ قرون لأننا صرنا أمة عزلاء سواء في تكوين‬ ‫الإنسان أو شروط قيامه أو في حمايته أو في حماية الأرض من الإنسان‪.‬‬‫وكل الفصول التسعة التي سبقت كان هدفها بيان علل هذا الفقدان وشروط استعادة‬ ‫القدرة عليها من خلال ارجاعها إلى تحريف المرجعية وما يتفرع عنها‪.‬‬‫وقد ذكرنا أن الفنون المتفرعة عن المرجعية الروحية للجماعة أربعة لكنها في الحقيقة تبينت‬ ‫ثمانية لأن كل علم من هذه العلوم الاربعة يمكن ينحرف‪.‬‬‫فرأينا أن كل علم يمكن أن يكون حقيقا يطابق اسمه مسماه ويمكن أن يكون مزيفا ليس له‬ ‫من حقيقته إلا الاسم‪ .‬وهذه العلوم المزيفة هي علة الانحطاط‪.‬‬‫فحرف علم النظر والعقائد ولم يبق منه إلا تخريف حول الميتافيزيقا والكلام وحرف علم‬ ‫العمل والشرائع فلم يبق منه إلا تخريف حول الفقه والتصوف‪.‬‬‫انعدمت ثمرات العلوم في مجالي وظيفتها أعني تحقيق شروط الاستعمار في الأرض‬ ‫والاستخلاف فيها بصورة تحول دون الإخلاد إليها وفقدان معاني الإنسانية‪.‬‬‫فبين ابن خلدون وقبله ابن تيمية وقبلهما الغزالي أي ثالوث المدرسة النقدية العربية أن‬ ‫الازمة الحضارية الإسلامية هذا مصدرها وحاولوا الإصلاح‪.‬‬‫وكان الهدف الأساسي من هذه المحاولة التصدي لدعوى خطيرة جعلت الأمة في حرب أهلية‬ ‫دونكيخوتية بين صفين أحدهما يدعي تمثيل الأصالة والثاني الحداثة‪.‬‬ ‫‪117 108‬‬

‫فصف الحداثة المزعوم ينطلق من واقعنا المتردي ويعلله ليس بانحراف حضاري بل يحمل‬‫مسؤوليته للمرجعية نفسها واتهامها بأنها منافية للحضارة فيريد محوهما وتعويضهما‬ ‫بالعارية‪.‬‬‫وصف الأصالة المزعوم يتصور أن الاستئناف ممكن بالقراءة المتخلفة للمرجعية وبما نتج‬ ‫عنها من فروع منحرفة ويظن الحداثة ما يعرضه الصف المقابل‪.‬‬‫وفي الحقيقة فصاحب الحداثة المزعوم يحارب المرجعية التي هي الكيان الحي بدل علاجها‬ ‫وصاحب الأصالة المزعوم يعالجها بالقراءة المتخلفة أي بدائها‪.‬‬‫لكني لست ممن يرضون بالموقف الدفاعي‪ .‬فمشكلي ليس مجرد الرد على انحرافي التشخيص‬ ‫والعلاج بل استئناف التشخيص من رأس لاكتشاف العلل العميقة‪.‬‬‫فالهدف هو تحقيق شروط التأصيل والتحديث بمقتضى سنن التغيير السوي في التاريخ‬ ‫الحضاري للأمم بصورة عامة لأننا لسنا شاذين عن سنن التاريخ الإنساني‪.‬‬‫والتشخيص يبدأ ببيان حقيقة هذين الموقفين الكاريكاتوريين من الأصالة والحداثة وكيف‬ ‫أنهما في الحقيقة من أعراض الداء وليسا من أصحاب الإصلاح‪.‬‬‫ولذلك سميت أصحاب كاريكاتور الأصالة بمليشيات السيف واصحاب كاريكاتور الحداثة‬ ‫بمليشيات القلم رغم تخصيصي الاسمين أحيانا لعملاء إيران وإسرائيل‪.‬‬‫وفي الحقيقة يصح التعميم‪ :‬أصحاب الكاريكاتورين عملاء إيران وإسرائيل وإن بغير قصد‬ ‫بخلاف عملائهما القصديين مثل حزب الله والاعلام الخادم له‪.‬‬‫فداعش (مليشيا سيف) وفقهاؤها (مليشيا قلم) والليبرالي والعلماني العربي كل أولئك‬ ‫هم أكثر فائدة لإيران وإسرائيل حتى من حزب الله واعلامه لأنهم طوابير خامسة‪.‬‬‫فرأيت أن الخطاب المباشر لشباب المقاومة لا يكفي لأنه في الحقيقة ينتهي إلى ما يشبه‬ ‫الوعظ والإرشاد الذي لا يمكن أن يكون مبدعين نظرا وعملا‪.‬‬‫وشرعت في عرض لا يمكن أن يتابعه إلا من يغوص فيه فيصبح مفكرا بذاته ولا يتقدم فيه‬ ‫إلا بقدر تقدمه الذاتي في فهم الإشكالية وعلاجها معي التوازي‪.‬‬ ‫‪117 109‬‬

‫وتلك هي علة شكوى الكثير من العسر‪ :‬فليس يسيرا أن ينتقل المرء من ثقافة التلقين الذي‬ ‫يكون فيه مجرد سامع ومنفعل إلى ثقافة الفحص والبحث الذاتيين‪.‬‬‫ولهذا فكلما سمعت شكوى من العسر تيقنت أن صاحب الشكوى بدأ يدرك حقيقة النقلة من‬ ‫موقف تلقي التلقين إلى موقف المشاركة في الاكتشاف والاستنارة‪.‬‬‫ودون شك فالكثير سيشعر بالإحباط ويهرب‪ .‬لكن يكفي أن يبقى واحد في المائة حتى‬ ‫تتراكم الأعداد وينشأ التحدي الذي لا يمكن للفكر من دونه أن يبدع‪.‬‬‫ويكفيني أن يكون لي سهم مهما كان مقداره ضئيلا في تكوين جيل يفحص ويبحث ويتجاوز‬ ‫مدرسة التلقين إلى مدرسة النقد (الغزالي وابن تيمية وابن خلدون) يكفيني فخرا‪.‬‬‫ولنشرع الآن في بيان ما نتج عن التحريفات الخمسة التي أدت إلى الانحطاط ولنقارن مآل‬ ‫حضارتنا بالحضارات التي تجاوزت أزمتها قبلنا فالسنن كونية‪.‬‬‫غادرت تونس سنة ‪ 2002‬واستقررت بماليزيا فتحررت من المنغصات‪-‬وجلها في الجامعة نفسها‬ ‫التي كانت اقطاعية لعملاء النظام من كاريكاتور الحداثة‪.‬‬‫وكنت أشعر أني قد استعددت لمهمة في مساري الأكاديمي من خلال دارستي لفلسفة اليونان‬‫(ارسطو خاصة) وفلسفة الألمان (هيجل خاصة) والمدرسة النقدية العربية (الغزالي وابن‬ ‫تيمية وابن خلدون)‪.‬‬‫وطبعا فقد درست الفلسفة العربية بمعناها التقليدي ذات الميل المدرسي الشارح للفلسفة‬ ‫اليونانية ومحاولات فهمها والفكاك من البارادايم الذي تمثله‪.‬‬‫والمهمة عندي مهمة مقدسة‪ :‬ما الذي حرف فكان علة ما حل بالأمة ما تعاني منه الآن؟ خطا‬ ‫ما حصل جعل تاريخنا بخلاف ما يقتضيه القرآن ويعد به الله‪.‬‬‫هذا السؤال هو الذي جعلني أعود لتدبر القرآن الذي اعترف بأني‪ -‬بسبب المسار الأكاديمي‬ ‫الغربي بإطلاق‪ -‬ابتعدت عنه بالفرقان لكني لحسن حظي لم أغادره بالوجدان‪.‬‬ ‫‪117 110‬‬

‫ذلك أني تشربت الكثير منه من بداية الطفولة إلى سن الرشد فبقي ذلك منحوتا في‬‫الوجدان إلى الآن‪ .‬انطلقت من فرضية أولية‪ :‬علة الخطأ هي استثمار القرآن بالمقلوب‬ ‫أعني في اتجاه يعكس ما حدده القرآن نفسه (فصلت ‪.)53‬‬‫لكن لماذا اعتبرت درس الفلسفة اليونانية والألمانية شرطا في علاج أزمة حضارتنا؟ لعلتين‪:‬‬ ‫فتاريخ الأمة بدأ عربيا بصراع مع دولة اليونان وانتهي عثمانيا بصراع مع دولة الألمان‪.‬‬‫وتاريخ فكرنا بدأ مواصلة ومحاولة للقطيعة مع فكر اليونان وانتهي بمواصلة ومحاولة‬‫لقطيعة ألمانية مع فكرنا‪ .‬فكان محاطا بهما‪ :‬نحن أصلحنا عقلنا خلال العلاقة باليونان وهم‬ ‫أصلحوا عقيدتهم‪ .‬خلال العلاقة بنا‪.‬‬‫فضل اليونان علينا كبير‪ .‬وفضلنا على الألمان أكبر‪ .‬فاليونان كانوا بداية رشد العرب‬‫العقلي أو بداية الفلسفة العربية‪ .‬ونحن كنا بداية رشد الألمان الروحي أو بداية التحرر‬ ‫من التحريف الكنسي‪ :‬فكانت المراحل خمسا‪.‬‬ ‫والمراحل الخمس المعتبرة في فهم أزمتنا هي‪:‬‬ ‫‪-1‬مرحلة فكر اليونان‬ ‫‪-2‬ومرحلة محاكاتنا لفكرهم‬ ‫‪-3‬ومرحلة القطيعة في المدرسة النقدية‬ ‫‪-4‬ومرحلة محاكاة الألمان لفكرنا‬ ‫‪-5‬ومرحلة القطيعة الألمانية مع مدرستنا المواصلة للفكر اليوناني وتلك هي الحداثة‪.‬‬ ‫ومعنى ذلك أن الفكر الحديث له بفكرنا علاقتان‪:‬‬‫وكل ذلك عشناه في إطار أو في ضوء مستمد من مرجعيتنا القرآنية وتفسيره السني أو من‬ ‫الإسلام بوصفه معين حضارة ما تزال نابضة القلب وإن تعطل العقل‪.‬‬‫ذلك هو منطلقي في محاولة تدبر القرآن لاقتراح تفسير فلسفي هو ما تكلمت عليه في‬ ‫الفصول السابقة وهو في الحقيقة لب الأفكار التي تعود إليها‪.‬‬ ‫‪117 111‬‬

‫فكان أول مشكل ليس استثمار القرآن صائبه من خاطئه بل حقيقة القرآن ما هي؟‬ ‫هل يمكن تعريف القرآن تعريفا جامعا مانعا يحدد طبيعته ومن ثم استثماره؟‬‫وبصورة أدق ألا ينبغي تقديم ما يقوله القرآن عن نفسه على ما يقوله على ما يتكلم فيه‬ ‫ووظيفته‪ :‬اليس القرآن نصا يعرف ذاته في الكثير من آياته؟‬‫إذا اقتصرنا على ظاهر الأمور أمكن أن نقول إن المسلمين قد فهموا القرآن من هذا المنطلق‪.‬‬ ‫ولذلك كانت فروع الاستثمار هي الفروع الأربعة وتزييفاتها‪.‬‬‫لكن في حقيقة الأمر هم عكسوا تعريف القرآن لذاته عكسا تاما‪ :‬فتعريفه لذاته لا يجعله‬ ‫محتويا على مضامين الفروع التي استمدوها منه بل العكس تماما‪.‬‬‫فهو يعرف ذاته بوصفه مستوى \"ماورائيا\" للفروع حتى تكون على حقيقتها وتؤدي وظيفتيها‬ ‫اللتين هما تحقيق شروط استعمار الإنسان في الأرض والاستخلاف فيها‪.‬‬‫وعلوم الطبائع هي الطبيعيات وعلوم الشرائع هي علوم الإنسانيات‪ .‬ولهذه العلوم شروط‬ ‫منهجية وأدوات هي بدورها موضوع علوم هي علوم الذرائع الأربعة‪.‬‬‫وعلوم الذرائع هي‪ :‬المنطق والرياضيات بالنسبة إلى الطبيعيات خاصة وهي التاريخ‬ ‫واللسانيات بالنسبة إلى الانسانيات خاصة‪ .‬ونوعا الذرائع يعمان العلمين بنحو ما‪.‬‬‫ولما كانت هذه المجالات الثلاثة الطبائع والشرائع والذرائع مختلفة ومتواصلة فلا بد من‬‫معرفة طبيعة الوصل الجاسر بينها‪ .‬وذلك هو موضوع البدائع أو الوصلات الماورائية بينها‪.‬‬‫وحينئذ نصل إلى ما وراء كل ما وراء أو علم الروائع التي يمكن أن تكون بأسلوب ديني أو‬‫بأسلوب فلسفي أو بهما معا‪ :‬وذلك هو مميز القرآن الجوهري‪ .‬وعلم الروائع هو ما يمكن‬ ‫أن نسميه الإلهيات عامة فلسفية كانت أو دينية‪.‬‬‫تلك هي الأمور التي أضاعها الالتفات السيء في الموقف التأويلي من رسالة القرآن الكريم‪:‬‬‫بدلا من سماع دعوة القرآن بالالتفات إلى الآفاق والأنفس موضوع النظر والعمل بقي‬ ‫الاستثمار في شرح النص بمعان ساذجة وغفلة لا ترقى لمستوى القرآن النظري والعملي‪.‬‬ ‫‪117 112‬‬

‫وفي الحقيقة فالاستثمار الذي أوصل الأمة إلى ما هي عليه جنيس ما يسمى بالإعجاز‬ ‫العلمي‪ :‬بدلا من طلب قوانين الطبيعة منها يطلبونها من نص القرآن‪.‬‬‫فانتهى الأمر إلى العلوم الزائفة التي هي دجل في دجل كانت سابقا البحث عن نتائج علوم‬ ‫اليونان فيه وهي اليوم البحث عن نتائج العلوم الغربية فيه‪.‬‬‫ذلك هو التحيل على وجوب الجهد الضروري قرآنيا‪ :‬النظر في الآفاق والأنفس لمعرفة‬ ‫حقيقة القرآن بدل النظر فيه لمعرفة حقيقة الطبائع والشرائع‪.‬‬‫هذا الخطأ التأويلي لم تظهر عوراته بسبب عنفوان البداية وكفاية المعرفة العفوية‬ ‫والغفلة في المجتمعات الأولى لكن عيوبه تراكمت إلى ما نراه الآن من حال الامة‪.‬‬‫ومعنى ذلك وخلافا لما يتوهم أدعياء الحداثة وأعداء الأمة وضع الأمة لا يعلله ما في‬ ‫المرجعية القرآنية والسنية بل ما جعلها تحرف وظائفهما فتعكسها بدل تحقيق مطلوبها‪.‬‬‫أكاد أطبق المثل الصيني‪ :‬الغافل لا ينظر إلى ما تشير إليه السبابة بل إلى السبابة‪ .‬لم‬ ‫يروا ما يشير إليه القرآن‪ :‬الآفاق والأنفس وغاية النظر والعمل‪.‬‬ ‫فغاية النظر هي تحقيق شروط مقومي الوجود الإنساني باعتباره مكلفا بمهمتين‪:‬‬‫والثانية غير ممكنة من دون الأولى‪ .‬لكن الأولى ممكنة من دون الثانية‪ .‬وفي هذه الحالة‬ ‫يكون الإنسان كما وصفته الملائكة شخصا {يفسد فيها ويسفك الدماء}‪.‬‬‫والأخطر هو أن الذي يتصور الثانية ممكنة من دون الأولى يصبح عبدا لصاحب الأولى‬‫لأنه يكون أعزل لا يملك شروط رعاية ذاته ولا شروط حمايتها‪ :‬وهذه حال المسلمين الآن‪.‬‬‫وبعبارة أوضح‪ :‬فـمن يخسر الحرب اللطيفة لا يمكن أن يربح الحرب العنيفة إذا اضطر‬‫إليـها‪ .‬ولهذه العلة وضعت الآية ‪ 60‬من الأنفال شرطين‪ :‬القوة عامة (من قوة) والقوة‬ ‫العسكرية (من رباط الخيل)‪.‬‬‫فالقوة عامة هي سلاح الحرب اللطيفة أي النظر والعمل وتطبيقاتهما لتحقيق وظيفتي‬ ‫الإنسان (الاستعمار والاستخلاف) ورباط الخيل هو سلاح الحرب العنيفة‪.‬‬ ‫‪117 113‬‬

‫انطلاقا من هذا التحليل لتعريف القرآن كما عرف نفسه اكتشفت أن القراءة الأولى‬ ‫للقرآن قلبت حقيقته فجعلته مصدرا مضموني لمضامين النظر والعمل‪.‬‬‫لكنه هو يعرف نفسه بكون مصدر معياري ما بعد مضموني وما بعد منهجي وما بعد خلقي‬ ‫لأفعال الإنسان كلها وخاصة للنظر والعمل للاستعمار والاستخلاف‪.‬‬‫فعنونت التفسير الفلسفي بـ «استراتيجية القرآن التوحيدية ومنطق السياسة المحمدية\"‬ ‫أي إن القرآن وضع استراتيجية توحيد البشرية الرسول حقق منها عينة‪.‬‬ ‫وهذه الاستراتيجية ذات وجهين‪:‬‬‫والاستراتيجية هي بالطبع فكر ماورائي لعمل على علم‪ :‬وهي ما بعد نظرية وما بعد عملية‬ ‫حتما‪ .‬تلك هي حقيقة القرآن كما يعرف نفسه‪.‬‬‫فهو ما وراء النظر والعمل في الطبيعيات (الآفاق) وفي الإنسانيات (الأنفس) وفي‬ ‫الذرائعيات (ادوات المعرفة والعمل ومناهجهما) وفي الإبداعيات (الوصل بينها)‪.‬‬‫وهو في الغاية ما بعد النظر والعمل في الروائعيات لتوحيد ذلك توحيدا جماليا وتوحيدا‬‫جلاليا أي توحيدا يرينا رائع الانتظام في ذلك كله وتوحيدا يرينا مريع اللاانتظام في ذلك‬ ‫كله الصائر إلى الانتظام‪.‬‬‫وهذا التوحيد بصنفيه يمكن أن يكون مطلوبا بالأسلوب الفلسفي ويمكن أن يكون مطلوبا‬ ‫بالأسلوب الديني‪ .‬وهو نفس الطلب التوحيدي من حيث المضمون الغائي‪.‬‬‫وذلك هو بالذات ما أنسب التفطن إليه إلى المدرسة النقدية العربية التي كتبت فيها ضميمة‬ ‫لترجمة المثالية الألمانية وقارنتها بنظيرتها الألمانية في مسألتين‪.‬‬ ‫والمسألتان هما فلسفة النظر والدين وفلسفة العمل والتاريخ‪:‬‬ ‫‪117 114‬‬

‫كلاهما تجاوز اليونان في مجال إبداعه ولم يتجاوزه الألمان إلا بالمضمون والتطور الشكلي‬‫في نفس البارادايم المتجاوز لليونان وللمدرسية العربية وبنفس التوجه النظري والعملي‪.‬‬‫لكن المبدع مهما أبدع يبقى غير معصوم‪ .‬إذن فبيان فضلهما لا يعني القبول بكل ما رأوه‬‫لذلك تجد الكثير من النقد الموجه لهما في كتاباتي عنهما‪ :‬خطأ سد الذرائع خاصة فهو قد‬ ‫قتل الخيال المبدع‪.‬‬‫فشبابنا لا ينبغي أن يوثن أحدا بل عليه أن يعترف بفضله وخاصة بفضل ما جعله صاحب‬ ‫فضل‪ :‬أي القدرة على الإبداع والنقد عامة والذاتي خاصة شرط تطور‪.‬‬‫هذا الفصل الختامي لن يكون طويلا بل هو من حجم الفصل التمهيدي‪ :‬يكفي فيه بيان‬ ‫أهمية الحرب اللطيفة والمساهمة في تحرير الأمة من الكاريكاتورين‪.‬‬‫والمخاطب به هو شباب الثورة والمقاومين المؤمنين بضرورة الاستئناف مع تجنب الخطأ‬ ‫التأويلي الذي كان علة ما عليه الأمة الآن‪ .‬والله المستعان‪.‬‬‫وختاما فلأشر إلى أمرين يتميز بهما القرآن الكريم واعتقد أنهما علة الحيرة التي تتملكني‬ ‫كلما اقتربت منه‪ :‬فهو يجمع بين التناولين الديني والفلسفي لكل ما يعالجه من قضايا‪.‬‬‫والدليل على هذا الجمع هو تضمنه لضربي التأسيس الماورائي بالأسلوب التحليلي‬‫وبالأسلوب التأويلي‪ :‬فهو يعتمد منهجي التحليل والتأويل اعتمادا واعيا وقصديا بصورة لم‬ ‫تصل الفلسفة الحديث إلى ما يشبهها إلا مؤخرا‪.‬‬‫ذلك أنه يؤسس علاجه لقضايا عالم الشهادة على المفهومات بمنهج تحليلي ويؤسس علاجه‬ ‫لقضايا عالم الغيب على الأمثولات بمنهج تأويلي‪.‬‬‫والجمع بين هذين المنهجين يضيف ما يخلو منه الأسلوب الفلسفي لأنه أقرب إلى الأسلوب‬‫المسرحي أي إن العلاج في الحالتين يكون في الغالب جامعا بين شكل الحوار والمشهد التمثيلي‪.‬‬‫ولعل أفضل مثال هو أمثولة اعلام الله الملائكة باستخلاف بجعل آدم خليفة في الأرض‪ :‬فالله‬ ‫أعلم الملائكة بأنه اختار آدم ليكون خليفة في الأرض‪.‬‬ ‫‪117 115‬‬

‫ثم داربين الله والملائكة برواية إلهية للحوار‪ :‬حوار حول هذه المسألة وفيها تم تأسيس ما‬ ‫سيجعل التحليل والتأويل يصبحان ممكنين‪.‬‬‫فالحجة الحاسمة في أهلية آدم للاستخلاف كانت قابليته لتعلم التسمية أعني الوظيفة‬‫الرمزية التي بها يكونه التحليل والتأويل‪ .‬وذلك رغم احتجاج الملائكة بأن آدم ليس أهلا‬ ‫خلقيا‪ :‬يفسد فيها ويسفك الدماء‪.‬‬‫واستنادا إلى ما في احتجاج الملائكة من بعض الصواب وتوفر شرط التكليف والمسؤولية أصبح‬‫الوجود التاريخي للإنسان امتحانا لهذه الأهلية‪ :‬الاستعمار في الأرض امتحان لأهلية‬ ‫الاستخلاف ولجدارة التكليف والمسؤولية الإنسانية‪.‬‬‫هو إذن جمع بين فلسفة الدين وفلسفة التاريخ انطلاقا من حقيقة الإنسان وأهليته‬‫للحريتين الروحية (لا وساطة بينه وبين ربه) والسياسية (لا وجود لحق إلهي في حكم‬ ‫الإنسان بل هو حاكم نفسه بنفسه)‪.‬‬‫وحكم نفسه بنفسه يمكن أن مباشرة أو باختيار من يقوم بالوظيفة باعتبارها في الجماعة‬‫فرض كفاية‪ .‬والعناية بالأمر يبقى فرض عين لأن المؤمن يعرفه القرآن بالأمر بالمعروف‬ ‫والنهي عن المنكر (آل عمران ‪.)104‬‬‫والجمع بين الفرضين الكفائي والعيني يتحقق في واجب الجماعة في رقابة النائب إذ هو‬ ‫مستأمن على تحقيق العدل فيها‪ :‬وهي لا تطيعه إلا ما أطاع الشريعة‪.‬‬‫ولهذه العلة لم تقبل حجة الملائكة ضد آدم رغم صحتها في حالة فشل الامتحان وهو معنى‬‫اتباع ابليس‪ :‬فالأهلية الاستخلافية لا تكفي فيها العبادات التي ظن الملائكة أنهم بها أولى‬ ‫من آدم بالاستخلاف‪ :‬ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك‪.‬‬‫الأهلية لا تتحقق إلا بنوعي الشروط‪ :‬شروط الاستعمار في الأرض حتى لقيام الإنسان في‬‫التاريخ الذي فيه تمتحن الحرية والتكليف والمسؤولية وشروط الاستخلاف الذي يحرر ذلك‬ ‫من الإخلاد إلى الأرض‪ :‬العمل بأخلاق القرآن في كل أفعال الإنسان النظرية والعملية‪.‬‬ ‫‪117 116‬‬

‫ذلك هو ما فقدناه فصرنا عالة على غيرنا وفسدت فينا معاني الإنسانية كما قال ابن خلدون‬‫في كل أمة وقعت تحت الاستبداد والفساد‪ .‬ولا يمكن الخروج من ذلك إلا بالحريتين‪:‬‬‫الروحية (لا وساطة بين المؤمن وربه) والسياسية (لا حق إلهي في حكم الجماعة إلا للجماعة‬ ‫نفسها)‪.‬‬ ‫‪117 117‬‬



‫‪02 01‬‬ ‫‪01‬‬ ‫‪02‬‬‫تصميم الأسماء والبيان – المدير التنفيذي‪ :‬محمد مراس المرزوقي‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook