Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore سلسلة الحرب اللطيفة ممهدات لفهمها وشروط لعلاجها - ابو يعرب المرزوقي

سلسلة الحرب اللطيفة ممهدات لفهمها وشروط لعلاجها - ابو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2017-05-12 09:35:39

Description: سلسلة الحرب اللطيفة ممهدات لفهمها وشروط لعلاجها - ابو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫ممهدات لفهمها وشروط لعلاجها‬

‫ممهدات لفهمها وشروط لعلاجها‬

‫‪1‬‬ ‫المحتويات‬ ‫‪1‬‬ ‫تمهيد‪:‬‬ ‫‪2‬‬ ‫الغيب في الاستراتيجيا السياسية والعسكرية‬ ‫‪3‬‬ ‫‪5‬‬ ‫الاستعلام والمعرفة العلمية‬ ‫‪6‬‬ ‫مفعول العقيدتين في الأخلاق العامة‬ ‫‪7‬‬ ‫‪8‬‬ ‫مفارقة في النظرة السنية‬ ‫‪9‬‬ ‫العلاقة بين تأويل المتشابه والاستراتيجيا‬‫‪12‬‬ ‫مثالان تطبيقيان على سبيل الفرض‬ ‫سوء استعمال الحرب اللطيفة‬ ‫‪12‬‬ ‫‪12‬‬ ‫تمهيد‪:‬‬ ‫‪14‬‬ ‫الإشكالية الجوهرية‬ ‫‪14‬‬ ‫الطريق إلى وضع الاستراتيجية‬ ‫‪15‬‬ ‫مطلبا الاستئناف وقيمتاه‬ ‫‪16‬‬ ‫السؤال الأول‪ :‬ما حقيقة الثورة الإسلامية؟‬ ‫‪18‬‬ ‫السؤال الثاني‪ :‬ما حقيقة الحداثة الغربية؟‬ ‫‪19‬‬ ‫السؤال الثالث‪ :‬ما الفرق بين الثورتين؟‬ ‫‪20‬‬ ‫السؤال الرابع‪ :‬كيف تتصالح الثورتان؟‬ ‫‪21‬‬ ‫السؤال الخامس والأخير‪ :‬كيف نربح معركة الحقيقة؟‬ ‫‪23‬‬‫‪24‬‬ ‫‪24‬‬ ‫‪25‬‬ ‫‪25‬‬ ‫‪26‬‬ ‫‪27‬‬ ‫‪29‬‬ ‫‪31‬‬ ‫‪31‬‬ ‫‪32‬‬

‫‪34‬‬ ‫عائق الثورة المعرفية في حضارتنا‬‫‪37‬‬ ‫‪37‬‬ ‫‪37‬‬ ‫‪39‬‬ ‫‪40‬‬ ‫‪40‬‬ ‫‪42‬‬ ‫‪43‬‬ ‫‪44‬‬ ‫‪45‬‬‫‪47‬‬ ‫‪47‬‬ ‫‪47‬‬ ‫‪49‬‬ ‫‪49‬‬ ‫‪52‬‬ ‫‪53‬‬ ‫‪55‬‬ ‫‪55‬‬ ‫‪56‬‬‫‪59‬‬ ‫‪59‬‬ ‫‪60‬‬ ‫‪60‬‬ ‫‪62‬‬ ‫‪63‬‬ ‫‪64‬‬ ‫‪65‬‬ ‫‪66‬‬ ‫‪67‬‬ ‫‪69‬‬

71 7179 79 79 81 82 83 84 84 86 87 88 89 89 90 91 92 92 93 9394 94 94 95 96 97 98 100 100 101 103 103

105108 108 108 110 111 112 112 114 115

‫ختمت كلامي حول الموقف السياسي والاستراتيجي الحالي في الهلال بمحاولة التمييز بين‬ ‫تأويل الأحاديث‪ ،‬وتأويل الأحداث‪ ،‬معتبرا الثاني أعسر من الأول‪.‬‬‫وأشرت إلى الآية السابعة من آل عمران التي تعتبر تأويل المتشابه دليلا على زيغ القلوب‬‫وابتغاء الفتنة‪ .‬والمشكل يتعلق بتأويل الحديث لا الحدث‪ .‬وحديث الرؤيا في قصة يوسف‬ ‫دون متشابه القرآن تضمنا للغيب‪.‬‬‫ولا فائدة من التذكير بأن الآية قرئت إما بدلالة عطف علم الراسخين على علم الله‪ ،‬أو‬‫بدلالة الاستئناف‪ .‬وقد سبق لابن خلدون أن فضل الدلالة الثانية‪ :‬العطف لا الاستئناف‪.‬‬‫لكن فطنته جعلته يرد الأولى إلى الثانية‪ ،‬حتى لو قبلنا بها‪ ،‬رغم مناقضتها لقوانين النحو‬‫العربي‪ .‬فعطف علم الراسخين على علم الله لا يجعلـه مطابقا لعلم الله‪ ،‬وهو ما يعني أن‬‫ما بسببه اعتبر النص متشابها‪ ،‬هو ما به يختلف علم الله به عن علم الإنسان به‪ ،‬مهما كان‬ ‫راسخ العلم‪ :‬فالغيب في الحديث موضوعه الـحدث المجهول‪ ،‬أي مرجع الحديث‪.‬‬‫فما لا يستطيع الراسخ في العلم تأويله متعلقا بمرجعية الحديث‪ ،‬أي بدلالته التي يتعلق بها‬ ‫التشابه الناتج عن القيس على الشاهد‪ :‬قلبوا العلاقة فـجعلوا المشكل حلا‪.‬‬‫ذلك أن قيس الغائب‪ ،‬فضلا عن الغيب‪ ،‬على الشاهد‪ ،‬يعني اغفال الفارق الذي هو مطلوب‬ ‫البحث‪ .‬ولما كان الغائب مجهولا وقتيا‪ ،‬وكان الغيب مجهولا دائما‪ ،‬كان القلب من الحمق‪.‬‬‫غياب المرجعية (الدلالة أي الإحالة إلى الحدث أو الشيء المفاد بالحديث) يجعل الكلام‬ ‫على قياسها على الشاهد نفيا لما تتميز به عنه‪ ،‬الذي هو من الغيب‪.‬‬‫والقرآن حدد بخصوص موضوعنا‪-‬أي السياسة والحرب‪ -‬حضور هذا الغيب في كلامه على‬ ‫تعيين الأعداء خلال وضع مبدأ الردع أو الاستعداد لهم‪ :‬الأنفال ‪.60‬‬ ‫‪117 1‬‬

‫صنفت الآية الأعداء‪ ،‬فبعضهم أعداؤنا‪ ،‬وبعضهم أعداء الله (وبينهما تقاطع)‪ ،‬وبعضهم‬‫لا نعلمهم‪ .‬الله وحده هو الذي يعلمهم‪ .‬وبهذا المعنى فتعيينهم من الغيب‪ ،‬الذي لا يعلم‬ ‫قبليا‪ ،‬ويعلم بعد حدوثه‪.‬‬‫فإذا عدنا إلى موضوعنا في الكلام على الاستراتيجيا والحرب‪ ،‬فإن تأويل الأحداث ينبغي‬‫أن يأخذ بعين الاعتبار هذا الأمر المتعلق بما لا يقبل العلم إلا بعد حدوثه (وهو أحد معاني‬ ‫التأويل المقصور علمه القبلي على الله وحده)‪.‬‬‫وبخلاف ظن الكثير‪ ،‬فإن ما لا يقبل العلم في الاستراتيجيا والسياسة ليس نقصا‪ ،‬بل هو عين‬‫الكمال الاستراتيجي‪ .‬ذلك أنك إذا كنت تعلم أنك لا تعلم كل شيء‪ ،‬فمن الحكمة أن تكون‬ ‫أكثر حذرا‪.‬‬‫وتلك هي أسمى الفضائل في السياسة وفي الحرب‪ :‬أن تكون أكثر حذرا فتستعد لغير المتوقع‪.‬‬ ‫وغير المتوقع ليس مرسلا‪ ،‬بل نعلم جنسه ونوعه ولا نجهل إلا عينه‪.‬‬‫وتحديد العين‪ ،‬وإن كان مهما‪ ،‬فهو ليس ضروريا‪ .‬فالمهم أن تستعد لنوعه‪ ،‬وهو طبعا متعلق‬ ‫بأمر إضافي لقوة الأعداء المحتملين‪ ،‬ونسبتها إلى قوتك في الصراع‪.‬‬ ‫والأمر متعلق بشيئين‪:‬‬‫والجاهزية تتعلق بتكوين الإنسان جندا وقيادة‪ ،‬وبإبداع التجهيز والعدة والتخطيط لما‬ ‫يناسب الاحتمالات‪.‬‬ ‫والاستعلام نوعان‪:‬‬ ‫والأول يتجلى في حال المجتمع المادية‪ ،‬والثاني في حاله المعنوية‪.‬‬ ‫ولكل منهما أثر في الثاني فهما متفاعلان‪.‬‬ ‫‪117 2‬‬

‫وإذن يحدث نوعان آخران أشد تعقيدا وخفاء‪ ،‬فاثر المادي في المعنوي متعدد الأشكال‪ ،‬بل‬ ‫لا متناهيها‪ .‬ومثله أثر المعنوي في المادي‪.‬‬ ‫أما لماذا كانت الحال المادية يعسر إخفاؤها‪ ،‬فلأنها تشمل الوجود الظاهر والجلي‪.‬‬ ‫أما الحال المعنوية‪ ،‬فتشمل الوجود الباطن والخفي‪.‬‬ ‫ولا يمكن إخفاء الأولـى لأنها عين قيام الجماعة المشهود‪.‬‬ ‫لكن الثانية هـي حالها الخلقية‪ ،‬وخاصة طبيعة صلة أفعال ناسها بأقوالهم‪.‬‬‫فالأنظمة يمكن‪ ،‬بالدعاية‪ ،‬أن تنشر صورة عن حالها المعنوية مناقضة للحقيقة‪ ،‬فضلا عن‬ ‫كون المعنويات عسيرة الفهم‪.‬‬ ‫والأثران المتبادلان بين الحالين أشد خفاء‪.‬‬‫ولذلك فلن نتكلم فيهما تيسيرا للعلاج‪ ،‬وسنعود إليهما عندما نخصص بحثا للحرب اللطيفة‬ ‫الذي قد نقدم عليه قريبا‪ .‬وهو شديد العسر‪ ،‬كما سنرى‪ ،‬إن تمكنت من علاجه‪.‬‬‫فما تنشره دعاية إيران لا يمكن ان يكون حقيقيا‪ ،‬لأنه مناقض تماما لطبائع الأشياء‪ .‬فما‬‫يجعل الشعوب متشبثة بأنظمتها‪ ،‬ذو صلة مباشرة بحالها المادية‪ .‬والولاء للأنظمة متناسب‬ ‫مع العدالة الاجتماعية‪ .‬ولعل مثال مقاومة الشعب للانقلاب في تركيا خير دليل‪.‬‬‫وذلك خاصة إذا طال عهد انخرام الحال المادية‪ ،‬مع ظلم اجتماعي صارخ‪ ،‬وكانت المقارنة‬‫مع حال العدو داعية للتراخي في معنويات الشعب‪ .‬ويحصل عندما لا تفي الأنظمة بما لأجله‬ ‫وجدت‪ ،‬فضلا عن وعودها‪.‬‬‫فالولاء لما يسمونه ثورة في إيران مثلا‪ ،‬ربما قد كان قويا في البداية‪ ،‬ولكن بعد ثلاثة عقود‬ ‫ونيف‪ ،‬يستعاض عن الوعود الكاذبة بوازع تسلطي‪ ،‬يزيد رفض الشعب لها دعما‪.‬‬‫وهذه من الطرق التي تساعد على استنتاج الحال المعنوية من الحال المادية‪ ،‬إذا بلغ عدم‬ ‫الوفاء بالوعد إلى فقدان الأمل في الوفاء‪ ،‬واليأس من النظام‪.‬‬‫لكن الاستنتاج لا يكفي‪ ،‬إذ لا بد من تأييده بالمعاينة‪ ،‬وتلك هي مهمة الاستعلام المباشر‬ ‫للمعنويات وراء دخان البروباجندا وكذب الانظمة المستبدة‪.‬‬ ‫‪117 3‬‬

‫وما يمكن استنتاجه من الحال المادية في إيران‪ ،‬لا يكاد شيء منه يخفى عن العين المجردة‪.‬‬ ‫لكنه غير كاف‪.‬‬‫صحيح أن ثروتها وتعداد سكانها أمور معلومة‪ ،‬ومن ثم فاستنتاج أن الظلم‪ ،‬ثم النقمة على‬ ‫النظام‪ ،‬يزدادان‪ ،‬معقول‪.‬‬‫ذلك أنه كلما قلت الثروة‪ ،‬وزاد عدد السكان‪ ،‬قل حظ الغالبية‪ ،‬وزاد استحواذ من بيدهم‬ ‫السلطة على الثروة‪ ،‬وذلك هو ما يعاب على حرس الثورة والملالي‪ ،‬وهو ما لا يخفى‪.‬‬‫وصحيح أن العرب ليسوا أفضل حالا من حيث الاستبداد والفساد‪ ،‬لكن قلة العدد‪ ،‬وحجم‬ ‫الثروة‪ ،‬يقلل من فاعلية الظاهرة بالتناسب‪ ،‬حتى في حالة أزمة البترول‪.‬‬ ‫مثال‪ :‬المقارنة بين السعودية وإيران‪:‬‬‫فلو قارنا السعودية بإيران مثلا‪ ،‬لوجدنا سكان الأولى ربع سكان الثانية‪ ،‬وأن دخلها ضعف‬‫دخلها على الأقل‪ ،‬ومن ثم ففاعلية الظاهرة فيها لا تتجاوز ثمن فاعليتها فيها‪ :‬وهذا عامل‬ ‫موضوعي‪.‬‬‫ولنسلم بأن كثرة أهل الجاه (الأمراء وزبائنهم)‪ ،‬وتبذير الثروة في السعودية‪ ،‬قد ينزل‬ ‫بـالنسبة الإيرانية إلى الربع بدل الثمن‪ ،‬فيبقى الفارق دائما ذا دلالة‪.‬‬‫ويوجد عامل موضوعي آخر لا يخفى لتحديد هذه النسبة‪ .‬إذ يمكن أن يكلف نفس العمل‬‫في السعودية على الأقل‪ ،‬ضعف كلفته في إيران‪ ،‬بسبب هذه الظاهرة‪ ،‬وبسبب الاعتماد على‬ ‫الخبراء الأجانب والعمالة الأجنبية‪ ،‬وهما سبب نزيف العملة‪.‬‬‫فعندما أسمع ما يكلفه الاعتماد على توني بلير في بعض بلاد العرب‪ ،‬أعجب‪ ،‬ففيم هو‬ ‫خبير؟‬ ‫في تآمر العرب على بعضهم البعض مثلا؟‬ ‫هل ما يزال العرب بحاجة للورنس ثان؟‬ ‫ما بال العرب يدفعون لمن يغشهم أضعاف أضعاف ما يمكن أن يطلبه أبناؤهم الخلص؟‬ ‫هل بلغ عدم الثقة في أنفسهم‪ ،‬وفي شعوبهم‪ ،‬إلى حد تسليم مصيرهم لأعداء الأمة؟‬ ‫والمقارنة الثالثة تتعلق بـالعامل الطائفي‪.‬‬ ‫‪117 4‬‬

‫فهو موجود في البلدين‪ ،‬ويبدو أن توظيف الطائفية الشيعية أح ّد من توظيف السنة‪ ،‬التي‬ ‫هي ليست طائفة‪ ،‬بل ما بالانزياح عنه تتكون الطوائف‪.‬‬‫المقارنة الرابعة‪ ،‬لكن عامل التعدد العرقي يكاد يكون غائبا في السعودية‪ ،‬وهو بيّن في‬‫إيران‪ ،‬وهذا أيضا عامل موضوعي لهشاشة اللحمة الإيرانية‪ ،‬بالقياس إلى اللحمة في‬ ‫السعودية‪.‬‬‫والعامل الموضوعي الأخير‪ ،‬الذي ادخله في المقارنة‪ ،‬هو ظاهرة عامة‪ ،‬تميز بين نظامين‬‫تربويين وخلقيين مختلفين تمام الاختلاف‪ ،‬بين الإسلام والإسلام الشيعي‪ :‬عقيدة الحريتين‬ ‫المباشرتين‪.‬‬‫فالتربية في الإسلام الشيعي‪ ،‬تكوّن أجيالها على وجود الوسطاء بين المؤمن وربه‪ ،‬وعلى‬ ‫الحكم بالحق الإلهي‪ ،‬فيكون نظامه العقدي والاجتماعي شديد التراتب والانضباط‪.‬‬‫أما التربية السنية‪ ،‬فهي‪ -‬حتى وإن لم يكن ذلك إلا من حيث المبدأ ‪ -‬تخلو من هذين‬ ‫الضابطين‪:‬‬‫وهذا يجعل الانضباط أقل‪ ،‬والحرية أكثر‪ ،‬على الأقل في مستوى الضمير‪ ،‬لأن الوساطة‬ ‫والسلطة الموجودة كلاهما من الأمر الواقع‪ ،‬والواجب ضدهما عقديا‪.‬‬‫وهاتان الخاصيتان بقدر ما هما ثوريتان وتقدميتان في الإسلام السني‪ ،‬بقدر ما تصبحان في‬‫غياب التطابق بين الواقع والواجب نقطتي ضعف في القيادة والانضباط الجمعي السنيين‪.‬‬‫وكل من لا يفهم ذلك لا يمكن أن يفهم لماذا تكون المرجعيات الشيعية أكثر تأثيرا من رجال‬‫الدين في السنة‪ .‬وما شذ عن هذه القاعدة في الإسلام السني كان لصفات قيادية ذاتية‬ ‫لأصحابها‪ ،‬وليس لأنه سلطة روحية‪.‬‬‫فأهم عامل في فاعلية النخب الدينية‪ ،‬هو أن النخبة السنية اقل ميلا لاستعمال الخرافة‪-‬لا‬ ‫تخلو منها‪-‬وهي لكثرة واقعيتها‪ ،‬تبدو ساذجة في توظيف الدين‪.‬‬ ‫‪117 5‬‬

‫فبلغة أي حداثي‪ ،‬يعتبر السني ساذجا‪ ،‬لأنه مصدق للقصة الدينية عامة‪ .‬لكن الشيعي‬ ‫يقف منها موقف فولتير‪ :‬فهي عنده مجرد أداة سياسية‪ ،‬للتحكم في العامة‪.‬‬‫ولا شك أن توظيف الدين موجود عند بعض علماء السنة‪ .‬وقد مثل انقلاب السيسي فرصة‬‫ذهبية‪ ،‬فهي قد فضحته بصورة بلغت حد الكاريكاتور‪ .‬لكنه مذموم وموضوع سخرية حتى‬ ‫من العامة‪ :‬علماء السلطان‪.‬‬‫فمهما علا رجل الدين السني‪ ،‬فهو لا يصل إلى واحد في المائة من غلو المراجع الشيعية في‬ ‫كلامه‪ ،‬حتى على النبي (لأن النبي نفسه نهى عن الغلو فيه)‪.‬‬‫وما تصل إليه المرجعيات الشيعية من التخريف في كلامهم على الأئمة‪ ،‬لا يكاد يصدقه‬‫عاقل‪ :‬فلا يمكن أن يذهب بهم الغباء إلى حد تصديق أن الشعب يصدقهم في مثل هذه‬ ‫الشناعات‪.‬‬‫وهذا العامل من عناصر إضعاف فاعلية الخيال والرمز لدى النخبة الدينية السنية‪ .‬وهو‬ ‫بذاته محمدة‪ ،‬لو لم يصل إلى حد الجمود الفكري الذي لا يستغني عن الخيال المبدع‪.‬‬‫لكنه في توظيف التشيع الخرافي للخيال‪ ،‬نقطة ضعف لدى رجال الدين السني‪ ،‬لأن السني‬‫لن يصدقه‪ ،‬بل سيسخر منه‪ :‬المؤمن السني مهما اعتبر ساذجا‪ ،‬فهو أكثر عقلانية من \"المؤمن\"‬ ‫الشيعي‪.‬‬‫إذا كانت السلطة الدينية شبه منعدمة‪ ،‬وكانت السلطة السياسية شبه فاقدة للشرعية‪،‬‬ ‫فضلا عن القداسة‪ ،‬فإن السني أشبه بالمواطن الحديث دون شروط الحداثة‪.‬‬ ‫وتلك هي المفارقة‪.‬‬‫والقصد أن هذين الحريتين الروحية (لا وساطة) والسياسية (لا حق إلهي للحاكم)‪ ،‬مع‬ ‫غياب تحقق شروط هذين الحقين‪ ،‬يجعلان السني ثائرا دائما عليهما‪.‬‬‫ذلك أن شرط الطاعة في النظرة السنية‪ ،‬يجعل الحكم فيها ضمير المؤمن‪ :‬لا طاعة في معصية‬‫الله‪ .‬فيكون المؤمن السني كالمراقب الدائم لرجل الدين وللحاكم‪ ،‬بالقياس إلى معايير‬ ‫متعالية‪.‬‬ ‫‪117 6‬‬

‫فيكفي أن يظن السني أن الحاكم عاص حتى يعتبره غير شرعي‪ ،‬على الأقل في قلبه‪ .‬ولما‬‫كان جل الحكام عصاة بمجرد وجودهم في السلطة دون استئذان‪ ،‬فهو يعتبرهم فاقدين‬ ‫للشرعية‪ ،‬في قلبه على الأقل‪.‬‬ ‫أختم‪ ،‬لن يرضى إلا القليل على ما وصفت‪.‬‬‫لكن كل تشخيص‪ ،‬إذا كان غير موضوعي‪ ،‬ويخفي الحقائق‪ ،‬فلن يمكن من معالجة الحال‪،‬‬ ‫فنبقى ضعافا بالفعل‪ ،‬وذاتيا‪ ،‬مع أننا أقوياء بالقوة‪ ،‬وموضوعيا‪.‬‬‫قد لا يرى القارئ العلاقة بين بداية المحاولة‪ ،‬والمسألة الاستراتيجية الحربية التي هي‬ ‫جزء من الاستراتيجيا السياسية‪:‬‬ ‫فـما علاقة المتشابه القرآني بالمتشابه الاستراتيجي السياسي والحربي؟‬‫وقد يعجب القارئ‪ :‬فالجواب قدمه ابن خلدون فيما سماه لطيفة‪ ،‬تنهي وهم المتكلمين في‬‫سعيهم المزعوم لتأسيس الإيمان على العقل‪ .‬وقد سبقه إلى ذلك الغزالي عندما شكك في‬ ‫حجية السبر والتقسيم‪.‬‬‫وكلا الموقفين يعيدان النسبية إلى المعرفة‪ ،‬فيستعيدان الحذر الواجب الذي ينتج عن العلم‬ ‫بحدود العلم‪ ،‬ومن ثم الاستعداد للمجهول ولعدم المتوقع‪.‬‬‫فابن خلدون اعتبر قطع التسلسل السببي‪ ،‬والعلة المرجحة‪ ،‬لا يثبان شيئا فيما في العالم‬‫الشاهد من غيب‪ .‬والغزالي اعتبر السبر والتقسيم‪ ،‬يفترضان الحصر ذاتيا‪ ،‬ولا شيء‬ ‫يثبته موضوعيا‪.‬‬‫فأولا قد يكون العقل محتاجا لقطع التسلسل‪ ،‬لكن ذلك ذاتي ولا علاقة له بضرورة‬ ‫موضوعية‪.‬‬ ‫وقد يكون الترجيح غير ضروري‪ ،‬إذا لم ينقطع التسلسل موضوعيا‪.‬‬‫ولما كان قطع التسلسل ذاتيا‪ ،‬فهو يمكن أن يحصل في أي حلقة تحكميا‪ ،‬ومن ثم فهو لا يثبت‬ ‫شيئا‪ ،‬والترجيح المبني عليه أو المؤسس له ذاتي‪ ،‬فلا يفيد‪.‬‬ ‫فيكون الموضوعي الوحيد‪ ،‬هو أن الإنسان قادر على الخروج من سلسلة العلل‪.‬‬ ‫‪117 7‬‬

‫وتلك هي علامة وجود الحرية الخلقية‪ ،‬المؤسسة للإيمان بالخالق‪ ،‬دون حاجة لفعل لا ُي ْثبت‬ ‫إلا بإمكانه‪.‬‬‫وقطع التسلسل ليس موضوعيا وكيفية التعليل السببي مجهولة مع التفرع والتداخل بين‬‫العلل وتواليفها اللامتناهية‪ .‬وهذا يفسد حجية السبر والتقسيم (كما قال الغزالي بسبب‬ ‫التواليف والمجهول من العناصر المتدخلة) حتى عندما يكون مدعوما بالخبرة والتجربة‪.‬‬‫ولذلك يغلب على النظريات الاستراتيجية نظرية استراتيجية الألعاب والمقامرة المسحوبة‪،‬‬ ‫مع التحوط لبدائل منها‪ ،‬هي الحلول البديلة المعدة لحالات فشل الخيارات المفضلة‪.‬‬‫ذلك هو أساس التشابه الذي يبقي ما لا يعلم‪ ،‬مهما دققنا في الاستنتاج من الحال المادية إلى‬ ‫الحال المعنوية‪ ،‬أو العكس‪ ،‬وهو أعسر‪.‬‬ ‫أساس الاستراتيجيا حساب الاحتمالات العالي‪.‬‬‫ولما كانت العوامل المتدخلة لا متناهية‪ ،‬أو قريبا من ذلك‪ ،‬فلا يمكن الاطمئنان لهذا‬‫الحساب‪ ،‬إذ يبقى شيء من اللامعلوم أو المجهول‪ .‬ففي كل موجود شيء من الغيب الذي لا‬ ‫يعلمه إلا الله‪.‬‬ ‫فلنختم بمثال أو اثنين في شبه تطبيق فرضي لما حاولنا بيانه‪:‬‬‫فلنفرض أن الحال الموضوعية لإيران مهترئة‪ ،‬وأن ذلك ولّد غضبا على الحكومة‪ ،‬فجعل‬ ‫فاعليتها ضعيفة‪ .‬لكن اختيار العدو قد تعكس ذلك فتقويها‪.‬‬‫إذا استعملت الحكومة الأحقاد التاريخية مع العرب‪ ،‬فإن ذلك قد يجعل عامة الإيرانيين‬‫ينسى همه الداخلي بسبب حقده عليهم‪ .‬فهذا الخطاب يحول الغضب على الحكومة إلى‬ ‫الانتقام من العرب‪.‬‬‫لكن العربي لم يبق حاقدا على الفرس بعد انتصار الفتح وإسقاط دولتهم‪ ،‬رغم كل‬‫خياناتهم للأمة بدعوى التشيع‪ .‬فكل ثارات الجاهلية أنهاها انتصار الإسلام‪ ،‬فزال حقد‬ ‫العربي على الفارسي‪.‬‬ ‫‪117 8‬‬

‫وأخشى أن يجعلوا حديث الرسول في استحالة عودة إمبراطورية فارس علة للتقاعس‪.‬‬‫فالرسول لم يقله إلا لإزالة التحاقد‪ ،‬لإيمان القرآن بضرورة التعارف وليس من أجل‬ ‫التقاعس‪.‬‬ ‫وعندي نفس الخوف بالنسبة إلى المثال الثاني‪:‬‬‫فـ\"الكرة الثانية\" من الإسراء‪ ،‬قد تجعل البعض يتصور أن ذلك سيحدث بذاته‪ ،‬ولا يحتاج‬ ‫للاستعداد له وتحقيق باجتهاد الأمة وجهادها‪.‬‬ ‫مثال ثان‪:‬‬‫قد تقدم الحكومات على التطبيع مع إسرائيل‪ ،‬وقد تفعل النخب‪ .‬لكن الشعوب سترفض‬ ‫بسبب الثقافة التاريخية بين العرب واليهود‪ :‬شبه مستحيل لغالبية الشعب‪.‬‬‫والعوامل التي تتدخل لا متناهية‪ ،‬بعضها يمكن تحريكه بقصد‪ ،‬وبعضها قد تحركه حادثة‬ ‫عرضية‪ ،‬وذلك هو ما لا يعلمه إلا الله وعلينا الاستعداد للمفاجأة‪.‬‬ ‫وبعض العوامل يمكن ان ينعكس تأثيرها إذا أسيء استعمالها‪.‬‬ ‫وليكن مثالنا في قضية التطبيع مع إسرائيل‪.‬‬ ‫لا ينبغي أن يتكفل بالتصدي له رجال الدين‪.‬‬‫فأغلب رجال الدين يفسدون الغاية‪ ،‬رغم حسن البداية وصدق النوايا‪ .‬فهم لم يتعلموا‬‫طرق التواصل الحديث‪ ،‬ويجهلون ثقافة العالم الحديث‪ ،‬فيكون كلامهم لصالح العدو في‬ ‫أغلب الأحيان‪.‬‬‫فهم أكثرهم جهالة وجهلا من \"منظري\" المقاومة العرجاء‪ ،‬هم أدوات تشويه الإسلام‬‫والمحرضين عليه بقصد‪ ،‬أو بغير قصد‪ .‬ومثلهم توابعهم ممن يدعون الجهاد بالفساد في‬‫البلاد‪ ،‬خاصة منذ أن أصبحوا يصورون بشاعاتهم وينشرونها‪ ،‬وأحيانا يصورها لهم العدو‬ ‫نفسه وينشرها باسمهم‪ .‬فيتبنونها مفاخرين‪.‬‬ ‫‪117 9‬‬

‫ولولا حسن الظن بالكثير منهم‪-‬وخاصة بعض المقيمين منهم في الغرب‪-‬لقلت إنهم عملاء‬‫يزايدون على الناس في الإخلاص والتطرف‪ ،‬ولعلهم من مخبري مخابرات الأعداء أو‬ ‫مخابرات الأنظمة التابعة لهم‪.‬‬‫واستراتيجيات السلاح اللطيف أعسر من استراتيجيات السلاح العنيف في العالم الحديث‪.‬‬ ‫وهذا فن‪ ،‬اساسه العلم بثقافة العدو أكثر من العلم بثقافة الذات‪.‬‬ ‫هم قضوا قرونا يدرسون ثقافتنا (الاستشراق)‪ ،‬ولا يكتفون بحماسة رجال الدين‪.‬‬ ‫درسوا ثقافتنا لكي يعلموا من أين تؤكل الكتف‪ ،‬وكيف تؤكل بأدنى كلفة‪.‬‬‫الكثير في جماعتنا يتصورون خطبة جمعة‪ ،‬أو تغن بالماضي‪ ،‬أو حملة سباب على الصليبيين‪،‬‬ ‫أو الكلام على قتلة الأنبياء والمسخ قردة‪ ،‬تتجاوز فاعليته فش غيض أصحابها‪.‬‬‫ولا بد يوما ما من كتابة شيء حول الحرب اللطيفة مع أعداء الأمة‪ ،‬بعد تصنيف المعلوم‬ ‫منهم‪ ،‬لأن ما قاله الله إننا لا نعلمهم وعلينا أن نستعد للمفاجأة التي قد تأتي منهم‪.‬‬‫ويمكن كبداية‪ ،‬حصر مجالات البحث فيما ينبغي علمه‪ ،‬قبل الولوج في فنون استعماله‬ ‫الاستراتيجية‪.‬‬ ‫ذكرنا الحال الظاهرة (المادية) والحال الباطنة (المعنوية)‪.‬‬‫وينبغي أن نضيف أثر الحال الأولى في الحال الثانية‪ ،‬أو مفعول الظاهر في الباطن‪ ،‬والمادي‬ ‫في المعنوي‪ ،‬لأنه يحدد درجات تحمل كلفة الصمود في الجهاد‪.‬‬‫وينبغي أن نضيف كذلك عكسها‪ ،‬أي أثر الحال الباطنة في الحال الظاهرة‪ ،‬أي مفعول‬ ‫الباطن في الظاهر‪ ،‬وهذا أساسي في معرفة الأثر الفعلي المادي للمعنوي‪.‬‬‫اجمع الأربعة‪ ،‬واطلب أصلها كلها‪ ،‬وستجدها متصلة بفلسفة وجود‪ ،‬يمكن أن تكون ذات‬ ‫صياغة دينية أو فلسفية‪ ،‬وهي في الحقيقة جامعة للوجهين‪ :‬مرجعية قيمية‪.‬‬‫ففي حالتنا نحن‪ ،‬هذه المرجعية الروحية التي تمسك بالمادي والمعنوي وبتفاعليهما في‬ ‫الاتجاهين لتكون وحدة‪ ،‬هي قيام الأمة منذ أربعة عشر قرنا هي الإسلام‪.‬‬‫وتلك هي العلة في التركيز على الإسلام‪ ،‬إما لتحريفه بسبب تعذر القضاء عليه‪ ،‬أو بمحاولة‬ ‫القضاء على قيام الأمة المستقل بالاستتباع الثقافي المتدرج والبطيء‪.‬‬ ‫‪117 10‬‬

117 11

‫ختمنا الفصل الأول من الكلام في الحرب اللطيفة ببيان أصناف المقومات التي يتألف منها‬ ‫مجالها أو ساحتها‪ ،‬وفي آن مواضعها بالمعنى المنطقي لأغراضها‪.‬‬‫فالمواضع قديما‪ ،‬هي مجالات الأغراض التي تطلب منها التصورات‪ ،‬ليبنى عليها التصديق‬ ‫في أي استدلال يثبت حقيقة مطلوبة‪ ،‬في أي معرفة علمية‪.‬‬‫ونحن نزعم أن الاستراتيجيا بهذا المعنى تنبني على البحث العلمي‪ ،‬المستند أساسا إلى‬ ‫المعلومات المستمدة من الاستعلام على الأعداء‪ ،‬أحوالهم وقوتهم‪.‬‬ ‫وقد صنفنا هذه المواضع إلى خمسة أصناف‪:‬‬ ‫‪-1‬الحال المادية‬ ‫‪-2‬والحال المعنوية‬ ‫‪-3‬وأثر الأولى في الثانية‬ ‫‪-4‬وأثر الثانية في الأولى‬ ‫‪-5‬والأصل الجامع الذي هو المرجعية الروحية‪.‬‬‫وقد سمينا المرجعية الروحية الرؤية الوجودية‪ ،‬التي من خلالها ترى الجماعة ذاتها في‬‫العالم‪ ،‬وعلاقتها به وبمن فيه‪ ،‬من الأصدقاء والأعداء‪ ،‬والمقومات الأربعة تتحدد بمنزلتها‬ ‫في سلم قيمها‪.‬‬ ‫وللمرجعية صيغتان متجادلتان في جميع الحضارات‪:‬‬ ‫والمرجعية عندنا هي الإسلام‪.‬‬‫‪117 12‬‬

‫والأعداء مقتنعون أن المرجعية الموحدة لهذه الأوجه الأربعة هي الإسلام‪ ،‬بدليل حربهم‬ ‫عليه إما لتشويهه‪ ،‬أو لتطويع أهله بهذه المقومات الأربعة‪.‬‬‫وهذه حربهم اللطيفة التي يقدمونها على الحرب العنيفة‪ ،‬باعتبار النصر في أي حرب عنيفة‬ ‫لا يؤتي أكله إلا بها‪ ،‬لأن روح المقاومة لا تتوقف من دون قتله‪.‬‬‫وأهم اكتشاف أقدمه لشباب الثورة‪ ،‬هو العلاقة الخفية بين مقومات الحرب اللطيفة‬ ‫والحرب العنيفة‪ ،‬من خلال التناظر بين نوعي مقوماتهما ووحدة الأصل‪.‬‬ ‫سبق أن عرضت نظرية الأحياز الخمسة‪:‬‬ ‫وهذه هي العوامل التي تعتبر مدار الحرب العنيفة بين البشر‪.‬‬‫فالناس في نفس الجماعة أو بين الجماعات يتنافسون على هذه الأحياز الموجودة في الاعيان‪:‬‬‫المكان وثمرته أي الثروة‪ ،‬والزمان وثمرته أي التراث‪ ،‬وعلى المرجعية الروحية الموحدة‬ ‫بينها‪.‬‬‫وهذه الأحياز الخمسة التي يتحيز فيها الإنسان في الحرب العنيفة تتحيز في الإنسان في‬ ‫الحرب اللطيفة‪ ،‬فتكون حالا مادية وحالا معنوية وتفاعلا بينهما في الاتجاهين‪.‬‬‫وإذا كانت الأحياز هي موضوع التنافس‪ ،‬فإن الأحوال هي حصيلة التنافس على الأحياز‬ ‫والمواقف المترتبة عليها‪ ،‬باعتبارها حاصلة في الأذهان‪.‬‬‫موضوع الحرب العنيفة هو الأحياز التي يحل فيها الإنسان‪ ،‬وهي توجد خارج الإنسان في‬‫الأعيان‪ ،‬وموضوع الحرب اللطيفة الإنسان نفسه من حيث يكون ذهنه حيزا لتلك الأحياز‬ ‫في وجدانه وضميره‪.‬‬‫وإذن فالحرب اللطيفة تطبيق حرفي لآية قرآنية كريمة تتعلق بسنن التغيير‪ :‬فالله لا يغير‬ ‫ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم‪.‬‬ ‫واستراتيجية الحرب اللطيفة تطبق ذلك‪.‬‬ ‫‪117 13‬‬

‫العدو يبدأ بتغيير ما بالأنفس حتى يغير شروط قوة أصحابها‪ ،‬التي هي الأحياز‪.‬‬ ‫ثم يعكس‪ ،‬فيغير الأحياز ليحول دون تأثيرها في الأنفس‪ ،‬ويتداول الأمر‪.‬‬ ‫بالحرب العنيفة يغير الأحياز‪ :‬الجغرافيا‪ ،‬والثروة‪ ،‬والتاريخ‪ ،‬والتراث‪.‬‬‫وبالحرب اللطيفة يغير الإنسان‪ :‬حاله المادية‪ ،‬والمعنوية‪ ،‬وتفاعلهما في الاتجاهين‪.‬‬ ‫والمرجعية تجمع الحربين‪.‬‬‫أستطيع أن أقول ولا فخر‪ ،‬أني قد اكتشفت سر السياسة الاستعمارية التي تغيب عن ذهن‬ ‫القيادات العربية عامة‪ ،‬إما لسذاجة‪ ،‬أو لخيانة‪ ،‬فيكونوا أدواتها‪.‬‬ ‫ولا فضل لي‪ .‬فيكفي القيام بعملين يقتضيهما الموقف العلمي من الظاهرة‪:‬‬‫فمن يعلمها‪ ،‬ويعمل على علم بها‪ ،‬ينتهي في الغاية إلى تحقيق شروط النصر على أعدائه‪.‬‬ ‫ولا تفسير لبدايات تاريخنا المبهر إلا بكون السلف أدركوا ذلك‪.‬‬ ‫وكثيرا ما نبهني بعض الأصدقاء بأن نشر افكاري بهذا اليسر‪ ،‬قد ييسر سرقتها‪.‬‬ ‫وردي‪ ،‬بين القراء متابعون‪ ،‬وكثير منهم نزهاء‪ ،‬لن يترددوا في فضح أي لص‪.‬‬‫ثم إن اللص يفضح نفسه بنفسه‪ :‬لأن سرقة النتائج من دون المقدمات‪ ،‬يبين أن السارق‬ ‫سارق‪ ،‬فالنتائج من دون مقدماتها لا يدعيها إلا من يدعي الوحي‪.‬‬‫فلا يكون اللص حينها قد فضح نفسه فحسب‪ ،‬بل وادعى ما به يكفره جل المسلمين‪ .‬لذلك‬ ‫فلا خوف من السرقة‪ .‬وإذا حصل فلا بأس‪ ،‬فالتاريخ ينصف ولو بعد حين‪.‬‬‫وإذن فالعوامل عشرة‪ ،‬واحد منها يعمل في مستوى الأعيان وفي مستوى الأذهان‪ ،‬أو في‬ ‫الظاهر وفي الباطن‪ :‬إنه المرجعية الجامعة بين الأحياز خارج الإنسان‪ ،‬والأحوال داخله‪.‬‬ ‫والثمانية الباقية هي‪:‬‬ ‫أولا الأحياز ممثلة للأعيان‪ :‬الجغرافيا والثروة التاريخ والتراث‪.‬‬ ‫‪117 14‬‬

‫وثانيا الأحوال ممثلة للأذهان‪ :‬الحال المادية وأثرها في المعنوية والمعنوية وأثرها في‬ ‫المادية‪.‬‬‫ولما كانت المرجعية جامعة بين الوجهين‪ ،‬فهي المؤشر الأقوى‪ ،‬ومن ثم فالحرب اللطيفة‬ ‫والعنيفة كلتاهما تركز عليها‪ ،‬لأنها سر كل قوة مادية وروحية لأي جماعة بصورة كونية‪.‬‬‫وبهذا المعنى‪ ،‬فالحرب العنيفة مجرد أداة من أدوات الحرب اللطيفة‪ ،‬بخلاف ما يعتقد من‬ ‫لا يفهم معنى الاستراتيجيا‪.‬‬‫فالسياسة هي بالجوهر حرب لطيفة‪ ،‬وذلك سواء نظرنا إليها كسياسة داخلية‪ ،‬أو كسياسة‬‫خارجية‪ :‬والحرب العنيفة أداة من أدواتها‪ ،‬تلجأ إليها أحيانا‪ ،‬في حين أن الحرب اللطيفة‬ ‫هي جوهرها‪.‬‬‫وإذن فما سنقدمه يتألف من مرحلتين‪ ،‬سياسة عامة‪ ،‬وأداة خاصة‪ :‬مرحلة الحرب اللطيفة‬ ‫عامة‪ ،‬ومرحلة الحرب اللطيفة المعدة‪ ،‬والمصاحبة‪ ،‬واللاحقة للحرب العنيفة‪.‬‬ ‫والتراتب بين الحربين العنيفة واللطيفة‪ ،‬يتأسس على مبدأين‪:‬‬ ‫والأول بنيوي عام‪ ،‬لا يختلف فيه مجتمع عن مجتمع‪.‬‬‫والثاني تاريخي خاص‪ ،‬ويتغير بحسب مستوى الجماعة الحضاري‪ ،‬فالحكام الأميون يقدمون‬ ‫العنف على اللطف‪ ،‬والجلافة على اللطافة‪.‬‬‫والعامل الموحد بين الأمرين‪ ،‬منزلة الإنسان في المرجعية الجامعة بين عوامل الأعيان‬ ‫(الأحياز) وعوامل الأذهان (الأحوال)‪.‬‬‫فالمبدأ المتعلق بمنزلة الإنسان عند الرسول‪ ،‬يضع أن هدم الكعبة أهون من قتل النفس‪.‬‬ ‫لكن المبدأ اليوم‪ ،‬النفس أقل قيمة من ذبابة لدى الحاكم العربي‪.‬‬ ‫وليس ذلك لأن الحاكم العربي عزيز‪ ،‬بل لأنه ذليل‪ :‬فهو أذل من ذبابة لدى حاميه‪.‬‬ ‫أما في عهد الرسول‪ ،‬فالحاكم المسلم كان عزيزا‪ ،‬والشعب مثله عزيز‪.‬‬ ‫‪117 15‬‬

‫أنهينا التمهيد للكلام في الوجهين‪ ،‬أي الحرب اللطيفة عامة‪ ،‬وهي جوهر السياسة‪ ،‬والحرب‬ ‫اللطيفة عندما تصبح اساس الحرب العنيفة خاصة‪ ،‬أو سياسة الحرب‪.‬‬‫وبعبارة أوجز وأوضح‪ :‬فالسياسة بمفهومها العام والشامل‪ ،‬ليست إلا تربية عامة تجعل‬‫الإنسان مدنيا‪ ،‬أو تحرره مما يوجد لديه من معيقات للحياة المدنية‪ ،‬التي هي السلام في‬ ‫الجماعة‪.‬‬‫وتلك هي علة حاجتها إلى منظومة مؤسسات تسمى دولة‪ ،‬ذات أداتي فعل هما الحكم‬ ‫والتربية‪.‬‬‫والأول‪ ،‬للفعل المباشر في الأعيان‪ ،‬وتحتاج إليه الجماعة لتطبيق شروط العيش المشترك‪،‬‬ ‫أو القانون‪ ،‬إما وقاية قبل حدوث ما يحول دونه‪ ،‬أو علاجا للجزاء بعد وقوعه‪.‬‬‫والثانية‪ ،‬للفعل غير المباشر الذي يحتاج إليها القانون ليكون راسخا في الأذهان‪ ،‬لأن القانون‬ ‫لن يرسخ إلا إذا صارت من العادات والملكات في سلوك الأفراد والجماعات‪.‬‬‫وهي بلغة ابن خلدون‪ ،‬نقل الإنسان من الاقتصار على الوزع الأجنبي (غاية الحكم)‪ ،‬إلى‬‫وزع أرقى هو الوزع الذاتي (غاية التربية)‪ ،‬أو بلغة حديثة وزع قانون الضمير بدل قانون‬ ‫الشرطي‪.‬‬‫وهي بلغة فلسفة السياسة الإسلامية القديمة‪ ،‬السياسة نسبة متحركة ومرنة بين قوتي‬‫الدولة‪ :‬الحد من دور الشوكة‪ ،‬والزيادة في دور الشرعية لتحقيق السلم المدنية في‬ ‫الجماعة‪.‬‬‫وأساس الشرعية إيجابا‪ ،‬هي توطيد العدل‪ ،‬وسلبا‪ ،‬هي مقاومة الظلم‪ ،‬وذانك هما شرطا‬‫العيش المشترك‪ ،‬وشرط الشرطين أن يكون القائمون على الدولة ببعديها أمناء (النساء‬ ‫‪.)58‬‬ ‫لماذا نسمي ذلك حربا لطيفة؟‬‫لما فيه مقاومة للظلم والعدوان بين الأفراد والجماعات حول الأحياز‪ ،‬أي حول السلطة على‬ ‫الأرض والثروة والتاريخ والتراث والمرجعية‪.‬‬ ‫‪117 16‬‬

‫وهذا الظلم بخصوصها‪ ،‬له أساس في الحال المادية‪ ،‬وأثرها في الحال المعنوية وفي الحال‬ ‫المادية‪ ،‬وأثرها في الحال الروحية والمرجعية كذلك‪ :‬والعدل هو أساس السلم الباطنة‪.‬‬ ‫ذلك أن تمدين الإنسان حرب لطيفة على ما في الإنسان من نوازع مضادة للمدنية‪.‬‬ ‫وليس بالصدفة أن كانت بداية الإسلام السياسية هجرة إلى ما سمي \"مدينة\"‪.‬‬‫وليس من الصدفة كذلك أن كانت السياسة القرآنية هي بالأساس حربا لطيفة ضد مرضين‬ ‫هما‪:‬‬‫فالجاهلية نوازع ضد المدنية بداية‪ ،‬لأنها توحش بخصوص المكان وثمرته‪ ،‬والزمان وثمرته‪،‬‬ ‫لأن المرجعية تخضع للحرب الأهلية الدائمة‪.‬‬‫والتحريف نكوص إلى ما يشبهها‪ ،‬لأنها تحريف لرسالة سماوية‪ ،‬أو لحكمة عقلية تجعل البشر‬‫يقلبون القيم بصورة تفصل بين الأقوال والأفعال‪ ،‬فتصبح مجرد شعارات تخفي الحقيقة‪.‬‬‫وبذلك يتبين أن السياسة في الداخل‪ ،‬هي دائما فن التعامل مع الجغرافيا وثمرتها‪ ،‬والتاريخ‬‫وثمرته‪ ،‬والمرجعية لجعل حياة الجماعة سلمية أو أقل عنفا‪ ،‬وقد تكون عكس ذلك بسبب‬ ‫الجاهلية والتحريف‪.‬‬‫والتنافس بين الأحزاب أو القبائل لحكم الجماعة مهما كان المجتمع متخلفا‪ ،‬أو مهما كانت‬‫الجماعة غير واعية بحقوقها‪ ،‬ليس له من مدار إلا هذه الأحياز الخمسة وما ينتظم به‬ ‫أمرها من قوانين وأعراف‪.‬‬‫وطبعا يكون العمل في هذه الأحياز الخمسة بتحقيق ما يمكن أن نسميه العدالة‪ ،‬أو بالحد‬ ‫مما يمكن أن نسميه الظلم في الأعيان والشعور بهما في الأذهان‪.‬‬‫كل تعريف آخر للسياسة كلام أجوف‪ ،‬لا يفيد شيئا حول حقيقتها وسر فاعليتها في قيام‬ ‫الدول‪ ،‬ومتانتها وقابليتها للديمومة‪ ،‬لأنها هي اساس كل شرعية بحق‪.‬‬ ‫‪117 17‬‬

‫وأفضل تعريف نجده عند ابن خلدون‪:‬‬‫فقد قسمها إلى خمسة أصناف‪ :‬اثنان عقليان واثنان دينيان‪ .‬ولم يذكر من الدينيين إلا‬ ‫واحد ربما لأنه ينزه الدين عن التحريف‪.‬‬ ‫ويتقدم عليهما الطبيعي‪ ،‬وهو غير سياسي‪.‬‬‫وبعدهما الصنف الجامع لها كلها‪ ،‬وهو السياسي الواقع في التاريخ الفعلي‪ ،‬بمعنى أنه عقلي‬ ‫وديني وطبيعي ومزيج منها جميعا‪.‬‬‫والملاحظ أن ابن خلدون ضاعف العقلي بمعيار طبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم‪ ،‬ولم‬‫يضاعف الديني‪ .‬وكان ينبغي أن يفعل‪ ،‬لأن نفس المبدأ ينطبق على الديني انطباقه على‬ ‫العقلي كما نبين‪.‬‬ ‫فتكون الأصناف بذلك خمسة‪.‬‬ ‫وما يسميه عقليا بصنفيه‪ ،‬هو المقصور على المصالح الدنيوية‪.‬‬ ‫وما يسميه دينيا‪ ،‬هو المتجاوز إلى المصالح الأخروية‪.‬‬ ‫الجامع هو \"خليط\" منها‪ ،‬مع شيء من الحكمة الفلسفية‪.‬‬ ‫فالعقلي من السياسة نوعان‪:‬‬‫وإذن فالأول محرف‪ .‬ويوجد ما هو من جنسه في الديني بتحريفه‪ .‬وكلاهما يكون لصالح‬ ‫الحاكم دون المحكوم‪.‬‬‫ذلك أنه مثلما يحرف العقل في السياسة‪ ،‬فيكون لصالح الحاكم دون المحكوم‪ ،‬يحرف الدين‬ ‫كذلك وبنفس المعنى‪.‬‬ ‫‪( 1‬المقدمة ااا‪ 23.‬و‪ 25‬ثم ااا‪)51.‬‬‫‪117 18‬‬

‫فنظام الملالي ونظام القبائل‪ ،‬نظامان دينيان محرفان‪ ،‬لأنهما يجـعلان الدين وسيلة للحكم‬‫واستعباد المحكومين‪ ،‬تماما كما تفعل الانظمة العلمانية المستبدة في عالمنا الإسلامي‬ ‫بالسياسة‪ ،‬استعبادا للمحكومين‪.‬‬‫والعقلي المحرف‪ ،‬والديني المحرف‪ ،‬كلاهما يكون العقل والدين فيهما وسيلة لتبرير الظلم‬ ‫بالعقل أو بالدين‪ ،‬اي بالتحيل الذي يحقق خضوع المظلوم للظالم‪.‬‬‫فتكون السياسة في هذه الأنظمة‪ ،‬حربا أهلية صامتة يمكن أن تنفجر في أي لحظة‪ ،‬لأن‬‫السياسة خالفت حقيقتها فلم تقم بوظائفها بوصفها حربا لطيفة‪ ،‬على أسباب الحرب الأهلية‬ ‫العنيفة‪.‬‬‫نمر الآن إلى الحرب اللطيفة بوصفها جزءا من سياسة الحرب بين دولة ودولة‪ ،‬وليست كما‬ ‫هي عامة حربا لطيفة لتحقيق شروط الحياة السلمية في الجماعة‪.‬‬‫وسأفاجئ القارئ بالقول إن أمريكا وإيران وإسرائيل‪ ،‬ثلاثتهم خسروا الحرب اللطيفة‬ ‫بمعناها الجزئي‪ .‬فألاعيبهم انكشفت للقاصي والداني‪.‬‬‫ومن المعلوم أن من شروط نجاح الحرب اللطيفة الجزئية‪ ،‬عدم انكشافها‪ .‬ولعل أبرز مثال‬ ‫لذلك‪ ،‬هو انكشاف ما يسمى بحزب الله‪.‬‬‫قبل انكشاف لعبته‪-‬وهي لم تنطل علي منذ عقدين‪-‬أصبح كلامه ثرثرة لم يعد يسمعها‬ ‫حتى المغفلون‪.‬‬‫فالحرب اللطيفة تفعل بـمبدأ \"القابلية للتصديق\" فتضفي على معمياتها قابلية التأويل‬‫الملتبس‪ .‬وبعبارة سلبية‪ ،‬فلا بد لها من عدم تجاوز عتبة التعارض التام بين الأقوال‬ ‫والأفعال‪.‬‬ ‫وهو ما تم في الحالات الثلاث‪.‬‬‫وسأضيف مفاجأة أكبر للقارئ‪ :‬حيل مخابرات الأعداء افتضحت‪ ،‬بحد لم يعد حتى الرأي‬ ‫العام الغربي نفسه يصدقها‪ :‬جل افعال داعش والقاعدة من صنع المخابرات‪.‬‬ ‫‪117 19‬‬

‫صنع المخابرات الغربية والإيرانية والإسرائيلية‪ ،‬وحتى الأنظمة العربية بات مفضوحا‪.‬‬‫ولعل السحر قد انقلب على الساحر‪ ،‬بما يشبه حال من صنع جرثومة وفقد السيطرة عليها‪.‬‬‫وهذه بداية طيبة لحرب لطيفة‪ ،‬نخوضها ضد من فشلت حربه اللطيفة علينا‪ :‬وفيها يصح‬‫القول‪ :‬الحيلة في ترك الحيلة‪ .‬فأهم فشل للأعداء‪ ،‬هو أن تركيزهم على الإسلام والقرآن‬ ‫جعل المعركة بين العلم والجهل بهما‪.‬‬ ‫وفي معركة كهذه البروباغندا تخسر في النهاية‪.‬‬‫الإسلام والقرآن‪ ،‬وخاصة طبيعة علاقته بالغرب من حيث حضارته وشروطها‪ ،‬يعيدهما إلى‬ ‫قلب حضارتهم حتما‪.‬‬‫ولا يبقى علينا إلا أن نكون شبابا قادرين على مخاطبة الغرب من خلال العلم بحضارته‪،‬‬ ‫على الأقل بمستوى علمهم بحضارتنا‪ ،‬لتغليب الحقيقة على الدعاية‪.‬‬‫والمبدأ الأهم‪ ،‬هو رفض منطق رد الفعل الدفاعي والاكتفاء بالفعل دون هجوم‪ ،‬لأن ما كان‬‫ممكنا من المغالطات قبل تقدم وسائل التواصل‪ ،‬لم يعد ممكنا فيكون تركزي الأعداء فرصة‬ ‫للتبليغ الأمين‪.‬‬‫وتلك هي العلة التي جعلت الأعداء يصنعون صنعا‪ ،‬ما به يشوهون الإسلام والمسلمين بمنطق‬‫شهد شاهد من أهلها‪ .‬ويتمثل ذلك في دور نوعي المليشيا المعادية‪ :‬مليشيا السيف ومليشيا‬ ‫القلم‪.‬‬‫والنوعان هما ما سميته مليشيا السيف‪ ،‬أو داعش العنيفة‪ ،‬ومليشيا القلم‪ ،‬أو داعش‬‫اللطيفة‪ .‬والأولى معلومة للجميع‪ ،‬الثانية هي النخب التي تدعي الحداثة والأصالة وتقدم‬ ‫كاريكاتورين منهما يشوهانهما‪.‬‬‫فهذا الكاريكاتور المضاعف يفسد العلاقة بين الشعوب الإسلامية والشعوب الغربية‪ ،‬لأنه‬‫يفسد صورة الحداثة وصورة الأصالة‪ ،‬فيضفي مصداقية على داعش العنيفة بفعل داعش‬ ‫اللطيفة‪.‬‬ ‫‪117 20‬‬

‫ذلك أن الهم الأول لحربنا اللطيفة‪ ،‬ينبغي أن يكون إعطاء الوقت للوقت‪ ،‬وتبريد الصراع‬ ‫الحضاري حتى تفقد استراتيجية نكأ جروح التاريخ بين الحضارتين‪.‬‬‫ولن أطيل الكلام في هذه الخطة‪ ،‬لأني شرحتها بإفاضة في غير موضع‪ ،‬وبينت أن‬‫استراتيجيـي الأعداء بحاجة لحافز نكئ الجراح‪ ،‬وهو منطق الصفوية والصهيونية الذي‬ ‫تعين خاصة في المسيحية الصهيونية‪.‬‬‫وجنود هذه المعركة شباب من الجنسين‪ ،‬يجيدون لغات الغرب‪ ،‬ويكونوا على جمال وهيبة‪،‬‬ ‫مع التمكن من المنهج العلمي ومن الحضارة الغربية بفضائلها ورذائلها‪.‬‬‫ولا بد من تعليمهم فن الخطاب‪ ،‬والخطابة‪ ،‬والحجاج‪ ،‬تمكنا متينا لتكون الحرب اللطيفة‬ ‫عملا على علم‪ ،‬وليس تخريف أميين‪ ،‬كما يجري حاليا فيصبح المحامي مغرقا لا منجيا‪.‬‬‫فكلما سمعت هؤلاء المخرفين حول الحروب الصليبية‪ ،‬يقشعر بدني‪ :‬فهم من حيث لا‬ ‫يعلمون‪ ،‬يخدمون استراتيجية الأعداء الذين هم أحوج لهذا الحافز منا‪.‬‬‫كل المخرفين‪ ،‬من مليشيات كاريكاتور الأصالة وكاريكاتور الحداثة‪ ،‬يعمقون العداء بين‬ ‫الشعوب‪ ،‬فيعطلون نهضة الأمة بقتل الأصالة والحداثة في آن‪.‬‬‫فبمثل هذا الغباء تنقل المعركة من مقاومة لمافيات حاكمة‪ ،‬يعاني منها الغرب نفسه إلى‬ ‫معركة مع شعوب الغرب‪ ،‬التي هي بدورها ضحايا لهذه المافيات‪.‬‬‫لم يحدث في التاريخ أن انتصر شعب على شعب‪ ،‬لأن الحرب حينها تصبح صراع وجود مطلق‪،‬‬ ‫لا وصول فيه لحل إلا بإفناء أحد الشعبين‪.‬‬ ‫وهذا مناف للإسلام‪.‬‬‫فكل الفتوحات الإسلامية‪ ،‬كانت في الغاية‪ ،‬مصالحة بين شعبين وحضارتين‪ :‬لم نسمع عن‬ ‫إفناء أي شعب‪ ،‬بل إن الشعوب التي أسلمت صارت سهما حاملة للرسالة‪.‬‬‫ما علمنا إياه التاريخ‪ ،‬هو أن المسيحية لما حاولت تقليد الإسلام بسياسة فتح‪ ،‬تحولت إلى‬ ‫سياسة إفناء‪ ،‬كما حدث في أمريكا‪ .‬والعلة هي أن المقلد يغالي‪.‬‬ ‫الإسلام لا يعترف بالإبادة‪ ،‬بل يخير الشعوب بين خمسة حلول‪:‬‬ ‫‪117 21‬‬

‫وهي تبدو ثلاثة لكنها خمسة‪:‬‬ ‫‪-1‬تسلم‬ ‫‪-2‬يكون لك ما لنا وعليك ما علينا (المساواة)‬ ‫‪-3‬تدفع الجزية‬ ‫‪-4‬مع بقائك على دينك (تبعية سياسية)‬ ‫‪-5‬الحرب لأن رفض الحلول الأربعة السابقة يعني معارضة الحريتين‪.‬‬‫والحريتان هما ثورتا الإسلام‪ :‬الحرية الروحية التي تقتضي نفي الوساطة بين المؤمن وربه‬ ‫(إزالة تحريف الدين)‪ ،‬والحرية السياسية التي تقتضي نفي الحق الإلهي في الحكم‪.‬‬‫وهاتان الثورتان هما ما سعت إليها أوروبا‪ ،‬بفضل تأثير الإسلام في فكرها‪ :‬فكل ما يسمى‬‫بالإصلاح الديني يتعلق بالحرية الأولى‪ ،‬وكل ما يسمى بالثورات السياسية الغربية يتعلق‬ ‫بالثورة الثانية‪.‬‬‫وطبعا‪ ،‬فالمقلد يذهب دائما إلى التطرف المقابل‪ :‬فبدلا من تحرير المسيحية من التحريف‪،‬‬‫جادلوا في دور الدين‪ ،‬وبدلا من تحرير الحكم من الحق الإلهي‪ ،‬جعلوه لا يتجاوز نزوات‬ ‫الدهماء‪.‬‬‫وتلك هي الحرب اللطيفة الإسلامية التي يسرت الفتح‪ ،‬إذ لا يمكن لأي شعب أن يرفض‬ ‫المساواة والحماية‪ ،‬إلا إذا كان يؤمن بالعبودتين الروحية والسياسية‪.‬‬‫بعبارة وجيزة‪ :‬لكأني قلت إن المسلمين لا يحتاجون لأكثر من العودة إلى كونية الإسلام‬ ‫وعدم اعتباره دين المسلمين التاريخيين فحسب‪ ،‬بل هو كما هي حقيقته‪ ،‬دين الإنسانية‪.‬‬‫يكفي أن نسكت نهائيا كل الدجالين‪ ،‬الذين جعلوا أنفسهم ذوي سلطة تتجاوز سلطة الرسول‬‫نفسه‪ :‬فالله قال له {فذكر أنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر}‪ .‬وهم يسلطون أمراء‬ ‫الحرب على رقاب المسلمين‪.‬‬ ‫‪117 22‬‬

‫وهكذا يتضح أن الحرب اللطيفة هي جوهر السياسة‪ ،‬وأن دورها في الحرب العنيفة ليس‬ ‫إلا جزءا من حكمة السياسة‪ ،‬تفضيلا للتربية الخلقية على العنف المادي‪.‬‬‫ومشكل المخرفين من أصحاب الكاريكاتور باسم الحداثة‪ ،‬أو باسم الأصالة‪ ،‬علته جهلهم‬ ‫بفاعلية الرمز وبدور الخطاب في التوجه إلى فاعلية وزع العوامل الخمسة‪.‬‬‫لو علم هؤلاء المخرفون أن السياسة عمل في الأحياز‪ ،‬لفهموا أن غايتها هي جعل السلم‬‫المدنية ممكنة‪ ،‬وتحرير الجماعة من الصراع عليها بين البشر في نفس الجماعة أو بين‬ ‫الجماعات‪.‬‬‫ولو علموا كذلك أن لهذه الأحياز‪ ،‬التي يوجد فيها الإنسان‪ ،‬ضربا ثانيا من الوجود‪ ،‬تكون‬‫هي في الإنسان‪ ،‬لفهموا أن علاج الأحوال‪ ،‬المادي منها والمعنوي‪ ،‬وتفاعلهما‪ ،‬له نفس الغاية‪.‬‬‫ودور الأحوال‪ ،‬هو ما يعنيه جل وعلا عندما حدد سنن التغيير‪ ،‬معتبرا أن التغيير في‬‫الأعيان مشروط بالنسبة إلى الإنسان بالتغيير في الأذهان‪ :‬ما في النفوس من الأحوال حول‬ ‫ما يترتب على التنافس حول الأحياز‪.‬‬ ‫‪117 23‬‬

‫زبدة الكلام في الحرب اللطيفة‪:‬‬‫الكلام فـي استراتيجيا وقائية وعلاجية‪ ،‬يقوم بها شباب من الجنسين‪ ،‬من ذوي الثقافة‬ ‫الحديثة والأصيلة‪ :‬معركة الحقيقة مع الذات ومع الغير‪.‬‬‫وهذه المعركة التي تستند إلى مبدأ الحيلة في ترك الحيلة‪ ،‬تعتمد استراتيجية منافية تماما‬‫لاستراتيجية الأعداء‪ :‬فهم يعتمدون على التشويه القصدي‪ ،‬ونحن نريد استرداد الحقيقة‬ ‫الإنسانية كما يحددها العقل والقرآن‪.‬‬ ‫وهم لا يدرون أنهم بسلوكهم التشويهي يحققون هدفين هما ما نطلبه‪.‬‬‫إنهم يظنون أن ما كان صالحا في عهد النازية‪ ،‬ما يزال صالحا‪ .‬فالبروباغندا‪ ،‬والكذب‬ ‫المكرر‪ ،‬لم يعد بوسعهما أن يصبحا حقيقة‪ ،‬لأن التصدي لهما صار في المتناول‪.‬‬ ‫وما يحققونه لنا ينقسم إلى أمرين‪:‬‬‫فأولا حربهم التشويهية‪ ،‬تجعل الكلام في الإسلام والمسلمين مركز نواتئ العصر في اللحظة‬ ‫الراهنة‪ ،‬ومن ثم فهم يوفرون لنا فرصة ثمينة لإظهار الحقيقة‪.‬‬‫والأمر الثاني لا يقل أهمية عن الأول‪ :‬فالمبالغات تنقلب دائما إلى ضدها‪ ،‬لأن كل النزهاء‬ ‫في العالم‪ -‬والعالم لا يخلو منهم‪ -‬لا بد وأن يقرروا التثبت من التهم والبحث بأنفسهم‪.‬‬‫ومعنى ذلك أن كل النزهاء في مجتمعات الأعداء سيصبحون حلفاء لمن يطلب الحقيقة‪.‬‬‫لذلك‪ ،‬فـمشكلنا اليوم مضاعف‪ ،‬والرد على الأعداء بأسلوبهم‪ ،‬خطأ قاتل‪ ،‬هدفي تجنيب‬ ‫الشباب الوقوع فيه‪.‬‬ ‫‪117 24‬‬

‫فأولا‪ ،‬نحن نجهل حقيقة الثورة الإسلامية‪ ،‬من ثم‪ ،‬فنحن لا نستطيع أن نؤسس عليها‬‫مراجعة ذاتية‪ ،‬وبعضنا يتشبث بالانحطاط من تاريخنا في موقف دفاعي‪ ،‬يضفي بعض‬ ‫المصداقية على تشويه الأعداء لنا‪.‬‬‫وثانيا‪ ،‬فـمحاولة نفس اللعبة التي يقوم بها أعداؤنا‪ ،‬فيقدم بعضنا بدعوى الدافع ضد‬‫تشويه الغرب‪ ،‬بالتركيز على رذائلـه دون فضائلـه‪ .‬لكن تقدمه وتأخرنا حتى في الأخلاق‪،‬‬ ‫يسخفان كل الحجج‪.‬‬ ‫لهذا سميت المعركة معركة الحقيقة‪:‬‬‫فلا بد أولا‪ ،‬من معرفة طبيعة الثورة الإسلامية‪ ،‬وفيم نحن شوهناها بأنفسنا قبل أعدائنا‪،‬‬ ‫لأننا حرفناها بسبب انحطاطنا‪.‬‬‫ولابد ثانيا‪ ،‬من بيان حقيقة المآزق الحضارية الإنسانية الحالية‪ ،‬والتي لا يتحمل مسؤوليتها‬‫الغرب وحده‪ ،‬بل نجد فيه الكثير من الشرفاء الساعين للإصلاح‪ ،‬والمدركين لما يتهدد‬ ‫الإنسانية والعالم‪.‬‬‫ولعلنا بذلك نستطيع وضع استراتيجية حرب لطيفة‪ ،‬لا تكون دفاعا عن المسلمين وحدهم‪،‬‬‫بل رسالة كونية تنطلق من المشترك الإنساني‪ ،‬أساس ثورتي الإسلام الروحية والسياسية‪.‬‬‫والثورتان هما الحرية الروحية والحرية السياسية‪ ،‬وسندهما مبدآ الأخوة الإنسانية‬ ‫(النساء ‪ ،)1‬والمساواة بين البشر (الحجرات ‪ :)13‬الإسلام الكوني‪.‬‬‫وهذا يقتضي التحرر من كل تشويه شاب العلوم الإسلامية الخمسة (الكلام‪ ،‬والفلسفة‪،‬‬ ‫والفقه‪ ،‬والتصوف‪ ،‬وأصلها جميعا التفسير) بسبب الانحطاط والانطواء‪.‬‬ ‫وتتمثل الخطة التي أقترحها في الـجواب عن الأسئلة التالية‪:‬‬ ‫‪-1‬ما حقيقة الثورة الإسلامية؟‬ ‫‪-2‬ما حقيقة ثورة الحداثة الغربية؟‬ ‫‪-3‬فيم يتعارضان؟‬ ‫‪117 25‬‬

‫‪-4‬وكيف يتصالحان؟‬ ‫‪-5‬ما القصد بمعركة الحقيقة؟ وكيف نخوضها بمنظور الكونية الإسلامية؟‬‫وحتى لا ينتظر القارئ طويلا‪ ،‬أفسر الخطة بمبدأ عام‪ :‬الأمة العظيمة لا تنافس العظماء‬ ‫إلا بشروط هي‪:‬‬ ‫‪-1‬النقد الذاتي‪ ،‬لتجاوز عثرتها وتحمل مسؤوليتها‪.‬‬ ‫‪-2‬ويكون ذلك بالقياس إلى ما به بزها غيرها لتتداركه‬ ‫‪-3‬وحتى لا تصبح مستلبة‪ ،‬لا بد لها من مثال أعلى يتجاوزه‬ ‫‪-4‬وذلك تجاوز الجزئي إلى الكلي‪.‬‬ ‫‪-5‬فيكتشف المسلم حينئذ أن هذا التجاوز هو عينه ثورتا الإسلام‪ :‬الحريتان‪.‬‬ ‫وقد فشل الجميع‪ ،‬نحن وهم‪ ،‬في تحقيقهما‪.‬‬‫لكن فشلنا كان الأكبر والأخطر‪ ،‬لأنه تحريف للرسالة التي كلفنا بنشرها بمنطق {ادفع‬‫بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم} دون التخلي عن مبدئي‬ ‫الجهاد الشرعي‪:‬‬ ‫‪-1‬جهاد الدفع‪ ،‬الذي هو حق الدفاع الشرعي عن الذات‪.‬‬‫‪-2‬جهاد الطلب في حالتين‪ :‬لمنع منع حرية العبادة‪ ،‬ولمنع الفساد في الأرض بالعدوان على‬ ‫المستضعفين‪.‬‬‫فيكون الاستئناف هو التحرر من هذا التحريف‪ ،‬وتحرير البشرية مما كان في جوهره محاولة‬ ‫للتحرر من التحريف في الغرب‪ ،‬فآل إلى تحريف التطرف المضاد‪.‬‬‫وبعبارة وجيزة‪ :‬فالإصلاح الديني في أوروبا كان ضد الكنسية‪ ،‬أي الوساطة بين المؤمن‬‫وربه‪ ،‬ومن ثم فهدفه في الأصل مماثل لمفهوم الحرية الروحية في القرآن‪ :‬ضد تحريف‬ ‫الدين‪.‬‬‫والإصلاح السياسي في أوروبا القرن السابع عشر‪ ،‬أي بعد الإصلاح الديني بقرن‪ ،‬كان‬ ‫تحرير الحكم من الحق الإلهي‪ ،‬وهو مماثل للحرية السياسية القرآنية‪.‬‬ ‫‪117 26‬‬

‫فما الذي جعل المسلمين ينكصون فيحرفوا ثورتي الإسلام؟‬‫وما الذي جعل الغرب‪ ،‬في محاولة القيام بنفس الثورتين‪ ،‬يغالي‪ ،‬فيلغي الأمر نفسه لا‬ ‫تحريفه؟‬ ‫ذلك هو موضع الفصل الثالث من الحرب اللطيفة‪.‬‬‫وقد أطلت في تحديد الإشكال‪ ،‬لأنه إشكال ملتبس وسر التباسه كاريكاتور الحداثة‬ ‫وكاريكاتور الأصالة‪.‬‬ ‫ذلك أن هدفي الأساسي هو تحرير المعركة من موقفين دونكيشوتين في الركح‪:‬‬ ‫‪-1‬من يظن قيم الأصالة عودة إلى قيم الجاهلية‪،‬‬ ‫‪-2‬من يظن قيم الحداثة عودة إلى قيم الاستعمار‪.‬‬‫والدونكيشوتيون الأولون‪ ،‬هم من سميتهم بمليشيات السيف‪ ،‬والدونكشيتيون الثانون‪ ،‬هم‬ ‫من سميتهم بمليشيات القلم‪ .‬وكلتا المليشيتين في خدمة الأعداء‪.‬‬‫والفرق الوحيد‪ ،‬أن مليشيات القلم هم بقصد وروية‪ ،‬في خدمة الأنظمة العميلة والاستعمار‬ ‫الذي يحميهم‪ ،‬في حين أن مليشيات السيف‪ ،‬هم بغباء ولا وعي في نفس الخدمة‪.‬‬‫إنها معركة الباطل‪ ،‬التي تحول دون معركة الحقيقة‪ :‬فبهما يتلهى المسلمون عن المعركة‬ ‫الحقيقية‪ ،‬ويتمكن الأعداء وعلماؤهم من تشويه الإسلام والمسلمين‪.‬‬ ‫نذكر بأسئلتنا ونشرع في الجواب‪:‬‬ ‫‪-1‬ما حقيقة الثورة الإسلامية؟‬ ‫‪-2‬ما حقيقة ثورة الحداثة الغربية؟‬ ‫‪-3‬فيم يتعارضان؟‬ ‫‪-4‬وكيف يتصالحان؟‬ ‫‪-5‬معركة الحقيقة‪.‬‬ ‫فيم تتمثل ثورتا الإسلام؟‬ ‫‪117 27‬‬

‫في الحقيقة‪ ،‬الجواب المباشر قد لا يفيد الشباب كثيرا‪ ،‬لأنه سيعتبر مجرد بناء نظري يعسر‬ ‫استيعابه‪.‬‬‫وإذن سألجأ للجواب غير المباشر‪ ،‬اعتمادا على أن الأمور تعرف بأضدادها‪ ،‬فيصبح السؤال‪:‬‬ ‫ما الذي يمكن أن نرجع إليه ما لا يقبل أي عقل أنه من الإسلام؟‬‫هل يعقل أن يكون الإسلام قد علمنا أن المؤمن ليس بذي صلة مباشرة بربه؟ وأنه يحتاج‬ ‫إلى وسطاء؟‬ ‫وهل يعقل أن المؤمن يمكن أن يكون عبدا لحاكم مغتصب؟‬ ‫ذانك هما ما تعاني منه الأمة‪ ،‬وما إليه يرد كل ما جعلها في ذيل الأمم؟‬ ‫من يشك في أن الجميع نعم؟‬ ‫الثورتان هما الحرية الروحية والحرية السياسية‪.‬‬‫وإذن فما يسود في مجتمعاتنا‪ ،‬هو بالتمام والكمال نقيض القيم التي وضعها الإسلام‬ ‫واعتبرها عين الفطرة بكونية تشمل كل البشر‪ :‬وهذا النقيض أخرجنا من البشرية‪.‬‬‫فقدنا الحرية الروحية لكثرة الوسطاء أو الكنسية‪ ،‬حتى وإن كانت لدى السنة خفية‪ ،‬ولدى‬ ‫الشيعة علنية‪ :‬المسلم لا يضع خيطا في إبرة دون وسيط دجال‪.‬‬‫وفقدنا الحرية السياسية‪ ،‬فسواء كان الحكم قبلي تقليدي أو عسكري يدعي الحداثة‪ ،‬فإن‬ ‫الحكم بيد مافية تمتص دم الشعب الذي لا ناقة له ولا جمل في بلده‪.‬‬ ‫هل يبقى لنا الحق في ادعاء أن الأعداء يشوهون الإسلام والمسلمين؟‬ ‫هل يحتاج من هذه حاله‪ ،‬إلى من يشوهه وهو قد بلغ الذروة في التشويه الذاتي؟‬‫أضف إلى التشويه الرسمي‪ ،‬تشويه من يدعي معارضته باسم الأصالة أو باسم الحداثة‪،‬‬ ‫أي نوعي المليشيات بالسيف وبالقلم‪ ،‬لم يبق فينا شيء من الإنسانية‪.‬‬‫وتلك هي الحال التي وصفها ابن خلدون‪ ،‬بعبارة لم أجد لها بديلا‪ ،‬ولا ما يقبل عنها‬ ‫تفضيلا‪\" :‬فساد معاني الإنسانية\" بسبب النكوص إلى ما قبل الثورتين‪.‬‬‫عندئذ يصبح السؤال‪ :‬من لا يستحي‪ ،‬فيخاطب الإنسانية بقيم الإسلام‪ ،‬وهو أول من‬ ‫يدوس عليها؟‬ ‫‪117 28‬‬

‫إذا كان سلوكك اليومي تكذيبا صارخا لما تقول‪ ،‬فمن يصدقك؟‬ ‫كم أعجب من جيش الدعاة‪.‬‬ ‫من يدعون؟‬‫هل من يعيش بقيم الجاهلية في بلده‪ ،‬يمكن أن يدعو غيره لقيم القرآن‪ ،‬التي قيم المدعو‬ ‫أقرب إليها من قيم الداعي؟‬ ‫وأختم الجواب عن السؤال الأول‪ :‬أفضل طرق الدعوة هي البدء بأنفسنا‪.‬‬ ‫قصر الكلام على العبادات نفاق وجبن‪ ،‬وفيه تحريف للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪.‬‬‫وفيه كفر بالثورتين‪ :‬لا يتنزل منزلة الوسيط بين المؤمن وربه فحسب‪ ،‬بل يقايض ذلك‬ ‫بمنزلة لدى الظالمين‪ ،‬لأنه يؤدي دور تنويم الشعوب للتنازل عن حقوقها‪.‬‬‫فلا معنى لإسلام يفقد فيه المسلم حريته الروحية‪ ،‬أو الرشد المغني عن الوسطاء وحريته‬ ‫السياسية‪ ،‬بوصفه آمرا بالمعروف وناهيا عن المنكر في الشأن العام‪.‬‬‫لهذا التزمت بالعمل مع الثورة‪ ،‬التي هي كما يبين شعارها الأساسي سعي لاستعادة‬ ‫الحريتين‪ ،‬وجعل المسلمين راشدين روحيا وسياسيا‪ ،‬تحقيقا لمعنى التكليف‪.‬‬ ‫فيم تتمثل ثورة الحداثة الغربية؟‬‫الجواب نجده في أدبيات الفكر الديني والسياسي الأوروبي‪ ،‬من بداية الصراع الإسلامي‬ ‫المسيحي الوسيط‪.‬‬ ‫وتعليله‪ ،‬كوني بصدق‪ :‬فنسبتهم إليها حينها‪ ،‬هي عين نسبتنا إليهم الآن‪.‬‬ ‫كنا نموذجا عينيا للتقدم في نظرهم حينها‪ ،‬وصاروا نموذجا للتقدم في نظرنا الآن‪.‬‬ ‫وأعجب شديد العجب ممن يفاخر بالأولى‪ ،‬ويجادل في الثانية‪ .‬فهو حتما كاذب مرتين‪.‬‬‫لم يكن الغرب مجرد قرد يقتصر على تقليدنا‪ ،‬ولسنا نحن الآن بمنأى عن تقليد ما له بنفس‬ ‫المنطق‪.‬‬ ‫أخذ منا الكثير ونأخذ منه الكثير‪.‬‬ ‫من ينكر ذاك منهم‪ ،‬ومن ينكر هذا منا‪ ،‬كلاهما كاذب‪.‬‬ ‫‪117 29‬‬

‫كل حضارتين متجاورتين متنافستان ومتعاديتان إيجابا وسلبا حتما‪.‬‬ ‫فلنجب الآن فنحدد مراحل التأثر‪.‬‬ ‫‪-1‬البداية محاكاة مباشرة في نمط العيش‪.‬‬ ‫‪-2‬ثم يأتي نمط تبريره‬ ‫‪-3‬ثم ُيساءل سبب التفاضل‬ ‫‪-4‬ثم يقع النقد الذاتي للتجاوز‬ ‫‪-5‬فيحصل التغير الكيفي‪.‬‬ ‫وقد سماه ابن خلدون قانون ولع المغلوب بتقليد الغالب‪.‬‬‫قانون كوني‪ ،‬عممه ابن خلدون على الأسرة والطبقات الاجتماعية والحضارات المتساوقة‬ ‫والمتوالية‪.‬‬ ‫بماذا كان المسلمون متفوقين على الغرب حينها؟‬‫سأقتصر على ما يعنينا‪ ،‬أي النقد الذاتي للنخب الغربية‪ ،‬والتغير الكيفي في ركني كل‬ ‫حضارة‪ :‬الدين والسياسة‪.‬‬‫كان النقد متعلقا بالحرية الروحية (الكنسية التي لا وجود لها في الإسلام)‪ ،‬وبالحرية‬ ‫السياسية (الحق الإلهي في الحكم الذي لا وجود له في الإسلام)‪.‬‬‫ولذلك تراكم النقد حتى أصبح تغيرا نوعيا في الفكر الديني والسياسي‪ ،‬موضوعي فلسفة‬ ‫الحداثة التي كانت تمثل تباشير غاية هي ما يسمى بعصر التنوير‪.‬‬‫فكلاهما كان يعتبر الإسلام دين العقل أو الدين الطبيعي الذي تحرر من الكنسية ومن‬ ‫الحكم بالحق الإلهي‪ ،‬أي دين الحرية الروحية والحرية السياسية‪.‬‬‫ومن كان على دراية بأدبيات عصر التنوير وقبله عصر الإصلاح الديني (ضد الكنيسة)‬ ‫والإصلاح السيسي (ضد الحق الإلهي)‪ ،‬يعلم مدى حضور الإسلام فيها‪.‬‬‫ولأذكر اسمين مهمين في هذا المجال‪ ،‬وكلاهما ألماني‪ :‬لاسنج الفيلسوف والأديب الكبير‪،‬‬ ‫ورايماروس عالم اللغات الشرقية ممن درسوا الثورتين اللتين تشبهان ثورتي الإسلام‪.‬‬ ‫‪117 30‬‬

‫وهما غاية الثورتين أو الإصلاحين الديني والسياسي في أوروبا الحديثة‪ ،‬بين القرن‬ ‫السادس عشر والثامن عشر خاصة‪ ،‬وللأمر بداية سابقة وغاية لاحقة‪.‬‬ ‫فيم تختلف ثورتا الإسلام والحداثة؟‬‫ليس من شك في أنهما تتحدان في كونهما ثورتين على الوساطة الكنسية وعلى الحق الإلهي‬ ‫في الحكم‪.‬‬ ‫وليس من شك في أن الثورتين في اوروبا لم تبقيا في الغاية كما كانتا في البداية‪.‬‬ ‫كانتا مثل ثورتي الإسلام إصلاحا للدين والسياسة‪ .‬ثم انحرفتا بشدة‪.‬‬‫والانحراف كان متناسبا مع صمود الكنسية والاستبداد‪ .‬تماما كما نلاحظ عندنا الآن‪:‬‬ ‫فتطرف الثورة المضادة‪ ،‬قد يؤدي بالثورة إلى التطرف المقابل‪.‬‬‫فكانت الثورة التي آلت إلى الإلحاد والحرب على الدين‪ ،‬وليس على الكنيسة وعلى الملكية‪،‬‬ ‫وليس على الاستبداد في بلاد الكاثوليك لغياب الإصلاح الديني‪.‬‬‫فأدبيات القرن الثامن عشر‪ ،‬تثبت أن المادية والإلحاد كان بالأساس فرنسيا‪ ،‬بسبب تطرف‬ ‫الكاثوليكية والحكم بالحق الإلهي فيها‪ :‬علمانية الثورة الفرنسية اليعقوبية‪.‬‬‫وإذن فالاختلاف بين الثورتين الإسلامية والحداثية تتمثل في أن الحداثية‪ ،‬بدلا من تحرير‬ ‫الدين من التحريف الروحي والسياسي‪ ،‬تحولت إلى حرب عليه‪.‬‬‫صار الدين نفسه هو المتهم‪ ،‬وليس تحريفه الكنسي والسياسي‪ .‬ونفس الظاهرة نراها اليوم‬ ‫في خطاب مليشيات القلم‪ ،‬ممن يدعون الحداثة وهم أجهل الناس بها‪.‬‬ ‫كيف يتصالحان؟‬‫ما دمنا قد علمنا فيم يختلفان‪ ،‬فإن باب الصلح يمكن أن يتيسر‪ .‬فالصلح بدأ يصبح ضرورة‬ ‫تاريخية بسبب مآزق الحضارتين‪.‬‬‫أعلم أن مليشيات السيف والقلم‪ ،‬أو نوعي الدونكيشوتية التي تخلط بين كاريكاتور الأصالة‬ ‫والأصالة‪ ،‬وبين كاريكاتور الحداثة والحداثة‪ ،‬ستغضب مما أكتب‪.‬‬ ‫‪117 31‬‬

‫فكلاهما من دعاة صدام الحضارات‪ ،‬إما باسم الأصالة أو باسم الحداثة المشوهتين‪ :‬فكلا‬ ‫الصفين لا يرى في الثاني إلا الرذائل وفي ذاته إلا الفضائل‪.‬‬‫أومن بأن القيم المثلى مشترك إنساني‪ ،‬وأنها اساس فلسفة الدين والتاريخ القرآنيتين‪،‬‬ ‫وبهما يمكن أن نفهم معنى كونية الإسلام‪ :‬النساء ‪ 1‬والحجرات ‪.13‬‬‫فحربنا اللطيفة‪ ،‬أو إن شئتم أغراض سياستنا ومضمون خطابنا للبشرية‪ ،‬ينبغي أن يكون‬ ‫هذا المشترك بدءا بأنفسنا‪ ،‬لنصلح حالنا فلا نبقى عورة الاسلام‪.‬‬‫نعم‪ ،‬نحن عورة الإسلام بمعنى نقطة ضعفه في مخاطبة البشر‪ ،‬لأن ما عليه حالنا تبدو دليلا‬ ‫على أنه لا يصلح نظاما للبشرية‪ ،‬لكن حقيقته تناقض واقعنا‪.‬‬‫ومن يتابع الفكر الغربي الأحدث‪ ،‬يعلم أن الدين استعاد منزلته الشبيهة بالتصور‬ ‫الإسلامي‪ ،‬بوصفه متعاليات الأخلاق والقيم في وجود الإنسان التاريخي‪.‬‬‫لم يعد أحد من كبار المفكرين الأحدث يعتبر العلمانية اليعقوبية نظاما مقبولا‪ ،‬فوهم‬ ‫تحييد الدين وقصر السياسي على الدنيوي‪ ،‬يفسد الدنيوي نفسه‪.‬‬‫ذلك أن الدنيوي مفهوم إضافي بالجوهر‪ :‬دنيوي بالقياس إلى علووي‪ ،‬من دونه يصبح أضيق‬ ‫سجن يعيش فيه الإنسان‪ .‬المنشود في الموجود روحي الدلالة دائما‪.‬‬‫ولهذه العلة‪ ،‬نرى أن شباب الغرب وعلماءه بدأوا يتحسسون أبعاد التدني في الدنيوي‪،‬‬ ‫وضرورة التعالي عليه ليس بالمعنى الصوفي فحسب‪ ،‬بل بـالمعنى القرآني‪.‬‬‫شرطان إذن‪ :‬الحرية السياسية للاستعمار في الدنيا‪ ،‬والحرية الروحية للاستخلاف‪.‬‬ ‫العبودية السياسية منافية للكرامة‪ ،‬والعبودية الروحية منافية للأخلاق‪.‬‬ ‫آمل ألا يشكو أحد من عسر المسألة‪.‬‬‫فقد حاولت التبسيط إلى أقصى حد‪ .‬والنهج المنطقي‪ ،‬يمكن القارئ من التفكير الشخصي‪:‬‬ ‫يطرح الأسئلة وليجب بنفسه‪.‬‬‫وسيرى أن فطرته العقلية توصله إلى نفس النتائج‪ ،‬وحينها لن يقتنع لأن غيره فكر بدلا‬ ‫منه‪ ،‬بل لأنه هو نفسه انطلق من الأسئلة وحاول الجواب بنفسه‪.‬‬ ‫‪117 32‬‬

‫وهذا الذي قدمناه هو ما يمكن أن يجعل كل مسلم قادرا على خطاب عقلاني في الكلام مع‬ ‫من يعتبرهم أعداء‪ ،‬تعميما على الشعوب التي هي بدروها ضحايا‪.‬‬‫فيراجع نفسه ويسمو إلى الخطاب الكوني‪ :‬ففي كل الشعوب مفسدون‪ ،‬هم من ينبغي‬ ‫اعتبارهم أعداء‪ .‬لكن الغالبية أصدقاء إذا \"دفعنا بالتي هي أحسن\"‪.‬‬‫العداوة يمكن أن تصبح ولاء حميما لمن يخاطب أصحابها بالتي هي أحسن‪ ،‬بشرط أن يكون‬ ‫حالك مطابقا لمقالك‪ .‬إذا بقينا أكفر الناس بالإسلام‪ ،‬فاللوم علينا‪.‬‬‫الاستراتيجيا التي اقترحها في سعينا لحرب لطيفة‪ ،‬هي عين السياسة التي تجعلنا بحق‬‫شاهدين على العالمين بأحوالنا قبل أقوالنا‪ ،‬وإلا فنحن منافقون نكذب على أنفسنا قبل‬ ‫غيرنا‪.‬‬‫اعتراض انتظره ممن لا يؤمن بأن الحيلة في ترك الحيلة‪ .‬فسيقول‪ :‬كيف تلعب لعبة‬ ‫الصدق والوفاء والإخلاص مع من طبعه الكذب والغدر والخيانة؟‬ ‫الجواب بين‪.‬‬‫كن واثقا أن من طبعه الكذب والغدر والخيانة‪ ،‬سيقيسك على نفسه‪ ،‬ولن يصدقك‪ ،‬ولن‬ ‫يطمئن لوفائك ولا لإخلاصك‪ ،‬فيبقى مهموما بما وراء مواقفك‪ .‬وهذا كاف‪.‬‬‫ذلك أنك بهذا تضمن أمرين‪ :‬تكون وفيا لمبادئك‪-‬وتلك فضيلة إسلامية‪-‬ولا تخشى ما‬ ‫يترتب على ما يبدو سذاجة في التعامل‪ :‬فالعدو سيرى فيك الدهاء عينه‪.‬‬‫وأنت إذا عملت بالآية ‪ 60‬من الأنفال‪ ،‬لا تحتاج لتلك الرذائل‪ ،‬إذ إن مهابتك كافية لئلا‬ ‫يتحداك أحد يعلم أنك عند النزال ستنتصر‪ :‬ذلك ما ينبغي أن تستعيده الأمة‪.‬‬‫فلا شيء أخطر على الدول والشعوب من الردع الكاذب‪ .‬ذلك أنه يجعل مدعيه أول‬ ‫المخدوعين به‪ ،‬والأعداء لا يصدقونه‪ .‬فالواثق من نفسه قليل العنتريات‪.‬‬‫أكاد أجزم بأن كل عنتريات إيران تدل على العكس تماما‪ .‬وكل ما يتظاهر به بوتين حاليا‪،‬‬ ‫دليل ضعف لا قوة‪ .‬فالجميع يعلم أن قدراته الاقتصادية صفر‪.‬‬‫فدخل روسيا القومي الخام حوالي واحد من عشرين‪ ،‬أي نصف العشر بالقياس إلى دخل‬‫أمريكا‪ ،‬وتكاد ميزانية جيش أمريكا تساوي دخل روسيا‪ ،‬وتسليحها خردة قياسا إلى أمريكا‪.‬‬ ‫‪117 33‬‬

‫ولو كان بوتين واثقا من نفسه‪ ،‬لما تعنتر على مقاومة شعبية لا تملك إلا سلاحا بسيطا‪،‬‬ ‫اضطر لأن يستعمل ضدها كل ترسانته‪ :‬كيف يتوهم أن ذلك يمكن أن يمده بمهابة؟‬ ‫هل كان المرحوم محمد علي كلاي يبارز طفلا‪ ،‬حتى لو اعتدى عليه؟‬‫بوتين يمكن أن يكذب على شعبه‪ .‬لكن أوروبا وأمريكا لا يخافون منه‪ ،‬بل على العالم من‬ ‫جنونه‪.‬‬‫لذلك فهم اختاروا تركيعه اقتصاديا‪ ،‬كما فعلوا مع السوفيات‪ :‬أجبروه على الدخول في‬‫معارك وسباق تسلح‪ ،‬سيأتي على القليل الباقي من ثروة بلاده‪ ،‬خاصة بعد أزمة البترول‪.‬‬‫ثم إن وزن الكلام مختلف‪ :‬كان الأمريكان يقولون كلمة الجنرال ديجول هي سلاح فرنسا‬ ‫الرادع‪ ،‬لأنه إذا قال فعل‪ .‬وكل الأمم الواثقة من نفسها لا تتعنتر لعلمها بقوتها‪.‬‬‫مثال صارخ‪ :‬إيران لم تصنع بعد قنبلة نووية‪ ،‬وتهدد بمحو إسرائيل من الخارطة‪ ،‬وإسرائيل‬ ‫التي تملك مئات منها لم تعترف حتى بامتلاكها‪.‬‬‫لسان حال نظام الملالي يقول‪ :‬خلوني أكذب على العامة‪ .‬وكذلك كان جمال عبد الناصر‬ ‫وأمثاله يدعون رمي الإسرائيليين في البحر بعنتريات‪ ،‬هم أنفسهم لا يصدقونها‪.‬‬‫وكوريا الشمالية‪ ،‬التي يموت شعبها جوعا‪ ،‬تهدد أمريكا‪ .‬هل توجد بلاهة تفوق هذه؟‬‫كذلك كان القذافي يسمي ليبيا جماهيرية عظمى‪ ،‬خلطا بين الأوهام والحقائق التي لا‬ ‫يجهلها حتى صاحب الدعوى‪.‬‬ ‫لما كانت دولة الإسلام مهابة‪ ،‬لم يكن أحد يجرؤ عليها‪.‬‬‫لما كثر الكذب في عهد الأنظمة التي تدعي الثورية‪ ،‬صارت الجيوش تخسر الحرب في دقائق‬ ‫معدودة‪.‬‬ ‫ولأختم بالكلام في العلوم التي تسمى علوم الملة‪.‬‬‫لم يعد شيء كبير منها يعتبر علوما‪ .‬كلها تقريبا تجاوزها مجال بحثها‪ ،‬إذا فصلناها عنه‬ ‫ككل علم‪.‬‬ ‫‪117 34‬‬

‫فالعلوم غير موضوعها‪ :‬لا التفسير أو الفقه او الكلام أو التصوف أو حتى الفلسفة هي‬ ‫موضوعها أي مجال بحثها‪ .‬ليست مستقرة ولا حية دائما مثله‪ ،‬وتموت إن لم تتغير‪.‬‬‫والتغير نوعان‪ .‬أدناه التغير الكمي والتوسع في نفس الإطار الابستيمولوجي‪ ،‬وأسماه‬ ‫التغير النوعي والانتقال إلى إطار ابستمولوجي أعقد وأشمل‪.‬‬‫وغالب علومنا‪ ،‬إن لم نقل كلها‪ ،‬ينبغي أن يحصل فيه النوع الثاني من التغير‪ ،‬لأنه استنفد‬ ‫كل إمكانات إطاره الابستيمولوجي القديم‪ ،‬والذي لم يعد صالحا‪.‬‬‫ومثلها العلوم العادية‪ :‬لا أحد اليوم يتداوى بطب ابن سينا أو جالينوس‪ ،‬ولا أحد يستعمل‬ ‫فيزياء أرسطو‪ ،‬ولا أحد يستعمل فلك بطليموس إلخ‪.‬‬ ‫ألسنا نتجاهل ذلك؟‬‫اعتمادا على خلط مقصود بين العلم ومجال بحثه‪ ،‬يضفون على التفسير والفقه والكلام‬ ‫والتصوف والفلسفة شيئا من الثبات والاستمرار‪ ،‬يزيل كل إبداع حقيقي‪.‬‬‫فيصبح الكلام في تاريخ علوم ماتت‪ ،‬أو لنقل تجاوزها العلم في مجالاتها‪ ،‬علما‪ ،‬ويصبح‬ ‫أصحابه علماء فيه وليس مؤرخين لما مات منه‪ ،‬فيجمدون المجال نفسه‪.‬‬‫لكنك كثيرا ما تسمعهم يقولون الفقه ابن عصره‪ ،‬ثم يباهون فيتكلمون على فقه الواقع‬ ‫إلخ‪ ..‬من الشعارات التي لا تعني شيئا‪ ،‬لان الواقع أيضا ابن عصره‪.‬‬‫وليغضب من يغضب‪ :‬لا شيء تقريبا مما في هذه العلوم الخمسة بقي ذا فائدة يمكن أن‬ ‫يستمدها العمران الإنساني فتجعل الإسلام جذابا‪ ،‬كما ينبغي أن يكون‪.‬‬ ‫ومع ذلك يسمون علماء‪.‬‬‫أن نسميهم مؤرخي مرحلة مضت من هذه الاختصاصات‪ ،‬لا غبار على ذلك‪ .‬أما أن نقول‬ ‫عنهم علماء فهم علماء آثار ربما‪ .‬ولنكتف بالكلام‪.‬‬‫فالكلام من أصله ليس إلا علما زائفا‪ .‬لكن فلنسلم أنه علم في عصره‪ .‬اليوم لا معنى له‪.‬‬ ‫وابن خلدون نفسه اعتبره فقد وظيفته‪ .‬شعوذات الكلام في الغيب‪.‬‬‫ليس منها نفع بل كلها ضرر‪ :‬فهي تنتهي إلى جعل الإسلام يتحلل كما تتحلل الجماعات إلى‬ ‫عصبيات تقتتل حول تخريفات‪ ،‬تدعي صوغ العقديات أفضل من القرآن‪.‬‬ ‫‪117 35‬‬

117 36

‫ختمت الفصل الثالث من الحرب اللطيفة بما يقد يستنتج منه المتعجل أني ضد علوم الملة‪.‬‬‫ذلك أننا لم نعد قادرين على التمييز بين ناقديها بحسب الموقف الساعي إلى الإصلاح‪،‬‬ ‫والموقف الساعي إلى التهديم‪.‬‬‫فقد يتعجل البعض‪ ،‬فيلحظ الموقف من علوم الملة ولا ينظر ما وراءه‪ ،‬فيتصور القصد‬ ‫واحدا‪ .‬ولهذا ذكرت بخطأ فكر الغرب في محاولة تحقيق الحريتين‪.‬‬‫فبدلا من علاج التحريف الديني (الوساطة الكنسية) والسياسي (الحكم بالحق الإلهي)‪،‬‬ ‫جعلوا الدين نفسه متهما‪ ،‬ونفوا ما يتعالى على السياسي \"فتمكيفل\"‪.‬‬‫الموقف الذي ينبغي تمييزه عما أقدم‪ ،‬هو الذي يريد القيام بنفس الخطأ من الحداثيين‬ ‫العرب‪ ،‬الذين ينسبون حال الأمة إلى الإسلام نفسه وليس إلى تحريفه‪.‬‬‫وموقفهم هذا طبيعي‪ ،‬لأن فكرهم ببغاوي‪ ،‬يتصورون ما حصل في الغرب هو الحل‪ ،‬ولا يرون‬ ‫أن الغرب نفسه بات اليوم في مآزق وفقد الحريتين بسبب هذا الخلط‪.‬‬‫نقدي لعلوم الملة ليس القصد منه الغاءها‪ ،‬بل هو من جنس إحياء علوم الدين دون أن‬ ‫أدعي أن لي ما للغزالي من قدرة عليه مثله‪ ،‬فلست ادعي منزلة المجتهد في الشرعيات‪.‬‬‫وأكثر من ذلك‪ ،‬نقدي لا يتعلق بمضمونها الديني ‪-‬لأني ليست عالم دين‪ -‬بل هو يتعلق‬ ‫بشكلها الابستمولوجي‪ ،‬ودون تواضع زائف‪ :‬فهذا مجال اختصاصي الأول‪.‬‬‫والجميع يعلم منزلة الغزالي عندي فقد اهتممت بفكره النقدي للفلسفة في شبابي ولا زلت‪.‬‬ ‫لكن الاجتهاد من مميزاته أنه يترك الباب مفتوحا لنقد النقد‪.‬‬ ‫لذلك فهذا الفصل الرابع سأخصصه لست مسائل‪:‬‬ ‫‪117 37‬‬

‫ولأوضح القصد بالعلوم التي تدرس المرجعية ماديا وتاريخيا أو متنا ورواية‪ :‬فكل النقد‬ ‫المزعوم لأدعياء الحداثة يدور حول هذا النوع من الدراسة لإثبات انتحال مزعوم‪.‬‬‫فالبحث في تدوين القرآن والأصيل والمنتحل فيه‪ ،‬أساسه فرضية لا شيء يثبتها‪ :‬بيان أن ما‬ ‫حصل للتوراة والإنجيل ينبغي أن يكون قد حصل مثله للقرآن‪ :‬معيز ولو طارت‪.‬‬‫وليس هذا النوع من البحث مقصودي في هذه الدراسة لعلتين‪ :‬أولا لأن مرجعية الإسلام هي‬ ‫المرجعية الدينية الوحيدة التي كان أهلها من البداية‪ :‬القرآن حددها‪.‬‬‫كانوا على دراية بعلل تحريف الكتب المنزلة السابقة‪ ،‬فكانوا حريصين على توثيقها توثيقا‬ ‫يكاد يكون علميا‪ ،‬بل هم أول من أسس بصورة شبه نسقية نقد النصوص متنا ورواية‪.‬‬‫ولكن هبنا سلمنا جدليا أن بعض الزيادة أو بعض النقصان قد حصلا‪ ،‬فما المشكل عند من‬ ‫لا يقدس المرجعية من العلمانيين ناقدي القرآن والحديث؟‬‫الواضح أن الحداثي الذي يعتقد أن المرجعيات الدينية كلها من أساطير الأولين‪ ،‬ليس‬ ‫هدفه من هذا البحث علميا‪ ،‬بل هو إيديولوجي‪ :‬تشكيك المؤمن لا غير‪.‬‬‫وإذن فالدافع ليس طلب الحقيقة العلمية‪ ،‬بل تعليل موقف إيديولوجي من الدين أولا‬ ‫وموقف عدائي من دين معين ثانيا(الإسلام) في حرب لطيفة خبيثة وليست للإصلاح‪.‬‬‫فدراسة القرآن والحديث الخارجية‪ ،‬التي من هذا النوع‪ ،‬قام بها علماء الإسلام أنفسهم‬ ‫للتوثيق الدقيق ولتحرير القرآن قبليا والحديث بعديا من أي انتحال ممكن‪.‬‬‫والدليل أن أفضل تاريخ علمي حديث للقرآن اعتمد فيه صاحبه وفريقه على دراسات‬ ‫وتفاسير إسلامية متقدمة‪ ،‬وهو أدرى بمنهج نقد النصوص من كل أدعياء الحداثة‪.‬‬‫لذلك فلن أخوض في الدرس المادي والتاريخي للمرجعية بصنفيها (القرآن والسنة)‪،‬‬ ‫وسأهتم بما سأستخرجه من ثغرات ابستمولوجية نتجت عن محاولة الغزالي‪.‬‬ ‫‪117 38‬‬

‫يمكن القول إن محاولة الغزالي‪ ،‬على أهميتها‪ ،‬ضاعفت المشكل بدل حله‪ .‬ولننطلق من‬‫تلخيصه الشخصي لأزمته بمراحلها الخمس من الإيمان الساذج إلى الحل المقترح (المنقذ)‪.‬‬‫والمناخ الروحي العام لهذه المراحل‪ ،‬هو مناخ الشك المعرفي وحتى الوجودي بمرحلتيه‪:‬‬‫الشك المخرج من الإيمان الساذج‪ ،‬والشك المخرج من علاج الشك العقلي واللجوء إلى‬ ‫الإيمان الصوفي‪.‬‬ ‫فالخروج من الإيمان الساذج إلى علم الكلام‪ ،‬هو علاج مستوى الشك الأول‪.‬‬ ‫والخروج من علم الكلام إلى الفلسفة‪ ،‬هو علاج مستوى الشك الثاني‪.‬‬‫ويصل الغزالي الى خيار مغشوش‪ ،‬لم يكن واعيا بطابعه المغشوش لأن ذلك لم يتبين إلا‬‫بعده‪ :‬فالعارية المنهجية من الفلسفة‪ ،‬والعارية المضمونية من التصوف‪ ،‬لهما تبعات كما‬ ‫سنرى أفسدت الحل وشوهته‪.‬‬‫الخيار الأول هو الخيار التعليمي أو الباطني‪ ،‬فحله يتمثل في الدين للظاهر‪ ،‬بإمامة معصومة‬ ‫تحكم العامة وفي العقل للباطن والخاصة‪ .‬لكن الغزالي رفض هذا الحل لصدق إيمانه‪.‬‬‫الخيار الثاني هو الخيار الصوفي‪ ،‬وهو في الحقيقة نفس الحل الباطني ولكن على مستوى‬‫ذاتي وفردي وليس للجماعة ككل‪ .‬ذلك أن غرضه هو إنقاذ نفسه من الضلال بتعليمية‬ ‫القطب بدل الإمام‪.‬‬‫وإذن فهو يعود إلى الحل الجماعي بالتوفيق بين العقل والنقل‪ ،‬ويضع لذلك قانون التأويل‪،‬‬ ‫وجعل المنطق أساسا لكل علوم الملة مع الحل الفردي‪ :‬التصوف‪.‬‬‫فيكون حله‪ :‬التحرر من سفسطائية الكلام بالفلسفة (مسألة منهجية)‪ ،‬والتحرر من قشورية‬‫الفقه بالتصوف (مسألة خلقية)‪ .‬فيكون قد أخذ المنهج المنطقي من حيث الشكل‪ ،‬والأخلاق‬ ‫الصوفية من حيث المضمون‪.‬‬ ‫‪117 39‬‬

‫حل الغزالي إذا بنيناه على أسس معرفية هو كالتالي‪ :‬فكلامه على إحياء علوم الملة يفترض‬‫أنها ماتت‪ ،‬وعلاجه مضمونيا كان بعارية من التصوف (أخلاق التصوف)‪ ،‬ومنهجيا بعارية‬ ‫من الفلسفة (منطق الفلسفة)‪.‬‬‫وقد أثمرت عملية الإحياء الغزالية ثمرات‪ ،‬أهمها خمسة أعمال غيرت \"المشهد العام\" في‬ ‫علوم الملة كلها‪:‬‬ ‫‪-1‬التهافت في الفلسفة عامة‪.‬‬ ‫‪-2‬والفضائح في فلسفة السياسة والدين‪.‬‬ ‫‪-3‬والإحياء في أدواء علوم ا لملة‪.‬‬ ‫‪-4‬والاقتصاد في الاعتقاد في الكلام‪.‬‬ ‫‪-5‬والمستصفى في أصول الفقه‪.‬‬‫كل ما جاء بعد هذه الأعمال‪ ،‬في جل الإنتاج الفكري للأمة‪ ،‬هو من ثمراتها إيجابا أو سلبا‪،‬‬‫أي معها أو ضدها‪ .‬ولذلك فاسم حجة الإسلام يستحقه الغزالي بجدارة لا يجادل فيها‬ ‫عاقل‪.‬‬ ‫ما الذي نعيبه عن حله إذن؟‬‫أساس الحل المضموني (بعارية الأخلاق الصوفية)‪ ،‬والمنهجي (بعارية المنطق الفلسفي)‬ ‫أغفل ما وراء العلاجين من نظرة قد تنتهي إلى التنافي مع العلم والدين‪.‬‬‫وهذه النهاية هي التي أنسب الفضل في بيانها إلى ابن تيمية في فلسفة النظر‪ ،‬وابن خلدون‬ ‫في فلسفة العمل‪.‬‬‫فالأول بحث فيما وراء المنطق والتصوف مما هو في الحقيقة العلمية النظرية‪ ،‬وبين أنه عين‬ ‫سفسطة الكلام وقرمطة الفقه بمنظور فلسفة النظر‪.‬‬‫والثاني بحث فيما وراء المنطق والتصوف مما هو في الحقيقة العلمية العملية‪ ،‬وبين أنه‬ ‫سفسطة الكلام وقرمطة الفقه بمنظور فلسفة العمل‪.‬‬ ‫‪117 40‬‬

‫وإذن فما فر منه الغزالي وقع فيه‪ ،‬أعني أن الفلسفة بشكلها المبني على المنطق الأرسطي‬‫والفقه المبني على الأخلاق الصوفية‪ :‬هما جوهر السفسطة في العقليات والقرمطة في‬ ‫النقليات (ابن تيمية)‪.‬‬‫ذلك أن التحليلات الأولى بمعناها الأرسطي لا تكون أداة معرفة إلا بشرط نظريات‬‫التحليلات الأخيرة بنفس المعنى‪ .‬وهذه تتأسس على ما يتأسس عليه علم الكلام‪ :‬رد الوجود‬ ‫إلى الإدراك‪.‬‬‫والاسم فحسب هو المختلف‪ :‬فرد الوجود إلى الإدراك‪ ،‬يسمى كلاميا قيس الغائب على‬ ‫الشاهد‪ .‬فما في الغائب مما يتجاوز الإدراك ‪-‬خاصة الغيب‪-‬يرد في الكلام إلى الشاهد‪.‬‬‫والأخلاق الصوفية لا تعمل إلا إذا ميزنا بين الرسوم والحقائق‪ .‬والحقائق تزول فيها‬‫الحدود الشرعية لأنها لا تميز بين الموجود والمنشود وبين الضرورة والحرية‪ .‬فننتهي إلى‬ ‫وحدة الوجود التي تتساوى فيها القيم فتلغى‪.‬‬‫وإذا زال الفرق بين الموجود والمنشود‪ ،‬وبين الضرورة والحرية‪ ،‬كما يترتب ذلك على وحدة‬‫وجود‪ ،‬فإن الأخلاق نفسها تزول للقول بالفاتاليسم النافي لفاعلية الإنسان عودة إلى فتوة‬ ‫إبليس المزعومة‪.‬‬‫ولذلك فكم أعجب ممن يتصورون التصوف ممثلا للإنسانية وللتسامح‪ ،‬خلطا بينه وبين‬‫اللامبالاة القيمية‪ .‬فتصوف وحدة الوجود نفي مطلق لمفهوم الحرية والإنسانية‪ :‬إنه محض‬ ‫طبعانية‪.‬‬‫فيكون التصوف في الغاية باطنيا‪ ،‬كون الفلسفة في الغاية سفسطائية‪ :‬فأولا لاوجود لقيم إلا‬ ‫بوصفها أدوات سياسية ورسوم عامية‪ .‬وثانيا الإنسان مقياس لكل شيء‪.‬‬‫تلك هي الأزمة التي نتجت عن حل الغزالي‪ .‬ولم يستطع القرن السادس بأعلامه الأربعة‬ ‫الأشهر‪:‬‬ ‫‪-1‬فيلسوف فقيه (ابن رشد)‬ ‫‪-2‬وفيلسوف متصوف (السهروردي)‬ ‫‪-3‬متكلم متفلسف (الرازي)‬ ‫‪117 41‬‬

‫‪-4‬ومتصوف متفلسف (ابن عربي)‬‫لم يستطيعوا أربعتهم حل المعضلة الغزالية‪ ،‬لأنهم لم يدركوا خطرها وتصوروا العودة إلى‬‫ما قبلها ممكنا‪ ،‬وكلهم نازعوا الغزالي دون أن يدركوا طبيعة ثورته‪ ،‬رغم أنها انتهت إلى‬ ‫طرق مسدودة‪.‬‬‫وهؤلاء هم مؤسسو المدرسية الفلسفية في الحضارة العربية الإسلامية‪ ،‬التي سيطرت خلال‬‫عصر الانحطاط‪ ،‬إذ بها عدنا إلى ما تقدم على حل الغزالي ولكن بما ترتب على حله من‬ ‫معضلات‪.‬‬‫وتاريخ الفكر أيد هذه القراءة‪ :‬فكما قال ابن خلدون مباشرة بعد الرازي‪ ،‬زال الفصل‬ ‫بين الفلسفة والكلام والفصل بين تصوف وحدة الوجود والباطنية‪.‬‬‫وكلتا الملاحظتين موجودتان في عرض ابن خلدون حول تطور الكلام وتطور التصوف في‬ ‫غايتهما التي انتهيا إليها‪ ،‬ولم يكن ذلك في الحالتين محض صدفة‪.‬‬‫تلك حال علوم الملة التي وجدها ابن تيمية‪ ،‬فكان علاجه مباشرة متوجها إلى أصل الداء‪:‬‬‫ما وراء الفلسفة (ما وراء المنطق) وما وراء التصوف (ما وراء الأخلاق) أي ينقص حلي‬ ‫الغزالي‪.‬‬ ‫ولذلك فإنه بالوسع القول إن كل فكر ابن تيمية يرد إلى هذين الماورائين‪:‬‬ ‫هل المنطق يحل مشكل علوم الملة منهجيا؟‬ ‫وهل التصوف يحل مشكلها مضمونيا؟‬‫هذا من حيث دافع ابن تيمية العيني بوصفه مسلما‪ .‬لكن لما كان المشكل متعلقا بما وراء‬‫المنطق وبما وراء الأخلاق‪ ،‬فهو لم يبق خاصا بعلوم الملة ولا يقتصر على دافعه العيني بل‬ ‫يشمل فلسفة النظر والعمل عامة‪.‬‬‫ومن صدف التاريخ السعيدة‪-‬أو من حظي الأسعد‪-‬أن ما عالجه ابن تيمية من منطلق البحث‬‫في ما بعد المنطق وما بعد الأخلاق بمنظور فلسفة النظر‪ ،‬عالجه ابن خلدون بمنظور فلسفة‬ ‫العمل‪.‬‬ ‫‪117 42‬‬

‫الأول انطلق من فلسفة النظر والعقيدة‪ ،‬والثاني انطلق من فلسفة العمل والشريعة‪.‬‬ ‫الأول أحدث نقلة ثورية في فلسفة النظر‪ .‬والثاني أحدثها في فلسفة العمل‪.‬‬‫ذلك ما أعتبره أهم نتيجة وصلت إليها في مشواري الأكاديمي‪ .‬وسيثبت الفكر الغربي‬‫خاصة‪-‬بعد أن صارت أزمة حضارتنا بؤرة أزمة تاريخية كونية‪-‬أنها حدثت كما وصفتها‪.‬‬ ‫وقد بدأوا يدركون أهمية فكر ابن تيمية‪.‬‬‫وعندما أتكلم على الغزالي أو ابن تيمية أو ابن خلدون‪ ،‬فليس دافعي أن أرضي زيدا أو‬ ‫عمرو بل تتبع النظام الابستيمولوجي الذي يحدد مراحل الفكر تحديدا بنيويا‪.‬‬‫فكم سئمت الكلام في فكرنا وكأنه مقبرة مهملة أو كدس فضلات‪ ،‬كحال مدننا ليس لها نظام‬ ‫ذاتي وبنية منطقية قابلة لأن تستنتج من مبادئ معدودة مساره التاريخي المنتظم‪.‬‬‫ومن الخطأ تصور هذا النظام ظاهرة ذات وجود ذاتي خارج الفرضيات التي تقترحها نظاما‬‫لصيرورة الفكر‪ .‬هي فرضية علمية يبدعها العقل‪ ،‬لتكون كما قال الخليل في نظريته‬ ‫اللسانية تخيلا لما دار في خلد مهندس مفترض‪.‬‬‫فقد افترض الخليل أن اللسان بيت وضعه مهندس‪ ،‬وافترض أنه محله‪ ،‬وسأل نفسه ما‬ ‫الخطة التي يمكن أن تكون النموذج الذي بنى على منواله صاحب البيت البيتَ؟‬‫ونحن نحاكي الخليل‪ ،‬فنفترض أن تاريخ فكرنا بيت‪ ،‬وأن له مهندسا وضع نظامه‬‫الابستيمولوجي‪ ،‬المولد للمفهومات بعضها من البعض‪ ،‬ونعرض هذا الفرض لفهم مراحل‬ ‫تطور الفكر‪.‬‬‫منطلقي هو التالي‪ :‬نحن الآن في لحظة شبيهة باللحظة التي قدم فيها الغزالي حليه‪ ،‬بل هي‬ ‫أكثر تعقيدا لأن الأمة في عصر الغزالي لم تفقد سلطانها كحالها الآن‪.‬‬‫لكنه هو عالج مشكلا معرفيا وعقديا دون أن تكون الأمة في أزمة وجودية بالدرجة التي‬ ‫هي عليها الآن‪ .‬ففي مثل هذه الحالة يتحول المحافظة دون الجرأة النظرية‪.‬‬‫ولعلمي بذلك‪ ،‬أحاول أن \"أعالج العين الرمدة\" (باللهجة التونسية) أي بحذر شديد حتى‬ ‫أتجنب المفعول العكسي‪ ،‬لئلا يعتبر السعي إلى الإصلاح تهديما‪.‬‬ ‫‪117 43‬‬

‫لكني مهما حاولت الحذر فلا بد أن أعلن وبصورة لا لبس فيها‪ :‬لم يعد شيء من علوم الملة‬ ‫مضمونا ومنهجا‪ ،‬قابلا لأن يستجيب لأي من حاجبات الأمة الراهنة‪.‬‬‫فالأزمة الحالية إذا قورنت بالتي عالجها الغزالي‪ ،‬تجاوزت خطورتها بأكثر من ألف في المائة‪،‬‬ ‫لأن العلوم الخمسة أصبحت تاريخ تراث ميت لا علوما حية‪.‬‬‫ولا أعني بفقدان الأمة المعنى السياسي للسلطان فحسب‪ ،‬بل السلطان بالمعني المعرفي أي‬ ‫القدرة على التعامل مع الآفاق (الطبيعة) والأنفس (التاريخ)‪.‬‬‫وهذا السلطان هو سلطان العلم وتطبيقاته‪ .‬كل علوم الملة الخمسة (التفسير والكلام‬ ‫والفلسفة والفقه والتصوف) ثرثرة لم يعد لها أدنى اثر في الآفاق والأنفس‪.‬‬‫أعلم أن الكثير سيجادل في حصري علوم الملة في خمسة‪ .‬ومن يفعل يغفل استثنائي دراسة‬ ‫المرجعية خارجيا‪ ،‬أي نصها وتاريخها فهذه علوم توابع أداتية لتلك‪.‬‬‫وهي ليست ملية ككل العلوم المساعدة‪ ،‬أنها تشمل الملي والكوني‪ .‬فاللسان والبيان والتاريخ‬‫ومنهج التجريب وطرق الاستدلال‪ ،‬كلها أدوات كونية بشكلها‪ ،‬حتى وإن تعينت فاختلفت‬ ‫بمضمونها‪.‬‬‫سأعتبر هذا الفصل الرابع مدخلا لما أنوي الكلام فيه‪ ،‬أي في ضرورة عملية مناظرة لثورة‬ ‫الشباب السياسية المطالبة بالحرية والكرامة‪ :‬ثورة معرفية‪.‬‬‫ثورة الشباب السياسية قد استمدت شعاراتها من الشعر العربي مترجما للقرآن الكريم‪-‬‬ ‫بيتي الشابي تأويل للقضاء والقدر بترجمة سنة التغيير القرآنية‪.‬‬‫فلتكن ثورة الشيوخ مستمدة شعاراتها من فكر المدرسة الفلسفية النقدية‪ ،‬فتترجم علميا‬ ‫تصور القرآن الكريم لسنن المعرفة التي تبين الحق‪ :‬فصلت ‪.53‬‬‫فالشعر لسان حال الشباب‪ ،‬والعلم لسان حال الشيوخ‪ .‬والحضارات عمليا تستمد عنفوانها‬ ‫الحيوي من الشباب‪ ،‬والشعر ونضوجها العقلي من الشيوخ والعلم‪.‬‬ ‫‪117 44‬‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook