Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore سلسلة الحرب اللطيفة ممهدات لفهمها وشروط لعلاجها - ابو يعرب المرزوقي

سلسلة الحرب اللطيفة ممهدات لفهمها وشروط لعلاجها - ابو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2017-05-12 09:35:39

Description: سلسلة الحرب اللطيفة ممهدات لفهمها وشروط لعلاجها - ابو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫وختاما فإن البحث سيخصص لكل علم من العلوم الخمسة فصلا‪ ،‬ويختم بفصل جامع لتكون‬ ‫فصول المسألة عشرة إن وفقنا الله في الذهاب بالعلاج إلى غايته‪.‬‬ ‫والفصول الموالية هي‪:‬‬‫والفصل الخاتم يتعلق بمعنى استرداد سلطان الأمة على الآفاق وعلى الأنفس‪ ،‬أي القدرة‬ ‫الإبداعية في العلم بقوانين العلوم الطبيعية‪ ،‬وفي العلم بقوانين العلوم الإنسانية‪.‬‬‫وتلك هي أدوات الحرب اللطيفة التي يمكن أن تغني عن الحرب العنيفة‪ ،‬أو إن حصلت‪،‬‬ ‫تكون ضامنة لشروط النصر الذي لدور الإنسان والباقي من الله وحده‪.‬‬‫وإذا كان الكلام والتصوف علمين زائفين‪ ،‬فهما يزيفان علمين حقيقيين هما ما قضيا عليه‪:‬‬ ‫أي فلسفة التاريخ وفلسفة الدين‪ .‬فالكلام والتصوف ألغياهما‪.‬‬‫وإذن فالبحث يعالج الفلسفة (ومعها علوم الطبيعة) والفقه (ومعه علوم الشريعة أو‬ ‫الأنظمة السياسية والقانونية) ويحيي فلسفة الدين وفلسفة التاريخ‪.‬‬ ‫ماذا يعني احياء فلسفة الدين وفلسفة التاريخ؟‬‫اعتبار الكلام والتصوف علمين مزيفين يعني أن الأول تحريف لفلسفة الدين‪ ،‬والثاني‬ ‫لفلسفة التاريخ‪.‬‬‫فعندما يعرف المتكلم علمه بكونه دفاعا عن العقيدة بالعقل‪ ،‬يخفي كذبة لا يصدقها عاقل‪.‬‬ ‫لوكان الإيمان يقبل التأسيس العقلي لاستغنينا عنه وعن الوحي‪.‬‬‫وفي الحقيقة هو لا يدافع عن الدين‪ ،‬بل عن مذهب يدعي احتكار فهم الدين‪ .‬كل مدرسة‬ ‫كلامية تدعي أنها الفرقة الناجية‪ ،‬ومن ثم فهي بالجوهر طائفية‪.‬‬‫الكلام أصل للحروب الدينية وليس علما للأديان‪ .‬وذلك ما ينبغي أن نتحرر منه لنؤسس‬ ‫فلسفة الدين التي هي منطلق كل محاولة لعلم الأديان الكوني‪.‬‬ ‫‪117 45‬‬

‫والتصوف تحريف لفلسفة التاريخ‪ ،‬لأنه يدعي الوصول إلى الاستخلاف في الأرض من دون‬ ‫الاستعمار فيها‪ ،‬بل يعتبر الأول مشروطا بالتخلص من الثاني‪ :‬كذبة كبرى‪.‬‬‫فهو نفي الاستعمار في الأرض (موضوع فلسفة التاريخ) بفهم زائف للاستخلاف فيها‬ ‫(موضوع ما وراء التاريخ) وهو مناف لفلسفة الإسلام التاريخية‪.‬‬ ‫‪117 46‬‬

‫وعدت في نهاية الفصل الرابع‪:‬‬ ‫والتحير في بداية الفصل الخامس هو بأيها نبدأ؟‬‫إذا بدأنا بالفلسفة والفقه‪ ،‬فقد لا نرى فيهما أثر العلمين الزائفين وتغييبهما لفلسفة الدين‬ ‫وفلسفة التاريخ‪.‬‬‫وإذن‪ ،‬فالبداية ينبغي أن تكون بالعلمين الزائفين‪ ،‬وأثرهما‪ ،‬وأثر تغييب الفلسفتين‬‫الدينية والتاريخية على الفلسفة والفقه‪ ،‬اللذين هما رأس علوم الطبيعة وعلوم الإنسان‪.‬‬‫الفصل الخامس نخصصه إذن إلى علم الكلام‪ ،‬بوصفه علما زائفا حال دون وصول الفكر‬ ‫الإسلامي إلى فلسفة الدين من حيث هو ظاهرة كونية وليس طائفة مذهبية‪.‬‬‫فأهم ما يتميز به القرآن الكريم‪ ،‬مرجعية الإسلام الأولى‪ ،‬هو اعتبار الدين ظاهرة كونية‬ ‫وحقيقة منغرسة في الفطرة‪ ،‬وهي واحدة عقدا‪ ،‬وإن تعددت شرعا‪.‬‬‫وما كان هذا تصوره للدين ليس دينا من بين الأديان‪ ،‬بل هو الديني في كل دين‪ ،‬ومن ثم‬ ‫فهو من البداية تأسيس لفلسفة الدين بما هو ظاهرة كونية متطورة‪.‬‬‫والمشكل هو‪ ،‬كيف نصل من البحث في الأديان المختلفة طلبا للديني فيها‪ ،‬كما نبحث مثلا في‬ ‫الأحياء طلبا للحي فيها‪ ،‬انتقالا من وصفها وتنوعها إلى قوانين الحياة الواحدة‪.‬‬‫ولنضرب مثالا آخر أوضح لأنه من الإنسانيات‪ :‬كيف ننتقل من علوم النحو للغات المختلفة‪،‬‬ ‫إلى علم اللسانيات؟ أي من قواعد لغة معينة إلى قوانين اللساني عامة؟‬ ‫‪117 47‬‬

‫مشكل علم الكلام هو أنه بدلا من أن ينتقل من الدين إلى الديني عامة‪ ،‬عاد منه إلى‬‫الطائفي في نفس الدين‪ .‬وبدلا من الصعود إلى وحدة الجنس‪ ،‬نزل إلى ما دون الوحدة‬ ‫العددية‪.‬‬‫فعندما يكون القصد البحث في الديني في الأديان‪ ،‬نصعد إلى درجة ليس المطلوب فيها طلب‬ ‫المفاضلة بينها‪ ،‬كما لا نفاضل بين الأحياء من حيث هي منتسبة إلى الحي‪.‬‬‫المفاضلة حينها لا تكون بينها من حيث الديني فيها‪ ،‬بل من حيث أداؤها لوظائفه‪ ،‬فيكون‬ ‫الأمر متعلقا بما يشبه اختلاف الأعضاء في تطور الحيوانات‪ ،‬وليس بوحدة الوظائف‪.‬‬‫ومثلما أن علم اللسان لا يفاضل بين الألسن من حيث الوظائف‪ ،‬ولكن يمكن أن يفاضل بين‬‫أعضائها‪ ،‬التي هي ما ينتج عن استعمال متكلميها لوظائفها‪ ،‬الاستعمال الذي ينمي‬ ‫الأعضاء‪.‬‬‫وفي مثالنا‪ ،‬فالوظائف هي للديني من حيث هو ديني‪ ،‬أما الأعضاء فهي لهذه العلوم الخمسة‬ ‫التي يستمدها المتدينون بالدين لسد حاجاتهم بمقتضى وظائف الديني في دينهم‪.‬‬ ‫لعل الفكرة شديدة التجريد‪ .‬لكنها من أهم أسس الإسلام‪.‬‬‫ولنضرب مثال الحريتين اللتين هما شرطا التكليف‪ .‬فالحرية الروحية والحرية السياسية‪.‬‬ ‫كيف صنع لهما المسلمون أعضاء تحققهما كوظيفتين للديني؟‬‫ماذا صنع المسلمون خلال التعامل مع هذين الوظيفتين من الأعضاء‪ ،‬التي تقوم بهما حتى‬ ‫يتحقق الديني في دينهم بحسب الحاجة‪ ،‬تكيفا للوظيفي بالعضوي؟‬‫المثال الثاني‪ ،‬اللغة العربية بما هي لسان‪ ،‬لها ككل اللغات نفس الوظائف‪ .‬فكيف أمكن لأمة‬ ‫لم تكد تخرج من البداوة‪ ،‬أن تجعلها تعبر عن علوم اليونان مثلا؟‬‫مشكل علم الكلام هو هذا‪ :‬لم ينتقل من الدين إلى الديني في الدين‪ ،‬كما انتقل علماء‬‫العربية من اللسان العربي إلى اللساني في العربية‪ ،‬ليبدعوا جملة من الأعضاء تجلها تصبح‬ ‫لغة العلم‪.‬‬‫لا أنفي أن بعض المتكلمين اقترب من مقارنة الأديان وتقدم فيها‪ ،‬إلى ما يمكن اعتباره‬ ‫وعيا بما يشبه الديني في الأديان‪ ،‬كما فعل البيروني في درسه أديان الهند‪.‬‬ ‫‪117 48‬‬

‫لكن فكرة الديني كديني بقيت غائـمة رغم كونها قرآنية‪ .‬فلم يقع التمييز بين الإسلام من‬ ‫حيث هو الديني في الأديان‪ ،‬والإسلام من حيث دين المسلمين الفعليين‪.‬‬‫والمعلوم أن القرآن يطبق المعنى الأول للإسلام على ماضي الإنسانية ومستقبلها‪ .‬فما الذي‬‫نتج عن هذا الأمر الذي ألغى كل إمكانية لتأسيس فلسفة الدين‪ ،‬التي هي جوهر القرآن‪،‬‬ ‫والتي بغيابها تحول علم الكلام على علم زائف فجر الأمة‪.‬‬ ‫الكلام علم زائف لأنه يدعي علم ما لا يعلم بالجوهر‪ ،‬ويهمل ما يعلم بالجوهر‪.‬‬‫ولذلك فكل ما يصل إليه المتكلمون هو إما اقوال سلبية‪ ،‬مثل التعطيل‪ ،‬أو مجازفات‬ ‫وخرافات ترجم بالغيب‪.‬‬‫وبلغ الأمر إلى أن أصبح لكل مدرسة عقيدة خاصة بها وادعاء أنها عقيدة الفرقة الناجية‪،‬‬‫واتهام المذاهب الأخرى بانها فرق ضالة‪ .‬وذلك هو القصد بابتغاء الفتنة‪ :‬آل عمران ‪.7‬‬‫فكتاب الأشعري على الإسلاميين مثلا‪ ،‬كان عرضا يحصي للفرق دون أن يبدع أو يمرق أو‬‫يكفر أحدا‪ .‬كان هدفه الحصر والاستقراء الذي كان يمكن أن يكون بداية لتجريد لاحق‪.‬‬‫لكن الكلام سرعان ما أصبح عملا يؤسس لـمنظومات عقدية متنافية فيما بينها‪ ،‬حول ما لا‬ ‫يمكن أن تكون معرفته علمية بمقتضى الحد‪ :‬الذات والصفات وأحوال الآخرة‪.‬‬‫ما سنبينه من أضرار العلم الزائف‪ ،‬لم ينتظرنا لتعلمه السنة بصنفيها التي استعملت الكلام‪،‬‬ ‫وانتهت في الغاية إلى التبرؤ منه‪ ،‬والتي رفضته من البداية‪.‬‬‫وهذه الأضرار صنفان‪ :‬صنف يعود إلى ما فعله‪ ،‬وصنف يعود إلى ما حال دون وجوده‪ ،‬أي‬ ‫إمكانية الكلام التاريخي‪ ،‬الذي هو جزء لا يتجزأ من فلسفة الدين‪.‬‬‫وعلم الأديان التاريخي مقدمة لفلسفة الدين أو لعلم الديني الكلي‪ ،‬وكلام القرآن مليء‬ ‫به مثلما أن علم اللغات التاريخي مقدمة لعلم اللسان الكلي‪.‬‬‫ولو تم ذلك‪ ،‬لكانت الآيات القرآنية التي تحدد الديني في الأديان‪ ،‬ولا تلتفت لاختلافاتها‬ ‫العرضية‪ ،‬هي التي تحتل الصدارة في علم الكلام النصي والتاريخي‪.‬‬ ‫‪117 49‬‬

‫وهذه الآيات الكثيرة في القرآن الكريم‪ ،‬والمحددة للديني في كل الأديان التي يستعرضها‪،‬‬ ‫تلخصها سورة العصر بالمقومات الخمسة للديني في كل الأديان‪.‬‬‫فهي تتكلم على الإنسان عامة‪ ،‬وليس على المسلم بالمعنى الجزئي‪ ،‬أي على المسلم بالمعنى‬ ‫الكوني وهو الإنسان‪ ،‬فتحدد عناصره الخمسة‪ ،‬وأصلها الاستثناء من الخسر‪.‬‬‫وإرادة الاستثناء من الخسر‪ ،‬تنتج عن شعور الإنسان بأمرين متعارضين‪ ،‬هما التقويم‬ ‫الأحسن‪ ،‬والرد إلى أسفل سافلين‪ ،‬وشروط العودة من الثاني إلى الأول‪.‬‬‫والشروط أربعة‪ ،‬هي مقومات فرعية عن هذا الشعور بما يوصل إلى الديني في كل دين‪،‬‬‫وهي تتفرع عنه أصلا لها‪ ،‬بوصفه الوعي بالمقابلة بين الأمر الواقع والأمر الواجب في حياة‬ ‫الإنسان وإرادة التدارك‪ :‬وتلك هي الفطرة‪.‬‬ ‫وهذه الفروع هي‪:‬‬‫وهي مفهومات تتعين في فعل‪ ،‬هو الحد الأول والأخير لمفهوم المؤمن الخلقي‪ :‬الآمر بالمعروف‬ ‫والناهي عن المنكر المعروف‪.‬‬‫فلسفة الدين‪ ،‬أو الديني في كل الأديان‪ ،‬هي علم ظاهرة الوعي الخلقي بالعلاقة بين‬‫الكمال والخسر‪ ،‬الوعي الذي تترتب عليه إرادة التحرر من الثاني والعودة إلى الأول‬ ‫بهذه الأفعال الأربعة‪.‬‬‫لذلك عرف القرآن المؤمن بتعين هذه الإرادة وأفعالها الأربعة‪ ،‬في فعل الأمر بالمعروف‬‫والنهي عن المنكر إنشاء (آل عمران ‪ )104‬الفعل الذي يحقق الانتساب إلى الأمة الخيرة‬ ‫خبرا (آل عمران ‪.)110‬‬‫فكان شرط الإيمان‪ ،‬الحرية أو الإرادة العاقلة الي تتبين الرشد من الغي (البقرة ‪)256‬‬ ‫واعترف بدينين منزلين‪ ،‬وبدينين طبيعيين إيجابا‪ ،‬وبالشرك سلبا‪.‬‬ ‫‪117 50‬‬

‫فالبقرة ‪ ،62‬والمائدة ‪ ،69‬والحج ‪ ،17‬تؤجل الحكم بين الأديان إلى يوم الدين‪ ،‬وتعد‬ ‫بعضها خيرا {لا خوف عليهم ولا هم يحزنون} إذا توفرت المقومات الـخمسة‪.‬‬‫وتكتمل الصورة في المائدة ‪ ،48‬حيث تعدد الشرعات والمنهاجات أمر مقصود‪ ،‬فالله يريده‬ ‫من أجل تحقيق غاية التدين الحر والصادق‪ ،‬أي استباق الخيرات‪.‬‬‫أصبح الآن بوسعنا أن نحدد الديني في كل الأديان‪ ،‬وأن نعتبره جوهر الرسالة الكونية التي‬ ‫تمثل وظائفه‪ ،‬والتي تتعدد بدرجات التعضي الذي يحقق الوظائف‪.‬‬ ‫والوظائف هي مضمون سورة العصر‪:‬‬‫الوعي بالعلاقة بين الكمال والنقص‪ ،‬وإرادة العودة من الثاني إلى الأول هذا هو الأصل‪،‬‬ ‫وهو أصل خلقي ومعرفي للفرد والجماعة‪.‬‬‫ولما كان التعضي اجتهاديا‪ ،‬وبحسب التطور المدني تربية وسياسة‪ ،‬فإن الديني في كل الأديان‬ ‫يتعلق بوجود الوظائف أولا‪ ،‬والقصد الحسن لتحقيقها بحرية‪.‬‬ ‫ويبقى مجال تحقيقها هو المشكل‪:‬‬ ‫فهل يمكن أن يعتبر ذلك مقوما من مقومات الديني في كل دين؟‬ ‫نعم‪ :‬تعريف الإنسان‪ ،‬أو القصد بإرادة العودة إلى الكمال‪.‬‬‫وهذه الإرادة تتعين في مستويين‪ ،‬هما مستويا التكليف في كل دين‪ ،‬لأنهما من مقومات‬ ‫الديني فيه‪ :‬إرادة الكمال بالأفعال الأربعة في الاستعمار والاستخلاف‪.‬‬‫كل ما ذكرناه من مقومات‪ ،‬موجود في جميع الأديان‪ ،‬طبيعية كانت أو منزلة‪ ،‬بوصفه وظائف‬ ‫الديني من حيث هو ديني‪ ،‬حتى وإن اختلفت تعضياته التاريخية‪.‬‬‫والقرآن حدد أساس الوظائف في الأعراف ‪ 173- 172‬وهما جوهر الديني الفطري بما هو‬ ‫عهد بين الله وأبناء آدم‪ :‬الشهادة على النفس والمسؤولية الشخصية‪.‬‬‫ذلك هو المشترك بين كل الأديان‪ ،‬وهو الديني في الأديان‪ ،‬ونجده فيها مهما كانت بدائية‬ ‫ومهما بلغت الذروة‪ ،‬تماما كما نجد وحدة البيولوجي في كل حي‪ ،‬من أبسطه إلى أعقده‪.‬‬‫وكما نجد وحدة اللساني في كل لسان مهما اختلفت الأعضاء‪ :‬الوحدة الوظيفية بالقوة‬ ‫وبالفعل‪ ،‬وتتحقق بدرجات التعضي‪ ،‬وهي اجتهادات أصحابها التكيفية‪.‬‬ ‫‪117 51‬‬

‫هذا ما حال علم الكلام دون وجوده‪ ،‬فلم يبق الإسلام الديني في كل الأديان كما يعرف‬ ‫نفسه‪ ،‬رغم تسميته مسلمين كل المنتسبين إلى الأديان السابقة عليه‪.‬‬‫وهو لا يعتبرها سابقة عليه‪ ،‬إذ هو منظومة مقومات الديني فيها‪ ،‬كما وصفنا‪ ،‬أي الديني‬ ‫الفطري الذي من المفروض ان يكون موضوع فلسفة الدين الكوني‪.‬‬ ‫تلك نتيجة ما لم يفعله الكلام‪.‬‬ ‫لكن نتيجة ما فعله أدهى وأمر‪.‬‬‫فبدلا من السمو إلى الكلي الجامع بين الأديان‪ ،‬والممثل للديني‪ ،‬نزل إلى تفتيت الدين‬ ‫والملة‪.‬‬‫هو لم ينزل إلى الدفاع عن دين معين فحسب‪ ،‬بل هو نزل دون ذلك‪ ،‬لأنه صار يدافع عن‬ ‫تصور إحدى المدارس المتعددة لنفس الدين الذي يدعي الدفاع عنه‪.‬‬‫وفي الحقيقة هو لا يدافع عن الدين‪ ،‬بل عن رؤية معينة يستثني ما عداها من الرؤى‬ ‫للدين الواحد‪ ،‬الذي يدعي حصره في رؤيته معتبرا ما عداها مروقا منه‪.‬‬ ‫وهو بمقومي منهجه‪ ،‬نفي للدين من أصله بمستوييه‪ :‬الغيبي والوحيي‪.‬‬ ‫فقيس الغيب على الشاهد‪ ،‬ينفي الغيب‪ ،‬ورد النقلي إلى العقلي بالتأويل‪ ،‬ينفي الوحي‪.‬‬‫فيتبين أن ما لم يفعله سببه ما فعله‪ :‬فعدم الصعود إلى الديني في الأديان‪ ،‬جعله في الحقيقة‬ ‫ينفي الديني من أصله‪ ،‬لأنه لا معنى للديني من دونهما‪.‬‬‫الديني في كل الأديان لا بد فيه من الغيب ومن الوحي‪-‬إذ حتى الأديان الشرقية التي ليس‬ ‫لها أنبياء ورسل‪ -‬فهي تستند إلى هذين المبدئين حتما‪.‬‬‫فمؤسس أي دين لا بد أن يكون ذا صلة بقوة متعالية يترجم عنها‪ ،‬هي عادة عالم آلهة‪،‬‬‫وإلا لكان واضع فلسفة وليس واضع دين‪ .‬ولا بد أن يكون هذا العالم من طبيعة مختلفة‬ ‫عن العالم الدنيوي‪.‬‬‫ومضمون سورة العصر مقومات لا يخلو منها دين‪ ،‬بل هي الديني فيه‪ ،‬أعني الإيمان والعمل‬ ‫الصالح (فرديا) والتواصي بالحق والتواصي بالصبر (جماعيا)‪.‬‬ ‫‪117 52‬‬

‫والاختلاف في فهم هذه المقومات وتأويلاتها‪ ،‬ليست من مقومات الديني ووظائفه‪ ،‬بل هي‬ ‫من مقومات التعضية والتكيف المتطور خلال تاريخ الجماعة الدينية‪.‬‬‫والاختلاف بين المدارس التأويلية بالتعضية التكيفية‪ ،‬لا تعد أديانا‪ ،‬بل هي اجتهادات‬ ‫لتعليم الدين وتفهيمه للجماعة المؤمنة به‪ ،‬لا طوائف متحاربة‪.‬‬‫الطوائف المتحاربة هي التي يصف القرآن الكريم في الآية السابعة من آل عمران علة‬ ‫وجودها‪ ،‬أعني تأويل المتشابه والمتعلق بالمبدأين‪ :‬الوحي والغيب‪.‬‬‫فلا معنى لدين من دون أسرار \"ميستار\"‪ ،‬لأنه في معتقد من يؤمنون به رسالة من عالم‬ ‫مختلف عن العالم الأرضي بالجوهر‪ ،‬فهو علة وجوده ومثل قيمه الأعلى‪.‬‬ ‫فلنثبت الضررين الناتجين عن علم الكلام‪:‬‬ ‫أولا الضرر العام‪ ،‬وقد بينت الآية السابقة طبيعته‪.‬‬ ‫وثانيا كلا منهجي الكلام ينفيان مقومي الديني‪ :‬الوحي والغيب‪.‬‬‫آل عمران‪ 7‬المسألة الأولى‪َ { :‬فأَمَّا ا َّل ِذي َن فِي قُلُو ِبهِمْ َزيْغٌ َفيَ َّتبِ ُعونَ مَا تَشَابَهَ مِ ْنهُ ا ْب ِتغَاءَ ا ْلفِتْنَ ِة‬ ‫َوابْتِ َغاءَ تَ ْأ ِوي ِل ِه}‪.‬‬‫المسألة الثانية‪َ { :‬و َما َي ْعلَمُ تَ ْأوِيلَ ُه ِإلَّا اللَّهُ ۗ َوال ّرَا ِسخُونَ ِفي الْعِ ْل ِم َيقُو ُلو َن آمَ ّنَا بِهِ كُ ٌّل مِنْ‬ ‫ِعنْدِ رَبِّ َنا}‪.‬‬‫فهاتان المسألتان من الآية‪ ،‬كان ينبغي أن يحولا دون وجود هذا العلم الزائف‪ ،‬لأنهما يبينان‬ ‫علتي ضرره على الأمة وما يجعله يحول دون فلسفة الدين‪.‬‬ ‫فعلتا الكلام الذي هو تأويل المتشابه‪ ،‬هما \"زيغ القلوب\" و \"ابتغاء الفتنة\"‪.‬‬ ‫‪-1‬علة فاعلة في نفس المتكلم‪،‬‬ ‫‪-2‬علة غائية في نفسه وأثرها في الجماعة‪.‬‬ ‫وهذا وصف أمين للمتكلمين ولأثر الكلام في الجماعات‪.‬‬‫فما من متكلم إلا ويعاني من مرض الزعامة‪ ،‬وما من مدرسة كلامية إلا في فتنة مع المدارس‬ ‫الأخرى‪.‬‬ ‫‪117 53‬‬

‫وما كان ذلك يكون كذلك لو لم يقع التعدي على دلالة القسم الثاني من الآية‪.‬‬ ‫فخلافا للعربية‪ ،‬جعلوا الواو للعطف بدلا من أن تكون كما هي للاستئناف‪.‬‬‫وما هو أخطر من ذلك‪ ،‬جعلوا العطف وكأنه يعني التساوي بين علم التأويل الإلهي‪ ،‬وعلم‬ ‫التأويل الذي ينسب إلى من يتصورون أنفسهم راسخين في العلم‪.‬‬‫فصار الرسوخ في العلم عكس ما حددته الآية التي اعتبرته التسليم بغيب المتشابه قدرة‬ ‫على علم الغيب‪ :‬ذلك أن الكلام في المتشابه ممتنع من دونها‪.‬‬‫فالاعتراض الذي يبدو وجيها‪ ،‬هو كيف نحدد المتشابه الذي ينبغي تجنب تأويله لأنه من‬ ‫الغيب؟‬ ‫وهذا الاعتراض على وجاهته‪ ،‬فيه الكثير من التحيل الكلامي‪.‬‬‫ذلك أن القرآن الكريم استعمل التشابه بمعنيين‪ :‬تشابه المبنى وبهذا المعنى‪ ،‬فالقرآن كله‬ ‫متشابه بمعنى أنه متماثل من حيث سمو فن التعبير والتبليغ‪.‬‬ ‫وتشابه المعنى وهو المنهي عن تأويله‪.‬‬‫وهذا المعنى الثاني هو موضوع الإشكال في علم الكلام‪ :‬فهو المتشابه الذي ينتج عن‬ ‫الخطاب‪ ،‬الذي يوحي بـمماثلة بين عالم الشهادة وعالم الغيب‪.‬‬ ‫بذلك يسقط التحيل الكلامي‪ :‬والآية واضحة في وجوب تفويضه‪.‬‬‫وعبقرية ابن خلدون هي التي دلتني إلى هذا الحل الحاسم‪ :‬ذلك أنه هو‪ ،‬على حد علمي‪،‬‬ ‫من سلم جدلا بأن الواو للعطف وليست للاستئناف‪ ،‬ليميز بين العلمين‪.‬‬ ‫علم التأويل الإلهي هو الوحيد الذي يعلم الغيب‪.‬‬‫علم الراسخين في العلم يعلم أن الغيب لا يعلم‪ ،‬فيفوضه‪ .‬فيصبح علم الكلام ممتنعا إلا في‬ ‫أمرين ثانويين لا علاقة لهما بالعلم‪ ،‬بل هما خطابة وجدل‪.‬‬‫الأول للرد على أعداء الدين‪ ،‬والثاني للتدرب على الجدل‪ .‬فهو أولا يعتبر وظيفة الرد‬‫لم تعد ضرورية‪ ،‬لأن الدين استقر‪ ،‬وهو ثانيا يقصر فائدته على التدرب على الجدل‪ ،‬لكن‬ ‫هذه الفائدة تتحقق أكثر بالعلوم الحقيقية‪.‬‬ ‫نمر الآن إلى منهجي علم الكلام لبيان عقمهما‪.‬‬ ‫‪117 54‬‬

‫الأول هو قيس الغائب على الشاهد‪ .‬هذا المنهج لا يخلو منه علم‪ .‬لكنه في كل العلوم يكون‬ ‫فرضيا للبحث‪.‬‬‫عندما يريد عالم أن يوسع شمول معرفة سابقة على موضوع جديد‪ ،‬يفترض أن هذا‬ ‫الموضوع يخضع لقانون سابق العلم‪ ،‬فيقيسه قيس غائب على شاهد فرضيا ومؤقتا‪.‬‬‫لكن ذلك ليس بعد علما‪ .‬لا بد أن يتحقق من صحة فرضيته بأن يختبر قيسه‪ ،‬ليتأكد من‬ ‫وجود وجه الشبه الذي اعتمد عليه ليوسع علمه‪ .‬وهذا ممتنع في الغيب‪.‬‬‫قيس الغائب على الشاهد مشروط بما يمتنع في الغيب‪ ،‬ومن ثم فهو فاسد في العقائد‪ .‬إنه‬‫غير صالح للكلام في الدينيات المتعلقة بالغيبيات‪ ،‬ويقبل في الفقه لأنه اجتهاد في الشاهد‪.‬‬‫ولذلك قلنا إن استعمال منهج قيس الغائب على الشاهد في الغيبيات‪ ،‬ينتهي في الحقيقة إلى‬ ‫نفي الغيب ورده إلى الشاهد‪ ،‬أو الاحتكام فيه إلى قوانين عالم الشهادة‪.‬‬‫أما المنهج الثاني أعني منهج التأويل‪ ،‬فهو أخطر لأن أصحابه يعترفون‪ ،‬وإن بغير وعي بما‬ ‫وصفتهم به الآية ‪ 7‬من آل عمران‪ :‬التأويل هو رد النقل إلى العقل‪.‬‬‫فإذا كان مفاد هذا المنهج رد النقل إلى العقل عند التعارض‪ ،‬فالقصد أحد أمرين‪ :‬إما أن‬ ‫العقل كاف ولا حاجة إلى النقل‪ ،‬أو أن ما يفضل به ظاهر لفظ‪.‬‬‫والقول إن ما يفضل به نص النقل عن العقل ظاهر لفظا‪ ،‬هو جوهر الموقف الباطني‪ :‬وبهذا‬ ‫المعنى فكل فلاسفة العرب في العصر الوسيط‪ ،‬ومعهم المتكلمون‪ ،‬باطنيون‪.‬‬‫والباطنية‪-‬كما بين الغزالي في الفضائح‪-‬لا يقولون بذلك إلا بتأسيس على الفلسفة‪ ،‬التي‬ ‫تعتبر النقل مجرد أسلوب تبليغ للعامة لحقائق فلسفية هي الباطن‪.‬‬‫وحقائق العقل التي يرد إليها النقل في التأويل‪ ،‬تعني أن الوحي ليس إلا مجرد قدرة‬ ‫تبليغية عند الأنبياء لحقائق يعلمها العقل أفضل منه‪ ،‬فترد إليه عند التعارض‪.‬‬ ‫وهذا كله مبني على وهمين‪:‬‬ ‫‪117 55‬‬

‫وهمان جمعهما ابن خلدون في مفهوم واحد‪ ،‬هو أساس الفلسفة اليونانية منذ بارمينيدس‬ ‫(الشذرة الخامسة)‪ :‬الوجود يتطابق مع العقل‪ .‬وسماه رد الوجود إلى الإدراك‪.‬‬‫ثورة ابن تيمية وابن خلدون هي رفض هذه المسلمة البارميندية والقول بأن الوجود كثيف‬ ‫وليس شفيفا‪ ،‬وأن العقل لا يدرك منه إلا القليل‪ ،‬وذلك اساس الدين‪.‬‬‫ومن هنا تتغير نظرية المعرفة‪ :‬لم يعد القول بالتطابق بين العلم وموضوع العلم أمرا مسلما‪،‬‬ ‫بل العلم محاولة لإدراك ما يشف من الوجود وهو ضئيل‪.‬‬‫ولا يعني ذلك أن العقل المحدود ليس له معايير التمييز بين الديني والخرافي‪ .‬فالعقل‬ ‫الإنساني بمنهج الأولى‪ ،‬يمكن أن ينزه العقل الإلهي عن اللاعقل‪.‬‬‫ما يتجاوز به العقل المطلق العقل النسبي ليس اللاعقل‪ ،‬بل سر العقل نفسه‪ :‬فلو كان العقل‬ ‫المطلق يختلف عن العقل النسبي باللاعقل‪ ،‬لامتنع خطابه له‪.‬‬‫الدين هو خطاب المطلق للنسبي‪ .‬ومن ثم فهو العقلي الأكمل يتوجه للعقل الأقل كمالا‬ ‫بخطاب جاسر بينهما‪ ،‬ولا يمكن أن يكون خرافيا ليكون للرسالة معنى‪.‬‬‫ولهذا كان القرآن خطابا عقلانيا‪ ،‬ومن أهم علامات عقلانيته الآية السابعة من آل عمران‪:‬‬ ‫جعل العقل يدرك حدوده ليعلم مفهوم الاجتهاد النسبي لعلمه‪.‬‬‫أما الكلام على العلم الحقيقي الذي أفقدنا إياه علم الكلام‪ ،‬الذي عمل زائف أي فلسفة‬ ‫الدين فقد حاولت محاولة أولية علاجها في كتاب بهذا الاسم‪.‬‬‫ولأنها محاولة أولية نسبتها إلى منظور إسلامي‪ ،‬وطبعا فالقصد بالإسلامي هنا هو الإسلام‬ ‫الكوني الذي يعني الفطرة الدينية التي هي الديني في كل دين‪.‬‬‫فلنختم ببيان ما وراء طبيعة ضرر العلم الزائف‪ :‬فالأمر كله في موقف باطني من القرآن‪.‬‬ ‫موقف يرى أن له ظاهرا للعامة وباطنا للخاصة‪ .‬وذلك يؤسس لنهاية حريتي الإسلام‪.‬‬ ‫كيف يؤول علم الكلام إلى الموقف الباطني؟‬ ‫‪117 56‬‬

‫فإذا كان القرآن ظاهره غير باطنه‪ ،‬فمعنى ذلك أنه لا بد له من كنيسة تتوسط بين المرسل‬ ‫والمرسل إليه‪ ،‬فتزول الحرية الروحية وتتبعها الحرية السياسية‪.‬‬ ‫كيف؟‬‫لا بد أن يكون المؤول الناقل من الظاهر إلى الباطن معصوما لا يرد له تأويل‪ :‬فيصبح‬ ‫الحاكم بالحق الإلهي وسيطا سياسيا ضروريا‪ ،‬كالوسيط الروحي‪.‬‬‫علم الكلام من مراحل الانتداب الباطني‪ ،‬وهي جزء مما يسميه الغزالي الخلع‪ .‬وهذا من‬‫فنيات التبشير المسيحي والشيعي اليوم‪ :‬شككه في الإسلام‪ ،‬ثم بشره بأي شيء يملأ الفراغ‬ ‫الحاصل‪.‬‬‫وأهمية هذا الفن مناسبته للفطرة‪ :‬فكل مؤمن يطرأ عليه الشك فيما تسلمه بالعادة‪،‬‬ ‫ويشرع في التفكير الذاتي‪ ،‬وهو مستوى الشك الأول المؤدي للكلام‪.‬‬ ‫والعقل السوي سرعان ما يدرك أن الكلام علم زائف‪ ،‬فيشرع في التفلسف‪.‬‬ ‫وسرعان ما يدرك أنها كلام كذلك‪ .‬فيصل إلى مستوى الشك الثاني‪ :‬غاية الباطنية‪.‬‬ ‫لماذا هي غاية الباطنية؟‬‫كما بين الغزالي في المنقذ‪ :‬الشك الثاني مآله اليأس‪ ،‬ولا مخرج منه إلا بالتعليمية أو‬ ‫بالتصوف (نفي الحريتين جوهر الإسلام)‪.‬‬‫أزمة الغزالي ليست حالة شخصية أو ترجمة ذاتية للغزالي‪ ،‬هي مأساة أي إنسان يعالج‬ ‫القضية الوجودية الناتجة عن علاقة الإيمان بالعلم‪ ،‬فيسعد أو يشقى‪.‬‬‫وهو يشقى إذا كان كما وصفته الآية السابعة في قلبه زيغ ويبتغي الفتنة‪ ،‬فيتوهم أن الوجود‬ ‫شفاف وأن عقله نافذ إلى أسراره بإطلاق‪ :‬فيأخذ طريق إبليس‪.‬‬‫وابليس ادغام لـ «أبو ليس\" أي صاحب العدم‪ ،‬ويقابل \"أبو أيس\" أو صاحب الوجود‪.‬‬‫فالأيس والليس كلمتان عربيتان تفيدان الوجود والعدم‪ :‬فليس هي \"لا أيس\" مدغمة‬ ‫(الكندي)‪.‬‬‫لكنه يسعد عندما يدرك بعقله أن الوجود ليس مطلق الشفيف‪ ،‬وأن عقله يعلم‪ ،‬ولكنه‬ ‫يعلم أن علمه نسبي فيكون بذلك حذرا في حريتيه الروحية والسياسية‪.‬‬ ‫‪117 57‬‬

‫والحريتان الروحية والسياسية عين كيانه‪:‬‬ ‫‪-1‬مستخلف = وعي خلقي وحرية روحية صلة مباشرة بالآخرة‬ ‫‪-2‬مستعمر وعي مدني وحرية سياسية صلة مباشرة بالدنيا‪.‬‬‫وهذا هو طريق السعادة الدينية أو الإسلام‪ :‬طريق الإيمان أو التكليف باستعمار الدنيا‬ ‫ليحقق حرية الإنسان وكرامته‪ ،‬فيستأهل الاستخلاف بقيم القرآن‪.‬‬‫وهكذا فقد فرغنا من الكلام في علم الكلام بوصفه علما زائفا يحول دون فلسفة الدين‪،‬‬ ‫التي هي علم الديني في كل ديني‪ ،‬وذلك هو جوهر الإسلام الفطري‪.‬‬ ‫‪117 58‬‬

‫بينا في الفصل الخامس ما ترتب على علم الكلام أو العلم الزائف الأول من إفساد للنظر‬‫والعقد‪ .‬فما يترتب عما فعل وعما حال دون تحقيقه في معرفة الدين والدنيا‪ ،‬كان مصدرا‬ ‫لضرر كبير أصاب الأمة‪.‬‬‫فهو أساس كل الطائفيات بما ترتب على منجزاته السلبية‪ ،‬وأساس انعدام العلم بالدين بما‬ ‫حال دونه من تأسيس فلسفة الديني الواحد في الأديان‪.‬‬‫والآن نمر إلى العلم الزائف الثاني‪ ،‬الذي به أفسد العمل‪ ،‬فأتم إفساد الأول للنظر‪ ،‬أعني‬ ‫التصوف الذي بفعله وبما حال دونه جعل الأمة كسيحة‪.‬‬‫فاجتمع عليها ضرر المذاهب الكلامية بعلم ما لا يعلم قرآنيا‪ ،‬وضرر الطرق الصوفية بعمل‬‫ما لا يعمل قرآنيا كذلك‪ .‬فتم التحريف النظري والعملي‪ :‬التحريف الذي أخرج من كل‬ ‫فاعلية تاريخية‪.‬‬‫وإذا كان الكلام الزائف أضاف إلى ذلك الحيلولة دون فلسفة الدين وعلوم الدنيا‪ ،‬فإن‬ ‫التصوف أضاف إليه الحيلولة دون فلسفة التاريخ وأعمال الدنيا‪.‬‬‫فـمن يسمون أهل العلم يرجمون بالغيب ويهملون ما نصحت به فصلت ‪ ،53‬ومن يسمون أهل‬ ‫العمل يعيشون في الوهم ويهملون ما نصحت به هود ‪ :61‬تلك حالنا‪.‬‬‫ولا يعني ذلك أن الأمة خلت ممن حاولوا على الأقل التصدي للرجم بالغيب في العلم‪،‬‬ ‫وللعزوف عن استعمار الدنيا في العمل‪ .‬لكن هؤلاء كانوا ولا يزالون أقلية مغلوبة‪.‬‬‫لذلك أصبحنا بالتدريج كما وجدنا الاستعمار الغربي‪ ،‬أمة عزلاء علميا وكسلاء عمليا‪ ،‬لا‬ ‫حول لها ولا قوة‪ ،‬حماية لذاتها بسبب الجهل ورعاية بسبب الفقر‪.‬‬‫والغاية من هذه المحاولة‪ ،‬هي كيف نخرج من هذه الحال التي ما تزال حالنا‪ ،‬لأن قرنا كاملا‬ ‫من التحديث المزعوم لم ينتج القدرة في الحماية والرعاية‪.‬‬ ‫‪117 59‬‬

‫والعلة الرئيسية هي أننا بدلا من النقد الذاتي والاعتراف بهذين الخطأين‪ ،‬دخلنا معركة‬ ‫دونكيشوتية بين كاريكاتورين‪ :‬أدعياء الأصالة وأدعياء الحداثة‪.‬‬‫فأدعياء الأصالة يريدون بموقف دفاعي عقيم الاعتماد على نفس الخطأين‪ ،‬وأدعياء‬ ‫الحداثة يريدون بموقف عدواني أعقم التحديث باستيراد علم الغير وعمله‪.‬‬‫نشرع إذن في الكلام على التصوف بوصفه علما زائفا في العمل منهيا عنه قرآنيا (الحديد‬ ‫‪ ،)27‬مثله مثل الكلام في النظر‪ ،‬وما نتج عن فعله وعما حال دونه‪.‬‬‫وحتى يطمئن القارئ‪ ،‬فإني لا أدعي‪ ،‬في كل ما أعرض‪ ،‬الإتيان بشيء جديد‪ ،‬فحركة‬ ‫الإصلاح سبقت إليه دون شك وأعلامها يرددون هذه الحقائق دون توقف أو ملل‪.‬‬ ‫الجديد أمران غابا أهملهما الأعلام‪:‬‬‫وكما هو معلوم فالفلسفة لا تتكلم في الظاهرات نفسها‪ ،‬بل فيما وراءها‪ ،‬لأنها دائما كلام ما‬ ‫بعدي‪ ،‬أي بحث في علل كون الظاهرات هي على ما هي عليه‪.‬‬‫وسأنطلق من محاولة ابن خلدون تعريف التصوف بنظريته في المجاهدات وتمييزه بين‬‫المشروع منها‪ ،‬أي ما لا يعارض فصلت ‪ 53‬وهود ‪ 61‬وخاصة الحديد ‪ ،27‬وما يناقضها بالتنافي‬ ‫معها‪.‬‬‫ففي شفاء السائل‪ ،‬ميز ابن خلدون في الظاهر بين ثلاث درجات‪ ،‬آخرتها هي المنافية لهذه‬‫الآيات الثلاث نفيا للدنيا‪ .‬والأوليان تجمعان بين الدين والدنيا‪ ،‬كما يقتضي الإسلام‬ ‫السوي‪.‬‬‫لكن تحليل الدرجة الأخيرة‪ ،‬يبين أنها ذات مستويين‪ ،‬وأنه ينبغي تمييزها عما يشبهها دون‬ ‫أن يكون إياها‪ ،‬لأنه قد يوهم بالبقاء في الملة بوجه الشبه الموهم‪.‬‬ ‫‪117 60‬‬

‫فلأوضح‪:‬‬‫الدرجتان الأوليان من المجاهدة‪ ،‬هما مجاهدة التقوى ومجاهدة الاستقامة‪ .‬وكلتاهما من‬ ‫الزهد السني‪ .‬وهما دليل الجمع بين الدنيا والدين بسلطان هذا على تلك‪.‬‬‫وذلك هو جوهر الإسلام‪ :‬أن يسود المسلم على الدنيا‪ ،‬دون أن يخلد لها‪ ،‬فيكون وارثا‬ ‫الأرض ومستعمرا فيها مع التقوى والاستقامة‪ :‬قوة وعزة الزاهد المستخلف‪.‬‬‫وبسبب هذا الزهد ‪-‬التقوى والاستقامة‪-‬يكون المؤمن ذا بصيرة تمده أحيانا بكشف يتجاوز‬ ‫التجربة الحسية إلى معان سامية‪ ،‬كما يحكى عن الصديق والفاروق‪.‬‬‫وتلك هي المرحلة الوسطى التي تغري البعض‪ ،‬فيسعى إليها بطرق الرهبانية الصوفية‬‫الصناعية محاولة لكسب قدرة الكشف بالرياضية‪ .‬وحينها ننتقل من الكشف العفوي الذي‬ ‫يعتبره المؤمن محنة إلى طلبه صناعيا‪.‬‬ ‫وطلب الكشف بالرياضة الصوفية يتألف من مرحلتين‪:‬‬‫وكلاهما يجعل هاتين المرحلتين من التصوف‪ ،‬الذي هو علم زائف مثل الكلام‪ ،‬تنتهيان‬‫بفعلهما إلى اعتزال استعمار الإنسان في الأرض‪ ،‬وتحولان‪ ،‬بعدم فعلهما‪ ،‬دون تأسيس فلسفة‬ ‫التاريخ التي تدرس شروط فاعلية الإنسان فيه‪.‬‬‫ولأشر قبل التقدم في البحث‪ ،‬إلى أن النظر الزائف (الكلام) متعالق مع العمل الزائف‬ ‫(التصوف) لأن هذا محتاج إلى بديل زائف مما حال دونه ذاك‪.‬‬‫فإذا كان الكلام بوصفه علما زائفا‪ ،‬قد حال دون فلسفة الدين علما حقيقيا بديلا منه‪ ،‬فإن‬‫التصوف محتاج إلى فلسفة دين زائفة أساسها ضمير مسكوت عنه‪ ،‬بمده بها علم الكلام الذي‬ ‫هو عمل زائف‪.‬‬‫فعلم الكلام يؤدي إلى صراع المذاهب والأديان على أساس فلسفة دين مضمرة‪ ،‬هي الفلسفة‬ ‫الباطنية التي تدعي أن الدين ليس إلا ايديولوجيا لحكم العامة‪.‬‬ ‫‪117 61‬‬

‫وترجمتها الصوفية‪ ،‬هي أن الشرائع رسوم‪ ،‬وأن الحقيقة هي الأخلاق الصوفية التي‬ ‫تتساوى فيها الرسوم‪ ،‬فلا يكون بين تعين الأديان تفاضلا والديني فيها هو تعيناتها‪.‬‬‫فيبدو تصور ابن عربي لقلبه معبدا تحل فيه كل الأديان‪ ،‬وكأنه دعوة للسلم بين الأديان‪،‬‬ ‫ومعارضة لنتائج الكلام‪ ،‬لكنه في الحقيقة ذهاب بها إلى الغاية‪.‬‬‫ففي مناخ اللامبالاة القيمية‪ ،‬لا تزول الحروب بل تصبح خالية من القيم‪ :‬حرب على‬ ‫المستضعفين الخانعين (الهنود الحمر) يخوضها المستكبرون المسيطرون‪.‬‬‫وهذا هو مطلوب إعادة التصوف في بلاد الإسلام لتحقيق هذه الغاية‪ :‬كيف يصبح المسلمون‬ ‫هنودا حمرا‪ ،‬يمكن للغرب وعملائه ألا يجد منهم مقاومة جدية‪.‬‬‫وفضل ابن تيمية هو أنه قد فضح هذا الضمير‪ ،‬فبين أن التصوف الذي يدعي الأخلاق هو‬ ‫في الحقيقة نفي لشرطيها‪ ،‬أي حرية الإنسان وفاعليته في التاريخ‪.‬‬‫ففي النظرة الصوفية لفلسفة التاريخ‪ ،‬كل ما يجري فيه‪-‬بدعوى الإيمان العميق‪-‬قضاء‬ ‫وقدر‪ ،‬وعلينا أن نقبل بـالاستبداد والاستعباد لأنه قضاء الله وقدره‪.‬‬‫ولهذه العلة اعتبرت شعار الثورة \"إذا الشعب يوما اراد الحياة**فلا بد أن يستجيب‬‫القدر\" ثورة روحية‪ ،‬أرجعت المسلمين إلى فلسفة التاريخ القرآنية التي تثبت فاعلية‬ ‫الإنسان في التاريخ‪.‬‬‫وذلك لأنها تعني التحرر من التصور المنحط للقضاء والقدر‪ ،‬والعودة إلى التصور القرآني‬ ‫الذي يجعل القضاء والقدر تابعا لسنة التغيير‪ :‬وذلك هو مقتضى التكليف‪.‬‬‫فبيت الشابي‪ ،‬الذي هو شعار الثورة‪ ،‬ترجمة شعرية لسنة التغيير القرآنية‪ :‬فالله لا‬ ‫يغير(هو) ما بقوم حتى يغيروا(هم) ما بأنفسهم‪ :‬حرية الإنسان وفاعلية‪.‬‬‫والفرق بين الزهد الإسلامي (السني) والتصوف (الباطني)‪ ،‬اتضح تاريخيا في الموقف من‬ ‫الاستعمار ومقاومته من الحروب الصليبية والمغولية إلى اليوم‪.‬‬‫والمرحلة الأقرب إلينا هي أن قادة مقاومة الاستعمار الغربي كانوا كلهم من كبار زهاد السنة‬ ‫المرابطين لحماية الثغور‪ :‬في المغرب والجزائر وتونس وليبيا والسودان إلخ‪...‬‬ ‫‪117 62‬‬

‫فالسنة تعتبر الجهاد رهبانيتها‪ :‬فالرباط لحماية الثغور والبيضة‪ ،‬هو أول واجبات المؤمن‬‫الصادق والزاهد في الدنيا‪ .‬ولا يزهد فيها من لم يسد عليها‪ .‬الزهد مشروط بنجاح‬ ‫الاستعمار في الأرض لا بالتخلي عنه‪.‬‬‫والفروض الخمسة‪ ،‬أربعة منها تشترط القدر المحترم من التحرر من الحاجة المادية مثل‬‫النصاب في الزكاة‪ ،‬والاستطاعة في الحج‪ ،‬وشروط الصحة في الصوم‪ ،‬وشروط النظافة في‬ ‫الصلاة‪ ،‬وكلها تقتضي نجاح الاستعمار في الأرض‪.‬‬‫وكان الاستعمار يعتمد على توابع التصوف الباطني في تبرير القبول به بوصفه قضاء الله‬ ‫وقدره‪ ،‬وبضرورة السمع والطاعة باعتماد أحاديث حرفت دلالتها‪.‬‬‫فلننتهج نفس النهج الذي اتبعناه في كلامنا على النظر المزيف بصورة عامة‪ ،‬ثم على ما‬ ‫ترتبت عما فعله وعما حال دون حصوله في فلسفة العمل والتاريخ‪.‬‬‫فنجمع بذلك حال فلسفة النظر والدين (بنقد الكلام) وحال فلسفة العمل والتاريخ (بنقد‬‫التصوف) لنفهم دور العلمين الزائفين بما فعلاه وبما حالا دون تحقيقه‪ ،‬لنمر إلى الفلسفة‬ ‫والفقه‪.‬‬‫ولا أقصد أن الفلسفة والفقه هما فلسفة الدين وفلسفة التاريخ‪ ،‬بل هما علمان آخران‬ ‫لهما فعلهما الخاص‪ ،‬ويمكنان من تعويض العلمين الزائفين بهما لأنهما يقتضيانهما‪.‬‬ ‫فتصبح فروع الأصل (إرادة الاستكمال الإنساني) أربعة علوم هي‪:‬‬‫وعلوم الآفاق هي علوم الطبيعة مضمونا‪ .‬وعلوم الأنفس هي علوم الإنسان مضمونا‪.‬‬ ‫ويشترك نوعا العلوم في استعمال نفس العلوم المساعدة أي‪:‬‬ ‫‪117 63‬‬

‫والمقصود بالعلوم المساعدة‪ ،‬أدوات المعرفة في الطبيعيات والإنسانيات‪ ،‬لأن المنطق‬ ‫والرياضيات واللسانيات والتاريخيات كلها أدوات المعرفة الانسانية‪.‬‬‫والمنطق والرياضيات أدوات غالبة في الطبيعيات‪ .‬واللسانيات والتاريخيات أدوات غالبة في‬ ‫الإنسانيات كما هو معلوم‪ .‬لـذلك كانت الأولى معرفة تحليلية والثانية معرفة تأويلية‪.‬‬‫لكن تطور الابستمولوجيا والعلوم بين أن الطبيعيات لا تخلو من التأويل‪ ،‬والإنسانيات لا‬ ‫تخلو من التحليل وبذلك بدأت الهوة الفاصلة بين النوعين تتناقص‪.‬‬‫وبحثنا كما أسلفنا‪ ،‬يتعلق ببنية العلوم الفرعية عن أصل \"مرجعية النظر في صلته بالعقد‬ ‫والعمل في صلته بالشرع\" وما ننسبه إليها في أزمتنا الحضارية‪.‬‬‫وفي هذه البنية يعد دور العلوم الزائفة أهم عائق ابستمولوجي يؤدي إلى العقم العلمي‬ ‫والعملي في أي حضارة تنحط‪ ،‬بسبب سيطرة الدجل النظري والعملي‪.‬‬ ‫فلنسم العلمين الزائفين باسم يحدد دور ما فعلاه وما حالا دون فعله‪:‬‬‫وهذه علة الزيف فيهما كليهما‪ :‬فالكلام لا ينظر بشرط النظر العلمي‪ ،‬ونظره في العقد‬ ‫يلغي العقد بدل درسه‪.‬‬ ‫والتصوف لا يعمل بشرط العمل الخلقي‪ ،‬وعـمله يلغي الشرع بدل درسه‪.‬‬ ‫بقيت ثلاث مسائل‪:‬‬ ‫‪117 64‬‬

‫والمسالة الأولى حسمها القرآن نفسه بوضوح لا مراء فيه‪ ،‬والمسألة الثانية حسمها ابن‬ ‫خلدون بمنطق لا مرد له‪ ،‬والمسألة الأخيرة حسمها ابن تيمية حسما ثوريا‪.‬‬‫ومعنى ذلك أن مهمتي الآن أصبحت يسيره‪ :‬يكفي عرض الآية ‪ 27‬من الحديد‪ ،‬ورد ابن‬ ‫خلدون في شفاء السائل‪ ،‬ورد ابن تيمية على وحدة الوجود الحتمية‪.‬‬‫ولو كنت واثقا من أن الشباب قد اطلع على هذه الأجوبة الثلاثة‪ ،‬لتوقفت عند هذا الحد‬ ‫في كلامي على التصوف‪ ،‬وهو غير الزهد السني رغم فرض اشتراك الاسم‪.‬‬‫والجواب القرآني نجده في الحديد ‪ ،27‬وهو جواب يبين أن العلاقة بين ِخلقة الإنسان‬ ‫وخُلقه تجعلان الرهبانية‪-‬والكشف المكتسب المزعوم مشروط بها‪-‬منافية للشرع‪.‬‬‫فمقاطعة الدنيا وعدم الاستعمار فيها تلغي شرط الأخلاق‪ ،‬وهي مقاطعة تتنافى مع شروط‬‫الخلقة‪ .‬إنها كذبة كبرى‪ ،‬إذ تشترط عكسها لدى من يقيم أصحابها‪ .‬فمعتزل الدنيا بحاجة‬ ‫للمتفرغ لها حتى يعيله‪.‬‬‫والأخلاق تشترط العمل في الدنيا بكل مغرياتها‪ ،‬مع الخضوع لقيم الشرع‪ .‬واعتزالها يزيل‬ ‫الامتحان الناتج عن الجمع بين الاستعمار في الأرض بشروط الاستخلاف فيها‪.‬‬‫وهذا التعريف للأخلاق هو أهم ثورة في الشرع الإسلامي‪ .‬لذلك فأغلب من اعتزل شروطها‬‫يكون بحسب الآية من الفاسقين‪ ،‬لأنه يعارض مقومات خلقته وشروط حياته ويهرب من‬ ‫الامتحان الدنيوي الذي سيحاسب عليه في الأخرى‪.‬‬ ‫الكذبة الكبرى هي اعتزال الدنيا الذي هو ممتنع إلا بالعيش عالة على الغير‪.‬‬ ‫وشتان بين الزهد والتصوف‪.‬‬ ‫فالزهد تحرر من سلطان الدنيا بعد السلطان عليها بعدم الاخلاد إليها‪.‬‬ ‫والتصوف زعم اعتزال الدنيا بزهد كاذب فمن لا يملك شيئا لا يزهد فيه‪.‬‬‫والزاهد الكاذب في الدنيا‪ ،‬فضلا عن كونه عالة على غيره‪ ،‬يؤول إلى الإخلاد إليها‪ .‬كيف؟‬ ‫بمعنيين‪:‬‬ ‫‪117 65‬‬

‫وهاتان الوساطتان هما ما يطلبه الاستعمار وأذرعه (إيران وإسرائيل وبوتين) وعملاؤه‬ ‫(الانظمة والنخب العربية المؤيدة للمشروع) صد تحرر الأمة‪.‬‬‫ولهذا خصصت عددا كبيرا من المقالات لمؤتمر جروزني ودلالاته‪ ،‬واعتبرت ذلك فرصة‬ ‫سانحة لتحرير المفهومات العشرة التي تحدد قيم الإسلام السرمدية‪.‬‬ ‫كيف عرف ابن خلدون اكتساب الكشف بالرياضة وكيف دحض هذا الوهم؟‬‫أولا ابن خلدون لم ينف إمكانية الكشف العفوي‪ .‬وهو محنة لا يستمد الصديقون منه‬ ‫سلطة‪.‬‬‫لكنه يعتبر محاولة اكتسابه مستحيلة‪ ،‬وهي من الدجل الذي يطلب أصحابه الرئاسة‬ ‫والتصدر للتعليم والسلطة‪ ،‬إنه نفس داء المتكلمين بالعمل وليس بالنظر‪.‬‬‫يطلبان الزعامة بالوساطة بين المؤمن وربه (ضد الحرية الروحية) والوساطة بين المحكوم‬ ‫والحاكم (ضد الحرية السياسية) أحدهما بالنظر‪ ،‬والثاني بالعمل‪.‬‬‫ووحدة مطلبهما (الوساطتان) تولد صراعا بينهما‪ :‬المتصوف يدعي علما لدنيا يغنيه عن‬ ‫نظر الكلام‪ ،‬والمتكلم يدعي عملا عقليا يغنيه عن عمل المتصوف‪.‬‬ ‫لكنهما في الحقيقة منهجان باطنيان‪ ،‬أو مرحلتان من مراحل الخلع العقدي والشرعي‪:‬‬‫والمتكلم لا يعترف بأن الكلام مآله التشكيك في العقائد‪ ،‬لا نصرتها‪ ،‬والمتصوف لا يعترف بأن‬ ‫التصوف مآله نفي الشريعة‪ ،‬لا نصرتها‪ .‬والحاصل هو ما وصفنا‪.‬‬‫ثم يأتي الحسم النظري لذروة خطاب المتصوفة‪ ،‬أو ما يزعمونه تعبيرا عن علمهم اللدني‪:‬‬ ‫الشطح‪ .‬فهذه الذروة يبين ابن خلدون امتناعها بحجتين عميقتين‪.‬‬ ‫‪117 66‬‬

‫الحجة الأولى تتعلق بالفرق بين ما يقال وما لا يقال من المدارك‪ .‬فالمدارك الوجدانية لا‬ ‫تقال‪ ،‬وإذا وجد الكشف فإنه من الوجدانيات فلا يقال‪.‬‬‫الحجة الثانية لسانية‪ :‬اللغات لا تقول إلا الكليات العامة‪ ،‬والأعيان المندرجة فيها باعتبارها‬ ‫أمثلة منها‪ .‬وما ينتسب إلى الغيب ليس لنا منه أمثله‪.‬‬‫لذلك فإنه إذا صح أن صاحب الكشف يمكن أن يدرك شيئا من الغيب‪-‬ابن خلدون لا يعتقد‬ ‫ذلك‪-‬فإن إدراكه سيكون وجدانيا‪ ،‬لا يمكن التعبير عنه باللسان‪.‬‬‫والأنبياء هم أنبياء بهذه الخاصية‪ ،‬أي إن الله أمدهم بـمعجزة القدرة على التعبير عن‬ ‫الغيب بما يمكن من تبليغ آثاره على حياة المؤمنين دون سره‪.‬‬‫وقد ذهب ابن خلدون إلى فكرة ثورية في لطيفته حول الاحتجاج الكلامي بالسببية‪ .‬فقد‬ ‫بين أن فاعلية الأسباب نرى أثرها ولا نعلم سرها أو حقيقة فعلها‪.‬‬‫وذلك فهو يعتبرها مشروط بالتسليم بسر غيبي‪ ،‬هو فاعلية الأسباب التي لا نعلم حقيقتها‬ ‫ما هي‪ .‬هذا في عالم الشهادة‪ ،‬فكيف بعالم محجوب حتى عن النبي؟‬‫وبذلك فدحض ابن خلدون دحض للوساطتين‪ :‬لا يمكن أن يدعي المتصوف علما لدنيا‪،‬‬ ‫يتجاوز المعلوم بالعلم العادي للإنسان‪ ،‬الحاصل عليه بالمعرفة العقلية‪.‬‬ ‫ونصل إلى غاية المطاف‪ :‬المشكل الجوهري‪ ،‬هو الذي تصدى له ابن تيمية‪.‬‬ ‫لماذا ينتهي التصوف إلى نفس شرطي الأخلاق في الفاعل ذاتيا وفي المفعول موضوعيا؟‬‫هنا نصل إلى أكبر ثورة في تاريخ الفكر الإنساني‪ ،‬وبها يعتبر ابن تيمية مؤسس كل الفلسفة‬ ‫الحديثة‪ :‬النقلة من ما بعد الطبيعة إلى ما بعد الأخلاق‪.‬‬‫فعلاجه ألغى العلمين الزائفين وأصلهما الباطني‪ ،‬وأسس شرط إمكان العلمين اللذين غابا‬ ‫بسببهما في النظر وفلسفة الدين‪ ،‬وفي العمل وفلسفة التاريخ‪.‬‬ ‫كيف ذلك؟‬ ‫‪117 67‬‬

‫يصعب بيان ذلك بتفاصيله‪ ،‬وقد فعلنا في غير موضع‪ .‬فلنكتف هنا بالزبدة أو ببؤرة‬‫الإشكالية الممكن‪ .‬ففي الفاعل‪ ،‬الشرط هو الحرية‪ ،‬وفي المنفعل‪ ،‬الشرط هو الفرق بين‬ ‫التاريخي والطبيعي من أحداث الوجود‪.‬‬‫إذا قبلنا بـالعلمين الزائفين‪ -‬الكلام والتصوف‪ ،‬وأصلهما الباطني المستند إلى الميتافيزيقا‬‫اليونانية‪ -‬أزلنا كل إمكانية لتأسيس شرط الأخلاق (حرية الإنسان) وشرط التاريخ‬ ‫(فاعلية الإنسان)‪.‬‬‫وحتى يتجاوز ابن تيمية النتيجتين ‪-‬زوال شرط الأخلاق (الحرية) وشرط التاريخ‬ ‫(فاعلية الإنسان) ‪ -‬يغوص إلى الأصل الأعمق بالمقابلة بين الربوبية والألوهية‪.‬‬‫فعالم الربوبية يتعلق بعالم الضرورة أو الطبيعة‪ ،‬وعالم الألوهية يتعلق بالحرية أو‬‫التاريخ‪ .‬والإنسان مشدود إليهما معا‪ ،‬فهو بخلقته مشدود لعالم الطبيعة والضرورة‪ ،‬وهو‬ ‫بخلقه مشدود لعالم التاريخ والحرية‪.‬‬‫ولا يمكن أن يكون انشداده إلى عالم الضرورة والربوبية‪ ،‬مثل انشداده إلى عالم الحرية‬ ‫والألوهية‪ .‬فالانشداد الأول يتعلق بالموجود‪ .‬والانشداد الثاني يتعلق بالمنشود‪.‬‬‫فلسفيا الانشداد الأول يسمى الوجود‪ ،‬أو ما هو كائن ‪ ،Etre‬والانشداد الثاني يسمى‬‫المنشود‪ ،‬أو ينبغي أن يكون ‪ .Devoir être‬والحرية هي الـمسافة الفاصلة والواصلة بينهما‪.‬‬‫فإذا نفينا هذه المسافة فصلا ووصلا‪ ،‬لم يبق إلا الضرورة الطبيعية‪ ،‬ويكون التاريخ مجرد‬‫وهم إنساني فنقع في \"الفاتالسيم\" تأويلا فاسدا للقضاء والقدر‪ ،‬وتلك هي علة الانحطاط‪.‬‬‫كل الفلسفة الحديثة تتأسس على هذا الانقلاب الذي يقدم الخلقي على الطبيعي‪ ،‬فيكون‬‫التأسيس الفلسفي كله نقلة مما بعد الطبيعة علما رئيسا لكل المعارف الإنسانية نظريها‬ ‫وعمليها‪ ،‬إلى ما بعد الأخلاق في نفس هذه الوظيفة‪.‬‬‫وبذلك ندرك أن الديني في كل الأديان‪ ،‬والفلسفي في كل الفلسفات‪ ،‬هو هذا التأسيس‬‫الذي انتقل من المقابلة بينهما بنفي أحدهما إلى وحدتهما الجوهرية عندما نقدم ما بعد‬ ‫الأخلاق على ما بعد الطبيعة‪.‬‬ ‫‪117 68‬‬

‫ابن تيمية بهذه الثورة جعل الفلسفة الحديثة تدرك أن الانطلاق من الطبيعة وتأسيس‬‫فلسفة الوجود على ما بعدها‪ ،‬بما يسمى ميتافيزيقا‪ ،‬لا يمكن‪ ،‬وإن سمي إلهيات لا يكفي‬ ‫لفهم النظر والعقد والعمل والشرع‪.‬‬‫فهذه الأبعاد من فاعلية الإنسان تكون ربوبيات في عالم الضرورة (ربوبية)‪ ،‬وإلهيات في‬‫عالم الحرية (ألوهية)‪ ،‬لأن مجرد إمكان علم الإنسان وعـملـه يقتضي أن يكون التأسيس‬ ‫ما بعد أخلاق لا ما بعد طبيعة‪ :‬فكلاهما مشروط بالحرية والفاعلية‪.‬‬‫وتلك هي النقلة النوعية التي أسس عليها كنط فلسفته‪ .‬فلا يمكن تقديـم شرط النظر على‬‫شرط العمل لتأسسه على ضرورة الطبيعة‪ ،‬والطبيعة لأنها تخضع للضرورة لا تقبل استثناء‬ ‫الإنسان من قانونها‪.‬‬‫وإذا لم نستثن استثناء الإنسان‪ ،‬بات علم الضرورة مستحيلا لأن علم الضرورة ليس‬ ‫ضروريا وإلا لكان حاصلا دون جهد إنساني‪.‬‬‫فمن شروطه ابداع النظريات العلمية لقوانين الطبيعة والإنسان في ذلك ليس مرآة يعكس‬ ‫قوانين الطبيعة بضرورة طبيعية بل هو يبدعها بفعل حر‪.‬‬‫العلم نفسه عمل عقلي حر‪ ،‬شرطه الابداع وفيه الحرية التي تتخيل عديد الفرضيات‬ ‫وتجربها لتعلم أيها أكثر مطابقة لقوانين الطبيعة‪ ،‬وهو عمل تاريخي متطور‪.‬‬‫وهذه الثورة في الغرب يمكن القول إنها بدأت مع ديكارت‪ ،‬الذي جعل أدلة وجود الله‬ ‫متقدمة على أدلة قوانين الطبيعة التي الرياضيات أداتها وليست أساسها‪.‬‬‫لكن ابن تيمية سبق ذلك كله‪ ،‬وأسس النظر والعقد والعمل والشرع على ما بعد الأخلاق‬‫بدل ما بعد الطبيعة‪ ،‬وبهذا المعنى فهو قد حرر الفكر الإنسانـي من التأسيس على ما بعد‬ ‫الطبيعة‪.‬‬‫ولهذا اعتبرت عمله شرطا في ثورة ابن خلدون‪ ،‬حتى لو لم يكن ابن خلدون قد اطلع عليه‪.‬‬ ‫فهذا الانقلاب في الفكر كان الحل الوحيد لتجاوز فشل الغزالي‪.‬‬ ‫‪117 69‬‬

‫حاول مربع القرن السادس (ابن رشد والسهرودي والرازي وابن عربي) الخروج من المأزق‬ ‫الذي بينه الغزالي بالنكوص إلى أرسطو وأفلاطون‪ ،‬ففشل حلهم جميعا‪.‬‬‫ما فهمه ابن تيمية وابن خلدون هو أن هذا النكوص تأبيد للهروب من قراءة القرآن كما‬ ‫طلب بفصلت ‪ 53‬وبشروط الاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها‪.‬‬ ‫‪117 70‬‬

‫ننتقل الآن إلى الكلام في العلمين الحقيقيين ‪-‬الفلسفة والفقه‪-‬فنخصص الفصل السابع‬‫للفقه‪ ،‬الذي هو العلم الرئيس في علوم الأنفس أو العلوم الإنسانية‪ ،‬مثلما أن الفلسفة هي‬ ‫العلم الرئيس في علوم الآفاق أو العلوم الطبيعية‪.‬‬‫وهذا التقديم أصبح الآن مفهوما‪ ،‬بعد ما بينا في الفصل السادس طبيعة الانتقال الثوري‬‫من الميتافيزيقا إلى الميتا أخلاق‪ ،‬للانتقال من تقديم العمل على النظر الذي هو أحد أصناف‬ ‫العمل‪.‬‬‫وتقديم علوم الأنفس على علوم الآفاق اعتراف بنسبية علم الإنسان وطابعه الذاتي‪ ،‬لأن‬‫ما نعلمه من الآفاق محدود بما نعلمه من الأنفس‪ ،‬رغم تسليمنا بأن ما عليه الأنفس تابع لما‬ ‫عليه الآفاق تبعية البعض للكل‪.‬‬‫والقرآن يؤكد هذه التبعية عندما يحدد سنة التغيير‪ ،‬فيضع أن الله لا يغير ما بقوم خيرا‬‫أو شرا إلا إذا غيروا ما بأنفسهم‪ .‬فما بهم‪ ،‬هو كل أحوالهم وأهمها ما يترتب على دور‬‫الآفاق في حياتهم‪ .‬وما بأنفسهم هو ما اعتبرناه موضوع علم الشرائع‪ ،‬أو علم أفعالهم‬ ‫النظرية والعملية‪.‬‬‫وعلينا أن نبدأ فنحدد مفهوم الفقه الذي انتقل استعماله الاصطلاحي من دلالته العامة‪،‬‬‫التي تعني الفهم والعلم‪ ،‬إلى ما يشبه اسم العلم على أحد العلوم الخاص بالشريعة‪ :‬أي‬ ‫المفهوم الجامع بين الأحكام القانونية والأخلاق الدينية‪.‬‬‫وإذن فنحن هنا نحرره المفهوم من هذه الدلالة الحصرية‪ ،‬لنجعله متعلقا بعلوم الأنفس‬‫عامة‪ ،‬أو بالعلوم الإنسانية بوصفها مختلفة جنسا عن العلوم الطبيعية‪ ،‬ومدخلا منظوريا‬ ‫يوصل إليها ليضفي عليها نسبية تلغي ما كان يتوهم من موضوعية مطلقة في الطبيعيات‪.‬‬ ‫‪117 71‬‬

‫فمفهوم الحرية الذي تأسس عليه علوم الأنفس‪ ،‬متقدم على مفهوم الضرورة الذي تتأسس‬ ‫عليه علوم الآفاق‪ ،‬باعتبار الضروري أحد الخيارات التي يشملها الممكن‪.‬‬‫والعلوم التي هي علوم ضرورة اختيارية‪ ،‬أو ناتجة عن قرار حر من الذات العارفة‪ ،‬هي‬ ‫العلوم الأدوات أو العلوم المساعدة والتي هي ضرورية لكلا النوعين من العلوم‪:‬‬ ‫وبذلك تقبل العلوم التصنيف التالي‪:‬‬ ‫‪-1‬علم الطبائع وما بعدها الذي هو الميتافيزيقيات‪.‬‬ ‫‪-2‬علم الشرائع وما بعدها الذي هو ألمتا أخلاقيات‪.‬‬ ‫‪-3‬علم الذرائع وما بعدها الذي هو هو الميتاوسميات‪,‬‬ ‫‪-4‬علم البدائع أو هذه المابعد المؤسسة الذي هو علم العلاقات بين المابعديات‪.‬‬‫‪-5‬علم الروائع أو علم ما بعد المابعد وهو طلب ما يوحد بين أصناف المابعد الأربعة المؤسسة‬ ‫لعلم الطبائع وعلم الشرائع وعلم الذرائع وعلم الروائع‪.‬‬‫مفهومات الطبائع والشرائع والذرائع والبدائع والروائع‪ ،‬بعضها معلوم الدلالة لأنه‬‫مستعمل في تصنيف العلوم التقليدي (الطبائع والشرائع والذرائع)‪ ،‬حتى وإن كنا غيرنا‬ ‫دلالة الشرائع والذرائع‪.‬‬‫لكن مفهومي البدائع والروائع بحاجة إلى تحرير أعمق‪ ،‬لأن اختيار الأسماء لم يكن مجرد‬ ‫سجع يساعد الذاكرة‪ ،‬بل لأن المفهومين لهما هذه الدلالة‪.‬‬‫فالبدائع تعتبر ما يشبه السرديات التي توحد العالم من خلال أصناف تعامل الإنسان معه‬ ‫في بعده الطبيعي وبعده الثقافي المضموني والثقافي الشكلي‪.‬‬ ‫‪117 72‬‬

‫وهذا البعد الثقافي‪ ،‬أي ما أضافه الإنسان إلى الطبيعي من حوله وفيه‪ ،‬هو كل ما يصنعه‬ ‫الإنسان من نظريات وأدوات لعلم قوانين الطبيعي والثقافي‪.‬‬ ‫والنظريات صنفان‪:‬‬ ‫واحدة موضوعها قوانين الطبائع والشرائع‪،‬‬ ‫والثانية قوانين إدراكها والبحث فيه‪ :‬وتلك هي الذرائع‪.‬‬‫وأخيرا‪ ،‬فالروائع ينبغي فهمها بالمعنى الجمالي والجلالي‪ ،‬أي إن هذا العالم الذي يبدعه‬‫الإنسان بخياله ليوحد به أصناف المابعد التي كل منها يوحد مجاله‪ ،‬يتجاوز مجرد طلب‬ ‫العلاقات بينها إلى ما بعدها ليوحدها‪ :‬وذلك هو المطلب الأساسي للدين والفلسفة‪.‬‬‫وهو رائع ومريع‪ .‬رائع لأنه يخلق عالما جميلا‪ ،‬ليس فيه فواصل تحول دون المرور من أحد‬ ‫هذه المجالات إلى الآخر‪ ،‬فيمثل لوحة وجودية متناسقة‪.‬‬‫لكنه مريع‪ ،‬لأن هذا التوحيد يفترض قوة خارقة تثير الخوف والإعجاب في آن‪ ،‬وهي إن‬ ‫صح التعبير كل أفعال ذات متعالية نسميها الله‪ ،‬وترمز إليها أسماؤه المتناقضة‪.‬‬‫والمعلوم أن كتاب أرسطو في الميتافيزيقا ليس مقصورا على ما بعد الطبيعة‪ .‬ففيه تأسيس‬ ‫لعلم الطبيعة خاصة‪ ،‬ولكن بوصفه كذلك نموذج ومنظورا لعلم باقي الوجود‪.‬‬‫وفيه تأسيس لشروط العلم عامة‪ ،‬ولمبادئ العقل التي تتأسس عليها كل العلوم‪ ،‬والتي يقع‬ ‫إسقاطها على الوجود حتى يكون معلوما‬‫وفيه تحديد لدور ذرائع المعرفة أو أدواتها‪ ،‬أو ما يمكن تسميته بالعلوم المساعدة أي‬‫الرياضيات (مناقشة رياضيات أفلاطون في المقالتين ‪ 13‬و‪ )14‬واللسان والتاريخ والمنطق‬ ‫(مقالة الجيم)‪.‬‬‫وفيه أخيرا نظرية في الرب أو الإله‪ ،‬وهو اثولوجيا فلسفية هي موضوع المقالة الثانية‬ ‫عشرة‪.‬‬ ‫لذلك كانت ميتافيزيقا أرسطو في آن نظرية وجود‪ ،‬ونظرية معرفة‪ ،‬ونظرية ألوهية‪.‬‬ ‫‪117 73‬‬

‫وقد تردد أرسطو بين الميتافيزيقا والسياسة‪ ،‬بمعنى شامل وليس بالمعنى الحالي لكلمة‬‫سياسة‪( ،‬وفيها الأخلاق والاقتصاد والحكم السياسي)‪ ،‬أيهما هو العلم الرئيس‪ ،‬وفي الأخير‬ ‫مال إلى اعتبار الميتافيزيقا هي العلم الرئيس‪.‬‬‫لكن ابن خلدون عكس واعتبر العلم الرئيس هو علم العمران البشري والاجتماع الإنساني‪،‬‬‫وهو السياسة بالمعنى الشامل القديم‪ ،‬لكنه أصبح يعتبر السياسة جزءا خاصة متعلقا بالحكم‪.‬‬‫وأخيرا فإن أوغست كونت اعتبر المنظورين مقبولين‪ .‬لكنه رفض الميتافيزيقا وعوضها‬‫بالرياضيات‪ ،‬وعوض السياسة بما يشبه ما عوضها به ابن خلدون‪ ،‬أي علم الاجتماع أول‬ ‫الفيزياء الاجتماعية‪.‬‬‫وسعنا مفهوم الفقه وما بعده ليصبح علم كل أفعال الإنسان وأحكامها‪ ،‬ومن ثم فهو علم كل‬‫ما يشرعه الإنسان أو ما يعتبره شرعا بما في ذلك قوانين الطبائع والشرائع والذرائع‬‫والبدائع والروائع‪ :‬إنه في الحقيقة علم ما أضافه الإنسان للطبائع‪ ،‬أو لما يخصه باسم‬ ‫الطبائع من الوجود‪.‬‬‫وهذا المفهوم فيه شبه مبدأ التمانع بين الإنسان ونموذج أعلى هو الله‪ ،‬البعض يؤمن‬‫بوجوده‪ ،‬والبعض يعتبره من صنع الخيال الإنساني‪ ،‬يتنافسان على هذه الأفعال ودور كل‬ ‫منهما فيها‪.‬‬ ‫المطلوب في الكلام على الفقه بهذا المعنى‪.‬‬‫صار الفقه شبه اسم علم على القضايا القانونية والخلقية‪ ،‬بمرجعية دينية مستمدة من‬‫النصين القرآن والسنة‪ ،‬إما مباشرة‪ ،‬أو بتوسط القياس مع طريقتين أخريين فيهما شبه‬‫اعتراف بأن المصدرين الأولين النصيين والقياس على ما ورد فيهما ليسا كافيين حتى لهذا‬ ‫المجال المحدود‪.‬‬‫واستعمل الفقه مع أضافة وصف الأكبر للدلالة على العقديات‪ ،‬وليس الشرعيات‪ .‬وهو‬‫مفهوم لم ينتشر رغم أنه مفيد جدا‪ ،‬لأنه يحرر العقائد من استفراد الكلام والفلسفة بها‪،‬‬ ‫بافتراض علم لا يرد إليهما دون تحديد طبيعته‪.‬‬ ‫‪117 74‬‬

‫فيكون العقد موضوع فقه أكبر‪ ،‬ويكون الشرع موضوع فقه أصغر‪ ،‬والأول هو مادة الاجتهاد‬ ‫الأكبر‪ ،‬والثاني مادة الاجتهاد الأصغر‪.‬‬‫ولما كان الأكبر والأصغر أفعلي تفضيل‪ ،‬فإنه يوجد دونهما الكبير والصغير‪ .‬وهما الاجتهاد‬‫في شروط الأكبر‪ ،‬والاجتهاد في شروط الأصغر‪ .‬ولا يمكن أن يكون الكبير الباحث في شروط‬‫الأكبر إلا العلم فيما دونه‪ ،‬أي في علوم الآفاق‪ ،‬والصغير الباحث في شروط الأصغر إلا‬ ‫العلم الباحث فيما دونه‪ ،‬أي في علوم الأنفس‪.‬‬‫وبهذا المعنى يصبح الفقه فلسفة ذات المرجعية القائلة بالخلق والحرية‪ ،‬تماما كالفلسفة ذات‬‫المرجعية القائلة بالتخلق والضرورة‪ :‬إذن نظريتان للوجود يمكن أن تتعارضا أو أن‬ ‫تتطابقا‪.‬‬ ‫وهو ما يطرح أهم مشكل فلسفي وديني على الإطلاق‪:‬‬ ‫كيف نجمع بين الضرورة الطبيعية والحرية الخلقية؟‬ ‫أو بين فلسفة النظر والطبائع وفلسفة العمل والشرائع؟‬‫وهذه المعاني كلها ضاعت من الفقه لما أصبح اسم علم على الاجتهاد الفقهي في الأحكام‬‫الشرعية القانونية والخلقية‪ ،‬واعتبار الأصول فيه مقصورة على كيفية استخراجها من‬ ‫المرجعيتين‪.‬‬ ‫والعلة تعود إلى العملين الزائفين‪ :‬علم النظر والعقد الزائف أو علم الكلام‪.‬‬‫وعلم العمل والشرع الزائف أو علم التصوف‪ .‬فكلاهما يدعي معرفة حيث لا معرفة ممكنة‪.‬‬‫فهما بما عالجاه من قضايا زائفة غير قابلة للعلم‪ ،‬حالا دون علاج ما كان ينبغي علاجه من‬ ‫القضايا الحقيقية‪ :‬وعلم النظر والعقائد وعلم العمل والشرائع‪.‬‬‫فأطلق أولهما علم الغيب بالعقل‪ ،‬وأطلق الثاني علمه بما يسميه علما لدنيا‪ .‬وبني الأول‬ ‫عل كذبة العقل أو المخلوقات‪ ،‬والثاني على كذبة الإنسان خلق على صورة الله‪.‬‬‫ولا بد هنا من العودة إلى منطلق ابن تيمية وابن خلدون في دحض التأسيس المتأخر لمبدأ‬‫بارمينيدس وأساسه‪ :‬وحدة الوجود والعقل إذا تلا عنها قدرة العقل الإنساني على علم‬ ‫الوجود‪ ،‬تقتضي أن يكون العقل الإنساني نسخة من العقل المطلق‪.‬‬ ‫‪117 75‬‬

‫لذلك فالدحض التيمي المتقدم على الدحض الخلدوني لوحدة الوجود والعقل‪ ،‬يذهب إلى‬ ‫ما أبعد‪ ،‬فيدحض وهم تقدم العقل الوجودي ونظرية خلق الإنسان على صورة الرب‪.‬‬‫فهذان الوهمان هما أساس الكلام التصوف المتفلسفين‪ .‬وكان من المفروض أن نجعل هذا‬‫المنطلق ضميمة للفصلين الخامس (في الكلام بوصفه علما زائفا) والسادس (في التصوف‬ ‫بوصفه علما زائفا)‪ ،‬لكننا أجلنا ليكون في هذا الفصل الذي يتكلم في الفقه وأصوله‪.‬‬‫فجل الأفكار التي تأسس عليها العلمان الزائفان الأصلان‪ ،‬وما ترتب عليهما من علوم فرعية‬‫زائفة‪ ،‬ناتجة عن تحيل لغوي‪ ،‬يمكن أن نضرب منها مثالين هما أساس التصوف والكلام بما‬ ‫هما علمان زائفان‪.‬‬‫‪-1‬كيف بين ابن تيمية الكذبة التي تؤسس فكرة الباطنية في علاقتها بالكلام والفلسفة‬ ‫الكلامية‪ :‬أول ما خلق الله العقل‪.‬‬‫‪-1.1‬بين أن \"أول ما\" لا تعني أن العقل هو أول شيء‪ ،‬بل تعني أن العقل بمجرد أن خلق‬‫أمر بكذا‪\" .‬أول\" ظرفية تصف الزمان‪ ،‬وليست كيفية تصف العقل‪ .‬والقصد أن ما أمر به‬ ‫الإنسان مباشرة بعد خلقه هو أن يفعل كذا وكذا‪..‬‬‫‪-2‬كيف بين ابن تيمية الكذبة التي تؤسس فكرة الباطنية في علاقتها بالتصوف والفلسفة‬ ‫الصوفية‪ :‬خلق الله الإنسان على صورته‪.‬‬‫‪-2.2‬بين أن الضمير في \"صورته\" لا يعود إلى الله بل إلى الإنسان‪ :‬الله خلق الإنسان على‬‫صورة الإنسان‪ .‬ولا يمكن ان يكون الله خلق نسخة منه هي الإنسان‪ .‬والمعنى أن الإنسان‬ ‫خلق على الصورة التي وضعت له أي على النموذج الذي قدر له لخلقه‪.‬‬‫لكن تشويه فلسفة الدين‪ ،‬بدعوى قدرات للعقل ليست فيه‪ ،‬وتشويهها بدعوى قدرات‬‫للحدس ليست فيه‪ ،‬ليس وحده المسؤول على فقدان الأمة لشروط الاستعمار في الارض‬ ‫والاستخلاف فيها‪.‬‬‫ذلك أن ما أصاب الفقه من تقزيم‪ ،‬وتحويله إلى مجرد علم التشريع المحدود بالقانون‬‫والأخلاق الدينية‪ ،‬واعتبار اصوله مقصورة على مشكل استخراجهما من المرجعية‪ ،‬ألغى‬ ‫أهم ما في ثورة فلسفة الدين القرآنية‪.‬‬ ‫‪117 76‬‬

‫فالوسيطان بين الفقه الأصغر والفقه الأكبر‪ ،‬أي الفقه الصغير (شروط الاستعمار في‬‫الأرض) والفقه الكبير (شروط الاستخلاف فيها)‪ ،‬هما علة انحطاط الحضارة العربية‬ ‫مثلهما مثل العلمين المحرفين‪.‬‬‫فلست أفهم معنى شرعية قانونية وخلقية في دنيا نجعل كل قوانينها الطبيعية والتاريخية‬‫بالتنكر التام لفصلت ‪ 53‬التي حدد القرآن فيها ضرورة فهم حقيقته‪ ،‬من خلال العلم الآفاق‬ ‫والأنفس‪.‬‬‫وهذه الآفاق والأنفس علمها ليس موجودا في المرجعية القرآنية أو السنية‪ ،‬لأن المرجعيتين‬‫توجيه للإنسان لعلم شروط الاستعمار في الأرض والعمل بقوانينها حتى لا يخلد إليها‪،‬‬ ‫فيكون جديرا بالاستخلاف‪.‬‬‫الجماع بين الاجتهادات بأصنافها الغائية (الفقه الاصغر والفقه الأكبر) والأداتية (الفقه‬‫الصغير والفقه الكبير) هي التي تتأسس في الفقه بمعناه العام‪ ،‬الذي هو فلسفة الدين‬‫التي غيبها علم العقائد الزائد وعلم الشرائع الزائف‪ ،‬وتقزيم الفقهين الأكبر والأصغر‪.‬‬‫وأختم المحاولة بوضع أسئلة الفقه بمعناه العام‪ :‬وهي التالية‪ ،‬وكل منها يمكن أن يكون مادة‬‫لمجلد‪ .‬لكن نحن هنا نكتفي بإشارات لما يحتوي عليه التفسير الفلسفي للقرآن الكريم من‬ ‫مقوماتها الأساسية‪:‬‬ ‫ما طبيعة الشرائع وطبيعة ما بعد الشرائع؟‬‫والجواب هو بيان كيف يكون أساس كل العلوم الأولى هو علوم الأنفس‪ ،‬الذي يوجه إليه‬‫القرآن الكريم المؤمنين ليعلموا‪ ،‬بالبحث العلمي‪ ،‬قوانين التاريخ التي هي روحية‪ ،‬وفيها‬‫نكتشف أن ما جاء فيه من توجيهات هي عين الحق‪ .‬وما بعد الفقه الديني بهذا المعنى هو‬ ‫ما أطلقت عليه اسم ما بعد الأخلاق‪.‬‬ ‫ما طبيعة الطبائع وطبيعة ما بعد الطبائع؟‬ ‫‪117 77‬‬

‫والجواب هو بيان كيف يكون اساس العلوم الثانية هو علم الآفاق الذي يوجه إليه القرآن‬‫الكريم المؤمنين للبحث العلمي فيه‪ ،‬ومعرفة قوانين الطبيعة التي يصفها القرآن بكونها‬‫رياضية‪ ،‬وبها نعلم حقيقة توجيهات القرآن‪ :‬وذلك هو ما بعد الفقه الطبيعي أو ما بعد‬ ‫الطبيعة‪.‬‬ ‫ما طبيعة الذرائع وطبيعة ما بعد الذرائع؟‬‫والجواب هو بيان كيف يكون الأساس المنهجي لكل العلوم من النوع الأول‪ ،‬والنوع الثاني‬‫من العلوم‪ ،‬ومن ثم فهي شرط كل معرفة علمية ببعديها التواصلي بين الباحثين‪ ،‬والتفاعلي‬‫مع موضوعات العلوم‪ ،‬أي القوانين التاريخية والطبيعية لأنها تؤسس لأدوات الفعل التقني‬ ‫فيها‪ :‬ما بعد الفقه الذريعي هو علم ما بعد الترميز‪.‬‬ ‫ما طبيعة البدائع وطبيعة ما بعد البدائع؟‬‫والجواب هو أن البدائع هي ما يبدعه العقل والوجدان الإنسانيان للوصل بين ما بعد فقه‬‫الشرائع (ما علم الأنفس)‪ ،‬وما بعد فقه الطبائع (ما بعد علم الآفاق)‪ ،‬وما بعد فقه‬‫الذرائع وتحديد علاقاتها التي تمكن من الجسر بينها‪ :‬وذلك هو علم الرمز الرمز والرامز‬ ‫والمرموز والرامز المرموز والرامز المرموز الرمز‪ :‬الوسميات أو السيميوتكس‪.‬‬ ‫ما طبيعة الروائع وطبيعة ما بعد الروائع؟‬‫والجواب هو سؤال يضع الإنسان أمام حلين يتردد بينهما دائما‪ ،‬سواء في الفكر الفلسفي أو‬ ‫في الفكر الديني‪ .‬فهل يوجد مبدأ موحد لأصناف المابعد ولموضوعاتها‪:‬‬ ‫إما كأفعال لذات متعالية على هذه الموجودات وما بعدها‪ :‬وحدة الشهود؟‬ ‫أو كأفعال ذات هي ذاتها هذه الموجودات وما بعدها‪ :‬وحدة الوجود؟‬ ‫‪117 78‬‬

‫أمليت أمس الفصل السابع من الحرب اللطيفة ‪ -‬خاص بعلم الفقه وعلل تقزيمه‪ -‬مباشرة‬ ‫دون المرور بالتغريد لا نقاطع مؤقت للوصلة‪.‬‬ ‫والآن استأنف الكلام في الفصل الثامن ونخصصه للفلسفة‪.‬‬‫كان الكلام في الفقه بمعناه الذي كان ينبغي أن يكون عليه‪ ،‬لو لم تفسده العلوم الزائفة‬ ‫فتقزمه إلى الاجتهاد الأصغر في القانون والأخلاق الدينية‪.‬‬‫وقزمت أصوله في الفنيات اللسانية المنطقية لاستخراج القوانين والقيم الخلقية الدينية من‬ ‫المرجعيتين القرآنية والسنية وشروط المدارس للقياس عليها‪.‬‬ ‫وقدمنا تعريفا للفقه يجعله علم اصناف الاجتهاد كلها وهي‪:‬‬‫وتعريف الفقه هذا يحدد مدخلا لكل العلوم‪ ،‬مقابل تماما للمدخل الذي تحدده الفلسفة‪،‬‬‫أي الميتافيزيقا‪ .‬الفقه الشامل يسير من الأنفس إلى الآفاق‪ ،‬أو من علوم الإنسان إلى علوم‬ ‫الطبيعة‪.‬‬‫وهو ما يعني ابستمولوجيا تقديم التأويلي‪ ،‬أو الهرمينوطيقي على التحليلي‪ ،‬أو‬‫الأنالوطيقي‪ .‬لكن تاريخ الفكر الفلسفي إلى غاية القرن التاسع عشر‪ ،‬يتبع المسار المعاكس‬ ‫له تماما‪.‬‬ ‫‪117 79‬‬

‫لكن تقدم الرياضيات والمنطقيات وتعددهما‪ ،‬وخاصة اكتشاف الوسميات والفينومينولوجيا‬ ‫وبداية التنظير للهرمينوطيقا‪ ،‬كل ذلك غير نظرية العلم والفلسفة‪.‬‬‫فكانت محاولة الوصل بين ابستمولوجيا علوم الإنسان وعلوم الطبيعة قد بدأت تثبت أن‬ ‫العكس هو الأصح‪ ،‬وأن التحليلي هو في الحقيقة تبسيط غير واع للتأويلي‪.‬‬‫فبدأت الفلسفة في نهايات القرن التاسع عشر تسعى لتأسيس علوم الإنسان‪ ،‬وتعتبر‬ ‫القصدية الفكرية هي الفعل المؤسس للنظر والعمل لوضع عالم مثالي هو شرطهما‪.‬‬‫ثم تلا ذلك كله منهج الجينيالوجيا النيتشوية‪ ،‬وقريبا منها منهج الأركيولوجيا الفوكلدية‪،‬‬‫والعلاجات المعتمدة على الدراسات السيميوتيكية‪ ،‬ودور الرموز في أطوار الفكر العلمي‬ ‫النظري والعملي‪.‬‬‫وإذا كان الموضوع معان مجردة من جنس الرياضي والمنطقي‪ ،‬فالأفعال الواضعة ليست‬ ‫رياضية ولا منطقية‪ ،‬بل هي أفعال للفكر من طبيعة أخرى نريد تحديدها‪.‬‬‫ولعل صاحبي الفضل في تبين ذلك رجلان لم يكونا من المشهورين بين الفلاسفة‪ ،‬هما فرانز‬ ‫برنتانو (فلسفة ألمانية)‪ ،‬وبيرس (فلسفة أمريكية)‪ ،‬ولنكتف بالأول‪.‬‬‫ففي محاولته تأسيس ما يميز موضوع علوم الإنسان عامة‪ ،‬وعلم النفس خاصة‪ ،‬وضع نظرية‬ ‫عادت بالفلسفة الحديثة إلى ما كادت تنساه‪ ،‬أعني أرسطو وابن سينا‪.‬‬‫ففي بحثه عن معاني الوجود المتعددة (ارسطو)‪ ،‬والعناية أو المعنى أو ما يتوجه إليه الفكر‬‫بقصدية تصوب نحو معنى (ابن سينا)‪ ،‬اكتشف ما يميز أفعال الفكر واعتبره ما يميز موضوع‬ ‫الإنسانيات‪.‬‬‫وهذا المعنى الذي يصوب الفكر نحوه انتباهه‪ ،‬ليس موجودا في العالم الحسي‪ ،‬بل هو من‬‫المعاني الكلية التي يمكن أن أمثلة في العالم الحسي تنطبق عليها مفهوم هذا الكلي‪ ،‬فتكون‬ ‫من صادقيته‪.‬‬‫وهو ليس مجرد منها بالاستقراء بل هو سابق عليها ومن دونه لا يمكن تصورها حتى مجرد‬ ‫التصور‪ .‬ولذلك فلهذا المفهوم علاقة مباشرة بفلسفة ابن سينا في الكليات‪.‬‬ ‫‪117 80‬‬

‫فنظريته في مفهوم الوجود في العناية الإلهية الوجود الذي يعتبره متقدما على الوجود‬‫المتعين في الطبيعة تضع نوعا من المثل القائمة بذاتها وإن لم يكن قائلا بالمثل الأفلاطونية‪.‬‬‫وهو مفهوم يجمع بين دلالتين واحدة يمكن ردها إلى عالم المثل الأفلاطوني والثانية يمكن‬ ‫ردها إلى مفهوم اللوح المحفوظ أو علم إلهي يؤسس للمعلومية‪.‬‬‫ومعنى ذلك أن الفكر الإنساني لا يعلم الوجود الحسي مباشرة بل هو يعود إليه بعد وضع‬ ‫عالم مثالي وراءه منه يستمد قوانينه التي تمكن من إدراكه‪.‬‬‫وهذا العالم المثالي وراء العالم الطبيعي والإنساني هومن طبيعة رياضية ومنطقية‪ .‬لكن‬ ‫الأفعال التي تبدعه فعلا أو تدركه انفعالا من طبيعة \"روحية\" وعقلية‪.‬‬‫والأخيرة هي ما سماه ابن سينا بالعناية الإلهية ويمكن للفلسفة الخالصة أن تسميه بعناية‬ ‫العقل الإنساني‪ .‬وهذه الأفعال النظرية والعملية هي العاقلية المبدعة للمعقولية‪.‬‬ ‫العاقلية المبدعة للمعقولية هي الدين بمعنين‪:‬‬ ‫‪-1‬من دون الإيمان بها يغرق الإنسان في السيلان الأبدي‬ ‫‪-2‬بها يمكن له أن يسيطر على الطبيعة وعلى الشريعة‪.‬‬‫ومعنى ذلك وخلافا لما يتوهم السطحيون من الحداثيين الفلسفة الحديثة أكثر تدينا مما‬ ‫يتصورون بل هي عادت وإن بأسماء أخرى إلى جوهر الديني وأغراض فكره‪.‬‬‫ولا بد من تقديم مفهوم غائب في فكرنا لكنه سائد في الفكر الفلسفي الغربي حتى قبل هذه‬ ‫النقلة النوعية‪ :‬التمييز بين الديني والدين الوضعي أو الرسمي‪.‬‬‫سبق أن قست ذلك على التمييز بين الوظائف والأعضاء في الاحيائيات‪ .‬وهذا الديني هو‬ ‫الذي عادت إليه الفلسفة وليس الدين الوضعي أي مؤسساته وشعائره‪.‬‬‫ويمكن القول إن الموقف من الدين عند سطحيي الحداثيين علته الخلط بين الديني والدين‬ ‫الوضعي‪ .‬ولا بد من الاعتراف أن الفلسفة كافرة بالدين الوضعي‪.‬‬ ‫‪117 81‬‬

‫وأقصد الفلسفة على الإطلاق من أفلاطون إلى اليوم‪ :‬الدين الوضعي أي الدين الرسمي‬‫مؤسسات وشعائر وممارسات كلها تعتبرها غير وظائف الديني بل هي أعضاؤه التي لا‬ ‫تعنيها‪.‬‬‫وعندما أقول لا تعنيها فقصدي أنها لا تعنيها عند البحث في مقومات الديني‪ .‬لكنها تدرسها‬‫بوصفها منطلق تحريف الديني من خلال توظيفه من أجل غايات سياسية تناقض الغايات‬ ‫المعرفية‪.‬‬‫وهنا يكمن الفرق بين الموقف الفلسفي والموقف الصوفي من الدين الوضعي‪ :‬فالفلسفة‬ ‫ترفضه لتعارضه مع المعرفة والتصوف يرفضه لحده من سلطانه الروحي‪.‬‬‫ولأعد لكلامي في مدخلي درس أفعال الإنسان النظرية والعملية‪ :‬الأول هو الذي ينطلق‬‫من علوم الأنفس أو من علوم الشرائع وذلك هو الفقه الشامل‪ .‬والثاني هو الذي ينطلق‬ ‫من علوم الآفاق أو من علوم الطبائع وتلك هي الفلسفة‪.‬‬‫وهذا هو السر في اعتباري كلمة \"فقه\" اسما للمعرفة عامة بمدخل يعتبر أفعال تشريعا‬ ‫للعالم وزيادة صدرية تفيد \"لوجوس\" كما في فقه اللغة (فيلولوجيا)‪.‬‬‫وقد استعملت ذلك أول مرة سنة ‪ 1974‬في كتاب كتبته بالفرنسية أولا ثم نقلته إلى العربية‬‫ونشر لأن تونس شرعت سنتها في تعريب الفلسفة‪ .‬وقد كان \"بحثـي التربوي\" لترسيمي‬ ‫أستاذا في الثانويات‪.‬‬‫وقد ذكرت هذا لعلتين الأولى هي بيان تحسسي لفهم العلاقة بين فعل العقل ومفعوله أو‬ ‫فعل التصور والتصور وفعل ابداع المفهوم والمفهوم في عمل الفكر‪.‬‬‫والثانية بسبب خلاف أثار حساسية كبرى لدى الزميل طه عبد الرحمن عندما نبهت إلى أن‬ ‫ما يدعيه سبق إليه بعقد وفي دلالة فلسفية وليس فقهية تقليدية‪.‬‬‫ولذلك كتبت لاحقا كتابا بعنوان \"فقه العلم ومراسه\" بمعنى \"ابتسمو‪-‬لوجي\" وتطبيقاتها‪.‬‬ ‫ففقه تناظر \"لوجي\" والعلم تناظر \"ابستمو\" في ابستمولوجي‪.‬‬ ‫‪117 82‬‬

‫وقد أهديت له الكتاب لما زارنا في ندوة بتونس قبل تآلفيه بأكثر من خمس سنوات على‬‫الأقل‪ .‬ولما أشرت إلى ذلك ظنني اتهمه بشيء وما كان ذلك قصدي لأني لم أعر للمسألة‬ ‫أدنى أهمية‪.‬‬‫ما كتبته سنة ‪ 1974‬كان في منهدية تدريس الفلسفة كان منتشرا في كل بلاد المغرب وخاصة‬‫بعد أن شرعنا في توحيد البرامج بين تونس والمغرب وفي الكتاب كلام على فقه العلم وفقه‬‫العمل وفقه القيم وفقه الوجود بمعنى ابستمولوجيا وبراكسيولوجيا وأكسيولوجيا‬ ‫وانطولوجيا وهي موضوعات بحثي في كيفية تدريس الفلسفة‪.‬‬‫فإذا عدنا إلى تقزيم الفقه بدلا من أن يكون كل هذا الذي بينا أنه حقيقته علمنا أن من‬ ‫نتائجه جعل الفقه تابعا للسياسة بمعناها المحدود بممارسة الحكم السياسي‪.‬‬‫والفقه كما حددناه في الفصل السابع هو العلم الرئيس من مدخل الشرائع المناظر للفلسفة‬‫التي هي العلم الرئيس من مدخل الطبائع‪ .‬علم الفلسفة الرئيس يدخل للعلوم من درس‬ ‫الطبائع (ميتافيزيقا) وعلم الفقه الرئيس يدخلها من درس الشرائع (ميتاأخلاق)‪.‬‬‫ذلك أنه لو كان الفقهاء يفهمون بالسياسية ما يقصده أرسطو أو ابن خلدون لما كان في ذلك‬ ‫ضرر فهي في هذه الحالة تتجاوز فن الحكم إلى العلم الرئيس‪.‬‬‫وبعبارة أوضـح فالفلسفة تدخل لدرس النظر والعمل من مد َركهما أو موضوع الإدراك أي‬ ‫المعقولية والفقه يدخلهما من فعل إدراكهما أو فعل الإدراك أي العاقلية‪.‬‬‫وهما يلتقيان لأنهما يغطيان نفس المجال وإن بمسارين متقابلي الاتجاه‪ :‬ما يبدأ به الفقه‬ ‫تنهي إليه الفلسفة (الديني) وما تبدأ به الفلسفة ينتهي إليه الفقه (الفلسفي)‪.‬‬‫ومعنى ذلك أن الفقه بمعناه الذي كان ينبغي أن يتحقق مآله الفلسفة وهو ما بعد الأخلاق‬ ‫والفلسفة مآلها الفقه إلهيات عقلية غاية لميتافيزيقا أرسطو‪.‬‬‫يمكن القول إننا إلى حد الآن لم نتجاوز ما يمكن للقارئ الحائز على ثقافة فلسفية عادية‬ ‫أن يتابعه دون معيقات جدية للفهم‪ .‬لكننا سنمر إلى هو أشد عسرا‪.‬‬ ‫‪117 83‬‬

‫نمر إلى الأسئلة الخمسة التي طرحناها في غاية الفصل السابع‪ :‬فهي تنطلق من طلب العلم‬ ‫الرئيس الأسمى الذي لم يطلب سابقا من الفقه بمعناه الأشمل‪.‬‬‫وهذا العلم الرئيس هو موضوع الفصل التاسع إنه أصل الفروع الأربعة التي تكلمنا عليها‬ ‫أي تفسير القرآن الكريم‪ :‬العلم الرئيس الأسمى هو تفسير القرآن‪.‬‬‫لكن الوصول إليه يقتضي الجواب الدقيق على أسئلتنا الخمسة التي عرضناها في الفصل‬ ‫السابع المخصص للفقه ولعلل تقزيمه وشروط شموله الاجتهادات الخمسة‪.‬‬ ‫الأسئلة‪:‬‬ ‫‪-1‬ما طبيعة علم الطبائع وما بعده؟‬ ‫‪-2‬ما طبيعة علم الشرائع وما بعده؟‬ ‫‪-3‬ما طبيعة علم الذرائع وما بعده؟‬ ‫‪-4‬ماطبعية علم البدائع وما بعده؟‬ ‫‪-5‬ما طبيعة علم الروائع وما بعده؟‬‫وهذا المجال الأخير غير مفهوم بحق‪ .‬وعلينا البدء به وقد اخترت اسم الروائع بمعنيي‬ ‫\"راع\" أي الرائع والمريع‪.‬‬‫فلا يمكن فهم الدين والفلسفة باعتبارهما فعلين إنسانيين يحددان طبيعة علاقة الإنسان‬‫بذاته وبالكون وبما وراءهما من دون هذين الشعورين‪ :‬من دون شعوري الجمال والجلال‪.‬‬‫والشعور بالروعة من الجمال وهو لا يحصل من دون الجمع بين مفهومين يبدوان متناقضين‬ ‫لكنهما يحققان الجمال بما بينهما من تناغم‪ :‬تناغم وحدة المتعدد‪.‬‬‫والشعور الجمالي بروعة الانغومة الوجودية لحظات آفلة بسرعة يتخللها حركية تولد‬ ‫الشعور الجلالي بالمريع لما فيها من فوضى السيلان الأبدي الرهيب‪.‬‬‫ويكفي قراءة ما يحصل في العالم في لحظة النهاية والانتقال من الدنيا إلى الآخرة كما‬‫يصفها القرآن الكريم‪ .‬فكل شيء فيها عجيب وجليل ورهيب‪ .‬فالشمس تكور والنجوم‬ ‫‪117 84‬‬

‫تنكدر‪ .‬والجبال تسير‪ .‬والعشار تعطل‪ .‬والوحوش تحشر‪ .‬والنفوس تزوج‪ .‬والموءودة‬ ‫تسأل إلخ‪...‬فتمتزج السماوات والبحار والجبال والمقابر يوم البعث‪.‬‬‫ويزول الفرق بين الطبائع والشرائع والذرائع والبدائع والروائع‪ .‬كل شيء تنقلب قوانينه‬ ‫فيصبح في سيلان وموران لا يتوقفان‪.‬‬‫يوم الحشر تزول فيه الفواصل بين الدنيوي والأخروي وبين الطبيعي والتاريخي‪ .‬إنه‬ ‫مشهد رائع ومريع جميل وجليل جاذب ودافع محبوب ومكروه مرغوب فيه ومرغوب عنه‪.‬‬‫كل ذلك في نفي تام لقوانين الطبيعة وسنن التاريخ وكل ما اعتيد من نظام العالم‪ .‬ومن‬‫أراد أن يفهم بيسر هذا التوالج بين الروعة والروح بين الجمال والجلال فليقرأ اسماء الله‬‫الحسنى‪ :‬فلا شيء رائع ومريع أكثر من تلقيب الله لنفسه بأسمائه الحسنى‪ .‬إنها أسماء‬ ‫الرائع والمريع القريب والبعيد الرحيم وشديد القاب‪.‬‬‫والجمالي والجلالي شعوران يتواليان أو يتوالجان فيحصل الشعور الديني الحقيقي الذي‬ ‫يضع الأسئلة الوجودية المطلقة وأسئلتنا هذه ترجمة معرفية لها‪.‬‬‫وفيها معنيا الخشية‪ :‬الرائع والمريع‪ .‬فـ\"إنما يخشى اللهَ (اللهُ) العلما ُء (العلماءَ)\" فالمعنى‬ ‫الأول هو خلف العلماء والمعنى الثاني هو احترام الله للعلماء‪.‬‬‫ومن يقرأ القرآن ولم يشعر بالرهبة الجامعة بين الروعة والروع ليس جديرا بقراءته لأن‬ ‫المعجز في القرآن هو هذه الفاعلية القرآنية في إيقاظ الروح‪.‬‬‫ويقظة الروح هي هذا الشعور المزيج الذي هو شعور المهابة الجامعة بين الرهبة والمحبة لأن‬ ‫الأول هو الشعور بالجلال والثاني هو الشعور بالجمال‪.‬‬‫ومن هذين الشعورين تنتج اليقظة الروحية التي هي الشعور بالسؤال بمعنيي الكلمة‪:‬‬ ‫فالسائل هو صاحب الحاجة وهنا الحاجة فقر وجودي واشرئباب خلقي‪.‬‬‫والحاجة من حيث هي فقر وجودي ذات دلالة روحية تتعلق باشرئباب الحياة إلى الخلود‬ ‫ومن حيث هي اشرئباب خلقي هي السؤال المعرفي نظريا وعمليا‪.‬‬ ‫‪117 85‬‬

‫فإذا تقدم السؤال العملي على السؤال النظري كنا في أسلوب السؤال الديني وإذا تقدم‬‫النظري على العملي كنا في أسلوب السؤال الفلسفي‪ :‬والأول هو سؤال الفعل والثاني هو‬ ‫سؤال المفعول‪.‬‬‫ولعل أبرز حجة يمكن استمدادها من تاريخ الفلسفة هو نظرية الرب الأرسطية‪ :‬فهو لا‬‫يفعل بل الأشياء التي تنجذب بكماله العقلي والخلقي شوقا لصورته تتغير لتكتمل صورتها‬ ‫الموجودة بالقوة في مادتها‪.‬‬‫إنه محرك لا يتحرك‪ :‬ويشبه العلة الغائية المحركة لما عداها وهي ساكنة بلا حركة ولا فعل‬‫رغم أنها الفعل المطلق‪ :‬كموضوع وليس كذات لأنه ليس ذاتا وإن كان يعلم ذاته ولا يعلم‬ ‫شيئا عداها لعدم جدارة أي شيء بعلمه‪.‬‬‫ومن ثم فكل الموجودات لا تفعل بل تنفعل وهي طبائع بما في ذلك الشرائع عند الإنسان‬‫فهي ترد إلى الطبائع ولذلك فالتاريخ من السيلان الذي لا يعلم أو يرد إلى دورة الكون‬ ‫والفساد التي تشبه العود الأبدي‪.‬‬‫ونظرة أفلاطون لا تختلف عن نظرة أرسطو‪ :‬كلاهما لا يعترف بالتاريخ بل يرده إلى العود‬ ‫الأبدي الذي لا يتجاوز ما هو مكتوب في الطبائع المنفعلة بالصورة التي وصفت‪.‬‬‫إذ حتى الإله الصانع ‪-‬ديميورج‪-‬فهو محاك وليس مبدعا‪ .‬وهو منفعل بالمثل وليس فاعلا‬‫بعلمه‪ .‬ومن ثم فأساس هذه الفلسفة هو موضوع الفعل أو المفعول وليس ذات الفاعل أو‬ ‫الفعل‪.‬‬‫لكن الصورة الإسلامية لله تجعله مبدع الفاعل والمفعول والفعل والانفعال‪ .‬فهو بارئ كل‬ ‫شيء بفاعلية معرفية ووجودية وبإرادة حرة وقدرة لا متناهية‪.‬‬‫أما خرافة أن ذلك مجرد أسقاط لنظرية الحاكم المستبد فهي من علامات سخف القائلين بها‬‫‪ :‬ذلك أن هذا المفهوم هو بالذات ما به يستثنى مثل هذا التصور لأي حاكم له هذه الصفات‬ ‫ومجرد ادعاؤه ذلك يعتبر كفرا‪ .‬فهو الخالق‪ :‬والخالق هو الله وحده‪.‬‬ ‫‪117 86‬‬

‫وسؤال الفعل هو سؤال فقه الشرائع‪ .‬سؤال المفعول هو سؤال فلسفة الطبائع‪ .‬ويحتاج‬‫السؤالان لسؤال الذرائع أو العلوم الأدوات ولسؤال البدائع‪ :‬وصل مجالات الأسئلة‬ ‫الخمسة‪.‬‬‫وسؤال البدائع يمكن أن يكون مصدر الإبداع أو مصدر البدع‪ .‬ومن هنا تكلمنا على العلوم‬ ‫الزائفة التي هي مصدر البدع والعلوم الحقيقة التي هي مصدر الإبداع‪.‬‬‫وبذلك نصل إلى السؤال الرئيس‪ :‬أي السؤال الذي بدأنا الكلام به أعني سؤال الروائع‪.‬‬ ‫كيف نفهم الرائع والمريع هل نكتفي بالموجود دون منشود؟‬ ‫وهل نفترض وجود واجد يكون أصلا للرائع والمريع؟‬‫إذا افترضنا وجوده ألا نقع فيما يشبه التمانع‪ :‬فإما الله أو الإنسان؟ الفقه يبدأ بالله‬ ‫والفلسفة تبدأ بالإنسان‪.‬‬‫في الحقيقة القائل الله‪ :‬ينتهي عادة إلى الإنسان‪ .‬والقائل الإنسان‪ :‬ينتهي عادة إلى الله‪.‬‬ ‫وذانك هما قطبا المغنطيس الفكري في الدين والفلسفة معا‪.‬‬‫وهنا لا بد أن اعترف للقارئ بأني لا أدري هل أنا بصدد الكلام على حقيقة الدين والفلسفة‬ ‫أم على تجربتي الشخصية فيما عشته من حيرة بينهما‪.‬‬‫وما أظن أنه يوجد فكر صادق لا يختلط فيه التجربة الروحية الذاتية والتجربة المعرفية‬ ‫الكونية بعلاج الإنسانية للعلاقة بين الديني والفلسفي عامة‪.‬‬‫فمن يدعي أنه يكتفي بالفلسفة أو يكتفي بالدين يمكن أن نعتبره بمصطلح ابن تيمية لم‬ ‫يتجاوز النصفية ولكن النصفية في التجربتين وليس في مجال معين منهما‪.‬‬‫لذلك لم أرتح إلا بعد أن أتممت ما وعدت به نفسي في صغري لأدرك حقيقة عظمة‬ ‫الإسلام‪ :‬أن أترجم كتاب هيجل في فلسفة الدين وقد تم ذلك بعون الله‪.‬‬‫فبترجمته تأكد لي ما كنت أحدسه‪-‬مع حذر من أن يكون مجرد موروث عن تربية عقدية‪-‬‬ ‫أن القرآن فعلا خطاب كوني فيه الديني بما هو هذا الفقه الشامل‪.‬‬ ‫‪117 87‬‬

‫فرغم أن دروس هيجل قد تجاوزتها اليوم المعرفة بالأديان فهو تجاوز معرفي الاُنتيكي لا‬‫الأُنطولوجي في الديني وإذن فهو قليل الدلالة في مسألتي ولا يحد من الصورة التي أريد‬ ‫رسمها من تطور المعرفة الفلسفية بالديني‪.‬‬‫فالفلسفة بمعناها التقليدي ‪-‬منظومة نسقية تشمل نظام المعارف الإنسانية ورمزها في‬ ‫بدايتها القديمة منظومة أرسطو وفي نهايتها الحديثة منظومة هيجل‪.‬‬‫فهي بدأت مع زوجين يونانيين هما أفلاطون وتلميذه وناقده أرسطو‪ .‬وانتهت مع زوجين‬‫ألمانيين هما كنط وتلميذه وناقده هيجل‪ .‬لم توجد بشكلها هذا قبل الأولين ولا بعد‬ ‫الأخيرين‪.‬‬‫بدأت درس الفلسفة بالأولين وختمته بالأخيرين فلم أجد ما يتجاوز الأولين والأخيرين‪.‬‬‫لكن المدرسة الفلسفية النقدية العربية مستثناة من هذا المسار وهي توضح ما أعرضه هنا‬ ‫لأنها لا تنتسب إلى أي منهما‪.‬‬‫ويمكن القول إن ما قبل البداية وما بعد الغاية كان نوعا من الفكر لم يتحدد بالصورة التي‬‫امتازت بها المدرستان الأفلاطونية الأرسطية والكنطية الهيجلية بل هما أقرب إلى المدرسة‬ ‫النقدية العربية‪.‬‬‫ولا يعني ذلك أن الفكر الإنساني قد نكص إلى ما دون المدرستين التقليديتين القديمة‬ ‫والحديثة بل هو تجاوزهما فيما بعدهما الذي له وجه شبه بما قبلهما‪.‬‬‫ولم يكن ذلك بالعودة إلى ما قبلهما بل بتعديلهما تعديلا لا يلغي ما ألغياه فيما تصوراه‬‫تجاوزا للما قبل فإذا المابعد يبين ضرورته وبه تحرر الفكر الإنساني من النسقية الزائفة‪.‬‬‫ولعل أهم تعديل هو تجاوز الانغلاق النسقي والكمال الزائف للنظر والعمل اللذين هما‬‫بالجوهر مطلقي اللاكمال وكل نسقية فيهما اصطناعية يمكن أن تقبل منهجيا لكنها لا تمثل‬ ‫حقيقة عليمة ولا خلقية‪.‬‬ ‫‪117 88‬‬

‫لست مغرما بالسجع ولم اختر أسماء العلوم حبا فيه‪ :‬بل لأن الثلاثة الأولى موجودة سابقا‬‫‪-‬الطبائع والشرائع والذرائع‪ .‬واكتفيت بمطابقة الاسم لحقيقة المسمى في البدائع‬ ‫والروائع‪.‬‬‫فما يصل بين هذه العلوم ليس ظاهرات طبيعية ولا هو ظاهرات شريعية ولا هو ظاهرات‬ ‫ذريعية بل هو إبداعات خيالية وظيفتها تحديد شروط الجسر بينها‪.‬‬‫واخترت روائع بسبب ما بينت في كلامـي على الرائع والمريع‪ .‬ولا أحتاج لمزيد شرح‪ .‬ومن‬ ‫ثم فالتسميات ليست تحمية بل هي تكاد تكون تعريفية تبين حد المسمى‪.‬‬‫ولنعلل التسيمة بالبدائع‪ .‬فهي نوعان‪ .‬إذا كان الجسر مبدعا لسردية محفزة للعلوم كانت‬‫بدائع بالمعنى الإيجابي‪ .‬وإذا كان مثبطا لها كانت بدعا بالمعنى السلبي‪ .‬لذلك اخترت‬ ‫بدائع‪.‬‬‫فلنختم بالكلام على تعريف الفلسفة لمنظومتها النظرية والعملية وهي محاولة لم تتجاوز‬‫صيغتين يونانية وألمانية أولاهما سيطرة على الفلسفة القديمة والوسيطة والثانية على‬ ‫الـحديثة والمعاصرة‪.‬‬‫ومما ينكره أدعياء الحداثة العرب‪-‬ومن البديهي أن يبدو انكارهم محقا‪ -‬هو دعواي أن‬‫المدرسة النقدية العربية (الغزالي وابن تيمية وابن خلدون) مستثناة من هذين المنظومتين‬ ‫وأنها قد تجاوزت التحديد اليوناني والألماني‪.‬‬‫ذلك أنه من المفارقة أن يدعي الواحد أن السابق قد تجاوز اللاحق لفرط اخضاع تاريخ‬‫المعرفة للترتيب الزماني‪ :‬فيمكن أن يقبل المرء أن تتجاوز المدرسة النقدية العربية‬‫المنظومة المتقدمة عليها بالزمان‪ .‬لكن هل يعقل أن تعتبر قد تجاوزت المنظومة المتأخرة‬ ‫عنهم بالزمان؟‬ ‫‪117 89‬‬

‫هذه بدعة يتهمني بها الكثير بدعوى أني \"وهابي\" أو \"إسلاموي\" أو الخ‪ ..‬وهو هراء لا‬‫يزعجني لسخف أصحابه‪ :‬فلا أحد ممن تلا ابن تيمية ينتسب إلى فكره وخاصة من الوهابية‬ ‫أو السلفية الحاليتين‪.‬‬‫أما تجاوز الزوج الثاني كنط وهيجل فقد حصل باعترافهما‪ :‬فقد أثبتا فلسفيا عدم كفاية‬ ‫الفلسفة بمعناها التقليدي وحاولا ما تقدمت إليه المدرسة النقدية‪.‬‬‫ومحاولتهما أنهت الفلسفة التقليدية ولم تستطع تأسيس فلسفة معاصرة ذات نسقية‪ .‬وهو‬ ‫ما تحقق بتجاوز نقدي لهما فيما بعد الشرائع وما بعد الذرائع‪.‬‬‫أما محاولة المدرسة النقدية العربية فهي مضاعفة‪ .‬فما بعد الشرائع أسميه التأسيس‬‫الخلدوني لفلسفة العمل والتاريخ‪ .‬وما بعد الذرائع أسميه التأسيس التيمي لفلسفة النظر‬ ‫والدين‪.‬‬‫ولا تهم حصيلة التأسيسين المضمونية التي الكثير منها لم يعد مناسبا للعصر‪ .‬المهم إدراك‬‫الحاجة للتأسيسين المتجاوزين للقديم والحديث‪ .‬المهم تقديم محاولة يمكن أن نتجاوز‬ ‫مضمونها لكن حقيقتها تبقى صالحة بتطوير المضمون‪.‬‬‫وحتى المضمون المقترح من ابن تيمية في النظري والديني ومن ابن خلدون في العملي‬ ‫والتاريخي فهو أفضل مما اقترحه كنط وهيجل وقد بيناه في غير موضع‪.‬‬‫فلنورد الآن التحديدين اليوناني والألماني ومحاولة المدرسة النقدية بإيجاز ولنترك الحكم‬ ‫للقارئ من خلال مقارنة سريعة لهذه المحاولات في ضوء الحاضر الفلسفي‪.‬‬‫وقبل ذلك فلأورد مثالين من النقلة التي حدثت في المدرسة النقدية العربية والتي هي سر‬ ‫فكر كنط وفكر هيجل أعني المقولات الكنطية وظاهراتية الروح الهيجلية‪.‬‬‫فالفرق الجوهري الأول هو الفرق بين مقولات أرسطو ومقولات كنط يتمثل في أن الأولى‬ ‫تنطلق من المعقولية أو موضوعات العقل والثانية من العاقلية أو فاعليات العقل‪.‬‬ ‫‪117 90‬‬

‫والفرق الجوهري الثاني هو الفرق بين المعقول الأفلاطوني والمعقول الهيجلي ويتمثل في‬‫أن تجربة الروح ‪ Phänomenologie des Geistes-‬هي حصيلة تجربته بالأساس روحية أي‬ ‫معرفية ودينية في إطار السياسي والاجتماعي‪.‬‬‫وقد بينت أن العلاقة بين ابن تيمية وابن خلدون عكس العلاقة بين افلاطون وأرسطو وهي‬ ‫معكوسة لقرب ابن خلدون من الأول ولقرب ابن تيمية من أرسطو‪.‬‬‫واقصد أن تقديم العمل والشرائع على النظر والطبائع خلدوني وأفلاطوني وتقديم النظر‬ ‫والطبائع على العمل والشرائع أرسطي وتيمي‪.‬‬ ‫لكن التقديم مختلف‪.‬‬‫ذلك أن الطبائع والشرائع عند الزوجين العربيين غير الطبائع والشرائع عند الزوجين‬ ‫اليونانيين‪ .‬والسبب هو نظرية المعرفة بالمطابقة أو بدونها‪.‬‬‫أفلاطون وأرسطو يقولان بنظرية المطابقة‪ :‬الوجود مطلق الشفافية للعقل عملا بمبدأ‬ ‫بارمينيدس (الشذرة الخامسة) وابن تيمية وابن خلدون يؤمنان بالغيب‪.‬‬‫والإيمان بالغيب فلسفيا يعني أن الوجود غير شفاف وأنه لا يرد إلى الإدراك ومن ثم‬ ‫فالعلم الإنساني ليس علما مطابقا للوجود بل هو تشريع ناقص‪.‬‬‫هذا التشريع الناقص هو جوهر نظرية المعرفة لدى الزوجين الألمانيين كنط وهيجل ومدار‬‫خلافهما‪ :‬كنط يعتبره ناقصا (لا يعلم العقل إلا الظواهر) بإطلاق وهيجل يعتبر ناقصا‬ ‫تاريخيا (العقل يعلم الوجود على ما هو عليه في نهاية تطوره)‪.‬‬‫والعيب الكنطي يتمثل في دعوى ذات مرجعية دينية غير صريحة‪ .‬والعيب الهيجلي يتمثل‬‫في اعتبار النقص المعرفي غير جوهري بل هو إضافي إلى التطور التاريخي‪ .‬وهذا سر نظرية‬ ‫هيجل في أرواح الشعوب‪.‬‬‫وهو ما يترتب عليه نظرية عنصرية في التفاضل بين الشعوب بمدى بلوغ روحها للروح الأتم‬‫الذي يحدده هيجل بكونه روح الحضارة المسيحية التي بها اكتمل التاريخ ومن هم دون‬ ‫ذلك ليسوا بشرا إلا بالقوة‪.‬‬ ‫‪117 91‬‬

‫ما به تجاوزت المدرسة النقدية الزوجين الألمانيين هو التحرر من عيب الحل الكنطي (اخفاء‬ ‫المرجعية الدينـية) ومن عيب الحل الهيجلي (رد النقص للتاريخ)‪.‬‬‫المدرسة النقدية عالجت قضية ما بعد النظر والعقد (ابن تيمية) وما بعد العمل والشرع‬ ‫(ابن خلدون) بمنظور فلسفي لا يخفي دور الدين ولا يطلق دور التاريخ‪.‬‬‫قدمنا الكلام في حل المدرسة النقدية العربية المتجاوز للتحديدين القديم والحديث‪.‬‬‫فلنختم الآن بذكر سريع للحلين القديم والحديث‪ :‬كيف ينتظم مجال الفلسفة النظري‬ ‫والعملي قديما وحديثا‪.‬‬‫وقبل ذلك ما معنى إطلاق هيجل للتاريخ؟ لا أعني حديث لتاريخ بل حدثه‪ .‬فعنده أن‬‫الوجود الخيالي هو الموجود من ذاك الجانب (ينزايت) والوجود الحقيقي هو الموجود من‬ ‫هذا الجانب (ديسزايت)‪.‬‬‫فهذا الجانب (ديسزايت) وذاك الجانب (ينزايت) يعني الآخرة والدنيا المتساوقين وليس‬ ‫المتواليين أحدهما خيالي والثاني حقيقي وأن التاريخ لا وراء له‪.‬‬‫ولذلك فكل الماركسيين العرب الذين يتوهمون فيصدقون ما يقوله ماركس في دعواه قلب‬‫هيجل وجعله يمشي على رجليه بدل رأسه هم الذين يمشون مقلوبي العقل والوجدان‬ ‫لغبائهم‪.‬‬‫ماركس لم يتجاوز هيجل إلا بوهم مقابلة بين مادة غير مادة ردا للثاني إلى الاول وهو‬ ‫تناقض لأنها تتنافى مع القول بالجدل وإذن فهي عين الوهم حتى وإن ادعاها ماركس‪.‬‬‫المنظومة اليونانية‪ :‬ثالوثان‪ :‬الأول نظري هو الطبيعيات والرياضيات وما بعد الطبيعة‪.‬‬ ‫والثاني عملي هو الأخلاقيات والاقتصاديات والسياسيات‪.‬‬‫وكلاهما لا يعتبران علمين بل هما أعداد منهجي للمتعلم في قوانين صورة المعرفة وفي قوانين‬ ‫مادة المعرفة والأولى استنتاجية للأفكار والثانية استقرائية للمعطيات المضمونية‪.‬‬‫التاريخ ليس علم التاريخ بمعناه الحال هو جمع معلومات حول موضوع من التجربة‬ ‫الخارجية‪ :‬اعتبار المعطيات أحداث أو وقائع تجمع تم تصور منطقيا‪.‬‬ ‫‪117 92‬‬

‫وتصنيف العلوم الفلسفية هذا بقي ثابتا تقريبا إلى بداية الفلسفة الحديثة ويمكن الرمز‬ ‫للقطيعة بما يسمى شجرة المعرفة الديكارتية لكن البديل تأخر إلى القرن الثامن عشر‪.‬‬‫ويمكن الإشارة إلى أن النقلة من القديم إلى الحديث لا يمكن فهمها إلا بدور الفلسفة‬ ‫العربية غير النقدية وخاصة بان سينا والغزالي السينوي‪.‬‬ ‫لماذا ميزت بين الفلسفة العربية النقدية وغير النقدية؟‬‫لأني اقصد بالأولى التي بقيت في نفس البارادايم وبالثانية التي خرجت منه كما وصفت‪.‬‬‫يمكن القول إن التصنيف الثاني في الفلسفة الغربية الحديثة هو توضيح محاولة ابن سينا‬ ‫ومن بعده الغزالي تنظيم كتاب ما بعد الطبيعة الأرسطي‪.‬‬‫وللتبسيط فإن ما حدث عند كريستيان فولف (تلميذ لايبنتس فلسفيا) صاحب التصنيف‬‫البديل من تصنيف أرسطو ليس إلا ترجمة شبه حرفية لما حققته موسوعة الشفاء من تنظيم‬ ‫لموضوعات الفلسفة‪.‬‬‫صنف فولف في القرن الثامن عشر موضوعات الفلسفة إلى اربعة هي‪ :‬الأنطولوجيا العامة‬ ‫(ابن سينا) والانطلوجيات الخاصة ثلاث وندين بها للغزالي‪.‬‬‫والأنطولوجيات الخاصة هي‪ :‬علم الله (ثيولوجيا) وعلم العالم (كوسمولوجيا) وعلم‬‫الإنسان (انثروبولوجيا)‪ .‬والغزالي في التهافت اتبع هذه الخطة للتشكيك في علمية‬ ‫الميتافيزيقا‪.‬‬‫لكن التصنيفين القديم والحديث كلاهما انقرض بعد كنط وهيجل‪ .‬وعدنا لما انتهت إليه‬ ‫المدرسة النقدية العربية‪ :‬ما وراء الشرائع وما وراء الطبائع‪.‬‬‫أمسك الزمام‪ .‬فقد وصلت إلى الغاية التي ستكون موضوع الفصل التاسع‪ :‬تفسير القرآن‬ ‫الكريم اي ما بعد الروائع والبدائع والذرائع والشرائع والطبائع‪.‬‬ ‫‪117 93‬‬

‫وصلنا إلى أصل الفروع الأربعة التي درسناها ودرسنا تزييفها في الفصول السابقة‪.‬‬ ‫إنه ما بعد الأخلاق أو تفسير القرآن الكريم الذي هو المرجعية الأصلية الوحيدة‪.‬‬‫ومعنى كونه مرجعية أصلية وحيدة يفيد أن السنة تستند إلى القرآن مرجعية لها إما‬ ‫موضوعا لتعليمها أو أساسا لتعيين مبادئها العامة بالممارسة لاستحالة غيرها‪.‬‬‫ومن ثم فكل قرآني سخيف لأنه كمن يريد أن يستغني عن أفضل مفسر ومعلم القرآن نفسه‬‫اعتبره كذلك وليس مجرد ناقل للوحي‪ \" :‬وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث‬ ‫ونزلناه تنزيلا\"(الإسراء ‪.)106‬‬‫والسنة مرجعية بهذا المعنى الذي لا غناء عنه كما سنحاول بيان طبيعة دورها في علم ما‬ ‫بعد الأخلاق الذي هو جوهر الرسالة القرآنية أصلا لكل ما وصفنا في الفصول السابقة‪.‬‬‫ولنبدأ بالحيرة التي يجد المرء نفسه أمامها كلما حاول أن يتكلم في القرآن الكريم حتى لو‬ ‫كان لا يؤمن به‪-‬إذ حتى أعداؤه تعتورهم هذه الحيرة فيه‪.‬‬‫وأفضل طريقة لبيان طبيعة هذه الحيرة الانطلاق من موقف من لا يؤمن به حتى نتجنب‬‫الاعتراض الذي لخصه المعري بزعمه أن أثر القرآن يعود للعادة والتعليم والسماع المتكرر‪.‬‬‫فتوهم أن شعره لو صار الغذاء اليومي لشعب لحصل على نفس التأثير ولكان من جنس‬‫القرآن‪ .‬ذكرت هذه الحجة لأنها تقريبا الحجة الأساسية لجل المشككين في مصدر القرآن‬ ‫الإلهي‪.‬‬‫لكني ذكرتها خاصة لأن الحقيقة هي العكس تماما مما يتصوره المعري‪ .‬ومعنى ذلك أن العادة‬‫عند فاقدي الذوق والرهافة هي التي تغيب ما في القرآن من محير والأثر الأول الذي يولد‬ ‫الاندهاش الفلسفي‪.‬‬ ‫‪117 94‬‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook