وختاما فإن البحث سيخصص لكل علم من العلوم الخمسة فصلا ،ويختم بفصل جامع لتكون فصول المسألة عشرة إن وفقنا الله في الذهاب بالعلاج إلى غايته. والفصول الموالية هي:والفصل الخاتم يتعلق بمعنى استرداد سلطان الأمة على الآفاق وعلى الأنفس ،أي القدرة الإبداعية في العلم بقوانين العلوم الطبيعية ،وفي العلم بقوانين العلوم الإنسانية.وتلك هي أدوات الحرب اللطيفة التي يمكن أن تغني عن الحرب العنيفة ،أو إن حصلت، تكون ضامنة لشروط النصر الذي لدور الإنسان والباقي من الله وحده.وإذا كان الكلام والتصوف علمين زائفين ،فهما يزيفان علمين حقيقيين هما ما قضيا عليه: أي فلسفة التاريخ وفلسفة الدين .فالكلام والتصوف ألغياهما.وإذن فالبحث يعالج الفلسفة (ومعها علوم الطبيعة) والفقه (ومعه علوم الشريعة أو الأنظمة السياسية والقانونية) ويحيي فلسفة الدين وفلسفة التاريخ. ماذا يعني احياء فلسفة الدين وفلسفة التاريخ؟اعتبار الكلام والتصوف علمين مزيفين يعني أن الأول تحريف لفلسفة الدين ،والثاني لفلسفة التاريخ.فعندما يعرف المتكلم علمه بكونه دفاعا عن العقيدة بالعقل ،يخفي كذبة لا يصدقها عاقل. لوكان الإيمان يقبل التأسيس العقلي لاستغنينا عنه وعن الوحي.وفي الحقيقة هو لا يدافع عن الدين ،بل عن مذهب يدعي احتكار فهم الدين .كل مدرسة كلامية تدعي أنها الفرقة الناجية ،ومن ثم فهي بالجوهر طائفية.الكلام أصل للحروب الدينية وليس علما للأديان .وذلك ما ينبغي أن نتحرر منه لنؤسس فلسفة الدين التي هي منطلق كل محاولة لعلم الأديان الكوني. 117 45
والتصوف تحريف لفلسفة التاريخ ،لأنه يدعي الوصول إلى الاستخلاف في الأرض من دون الاستعمار فيها ،بل يعتبر الأول مشروطا بالتخلص من الثاني :كذبة كبرى.فهو نفي الاستعمار في الأرض (موضوع فلسفة التاريخ) بفهم زائف للاستخلاف فيها (موضوع ما وراء التاريخ) وهو مناف لفلسفة الإسلام التاريخية. 117 46
وعدت في نهاية الفصل الرابع: والتحير في بداية الفصل الخامس هو بأيها نبدأ؟إذا بدأنا بالفلسفة والفقه ،فقد لا نرى فيهما أثر العلمين الزائفين وتغييبهما لفلسفة الدين وفلسفة التاريخ.وإذن ،فالبداية ينبغي أن تكون بالعلمين الزائفين ،وأثرهما ،وأثر تغييب الفلسفتينالدينية والتاريخية على الفلسفة والفقه ،اللذين هما رأس علوم الطبيعة وعلوم الإنسان.الفصل الخامس نخصصه إذن إلى علم الكلام ،بوصفه علما زائفا حال دون وصول الفكر الإسلامي إلى فلسفة الدين من حيث هو ظاهرة كونية وليس طائفة مذهبية.فأهم ما يتميز به القرآن الكريم ،مرجعية الإسلام الأولى ،هو اعتبار الدين ظاهرة كونية وحقيقة منغرسة في الفطرة ،وهي واحدة عقدا ،وإن تعددت شرعا.وما كان هذا تصوره للدين ليس دينا من بين الأديان ،بل هو الديني في كل دين ،ومن ثم فهو من البداية تأسيس لفلسفة الدين بما هو ظاهرة كونية متطورة.والمشكل هو ،كيف نصل من البحث في الأديان المختلفة طلبا للديني فيها ،كما نبحث مثلا في الأحياء طلبا للحي فيها ،انتقالا من وصفها وتنوعها إلى قوانين الحياة الواحدة.ولنضرب مثالا آخر أوضح لأنه من الإنسانيات :كيف ننتقل من علوم النحو للغات المختلفة، إلى علم اللسانيات؟ أي من قواعد لغة معينة إلى قوانين اللساني عامة؟ 117 47
مشكل علم الكلام هو أنه بدلا من أن ينتقل من الدين إلى الديني عامة ،عاد منه إلىالطائفي في نفس الدين .وبدلا من الصعود إلى وحدة الجنس ،نزل إلى ما دون الوحدة العددية.فعندما يكون القصد البحث في الديني في الأديان ،نصعد إلى درجة ليس المطلوب فيها طلب المفاضلة بينها ،كما لا نفاضل بين الأحياء من حيث هي منتسبة إلى الحي.المفاضلة حينها لا تكون بينها من حيث الديني فيها ،بل من حيث أداؤها لوظائفه ،فيكون الأمر متعلقا بما يشبه اختلاف الأعضاء في تطور الحيوانات ،وليس بوحدة الوظائف.ومثلما أن علم اللسان لا يفاضل بين الألسن من حيث الوظائف ،ولكن يمكن أن يفاضل بينأعضائها ،التي هي ما ينتج عن استعمال متكلميها لوظائفها ،الاستعمال الذي ينمي الأعضاء.وفي مثالنا ،فالوظائف هي للديني من حيث هو ديني ،أما الأعضاء فهي لهذه العلوم الخمسة التي يستمدها المتدينون بالدين لسد حاجاتهم بمقتضى وظائف الديني في دينهم. لعل الفكرة شديدة التجريد .لكنها من أهم أسس الإسلام.ولنضرب مثال الحريتين اللتين هما شرطا التكليف .فالحرية الروحية والحرية السياسية. كيف صنع لهما المسلمون أعضاء تحققهما كوظيفتين للديني؟ماذا صنع المسلمون خلال التعامل مع هذين الوظيفتين من الأعضاء ،التي تقوم بهما حتى يتحقق الديني في دينهم بحسب الحاجة ،تكيفا للوظيفي بالعضوي؟المثال الثاني ،اللغة العربية بما هي لسان ،لها ككل اللغات نفس الوظائف .فكيف أمكن لأمة لم تكد تخرج من البداوة ،أن تجعلها تعبر عن علوم اليونان مثلا؟مشكل علم الكلام هو هذا :لم ينتقل من الدين إلى الديني في الدين ،كما انتقل علماءالعربية من اللسان العربي إلى اللساني في العربية ،ليبدعوا جملة من الأعضاء تجلها تصبح لغة العلم.لا أنفي أن بعض المتكلمين اقترب من مقارنة الأديان وتقدم فيها ،إلى ما يمكن اعتباره وعيا بما يشبه الديني في الأديان ،كما فعل البيروني في درسه أديان الهند. 117 48
لكن فكرة الديني كديني بقيت غائـمة رغم كونها قرآنية .فلم يقع التمييز بين الإسلام من حيث هو الديني في الأديان ،والإسلام من حيث دين المسلمين الفعليين.والمعلوم أن القرآن يطبق المعنى الأول للإسلام على ماضي الإنسانية ومستقبلها .فما الذينتج عن هذا الأمر الذي ألغى كل إمكانية لتأسيس فلسفة الدين ،التي هي جوهر القرآن، والتي بغيابها تحول علم الكلام على علم زائف فجر الأمة. الكلام علم زائف لأنه يدعي علم ما لا يعلم بالجوهر ،ويهمل ما يعلم بالجوهر.ولذلك فكل ما يصل إليه المتكلمون هو إما اقوال سلبية ،مثل التعطيل ،أو مجازفات وخرافات ترجم بالغيب.وبلغ الأمر إلى أن أصبح لكل مدرسة عقيدة خاصة بها وادعاء أنها عقيدة الفرقة الناجية،واتهام المذاهب الأخرى بانها فرق ضالة .وذلك هو القصد بابتغاء الفتنة :آل عمران .7فكتاب الأشعري على الإسلاميين مثلا ،كان عرضا يحصي للفرق دون أن يبدع أو يمرق أويكفر أحدا .كان هدفه الحصر والاستقراء الذي كان يمكن أن يكون بداية لتجريد لاحق.لكن الكلام سرعان ما أصبح عملا يؤسس لـمنظومات عقدية متنافية فيما بينها ،حول ما لا يمكن أن تكون معرفته علمية بمقتضى الحد :الذات والصفات وأحوال الآخرة.ما سنبينه من أضرار العلم الزائف ،لم ينتظرنا لتعلمه السنة بصنفيها التي استعملت الكلام، وانتهت في الغاية إلى التبرؤ منه ،والتي رفضته من البداية.وهذه الأضرار صنفان :صنف يعود إلى ما فعله ،وصنف يعود إلى ما حال دون وجوده ،أي إمكانية الكلام التاريخي ،الذي هو جزء لا يتجزأ من فلسفة الدين.وعلم الأديان التاريخي مقدمة لفلسفة الدين أو لعلم الديني الكلي ،وكلام القرآن مليء به مثلما أن علم اللغات التاريخي مقدمة لعلم اللسان الكلي.ولو تم ذلك ،لكانت الآيات القرآنية التي تحدد الديني في الأديان ،ولا تلتفت لاختلافاتها العرضية ،هي التي تحتل الصدارة في علم الكلام النصي والتاريخي. 117 49
وهذه الآيات الكثيرة في القرآن الكريم ،والمحددة للديني في كل الأديان التي يستعرضها، تلخصها سورة العصر بالمقومات الخمسة للديني في كل الأديان.فهي تتكلم على الإنسان عامة ،وليس على المسلم بالمعنى الجزئي ،أي على المسلم بالمعنى الكوني وهو الإنسان ،فتحدد عناصره الخمسة ،وأصلها الاستثناء من الخسر.وإرادة الاستثناء من الخسر ،تنتج عن شعور الإنسان بأمرين متعارضين ،هما التقويم الأحسن ،والرد إلى أسفل سافلين ،وشروط العودة من الثاني إلى الأول.والشروط أربعة ،هي مقومات فرعية عن هذا الشعور بما يوصل إلى الديني في كل دين،وهي تتفرع عنه أصلا لها ،بوصفه الوعي بالمقابلة بين الأمر الواقع والأمر الواجب في حياة الإنسان وإرادة التدارك :وتلك هي الفطرة. وهذه الفروع هي:وهي مفهومات تتعين في فعل ،هو الحد الأول والأخير لمفهوم المؤمن الخلقي :الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر المعروف.فلسفة الدين ،أو الديني في كل الأديان ،هي علم ظاهرة الوعي الخلقي بالعلاقة بينالكمال والخسر ،الوعي الذي تترتب عليه إرادة التحرر من الثاني والعودة إلى الأول بهذه الأفعال الأربعة.لذلك عرف القرآن المؤمن بتعين هذه الإرادة وأفعالها الأربعة ،في فعل الأمر بالمعروفوالنهي عن المنكر إنشاء (آل عمران )104الفعل الذي يحقق الانتساب إلى الأمة الخيرة خبرا (آل عمران .)110فكان شرط الإيمان ،الحرية أو الإرادة العاقلة الي تتبين الرشد من الغي (البقرة )256 واعترف بدينين منزلين ،وبدينين طبيعيين إيجابا ،وبالشرك سلبا. 117 50
فالبقرة ،62والمائدة ،69والحج ،17تؤجل الحكم بين الأديان إلى يوم الدين ،وتعد بعضها خيرا {لا خوف عليهم ولا هم يحزنون} إذا توفرت المقومات الـخمسة.وتكتمل الصورة في المائدة ،48حيث تعدد الشرعات والمنهاجات أمر مقصود ،فالله يريده من أجل تحقيق غاية التدين الحر والصادق ،أي استباق الخيرات.أصبح الآن بوسعنا أن نحدد الديني في كل الأديان ،وأن نعتبره جوهر الرسالة الكونية التي تمثل وظائفه ،والتي تتعدد بدرجات التعضي الذي يحقق الوظائف. والوظائف هي مضمون سورة العصر:الوعي بالعلاقة بين الكمال والنقص ،وإرادة العودة من الثاني إلى الأول هذا هو الأصل، وهو أصل خلقي ومعرفي للفرد والجماعة.ولما كان التعضي اجتهاديا ،وبحسب التطور المدني تربية وسياسة ،فإن الديني في كل الأديان يتعلق بوجود الوظائف أولا ،والقصد الحسن لتحقيقها بحرية. ويبقى مجال تحقيقها هو المشكل: فهل يمكن أن يعتبر ذلك مقوما من مقومات الديني في كل دين؟ نعم :تعريف الإنسان ،أو القصد بإرادة العودة إلى الكمال.وهذه الإرادة تتعين في مستويين ،هما مستويا التكليف في كل دين ،لأنهما من مقومات الديني فيه :إرادة الكمال بالأفعال الأربعة في الاستعمار والاستخلاف.كل ما ذكرناه من مقومات ،موجود في جميع الأديان ،طبيعية كانت أو منزلة ،بوصفه وظائف الديني من حيث هو ديني ،حتى وإن اختلفت تعضياته التاريخية.والقرآن حدد أساس الوظائف في الأعراف 173- 172وهما جوهر الديني الفطري بما هو عهد بين الله وأبناء آدم :الشهادة على النفس والمسؤولية الشخصية.ذلك هو المشترك بين كل الأديان ،وهو الديني في الأديان ،ونجده فيها مهما كانت بدائية ومهما بلغت الذروة ،تماما كما نجد وحدة البيولوجي في كل حي ،من أبسطه إلى أعقده.وكما نجد وحدة اللساني في كل لسان مهما اختلفت الأعضاء :الوحدة الوظيفية بالقوة وبالفعل ،وتتحقق بدرجات التعضي ،وهي اجتهادات أصحابها التكيفية. 117 51
هذا ما حال علم الكلام دون وجوده ،فلم يبق الإسلام الديني في كل الأديان كما يعرف نفسه ،رغم تسميته مسلمين كل المنتسبين إلى الأديان السابقة عليه.وهو لا يعتبرها سابقة عليه ،إذ هو منظومة مقومات الديني فيها ،كما وصفنا ،أي الديني الفطري الذي من المفروض ان يكون موضوع فلسفة الدين الكوني. تلك نتيجة ما لم يفعله الكلام. لكن نتيجة ما فعله أدهى وأمر.فبدلا من السمو إلى الكلي الجامع بين الأديان ،والممثل للديني ،نزل إلى تفتيت الدين والملة.هو لم ينزل إلى الدفاع عن دين معين فحسب ،بل هو نزل دون ذلك ،لأنه صار يدافع عن تصور إحدى المدارس المتعددة لنفس الدين الذي يدعي الدفاع عنه.وفي الحقيقة هو لا يدافع عن الدين ،بل عن رؤية معينة يستثني ما عداها من الرؤى للدين الواحد ،الذي يدعي حصره في رؤيته معتبرا ما عداها مروقا منه. وهو بمقومي منهجه ،نفي للدين من أصله بمستوييه :الغيبي والوحيي. فقيس الغيب على الشاهد ،ينفي الغيب ،ورد النقلي إلى العقلي بالتأويل ،ينفي الوحي.فيتبين أن ما لم يفعله سببه ما فعله :فعدم الصعود إلى الديني في الأديان ،جعله في الحقيقة ينفي الديني من أصله ،لأنه لا معنى للديني من دونهما.الديني في كل الأديان لا بد فيه من الغيب ومن الوحي-إذ حتى الأديان الشرقية التي ليس لها أنبياء ورسل -فهي تستند إلى هذين المبدئين حتما.فمؤسس أي دين لا بد أن يكون ذا صلة بقوة متعالية يترجم عنها ،هي عادة عالم آلهة،وإلا لكان واضع فلسفة وليس واضع دين .ولا بد أن يكون هذا العالم من طبيعة مختلفة عن العالم الدنيوي.ومضمون سورة العصر مقومات لا يخلو منها دين ،بل هي الديني فيه ،أعني الإيمان والعمل الصالح (فرديا) والتواصي بالحق والتواصي بالصبر (جماعيا). 117 52
والاختلاف في فهم هذه المقومات وتأويلاتها ،ليست من مقومات الديني ووظائفه ،بل هي من مقومات التعضية والتكيف المتطور خلال تاريخ الجماعة الدينية.والاختلاف بين المدارس التأويلية بالتعضية التكيفية ،لا تعد أديانا ،بل هي اجتهادات لتعليم الدين وتفهيمه للجماعة المؤمنة به ،لا طوائف متحاربة.الطوائف المتحاربة هي التي يصف القرآن الكريم في الآية السابعة من آل عمران علة وجودها ،أعني تأويل المتشابه والمتعلق بالمبدأين :الوحي والغيب.فلا معنى لدين من دون أسرار \"ميستار\" ،لأنه في معتقد من يؤمنون به رسالة من عالم مختلف عن العالم الأرضي بالجوهر ،فهو علة وجوده ومثل قيمه الأعلى. فلنثبت الضررين الناتجين عن علم الكلام: أولا الضرر العام ،وقد بينت الآية السابقة طبيعته. وثانيا كلا منهجي الكلام ينفيان مقومي الديني :الوحي والغيب.آل عمران 7المسألة الأولىَ { :فأَمَّا ا َّل ِذي َن فِي قُلُو ِبهِمْ َزيْغٌ َفيَ َّتبِ ُعونَ مَا تَشَابَهَ مِ ْنهُ ا ْب ِتغَاءَ ا ْلفِتْنَ ِة َوابْتِ َغاءَ تَ ْأ ِوي ِل ِه}.المسألة الثانيةَ { :و َما َي ْعلَمُ تَ ْأوِيلَ ُه ِإلَّا اللَّهُ ۗ َوال ّرَا ِسخُونَ ِفي الْعِ ْل ِم َيقُو ُلو َن آمَ ّنَا بِهِ كُ ٌّل مِنْ ِعنْدِ رَبِّ َنا}.فهاتان المسألتان من الآية ،كان ينبغي أن يحولا دون وجود هذا العلم الزائف ،لأنهما يبينان علتي ضرره على الأمة وما يجعله يحول دون فلسفة الدين. فعلتا الكلام الذي هو تأويل المتشابه ،هما \"زيغ القلوب\" و \"ابتغاء الفتنة\". -1علة فاعلة في نفس المتكلم، -2علة غائية في نفسه وأثرها في الجماعة. وهذا وصف أمين للمتكلمين ولأثر الكلام في الجماعات.فما من متكلم إلا ويعاني من مرض الزعامة ،وما من مدرسة كلامية إلا في فتنة مع المدارس الأخرى. 117 53
وما كان ذلك يكون كذلك لو لم يقع التعدي على دلالة القسم الثاني من الآية. فخلافا للعربية ،جعلوا الواو للعطف بدلا من أن تكون كما هي للاستئناف.وما هو أخطر من ذلك ،جعلوا العطف وكأنه يعني التساوي بين علم التأويل الإلهي ،وعلم التأويل الذي ينسب إلى من يتصورون أنفسهم راسخين في العلم.فصار الرسوخ في العلم عكس ما حددته الآية التي اعتبرته التسليم بغيب المتشابه قدرة على علم الغيب :ذلك أن الكلام في المتشابه ممتنع من دونها.فالاعتراض الذي يبدو وجيها ،هو كيف نحدد المتشابه الذي ينبغي تجنب تأويله لأنه من الغيب؟ وهذا الاعتراض على وجاهته ،فيه الكثير من التحيل الكلامي.ذلك أن القرآن الكريم استعمل التشابه بمعنيين :تشابه المبنى وبهذا المعنى ،فالقرآن كله متشابه بمعنى أنه متماثل من حيث سمو فن التعبير والتبليغ. وتشابه المعنى وهو المنهي عن تأويله.وهذا المعنى الثاني هو موضوع الإشكال في علم الكلام :فهو المتشابه الذي ينتج عن الخطاب ،الذي يوحي بـمماثلة بين عالم الشهادة وعالم الغيب. بذلك يسقط التحيل الكلامي :والآية واضحة في وجوب تفويضه.وعبقرية ابن خلدون هي التي دلتني إلى هذا الحل الحاسم :ذلك أنه هو ،على حد علمي، من سلم جدلا بأن الواو للعطف وليست للاستئناف ،ليميز بين العلمين. علم التأويل الإلهي هو الوحيد الذي يعلم الغيب.علم الراسخين في العلم يعلم أن الغيب لا يعلم ،فيفوضه .فيصبح علم الكلام ممتنعا إلا في أمرين ثانويين لا علاقة لهما بالعلم ،بل هما خطابة وجدل.الأول للرد على أعداء الدين ،والثاني للتدرب على الجدل .فهو أولا يعتبر وظيفة الردلم تعد ضرورية ،لأن الدين استقر ،وهو ثانيا يقصر فائدته على التدرب على الجدل ،لكن هذه الفائدة تتحقق أكثر بالعلوم الحقيقية. نمر الآن إلى منهجي علم الكلام لبيان عقمهما. 117 54
الأول هو قيس الغائب على الشاهد .هذا المنهج لا يخلو منه علم .لكنه في كل العلوم يكون فرضيا للبحث.عندما يريد عالم أن يوسع شمول معرفة سابقة على موضوع جديد ،يفترض أن هذا الموضوع يخضع لقانون سابق العلم ،فيقيسه قيس غائب على شاهد فرضيا ومؤقتا.لكن ذلك ليس بعد علما .لا بد أن يتحقق من صحة فرضيته بأن يختبر قيسه ،ليتأكد من وجود وجه الشبه الذي اعتمد عليه ليوسع علمه .وهذا ممتنع في الغيب.قيس الغائب على الشاهد مشروط بما يمتنع في الغيب ،ومن ثم فهو فاسد في العقائد .إنهغير صالح للكلام في الدينيات المتعلقة بالغيبيات ،ويقبل في الفقه لأنه اجتهاد في الشاهد.ولذلك قلنا إن استعمال منهج قيس الغائب على الشاهد في الغيبيات ،ينتهي في الحقيقة إلى نفي الغيب ورده إلى الشاهد ،أو الاحتكام فيه إلى قوانين عالم الشهادة.أما المنهج الثاني أعني منهج التأويل ،فهو أخطر لأن أصحابه يعترفون ،وإن بغير وعي بما وصفتهم به الآية 7من آل عمران :التأويل هو رد النقل إلى العقل.فإذا كان مفاد هذا المنهج رد النقل إلى العقل عند التعارض ،فالقصد أحد أمرين :إما أن العقل كاف ولا حاجة إلى النقل ،أو أن ما يفضل به ظاهر لفظ.والقول إن ما يفضل به نص النقل عن العقل ظاهر لفظا ،هو جوهر الموقف الباطني :وبهذا المعنى فكل فلاسفة العرب في العصر الوسيط ،ومعهم المتكلمون ،باطنيون.والباطنية-كما بين الغزالي في الفضائح-لا يقولون بذلك إلا بتأسيس على الفلسفة ،التي تعتبر النقل مجرد أسلوب تبليغ للعامة لحقائق فلسفية هي الباطن.وحقائق العقل التي يرد إليها النقل في التأويل ،تعني أن الوحي ليس إلا مجرد قدرة تبليغية عند الأنبياء لحقائق يعلمها العقل أفضل منه ،فترد إليه عند التعارض. وهذا كله مبني على وهمين: 117 55
وهمان جمعهما ابن خلدون في مفهوم واحد ،هو أساس الفلسفة اليونانية منذ بارمينيدس (الشذرة الخامسة) :الوجود يتطابق مع العقل .وسماه رد الوجود إلى الإدراك.ثورة ابن تيمية وابن خلدون هي رفض هذه المسلمة البارميندية والقول بأن الوجود كثيف وليس شفيفا ،وأن العقل لا يدرك منه إلا القليل ،وذلك اساس الدين.ومن هنا تتغير نظرية المعرفة :لم يعد القول بالتطابق بين العلم وموضوع العلم أمرا مسلما، بل العلم محاولة لإدراك ما يشف من الوجود وهو ضئيل.ولا يعني ذلك أن العقل المحدود ليس له معايير التمييز بين الديني والخرافي .فالعقل الإنساني بمنهج الأولى ،يمكن أن ينزه العقل الإلهي عن اللاعقل.ما يتجاوز به العقل المطلق العقل النسبي ليس اللاعقل ،بل سر العقل نفسه :فلو كان العقل المطلق يختلف عن العقل النسبي باللاعقل ،لامتنع خطابه له.الدين هو خطاب المطلق للنسبي .ومن ثم فهو العقلي الأكمل يتوجه للعقل الأقل كمالا بخطاب جاسر بينهما ،ولا يمكن أن يكون خرافيا ليكون للرسالة معنى.ولهذا كان القرآن خطابا عقلانيا ،ومن أهم علامات عقلانيته الآية السابعة من آل عمران: جعل العقل يدرك حدوده ليعلم مفهوم الاجتهاد النسبي لعلمه.أما الكلام على العلم الحقيقي الذي أفقدنا إياه علم الكلام ،الذي عمل زائف أي فلسفة الدين فقد حاولت محاولة أولية علاجها في كتاب بهذا الاسم.ولأنها محاولة أولية نسبتها إلى منظور إسلامي ،وطبعا فالقصد بالإسلامي هنا هو الإسلام الكوني الذي يعني الفطرة الدينية التي هي الديني في كل دين.فلنختم ببيان ما وراء طبيعة ضرر العلم الزائف :فالأمر كله في موقف باطني من القرآن. موقف يرى أن له ظاهرا للعامة وباطنا للخاصة .وذلك يؤسس لنهاية حريتي الإسلام. كيف يؤول علم الكلام إلى الموقف الباطني؟ 117 56
فإذا كان القرآن ظاهره غير باطنه ،فمعنى ذلك أنه لا بد له من كنيسة تتوسط بين المرسل والمرسل إليه ،فتزول الحرية الروحية وتتبعها الحرية السياسية. كيف؟لا بد أن يكون المؤول الناقل من الظاهر إلى الباطن معصوما لا يرد له تأويل :فيصبح الحاكم بالحق الإلهي وسيطا سياسيا ضروريا ،كالوسيط الروحي.علم الكلام من مراحل الانتداب الباطني ،وهي جزء مما يسميه الغزالي الخلع .وهذا منفنيات التبشير المسيحي والشيعي اليوم :شككه في الإسلام ،ثم بشره بأي شيء يملأ الفراغ الحاصل.وأهمية هذا الفن مناسبته للفطرة :فكل مؤمن يطرأ عليه الشك فيما تسلمه بالعادة، ويشرع في التفكير الذاتي ،وهو مستوى الشك الأول المؤدي للكلام. والعقل السوي سرعان ما يدرك أن الكلام علم زائف ،فيشرع في التفلسف. وسرعان ما يدرك أنها كلام كذلك .فيصل إلى مستوى الشك الثاني :غاية الباطنية. لماذا هي غاية الباطنية؟كما بين الغزالي في المنقذ :الشك الثاني مآله اليأس ،ولا مخرج منه إلا بالتعليمية أو بالتصوف (نفي الحريتين جوهر الإسلام).أزمة الغزالي ليست حالة شخصية أو ترجمة ذاتية للغزالي ،هي مأساة أي إنسان يعالج القضية الوجودية الناتجة عن علاقة الإيمان بالعلم ،فيسعد أو يشقى.وهو يشقى إذا كان كما وصفته الآية السابعة في قلبه زيغ ويبتغي الفتنة ،فيتوهم أن الوجود شفاف وأن عقله نافذ إلى أسراره بإطلاق :فيأخذ طريق إبليس.وابليس ادغام لـ «أبو ليس\" أي صاحب العدم ،ويقابل \"أبو أيس\" أو صاحب الوجود.فالأيس والليس كلمتان عربيتان تفيدان الوجود والعدم :فليس هي \"لا أيس\" مدغمة (الكندي).لكنه يسعد عندما يدرك بعقله أن الوجود ليس مطلق الشفيف ،وأن عقله يعلم ،ولكنه يعلم أن علمه نسبي فيكون بذلك حذرا في حريتيه الروحية والسياسية. 117 57
والحريتان الروحية والسياسية عين كيانه: -1مستخلف = وعي خلقي وحرية روحية صلة مباشرة بالآخرة -2مستعمر وعي مدني وحرية سياسية صلة مباشرة بالدنيا.وهذا هو طريق السعادة الدينية أو الإسلام :طريق الإيمان أو التكليف باستعمار الدنيا ليحقق حرية الإنسان وكرامته ،فيستأهل الاستخلاف بقيم القرآن.وهكذا فقد فرغنا من الكلام في علم الكلام بوصفه علما زائفا يحول دون فلسفة الدين، التي هي علم الديني في كل ديني ،وذلك هو جوهر الإسلام الفطري. 117 58
بينا في الفصل الخامس ما ترتب على علم الكلام أو العلم الزائف الأول من إفساد للنظروالعقد .فما يترتب عما فعل وعما حال دون تحقيقه في معرفة الدين والدنيا ،كان مصدرا لضرر كبير أصاب الأمة.فهو أساس كل الطائفيات بما ترتب على منجزاته السلبية ،وأساس انعدام العلم بالدين بما حال دونه من تأسيس فلسفة الديني الواحد في الأديان.والآن نمر إلى العلم الزائف الثاني ،الذي به أفسد العمل ،فأتم إفساد الأول للنظر ،أعني التصوف الذي بفعله وبما حال دونه جعل الأمة كسيحة.فاجتمع عليها ضرر المذاهب الكلامية بعلم ما لا يعلم قرآنيا ،وضرر الطرق الصوفية بعملما لا يعمل قرآنيا كذلك .فتم التحريف النظري والعملي :التحريف الذي أخرج من كل فاعلية تاريخية.وإذا كان الكلام الزائف أضاف إلى ذلك الحيلولة دون فلسفة الدين وعلوم الدنيا ،فإن التصوف أضاف إليه الحيلولة دون فلسفة التاريخ وأعمال الدنيا.فـمن يسمون أهل العلم يرجمون بالغيب ويهملون ما نصحت به فصلت ،53ومن يسمون أهل العمل يعيشون في الوهم ويهملون ما نصحت به هود :61تلك حالنا.ولا يعني ذلك أن الأمة خلت ممن حاولوا على الأقل التصدي للرجم بالغيب في العلم، وللعزوف عن استعمار الدنيا في العمل .لكن هؤلاء كانوا ولا يزالون أقلية مغلوبة.لذلك أصبحنا بالتدريج كما وجدنا الاستعمار الغربي ،أمة عزلاء علميا وكسلاء عمليا ،لا حول لها ولا قوة ،حماية لذاتها بسبب الجهل ورعاية بسبب الفقر.والغاية من هذه المحاولة ،هي كيف نخرج من هذه الحال التي ما تزال حالنا ،لأن قرنا كاملا من التحديث المزعوم لم ينتج القدرة في الحماية والرعاية. 117 59
والعلة الرئيسية هي أننا بدلا من النقد الذاتي والاعتراف بهذين الخطأين ،دخلنا معركة دونكيشوتية بين كاريكاتورين :أدعياء الأصالة وأدعياء الحداثة.فأدعياء الأصالة يريدون بموقف دفاعي عقيم الاعتماد على نفس الخطأين ،وأدعياء الحداثة يريدون بموقف عدواني أعقم التحديث باستيراد علم الغير وعمله.نشرع إذن في الكلام على التصوف بوصفه علما زائفا في العمل منهيا عنه قرآنيا (الحديد ،)27مثله مثل الكلام في النظر ،وما نتج عن فعله وعما حال دونه.وحتى يطمئن القارئ ،فإني لا أدعي ،في كل ما أعرض ،الإتيان بشيء جديد ،فحركة الإصلاح سبقت إليه دون شك وأعلامها يرددون هذه الحقائق دون توقف أو ملل. الجديد أمران غابا أهملهما الأعلام:وكما هو معلوم فالفلسفة لا تتكلم في الظاهرات نفسها ،بل فيما وراءها ،لأنها دائما كلام ما بعدي ،أي بحث في علل كون الظاهرات هي على ما هي عليه.وسأنطلق من محاولة ابن خلدون تعريف التصوف بنظريته في المجاهدات وتمييزه بينالمشروع منها ،أي ما لا يعارض فصلت 53وهود 61وخاصة الحديد ،27وما يناقضها بالتنافي معها.ففي شفاء السائل ،ميز ابن خلدون في الظاهر بين ثلاث درجات ،آخرتها هي المنافية لهذهالآيات الثلاث نفيا للدنيا .والأوليان تجمعان بين الدين والدنيا ،كما يقتضي الإسلام السوي.لكن تحليل الدرجة الأخيرة ،يبين أنها ذات مستويين ،وأنه ينبغي تمييزها عما يشبهها دون أن يكون إياها ،لأنه قد يوهم بالبقاء في الملة بوجه الشبه الموهم. 117 60
فلأوضح:الدرجتان الأوليان من المجاهدة ،هما مجاهدة التقوى ومجاهدة الاستقامة .وكلتاهما من الزهد السني .وهما دليل الجمع بين الدنيا والدين بسلطان هذا على تلك.وذلك هو جوهر الإسلام :أن يسود المسلم على الدنيا ،دون أن يخلد لها ،فيكون وارثا الأرض ومستعمرا فيها مع التقوى والاستقامة :قوة وعزة الزاهد المستخلف.وبسبب هذا الزهد -التقوى والاستقامة-يكون المؤمن ذا بصيرة تمده أحيانا بكشف يتجاوز التجربة الحسية إلى معان سامية ،كما يحكى عن الصديق والفاروق.وتلك هي المرحلة الوسطى التي تغري البعض ،فيسعى إليها بطرق الرهبانية الصوفيةالصناعية محاولة لكسب قدرة الكشف بالرياضية .وحينها ننتقل من الكشف العفوي الذي يعتبره المؤمن محنة إلى طلبه صناعيا. وطلب الكشف بالرياضة الصوفية يتألف من مرحلتين:وكلاهما يجعل هاتين المرحلتين من التصوف ،الذي هو علم زائف مثل الكلام ،تنتهيانبفعلهما إلى اعتزال استعمار الإنسان في الأرض ،وتحولان ،بعدم فعلهما ،دون تأسيس فلسفة التاريخ التي تدرس شروط فاعلية الإنسان فيه.ولأشر قبل التقدم في البحث ،إلى أن النظر الزائف (الكلام) متعالق مع العمل الزائف (التصوف) لأن هذا محتاج إلى بديل زائف مما حال دونه ذاك.فإذا كان الكلام بوصفه علما زائفا ،قد حال دون فلسفة الدين علما حقيقيا بديلا منه ،فإنالتصوف محتاج إلى فلسفة دين زائفة أساسها ضمير مسكوت عنه ،بمده بها علم الكلام الذي هو عمل زائف.فعلم الكلام يؤدي إلى صراع المذاهب والأديان على أساس فلسفة دين مضمرة ،هي الفلسفة الباطنية التي تدعي أن الدين ليس إلا ايديولوجيا لحكم العامة. 117 61
وترجمتها الصوفية ،هي أن الشرائع رسوم ،وأن الحقيقة هي الأخلاق الصوفية التي تتساوى فيها الرسوم ،فلا يكون بين تعين الأديان تفاضلا والديني فيها هو تعيناتها.فيبدو تصور ابن عربي لقلبه معبدا تحل فيه كل الأديان ،وكأنه دعوة للسلم بين الأديان، ومعارضة لنتائج الكلام ،لكنه في الحقيقة ذهاب بها إلى الغاية.ففي مناخ اللامبالاة القيمية ،لا تزول الحروب بل تصبح خالية من القيم :حرب على المستضعفين الخانعين (الهنود الحمر) يخوضها المستكبرون المسيطرون.وهذا هو مطلوب إعادة التصوف في بلاد الإسلام لتحقيق هذه الغاية :كيف يصبح المسلمون هنودا حمرا ،يمكن للغرب وعملائه ألا يجد منهم مقاومة جدية.وفضل ابن تيمية هو أنه قد فضح هذا الضمير ،فبين أن التصوف الذي يدعي الأخلاق هو في الحقيقة نفي لشرطيها ،أي حرية الإنسان وفاعليته في التاريخ.ففي النظرة الصوفية لفلسفة التاريخ ،كل ما يجري فيه-بدعوى الإيمان العميق-قضاء وقدر ،وعلينا أن نقبل بـالاستبداد والاستعباد لأنه قضاء الله وقدره.ولهذه العلة اعتبرت شعار الثورة \"إذا الشعب يوما اراد الحياة**فلا بد أن يستجيبالقدر\" ثورة روحية ،أرجعت المسلمين إلى فلسفة التاريخ القرآنية التي تثبت فاعلية الإنسان في التاريخ.وذلك لأنها تعني التحرر من التصور المنحط للقضاء والقدر ،والعودة إلى التصور القرآني الذي يجعل القضاء والقدر تابعا لسنة التغيير :وذلك هو مقتضى التكليف.فبيت الشابي ،الذي هو شعار الثورة ،ترجمة شعرية لسنة التغيير القرآنية :فالله لا يغير(هو) ما بقوم حتى يغيروا(هم) ما بأنفسهم :حرية الإنسان وفاعلية.والفرق بين الزهد الإسلامي (السني) والتصوف (الباطني) ،اتضح تاريخيا في الموقف من الاستعمار ومقاومته من الحروب الصليبية والمغولية إلى اليوم.والمرحلة الأقرب إلينا هي أن قادة مقاومة الاستعمار الغربي كانوا كلهم من كبار زهاد السنة المرابطين لحماية الثغور :في المغرب والجزائر وتونس وليبيا والسودان إلخ... 117 62
فالسنة تعتبر الجهاد رهبانيتها :فالرباط لحماية الثغور والبيضة ،هو أول واجبات المؤمنالصادق والزاهد في الدنيا .ولا يزهد فيها من لم يسد عليها .الزهد مشروط بنجاح الاستعمار في الأرض لا بالتخلي عنه.والفروض الخمسة ،أربعة منها تشترط القدر المحترم من التحرر من الحاجة المادية مثلالنصاب في الزكاة ،والاستطاعة في الحج ،وشروط الصحة في الصوم ،وشروط النظافة في الصلاة ،وكلها تقتضي نجاح الاستعمار في الأرض.وكان الاستعمار يعتمد على توابع التصوف الباطني في تبرير القبول به بوصفه قضاء الله وقدره ،وبضرورة السمع والطاعة باعتماد أحاديث حرفت دلالتها.فلننتهج نفس النهج الذي اتبعناه في كلامنا على النظر المزيف بصورة عامة ،ثم على ما ترتبت عما فعله وعما حال دون حصوله في فلسفة العمل والتاريخ.فنجمع بذلك حال فلسفة النظر والدين (بنقد الكلام) وحال فلسفة العمل والتاريخ (بنقدالتصوف) لنفهم دور العلمين الزائفين بما فعلاه وبما حالا دون تحقيقه ،لنمر إلى الفلسفة والفقه.ولا أقصد أن الفلسفة والفقه هما فلسفة الدين وفلسفة التاريخ ،بل هما علمان آخران لهما فعلهما الخاص ،ويمكنان من تعويض العلمين الزائفين بهما لأنهما يقتضيانهما. فتصبح فروع الأصل (إرادة الاستكمال الإنساني) أربعة علوم هي:وعلوم الآفاق هي علوم الطبيعة مضمونا .وعلوم الأنفس هي علوم الإنسان مضمونا. ويشترك نوعا العلوم في استعمال نفس العلوم المساعدة أي: 117 63
والمقصود بالعلوم المساعدة ،أدوات المعرفة في الطبيعيات والإنسانيات ،لأن المنطق والرياضيات واللسانيات والتاريخيات كلها أدوات المعرفة الانسانية.والمنطق والرياضيات أدوات غالبة في الطبيعيات .واللسانيات والتاريخيات أدوات غالبة في الإنسانيات كما هو معلوم .لـذلك كانت الأولى معرفة تحليلية والثانية معرفة تأويلية.لكن تطور الابستمولوجيا والعلوم بين أن الطبيعيات لا تخلو من التأويل ،والإنسانيات لا تخلو من التحليل وبذلك بدأت الهوة الفاصلة بين النوعين تتناقص.وبحثنا كما أسلفنا ،يتعلق ببنية العلوم الفرعية عن أصل \"مرجعية النظر في صلته بالعقد والعمل في صلته بالشرع\" وما ننسبه إليها في أزمتنا الحضارية.وفي هذه البنية يعد دور العلوم الزائفة أهم عائق ابستمولوجي يؤدي إلى العقم العلمي والعملي في أي حضارة تنحط ،بسبب سيطرة الدجل النظري والعملي. فلنسم العلمين الزائفين باسم يحدد دور ما فعلاه وما حالا دون فعله:وهذه علة الزيف فيهما كليهما :فالكلام لا ينظر بشرط النظر العلمي ،ونظره في العقد يلغي العقد بدل درسه. والتصوف لا يعمل بشرط العمل الخلقي ،وعـمله يلغي الشرع بدل درسه. بقيت ثلاث مسائل: 117 64
والمسالة الأولى حسمها القرآن نفسه بوضوح لا مراء فيه ،والمسألة الثانية حسمها ابن خلدون بمنطق لا مرد له ،والمسألة الأخيرة حسمها ابن تيمية حسما ثوريا.ومعنى ذلك أن مهمتي الآن أصبحت يسيره :يكفي عرض الآية 27من الحديد ،ورد ابن خلدون في شفاء السائل ،ورد ابن تيمية على وحدة الوجود الحتمية.ولو كنت واثقا من أن الشباب قد اطلع على هذه الأجوبة الثلاثة ،لتوقفت عند هذا الحد في كلامي على التصوف ،وهو غير الزهد السني رغم فرض اشتراك الاسم.والجواب القرآني نجده في الحديد ،27وهو جواب يبين أن العلاقة بين ِخلقة الإنسان وخُلقه تجعلان الرهبانية-والكشف المكتسب المزعوم مشروط بها-منافية للشرع.فمقاطعة الدنيا وعدم الاستعمار فيها تلغي شرط الأخلاق ،وهي مقاطعة تتنافى مع شروطالخلقة .إنها كذبة كبرى ،إذ تشترط عكسها لدى من يقيم أصحابها .فمعتزل الدنيا بحاجة للمتفرغ لها حتى يعيله.والأخلاق تشترط العمل في الدنيا بكل مغرياتها ،مع الخضوع لقيم الشرع .واعتزالها يزيل الامتحان الناتج عن الجمع بين الاستعمار في الأرض بشروط الاستخلاف فيها.وهذا التعريف للأخلاق هو أهم ثورة في الشرع الإسلامي .لذلك فأغلب من اعتزل شروطهايكون بحسب الآية من الفاسقين ،لأنه يعارض مقومات خلقته وشروط حياته ويهرب من الامتحان الدنيوي الذي سيحاسب عليه في الأخرى. الكذبة الكبرى هي اعتزال الدنيا الذي هو ممتنع إلا بالعيش عالة على الغير. وشتان بين الزهد والتصوف. فالزهد تحرر من سلطان الدنيا بعد السلطان عليها بعدم الاخلاد إليها. والتصوف زعم اعتزال الدنيا بزهد كاذب فمن لا يملك شيئا لا يزهد فيه.والزاهد الكاذب في الدنيا ،فضلا عن كونه عالة على غيره ،يؤول إلى الإخلاد إليها .كيف؟ بمعنيين: 117 65
وهاتان الوساطتان هما ما يطلبه الاستعمار وأذرعه (إيران وإسرائيل وبوتين) وعملاؤه (الانظمة والنخب العربية المؤيدة للمشروع) صد تحرر الأمة.ولهذا خصصت عددا كبيرا من المقالات لمؤتمر جروزني ودلالاته ،واعتبرت ذلك فرصة سانحة لتحرير المفهومات العشرة التي تحدد قيم الإسلام السرمدية. كيف عرف ابن خلدون اكتساب الكشف بالرياضة وكيف دحض هذا الوهم؟أولا ابن خلدون لم ينف إمكانية الكشف العفوي .وهو محنة لا يستمد الصديقون منه سلطة.لكنه يعتبر محاولة اكتسابه مستحيلة ،وهي من الدجل الذي يطلب أصحابه الرئاسة والتصدر للتعليم والسلطة ،إنه نفس داء المتكلمين بالعمل وليس بالنظر.يطلبان الزعامة بالوساطة بين المؤمن وربه (ضد الحرية الروحية) والوساطة بين المحكوم والحاكم (ضد الحرية السياسية) أحدهما بالنظر ،والثاني بالعمل.ووحدة مطلبهما (الوساطتان) تولد صراعا بينهما :المتصوف يدعي علما لدنيا يغنيه عن نظر الكلام ،والمتكلم يدعي عملا عقليا يغنيه عن عمل المتصوف. لكنهما في الحقيقة منهجان باطنيان ،أو مرحلتان من مراحل الخلع العقدي والشرعي:والمتكلم لا يعترف بأن الكلام مآله التشكيك في العقائد ،لا نصرتها ،والمتصوف لا يعترف بأن التصوف مآله نفي الشريعة ،لا نصرتها .والحاصل هو ما وصفنا.ثم يأتي الحسم النظري لذروة خطاب المتصوفة ،أو ما يزعمونه تعبيرا عن علمهم اللدني: الشطح .فهذه الذروة يبين ابن خلدون امتناعها بحجتين عميقتين. 117 66
الحجة الأولى تتعلق بالفرق بين ما يقال وما لا يقال من المدارك .فالمدارك الوجدانية لا تقال ،وإذا وجد الكشف فإنه من الوجدانيات فلا يقال.الحجة الثانية لسانية :اللغات لا تقول إلا الكليات العامة ،والأعيان المندرجة فيها باعتبارها أمثلة منها .وما ينتسب إلى الغيب ليس لنا منه أمثله.لذلك فإنه إذا صح أن صاحب الكشف يمكن أن يدرك شيئا من الغيب-ابن خلدون لا يعتقد ذلك-فإن إدراكه سيكون وجدانيا ،لا يمكن التعبير عنه باللسان.والأنبياء هم أنبياء بهذه الخاصية ،أي إن الله أمدهم بـمعجزة القدرة على التعبير عن الغيب بما يمكن من تبليغ آثاره على حياة المؤمنين دون سره.وقد ذهب ابن خلدون إلى فكرة ثورية في لطيفته حول الاحتجاج الكلامي بالسببية .فقد بين أن فاعلية الأسباب نرى أثرها ولا نعلم سرها أو حقيقة فعلها.وذلك فهو يعتبرها مشروط بالتسليم بسر غيبي ،هو فاعلية الأسباب التي لا نعلم حقيقتها ما هي .هذا في عالم الشهادة ،فكيف بعالم محجوب حتى عن النبي؟وبذلك فدحض ابن خلدون دحض للوساطتين :لا يمكن أن يدعي المتصوف علما لدنيا، يتجاوز المعلوم بالعلم العادي للإنسان ،الحاصل عليه بالمعرفة العقلية. ونصل إلى غاية المطاف :المشكل الجوهري ،هو الذي تصدى له ابن تيمية. لماذا ينتهي التصوف إلى نفس شرطي الأخلاق في الفاعل ذاتيا وفي المفعول موضوعيا؟هنا نصل إلى أكبر ثورة في تاريخ الفكر الإنساني ،وبها يعتبر ابن تيمية مؤسس كل الفلسفة الحديثة :النقلة من ما بعد الطبيعة إلى ما بعد الأخلاق.فعلاجه ألغى العلمين الزائفين وأصلهما الباطني ،وأسس شرط إمكان العلمين اللذين غابا بسببهما في النظر وفلسفة الدين ،وفي العمل وفلسفة التاريخ. كيف ذلك؟ 117 67
يصعب بيان ذلك بتفاصيله ،وقد فعلنا في غير موضع .فلنكتف هنا بالزبدة أو ببؤرةالإشكالية الممكن .ففي الفاعل ،الشرط هو الحرية ،وفي المنفعل ،الشرط هو الفرق بين التاريخي والطبيعي من أحداث الوجود.إذا قبلنا بـالعلمين الزائفين -الكلام والتصوف ،وأصلهما الباطني المستند إلى الميتافيزيقااليونانية -أزلنا كل إمكانية لتأسيس شرط الأخلاق (حرية الإنسان) وشرط التاريخ (فاعلية الإنسان).وحتى يتجاوز ابن تيمية النتيجتين -زوال شرط الأخلاق (الحرية) وشرط التاريخ (فاعلية الإنسان) -يغوص إلى الأصل الأعمق بالمقابلة بين الربوبية والألوهية.فعالم الربوبية يتعلق بعالم الضرورة أو الطبيعة ،وعالم الألوهية يتعلق بالحرية أوالتاريخ .والإنسان مشدود إليهما معا ،فهو بخلقته مشدود لعالم الطبيعة والضرورة ،وهو بخلقه مشدود لعالم التاريخ والحرية.ولا يمكن أن يكون انشداده إلى عالم الضرورة والربوبية ،مثل انشداده إلى عالم الحرية والألوهية .فالانشداد الأول يتعلق بالموجود .والانشداد الثاني يتعلق بالمنشود.فلسفيا الانشداد الأول يسمى الوجود ،أو ما هو كائن ،Etreوالانشداد الثاني يسمىالمنشود ،أو ينبغي أن يكون .Devoir êtreوالحرية هي الـمسافة الفاصلة والواصلة بينهما.فإذا نفينا هذه المسافة فصلا ووصلا ،لم يبق إلا الضرورة الطبيعية ،ويكون التاريخ مجردوهم إنساني فنقع في \"الفاتالسيم\" تأويلا فاسدا للقضاء والقدر ،وتلك هي علة الانحطاط.كل الفلسفة الحديثة تتأسس على هذا الانقلاب الذي يقدم الخلقي على الطبيعي ،فيكونالتأسيس الفلسفي كله نقلة مما بعد الطبيعة علما رئيسا لكل المعارف الإنسانية نظريها وعمليها ،إلى ما بعد الأخلاق في نفس هذه الوظيفة.وبذلك ندرك أن الديني في كل الأديان ،والفلسفي في كل الفلسفات ،هو هذا التأسيسالذي انتقل من المقابلة بينهما بنفي أحدهما إلى وحدتهما الجوهرية عندما نقدم ما بعد الأخلاق على ما بعد الطبيعة. 117 68
ابن تيمية بهذه الثورة جعل الفلسفة الحديثة تدرك أن الانطلاق من الطبيعة وتأسيسفلسفة الوجود على ما بعدها ،بما يسمى ميتافيزيقا ،لا يمكن ،وإن سمي إلهيات لا يكفي لفهم النظر والعقد والعمل والشرع.فهذه الأبعاد من فاعلية الإنسان تكون ربوبيات في عالم الضرورة (ربوبية) ،وإلهيات فيعالم الحرية (ألوهية) ،لأن مجرد إمكان علم الإنسان وعـملـه يقتضي أن يكون التأسيس ما بعد أخلاق لا ما بعد طبيعة :فكلاهما مشروط بالحرية والفاعلية.وتلك هي النقلة النوعية التي أسس عليها كنط فلسفته .فلا يمكن تقديـم شرط النظر علىشرط العمل لتأسسه على ضرورة الطبيعة ،والطبيعة لأنها تخضع للضرورة لا تقبل استثناء الإنسان من قانونها.وإذا لم نستثن استثناء الإنسان ،بات علم الضرورة مستحيلا لأن علم الضرورة ليس ضروريا وإلا لكان حاصلا دون جهد إنساني.فمن شروطه ابداع النظريات العلمية لقوانين الطبيعة والإنسان في ذلك ليس مرآة يعكس قوانين الطبيعة بضرورة طبيعية بل هو يبدعها بفعل حر.العلم نفسه عمل عقلي حر ،شرطه الابداع وفيه الحرية التي تتخيل عديد الفرضيات وتجربها لتعلم أيها أكثر مطابقة لقوانين الطبيعة ،وهو عمل تاريخي متطور.وهذه الثورة في الغرب يمكن القول إنها بدأت مع ديكارت ،الذي جعل أدلة وجود الله متقدمة على أدلة قوانين الطبيعة التي الرياضيات أداتها وليست أساسها.لكن ابن تيمية سبق ذلك كله ،وأسس النظر والعقد والعمل والشرع على ما بعد الأخلاقبدل ما بعد الطبيعة ،وبهذا المعنى فهو قد حرر الفكر الإنسانـي من التأسيس على ما بعد الطبيعة.ولهذا اعتبرت عمله شرطا في ثورة ابن خلدون ،حتى لو لم يكن ابن خلدون قد اطلع عليه. فهذا الانقلاب في الفكر كان الحل الوحيد لتجاوز فشل الغزالي. 117 69
حاول مربع القرن السادس (ابن رشد والسهرودي والرازي وابن عربي) الخروج من المأزق الذي بينه الغزالي بالنكوص إلى أرسطو وأفلاطون ،ففشل حلهم جميعا.ما فهمه ابن تيمية وابن خلدون هو أن هذا النكوص تأبيد للهروب من قراءة القرآن كما طلب بفصلت 53وبشروط الاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها. 117 70
ننتقل الآن إلى الكلام في العلمين الحقيقيين -الفلسفة والفقه-فنخصص الفصل السابعللفقه ،الذي هو العلم الرئيس في علوم الأنفس أو العلوم الإنسانية ،مثلما أن الفلسفة هي العلم الرئيس في علوم الآفاق أو العلوم الطبيعية.وهذا التقديم أصبح الآن مفهوما ،بعد ما بينا في الفصل السادس طبيعة الانتقال الثوريمن الميتافيزيقا إلى الميتا أخلاق ،للانتقال من تقديم العمل على النظر الذي هو أحد أصناف العمل.وتقديم علوم الأنفس على علوم الآفاق اعتراف بنسبية علم الإنسان وطابعه الذاتي ،لأنما نعلمه من الآفاق محدود بما نعلمه من الأنفس ،رغم تسليمنا بأن ما عليه الأنفس تابع لما عليه الآفاق تبعية البعض للكل.والقرآن يؤكد هذه التبعية عندما يحدد سنة التغيير ،فيضع أن الله لا يغير ما بقوم خيراأو شرا إلا إذا غيروا ما بأنفسهم .فما بهم ،هو كل أحوالهم وأهمها ما يترتب على دورالآفاق في حياتهم .وما بأنفسهم هو ما اعتبرناه موضوع علم الشرائع ،أو علم أفعالهم النظرية والعملية.وعلينا أن نبدأ فنحدد مفهوم الفقه الذي انتقل استعماله الاصطلاحي من دلالته العامة،التي تعني الفهم والعلم ،إلى ما يشبه اسم العلم على أحد العلوم الخاص بالشريعة :أي المفهوم الجامع بين الأحكام القانونية والأخلاق الدينية.وإذن فنحن هنا نحرره المفهوم من هذه الدلالة الحصرية ،لنجعله متعلقا بعلوم الأنفسعامة ،أو بالعلوم الإنسانية بوصفها مختلفة جنسا عن العلوم الطبيعية ،ومدخلا منظوريا يوصل إليها ليضفي عليها نسبية تلغي ما كان يتوهم من موضوعية مطلقة في الطبيعيات. 117 71
فمفهوم الحرية الذي تأسس عليه علوم الأنفس ،متقدم على مفهوم الضرورة الذي تتأسس عليه علوم الآفاق ،باعتبار الضروري أحد الخيارات التي يشملها الممكن.والعلوم التي هي علوم ضرورة اختيارية ،أو ناتجة عن قرار حر من الذات العارفة ،هي العلوم الأدوات أو العلوم المساعدة والتي هي ضرورية لكلا النوعين من العلوم: وبذلك تقبل العلوم التصنيف التالي: -1علم الطبائع وما بعدها الذي هو الميتافيزيقيات. -2علم الشرائع وما بعدها الذي هو ألمتا أخلاقيات. -3علم الذرائع وما بعدها الذي هو هو الميتاوسميات, -4علم البدائع أو هذه المابعد المؤسسة الذي هو علم العلاقات بين المابعديات.-5علم الروائع أو علم ما بعد المابعد وهو طلب ما يوحد بين أصناف المابعد الأربعة المؤسسة لعلم الطبائع وعلم الشرائع وعلم الذرائع وعلم الروائع.مفهومات الطبائع والشرائع والذرائع والبدائع والروائع ،بعضها معلوم الدلالة لأنهمستعمل في تصنيف العلوم التقليدي (الطبائع والشرائع والذرائع) ،حتى وإن كنا غيرنا دلالة الشرائع والذرائع.لكن مفهومي البدائع والروائع بحاجة إلى تحرير أعمق ،لأن اختيار الأسماء لم يكن مجرد سجع يساعد الذاكرة ،بل لأن المفهومين لهما هذه الدلالة.فالبدائع تعتبر ما يشبه السرديات التي توحد العالم من خلال أصناف تعامل الإنسان معه في بعده الطبيعي وبعده الثقافي المضموني والثقافي الشكلي. 117 72
وهذا البعد الثقافي ،أي ما أضافه الإنسان إلى الطبيعي من حوله وفيه ،هو كل ما يصنعه الإنسان من نظريات وأدوات لعلم قوانين الطبيعي والثقافي. والنظريات صنفان: واحدة موضوعها قوانين الطبائع والشرائع، والثانية قوانين إدراكها والبحث فيه :وتلك هي الذرائع.وأخيرا ،فالروائع ينبغي فهمها بالمعنى الجمالي والجلالي ،أي إن هذا العالم الذي يبدعهالإنسان بخياله ليوحد به أصناف المابعد التي كل منها يوحد مجاله ،يتجاوز مجرد طلب العلاقات بينها إلى ما بعدها ليوحدها :وذلك هو المطلب الأساسي للدين والفلسفة.وهو رائع ومريع .رائع لأنه يخلق عالما جميلا ،ليس فيه فواصل تحول دون المرور من أحد هذه المجالات إلى الآخر ،فيمثل لوحة وجودية متناسقة.لكنه مريع ،لأن هذا التوحيد يفترض قوة خارقة تثير الخوف والإعجاب في آن ،وهي إن صح التعبير كل أفعال ذات متعالية نسميها الله ،وترمز إليها أسماؤه المتناقضة.والمعلوم أن كتاب أرسطو في الميتافيزيقا ليس مقصورا على ما بعد الطبيعة .ففيه تأسيس لعلم الطبيعة خاصة ،ولكن بوصفه كذلك نموذج ومنظورا لعلم باقي الوجود.وفيه تأسيس لشروط العلم عامة ،ولمبادئ العقل التي تتأسس عليها كل العلوم ،والتي يقع إسقاطها على الوجود حتى يكون معلوماوفيه تحديد لدور ذرائع المعرفة أو أدواتها ،أو ما يمكن تسميته بالعلوم المساعدة أيالرياضيات (مناقشة رياضيات أفلاطون في المقالتين 13و )14واللسان والتاريخ والمنطق (مقالة الجيم).وفيه أخيرا نظرية في الرب أو الإله ،وهو اثولوجيا فلسفية هي موضوع المقالة الثانية عشرة. لذلك كانت ميتافيزيقا أرسطو في آن نظرية وجود ،ونظرية معرفة ،ونظرية ألوهية. 117 73
وقد تردد أرسطو بين الميتافيزيقا والسياسة ،بمعنى شامل وليس بالمعنى الحالي لكلمةسياسة( ،وفيها الأخلاق والاقتصاد والحكم السياسي) ،أيهما هو العلم الرئيس ،وفي الأخير مال إلى اعتبار الميتافيزيقا هي العلم الرئيس.لكن ابن خلدون عكس واعتبر العلم الرئيس هو علم العمران البشري والاجتماع الإنساني،وهو السياسة بالمعنى الشامل القديم ،لكنه أصبح يعتبر السياسة جزءا خاصة متعلقا بالحكم.وأخيرا فإن أوغست كونت اعتبر المنظورين مقبولين .لكنه رفض الميتافيزيقا وعوضهابالرياضيات ،وعوض السياسة بما يشبه ما عوضها به ابن خلدون ،أي علم الاجتماع أول الفيزياء الاجتماعية.وسعنا مفهوم الفقه وما بعده ليصبح علم كل أفعال الإنسان وأحكامها ،ومن ثم فهو علم كلما يشرعه الإنسان أو ما يعتبره شرعا بما في ذلك قوانين الطبائع والشرائع والذرائعوالبدائع والروائع :إنه في الحقيقة علم ما أضافه الإنسان للطبائع ،أو لما يخصه باسم الطبائع من الوجود.وهذا المفهوم فيه شبه مبدأ التمانع بين الإنسان ونموذج أعلى هو الله ،البعض يؤمنبوجوده ،والبعض يعتبره من صنع الخيال الإنساني ،يتنافسان على هذه الأفعال ودور كل منهما فيها. المطلوب في الكلام على الفقه بهذا المعنى.صار الفقه شبه اسم علم على القضايا القانونية والخلقية ،بمرجعية دينية مستمدة منالنصين القرآن والسنة ،إما مباشرة ،أو بتوسط القياس مع طريقتين أخريين فيهما شبهاعتراف بأن المصدرين الأولين النصيين والقياس على ما ورد فيهما ليسا كافيين حتى لهذا المجال المحدود.واستعمل الفقه مع أضافة وصف الأكبر للدلالة على العقديات ،وليس الشرعيات .وهومفهوم لم ينتشر رغم أنه مفيد جدا ،لأنه يحرر العقائد من استفراد الكلام والفلسفة بها، بافتراض علم لا يرد إليهما دون تحديد طبيعته. 117 74
فيكون العقد موضوع فقه أكبر ،ويكون الشرع موضوع فقه أصغر ،والأول هو مادة الاجتهاد الأكبر ،والثاني مادة الاجتهاد الأصغر.ولما كان الأكبر والأصغر أفعلي تفضيل ،فإنه يوجد دونهما الكبير والصغير .وهما الاجتهادفي شروط الأكبر ،والاجتهاد في شروط الأصغر .ولا يمكن أن يكون الكبير الباحث في شروطالأكبر إلا العلم فيما دونه ،أي في علوم الآفاق ،والصغير الباحث في شروط الأصغر إلا العلم الباحث فيما دونه ،أي في علوم الأنفس.وبهذا المعنى يصبح الفقه فلسفة ذات المرجعية القائلة بالخلق والحرية ،تماما كالفلسفة ذاتالمرجعية القائلة بالتخلق والضرورة :إذن نظريتان للوجود يمكن أن تتعارضا أو أن تتطابقا. وهو ما يطرح أهم مشكل فلسفي وديني على الإطلاق: كيف نجمع بين الضرورة الطبيعية والحرية الخلقية؟ أو بين فلسفة النظر والطبائع وفلسفة العمل والشرائع؟وهذه المعاني كلها ضاعت من الفقه لما أصبح اسم علم على الاجتهاد الفقهي في الأحكامالشرعية القانونية والخلقية ،واعتبار الأصول فيه مقصورة على كيفية استخراجها من المرجعيتين. والعلة تعود إلى العملين الزائفين :علم النظر والعقد الزائف أو علم الكلام.وعلم العمل والشرع الزائف أو علم التصوف .فكلاهما يدعي معرفة حيث لا معرفة ممكنة.فهما بما عالجاه من قضايا زائفة غير قابلة للعلم ،حالا دون علاج ما كان ينبغي علاجه من القضايا الحقيقية :وعلم النظر والعقائد وعلم العمل والشرائع.فأطلق أولهما علم الغيب بالعقل ،وأطلق الثاني علمه بما يسميه علما لدنيا .وبني الأول عل كذبة العقل أو المخلوقات ،والثاني على كذبة الإنسان خلق على صورة الله.ولا بد هنا من العودة إلى منطلق ابن تيمية وابن خلدون في دحض التأسيس المتأخر لمبدأبارمينيدس وأساسه :وحدة الوجود والعقل إذا تلا عنها قدرة العقل الإنساني على علم الوجود ،تقتضي أن يكون العقل الإنساني نسخة من العقل المطلق. 117 75
لذلك فالدحض التيمي المتقدم على الدحض الخلدوني لوحدة الوجود والعقل ،يذهب إلى ما أبعد ،فيدحض وهم تقدم العقل الوجودي ونظرية خلق الإنسان على صورة الرب.فهذان الوهمان هما أساس الكلام التصوف المتفلسفين .وكان من المفروض أن نجعل هذاالمنطلق ضميمة للفصلين الخامس (في الكلام بوصفه علما زائفا) والسادس (في التصوف بوصفه علما زائفا) ،لكننا أجلنا ليكون في هذا الفصل الذي يتكلم في الفقه وأصوله.فجل الأفكار التي تأسس عليها العلمان الزائفان الأصلان ،وما ترتب عليهما من علوم فرعيةزائفة ،ناتجة عن تحيل لغوي ،يمكن أن نضرب منها مثالين هما أساس التصوف والكلام بما هما علمان زائفان.-1كيف بين ابن تيمية الكذبة التي تؤسس فكرة الباطنية في علاقتها بالكلام والفلسفة الكلامية :أول ما خلق الله العقل.-1.1بين أن \"أول ما\" لا تعني أن العقل هو أول شيء ،بل تعني أن العقل بمجرد أن خلقأمر بكذا\" .أول\" ظرفية تصف الزمان ،وليست كيفية تصف العقل .والقصد أن ما أمر به الإنسان مباشرة بعد خلقه هو أن يفعل كذا وكذا..-2كيف بين ابن تيمية الكذبة التي تؤسس فكرة الباطنية في علاقتها بالتصوف والفلسفة الصوفية :خلق الله الإنسان على صورته.-2.2بين أن الضمير في \"صورته\" لا يعود إلى الله بل إلى الإنسان :الله خلق الإنسان علىصورة الإنسان .ولا يمكن ان يكون الله خلق نسخة منه هي الإنسان .والمعنى أن الإنسان خلق على الصورة التي وضعت له أي على النموذج الذي قدر له لخلقه.لكن تشويه فلسفة الدين ،بدعوى قدرات للعقل ليست فيه ،وتشويهها بدعوى قدراتللحدس ليست فيه ،ليس وحده المسؤول على فقدان الأمة لشروط الاستعمار في الارض والاستخلاف فيها.ذلك أن ما أصاب الفقه من تقزيم ،وتحويله إلى مجرد علم التشريع المحدود بالقانونوالأخلاق الدينية ،واعتبار اصوله مقصورة على مشكل استخراجهما من المرجعية ،ألغى أهم ما في ثورة فلسفة الدين القرآنية. 117 76
فالوسيطان بين الفقه الأصغر والفقه الأكبر ،أي الفقه الصغير (شروط الاستعمار فيالأرض) والفقه الكبير (شروط الاستخلاف فيها) ،هما علة انحطاط الحضارة العربية مثلهما مثل العلمين المحرفين.فلست أفهم معنى شرعية قانونية وخلقية في دنيا نجعل كل قوانينها الطبيعية والتاريخيةبالتنكر التام لفصلت 53التي حدد القرآن فيها ضرورة فهم حقيقته ،من خلال العلم الآفاق والأنفس.وهذه الآفاق والأنفس علمها ليس موجودا في المرجعية القرآنية أو السنية ،لأن المرجعيتينتوجيه للإنسان لعلم شروط الاستعمار في الأرض والعمل بقوانينها حتى لا يخلد إليها، فيكون جديرا بالاستخلاف.الجماع بين الاجتهادات بأصنافها الغائية (الفقه الاصغر والفقه الأكبر) والأداتية (الفقهالصغير والفقه الكبير) هي التي تتأسس في الفقه بمعناه العام ،الذي هو فلسفة الدينالتي غيبها علم العقائد الزائد وعلم الشرائع الزائف ،وتقزيم الفقهين الأكبر والأصغر.وأختم المحاولة بوضع أسئلة الفقه بمعناه العام :وهي التالية ،وكل منها يمكن أن يكون مادةلمجلد .لكن نحن هنا نكتفي بإشارات لما يحتوي عليه التفسير الفلسفي للقرآن الكريم من مقوماتها الأساسية: ما طبيعة الشرائع وطبيعة ما بعد الشرائع؟والجواب هو بيان كيف يكون أساس كل العلوم الأولى هو علوم الأنفس ،الذي يوجه إليهالقرآن الكريم المؤمنين ليعلموا ،بالبحث العلمي ،قوانين التاريخ التي هي روحية ،وفيهانكتشف أن ما جاء فيه من توجيهات هي عين الحق .وما بعد الفقه الديني بهذا المعنى هو ما أطلقت عليه اسم ما بعد الأخلاق. ما طبيعة الطبائع وطبيعة ما بعد الطبائع؟ 117 77
والجواب هو بيان كيف يكون اساس العلوم الثانية هو علم الآفاق الذي يوجه إليه القرآنالكريم المؤمنين للبحث العلمي فيه ،ومعرفة قوانين الطبيعة التي يصفها القرآن بكونهارياضية ،وبها نعلم حقيقة توجيهات القرآن :وذلك هو ما بعد الفقه الطبيعي أو ما بعد الطبيعة. ما طبيعة الذرائع وطبيعة ما بعد الذرائع؟والجواب هو بيان كيف يكون الأساس المنهجي لكل العلوم من النوع الأول ،والنوع الثانيمن العلوم ،ومن ثم فهي شرط كل معرفة علمية ببعديها التواصلي بين الباحثين ،والتفاعليمع موضوعات العلوم ،أي القوانين التاريخية والطبيعية لأنها تؤسس لأدوات الفعل التقني فيها :ما بعد الفقه الذريعي هو علم ما بعد الترميز. ما طبيعة البدائع وطبيعة ما بعد البدائع؟والجواب هو أن البدائع هي ما يبدعه العقل والوجدان الإنسانيان للوصل بين ما بعد فقهالشرائع (ما علم الأنفس) ،وما بعد فقه الطبائع (ما بعد علم الآفاق) ،وما بعد فقهالذرائع وتحديد علاقاتها التي تمكن من الجسر بينها :وذلك هو علم الرمز الرمز والرامز والمرموز والرامز المرموز والرامز المرموز الرمز :الوسميات أو السيميوتكس. ما طبيعة الروائع وطبيعة ما بعد الروائع؟والجواب هو سؤال يضع الإنسان أمام حلين يتردد بينهما دائما ،سواء في الفكر الفلسفي أو في الفكر الديني .فهل يوجد مبدأ موحد لأصناف المابعد ولموضوعاتها: إما كأفعال لذات متعالية على هذه الموجودات وما بعدها :وحدة الشهود؟ أو كأفعال ذات هي ذاتها هذه الموجودات وما بعدها :وحدة الوجود؟ 117 78
أمليت أمس الفصل السابع من الحرب اللطيفة -خاص بعلم الفقه وعلل تقزيمه -مباشرة دون المرور بالتغريد لا نقاطع مؤقت للوصلة. والآن استأنف الكلام في الفصل الثامن ونخصصه للفلسفة.كان الكلام في الفقه بمعناه الذي كان ينبغي أن يكون عليه ،لو لم تفسده العلوم الزائفة فتقزمه إلى الاجتهاد الأصغر في القانون والأخلاق الدينية.وقزمت أصوله في الفنيات اللسانية المنطقية لاستخراج القوانين والقيم الخلقية الدينية من المرجعيتين القرآنية والسنية وشروط المدارس للقياس عليها. وقدمنا تعريفا للفقه يجعله علم اصناف الاجتهاد كلها وهي:وتعريف الفقه هذا يحدد مدخلا لكل العلوم ،مقابل تماما للمدخل الذي تحدده الفلسفة،أي الميتافيزيقا .الفقه الشامل يسير من الأنفس إلى الآفاق ،أو من علوم الإنسان إلى علوم الطبيعة.وهو ما يعني ابستمولوجيا تقديم التأويلي ،أو الهرمينوطيقي على التحليلي ،أوالأنالوطيقي .لكن تاريخ الفكر الفلسفي إلى غاية القرن التاسع عشر ،يتبع المسار المعاكس له تماما. 117 79
لكن تقدم الرياضيات والمنطقيات وتعددهما ،وخاصة اكتشاف الوسميات والفينومينولوجيا وبداية التنظير للهرمينوطيقا ،كل ذلك غير نظرية العلم والفلسفة.فكانت محاولة الوصل بين ابستمولوجيا علوم الإنسان وعلوم الطبيعة قد بدأت تثبت أن العكس هو الأصح ،وأن التحليلي هو في الحقيقة تبسيط غير واع للتأويلي.فبدأت الفلسفة في نهايات القرن التاسع عشر تسعى لتأسيس علوم الإنسان ،وتعتبر القصدية الفكرية هي الفعل المؤسس للنظر والعمل لوضع عالم مثالي هو شرطهما.ثم تلا ذلك كله منهج الجينيالوجيا النيتشوية ،وقريبا منها منهج الأركيولوجيا الفوكلدية،والعلاجات المعتمدة على الدراسات السيميوتيكية ،ودور الرموز في أطوار الفكر العلمي النظري والعملي.وإذا كان الموضوع معان مجردة من جنس الرياضي والمنطقي ،فالأفعال الواضعة ليست رياضية ولا منطقية ،بل هي أفعال للفكر من طبيعة أخرى نريد تحديدها.ولعل صاحبي الفضل في تبين ذلك رجلان لم يكونا من المشهورين بين الفلاسفة ،هما فرانز برنتانو (فلسفة ألمانية) ،وبيرس (فلسفة أمريكية) ،ولنكتف بالأول.ففي محاولته تأسيس ما يميز موضوع علوم الإنسان عامة ،وعلم النفس خاصة ،وضع نظرية عادت بالفلسفة الحديثة إلى ما كادت تنساه ،أعني أرسطو وابن سينا.ففي بحثه عن معاني الوجود المتعددة (ارسطو) ،والعناية أو المعنى أو ما يتوجه إليه الفكربقصدية تصوب نحو معنى (ابن سينا) ،اكتشف ما يميز أفعال الفكر واعتبره ما يميز موضوع الإنسانيات.وهذا المعنى الذي يصوب الفكر نحوه انتباهه ،ليس موجودا في العالم الحسي ،بل هو منالمعاني الكلية التي يمكن أن أمثلة في العالم الحسي تنطبق عليها مفهوم هذا الكلي ،فتكون من صادقيته.وهو ليس مجرد منها بالاستقراء بل هو سابق عليها ومن دونه لا يمكن تصورها حتى مجرد التصور .ولذلك فلهذا المفهوم علاقة مباشرة بفلسفة ابن سينا في الكليات. 117 80
فنظريته في مفهوم الوجود في العناية الإلهية الوجود الذي يعتبره متقدما على الوجودالمتعين في الطبيعة تضع نوعا من المثل القائمة بذاتها وإن لم يكن قائلا بالمثل الأفلاطونية.وهو مفهوم يجمع بين دلالتين واحدة يمكن ردها إلى عالم المثل الأفلاطوني والثانية يمكن ردها إلى مفهوم اللوح المحفوظ أو علم إلهي يؤسس للمعلومية.ومعنى ذلك أن الفكر الإنساني لا يعلم الوجود الحسي مباشرة بل هو يعود إليه بعد وضع عالم مثالي وراءه منه يستمد قوانينه التي تمكن من إدراكه.وهذا العالم المثالي وراء العالم الطبيعي والإنساني هومن طبيعة رياضية ومنطقية .لكن الأفعال التي تبدعه فعلا أو تدركه انفعالا من طبيعة \"روحية\" وعقلية.والأخيرة هي ما سماه ابن سينا بالعناية الإلهية ويمكن للفلسفة الخالصة أن تسميه بعناية العقل الإنساني .وهذه الأفعال النظرية والعملية هي العاقلية المبدعة للمعقولية. العاقلية المبدعة للمعقولية هي الدين بمعنين: -1من دون الإيمان بها يغرق الإنسان في السيلان الأبدي -2بها يمكن له أن يسيطر على الطبيعة وعلى الشريعة.ومعنى ذلك وخلافا لما يتوهم السطحيون من الحداثيين الفلسفة الحديثة أكثر تدينا مما يتصورون بل هي عادت وإن بأسماء أخرى إلى جوهر الديني وأغراض فكره.ولا بد من تقديم مفهوم غائب في فكرنا لكنه سائد في الفكر الفلسفي الغربي حتى قبل هذه النقلة النوعية :التمييز بين الديني والدين الوضعي أو الرسمي.سبق أن قست ذلك على التمييز بين الوظائف والأعضاء في الاحيائيات .وهذا الديني هو الذي عادت إليه الفلسفة وليس الدين الوضعي أي مؤسساته وشعائره.ويمكن القول إن الموقف من الدين عند سطحيي الحداثيين علته الخلط بين الديني والدين الوضعي .ولا بد من الاعتراف أن الفلسفة كافرة بالدين الوضعي. 117 81
وأقصد الفلسفة على الإطلاق من أفلاطون إلى اليوم :الدين الوضعي أي الدين الرسميمؤسسات وشعائر وممارسات كلها تعتبرها غير وظائف الديني بل هي أعضاؤه التي لا تعنيها.وعندما أقول لا تعنيها فقصدي أنها لا تعنيها عند البحث في مقومات الديني .لكنها تدرسهابوصفها منطلق تحريف الديني من خلال توظيفه من أجل غايات سياسية تناقض الغايات المعرفية.وهنا يكمن الفرق بين الموقف الفلسفي والموقف الصوفي من الدين الوضعي :فالفلسفة ترفضه لتعارضه مع المعرفة والتصوف يرفضه لحده من سلطانه الروحي.ولأعد لكلامي في مدخلي درس أفعال الإنسان النظرية والعملية :الأول هو الذي ينطلقمن علوم الأنفس أو من علوم الشرائع وذلك هو الفقه الشامل .والثاني هو الذي ينطلق من علوم الآفاق أو من علوم الطبائع وتلك هي الفلسفة.وهذا هو السر في اعتباري كلمة \"فقه\" اسما للمعرفة عامة بمدخل يعتبر أفعال تشريعا للعالم وزيادة صدرية تفيد \"لوجوس\" كما في فقه اللغة (فيلولوجيا).وقد استعملت ذلك أول مرة سنة 1974في كتاب كتبته بالفرنسية أولا ثم نقلته إلى العربيةونشر لأن تونس شرعت سنتها في تعريب الفلسفة .وقد كان \"بحثـي التربوي\" لترسيمي أستاذا في الثانويات.وقد ذكرت هذا لعلتين الأولى هي بيان تحسسي لفهم العلاقة بين فعل العقل ومفعوله أو فعل التصور والتصور وفعل ابداع المفهوم والمفهوم في عمل الفكر.والثانية بسبب خلاف أثار حساسية كبرى لدى الزميل طه عبد الرحمن عندما نبهت إلى أن ما يدعيه سبق إليه بعقد وفي دلالة فلسفية وليس فقهية تقليدية.ولذلك كتبت لاحقا كتابا بعنوان \"فقه العلم ومراسه\" بمعنى \"ابتسمو-لوجي\" وتطبيقاتها. ففقه تناظر \"لوجي\" والعلم تناظر \"ابستمو\" في ابستمولوجي. 117 82
وقد أهديت له الكتاب لما زارنا في ندوة بتونس قبل تآلفيه بأكثر من خمس سنوات علىالأقل .ولما أشرت إلى ذلك ظنني اتهمه بشيء وما كان ذلك قصدي لأني لم أعر للمسألة أدنى أهمية.ما كتبته سنة 1974كان في منهدية تدريس الفلسفة كان منتشرا في كل بلاد المغرب وخاصةبعد أن شرعنا في توحيد البرامج بين تونس والمغرب وفي الكتاب كلام على فقه العلم وفقهالعمل وفقه القيم وفقه الوجود بمعنى ابستمولوجيا وبراكسيولوجيا وأكسيولوجيا وانطولوجيا وهي موضوعات بحثي في كيفية تدريس الفلسفة.فإذا عدنا إلى تقزيم الفقه بدلا من أن يكون كل هذا الذي بينا أنه حقيقته علمنا أن من نتائجه جعل الفقه تابعا للسياسة بمعناها المحدود بممارسة الحكم السياسي.والفقه كما حددناه في الفصل السابع هو العلم الرئيس من مدخل الشرائع المناظر للفلسفةالتي هي العلم الرئيس من مدخل الطبائع .علم الفلسفة الرئيس يدخل للعلوم من درس الطبائع (ميتافيزيقا) وعلم الفقه الرئيس يدخلها من درس الشرائع (ميتاأخلاق).ذلك أنه لو كان الفقهاء يفهمون بالسياسية ما يقصده أرسطو أو ابن خلدون لما كان في ذلك ضرر فهي في هذه الحالة تتجاوز فن الحكم إلى العلم الرئيس.وبعبارة أوضـح فالفلسفة تدخل لدرس النظر والعمل من مد َركهما أو موضوع الإدراك أي المعقولية والفقه يدخلهما من فعل إدراكهما أو فعل الإدراك أي العاقلية.وهما يلتقيان لأنهما يغطيان نفس المجال وإن بمسارين متقابلي الاتجاه :ما يبدأ به الفقه تنهي إليه الفلسفة (الديني) وما تبدأ به الفلسفة ينتهي إليه الفقه (الفلسفي).ومعنى ذلك أن الفقه بمعناه الذي كان ينبغي أن يتحقق مآله الفلسفة وهو ما بعد الأخلاق والفلسفة مآلها الفقه إلهيات عقلية غاية لميتافيزيقا أرسطو.يمكن القول إننا إلى حد الآن لم نتجاوز ما يمكن للقارئ الحائز على ثقافة فلسفية عادية أن يتابعه دون معيقات جدية للفهم .لكننا سنمر إلى هو أشد عسرا. 117 83
نمر إلى الأسئلة الخمسة التي طرحناها في غاية الفصل السابع :فهي تنطلق من طلب العلم الرئيس الأسمى الذي لم يطلب سابقا من الفقه بمعناه الأشمل.وهذا العلم الرئيس هو موضوع الفصل التاسع إنه أصل الفروع الأربعة التي تكلمنا عليها أي تفسير القرآن الكريم :العلم الرئيس الأسمى هو تفسير القرآن.لكن الوصول إليه يقتضي الجواب الدقيق على أسئلتنا الخمسة التي عرضناها في الفصل السابع المخصص للفقه ولعلل تقزيمه وشروط شموله الاجتهادات الخمسة. الأسئلة: -1ما طبيعة علم الطبائع وما بعده؟ -2ما طبيعة علم الشرائع وما بعده؟ -3ما طبيعة علم الذرائع وما بعده؟ -4ماطبعية علم البدائع وما بعده؟ -5ما طبيعة علم الروائع وما بعده؟وهذا المجال الأخير غير مفهوم بحق .وعلينا البدء به وقد اخترت اسم الروائع بمعنيي \"راع\" أي الرائع والمريع.فلا يمكن فهم الدين والفلسفة باعتبارهما فعلين إنسانيين يحددان طبيعة علاقة الإنسانبذاته وبالكون وبما وراءهما من دون هذين الشعورين :من دون شعوري الجمال والجلال.والشعور بالروعة من الجمال وهو لا يحصل من دون الجمع بين مفهومين يبدوان متناقضين لكنهما يحققان الجمال بما بينهما من تناغم :تناغم وحدة المتعدد.والشعور الجمالي بروعة الانغومة الوجودية لحظات آفلة بسرعة يتخللها حركية تولد الشعور الجلالي بالمريع لما فيها من فوضى السيلان الأبدي الرهيب.ويكفي قراءة ما يحصل في العالم في لحظة النهاية والانتقال من الدنيا إلى الآخرة كمايصفها القرآن الكريم .فكل شيء فيها عجيب وجليل ورهيب .فالشمس تكور والنجوم 117 84
تنكدر .والجبال تسير .والعشار تعطل .والوحوش تحشر .والنفوس تزوج .والموءودة تسأل إلخ...فتمتزج السماوات والبحار والجبال والمقابر يوم البعث.ويزول الفرق بين الطبائع والشرائع والذرائع والبدائع والروائع .كل شيء تنقلب قوانينه فيصبح في سيلان وموران لا يتوقفان.يوم الحشر تزول فيه الفواصل بين الدنيوي والأخروي وبين الطبيعي والتاريخي .إنه مشهد رائع ومريع جميل وجليل جاذب ودافع محبوب ومكروه مرغوب فيه ومرغوب عنه.كل ذلك في نفي تام لقوانين الطبيعة وسنن التاريخ وكل ما اعتيد من نظام العالم .ومنأراد أن يفهم بيسر هذا التوالج بين الروعة والروح بين الجمال والجلال فليقرأ اسماء اللهالحسنى :فلا شيء رائع ومريع أكثر من تلقيب الله لنفسه بأسمائه الحسنى .إنها أسماء الرائع والمريع القريب والبعيد الرحيم وشديد القاب.والجمالي والجلالي شعوران يتواليان أو يتوالجان فيحصل الشعور الديني الحقيقي الذي يضع الأسئلة الوجودية المطلقة وأسئلتنا هذه ترجمة معرفية لها.وفيها معنيا الخشية :الرائع والمريع .فـ\"إنما يخشى اللهَ (اللهُ) العلما ُء (العلماءَ)\" فالمعنى الأول هو خلف العلماء والمعنى الثاني هو احترام الله للعلماء.ومن يقرأ القرآن ولم يشعر بالرهبة الجامعة بين الروعة والروع ليس جديرا بقراءته لأن المعجز في القرآن هو هذه الفاعلية القرآنية في إيقاظ الروح.ويقظة الروح هي هذا الشعور المزيج الذي هو شعور المهابة الجامعة بين الرهبة والمحبة لأن الأول هو الشعور بالجلال والثاني هو الشعور بالجمال.ومن هذين الشعورين تنتج اليقظة الروحية التي هي الشعور بالسؤال بمعنيي الكلمة: فالسائل هو صاحب الحاجة وهنا الحاجة فقر وجودي واشرئباب خلقي.والحاجة من حيث هي فقر وجودي ذات دلالة روحية تتعلق باشرئباب الحياة إلى الخلود ومن حيث هي اشرئباب خلقي هي السؤال المعرفي نظريا وعمليا. 117 85
فإذا تقدم السؤال العملي على السؤال النظري كنا في أسلوب السؤال الديني وإذا تقدمالنظري على العملي كنا في أسلوب السؤال الفلسفي :والأول هو سؤال الفعل والثاني هو سؤال المفعول.ولعل أبرز حجة يمكن استمدادها من تاريخ الفلسفة هو نظرية الرب الأرسطية :فهو لايفعل بل الأشياء التي تنجذب بكماله العقلي والخلقي شوقا لصورته تتغير لتكتمل صورتها الموجودة بالقوة في مادتها.إنه محرك لا يتحرك :ويشبه العلة الغائية المحركة لما عداها وهي ساكنة بلا حركة ولا فعلرغم أنها الفعل المطلق :كموضوع وليس كذات لأنه ليس ذاتا وإن كان يعلم ذاته ولا يعلم شيئا عداها لعدم جدارة أي شيء بعلمه.ومن ثم فكل الموجودات لا تفعل بل تنفعل وهي طبائع بما في ذلك الشرائع عند الإنسانفهي ترد إلى الطبائع ولذلك فالتاريخ من السيلان الذي لا يعلم أو يرد إلى دورة الكون والفساد التي تشبه العود الأبدي.ونظرة أفلاطون لا تختلف عن نظرة أرسطو :كلاهما لا يعترف بالتاريخ بل يرده إلى العود الأبدي الذي لا يتجاوز ما هو مكتوب في الطبائع المنفعلة بالصورة التي وصفت.إذ حتى الإله الصانع -ديميورج-فهو محاك وليس مبدعا .وهو منفعل بالمثل وليس فاعلابعلمه .ومن ثم فأساس هذه الفلسفة هو موضوع الفعل أو المفعول وليس ذات الفاعل أو الفعل.لكن الصورة الإسلامية لله تجعله مبدع الفاعل والمفعول والفعل والانفعال .فهو بارئ كل شيء بفاعلية معرفية ووجودية وبإرادة حرة وقدرة لا متناهية.أما خرافة أن ذلك مجرد أسقاط لنظرية الحاكم المستبد فهي من علامات سخف القائلين بها :ذلك أن هذا المفهوم هو بالذات ما به يستثنى مثل هذا التصور لأي حاكم له هذه الصفات ومجرد ادعاؤه ذلك يعتبر كفرا .فهو الخالق :والخالق هو الله وحده. 117 86
وسؤال الفعل هو سؤال فقه الشرائع .سؤال المفعول هو سؤال فلسفة الطبائع .ويحتاجالسؤالان لسؤال الذرائع أو العلوم الأدوات ولسؤال البدائع :وصل مجالات الأسئلة الخمسة.وسؤال البدائع يمكن أن يكون مصدر الإبداع أو مصدر البدع .ومن هنا تكلمنا على العلوم الزائفة التي هي مصدر البدع والعلوم الحقيقة التي هي مصدر الإبداع.وبذلك نصل إلى السؤال الرئيس :أي السؤال الذي بدأنا الكلام به أعني سؤال الروائع. كيف نفهم الرائع والمريع هل نكتفي بالموجود دون منشود؟ وهل نفترض وجود واجد يكون أصلا للرائع والمريع؟إذا افترضنا وجوده ألا نقع فيما يشبه التمانع :فإما الله أو الإنسان؟ الفقه يبدأ بالله والفلسفة تبدأ بالإنسان.في الحقيقة القائل الله :ينتهي عادة إلى الإنسان .والقائل الإنسان :ينتهي عادة إلى الله. وذانك هما قطبا المغنطيس الفكري في الدين والفلسفة معا.وهنا لا بد أن اعترف للقارئ بأني لا أدري هل أنا بصدد الكلام على حقيقة الدين والفلسفة أم على تجربتي الشخصية فيما عشته من حيرة بينهما.وما أظن أنه يوجد فكر صادق لا يختلط فيه التجربة الروحية الذاتية والتجربة المعرفية الكونية بعلاج الإنسانية للعلاقة بين الديني والفلسفي عامة.فمن يدعي أنه يكتفي بالفلسفة أو يكتفي بالدين يمكن أن نعتبره بمصطلح ابن تيمية لم يتجاوز النصفية ولكن النصفية في التجربتين وليس في مجال معين منهما.لذلك لم أرتح إلا بعد أن أتممت ما وعدت به نفسي في صغري لأدرك حقيقة عظمة الإسلام :أن أترجم كتاب هيجل في فلسفة الدين وقد تم ذلك بعون الله.فبترجمته تأكد لي ما كنت أحدسه-مع حذر من أن يكون مجرد موروث عن تربية عقدية- أن القرآن فعلا خطاب كوني فيه الديني بما هو هذا الفقه الشامل. 117 87
فرغم أن دروس هيجل قد تجاوزتها اليوم المعرفة بالأديان فهو تجاوز معرفي الاُنتيكي لاالأُنطولوجي في الديني وإذن فهو قليل الدلالة في مسألتي ولا يحد من الصورة التي أريد رسمها من تطور المعرفة الفلسفية بالديني.فالفلسفة بمعناها التقليدي -منظومة نسقية تشمل نظام المعارف الإنسانية ورمزها في بدايتها القديمة منظومة أرسطو وفي نهايتها الحديثة منظومة هيجل.فهي بدأت مع زوجين يونانيين هما أفلاطون وتلميذه وناقده أرسطو .وانتهت مع زوجينألمانيين هما كنط وتلميذه وناقده هيجل .لم توجد بشكلها هذا قبل الأولين ولا بعد الأخيرين.بدأت درس الفلسفة بالأولين وختمته بالأخيرين فلم أجد ما يتجاوز الأولين والأخيرين.لكن المدرسة الفلسفية النقدية العربية مستثناة من هذا المسار وهي توضح ما أعرضه هنا لأنها لا تنتسب إلى أي منهما.ويمكن القول إن ما قبل البداية وما بعد الغاية كان نوعا من الفكر لم يتحدد بالصورة التيامتازت بها المدرستان الأفلاطونية الأرسطية والكنطية الهيجلية بل هما أقرب إلى المدرسة النقدية العربية.ولا يعني ذلك أن الفكر الإنساني قد نكص إلى ما دون المدرستين التقليديتين القديمة والحديثة بل هو تجاوزهما فيما بعدهما الذي له وجه شبه بما قبلهما.ولم يكن ذلك بالعودة إلى ما قبلهما بل بتعديلهما تعديلا لا يلغي ما ألغياه فيما تصوراهتجاوزا للما قبل فإذا المابعد يبين ضرورته وبه تحرر الفكر الإنساني من النسقية الزائفة.ولعل أهم تعديل هو تجاوز الانغلاق النسقي والكمال الزائف للنظر والعمل اللذين همابالجوهر مطلقي اللاكمال وكل نسقية فيهما اصطناعية يمكن أن تقبل منهجيا لكنها لا تمثل حقيقة عليمة ولا خلقية. 117 88
لست مغرما بالسجع ولم اختر أسماء العلوم حبا فيه :بل لأن الثلاثة الأولى موجودة سابقا-الطبائع والشرائع والذرائع .واكتفيت بمطابقة الاسم لحقيقة المسمى في البدائع والروائع.فما يصل بين هذه العلوم ليس ظاهرات طبيعية ولا هو ظاهرات شريعية ولا هو ظاهرات ذريعية بل هو إبداعات خيالية وظيفتها تحديد شروط الجسر بينها.واخترت روائع بسبب ما بينت في كلامـي على الرائع والمريع .ولا أحتاج لمزيد شرح .ومن ثم فالتسميات ليست تحمية بل هي تكاد تكون تعريفية تبين حد المسمى.ولنعلل التسيمة بالبدائع .فهي نوعان .إذا كان الجسر مبدعا لسردية محفزة للعلوم كانتبدائع بالمعنى الإيجابي .وإذا كان مثبطا لها كانت بدعا بالمعنى السلبي .لذلك اخترت بدائع.فلنختم بالكلام على تعريف الفلسفة لمنظومتها النظرية والعملية وهي محاولة لم تتجاوزصيغتين يونانية وألمانية أولاهما سيطرة على الفلسفة القديمة والوسيطة والثانية على الـحديثة والمعاصرة.ومما ينكره أدعياء الحداثة العرب-ومن البديهي أن يبدو انكارهم محقا -هو دعواي أنالمدرسة النقدية العربية (الغزالي وابن تيمية وابن خلدون) مستثناة من هذين المنظومتين وأنها قد تجاوزت التحديد اليوناني والألماني.ذلك أنه من المفارقة أن يدعي الواحد أن السابق قد تجاوز اللاحق لفرط اخضاع تاريخالمعرفة للترتيب الزماني :فيمكن أن يقبل المرء أن تتجاوز المدرسة النقدية العربيةالمنظومة المتقدمة عليها بالزمان .لكن هل يعقل أن تعتبر قد تجاوزت المنظومة المتأخرة عنهم بالزمان؟ 117 89
هذه بدعة يتهمني بها الكثير بدعوى أني \"وهابي\" أو \"إسلاموي\" أو الخ ..وهو هراء لايزعجني لسخف أصحابه :فلا أحد ممن تلا ابن تيمية ينتسب إلى فكره وخاصة من الوهابية أو السلفية الحاليتين.أما تجاوز الزوج الثاني كنط وهيجل فقد حصل باعترافهما :فقد أثبتا فلسفيا عدم كفاية الفلسفة بمعناها التقليدي وحاولا ما تقدمت إليه المدرسة النقدية.ومحاولتهما أنهت الفلسفة التقليدية ولم تستطع تأسيس فلسفة معاصرة ذات نسقية .وهو ما تحقق بتجاوز نقدي لهما فيما بعد الشرائع وما بعد الذرائع.أما محاولة المدرسة النقدية العربية فهي مضاعفة .فما بعد الشرائع أسميه التأسيسالخلدوني لفلسفة العمل والتاريخ .وما بعد الذرائع أسميه التأسيس التيمي لفلسفة النظر والدين.ولا تهم حصيلة التأسيسين المضمونية التي الكثير منها لم يعد مناسبا للعصر .المهم إدراكالحاجة للتأسيسين المتجاوزين للقديم والحديث .المهم تقديم محاولة يمكن أن نتجاوز مضمونها لكن حقيقتها تبقى صالحة بتطوير المضمون.وحتى المضمون المقترح من ابن تيمية في النظري والديني ومن ابن خلدون في العملي والتاريخي فهو أفضل مما اقترحه كنط وهيجل وقد بيناه في غير موضع.فلنورد الآن التحديدين اليوناني والألماني ومحاولة المدرسة النقدية بإيجاز ولنترك الحكم للقارئ من خلال مقارنة سريعة لهذه المحاولات في ضوء الحاضر الفلسفي.وقبل ذلك فلأورد مثالين من النقلة التي حدثت في المدرسة النقدية العربية والتي هي سر فكر كنط وفكر هيجل أعني المقولات الكنطية وظاهراتية الروح الهيجلية.فالفرق الجوهري الأول هو الفرق بين مقولات أرسطو ومقولات كنط يتمثل في أن الأولى تنطلق من المعقولية أو موضوعات العقل والثانية من العاقلية أو فاعليات العقل. 117 90
والفرق الجوهري الثاني هو الفرق بين المعقول الأفلاطوني والمعقول الهيجلي ويتمثل فيأن تجربة الروح Phänomenologie des Geistes-هي حصيلة تجربته بالأساس روحية أي معرفية ودينية في إطار السياسي والاجتماعي.وقد بينت أن العلاقة بين ابن تيمية وابن خلدون عكس العلاقة بين افلاطون وأرسطو وهي معكوسة لقرب ابن خلدون من الأول ولقرب ابن تيمية من أرسطو.واقصد أن تقديم العمل والشرائع على النظر والطبائع خلدوني وأفلاطوني وتقديم النظر والطبائع على العمل والشرائع أرسطي وتيمي. لكن التقديم مختلف.ذلك أن الطبائع والشرائع عند الزوجين العربيين غير الطبائع والشرائع عند الزوجين اليونانيين .والسبب هو نظرية المعرفة بالمطابقة أو بدونها.أفلاطون وأرسطو يقولان بنظرية المطابقة :الوجود مطلق الشفافية للعقل عملا بمبدأ بارمينيدس (الشذرة الخامسة) وابن تيمية وابن خلدون يؤمنان بالغيب.والإيمان بالغيب فلسفيا يعني أن الوجود غير شفاف وأنه لا يرد إلى الإدراك ومن ثم فالعلم الإنساني ليس علما مطابقا للوجود بل هو تشريع ناقص.هذا التشريع الناقص هو جوهر نظرية المعرفة لدى الزوجين الألمانيين كنط وهيجل ومدارخلافهما :كنط يعتبره ناقصا (لا يعلم العقل إلا الظواهر) بإطلاق وهيجل يعتبر ناقصا تاريخيا (العقل يعلم الوجود على ما هو عليه في نهاية تطوره).والعيب الكنطي يتمثل في دعوى ذات مرجعية دينية غير صريحة .والعيب الهيجلي يتمثلفي اعتبار النقص المعرفي غير جوهري بل هو إضافي إلى التطور التاريخي .وهذا سر نظرية هيجل في أرواح الشعوب.وهو ما يترتب عليه نظرية عنصرية في التفاضل بين الشعوب بمدى بلوغ روحها للروح الأتمالذي يحدده هيجل بكونه روح الحضارة المسيحية التي بها اكتمل التاريخ ومن هم دون ذلك ليسوا بشرا إلا بالقوة. 117 91
ما به تجاوزت المدرسة النقدية الزوجين الألمانيين هو التحرر من عيب الحل الكنطي (اخفاء المرجعية الدينـية) ومن عيب الحل الهيجلي (رد النقص للتاريخ).المدرسة النقدية عالجت قضية ما بعد النظر والعقد (ابن تيمية) وما بعد العمل والشرع (ابن خلدون) بمنظور فلسفي لا يخفي دور الدين ولا يطلق دور التاريخ.قدمنا الكلام في حل المدرسة النقدية العربية المتجاوز للتحديدين القديم والحديث.فلنختم الآن بذكر سريع للحلين القديم والحديث :كيف ينتظم مجال الفلسفة النظري والعملي قديما وحديثا.وقبل ذلك ما معنى إطلاق هيجل للتاريخ؟ لا أعني حديث لتاريخ بل حدثه .فعنده أنالوجود الخيالي هو الموجود من ذاك الجانب (ينزايت) والوجود الحقيقي هو الموجود من هذا الجانب (ديسزايت).فهذا الجانب (ديسزايت) وذاك الجانب (ينزايت) يعني الآخرة والدنيا المتساوقين وليس المتواليين أحدهما خيالي والثاني حقيقي وأن التاريخ لا وراء له.ولذلك فكل الماركسيين العرب الذين يتوهمون فيصدقون ما يقوله ماركس في دعواه قلبهيجل وجعله يمشي على رجليه بدل رأسه هم الذين يمشون مقلوبي العقل والوجدان لغبائهم.ماركس لم يتجاوز هيجل إلا بوهم مقابلة بين مادة غير مادة ردا للثاني إلى الاول وهو تناقض لأنها تتنافى مع القول بالجدل وإذن فهي عين الوهم حتى وإن ادعاها ماركس.المنظومة اليونانية :ثالوثان :الأول نظري هو الطبيعيات والرياضيات وما بعد الطبيعة. والثاني عملي هو الأخلاقيات والاقتصاديات والسياسيات.وكلاهما لا يعتبران علمين بل هما أعداد منهجي للمتعلم في قوانين صورة المعرفة وفي قوانين مادة المعرفة والأولى استنتاجية للأفكار والثانية استقرائية للمعطيات المضمونية.التاريخ ليس علم التاريخ بمعناه الحال هو جمع معلومات حول موضوع من التجربة الخارجية :اعتبار المعطيات أحداث أو وقائع تجمع تم تصور منطقيا. 117 92
وتصنيف العلوم الفلسفية هذا بقي ثابتا تقريبا إلى بداية الفلسفة الحديثة ويمكن الرمز للقطيعة بما يسمى شجرة المعرفة الديكارتية لكن البديل تأخر إلى القرن الثامن عشر.ويمكن الإشارة إلى أن النقلة من القديم إلى الحديث لا يمكن فهمها إلا بدور الفلسفة العربية غير النقدية وخاصة بان سينا والغزالي السينوي. لماذا ميزت بين الفلسفة العربية النقدية وغير النقدية؟لأني اقصد بالأولى التي بقيت في نفس البارادايم وبالثانية التي خرجت منه كما وصفت.يمكن القول إن التصنيف الثاني في الفلسفة الغربية الحديثة هو توضيح محاولة ابن سينا ومن بعده الغزالي تنظيم كتاب ما بعد الطبيعة الأرسطي.وللتبسيط فإن ما حدث عند كريستيان فولف (تلميذ لايبنتس فلسفيا) صاحب التصنيفالبديل من تصنيف أرسطو ليس إلا ترجمة شبه حرفية لما حققته موسوعة الشفاء من تنظيم لموضوعات الفلسفة.صنف فولف في القرن الثامن عشر موضوعات الفلسفة إلى اربعة هي :الأنطولوجيا العامة (ابن سينا) والانطلوجيات الخاصة ثلاث وندين بها للغزالي.والأنطولوجيات الخاصة هي :علم الله (ثيولوجيا) وعلم العالم (كوسمولوجيا) وعلمالإنسان (انثروبولوجيا) .والغزالي في التهافت اتبع هذه الخطة للتشكيك في علمية الميتافيزيقا.لكن التصنيفين القديم والحديث كلاهما انقرض بعد كنط وهيجل .وعدنا لما انتهت إليه المدرسة النقدية العربية :ما وراء الشرائع وما وراء الطبائع.أمسك الزمام .فقد وصلت إلى الغاية التي ستكون موضوع الفصل التاسع :تفسير القرآن الكريم اي ما بعد الروائع والبدائع والذرائع والشرائع والطبائع. 117 93
وصلنا إلى أصل الفروع الأربعة التي درسناها ودرسنا تزييفها في الفصول السابقة. إنه ما بعد الأخلاق أو تفسير القرآن الكريم الذي هو المرجعية الأصلية الوحيدة.ومعنى كونه مرجعية أصلية وحيدة يفيد أن السنة تستند إلى القرآن مرجعية لها إما موضوعا لتعليمها أو أساسا لتعيين مبادئها العامة بالممارسة لاستحالة غيرها.ومن ثم فكل قرآني سخيف لأنه كمن يريد أن يستغني عن أفضل مفسر ومعلم القرآن نفسهاعتبره كذلك وليس مجرد ناقل للوحي \" :وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا\"(الإسراء .)106والسنة مرجعية بهذا المعنى الذي لا غناء عنه كما سنحاول بيان طبيعة دورها في علم ما بعد الأخلاق الذي هو جوهر الرسالة القرآنية أصلا لكل ما وصفنا في الفصول السابقة.ولنبدأ بالحيرة التي يجد المرء نفسه أمامها كلما حاول أن يتكلم في القرآن الكريم حتى لو كان لا يؤمن به-إذ حتى أعداؤه تعتورهم هذه الحيرة فيه.وأفضل طريقة لبيان طبيعة هذه الحيرة الانطلاق من موقف من لا يؤمن به حتى نتجنبالاعتراض الذي لخصه المعري بزعمه أن أثر القرآن يعود للعادة والتعليم والسماع المتكرر.فتوهم أن شعره لو صار الغذاء اليومي لشعب لحصل على نفس التأثير ولكان من جنسالقرآن .ذكرت هذه الحجة لأنها تقريبا الحجة الأساسية لجل المشككين في مصدر القرآن الإلهي.لكني ذكرتها خاصة لأن الحقيقة هي العكس تماما مما يتصوره المعري .ومعنى ذلك أن العادةعند فاقدي الذوق والرهافة هي التي تغيب ما في القرآن من محير والأثر الأول الذي يولد الاندهاش الفلسفي. 117 94
Search
Read the Text Version
- 1
- 2
- 3
- 4
- 5
- 6
- 7
- 8
- 9
- 10
- 11
- 12
- 13
- 14
- 15
- 16
- 17
- 18
- 19
- 20
- 21
- 22
- 23
- 24
- 25
- 26
- 27
- 28
- 29
- 30
- 31
- 32
- 33
- 34
- 35
- 36
- 37
- 38
- 39
- 40
- 41
- 42
- 43
- 44
- 45
- 46
- 47
- 48
- 49
- 50
- 51
- 52
- 53
- 54
- 55
- 56
- 57
- 58
- 59
- 60
- 61
- 62
- 63
- 64
- 65
- 66
- 67
- 68
- 69
- 70
- 71
- 72
- 73
- 74
- 75
- 76
- 77
- 78
- 79
- 80
- 81
- 82
- 83
- 84
- 85
- 86
- 87
- 88
- 89
- 90
- 91
- 92
- 93
- 94
- 95
- 96
- 97
- 98
- 99
- 100
- 101
- 102
- 103
- 104
- 105
- 106
- 107
- 108
- 109
- 110
- 111
- 112
- 113
- 114
- 115
- 116
- 117
- 118
- 119
- 120
- 121
- 122
- 123
- 124
- 125
- 126