–– به الإنسان مقوما لكيانه العضوي بالحواس ولكيانه الروحي بالعقل للنظر ولفاعليتهما بالإرادة ولذلك فالجواب الديني عقد يصحب النظر وعزم يصحب العمل وهو المنطلق الذي يبنى عليه استعمال الجهازين والخيار هو بين حلين الديني والفلسفي المطلقين بالتنافي أو المتكاملين باثر احدهما في الثاني إذا سلمنا بأن لهما ما يشتركان فيه مع تقديم وتأخير لدورهما: • فالبدايات في الخلق :الجواب عن سؤال لماذا يوجد شيء بدل لا شيء؟ • والبدايات في الأمر :لماذا ما يوجد يكون بكيف وجوده بدلا من غيره؟ • كلها تبدو أكثر تناسقا في القصة القرآنية منها في القصة المزعومة علمية. فالقصة القرآنية تفترض نموذج الهندسة العقلية وهي هندسة تعلل البدايتين بدلا من اعتبارهما يحصلان بتراكم الصدف اللامتناهي دون بداية أو ببداية تتضمن كل حلقات التراكم الهادف فتكون في الغاية مقدمة لأصل النظام أساسا لغائية تراكم الصدف ل كنها لا تفسر اللغز الحقيقي أي البداية وماقبلها وما بعدها. 97
–– فحتى لو سلمنا بحادثة الانفجار ال كبير ونسبة التراكم المحقق لمشروع ناجح في الخلق والأمر وسلمنا بحر ية تمديد الزمان حتى يحصل ما يشبه النظام في مجموع الأعداد ال كبرى فإن ذلك يقتضي أن يكون العدد لا متناهيا ومثله الزمان ومن ثم فالحصيلة التي نراها لا تنفي أن يكون ذلك عين ما تعنيه قصة السرمدية في علاقة الخلق والامر بمدبر حكيم هو نظر ية الرحمن في هذه السورة .وإذن فيمكن اعتبار \"منظور الرحمن\" مناسبا للقبول بالقصة القرآنية التي لا تز يل اللغز. ل كنها تحرر من وهم حله بطر يقة أفضل هي طر يقة الخلق الذاتي للطبيعة ما دام العلم لا يعتبرها سرمدية ومن ثم فهو يعتبرها ذات بداية ونهاية وتوسط بينهما هو المسار الذي يتمثل فيه الإلغاز الذي ليس له حل علمي أفضل من الحل الديني. فوجود النظام رغم الفوضى وقدرة الإنسان على التعامل مع الطبيعة ومعرفة بعض قوانينها وقدرته على التعامل مع التاريخ واختيار النظام الممكن من الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف أو حتى بعدمها .والمشكل لا معنى له في ذاته بل معناه مرتبط بعلاقة الإنسان بذاته وبغيره وبالعالمين الطبيعي والتاريخي وهو ما يجعل العلم الرئيس هو علم السياسة المبني على هذين التصورين للمعادلة 98
–– الوجودية التي لا يخلو اجتماع إنساني من الارتباط بهما أي الرؤ ية الدينية والرؤ ية اللادينية مع غلبة المعقولية على الأولى أكثر من غلبتها على الثاني. 99
–- -الفصل الحادي عشر – ومن ثم فالعلم الرئيس-الارشيتاكتونيك-الأفضل من المنظور الديني ليس ما بعد الطبيعة بل هو ما يصل التاريخ بما بعده لأن الطبيعة لا يكون لها ما بعد إلا بفضل الوصل بين استعمار الإنسان في الأرض باستخلافه فيها: فالبحث عما بعد للطبيعة يفسر نظامها وقوانينها مصدر دوره الآلي في الاستعمار في الأرض والبحث عما بعد التاريخ نظامه وسننه مصدر دوره الغائي في الاستخلاف فيها والثاني شرط نجاح الأول إن صلح وشرط فشله إن فسد فيكون التراتب الفلسفي بين شروط الاستعمار في الأرض الآلية وشروطه الاستخلاف الغائية مقدما للأول على الثاني قبل التحرر من القول بالمطابقة في النظر والعقد وبالتمام في العمل والشرع لتوهم الإنسان بأنه قادر على العلم المحيط والعمل التام. ل كن الفلسفة انتهت إلى نقد ذاتي حررها من هذا الوهم وصارت تقول بما يقول به الدين معترفة بنسبية العلم والعمل الإنسانيين وانتهت إلى التراتب المقابل تقديما للثاني على الأول تقديما علتهكون الثاني علةكون الإنسان هو الذي بوسعه تجاوز الطبيعة إلى ما ورائها بما جهز به طلبا لشروط العلاقة بين الغاية والأداة أي بين 100
–- الاستخلاف في الأرض لإنجاح الاستعمار فيها بحيث تكون الإرادة والفضيلة شرط استعمال العقل العقل والمعرفة :وذلك هو معنى استخلافه. والإسلام اختار هذه العلاقة بوصفها ما يشترك فيه الفلسفي والديني أي ما يجعل الإنسان قادرا على الاستعمار في الأرض بعلم القدر المناسب له من قوانين الطبيعة وعلى الاستخلاف فيها من عمل القدر المناسب بسنن التاريخ من حيث وجودهما خارج ذاته وفي ذاته أي في كيانه العضوي وكيانه الروحي والجماعة حاضرة في كيانيه ببعديها الطبيعي (كيانه العضوي) والتاريخي (الروحي) مع ما بعد ربوبي روحي في الدين وربوبي طبيعي في الفلسفة. وهذا هو مضمون الرسالة الخاتمة أي البعد الخامس من الرسالة لأن الأبعاد الأربعة الأولى ممهدة له: • فالبعد الخامس والأخير في الرسالة هو ما يطلبه الإسلام من الإنسان بالإيقاظ والتذكير :استعمال جهاز يه المعرفي والخلقي لتحقيق شروط الاستعمار في الأرض تحقيقا يؤهله للاستخلاف. • والأول هو تعر يفه بالمرسل أي الله الذي هو أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد وهو ما يجعل القرآن كله حوار بينه وبين الإنسان 101
–- • والثاني تعر يفه بذاته أي المرسل إليه الذي جهز بما يجعله أهلا للعبادة الحرة قبولا كما تبين ذلك سورة التي تتكلم على كيفية التحرر من الخسر أو الرد أسفل سافلين بفضل التذكر الذي يجعله يؤمن و يعمل صالحا في سلوكه الفردي ويتواصى بالحق في استعمال جهازه المعرفي فيكون مجتهدا دائما (عقله) ويتواصى بالصبر في استعمال جهازه الخلقي فيكون مجاهدا دائما (إرادته) • والثالث تعر يفه بالرسول الخاتم باعتباره نموذجا للسياسي العارف باستراتيجية التربية الموقظة والمذكرة وباستراتيجية الحكم الذي يجعل الإنسان فردا وجماعة مصدر الكل سلطة في تنظيم حياته إذا تذكر وتحرر من الاخلاد إلى الأرض. • والرابع منهج التبليغ الذي هو عين الاستراتيجية السياسية بالتربية والحكم الهادفين لتوحيد الإنسانية وتحريرها من السلطان الروحي الوسيط (ال كنسية) والسلطان السياسي الوصي (الحكم بالحق الإلهي) وذلك بجعل الأمة مصدر كل سلطة (الشورى .)38 لا شيء أكثر من ذلك أو دون ذلك يوجد في نص القرآن من حيث هو إيقاظ وتذكير بالجهازين ووظيفتهما بطر يقتين هما جوهر الاستراتيجية السياسية وحقيقة الدولة ونقد لتحر يف هذه المضامين بسبب فساد الجهازين أو تخليهما على وظيفتيهما: 102
–- فالتربية تصقل جهازي الإنسان أي الإرادة والعقل وترشد استعمالهما في الاستعمار في الأرض وفي الاستخلاف لذلك فالكلام على استعمال الجهازين يعتبر مدار جل آيات القرآن التي تبين عسر تحقيق هذه المهمة. وحكم الجماعة لنفسها بنفسها بالسهر على التساخر في التبادل العادل بالتعاوض والتساخر في التواصل الصادق بالتفاهم .وذلك هو العيش المشترك بمقتضى مبدأي ثورة الإسلام لتوحيد الإنسانية بالأخوة (النساء )1والمساواة (الحجرات .)13 ولأن المهمة بمستو ييها شديدة العسر تضمنت امثولة الاستخلاف عصيانين من الكائنين اللذين يعتبرهما القرآن لم يخلقا إلا لعبادة الرب -الإنس والجان -وكان عصيان ابليس مقدما على عصيان آدم تشخيصا دراميا لما يترتب على المقابلة بين عبادة الله التي تتلو تبين الرشد من الغي أي الدالة على الخيار الحر والعبودية لغيره أي الوثنية التي تتقدم على تبين الرشد من الغي والتي هي عبادة الطاغوت. وتلك هي علة وصف الإنسان بكونه الخصيم المبين في الحوار الذي يهدف إلى ايقاظه وتذكيره بأنه لم يخلق ويجهز بالجهازين إلا من اجل العبادة بمستو ييها أي تعمير الأرض بقيم الاستخلاف فيها. 103
–- وسأكتفي في خاتمة هذه المحاولة في جزئها الثاني اعدادا لما سياتي من الأجزاء بثلاث امثلة من القرآن أولها يتعلق بعلاقة القرآن بالإنس والجان في سورة الرحمن والثاني بعلاقة الديني والتاريخي في سورة هود ل كن المثال الأخير بعلاقة السياسي بالرؤى التي تعتمد استراتيجية الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف في سورة يوسف اذكر هذا المثال هنا دون أن ادرسه لأنه سيكون مع الوصلتين بين المثال الأول والمثال الثاني ثم بين المثال الثاني وبينه من نصيب الجزء الثالث من البحث في التساخر الذي خصصت له خمسة أجزاء سيأتي بيان علاقتها بما تقدم في الإبان. والأمثلةكلها تجمع بين خصائص الشعر المطلق الذي حير المتلقين لجمعه بين ما يتجاوز أساليب الشعر العربي بالخطاب دون التمثيل الدرامي وأساليب الشعر اليوناني الذي يضيف الخطاب الدرامي حتى يكون به متجاوزا الاقتصار على لغة قوم دون قوم لأن الخطاب الدرامي دلالاته هي عين مجراه لكأنه تعبير بدني أساسه الإشارة المشهدية أكثر من مضمون الخطاب .وبعبارة حديثة فإن الخطاب اللساني فيه يشبه السينار يو والخطاب الدرامي يشبه مجرى الأحداث الفعلية متعينة في أدوار الممثلين وليس الكلام عليها. 104
–- المثال الأول :سورة الرحمن. تقدم علم القرآن :ما دلالته؟ لمن عمله أم هو جواب على بدعة خلق القرآن لأنه تعليم سرمدي هو ما تتضمنه الرسالة الفاتحة والخاتمة في مشروع استخلاف الإنسان الذي خلق بعد ذلك حتى يحمل مسؤولية الاستخلاف في الأرض بشرط تعميرها بقيمه وهو امتحان لأهليته لهذه المهمة .وتلك هي العبادة المنتظرة من الإنسان. ما دور الجن في المسألة؟ ما كانت \"القصة\" التي ترمز إلى الاستخلاف تكون ذات حبكة تبرز دلالة علاقة الرب بالإنسان -وهي علاقة عرفها القرآن بكونها مباشرة غنية عن الوسيط الروحي (ال كنسية) والوصي السياسي (الحكم بالحق الإلهي) أي عما هو أصل كل تحر يف من دون رمز لممثل للعصيان .وذلك الممثل يؤدي دور الجني العاصي أي الشيطان فيكون عصيانه من جنس وصف الإنسان بكونه خصيما مبينا؟ لذلك فالرحمان تتكلم على الرمزين الإنسان والشيطان بوصفهما المخاطبين فيها ما يعني أن الرحمة هنا تتعلق بالجن والإنسان الآبقين و يكون الاستعمار في الأرض 105
–- والاستخلاف فيها فعل تحرير من الأبق لتكون العبادة بديلا من العبودية لأنها اختيار ية. وتلك هي الرحمة التي هي هداية النجدين التي تمكن من اقتحام العقبة أي فك الرقبة واطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة ومسكينا ذا متربة وهو الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف فيكون استخلاف الإنسان والجان هادفا لتحقيق ظرفيات الرحمة الإلهية بتوسطهما في دور الذات والموضوع أي فاعلا ثمراتها ومنفعلا بها؟ خلق الإنسان :ما دلالته. وكيف نجمع بين قصتي خلق الإنسان في القرآن وهما تبدوان متناقضتين مطلق التناقض؟ فالقصة الأولى تتكلم على ما يشبه فعل صانع الفخار والثانية تتكلم على ما يشبه فعل الحياة بالخلق من نفس واحدة. ولا يمكن التوفيق بين القصتين إلا بجعل القصة الأولى تتعلق بمرحلة صنع النموذج والثانية بتحقيقه بعملية التخلق الحيوي من النفس الواحدة حتى يصبح بداية التلاقح بين الذكورة والأنوثة. وإذن فآدم هو ما في النفس الواحدة مصدرا للجنسين لأن الحيوان المنوي هو محدد الجنس بايولوجيا وليس البو يضة حتى وإن كان للمرأة دور خفي في تحديد 106
–- الجنس بالإفرازات التي تتدخل في قدرة الحيوان المنوي على الوصول إلى البو يضة إذ لعل بعضها يشجع الأطول عمرا ويحول دون الأقصر عمرا من الوصول للبو يضة. فالغالب على دور المرأة هو كونها مصدر غذاء الحياة وهو سهم أكبر من مجرد دور \"التذكير\" الذي للحيوان المنوي حتى تثمرة البو يضةكما في التأبير .ولها دور في الوراثة البيولوجية التي يحملها الجنين بعد التلقيح الآتي من الحيوان المنوي مثل التأبير في النخل والتذكير في كل الكائنات الحية التي هي مبنية على الزوجية. فإذا كان ذلك كذلك فهل يمكن القول إن البو يضة لا تتضمن إلا هذين الأمرين الغذاء وحصة الموروث العضوي الذي للأنثى في الجنين دون ما ينسب إلى الذكر أم إن آدم هو في آن الإنسان قبل الفصل بين الجنسين؟ ل كن كيف التوفيق مع آيتي الميثاق المتعلقتين بالأخذ من ظهور الآباء (الأعراف :وَِإ ْذ َأخَذَ رَبُّ َك مِن ب َنِي آدَمَ مِن ُظهُورِهِ ْم ذُرِ ُّيتَه ُ ْم و َأشْهَدَه ُ ْم ع َل َى َأنفُسِهِ ْم َأل َ ْس ُت ب ِرَب ِكُ ْم ق َال ُواْ بلَ َى ش َهِ ْدن َا َأن ت َقُول ُواْ ي َوْمَ ال ْقِي َامَةِ ِإ ُنّا ُك ُّنا عَ ْن ه َذَا غ َافِل ِينَ* َأ ْو ت َقُول ُواْ ِإنم َا َأشْرَكَ آب َاؤُن َا مِن ق َبْ ُل وَكُنا ذُرِ ية ً مِن ب َعْدِهِ ْم َأف َتُهْل ِكُناَ ب ِم َا ف َع َ َل الْم ُبْطِل ُو َن* وَكَذَل ِ َك ن ُفَ ِص ُل الآي َا ِت وَل َعَلهُ ْم ي َرْ ِجع ُونَ). 107
–- والجمع بين الجنسين ليس مستبعدا لأننا نلاحظ دائما أنه ما تزال منه بعض الآثار في المثلية الجنسية بين الذكور وكذلك بين الإناث لان هذه المثلية ليست كلها ثقافية بل بعضها عضوي حقيقي .فمن الذكور من هو متخنث بعلامات عضو ية ومن الإناث من هي مترجلة بعلامات عضو ية. وما يثبت القصة الأولى أن الأمر يتعلق بصنع الفخار ثم النفخ فيه لينتقل من صنع النموذج إلى الخروج من النفس الواحدة التي هي الحياة ومنها خرج النموذج ولا بد أن يكون مؤلفا من الجنسين الذكر والأنثى حتى وإن لم يرد ذكر الجنسين الذكر والأنثى إلا بعد خلق الزوج الذي خرج من النفس الواحدة ثم تغشاها (الأعراف )189فحملت منه ليبث منهما رجالا كثيرا ونساء (النساء .)1 ثم تعليمه الأسماء من أجل تأهيله للاستخلاف ثم حصول العصيان ثم الإخراج من الجنة ثم تلقي الكلمات ثم العفو .والكلمات لا بد أن تكون مضمون الرسالة الفاتحة التي هي في آن الرسالة الخاتمة وبها ثنت سورة الرحمن بمنظور الخالق الرحيم الذي علم الإنسان بجنسيه البيان بنوعيه المعبر عن الحقيقة والمقصور على الأسماء المخادعة التي ليس وراءها مسميات حقيقية. علمه البيان :ما دلالتها؟ 108
–- تبين من الآيتين أن البيان هو القدرة على التلقي والبث الناطقين أي العبارة اللغو ية تلقيا وبثا ل كنها قد لا تكون بيانا صادقا في البث وبيانا مطابقا في التلقي فيصبح البيان -اللغة-أداة خداع وغالبا ما يعسر حصول ذلك في البيان بالإشارة البدنية التي يدركها البصر إذا لم يفقد البصيرة التي تمكن من فهم الإشارة .وإذن فالبيان يتضمن وجهي العلاقة بالحقيقة التواصلية الصادق منها والكاذب وهو ما يرمز إليه الخوار في دين العجل والاسماء التي يسميها الناس دون أن تكون دالة على مسميات حقيقية بل هي للخداع وهو جوهر النفاق. الشمس والقمر بحسبان :ما دلالتها؟ هي دلالة على علاقة الإنسان بالعالم الطبيعي المرموز إليه هنا بأكثر تمظهراته حضورا للوعي الإنساني ليلا ونهارا وحسبان للزمان ومن ثم شرطا في نظام الحياة الفردية والجماعية. الآية الواصلة برفع السماء ووضع الميزان :ما دلالتها؟ كل مضمون سورة الرحمن مداره حول هذه العلاقة بين الاستخلاف (رفع السماء) والاستعمار في الدنيا (وضع الميزان) ومخاطبة المشخصين لدراما الاستخلاف أي الأنس والجان برمز الثقلين -من الموجودات 109
–- التي لها شرطا التكليف أي العقل والإرادة -اللذين لم يخلقا إلا لعباده الرحمان وفيها الكلام على علاقة حياتيهما بعالميهما عالم الشهادة وعالم الغيب في علاقة بسلوكهما في الأول بمقتضى العمل بقيم الثاني أو بمقتضى التنكر لها والجزاء والعقاب المترتب عليهما. لعل هذه المحاولة فيها ما يبدو وكأني انهي عن خلق وآتي مثله :فما استخرجه من القرآن ليس مما يعلم ولا مما يعمل بل هو مما جهز به الإنسان وينساه ويخاطب به القرآن البشر كلهم للإيقاظ والتذكير معتمدا أسلوب الإشارات ليس إلى مضمون معرفي وقيمي محددين بل إلى شروط البحث عنهما التي يغفل عنها الإنسان من حيث هو إنسان وهي مفطورة في كيانيه البدني والروحي. الإشارات القرآنية توقظها بالتذكير بها لأنها قائمة في كيان الإنسان الناسي لدور ما جهز به ولوظائفه في ما خلق له ليحصل بالنظر والعمل على شروط بقائه الدنيوي والأخروي. ولو لم يكن الامر كذلك وكان متعلقا بما يتعلمه الإنسان من المضامين خلال تاريخه وليس بشروط التعلم عامة لكان الخطاب مستحيل الفهم .فلا معنى لرسالة يكون هدفها اقناع الإنسان بمضمونها الذي ليس في متناوله فهمه. 110
–- لذلك فلا أحد من المخاطبين في بداية الإسلام تكلم على الغاز علمية أو اعجاز علمي بل كان مفعول القرآن مستمد من حكمة التذكير والتحذير وبلاغة التأشير والتدليل .ولعل أبرز ما حير فصحاء العرب الأول وفحول شعرائهم جمعه العجيب بينهما • فنيات الشعر العربي • وفنيات الشعر اليوناني أي تجاوز الشعر بمعناه العربي وتجاوز الشعر بمعناه اليوناني أي مشاهد التمثيل الدرامي .فالمشاهد القرآنيةكلها شعر درامي .وهي ظاهرة لم تغب عن ابن رشد في شرحه لكتاب ارسطو في الشعر. وهذه مما لا يحتاج إلى معرفة قوانين الطبيعة وسنن التاريخ بل يكتفي فيها القرآن إلى الإشارة إلى ما يجمع بينهما أي النظام الذي هو مصدر ادلتهكلها على فعل الرب في ال كون :الخلق والأمر وكلاهما لا يقبلان العلم ولا العمل الإنسانيين. فالإنسان ليس خالقا ولا آمرا إلا استعار يا والجميع يعلم ذلك بمن فهم أجهل البشر :فالقرآن لما يقول للمزارعين أأنتم أم نحن الزارعون يفهم المزارع القصد بمعنى أن زرع الإنسان استعاري لأن شروط حياة المزروع ليس بيده فهو يزرع ل كن اغتذاء المزروع من التربة ومن الماء والهواء كلها ليست بيده. 111
–- وبهذا المعنى فأفعال العباد قضية فلسفية ودينية تتجلى فيها ما انتهت إليه الفلسفة لما تداركت خرافة العلم المحيط والعمل التام رغم نكوص هيجل وماركس إليهما وعودة ما بعد الحداثة إلى الميثولوجيا اليونانية ثمرة للنكوص الهيجلي وال كنطي لوهم العلم المطلق والتاريخ حكما نهائيا للتخلص من الحلول التي انتهت إليها حضارتا الأديان المنزلة أي الإسلام والمسيحية بنظر ية العالمين عالم الشهادة وعالم الغيب كما يتجلى في النقد من ديكارت إلى كنط في الحضارة المسيحية ومن الغزالي ابن خلدون في الحضارة الإسلامية. أما الشاهد الأخير فسأنتخبه بتعديل طفيف من بحثي الذي شاركت به في ندوة التجديد التي نظمها المؤتمر العلمي الرابع لهيأة علماء المسلمين في العراق الخاص بالتجديد في الدراسات الإسلامية بإستنبول .ذلك أني فيهما عرفت ما أعنيه باستراتيجية القرآن التوحيدية للإنسان وجمعها بين الديني في الأديان كما يتجلى في القرآن ال كريم والفلسفي في الفلسفات كما تتجلى في طبيعة الاستدلال مع التخلي عما كان يميز بينهما من دعوى الإحاطة في النظر والعقد أو عدمها والتمام في العمل والشرع أو عدمه. 112
–- فالفلاسفةكانوا مغرورين يزعمون الإحاطة في النظر والعقد والتمام في العمل والشرع .ل كن التقدم في العلم وتطبيقاته وفي العمل منجزاته اثبت لهم أن هذين الوهمين يدلان على قصر نظر في نظر ية المعرفة وطول أمل في نظر ية العمل. فعاد الفلاسفة إلى الرشد بفضل المدرسة النقدية العربية أولا (من بداية الوعي بهذا الفرق إلى غايته عند ابن خلدون) ثم الألمانية ثانيا (من ديكارت إلى كنط). ذلك أن هذا التخلي عن الإحاطة والتمام تحقق في الدين انطلاقا من تعر يف العلاقة بين فلسفة التاريخ من حيث هي بحث في شروط قيام الإنسان من حيث كيانه العضوي والروحي في عالم الشهادة وفلسفة ما بعد التاريخ من حيث هي بحث في شروط الوجود عامة ووجود الإنسان خاصة ومن ثم في ما يجعلهما غير مكتفيين بذاتهما وحاجتهما إلى عالم الغيب أي ما يعلل اختيار الوجود بدل العدم واختيار كيفه الحاصل من الممكن بدل غيره. وقد سبق أن شرحت في ما صدر من محاولتي التفسير الفلسفي للقرآن سورة هود من حيث البنية المنطقية والتناظر بين عناصرها الثلاثة الأولى وعناصرها الثلاثة الأخيرة وصلتها بالقلب بين الثلاثتين ول كن بالاقتصار على الدلالة الدينية دون الدلالة التاريخية وخاصة دون البحث في العلاقة بين الوجهين. 113
–- لم أركز على المعوقات التاريخية التي هي الوجه الثاني من السورة وهي المتعلقة بالتاريخ في صلة بالدين فهذه المعوقات تتجلى في التاريخ ومن خلالها يبين القرآن معنى الديني في الأديان والفلسفي في الفلسفات ومحاولة تذليلها بالتربية والحكم لتحقيق شروط الوصل بين عالم الشهادة الذي يمثل شبه أمر واقع وعالم الغيب الذي يمثل شبه امر واجب فيكون شد الأول للثاني هو جعل الاستعمار في الأرض خاضعا لقيم الاستخلاف فيها .وقد احصت السورة سبع قضيا عرضت فيها الحل لعلاج علاقة دور الديني ودور المعوقات التاريخية: • رسالة نوح :المعوق التاريخي هو طغيان الطبيعة ورمزه الطوفان والحل الذي يقدمه الدين هو الحل التقني والزراعي .صنع السفينة واخذ زوجين اثنين من كل شيء لاستئناف الحياة بعد الطوفان. • رسالة هود :طغيان الاستبداد بالثروة ورمزه سلطة الأغنياء والحل هو التغلب على الاستكبار بتحرير المستضعفين. • رسالة صالح :طغيان الاستبداد بالماء ورمزه حرمان الناقة التي هي رمز المحافظة على الماء أول أصل للحياة والعلاج هو قسمة الماء العادلة والمحافظة عليه كما تحافظ الناقة عليه في بلد كان معروفا بالقلت التي تجمع الماء لقلته. 114
–- • حضور إبراهيم هو المركز دون خوض في رسالته .ولذلك فهي توجد بين الرسالات الثلاث المتقدمة عليها والرسالات الثلاث التي تليها في سورة هود التي تحدد المعوقات الحائلة دون الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف. وهي تمثل الحل الأسمى الذي تعود إليه الرسالة الفاتحة والخاتمة للانطلاق من المبدأ الذي يتجاوز عبادة ما كان يرمز إلى نظام الطبيعة في الميثولوجيا أي عبادة الافلاك إلى مبدع الخلق والأمر. فآيات الأفول التي ترمز إلى هذا التجاوز فيها علاج المعضلات التي تعرف الديني في الأديان والفلسفي في الفلسفات بتجاوز الميثولوجيات والتي لأجلها كان الإسلام ابراهيمية محدثة أو حنيفية محدثة تحقق في التاريخ الفعلي ما لم يحققه إبراهيم إلا في مستوى التصور الذي يعتبر منطلق الرسالة الخاتمة ليكون محمد إبراهيم الثاني الذي يشرع في انجاز المشروع الذي تضمنته الكلمات التي تلقاها آدم ولم يفصح عنها وصارت عين مضمون القرآن ال كريم لأنها هي عين ما كلف به آدم وأبناؤه من استخلاف. • رسالة لوط :العائق يتعلق بمصدر الحياة الثاني أي الجنس .ومثلما أن الماء هو الأصل الأول لوجود الحياة فإن الجنس هو الأصل الثاني لبقائها .فساد الأول زوالها عامة وفساد الثاني زوال الإنسانية. 115
–- • رسالة شعيب :العائق شروط التعاوض العادل في التبادل وذلك بوضع المكاييل والموازين التي تحول دون التطفيف. • رسالة موسى :التحرر من طغيان التاريخ نظير التحرر من طغيان الطبيعة. فيكون السورة مؤطرة بثورتين لتحرير الإنسان المستخلف :ثورة ضد الطغيان الطبيعي ورمزه الطوفان أي إن مصدر الحياة يصبح قاتلا وثورة ضد الطغيان السياسي ورمزه النظام الفرعوني أي إن مصدر حماية الإنسان يصبح مدمرا للإنسان. • الرسالة الخاتمة أيضا لم تذكر في السورة ل كن المخاطب فيها هو الرسول الذي يذكر بها وله علاقة بينة بابراهيم الذي يتوسط بين الرسالات الثلاث الأولى والرسالات الثلاث الأخيرة .والرسالة الخاتمة هي كما بينا عين الرسالة الفاتحة وهي نظام التربية (الم كي خاصة) والحكم (المدني خاصة) الذي يعالج هذه القضايا لتحقيق الحريتين وذلك بتأو يل رسالة إبراهيم الذي أشار إلى ضرورة التحرر من عبادة الافلاك وطلب المبدأ وراء العالم الطبيعي والتاريخ دون جواب .والجواب هو الرسالة الخاتمة. والملاحظ أن الرسل كلهم باستثناء موسى لا علاقة لهم بفكرة سيطرة اليهود على الأديان المنزلة وهي فكرة علتها الخلط بين ملوك بني إسرائيل والرسل الذين 116
–- لهم رسالات سماو يةإذ حتى عيسى فإنه لم تكن له رسالة سماو ية لأنه أتى بوصفه مؤولا للتوراة ومصلحا لتحر يف اليهود لها وتحر يف دوره هو الذي جعل التحر يف الديني المطلق يحصل أي نظر ية التثليث واعتباره ابن الله. وكل ما نراه اليوم من تأليه الإنسان الذي انتهى إلى ترذيله وشيطنته بسبب تحوله إلى ما وصفته الملائكة لما استغربت استخلافه باعتباره سفاكا للدماء ومفسدا في الأرض وصفا أمينا لما آل إليه أمره بسبب التحر يف وليس بسبب ما جهز به ليكون كما تصفه سورة العصر إذا هو تذكر فعاد إلى التقويم الأحسن واستثنى نفسه من الخسر بالشروط الأربعة التي أصلها الذي هو خامسها أي تذكر التقويم الأحسن: • تذكر التقويم الاحسن المخرج من الرد أسفل سافلين أو الخسر • الإيمان • العمل الصالح • التواصي بالحق • التواصي بالصبر. 117
–- 118
Search
Read the Text Version
- 1
- 2
- 3
- 4
- 5
- 6
- 7
- 8
- 9
- 10
- 11
- 12
- 13
- 14
- 15
- 16
- 17
- 18
- 19
- 20
- 21
- 22
- 23
- 24
- 25
- 26
- 27
- 28
- 29
- 30
- 31
- 32
- 33
- 34
- 35
- 36
- 37
- 38
- 39
- 40
- 41
- 42
- 43
- 44
- 45
- 46
- 47
- 48
- 49
- 50
- 51
- 52
- 53
- 54
- 55
- 56
- 57
- 58
- 59
- 60
- 61
- 62
- 63
- 64
- 65
- 66
- 67
- 68
- 69
- 70
- 71
- 72
- 73
- 74
- 75
- 76
- 77
- 78
- 79
- 80
- 81
- 82
- 83
- 84
- 85
- 86
- 87
- 88
- 89
- 90
- 91
- 92
- 93
- 94
- 95
- 96
- 97
- 98
- 99
- 100
- 101
- 102
- 103
- 104
- 105
- 106
- 107
- 108
- 109
- 110
- 111
- 112
- 113
- 114
- 115
- 116
- 117
- 118
- 119
- 120
- 121
- 122