-- -الفصل السادس - فلنركز الآن على التجهيز الأداتي بفرعيه المحققين لما يتميز به الإنسان أي الجهاز المعرفي الذي هو قدرة الإنسان على إدراك قوانين الأشياء والعبارة عنها بالإصابة والخطأ وما بينهما من درجات والجهاز القيمي الذي هو قدرة الإنسان على إرادة قيم الأشياء والمفاضلة بينها بالمرغوب فيه والمرغوب عنه وما بينهما من درجات. فالبيان معرفيا هو الدليل على اجتهاد الإنسان الإدراكي الذي يعبر عما يطلبه من الحقيقة بمداركه الحسية والعقلية وما يتلقاه من غيره من سلف الباحثين في المجال واللاحقين. والاختيار خلقيا هو الدليل على جهاد الإنسان القيمي الذي يعبر عما يطلبه من الفضيلة بإرادته العفو ية والقصدية وما يتلقاه من غيره من سلف المجاهدين في المجال واللاحقين. ل كن التجهيز بفرعيه وإن كان قيامه متعينا في الأفراد فقدرته الذاتية لا يتقوم بها من حيث هو فرد بمقتضى الفردية بل هو يستمدها من ضربين من فاعلية الجماعة الإنسانية: 47
-- الأولى متوالية هندسية متقدمة عليه وهي متوالية هندسية تخضع لها الزوجية البيولوجية :فكل فرد لا بد من فردين قبله ينتجانه عضو يا .وكل واحد منهما يخضع لنس القانون فتكون المتوالية سابقة على كل فرد ولا يتواصل النوع عضو يا إلى بها. الثانية متوالية يعسر تحديد طبيعتها ل كنها تجري في إطار الأولى وإن بصورة ليست محددة بدقة الأولى لأن الزوجية فيها ليست لصيقة بالفاعلية العضو ية بل بالفاعلية الرمزية وهي متوالية اكتساب طرق استعمال الجهازين بعد الموروث الفطري. وكلتا المتواليتين تتضمنان فاعلية الكل في الفرد ومن ثم فهي أكثر من هندسية في العمق رغم كونها كذلك في الظاهر والفاعلية المباشرة .فإنتاج الفرد يتطلب الزوجين في الحالتين-الاب والام عضو يا وروحيا في التعليم والتنشئة في الطفولة الأولى -ل كنه بالتوالي الذي فيه يقتضي أن الوراثة البيولوجيةكل المتوالية والنوع الثاني يرى بالعين المجردة على الأقل في تعلم اللغة والتعايش وهو الوراثة الرمزية أو الثقافية التي تجعل كل فرد مدينا لكل السابقين في أي مجال يختص فيه ليسهم في التساخر قسمة للعمل سواء كان ماديا أو روحيا في أي جماعة دون تمييز بين الأعراق والثقافات والجنس. 48
-- فتكون الجماعة ليست مقصورة على الأحياء حتى عضو يا لأن حضور الأجيال السابقة موجود في الموروث العضوي والموروث الثقافي في جماعة معينة وبين الجماعات المتوالية ومتبادلة التأثير سلما أو حربا بحيث إن الغزو المتبادل والسبي والهجرة وكل انتقال للبشر يسهم في هذه العملية بقصد أو بغير قصد. و يكون فعل الجهازين إيجابيا عند الوصل بين الاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها وسلبيا عند الفصل بينهما بحيث إن التواصل بين الاجتهاد والجهاد هو الدليل على التوفيق والتفاصل بينهما هو الدليل على عدمه .والتواصل يكون على للتوفيق لأنه بمعنييه التواصل المطلوب لذاته وهو جوهر الأنس بالعشير وتلك هي قيمته الأسمى التي تناظر قيمة التبادل الاقتصادي في ما يتجاوز سد الحاجات وهو في آن أساس التبادل بمعنييه أي التبادل المطلوب لذاته لتجاوزه سد الحاجات وتلك هي قيمته الأسمى التي تناظر التواصل المطلوب لذاته. فيكون التواصل في الحالتين هو الغاية المتجاوز للاستعمال الاقتصادي النفعي والثقافي الخادم للاقتصادي النفعي وهو الذي يرفع من قيمتهما عندما يجعلهما مطلوبين لذاتهما وليسا لسد الحاجات العضو ية .فتكون القيمة التبادلية لما ينتجه الاقتصاد أرفع من الاستعمالية وتكون القيمة التواصلية لما تنتجه الثقافة ارفع من الاستعمالية. 49
-- وجمعهما هو التكامل بين الجهازين -جهاز العقل الأداتي فيهما معا وجهاز الإرادة الغائية فيهما معا-والحصيلة هي ما يتميز بيه الإنسان من الإرادة الحرة التي لا تتأسس من دون تجاوز الاستعمار في الأرض إلى الاستخلاف فيها. وهي حصيلة تؤسس التبادل بمعنييه أي التبادل المطوب لذاته وهو جوهر الأنس بالعشير وتلك هي قيمته الأسمى التي تناظر قيمة التواصل في الأنس بالعشير وهما وظيفتا الاجتماع الإنساني المميز للإنسان وإنتاج التراث المشروط في كل ما عداه لأنه فعل جهاز طلب الحقيقة المعرفية والقيمة الذوقية. أما القيمتان الأخر يان فهما قيمتا الاستعمال بالمعنى الاقتصادي وبالمعنى الثقافي المصاحبين لكل أنشطة الإنسان لأنه بشروط القيام العضوي المشترك بين الإنسان والحيوان أعني التواصل الأداتي خلال التبادل الأداتي. وكلاهما لا تخلو منهما أمة من أمم الكائنات الحية من ادناها إلى اسماها بسبب استحالة عيش أي كائن حي بمفرده إذ لا بد على الأقل من الزوجين اللذين ينجبانه ويحافظان عليه إلى أن يصبح قادرا على العيش في الجماعة بما جهز به من أدوات المشاركة في الإنتاج الضروري لشروط البقاء. فلا يكون التواصل والتبادل مطلوبين لذاتهما كما هي الحال في كونهما علاقة بين ذاتين -كما في علاقة الحب بين الجنسين-تعبر عن صلة روحية وعاطفية عندما 50
-- يكونان صادقين وليسا مخادعين بل هما في المستوى الثاني من القيمة أداتان استعماليتان يجعلان التواصل والتبادل أداتين للعمران البشري خلال العمل من أجل انتاج الثروة وسد والحاجات الضرور ية. وطبعا فهذا البعد موجود عندما يجمع المرء بين الاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها .ذلك ان الأول شرط الثاني أداتيا والثاني شرط الأول غائيا. ومعنى ذلك أن من يزعم الدين زهدا في الدنيا إلى الحد الذي يجعله تابعا لغيره في سد حاجاته لا يمكن أن يكون فاهما للقرآن: فكل الشعائر الدينية في القرآن مشروطة بالتحرر من الحاجات إلى الحد الكافي الذي يحول دون التبعية للغير فيها لأنها هي التي تجعل التابع بالضرورة فاقدا لشروط الحر ية و\"الرئاسة بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\" .فيصبح له معبود غير ربه. وبهذا المعنى فهما لا يمكن أن يستغنيا عن شيء من السلطة في التساخر الضروري للتعاون في قسمة العمل والتعاوض الذي قد لا يكون عادلا ويحتاج إلى دور حكم بين المتواصلين والمتبادلين في هذه الحالة الوظيفية التي يكون فيها التبادل والتواصل أداتين وليسا غايتين .وتلك هي العلة في جعل التفاضل في 51
-- الإمكانيات الإبداعية للرزق المادي أو الروحي شرطا في التساخر دون أن يكون ذلك التفاضل تفاضلا في المنزلة الوجودية التي تحددها التقوى. وللنظر في التراتب بين السمع والبصر من حيث دورهما في مستويي القيمة التي تتعلق بالاستعمار في الأرض والتي تتعلق بالاستخلاف فيها واللتان توجدان كلتاهما في انتاج التراث لقيام الجماعة الروحي وذلك هو دور القيمة التواصلية والتبادلية وفي انتاج الثروة لقيامها المادي وذلك هو دور استعمال التواصل والتبادل أداتين في هذا الإنتاج مستوى وظيفيا لهما في الأفعال التي تقتضي وجود تساخر لا بد فيه من تراتب سلطوي فيه آمر ومأمور وفيه خاصة حاجة إلى حكم في التعاوض وعدم التظالم والعدوان. ويمكن اعتبار هذا النوع من القيم ذا صلة مباشرة بالبعد السياسي في الجماعات البشر ية ولا بد فيه من سلطة ذات شرعية وشوكة .فالشرعية ضرور ية لان الخصومات بحاجة إلى من يعتبر حكما فيكون مستمدا شرعيته من اختيارهما له حكما بينهما ولا بد من الشوكة حتى لا يبقى الحكم الفاصل بين الخصوم حبرا على ورق .ومن هنا جاءت عبارة \"فهم لا يرجعون \" :لذلك فلا معنى لقضاء لا تنفذ أحكامه. 52
-- فهؤلاء الذين لا يرجعون هم أيضا من لا يعقلون فيحتاجون إلى سلطة تفرض عليهم أحكام العقل وضرورة الرجوع وذلك هو جوهر السياسة في المجتمعات البشر ية أي وظائف الحماية التي تتألف من القضاء والأمن داخليا ومن الدبلوماسية والدفاع خارجيا ويجمع بينها أربعتها أصلها أي الاستعلامات التي تراقب مجرى هذه الوظائف الأربع للحماية وهي إذن العقل المدبر للوظائف الحماية. ل كن وظائف الرعاية التكوينية التي هي التربية المحصلة للتراث والتربية المحصلة للثروة وهي تطبيق للتربية المحصلة للتراث ثم الرعاية التموينية التي هي انتاج التراث أو الثقافة وإنتاج الثروة أو الاقتصاد والثانية تطبيق للأولى علما وذوقا هي التي تتعلق بها الحماية الداخلية لجعل العيش المشترك السلمي ممكنا ذلك أن التنافس بين المنتسبين إلى نفس الجماعة لا تقل حدة عن التنافس بين الجماعات في المعمورة. ولهذه العلة فإن الوازع الذاتي لا يكفي لتحقيق شروط التعايش السلمي حتى في نفس الأسرة ناهيك عن الجماعةكلها ومن ثم فلا بد من سلطة قضائية وامينة اولاهما تمثل شرعية القانون والثانية شوكته وهما ما يسميه ابن خلدون الوازع الأجنبي أي دور السطلة السياسية. 53
-- والحماية الخارجية لمنع العدوان على ثروة الجماعة وتراثها من جماعات أخرى إذ إن البشر يةكلها جماعة واحدة تتنافس على ما في الأرض من ثروات وشروط بقاء والاقو ياء في الغالب يمدون أيديهم لأحياز الضعفاء الخمسة أي حصتهم من جغرافية الأرض ومن تاريخ العمران والاجتماع ومن الثروة والتراث والعدوان على مرجعياتها الروحية والقيمية .ومثلما أن الاستعلامات هي أصل الحماية بفروعها الأربعة فإن البحث العلمي هو أصل الرعاية بفروعها الأر بعة. والاستعلامات تتعلق بما بين البشر من علاقات ل كنها تابعة للبحث العلمي الذي يتجاوز هذه العلاقات إلى ما هو أوسع افقا أي علاقات البشر بال كون كله لأن مطلبه هو العلم بقوانين الطبيعة وبسنن التاريخ طلبا إياها لذاتها حبا في المعرفة وبوصفها من الشروط الأداتية للرعاية وخاصة في أدوات انتاج الثروة ومناهجه والحماية وخاصة في انتاج أدوات الدفاع ومناهجه. ولا بد هنا من ملاحظة لم يسبق أن نبهت إليها في كلامي على الأصلين أصل الرعاية بمستو ييها المضاعفين أي التربية في المدرسة والتربية في المعمل وإنتاج التراث (الثقافة العلمية والذوقية) وإنتاج الثروة (الاقتصاد المادي والرمزي) 54
-- وأصل الحماية بمستو ييها الداخلي (القضاء والأمن) والخارجي (الدبلوماسية والدفاع) أي البحث والاعلام العلميين والاستعلام والاعلام السياسيين. فمستو يا التربية تقاربا إلى الحد الذي جعل الفصل ببين المدرسة والمعمل مضرا بهما كليهما بل ومستحيل إلا في المجتمعات المتخلفة ومستو يا الإنتاج تقاربا إلى الحد الذي جعل الفصل بين الثقافة والاقتصاد مضرا بهما كليهما بل ومستحيل إلا في المجتمعات المتخلفة. ولا يمكن أن يكون الأول في هذه الحالات الأرض تابعا للثاني فيها كذلك لأن الأول في الحالات الأربعة هو المبدع والثاني هو المطبق للإبداع وقد يكون موحيا له بالأفكار. ونفس ا لترابط نجده في العلاقة بين الحماية القضائية والحماية الأمنية في الداخل والفصل بينهما وخاصة تغير التراتب بينهما بجعل الثاني متبوعا بدلا من ان يكون تابعا وكذلك بين الحماية الدبلوماسية والدفاعية في الخارج وخاصة تغيير التراتب بينهم بجعل الثاني متبوعا بدلا من أن يكون تابعا. وأخيرا فالعلاقة بين أصل الرعاية بأبعادها الأربعة وبتراتبها والعلاقة بين أصل الحماية بأبعادها الأربعة وبتراتبها تجعل البحث والاعلام العلمين متبوعين والاستعلام والإعلام السياسيين تابعين لأن هذين إذا كانا منحرفين عن شروط 55
-- البحث العلمي واخلاقه يصبحان كذبا ويسهل أن يتحولا إلى أداة ضد الجماعة بدلا من أن يكون في حمايتها لأن من لا يطلع شعبه على حقيقة احواله وخاصة إذا كان بقصد المغالطة وليس لخطا منهجي فهو غالبا ما يفعل ذلك لأنه عميل لقوة اجنبية تريد السيطرة على بلاده فتفسد شروط حمايتيه وشروط رعايتيه بمد الأعداء بأسرار ابداعها أو بأسرار قوتها أو بنقاط ضعفها وبمداخل تخر يبها. والعلة هي أن الأول في كل هذه الحالات العشر هو المقوم الأساسي للرعاية بكل دورها المربع للتربية ومعه ما يحتاج إليه الأصل الثاني في الحماية من علم وخبرة لأنه بحث واعلام علمي في التربية المدرسة والتربية المعملية وإنتاج التراث وإنتاج الثروة ومن ثم في آن سلطة روحية ووظيفة أداتية. والعلة هي أن الثاني هو المقوم الأساسي في كل هذه الحالات العشر هو المقوم الأساسي للحماية بكل دورها المربع ومعه ما يحتاج إليه الأصل الأول في الرعاية من علم وخبرة بحال المؤسسات التي تحقق الحماية لأنه استعلام سياسي في القضاء والأمن والدبلوماسية والدفاع داخليا وخارجيا. كلاهما في آن سلطة وأداة ومن ثم فإن السلط الرعائية هي التربية والثقافة وأحد وجهي البحث العلمي من حيث هو مطلوب لذاته لأن وجهه الثاني أداة هدفه مساعدة الاستعمار في الأرض وليس طلب الحقيقة لذاتها 56
-- والسلط الغائية هي القضاء والدبلوماسية وأحد وجهي الاستعلام السياسي من حيث هو مطلوب لذاته أي معرفة حال الجماعة في الرعاية والحماية لتكون السياسة استراتيجية تعمل على علم لعلاج مشكلات الاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها. 57
–– – الفصل السابع – والآن فلنحاول تشخيص الداء الأساسي الذي يفسد الحضارات فيأتي عليها سواء في الجماعة الواحدة أو بين الجماعات البشر يةكلها .وهو متعلق بالتبادل والتواصل ولا ينتج عن أي منهما مفرده بل عن الفصل بينهما عندما يبلغ حد القطيعة المطلقة فلا يبقى لأي منهما الحد الأدنى من دوره في الثاني. وهي قطيعة ناتجة في الغالب عن المطلوب لذاته عند الانسان سواء كان متعلقا بالاستعمار في الأرض دون الاستخلاف أو بالاستخلاف دون الاستعمار .فلا فرق بين من يخلد إلى الأرض وينسى السماء أو من يزعم الاخلاد إلى السماء وينسى الأرض .والثاني اكذب من الأول. ذلك أن نسيان السماء هو الأيسر لأن الاخلاد إلى الأرض قد يجعل المخلد إليها وكأنه ذو حظوة في الحياة الدنيا لأن البشر غالبا ما يقيمون الناس بثرواتهم وقلما ينظرون إلى شيء آخر وينسون حتى مصدرها .أما نسيان الأرض فمستحيل بسبب ما يستمد منها هو شرط القيام العضوي الذي يتوقف كلما فقد ما يستمد منها بالتراتب التالي: • فإذا فقد الهواء مات لفقدان الأكسيجين بعد دقائق • وإذا فقد الماء مات لفقدان العنصر الأساسي للحياة بعد ايام • وإذا فقد الغذاء مات لفقدانه الطاقة بعد اسابيع • وإذا فقد الدواء مات لفقدا الشفاء بعد زمان يمكن أن يكون أيا مما سبق 58
–– • وأخيرا فهو لا يفقد السعي لتحقيق هذه الشروط ابدا ما كان حيا ومن ثم فالدنيا لا تنسى أبدا وغالبا ما قد يصل فاقد هذه العناصر وكلها تعود إلى الثروة يصبح عبدا لغير الله حتى عندما يدعي التمحض لعبادته لأنه يدين بحياته لمن يوفرها له وهو في هذه التسول الذي يعني التخلي عن استعمال ما جهز به ل كي يحافظ على معاني الإنسانية وأولها ال كرامة التي يفقدها كل مستول. والأبرز في هذه الحالة يتجلى في مآل التواصل الشكلي في بعده المطلوب لذاته أكثر من تعلقه بما يصبح التبادل الحاجي .وقد رمز ابن خلدون لذلك برمز قد لا يقدره البعض رغم عميق دلالته :وهو زراعة الأشجار غير المثمرة لتكون للزينة فحسب ومن ثم العاقر في ما يتعلق بالوظيفة الغذائية. وفي عصرنا مثلا وخاصة في الغرب الاستعاضة عن إنجاب الأطفال ورعايتهم بتربية الحيوانات الأليفة أو بشراء الأطفال الجاهزين من أبناء الفقراء لتكون لهم وظيفة الحيوان الأليف وليس وظيفة تواصل النوع وما يتطلبه من تضحيات وخاصة من الام التي لم يعد يعنيها من الأم إلا الطفل حيوانا اليفا لا غير. وبهذا المعنى فالتواصل بقيمتيه هو المحدد الأساسي للتبادل بقيمتيه أي إن الثقافي ببعديه الذوقي أصل كل عمل لا يخلو من شحنة روحية وعاطفية والعلمي أساس كل نظري لا يخلو من شحنة مادية ومصلحية مقدم على الاقتصادي ببعديه التبادلي والاستعمالي. لذلك فينبغي أن ننظر في عمل قيمتي الثقافي وهما قيمتا الاستخلاف في الأرض الذي سمى ابن خلدون ثمرته بالأنس بالعشر بخلاف الاستعمار فيها الذي سماه بثمرته أي سد 59
–– الحاجات مثلما نظرنا في قيمتي الاقتصادي .وما دمنا نسمى القيمة الأسمى في الاقتصاد تبادلية ودونها الاستعمالية فيه فلنسم القيمة الأسمى في الثقافة تواصلية ودونها الاستعمالية فيه وغالبا ما تكون في خدمة التبادلية في الاقتصاد كالحال في فن التسو يق الاشهاري. فالتبادل يمثل اسما عاما لمجال الاستعمار في الأرض ورمزه سد الحاجات والعمران البشري .والتعاون ال كوني من أجل إنتاج الثروة بلغة ابن خلدون والتواصل يمثل اسما عاما لمجال الاستخلاف فيها ورمزه الأنس بالعشير والتعاون ال كوني لإنتاج التراث بالعشير والاجتماع الإنساني بلغة ابن خلدون. فيكون مجال القيم بمستويي كل واحدة منهما هو سد الحاجات أداة والانس بالعشير غاية .والتعاون في الحالتين يكون عند التساوق بين الحضارات بتوسط التنافس والصراع بينها وعند التوالي يكون بالتوارث إذ اللاحق يرث السابق وخاصة في كل ما يتعلق بسد الحاجات ل كن أيضا في بعض ما يتعلق بالأنس بالعشير ما يجعل ثروة البشر ية وتراثها كلاهما عمل جماعي كوني حربا وسلما .وما كان يحصل بالتغازي صار يحصل بالنزوح والهجرة القانونية وغير القانونية,. وهكذا اذن فلتكن القيمة التواصلية في الثقافي بمنزلة القيمة التبادلية في الاقتصادي وكلتاهما لها قيمة استعمالية ،القيمة الاستعمالية في الاقتصادي معلومة وهي سد الحاجات المادية خاصة .فبماذا تتعلق القيمة الاستعمالية في التواصل .إنها كل ما يجعل تبادل المعلومات نفعي خالص سواء في مستوى النظر أو في مستوى العمل .فتكون 60
–– القيمة التواصلية الخالصة متعلقة بالنظر المطلوب لذاته والعمل المطلوب لذاته مثل القيمة التبادلية في الاقتصاد. • فالقيمة التواصلية في التواصل مثل القيمة التبادلية في التبادل .كلتاهما هي القيمة الأسمى ل كونها لا تتعلق بالحاجات المباشرة بل بما يتعالى عليها وذلك ل كونها متعلقة بالمطلوب لذاته إما لعلة ذوقية أو معرفية لا تستهدف سد الحاجات المباشرة :الفنون والعلوم. • والقيمة الاستعمالية في التواصل مثل القيمة الاستعمالية في التبادل .كلتاهما هي القيمة الأدنى ل كونها تتعلق بالحاجات المباشرة وليس بما يتعالى عليها .وذلك ل كونها متعلقة بالأدوات أي المطلوب لغيره بصرف النظر عن العلة الذوقية أو المعرفية وتستهدف سد الحاجات المباشرة :مثل المأكل والملبس ال كن وحماية الذات. والنتيجة هي أن الاستعمالي في الحالتين له علاقة بالحاجات الضرور ية للقيام المادي وينسبها ابن خلدون إلى العمران البشري والتبادلي والتواصلي لهما في الحالتين علاقة بما يتعالى على الحاجات الضرور ية إلى ال كمالي بلغة ابن خلدون أي القيام الروحي الذي رمز إليه باسم الانس بالعشير والاجتماع الإنساني .فتكون النسبة بين التبادلي والتواصلي من جهة والاستعمالي في التبادل وفي التواصل هي عين النسبة بين العمران والاجتماع وبين البشري والإنساني. 61
–– وما يؤيد الوصل بين هذين المعنيين ومقومي الإنسان أي الاستعمار في الأرض بحيث يكون متعلقا بالعمران البشري والاستخلاف فيها بحيث يكون متعلقا بالاجتماع الإنساني ما جاء في كلام ابن خلدون عن فساد معاني الإنسانية وتعر يف الإنسان. ففي تعر يف الإنسان يقول ابن خلدون الانسان \"رئيس بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\" .تعليل أول طبيعي وتعليل ثان غير طبيعي والأول يرمز إلى العضوي والثاني إلى الروحي .وفي كلامه على فساد معاني الإنسانية يعتبر الانتقال من منزلة الإنسان الحر إلى العبودية ناتجا عن التربية والحكم العنيفين اللذين يفسدان معاني الإنسانية فصلا بين الطبيعي والروحي. وهكذا نصل إلى أهم إشكالية :الأصل الذي يوحد هذه القيم الأربع و يعلل التراتب القيمي بينها هو هذه العلاقة بين الطبيعي وغير الطبيعي أي بين الاقتصار على ما يرد إلى الضروري العضوي وعدم الارتفاع إلى ما يرد إلى الاختياري الروحي: فعندنا قيمتان اقتصاديتان: • تبادلية متعالية على الحاجات وهي إذن تابعة للاستخلاف في الأرض واستعمالية متعلقة بها وهي إذن تابعة للاستعمار في الأرض .والفساد يصيب تلك عندما تفصل عن هذه إما نفيا لها أو اقتصارا عليها. وعندنا قيمتان ثقافيتان: 62
–– • تواصلية متعالية على الحاجات وهي إذن تابعة للاستخلاف في الأرض واستعمالية متعلقة بها وهي إذن تابعة للاستعمار في الأرض .والفساد يصيب الأولى عندما تفصل فتلغى الثانية أو ترد إليها. فينتج عن ذلك أن القيمتين الأوليين تساعدان على التعايش السلمي بين البشر ل كونها متعالية على الاستعمالية دون نفيها بالتحرر من مما يجعلها مصدر التنافس والصراع على سد الحاجات .فالخلافات حول سد الحاجات سواء كانت مادية مباشرة أو ذات صلة مباشرة بالمادي منها وخاصة عندما يوظف العلم والفن ليصبحا غير مطلوبين لذاتهما بل يتحولان إلى أداتين فيها إما من حيث استهداف النفع المادي المباشر او الخداع بالروحي في النفاق الذي يجعل الهدايا مثلا هدفها الرشوة والغدر كما في الخداع العاطفي. ذلك أن سد الحاجات والتنافس عليها هو العلة الرئيسية الذي يجعل التعايش السلمي شبه مستحيل لما يترتب عليه من صراع حول شروط العيش العضوي والمصلحي فيقضي على التواصل التعاون والتعاوض العادل والتفاهم والتواصل الصادق. وعندما يرد كل شيء إلى سد الحاجات تصبح الثقافة أداة فنها وعلمها في خدمة سد الحاجات .فيرتد الإنسان إلى الصراع الحيواني على الغذاء والماء والكلاء والطاقة والقوة والممرات الموصلة إليها على رقعة الأرض وما فوقها وما تحتها .فلا يبقى للذوق الفني ولا للمعرفة العملية من غاية غير استعمالهما في التنافس على هذه الشروط المادية للقيام العضوي للبشر. 63
–– و بعض المتعجلين ممن يقيسون التقدم الإنساني بهذا المعيار الأخير غالبا ما يعتبرون منزلة التعالي على الاخلاد إلى الأرض -أي الديني عامة-مسألة تعو يضية على فشل في هذه المجالات ولا يخطر على بالهم أن العكس أيضا صحيح بمعنى أنه إذا كان التمحض لما يتعالى على الأرض دليل يجعل الدين تعو يضيا فإن التمحض لما يتدانى عن السماء يجعل الالحاد تعو يضيا. • والمفقود في الحالة الأولى هو أداة التحرر من سلطان الطبيعة • والمفقود في الحالة الثانية هو غاية التحرر من سلطان الطبيعة. فيكون الثاني قد خسر أكثر من الأول إذا كان لم يفصل بين الأرضي والسماوي بخلاف الثاني فإنه يفقدهما معا لأن كل ثروات العالم لا تساوي شيئا بمجرد ألا ينسى المرء ولو لثانية أنه مائت بل وحتى إذا مرض مرضا عضالا. وكم أعجب ممن يتأسون بقولة من يزعم أنه لا يهاب الموت ولا يخيفه بحجة أنه حي قبله ولا واع به بعده .ل كن ذلك كان يكون كذلك لو أن الإنسان ينتقل من الحياة إلى الموت دون احتضار قد يطول وقد يقصر ودون مرض ودون حوادث مجهولة الزمان والمكان فضلا عن كون الموت لا يؤثر حصرا بكونه موت الذات فقد يؤثر بكونه موت العزيز المحبوب والصديق وحتى العدو إذا كان في الإنسان ذرة من شهامة وتحرر من الشماتة في الموت. 64
–– – الفصل الثامن – كان المنطلق في علاج هذه الإشكالية الجوهر ية في تعليل التقييم في التبادل والتقييم في التواصل بدافعين .فما بدا لي من غياب مبدا المخمس الذي هو حصيلة الزوجية -خاصية كل الموجودات لأن الوحدانية -مبدإ الهوهو ية الصمد - Identitéخاصة بالخالق دون سواه -وتفاعلهما في الاتجاهين والحصيلة التي هي الأصل لان الزوجين وتفاعليهما هي العناصر الفرعية الأولى للبنية المخمسة لكل موجود. فكل المشكل مع منطق القيم الثلاث التي عوض بها هيجل منطق القيمتين عند أرسطو كلاهما لا يناسب حقيقة إدراكنا المعرفي في طلب الحقيقة وتقييمنا الإرادي في طلب الفضيلة .فليست هو ية الأشياء معتمدة على الوحدة وليس للزوجية نفس الفاعلية في الاتجاهين إذا اعتبرنا كلا الزوجين متبادلين التأثير فيكون تأثير أحدهما غير تأثير الثاني .وبذلك نصل إلى المخمس :الزوجين والتأثرين والاصل الذي يصل الزوجين أحدهما بالثاني في أداء الوظيفة الزوجية. فمثلا الفرد الإنساني زوجي الكيان فكيانه العضوي غير كيانه الروحي على الأقل في ما يدركه من ذاته ووعيه بها دون أن يعلم طبيعة ما بينهما من علاقة ل كنه يميز بين بصورة شبه عامة عند كل البشر في ال كثير من التفاعلات .ففعل 65
–– العضوي في الروحي تمثله الحواس الباطنية ومرور الحواس الخارجية بالجهاز الحسي البدني وفعل الروحي في العضوي هو فعل العقل والإرادة في فاعلية البدن والحصيلة هي التي هي الأصل هي كيف حياة الإنسان. والمثال الثاني العلاقة الزوجية بين الاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها. فتأثير الأول في الثاني يبرز خاصة في إشكالية الثروة والتبادل الاقتصادي وتأثير الثاني في الأول يبرز خاصة في إشكالية التراث والتواصل الرمزي بين البشر. تأثير الأول في الثاني هو تمو يل الاستثمار في البحث العلمي مثلا وتأثير الثاني في الأول هو تمكين الإنسان من العلاقة بالطبيعة وبالإنسان من خلال المعرفة والخبرة التي تيسر الاستعمار في الأرض بإبداع أدواته ومناهجه .والأصل الواصل بين هذا المربع هو حقيقة الإنسان من حيث هو مستعمر في الأرض ومستخلف فيها بفضل ما جهز به من قدرة على المعرفة شرط النظر والعقد وقدرة إلى الإرادة شرط العمل والشرع. وهكذا فالوعي بالثغرة التي تنتج عن مقارنة ما ينتج عن فقدان السمع أي البكم المذكور في الآية وعدم ذكر ما ينتج عن فقدان البصر كما استلفت سابقا كان الطر يق إلى حل معضلة العلاقة بين القيم التي لها صلة بالاستعمار في الأرض والقيم التي لها صلة بالاستخلاف وطبيعة تبادل التأثير بينهما .وكان الاكتشاف 66
–– مضاعفا لأنه يتعلق بالبصيرة التي تجعل البصر يبصر ما وراء الظاهر فيجمع إلى الإدراك البصير والعزم الإرادي الصالح فيختار الرجوع إلى الصواب .وفاقد البصر فضلا عن البصيرة لا يرى الوجهة ولا يرى الإشارة إليها سواء من غيره أو من الأشياء .وعلينا البحث عن المشترك بين: ما يفقده في حالة الآية الألى :ماذا تعني \"لا يعقلون\"؟ وما يفقده في حالة الآية الثانية :ماذا تعني \"لا يرجعون\"؟ حسيا فقدان النطق علامته البكم بسبب الصمم الوارد في الآية الأولى .وحسيا فقدان الإرادة ما علامته إنه فقدان البصيرة الذي لم يذكر في الآيتين؟ والبصيرة هي ما يجمع بين النطق والإرادة .وهي تتجلى في ما لا تكفي فيه قراءة العبارة لأن البصيرة تتعلق بالإشارة وراء العبارة .إنها إدراك العبارة غير الناطقة أي العبارة الإشار ية التي لا ترى إلا بالبصيرة. فمن لا يبصر ولا يبين يجمع بين فقدان العبارة الناطقة والعبارة المشيرة التي تدرك ما لا ينقال في ما يقال .البصيرة هي رؤ ية الإشارة التي هي جوهر عبارة الإرادة التي ترتسم في الكيان الإنساني والتي يعسر أن تكذب .فهل يكفي ابراز هذا الضمير في الآيتين لفهم ذكر ما يفقده الأصم مع الصمم وعدم ذكر ما 67
–– يفقده الأعمى معه ليكون التوازي بين الفقدانين معللا لفقدان الفهم ولفقدان الرجوع؟ بين أن الأصم والأبكم يمكن أن يستعيض بالبصر عن السمع والنطق لأن قدرته على رؤ ية الإشارة وما تشير إليه تمكنه من التعلم .ل كن أليس الأعمى يمكن أن يعوض البصر باللمس الذي هو جوهر الادراك الإشاري لما ينقال بتضاريس المدرَك بهكما يتعلم الأعمى بالبرايل؟ هنا ننسى أن الأمر يتعلق بفقدان البصر مع الصمم والبكم .فاللمس يمكن أن يعوض البصر إذا كان مصحوبا بالسمع والنطق .ل كن إذا فقدهما اللمس بات إدراك الإشارة التي تعبر عنها تضاريس ناقل الإدراك أي البشرة مستحيلا لأن ما تشير إليه يصبح غير محدد المرجعية التي تقود الإرادة في التوجه فيستحيل الرجوع بالمعنى الخلقي لوزع الذات في الفعل والترك بعدي الإرادة. إذا فقدا السمع والنطق لن يكون اللمس كافيا لتعو يض البصر لأنه لا يعين الجهة وليس له مرجعية خارجية يصل بينها وبين الإشارة التي تحصل من اللمس .وإذن فالثغرة أو المضمر في الآيتين تتعلق بما يصبح ممتنعا دون افتراضه مكملا للثلاثة الأولى قبل عدم الفهم وعدم الرجوع .ففقدان الثلاثة يصبح مانعا مطلقا للفهم غاية لاجتهاد العقل المعرفي والرجوع غاية لجهاد الإرادة الخلقي إذ 68
–– إن الفهم في الحالة الأولى يبقى معلقا بالوصل بين ما تراه العين وما لا يستطيع الأصم التعبير عنه لأنه أبكم فلا يمكن حينها معرفة المشار إليه في وجهة البصر لاستحالة تعيينه لانعدام النطق. والأمر يزداد عسرا لحد استحالة التوجه من دون الجمع بين اللمس والمشار إليه من الملموسات إشارة تمكن من التوجه الوجهة الصحيحة .والكلام كله استعارات لأن من تتكلم عليهم الآية كل حواسهم سليمة عضو يا ل كنها فاقدة للغاية من الإدراك الحسي مدخلا لإدراك ما ورائه .فقد يلمس الأعمى والأبكم والأصم شيئا يكون على حرف جرف هار فلا يرجع فيسقط فيه وهي استعارة عما يترتب عمن يفقد تجاوز المدارك الحسية إلى ما تدعو إليه من تجاوز لمداركها التي هي آيات لما تعنيه وراءها. وهو القصد ب \"لا يرجعون\" لأنهم لا يرون ضرورة الرجوع فيتمادون في الخطأ. وهو القصد بصم بكم عمي فهم لا يرجعون .وإذن فنحن أمام إصابة العقل القادر على الإدراك في النظر والإرادة القادرة على التوجه: • فالعقل القادر على الفهم والادراك والتعبير-وتلك هي مقومات البيان التي هي شرط التواصل المنتج للتراث في أي حضارة إنسانية 69
–– • والإرادة القادرة على الاختيار والتوجه-وتلك هي مقومات القدرة على الفعل الذي هو شرط التبادل المنتج للتراث في أي حضارة إنسانية • يمثلان بتفاعلهما ما يحقق شروط العمران البشري (أي الاستعمار في الأرض الذي رمز إليه ابن خلدون بسد الحاجات) والاجتماع الإنساني (أي الاستخلاف في الأرض الذي رمز إليه ابن خلدون بالأنس بالعشير) والجهاز المحقق لما يتميز به الإنسان من البيان هو أساس التواصل بمعنييه أي التواصل المطلوب لذاته وهو جوهر الأنس بالعشير وتلك هي قيمته الأسمى التي تناظر قيمة التبادل في سد الحاجات والجهاز المحقق لما يتميز بيه الإنسان من الإرادة الحرة هو أساس التبادل بمعنييه أي التبادل المطوب لذاته وهو جوهر الأس بالعشير وتلك هي قيمته الأسمى التي تناظر قيمة التواصل في الانس بالعشير هما وظيفتا الاجتماع الإنساني المميز للإنسان وإنتاج التراث المشروط في كل ما عداه لأنه فعل جهاز طلب الحقيقة العلمية والحقيقة الذوقية. أما القيمتان الأخر يان فهما قيمتا الاستعمال المصاحب لكل أنشطة الإنسان لأنه بشروط القيام العضوي المشترك بين الإنسان والحيوان أعني التواصل الأداتي خلال التبادل الأداتي وكلاهما لا يخلو منهما أمة من أمم الحياة من ادناها إلى اسماها بسبب استحالة عيش أي كائن حي بمفرده إذ لا بد على الأقل 70
–– من الزوجين اللذين ينجبانه ويحافظان عليه إلى أن يصبح قادرا على العيش في الجماعة بما جهز به من أدوات المشاركة في الإنتاج الضروري لشروط البقاء. فلا يكون التواصل والتبادل مطلوبين لذاتهما كما هي الحال في كونهما علاقة بين ذاتين تعبر عن صلة روحية وعاطفية عندما يكونان صادقين وليسا مخادعين بل هما في المستوى الثاني من القيمة أداتان استعماليتان يجعلان التواصل والتبادل أداتين للعمران البشري خلال العمل من اجل انتاج الثروة وسد والحاجات الضرور ية .وبهذا المعنى فهما لا يمكن أن يستغنيا عن شيء من السلطة في التساخر الضروري للتعاون في قسمة العمل والتعاوض الذي قد لا يكون عادلا ويحتاج إلى دور حكم بين المتواصلين والمتبادلين في هذه الحالة الوظيفية التي يكون فيها التبادل والتواصل أداتين وليسا غايتين. وللنظر في التراتب بين السمع والبصر من حيث دورهما في مستويي القيمة التي تتعلق بالاستعمار في الأرض والتي تتعلق بالاستخلاف فيها واللتان توجدان كلتاهما في انتاج التراث لقيام الجماعة الروحي وذلك هو دور القيمة التواصلية والتبادلية وفي انتاج الثروة لقيامها المادي وذلك هو دور استعمال التواصل والتبادل أداتين في هذا الإنتاج مستوى وظيفيا لهما في الأفعال التي تقتضي 71
–– وجود تساخر لا بد فيه من تراتب سلطوي فيه آمر ومأمور وفيه خاصة حاجة إلى حكم في التعاوض وعدم التظالم والعدوان. ويمكن اعتبار هذا النوع من القيم ذا صلة مباشرة بالبعد السياسي في الجماعات البشر ية ولا بد فيه من سلطة ذات شرعية وشوكة :شرعية لان الخصومات بحاجة إلى من يعتبر حكما فيكون مستمدا شرعيته من اختيارهما له حكما بينهما ولا بد له من سلطة ذات شوكة حتى لا يبقى الحكم الفاصل بين الخصوم حبرا على ورق .ومن هنا جاءت عبارة فهم لا يرجعون. فهؤلاء الذين لا يرجعون هم أيضا من لا يعقلون فيحتاجون إلى سلطة تفرض عليهم احكام العقل وضرورة الرجوع وذلك هو جوهر السياسة في المجتمعات البشر ية أي وظائف الحماية التي تتألف من القضاء والأمن داخليا ومن الدبلوماسية والدفاع خارجيا ويجمع بينها أربعتها أصلها أي الاستعلامات التي تراقب مجرى هذه الوظائف الأربع للحماية وهي إذن العقل المدبر للوظائف الحماية. ل كن وظائف الرعاية التكوينية التي هي التربية المحصلة للتراث والتربية المحصلة للثروة وهي تطبيق للتربية المحصلة للتراث ثم الرعاية التموينية التي هي انتاج التراث 72
–– أو الثقافة وإنتاج الثروة أو الاقتصاد والثانية تطبيق للأولى علما وذوقا هي التي تتعلق بها: الحماية الداخلية لجعل العيش المشترك السلمي ممكنا ذلك أن التنافس بين المنتسبين إلى نفس الجماعة لا تقل حدة عن التنافس بين الجماعات في المعمورة .ولهذه العلة فإن الوازع الذاتي لا يكفي لتحقيق شروط التعايش السلمي حتى في نفس الأسرة ناهيك عن الجماعةكلها ومن ثم فلا بد من سلطة قضائية وامينة اولاهما تمثل شرعية القانون والثانية شوكته وهما ما يسميه ابن خلدون الوازع الأجنبي أي دور السطلة السياسية. والحماية الخارجية لمنع العدوان على ثروة الجماعة وتراثها من جماعات أخرى إذ إن البشر يةكلها جماعة واحدة تتنافس على ما في الأرض من ثروات وشروط بقاء والاقو ياء في الغالب يمدون أيديهم لأحياز الضعفاء الخمسة أي حصتهم من جغرافية الأرض ومن تاريخ العمران والاجتماع ومن الثروة والتراث والعدوان على مرجعياتها الروحية والقيمية .ومثلما أن الاستعلامات هي أصل الحماية بفروعها الأربعة فإن البحث العلمي هو أصل الرعاية بفروعها الأربعة. والاستعلامات تتعلق بما بين البشر من علاقات ل كنها تابعة للبحث العلمي الذي يتجاوز هذه العلاقات إلى ما هو أوسع افقا أي علاقات البشر بال كون كله لأن 73
–– مطلبه هو العلم بقوانين الطبيعة وبسنن التاريخ طلبا إياها لذاتها حبا في المعرفة وبوصفها من الشروط الأداتية للرعاية وخاصة في أدوات انتاج الثروة ومناهجه والحماية وخاصة في انتاج أدوات الدفاع ومناهجه. ولا بد هنا من ملاحظة لم يسبق أن نبهت إليها في كلامي على الأصلين أصل الرعاية بمستو ييها المضاعفين أي التربية في المدرسة والتربية في المعمل وإنتاج التراث (الثقافة العلمية والذوقية) وإنتاج الثروة (الاقتصاد المادي والرمزي) وأصل الحماية بمستو ييها الداخلي (القضاء والأمن) والخارجي (الدبلوماسية والدفاع) أي البحث والاعلام العلميين والاستعلام والاعلام السياسيين. فالأول هو المقوم الأساسي للرعاية بكل دورها المربع للتربية ومعه ما يحتاج إليه الأصل الثاني في الحماية من علم وخبرة لأنه بحث واعلام علمي في التربية المدرسة والتربية المعملية وإنتاج التراث وإنتاج الثروة ومن ثم في آن سلطة روحية ووظيفة أداتية. والثاني هو المقوم الأساسي للحماية بكل دورها المربع ومعه ما يحتاج إليه الأصل الأول في الرعاية من علم وخبرة بحال المؤسسات التي تحقق الحماية لأنه استعلام سياسي في القضاء والأمن والدبلوماسية والدفاع داخليا وخارجيا. 74
–– كلاهما في آن سلطة وأداة ومن ثم فإن السلط الرعائية هي التربية والثقافة وأحد وجهي البحث العلمي من حيث هو مطلوب لذاته لأن وجهه الثاني أداة هدفه مساعدة الاستعمار في الأرض وليس طلب الحقيقة لذاتها والسلط الغائية هي القضاء والدبلوماسية وأحد وجهي الاستعلام السياسي من حيث هو مطلوب لذاته أي معرة حال الجماعة في الرعاية والحماية لتكون السياسة استراتيجية تعمل على علم لعلاج مشكلات الاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها. 75
–– – الفصل التاسع – من المعلوم أني انفي بصورة قطعية أن يكون القرآن متضمنا لما يسميه البعض بالإعجاز العلمي أو الاعجاز العددي لما فيهما من الدفع إلى التكذيب بكل ما جاء فيه لأنه يقتضي جعل مضمونه تاريخيا مثله مثل مضمون العلوم الإنسانية. ليس في القرآن أدنى حقيقة علمية بالمعنى الدقيق لكلمة علم أي محاولة لصوغ قوانين الطبيعة وسنن التاريخ بعبارة قابلة لأن تقاس بما يوصل إليه البحث العلمي من صوغ يجعلنا قادرين باعتمادها على صنع ما تتعلق به مفهوميا (عبارة رمزية تكون بعناصرها المقومة للمفهوم مناظره لعناصر الأمر الذي يعتبر ماصدقه في لحظة من تاريخ العلم) أولا وصادقيا (اصطلاح خلدوني للماصدق في حالة الإضافة) ثانيا أي لتيسير الفهم ما يقابل العبارة الر ياضية (للمفهوم) وفي الإنجاز التقني (للماصدق) ومجموعهما المتناظر بين الرمزي والوقائعي يسمى تصورا. وقبل أن أواصل الكلام في النفي القطعي لخرافتي الاعجاز العملي والعددي في القرآن لا بد أن أعلل إمكانية القطع من منظور اللاأدر ية الإيمانية التي ينسبها القرآن ال كريم إلى علم الإنسان وعمله فوصفت بها جهازي الإنسان من حيث هو مستعمر في الأرض ومستخلف فيها بالمقارنة مع منا ينسبه الرب إلى نفسه وما يترتب على النسبة بينهما من نظر ية في المعرفة تنفي المطابقة والإحاطة على علم الإنسان وعمله فيصبح العلم الإنساني اجتهادا لا يدعي القطع في كل حكم معرفي و يصبح العمل الإنساني جهادا لا يدعي القطع في كل حكم قيمي. 76
–– فكيف بعد هذا الموقف ازعم بصورة قاطعة أن القرآن ليس فيها اعجاز علمي وعددي؟ أليس في ذلك تناقض مع اللادر ية القرآنية بخصوص الأحكام النظر ية والعملية؟ وهذا الاعتراض يرد به دائما على من ينفي المطابقة والاحاطة في النظر والعقد وفي العمل والشرع .فما طبيعة القطع بعدم القطع في النظر وفي العمل؟ لو كان امر العلم والعمل لا يتضمن في ذاته وجهي فعله المحددين لمداه الموجب والسالب لكان الاعتراض شديد الوجاهة :فالعلم بالشيء ليس علما بما يعلم الإنسان منه بل هو علم بما لم يعلم منه من الممكن علمه منه وعمل أي شيء ليس عملا مقصورا على ما يعمل الإنسان منه بل هو عمل وتخيل للمكن عمله ولم يعمله .وإذن فما يقال عن العلم يقال عن العمل في علاقة الحاصل من الممكن وغير الحاصل منه. ومن ثم فالإنسان يعلم أن ما يجهله أكثر مما يعلمه في أي علم ويدرك أن ما لم يعمله أكثر مما عمله في أي عمل وأن النسبة بين المعلوم والمجهول وبين المعمول وغير المعمول في كل شيء هي النسبة بين المتناهي واللامتناهي لأنهكلما تقدم في العلم وفي العمل اتسع مجال اللامعلوم واللامعمول بدون غاية قابلة للتحديد النهائي .وهي عين النسبة بين الحاصل من الممكن وغير الحاصل منه .فيكون العلم المحيط والعمل التام غاية لا تدرك وهذه هي الحقيقة الوحيدة التي يمكن القطع فيها بمعنى أنها عين القطع وعين الحاجة إلى الإيمان باستحالة العلم المحيط والعمل التام. فإذا صدقنا أن القرآن كلام الله وأنه رسالة موجهة إلى الإنسان فإن تضمنه الاعجاز العلمي والعملي يجعله خطاب غير مفهوم فتفقد الرسالة حقيقة كونها رسالة هداية لما 77
–– يهدي لطلب الحقيقة والعمل بها أعني كونه إيقاظا لجهازي الإنسان المشروطين في الاستعمار في الأرض (النظر والعقد) وفي الاستخلاف فيها (العمل والشرع) اعتمادا على جهاز يه في التعامل مع الأرض مصدرا لقيامه العضوي بفضل اجتهاده (تعمير الأرض) ومع السماء مصدرا لقيامه الروحي بفضل جهاده (الاستخلاف). لذلك فإن القرآن لا يمكن أن يتضمن ما هو بجوهره تاريخي لا يوجد قبل تفعيل الجهازين في العلاقتين بالأرض تعميرا لها وبالسماء اتباعا لقيمها .وتفعيل الجهازين لا يكون بشرح نص الرسالة التي تدعو إلى استعمالهما في العلاقة بالأرض استعمارا وبالسماء أي بما وراءها استخلافا فتكون الرسالة تذكيرا بهذا الواجب وليست بديلا يغني عنه .كل المتكلمين عن الاعجاز العلمي يجعلون تفسير القرآن مغنيا عن البحث العلمي إذ يكفي لعي رقبة العربية لتصبح متضمنة لما تم اكتشافه ممن لا علم لهم بالقرآن أصلا. ولما كان كل اجتهاد علمي وكل جهاد عملي مؤقت وهو معنى كونهما تاريخيين فالأمر يصبح مخيرا بين أرخنة القرآن وتكذيبهكما يكذب العلم والعمل نفسيهما لما يتجاوزا ما تقدم من حصيلة البحث فيهما إلى ما هو أقرب إلى حقيقة موضوعهما فإن الرسالة تصبح بنت لحظتها وتفقد كونيتها وسرمديتها .لذلك فلا يمكن ان يبقى للقرآن معنى في هذه الحالة فيصبح نصا تاريخيا ينتهي مفعوله بتجاوز ما فيه من حقائق. لذلك فكل ما في القرآن مما يبدو حقائق تاريخية -مثل كل ما يسمونه أسباب النزول- ليس القصد منه مضمونه التاريخي بل ال كوني والسرمدي في التاريخي .وتلك هي 78
–– الوصلات الخمس التي تصل مقومات الرسالة والتي سأخصص لها جزءا كاملا من هذه المحاولة حول قانون التساخر: • الوصلة الأولى :فبين المرسل (الله) والمرسل إليه وصلة يعرفها القرآن بكونه لم يخلق إلا ليعبد ربه و يعرفه في نفس الوقت بكون الخصيم المبين للرب. • الوصلة الثانية :وبين المرسل إليه والرسول وصلة يعرفها القرآن بكونها تذكيرا يبشر وينذر دون سلطان روحي يكون به وسيطا بين المرسل والمرسل إليه في التربية الإيقاظية او التذكير أو بينه وبين شأنه من حيث هو مستعمر في الأرض ومستخلف فيها يكون بمقتضاه وصيا عليه بالمعنى السياسي. • الوصلة الثالثة :بين الرسول ودوره الإيقاظي أي طر يقة التبليغ التي ليس وساطة روحية ولا وصاية سياسية يوجد ما يعوضه بعد غيابه أي نص القرآن مرجعية روحية وسياسة والعينة التي يمثلها تطبيق الرسول لهذه المرجعية استراتيجية ايقاظ أي السنة. • الوصلة الرابعة :بين مضمون الإيقاظ ومضمون الرسالة نجد المخاطب من الإنسان: الدعوة لتفعيل الجهازين أي العقل للاجتهاد والإرادة للجهاد .وهو ما يعني أن ما يختم الرسالات الموقظة هو ما في كيان الإنسان من تجهيز وما في الرسالة الخاتمة من إيقاظ يجعل الإنسان حرا وسيد نفسه كما يعرفه ابن خلدون في المقدمة \"رئيسا بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\". • الوصلة الأخيرة هي التي ترجع إلى الوصل الوصلات الأربع السابقة وصلا بين الأولى والرابعة :فما كان الإنسان يصبح مدركا ل كونه رئيسا بالطبع مكرم ومسؤولا 79
–– بمقتضى الاستخلاف إلا بمعنى العلاقة المباشرة بربه والقادر ومن ثم فالمذكر يمكن أن يكون فاتحا وخاتما فتكون دعوته تحريرا يغنيه عن الوسطاء الروحيين والاوصياء السياسيين. • ومن ثم فالرسالة تقبل الرد إلى مضمون سورة هود تبدأ بتحريره من طغيان الطبيعة وتختم بتحريره من طغيان الدولة فيكون القرآن استراتيجية تحرر الإنسانية من المعوقات التاريخية للمعاني المتعالية على التاريخ بأخذ التاريخ مثالا تكون احداثه عينات من تعين السرمدي في التاريخي دون أن يرد إليه. لذلك فعندي أن كل الذين يتكلمون على الاعجاز العلمي رغم حسن النوايا هم أكثر المحطين من منزلة القرآن لأن تخر يفهم يعني أمرين كلاهما دال على الجهل بالعلم وبالوحي .ذلك أن من يقول ذلك عن القرآن إما أنه يتوهم العلم مطابق ومحيط فيكون وحيا وليس اجتهادا تاريخيا يعبر عما توصل إليه الإنسان من رصد ل \"عادات الأشياء\" بلغة ابن تيمية أو أن الوحي هو بدوره من جنسه ومن ثم فهو تاريخي ويمكن أن يقول \"تتبين\" بمفعول التقدم العلمي كذبا وليست دالة على الإحاطة في العلم الإلهي. فيكون أصحاب هذه الدعوى ملحدين من حيث لا يدرون أو جاهلين بطبيعة المعرفة العلمية التي هي نسبية وغير مطابقة وغير محيطة وهي تاريخية دائما ولا يوجد علم بلغ الغاية في معرفة عادات الأشياء لأنهكلما تقدم في الادراك اكتشف ابعادا كانت خفية جعلها تقدمه تصبح جلية وهذا المسار لا متناهي لأن علم لوازم أي شيء يقتضي علم كل شيء 80
–– بلغة ابن تيمية مرة أخرى أو لأن الوجود لا يرد إلى الإدراك بلغة ابن خلدون أو لأن للعقل طور وراءه لأنه هو بدوره طور وراء الحواس بلغة الغزالي. والعقل يصبح بحق عاقلا لما يدرك أن العلم محدود دائما حتى وإن كان أفقه لا محدود بمعنى أنهكلما غاص في ما يدركه من الأشياء اكتشف أنه أمام اللامتناهي الذي يدركه بمقارنة ما يعلم بما لا يعلم مما يقبل العلم التدريدي حتى إن كان التدرج لا متناهيا ومن ثم فالإنسان يبقى دائما مشدودا إلى طرفي الوجود المتناهي الذي يدركه واللامتناهي أفقا للممكن رغم استحالة الإحاطة به إلا على خالقه عند المؤمن ولا معقول تراكم الصدف الذي يؤسس للنظام المشهود عند الملحد.. ذلك أن مثل هذه الظاهرة المحيرة في جهازي الإنسان المعرفي والقيمي هو المنطق الذي يدركهكل ذي عقل وهو عين تاريخ المعرفة الإنسانية وهي لو كانت حاصلة بعد في نص القرآن و يكفي لي \"عنكوش\" العربية حتى تستجيب لمقارنات سطحية بين نص الآيات القرآنية ومعادلات المعارف العلمية لاستحال أن يعتبر القرآن أن تبين أنه حق لا يعلم من شرح آياته النصية فيكون مجرد التفسير اللغوي لآيات القرآن مغنيا عن البحث العلمي والاجتهاد العملي بل مما حددته الآية الثالثة والخمسين من فصلت التي هي ليس لغوا :فهو اعتبر معرفة أن القرآن حق تحصل عندما يرى الإنسان آيات الله في الآفاق (الطبيعة والتاريخ) وفي الأنفس (كيان الإنسان العضوي وكيانه الروحي). 81
–– استدلال القرآن بالنظام بدل المعجزات والدعوة لاستعمال المدارك بالمعاني التي حاولنا بيانها في الفصول السابقة بطر يقة التذكير بالوحي للبشير والنذير الذي ليس بوسيط روحي ولا وصي سياسي ذلك هو ما جعلني اعتبر ما في القرآن من إشارات لعلامات النظام والانتظام ودعواتها للاجتهاد في النظر والجهاد في العمل يجعله يؤدي وظيفة السبابة إلى ما على الإنسان عمله ليكون أهلا للاستخلاف خلال الاستعمار في الأرض. ولنعد الآن بعد هذا التنبيه إلى ما يمكن استنتاجه من الآيتين المتعلقين بالتجهيز الإنساني من حيث هو مستعمر في الأرض ومستخلف فيها أي من حيث هو مجتهد لإدراك الممكن من الحقيقة ومن حيث هو مجاهد لعمل الممكن من الفضيلة .ذلك أننا وصلنا إلى إلى طر يقة البحث في التراتب بين دور السمع والنطق ممثلين لشروط التواصل ودور البصر والتوجه ممثلين لشروط التبادل في أي جماعة وبين الجماعات. وصلنا إلى ما يمكن من فهم الآيتين اللتين أردنا في البحث فهم غياب البعد الخامس فيهما .فما يغيب في الكلام على البصر بالقياس إلى ما يحظر في الكلام على السمع هو ما يقود البحث في دور ما جهز به الإنسان للوصل بين وجوديه في عالم الشهادة وما يتعالى عليه و يعلله أي وجوده في عالم الغيب. فغياب السمع نتج عنه البكم .فما الذي ينتج عن غياب البصر حتى ينتج عن الغيابين البكم والغائب المجهول أي عدم الفهم معرفيا وعدم الرجوع خلقيا؟ نبدأ الكلام في التراتب بين دور السمع ودور البصر في هذه المعادلة المضاعفة المنتجة لعدم الفهم في الآية 82
–– الأولى ولعدم الرجوع في الآية الثانية .ففي الأولى تعين ما ينتج عن الصمم أي البكم الذي هو فقدان القدرة على النطق والتواصل مع البشر بالعبارة. وفي الثانية لم تذكر الآية القدرة التي فقدت بسبب العمى .ل كننا اكتشفنا أن العجز هو \"عدم الرجوع\" وهو معنى شديد الغموض تطلب البحث عن نظير للتواصل بغير اللسان وهو مشروط فيه حاضرا كان أو غائبا .فكان ذلك كافيا لبيان تعلقه بالإشارة التي هي أعم من اللسان وتصحبه دائما وهي أصدق منه إذ فيها ما يشبه شهاد الأعضاء على سلوك الإنسان في اليوم الآخر :التعبير البدني إشاري وهو أصدق من التعبير اللساني. ثم إن التعبير الإشاري هو أصل كل تواصل لذلك فهو جهاز يشترك فيه الإنسان مع أي كائن حي .وحتى أداة اللسان أي العبارة المصوتة فهي بدورها إشارة وغالبا ما يكون التصويت متضمنا البعد الإشاري البدني فضلا عن كون التصويت له وظيفة توجيه الانتباه إلى المطلوب المعد للتواصل بين المتواصلين مثل الصوت المنادي والآمر والناه. لذلك فمن يفقد التعبير الإشاري مع فقدان التعبير اللساني يصبح عاجزا دون التعلم بالتواصل مع البشر والتوجه في المكان فيفقد التواصل مع العالم الطبيعي والإنساني .فمن يفقد السمع والنطق يمكن إن لم يفقد البصر أن يكون قادرا على التعلم من غيره والتوجه في المكان .ل كن إذا جمع الفقدانين السمع والنطق مع فقدان البصر لم يبق له إلا الشم والذوق واللمس. وكلها مشتركة مع الحيوان وغير كافية للتواصل لفقدان شرط الوصل بين الحس والمحسوس بالسمع أو بالبصر .ومن ثم فهو يفقد القدرة على التوجه في المكان والوصل 83
–– بين الحاس والمحسوس الأكثر تمييزا بين المحسوسات لأنها تكون فيه حاضرة خلال التواصل. أما باقي الحواس فأكثرها اتساعا في المكان هو الشم .ل كنه لا يكفي لتوجه سليم ودونه الذوق واللمس إذ إنه في سعيه إلى مصدر المشموم لا يعلم ما يمكن أن يصادفه بصورة تمكنه من تجنب الوقوع في محظور .ويمكن اذن أن نقول إن ما يفقد هو الحد الأدنى للتواصل بين البشر والمحيط التاريخي وبينهم وبين المحيط الطبيعي فلا يبقى للإنسان للبيان باللسان ولا البيان بالإشارة البدنية فيصبح فاقدا لشرطي الفعل أي العقل والإرادة وهما مقوما الإنسانية فيه وبهما يتميز عن غيره من الحيوان. بعبارة وجيزة يفقد جهازي الاستخلاف في الأرض ومن ثم إمكانية استعمالهما في الاستعمار في الأرض .فيصبح فاقدهما معا عاجزا عن التقييمين الأسميين في التبادل وفي التواصل المطلوبين لذاتهما والأدنيين فيهما المطلوبين لغيرهما بوصفهما أداتين تصاحبان النظر والعمل عندما يخضعان لتوظيف في تحقيق شروط الاستعمار في الأرض سواء كان ذلك بقيم الاستخلاف أو بدونهما. وإذن فالآيتان تتعلقان بهذا النوع الثاني أي بطغيان دوافع الاستعمار في الأرض في غياب قيم الاستخلاف وهو المقصود بالفقدانين رغم وجود السمع والبصر .ل كن البصر صار فاقدا للبصيرة لأنه لم يعد له القدرة على لغة الإشارة بثا وتلقيا وفاقدا لما يناظرها أي السميعة قياسا على البصيرة لأنه لم يعد له القدرة على لغة العبارة بثا وتلقيا. 84
–– والمعلوم أن الكلام ليس على فقدان الحواس بل على فقدان ما يتجاوزهما إلى ما يحدد معنى المحسوس .فمن لا يفهم ولا يرجع لم يفقد السمع ولا البصر بل فقد ثمرتهما أي التعبير الناطق والتعبير المشير بثا وتلقيا فصار منقطعا عن الوجود الإنساني والطبيعي. فيكون استعماره في الأرض حيوانيا خالصا وليس له أدنى حظ من الاستخلاف وهو معنى \"لا خلاق له\" أي ليس له حظ من القيمة ومن الخير ية التي يعرف بها القرآن ثمرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (آل عمران من الآية الرابعة بعد المائة إلى العاشرة بعد المائة) .وإذن فالآيتان تتعلقان بدور جهازي التواصل الإنساني: • جهاز الفهم وينسب عادة إلى العقل • وجهاز التوجه وينسب عادة إلى الإرادة. • والقلب يجمع بينهما مع ميل للمعرفي والعقلي • الفؤاد يجمع بينهما مع ميل للخلقي والإرادي • والجامع بينهما هم الذكر أي عدم نسيان العلاقة بين جهاز الاستعمار في الأرض أو الاجتهاد للفهم وجهاز الاستخلاف فيها أي الجهاد للرشد .ووحدتهما هي العبادة التي لم يخلق الإنسان لغيرها. ويمكن أن تصاغ الآيتان بصورة تجعل المضمر معلن :فتكون حصيلة الجمع بين الآيتين \"صما بكما (فاقدين للعقل أي الفهم والإفهام أي لشرطي البيان بالعبارة اللسانية التي تشمل التلقي والبث في التواصل مع البشر) عمي (فاقدين للإرادة أي التوجه والتوجيه 85
–– أي لشرطي البيان بالإشارة البدنية التي تشمل التلقي والبث في التواصل مع كل شيء بشرا وغير بشر) فهم لا يعقلون ولا يرجعون\". 86
–– – الفصل العاشر – سأبدأ هذا الفصل بما يميز بين ما أتكلم عليه وخرافة الاعجاز العلمي حتى لا يظن أني انهي عن خلق وآتي مثله .لا علاقة لما اعرضه في محاولاتي لتفسير القرآن بالإعجاز لأني اعرف ما يفيده القرآن بدور السبابة التي تشير إلى ما على الإنسان رؤيته ليدرك ليتبين أن القرآن حق. والعلم إذا توهمانه يدرك الحقائق الغائية بحيث تكون معرفته مطلقة ومحيطة وغير تاريخية ليس لنا منه شيء إلا في أوهام الدجالين سواء ادعوا العلم بالدين أو العلم بالفلسفة .كل معرفة إنسانية وكل عمل إنساني متناه وفان الأول غير محيط والثاني غير تام قطعا. وما يقال عن العلم يقال مثله على العمل :لا وجود لعلم إنساني تام بحيث يكون ما انتهى اليه نهائيا ليس بعده امكانية التجاوز ومن ثم فهو حتما ناقص. وإذن فكل معرفة إنسانية وكل عمل إنساني كلاهما متناه وفان فالأول غير محيط والثاني غير تام قطعا .فإذا بحثنا عنهما في القرآن جعلناه تاريخيا فأنهينا تعاليه وصرنا مثل الملحدين نعتبره قد مضى ولم يعد له دور. فما أتكلم عليه هو ما لا يمكن علمه إنسانيا بمعنى أنه من جنس الإشارة إلى ما لا تعلم طبيعته علما يقينيا رغم كون وظيفته هي شرط كل يقين وهو في نسبة 87
–– طبيعة الكائنات الر ياضية بالقياس إلى دورها في كل ما عداها من العلوم الإنسانية. فهي من جنس الإشارات التي يسميها ابن تيمية تقديرات ذهنية تبدع عالما مثاليا ليس لها علم بطبيعته لأنه لا يرد إلى ما يتخيله صاحبه وإلا لكان خيال الإنسان هو الذي يمكن من علم كل ما عداه في المكان والزمان وسلوك الطبيعة والإنسان. كل ما في الأمر أني قياسا على هذه المفارقة بين الطبيعة المجهولة والوظيفة المعلومة والضرور ية في مجال النظر والعقد التي لا يمكن ألا ننسبها إلى المقدرات الذهنية الر ياضية والمنطقية وضعت فرضية أفسر بها الطبيعة المجهولة والوظيفة المعلومة والضرور ية في العمل والشرع التي لا يمكن ألا ننسبها إلى المقدرات الذهنية الدينية والخلقية. كما أفسر بها فساد الأدب العربي الحالي :فكل أدباء عصرنا لا علاقة لهم بنوعي التقدير الذهني .كلهم يكذبون لتز يين سيرهم خلطا بين ظاهر النفس وسرائرها .ولهذه العلة فهم أبعد الناس عن نوعي التقدير الذهني. 88
–– والقرآن يجمع بين النوعين لذلك فهو لا يخلو من الاعجاز الأدبي بإشاراته لما يذكر بالفرق بين ظاهر النفس وسريرتها .ل كنه يفعل بالإشارة التذكير ية التي توقظ الإنسانية بالكلام على: • علاقة النوع الأول بالنظر والعقد • وعلة النوع الثاني بالعمل والشرع واعتبار ذلك عين استعمال الجهازين جهاز النظر والعقد أي العقل للاجتهاد المعرفي وجهاز العمل والشرع أي الإرادة للجهاد القيمي. والقرآن من هذا الجنس ل كنه كذلك بصفة الإشارة التذكير ية التي توقظ الإنسانية بالكلام على علاقة النوع الأول بالنظر والعقد والنوع الثاني بالعمل والشرع واعتبار ذلك عين استعمال الجهازين جهاز النظر والعقد أي العقل للاجتهاد المعرفي وجهاز العمل والشرع أي الإرادة للجهاد القيمي. فيكون جامعا بين التنبيه إلى وظائف الجهاز الأول سبيلا إلى الاجتهاد في اكتشاف قوانين الطبيعة وإلى وظائف الجهاز الثاني سبيلا إلى الجهاد في 89
–– اكتشاف سنن التاريخ مع وصلهما بمقومي قيام الإنسان المادي أي كيانه العضوي وكيانه الروحي. ومن ثم فالأجوبة التي يقدمها القرآن لا تتعلق بالمسائل التي لا يمكن ان نعلمها بالبحث العلمي الذي يبقى دائما فرضيا ما لم تؤيده التجربة التي لنا عن عادات الأشياء وهي المتغيرة كلما تجودت هذه القدرة بفضل من يبدعه العلم من الأدوات التي تساعد المدارك الحسية التي تبقى الحكم الحاسم في كل علم إنساني. بل هي تتعلق بإيقاظ الاجتهاد العلمي في شروط قيام الإنسان العضوي أي الاستعمار في الأرض وبإيقاظ شروط الاجتهاد العملي في شروط قيام الإنسان الروحي أي الاستخلاف في الأرض. ولهذه العلةكان القرآن رسالة فاتحة وخاتمة لأنه هو عين الكلمات التي تلقاها آدم فعفي عنه -ولم يقل أتهمن-لأن تمامهن حصل في الختام. وما بين البداية والغاية كان تاريخ التطور الإيقاظي الذي سيكون موضوع الفصل الأخير من هذه المحاولة أي تاريخ العلاقة بين السرمدي وهو تجهيز الإنسان والتاريخي وهو تمام الوعي بوظيفته الاستعمار ية والاستخلافية المتممة للكلمات التي تلقاها آدم فأتهمن محمد. 90
–– وإذن فما أتكلم عليه هو ما لا يمكن أن يكون للإنسان فيه تجربة حاسمة تؤيد فرضيات الإنسان لأن التجربة ال كونية لم تحصل إلا بحصول الدين الخاتم الذي يحدد وظيفة النوع الثاني من المقدرات الذهنية المرسومة في ما فطر عليه الإنسان فينساه لإخلاده إلى الأرض ولهذه العلة سمى الكتاب ذكرا والرسالة تذكيرا مبشرا ومنذرا. والسؤالان اللذان يجمعان بين نوعي التقدير الذهني المتعلق بالنظر والعقد وبالعمل والشرع والجامعان بين الديني والفلسفي أي المشترك بينهما والذي هو جوهر العلاقة بين عالم الشهادة وعالم الغيب ليس لهما جواب علمي إنساني وهما أفضل الأمثلة التي يتعين فيهما جوهر المفارقة الر ياضية والمفارقة الدينية أي الجهل بطبيعة مقدراتهما الذهنية والعلم بوظيفتهما عند كل إنسان حتى لو كان اميا: • الأول هو لماذا يوجد شيء بدل لا شيء؟ • الثاني هو لماذا يكون ما يوجد على كيف معين وسواه ممكن؟ • وما كان ذلك يكون كذلك لو لم يكن للإنسان من حيث هو إنسان القدرة على التوجيه بالمعنى الفلسفي للكلمة أي استعمال الجهات فيميز بين الممكن والواجب والممتنع. 91
–– • وهذا التوجيه يعد في آن علامة الحر ية وشرط اعتبار الموجود غير مكتف بنفسه بحثا عما يجعله موجودا وشرط اعتبار كيفه مشروطا بالأخيار لتعدد ال كيفيات الممكنة. • وإذن فالتوجيه هو أساس التقدير الذهني الر ياضي المشروط في كل معرفة إنسانية والتقدير الذهني الديني المشروط في كل عمل إنسان .وبهما يكون الإنسان حائزا على جهازين يشيران إلى أنه فعلا خليفة بمعنى أن هذين المقومين فيهما إحالة إلى اللامتناهي الذي يرد إليه الخلق والامر فيكون نوعا التقدير الذهني صفتين للإنسان من حيث هو إنسان هو مدلول علمه الأسماء كلها أي التسمية المعرفية والقيمية. وبهذا المعنى فالجواب الديني في قضية بداية الخلق والامر أفضل لأنه ينسب الأمر إلى ما يقيسه على نفسه معتبرا الجواب عن السؤالين قابلا للتقديم بالقياس إلى ما يعتبره شرطين في كل أفعاله أي الهندسة المبدعة للشيء بعد عدمه والمبدعة له على صورة معينة مناسبة للغرض منه. ل كنه يجعل ذلك خاصا بالبدايات المطلقة بما يفها بداية الإنسان طبيعة ووظائف .وهي البدايات التي يمكن للعلم أن يلاحظها ويسلم بها ل كنه لا يستطيع 92
–– تفسيرها إلا بصورة دور ية فيجعل بعضها عللا لبعضها ولا شيء قبل البداية يمكن أن يعللها إلى بدور يصادر على المطلوب: • لذلك فالعلم الإنساني لا يستطيع إلا التسليم بأن الأمر هو كما هو دون تعليل. فلا شيء يعلل تمايز المواد والعناصر عدى كونها متمايزة والمثال الأوضح في ذلك هو كيمياء الأشياء وفيز ياء تفاعلاتها .هي كما هي وكفي وخاصة في البدايات. • والعمل الإنساني لا يستطيع إلى التسليم بما بالقياس إلى القضاء والقدر الدينيين للجواب على هذه الأسئلة التي لا جواب عليها فلسفيا إلا باللجوء إلى الفاتاليسم الخلقي :الامر هو كذلك ولا تعليل له يتجاوز التعليل الدوري بالتفاعل بين الأشياء ولا يمكن استعماله في البدايات إلى إذا افترضناها محتو ية على الغايات. وبهذا المعنى فالمسألةكلها تعود إلى طبيعة التجهيز الإنساني للنظر والعقد وللعمل والشرع ولا يمكن أن يعلل ما يتجاوز ما يقبل القيس إلى ما يقدران عليه فيكون الإنسان وحدة قيس المعلوم والمعمول والأرض وحدة قيس خصائص العالم ال كيمياو ية والفيز يائية. 93
–– وهو ما لم يفهمه الفلاسفة مثلا عندما يكلمهم القرآن على عالم يومه يقاس بخمسين اف سنة مما نعد في الأرض في حين انهم كانوا يتصورونه مقصورا على ما يراه عليه فلك بطليموس أو حتى فلك كوبرنيكوس. وبهذا المعنى كذلك فكل ما استنتجته من المقارنة بين الآيتين اللتين بنيت عليهما تعلقهما بالجهازين اللذين يؤهلان الإنسان للاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها مقومين للعبادة التي هي العلة الوحيدة لخلق الإنس والجان في القرآن وبتكاملهما يكون تقولا على القرآن ال كريم ومبالغة في الاعتماد على أسلوب الاقتصاد الذي يجنبه قول ما يغني عنه السياق من الدلالة لا بد من الاستدلال بما لا يمكن أن يجادل فيه عاقل. كان ذلك يكون كذلك لو لم تكن سورة الرحمن مخصصة لهذه الإشكالية وعلاقتها بنوعي الوجود الإنساني في عالم الشهادة وفي عالم الغيب بوصف الوصل بينهما علامة الصلاح والفصل بينهما علامة الخسر اللذين تعلقت بهما سورة العصر فجعلها ذلك تعتبر بنظرة الشافعي كافية لتكون متضمنة لكل مضمون القرآن. 94
–– فأهمية هذا المعنى في تعطل جهازي الإنسان اللذين يحقق بهما الاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها أي العقل جهاز النظر والعقد والإرادة جهاز العمل والشرع تقتضي أن توجد سورة مخصصة لهما بهذا المعنى مثلما رأينا ذلك في محاولة سابقة حول دلالة سورة يوسف فهي مخصصة لمعنى العلاقة بين رؤى الحلم وفاعلية العلم في صناعة الإنسان لتاريخه ورأينا أن سورة هود مخصصة لمعنى العقبات التي تجعل التاريخ بين ما يترتب على ما في الاستعمار في الأرض من معيقات للاستخلاف فيها بسبب تأثير قيم الثاني في قيم الأول. وهذه السورة يمكن اعتبارها التأو يل الأسمى لحقيقة تعر يف القرآن للإنسان ومعه الجان أي للأمتين اللتين يقول القرآن إن الله لم يخلقهما إلا ليعبدوه :إنها سورة الرحمن .فآياتها الخمس الأولى هي التي مكنت من استخراج المضمر في الآيتين: \"الرحمن* علم القرآن * خلق الإنسان * علمه البيان * الشمس والقمر بحسبان\" ثم وصلت الآية الموالية ذلك كله برمزين أولهما يشير إلا الاستخلاف والثاني إلى الاستعمار في الأرض\" :والسماء رفعها ووضع الميزان .الا تطغوا في الميزان 95
–– (فيها إشارة إلى المطففون)\" .فالميزان هو سر العدل في التعاوض .والسماء هي سر الصدق في التواصل. اختيار اسم الرحمن :ما دلالته .لولا هذا العنوان لأمكن لأي \"متعاقل\" أن يزعم أن الرب الذي هو \"على كل شيء قدير\" ما حاجته إلى خلق من يعبده وجعله عبدا آبقا بل وخصيما مبينا بنص القرآن؟ خصومة الإنسان مع الرب نعلمها لأننا بشر. ل كن ما خصومة الجن مع الرب إذا كان مثل الإنسان كما يتبين من نص سورة الرحمن لأن الجزاء الموجب والسالب واحد في الحالتين بخصوص علاقة السلوكين في عالم الشهادة بمقتضى قيم الاستخلاف وعدمها بالجزاءين في عالم الغيب؟ لو سلمت بأن العقل كاف لفهم اسرار الوجود حتى الشاهد لصار هذان السؤالان وجيهين ومشروعين .ل كني بسبب تسليمي بالعكس اعتقد أن الأمر من الألغاز التي تجعل الخلق والأمر من الغيب وكل محاولة لفهمهما بمنطق النظر يات العلمية أكثر الغازا من القصة التي يعتمدها القرآن. والكلام في هذه المسائل ليس علميا بل هو عقدي ولذلك فيمكن ان تتضمنه الرسالة دون تناقض لأنه يتعلق بما هو في متناول الجميع ل كونه هو عين ما جهز 96
Search
Read the Text Version
- 1
- 2
- 3
- 4
- 5
- 6
- 7
- 8
- 9
- 10
- 11
- 12
- 13
- 14
- 15
- 16
- 17
- 18
- 19
- 20
- 21
- 22
- 23
- 24
- 25
- 26
- 27
- 28
- 29
- 30
- 31
- 32
- 33
- 34
- 35
- 36
- 37
- 38
- 39
- 40
- 41
- 42
- 43
- 44
- 45
- 46
- 47
- 48
- 49
- 50
- 51
- 52
- 53
- 54
- 55
- 56
- 57
- 58
- 59
- 60
- 61
- 62
- 63
- 64
- 65
- 66
- 67
- 68
- 69
- 70
- 71
- 72
- 73
- 74
- 75
- 76
- 77
- 78
- 79
- 80
- 81
- 82
- 83
- 84
- 85
- 86
- 87
- 88
- 89
- 90
- 91
- 92
- 93
- 94
- 95
- 96
- 97
- 98
- 99
- 100
- 101
- 102
- 103
- 104
- 105
- 106
- 107
- 108
- 109
- 110
- 111
- 112
- 113
- 114
- 115
- 116
- 117
- 118
- 119
- 120
- 121
- 122