أبو يعرب المرزوقي الأسماء والبيان
المحتويات 1 5 914192530364248
سأبدأ بحث التأصيل بالفقه .فلنعرفه :إنه علم الوظائف السياسية بفرعيها (التربية والحكم) شرطين للتنظيم الروحي والمادي لقيام الإنسان فردا وجماعة.وقد كان ابن تيمية يقول بما ينتج عن هذا التعريف رغم أنه لم يصغه .فعندما يقول إن نصف الفقيه يفسد البلدان فهو يعني يفسد سياستها تربية وحكما.وعلي قبل التقدم في العلاج بيان الجمع والمنع في الحد :فهل هو يجمع كل ما يتضمنه السياسي تربية وحكما ويمنع ما عداهما أم هو لا يجمع ولا يمنع؟ثم تأصيل علم الزهد أو ما صار يسمى تصوفا لأجمع أسباب تحريره من علل ما حل به من فساد :إنه التحرر من سلطان الدنيا والوعي بالفقر الوجودي.والتحرر من سلطان الدنيا لا ينفيها بل يثبتها ليتجاوزها إلى الوعي بالفقر الوجودي. فالفقر المادي غرق في الدنيا يلغي الوعي بالفقر الوجودي :الدين.ومن لم يفهم ذلك لن يفهم زهد الرسول والصحابة .لم يكونوا فقراء ماديا ولا نفاة للدنيا فخاصية الإسلام اعتبارها مطية للآخرة بالعمل الصالح.والعمل الصالح ليس العبادات وحدتها بل المعاملات وخاصة السلطان على المال ليكون أداته وليس غايته :فالفروض الخمسة مقترنة بالإنفاق من الرزق.لا تنفصل الصلاة عن الزكاة وهذه عن شرطها النصاب :ومن ثم فمن لا يملك النصاب يظن نفسه معفى من الزكاة وينسى تخليه عن الفرض بتخليه عن تحقيق شرطه.تحقيق شرطه جزء منه :الفرض ليس الزكاة بل السعي ليكون المؤمن قادرا على الزكاة. وقس عليه الصلاة :فشرطها هو شرط النظافة والتخلي عنه تخل عنها.والصوم شرطه الصحة وهي مكلفة جدا غذاء ودواء ومن تخلى عن الشرط تخلى عن المشروط .أما الحج فالأمر بين بل هو صريح .وإذن فالأخيرة تلغي الفقر المادي. 54 1
فالمسلم عندما ينحط إلى الفقر المادي يكون قد تخلى عن 4من 5من الفروض ولا يبقى له إلا الشهادة .وكل نفي لشروط تجاوز الدنيا بأسبابه غرق فيها.وفي غياب هذه الشروط لا يكون التعبد تعبيرا صادقا عن الإيمان بل هو تعويض بمظاهر التدين وهروب من تحقيق الشروط خلطا بين الفقرين المادي والوجودي.والحديد 27وسيرة الرسول وصحابته واضحة الدلالة على هذا المعنى .والفقر الوجودي هو الوعي بعلاقة وجود الإنسان المتناهي بوجود الله اللامتناهي.فللإنسان إرادة وعلم وقدرة وحياة ووجود لكنها جميعا قاصرة ومتناهية وفانية قبالة إرادة الله وعلمه وقدرته وحياته ووجوده :الوعي بالفقر الوجودي.الزهد هو هذا الوعي بالفقر الوجودي وليس التخلي عن الاستعمار في الأرض الذي هو شرط تجاوز الفقر المادي للوعي بالفقر الوجودي وشرط التكريم الإلهي.ولأحدد الآن مفهوم علم الكلام .أعلم أن علماء السنة يشددون النكير على الكلام. وأرى رأيهم فيه .لكن لا يوجد دين من علم الكلام بديل محرف منه.فما أريد تعريفه هو هذا العلم الذي يعتبر الكلام تحريفا له .وموضوع هذا العلم العقائد مثلما أن موضوع الفقه هو الشرائع (السياسة تربية وحكما).فالشرائع التي هي سياسة وجود الإنسان الدنيوي تربية وحكما بوصفها ثمرة العقائد التي هي سياسة الوجود الإلهية تربية وحكما للمكلفين من المخلوقات.فالعقائد هي سياسة الله للكون تربية وحكما للمكلفين من المخلوقات وتكون الشرائع هي ما يترتب عليها من سياسة الإنسان في الكون بمقتضى العقائد.فلكأن الأمر تناظر بين سياستين أو دولتين :الله يسوس كل المخلوقات تربية وحكما والمكلفون منهم مطالبون بأن يسوسوا دولتهم (الأرض) بشرعه :الاستخلاف.العلم الذي كان الكلام تحريفا له هو علم سياسة الله للكون أي علم نظام الكون كما يحدده القرآن وعلاقة سياسة الإنسان للأرض بمقتضاه أي الشريعة.والعلم بسياسة الله للكون تذكر الرسالة به ويطلب بما قالت فصلت :53والقرآن يقول إن هذه السياسة هي نظام الطبيعة الرياضي ونظام التاريخ الخلقي. 54 2
فيكون يوم الدين أو الحساب مبنيا على سياسة الإنسان لذاته وجماعته بوصفه خليفة تربية وحكما بمقتضى نموذج سياسة الله للكون بوصفه المستخلف.وهذا هو الفهم السني للعلاقة بين العقيدة والشريعة وهو مصوغ في القرآن ولا يمكن أن نتصور متكلما أقدر على صوغه منه :الآية 177من البقرة كافية.وعلم الكلام يحول العقيدة كما حددها القرآن إلى مذاهب عقدية تتصارع على صيغ يظن أنها تعليم للعقيدة وهي في الحقيقة تحريف لها لخلق الطائفيات.جوهر علم الكلام هو ما نبهت إليه الآية 7من آل عمران :مرض القلوب وابتغاء الفتنة بدعوى الرسوخ في العلم والقدرة على تأويل المتشابه مثل الله.الطوائف الكلامية أصل \"دعشنة\" النظر والمذاهب الفقهية أصل \"دعشنة\" العمل. الأولون أفسدوا الاجتهاد بزائف النظر والثانون أفسدوا الجهاد بزائف العمل.وزائف النظر هو ادعاء علم الغيب في العقائد وزائف العمل هو ادعاء عمل الغيب في الشرائع .وذلك بسبب قلب فصلت 53والجرأة على آل عمران .7فيكون العلم الذي حرفه الكلام هو تذكير القرآن بسياسة الله للعالم والمخلوقات طبيعيّها وتاريخيّها مع تركيز على الإنسان بوصفه ممثلا للمكلفين.إنه علم الحكمة الإلهية في الوجود بوصف الله صاحب الخلق والامر مثالا أعلى لا يتحرر به الإنسان ولا يسمو إلا بالاشرئبات إلى خلافته بمعنى اتباع شرعه.ويجمع بين موضوعين :القرآن كمدونة تامة والعالم الطبيعي (قوانينه رياضية) والعالم التاريخي (سننه خلقية) صورتين لحكمة المستخلف نموذجا لحكمة الخليفة.وكما رأينا في العلاقة بين الفقه والزهد فإن العلاقة بين هذا العلم الذي حرفه الكلام والعلم الذي حرفته الفلسفة هي علاقة بين الشرط والمشروط.ففي فلسفة العمل لا يكون الإنسان قادرا على الزهد إلا إذا حقق ما به يتجاوز الغرق في الدنيا والحاجة المادية للوصول إلى الوعي بالفقر الوجودي.وفي العلمين لا يمكن للإنسان أن يصل إلى الحكمة الإلهية إلا بالحكمة الإنسانية التي تسمو إليها بمجرد اكتشاف قوانين الطبيعية وسنن التاريخ. 54 3
والنجاح في الاستعمار في الأرض بصورة تحرر الإنسان من الفقر المادي ليعي الفقر الوجودي شرطه حكمة الإنسان او قوانين الطبيعة وسنن التاريخ.فبعلم قوانين الطبيعة يسد حاجاته المادية وبعلم سنن التاريخ ينظم حياته الخلقية وبهما معها يتحرر من الغرق في الأرض فيسمو إلى حكمة الله في العالم.وعلم قوانين الطبيعة وسنن التاريخ (فلسفة الطبيعة وفلسفة التاريخ) هو مضمون الفلسفة وإذن فالفلسفة هي شرط إدراك حكمة الله في الكون أي الدين.لكن تحريف علوم الملة الذي درسناه جعل الفلسفة والدين متعاديين وكذلك يفعل كاريكاتور التأصيل وكاريكاتور التحديث في حين الأولى شرط الثاني.ومن يفهم هذه النتيجة يدرك علل اعتماد القرآن على النظامين الطبيعي والتاريخي في الاستدلال الديني الذي يصل به الإنسان إلى إدراك حكمة الله.ليس في القرآن معجزة أخرى غير هذه :فبخلاف الأديان التي ينقدها لا يستدل القرآن بالمعجزات أي بخرق العادات بل بحكمة النظام وانتظام العادات.فالقرآن نص فلسفي غايته بيان حكمة الله في الكون وذلك هو جوهر الدين التام والكامل الذي يدعو البشرية كلها إلى البحث العلمي في آيات هذه الحكمة.وهذه الآيات الدالة على النظامين توجد في الآفاق والانفس أي في الطبيعة والتاريخ كما توجدان في الأعيان (الآفاق) وفيهما في الأذهان (الأنفس).والآية السابعة من آل عمران تحذر من الجرأة على التأويل الملغي للغيب بدعوى الرسوخ في العلم والقالب لفصلت 53بإهمال عالم الشهادة للرجم بالغيب. 54 4
لن أعجب كثيرا إذا اتهمت بما ينفي التواضع عن محاولتي إصلاح علوم الملة خاصة ممن يظنني أول قائل بموت علوم الملة :عنوان الإحياء بالغ الدلالة.دعوة الغزالي لإحياء علوم الملة اعتراف بموتها بمعنى أنها فقدت ما يمثل حياتها أي فاعليتها كعلوم وليس بمعنى أنه علينا أن نرميها في المهملات.فهي جزء مقوم من حياة علومنا ومرحلة مهمة من تكوينيتها :والتجاوز بالإحياء يقتضي حتما أن ما نحييه لم يمت موتة نهائية بل هو أحد صفائح ما يخلفه.ففي كل بحث إنساني يحقق التجاوز يكون التجريب السابق ذا فائدة في التجريب اللاحق فيكون أحد صفائح تكوينيته ويبقى وجها من وجوهه المقومة فلا يبرح.وكل العلوم تتقدم بقطائع من شروطها إعادة النظر في الأصول :فالمعرفة عامة والمعرفة الفلسفية خاصة لا تتقدم إلا بقدر مراجعتها للأصول والبدايات.فيكون ما يحصل لها من ارتفاع في سلم المعرفة مقتضيا ما ينبغي أن يحصل لأصولها من انغماس في أعماق الأرض مثل ناطحات السحاب بسوقها بعمق عروقها.ولهذا خصصت الفصل الاول للحدود الجامعة المانعة للفنون الأربعة (الفقه والتصوف والكلام والفلسفة) ولمرجعية تأصيلها القرآنية أي حكمة الله لسياسة العالم.وقد تبين أن القرآن نص فلسفي يجمع بين فلسفة الطبيعة وفلسفة التاريخ وعلاقتهما بحكمة الخالق والآمر مضمونا لسياسة الله للعالم ونموذجا للمكلفين.فتكون الرسالة مشروعا استراتيجيا لتحقيق الغاية التي هي رمز الحكمة الإلهية أو الوحدانية ومطالبة الخليفة المكلف باحتذائها في سياسة الأرض.ومن ثم فدولة هذه الرسالة ليست قطعة من الأرض بل كل الأرض وما يحوطها من العالم وما لو تعلقت به همة الإنسان بسلطان لناله (بما وراء العرش). 54 5
وقد بينت سابقا أن كل دولة مهما صغرت لها بالقوة هذه الامكانية بسبب دوران الأرض حول نفسها وحول الشمس :فهي بالدورتين تمسح كل العالم بالتوالي.وما هو ممكن لكل دولة بالقوة هو ما يريده الإسلام بالفعل لدولته بوصفها سياسة تحقيق حكمة إنسانية تحاكي الحكمة الإلهية :وهذا هو منطلق التأصيل. فما استخلاف الإنسان؟ بماذا يتميز الإنسان عن المخلوقات الأخرى حتى يستخلف؟ إن الديني في أي دين هو الاستخلاف الذي يحدد منزلة الإنسان الوجودية.قصة الاستخلاف رمز لهذا المفهوم :فما معنى أن يكون الإنسان قد علم الأسماء كلها ليعتبر أهلا للاستخلاف رغم كونه يفسد في الأرض ويسفك الدماء؟فلنحاول الفهم اعتمادا على القرآن الذي يمثل لكل مفهوم بقصة ولكل قصة بمفهوم جمعا بين أسلوبيه في التعبير عن المعاني المجردة بتجسيدها وتشخيصها.ولفهم الأمر لابد من الكلام على قصتين :فالقرآن خصص علاجات طويلة لخلق الإنسان ليكون خلقا وتسوية وتصويرا على نموذج سابق ونفخا وتعليما للأسماء.فلكأن القرآن يقول إنه لم يخلق بمجرد أمر كن بل هو خلق على عين الله بمراحل مركبة قلبت التراب إلى أسمى الكائنات ليكون مكلفا بعد تعلم الأسماء.وتعلم الأسماء أعدت له المراحل السابقة التي جعلته قابلا للتعلم .لا تقتصر الأسماء على ما يعرف به الإنسان في الفلسفة القديمة النطق كلاما وعقلا.وحتى نفهم الأمر فلأقس القضية-مع ليس كمثله شيء-بصنع الإنسان للروبوتات :فغاية الإنسان التي لم يصلها بعد هي جعله قريبا من حيازة صفات خالقه.والله لم يخلق الإنسان على صورة الله .خلقه على صورته (بفهم ابن تيمية) :أي على صورة الإنسان التي صوره بها لعودة الضمير إلى الاسم الأقرب.والتصوير نقل التراب إلى الإنسانية القادرة على الخلافة هي النفخة التي أعطت للإنسان جزءا فانيا من صفات الله الذاتية والسرمدية التي لا تفنى. 54 6
والصفات هي :الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود .وكلها صفات متناهية وفانية عند الإنسان لكنها لامتناهية وسرمدية عند الله .المماثلة ممتنعة.لكن توهمها ممكن :لذلك فالاستبداد والتحكم يفسره ابن خلدون بالتأله الذي يجعل البعض يتصور إرادته وعلمه وقدرته وحياته ووجوده مطلقة فيتأله.إنها مرض يصيب الساسة (إطلاق الإرادة) والعلماء (إطلاق العلم) واصحاب المال (إطلاق القدرة) والفنانين (إطلاق الحياة) وأصحاب الرؤى (إطلاق الوجود).تأله الإنسان علته نسيان معضلة التشابه بين نوعي الصفات :فهو بها خليفة بشرط الوعي بالفرق المطلق بين المتناهي والفاني واللامتناهي والسرمدي.وكما هو معلوم فديكارت أسس فلسفته كلها على إثبات وجود الله ضامنا للعلوم كلها بدليل الوعي بهذا الفرق بين الصفات أي بين المتناهي واللامتناهي.وكلمة \"معضلة التشابه\" تنتسب إلى حكم المتشابه الذي لا يمكن تأويله لأنه من الغيب. فالنفخ الذي نقل آدم من الترابية إلى الإنسانية لغز غيبي.لا أستطيع له تفسيرا ولا أحاول تأويله :كل ما يعنيني هو أن حصيلته بنص القرآن هي جعل الإنسان أهلا للاستخلاف لأنه قابل لتعلم الأسماء كلها.والأهلية تتضمن شروطها وثمراتها :فالأسماء جعلته أهلا للخلافة تكليفا بمهمة لحر مسؤول :وتتعلق بمجال الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود.وهذه المجالات هي مجالات سياسة الأرض المحاكية لمجالات سياسة العالم :فيكون الخليفة ذا نموذج في سياسة الأرض هي سياسة المستخلف للعالم.وسياسة الأرض كما بينت تشمل المعلوم منه للإنسان بأدوات الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود .فتكون العلوم التي سنؤصلها هي علوم مجالاتها.وهذه العلوم هي علم الإرادة والسياسة وعلم العلم والنظر وعلم القدرة والاقتصاد وعلم الحياة والفن وعلم الوجود ورؤى المعادلة الوجودية أو الحكمة.ويمكن أن نعتبر علم الإرادة والسياسة (تربية وحكما) مرادفا لعلم الفقه باعتباره علم الأنظمة التي تتعلق بالإرادة سواء لدى الأفراد أو الجماعات. 54 7
وأن نعتبر علم العلم والنظر نظرية معرفة وجود الطبيعة والتاريخ في الوجود العيني ونظرية أدوات معرفتهما أو المقدرات الذهنية لإبداع صيغ قوانينهما.وأن نعتبر علم القدرة والاقتصاد علم أدوات الإرادة والسياسة بوصفها تربية وحكما شرطين للرعاية والحماية لقيام كيان الإنسان المادي خاصة.وأن نعتبر علم الحياة والفنون علم أدوات الإرادة والسياسة بوصفها تربية وحكما شرطين للرعاية والحماية لقيام كيان الإنسان الروحي خاصة.وبذلك يكون العلم الأخير أو علم الوجود والرؤى علم أصول هذه العلوم الأربعة السابقة جمعا بين الحكمتين التي منها ومن المرجعية الروحية للجماعة.ومن تدبر القرآن بصبر واجتهاد يعلم أن موضوعاته هي هذه الابعاد بشرط وصلها بالسياستين :الإلهية للعالم نموذجا والسياسة الإنسانية للأرض خلافة.وهذه الأبعاد هي التي حالت العلوم الزائفة دون علمها بمقتضى فصلت 53بسبب الجرأة على آل عمران 7ظنا أن الغيب يرد بالتأويل والقياس إلى الشاهد.سنأخذ هذه المجالات الخمسة في فصول بوصفها مجالات البحث العلمي التي تقبل التأصيل قرآنيا لتحقيق استراتيجية التوحيد سياسة الرسول عينة منها. 54 8
سنة 1974لما عدت من فرنسا عينت في معهد ابن شرف لتدريس الفلسفة لطلبة الباكالوريا بالفرنسية قبل تعريب الفلسفة وخلالها عربت بأمر من بورقيبة.لم يكن الدافع معرفيا بل سياسيا خالصا :تحرير تدريس الفلسفة من طغيان الماركسيين الذين كانوا يقصرونها تقريبا على تدريس الماركسية والصراع الطبقي.ولم يكن الأمر يعنيني من هذا الوجه لأن محاولة التخلص من إيديولوجيا بأخرى لا يمثل تحرير الفلسفة من التوظيف فضلا عن حماية الوظيفة التربوية.فكتبت متنا لتدريس مادة الفلسفة بمقتضى غايتها الذاتية بمعزل عن التوظيف الإيديولوجي فما يعنيني هو تعليم العلاج الفلسفي لقضايا الفكر والوجود.ولما عربت الفلسفة نقلته المتن الذي كتبته بالفرنسية إلى العربية واصطلحت على مقابل لـ\"لوجي\" في أسماء مجالات الفلسفة :ابستمو(لوجي) أكسيو(لوجي).ولم يكن ذلك ابتداعا لأن العرب سبق لهم أن اصطلحوا على \"فيلولوجي\" بفقه اللغة فاخترت \"فقه\" صدرا بدلا من الذيل \"لوجي\" أضعه أمام الموضوع تسمية لعلمه.مجالات الفلسفة إلى :فقه العلم Epistémologieوفقه العمل Praxiologieوفقه القيم Axiologieوفقه الوجود Ontologieمع فقه ال مناهجMéthodologieوقد نسيت ذلك تماما إلى أن ذكر الشيخ طه عبد الرحمن كلامي عنها تعريضا به :فقد استعمل هذا الاصطلاح بعد عقد وادعى حق الملكية في أمر اعتبره تافها.فلا أحد منا يمكنه أن يدعي الاصطلاح لأنه موجود في فقه اللغة وحتى لو لم يكن موجودا فهو مجرد اصطلاح ولا يفيد كشفا علميا أو فلسفيا حتى يباهي به.اضطررت لذرك هذه القصة لأني سأستعمل المصطلح استعمالي له في كتاب \"تدريس الفلسفة في الباكالوريا\" لتسمية العلوم الخمسة التي حددتها في الفصل الثاني. 54 9
وإذن فعندنا :فقه الإرادة والسياسة وفقه العلم والنظر وفقه القدرة والاقتصاد وفقه الحياة والفن وفقه الوجود والرؤى .وهي مناظرة لأصناف القيم.وإذن فقد عدت إلى مفهوم الفقه العام وليس للمفهوم الاصطلاحي في علم الفقه التقليدي ليفيد ما يفيده الزيادة الذيلية في أسماء مجالات الفلسفة.فقه عوضت لوجوس دون حصر في لتسمية هذه المجالات بمعنى أعم من علم لأنها تعني الفهم والتعليل فتجمع بين بعدي المعرفة التحليلي والتأويلي :فلسفة.والعلة تكمن فيما رأيناه عند تأصيل العلم الجامع والذي هو في آن بحث في القرآن مرجعية (تأويل نص) وفيما يوجه إليه بفصلت ( 53تحليل وجود).وهذا يقتضي أن أبط دملا هي ممضوغة العلمانيين العرب :دعواهم أننا حضارة نص وأن ذلك مميز لحضارتنا وسر تخلفها .وهذا لعمري مبلغ التعسف والابتسار.وقد بينت سابقا أنه لا توجد حضارة خالية من الالتفات المزدوج لمرجعية نصية (التأويل) ولموضوعات وجودية (التحليل) :من ثوابت المعرفة الإنسانية.مشكل من يتصور ذلك خصيصة لحضارتنا ناتج عن تصورهم المرجعية النصية دينية وكتابية بالضرورة .وهو ما يعني تجاهل بحوث الانثروبولوجيا في المجال.بل لعل أصحاب هذه الخرافة لم يفتحوا مقدمة ابن خلدون :فبابها الأول يدرس عاملين طبيعي وثقافي وفعل 1في 2و 2في 1والحصيلة هي العمران الإنساني.دور العاملين يتفاضل بحسب الحضارات وحتى بحسب مراحل تطور نفس الحضارة لكن الأمرين كلاهما ضروري في أي حضارة :مرجعية رمزية +موضوعات خارجية.فلا وجود لنفاذ مباشر للموضوعات بل هي دائما تمر بمنظومة رمزية سابقة تمثل جهاز رؤية أو رؤى لا ينفذ الفكر الإنساني إلا بتأويل يصقلها ليتجاوزها.وغالبا ما يكون طغيان أحد تأويلات المرجعية معقما لها لكنها لا تخلو منها حضارة سواء كانت ميثولوجية أو دينية أو ادعت العلمية مثل الماركسية.فالماركسية مرجعية للفكر الماركسي الذي يريد تفسير الوقائع وهي ميثولوجيا يدعي لها أصحابها العلمية ولا شيء فيها يمكن اعتباره علميا هي عقيدة. 54 10
ويكذب من يتصور أن الفرق بين هذه والمرجعية القرآنية هو تقديس القرآن وعدم قابليته للتغيير .فالتغيير ليس ماديا بل هو عمليات تأويل وفهم متعددة.ولهذه العلة سميت هذا المجال مجال الوجود والرؤى :فالرؤى هي المرجعية والوجود هو ما يتصور موضوعا لها وهو بعيد المنال ولا يرى إلا من خلالها. لماذا اعتبرت هذه العلوم الخمسة مناظرة للقيم؟بينت سابقا أن القيم ليست ثلاثة أزواج كما اعتاد وصفها الفلاسفة أي الحق والخير والجمال ومقابلاتهاذلك أن الإنسان لا يمكن أن يقيم إذا لم يكن قادرا على الخروج من مجرى المجال الذي يقيمه ليسمو عليه فيراه من خارجه وشرط ذلك الحرية أو التوجيه.فالتوجيه بمعنى تحديد الجهات بالمعنى المنطقي للكلمة أي الممكن والممتنع والواجب شرط تقييم شارط للتقييمات الثلاثة التقليدية الحق والخير والجمال.لكن التوجيه أي الطفو فوق الوجود بما يمكن من تمييز الممكن والممتنع والواجب منه هو جوهر الحرية التي بها يكون الإنسان فوق الضرورة الطبيعية.والإفلات من الضرورة الطبيعية والتسامي عليها هو عين الوعي بالمتعالي على كل ضرورة أو الحرية المطلقة أصل الحق والخير والجمال إنه المتعال :الله.دون الوعي بهذا المطلق يمتنع أن يستثني الإنسان نفسه من منطق الطبائع ليسمو إلى منطق الشرائع :إنه القيمة الاصل أي المتعالي المطلق أصل كل القيم.وهنا يبرز التناظر بوضوح :المتعالي لفقه الوجود والرؤى والجمال لفقه الحياة والفن والخير لفقه القدرة والاقتصاد والحق لفقه العلم والنظر.أما التوجيه فهو لفقه الإرادة والسياسية .ولما كان التوجيه أقرب إلى المتعالي فإنه مجال التأله الذي يشوب كل سلطة أيا كان مجالها منها خمستها.وهنا لا بد أن نسأل عن السر في هذا التناظر بين أصناف الفقه وأصناف القيم التي أحصينا .والجواب خلدوني وهو ما يحول دون رؤيته كاريكاتور التحديث. 54 11
فابن خلدون يخصص الباب الأول لدرس شروط قيام الإنسان والجماعة فيردها إلى شروط ذات صلة بالمكان (جغرافيا) وذات صلة بالزمان (معرفة غيب المستقبل).والشروط الجغرافية تتعلق بقيام الإنسان البدني والشروط التاريخية تتعلق بقيام الإنسان الروحي .وعلاج الثاني هو مصدر المرجعات وعلاج الاول هو مصدر العلوم.وقد قسم هذه العلوم إلى فطرية ومكتسبة .والاكتساب هو تراكم الخبرة فهو تكلم على الاكتساب الحقيقي في غاية المقدمة والاكتساب المزيف في بدايتها.واعتبر العمران البشري موضوع العلاقة بالطبيعة خاصة والاجتماع الإنساني موضوع العلاقة بالثقافة خاصة وحياة الإنسان هي التفاعل بين العلاقتين.وفقه الوجود والرؤى يعتمد على تأويل العامل الثقافي وتحليل العامل الطبيعي والتأويل مقدم دائما على التحليل في علاقة الإنسان بالعالم.لذلك فلا يمكن تصور حضارة بدون نص أي مرجعية تمثل رؤية من خلالها ينفذ الفكر الإنساني لشروط قيامه المادي والروحي وذلك هو دور الدين والفلسفة.انجواس الزمان هي سر المرجعيات التي ينظر منها الإنسان للعالم وشخ المكان هو سر العلوم التي يغزو بها الإنسان العالم وتلك هي الرؤى الوجودية.ومنها يأتي مفهوم المعادلة الوجودية التي وضعتها لكي أوضح هذه العلاقات :وهي مؤلفة من قطبين الله والإنسان بينهما علاقة مباشرة وغير مباشرة.فالمباشرة غنية عن الوساطة وهي لم تصبح معلومة إلا بفضل الإسلام الذي ألغى الوساطتين الروحية (الكنسية) والسياسية (الحكم بالحق الإلهي).وغير المباشرة تمر بفلسفة الطبيعة وفلسفة التاريخ وسيطين فعليين بين الإنسان والله سلطانهما على الإنسان يمكن أن يلغي العلاقة المباشرة بينهما.ولا تحرير من سلطانهما الحائل دون العلاقة المباشرة بين الله والإنسان إلا بالاجتهاد والجهاد أي بفصلت :53اكتشاف آيات الله فيهما بالبحث العلمي.وآيات الله فيهما على ضربين :فيهما موضوعات خارجية في الأعيان (الآفاق) وفيهما موضوعات ذاتية في الأذهان (الأنفس) :شروط الاستعمار في الأرض. 54 12
وعندما نكتشف آيات الله فيهما في الأعيان وفي الأذهان أي النظام الرياضي للطبيعة والنظام الخلقي للتاريخ نكون قد تقدمنا إلى العلاقة المباشرة.فمن لم يعلم آيات الله في الطبيعة وقوانينها (النظام الرياضي) وفي التاريخ (النظام الخلقي) يصبح عابدا للطبيعة والتاريخ فيخلد إلى الأرض :الطبعانية.فإذا اجتمعت الحواجز الأربعة (الكنسية والحكم بالحق الإلهي وجهل آيات الله في الطبيعة وفي التاريخ) كانت الحال كما هي عليه في انحطاط حضارتنا.والتحرر من الاولين دون التحرر من الثانيين لا يحقق الغرض :لأن الاستعمار في الأرض لا يكون خلافة من التحرر منهما معا .وتلك حال المسلمين الآن.وعندما انحرفت الحداثة عن فلسفة مؤسسيها وتحولت إلى فكر استعباد وتغرير لا فكر تحرير وتنوير صارت استعمارا وتأليها لأصحاب القوة :تأله خلدوني. 54 13
أصلت فقه الوجود والرؤى ونظرية القيم المناظرة للمجالات التي يؤصلها لأنها جميعا تتفرع عنه في العلاج النظري :ذو صلة بقطب المعادلة الأول :الله.وإذا كان فقه الوجود والرؤى يناظر القطب الأول من المعادلة الوجودية ويؤصل فروعه نظريا ففقه الإرادة والسياسية يناظر القاطب الثاني ويؤصلها عمليا.لذلك فهذا الفصل الرابع سيتعلق بتأصيل فقه الإرادة والسياسة وهو يناظر القطب الثاني من المعادلة الوجودية أعني الإنسان :الذي يعرف بهما.فنكون بذلك قد انتقلنا من الثيولوجيا (قول في الربوبية) إلى الانثروبولوجيا (قول في الإنسية) وهما قطبا المعادلة الوجودية غايتين لأصل النظر والعمل.ويحكم العلاقة بين هذين القطبين في العلوم الزائفة ما يشبه التمانع لولا نقد الإسلام لأصله الذي هو التحريف :فما يعطى لأحدهما ينفى عن الثاني.ولما كان فقه الوجود والرؤى ومعه نظرية القيم أصلا نظريا لأنواع الفقه الباقية وكان فقه الإرادة والسياسة أصلا عمليا لها فهما معرضان لمنطق التمانع.وغالبا ما يعرف هذا التمانع بينهما في شكل الصراع بين الديني والسياسي في كل الحضارات أو بين المتعاليات والمتدانيات من الحاجات الإنسانية.فيبدو الأمر وكأنه صراع بين إرادة الله (الدين) وإرادة الإنسان (السياسة) أو معركة الحاكمية التي هي من مهازل الكاريكاتورين التأصيلي والتحديثي.وهي من موروثات العلوم الزائفة كما في قضية افعال العباد الكلامية والمقابلة بين الاختيار والجبر والمقابلة التي عمقها ضرب القرآن بعضه ببعضه.وهو ضرب علته قلب دلالة فصلت 53والتأويل المستحيل لآل عمران .7فانتساب الروح إلى الغيب صريح قرآنيا وهي مختارة ومجبرة في آن على الاختيار. 54 14
وهو معنى التكليف :فالمكلف مجبر على الاختيار وهو الاتصاف بالحرية شرط المحاسبة تحديدا للمسؤولية .والقرآن يخبر بذلك ويحيل إلى ما في الأنفس.وهكذا فما يمثله فقه الوجود والرؤى في مستوى الفلسفة النظرية يمثله فقه الإرادة والسياسة في مستوى الفلسفة العملية .فتكون بينهما تبعية متبادلة.الفقه 2يتبع الفقه 1في النظر و 1يتبع 2في العمل :والواصل بين التبعيتين هو نظرية القيم وآثارها العملية .فـ1يتميز بالفعل اللطيف و 2بالعنيف.والفعل التام عنيف بما فيه من مادي ولطيف بما فيه من رمزي .والانحطاط هو فقدان مقومي الفعل :عجز رمزي ومادي للجهل بسنن التاريخ وقوانين الطبيعة.وتلك هي نتيجة العلوم الزائفة .فقلب فصلت وادعاء الرسوخ في العلم آل إلى ترك عالم الشهادة القابل للعلم والانشغال بعالم الغيب اللامعلوم بإطلاق.وهذا الادعاء والقلب يعنيان أن صاحب العلم الزائف تأله فادعى أن رسوخه في العلم يفتح له عالم الغيب فيصبح علمه مضاهيا لعلم الله المحيط بكل شيء.يدعون علما مستحيلا فينتجون علما زائفا .لا يرون آيات الله في الآفاق (قوانين الطبيعة الرياضية وسنن التاريخ الخلقية) فيصبحون ريشة في مهبهما.وذلك هو معنى فقدان مقومي الفعل المؤثر :تصبح الجماعة والفرد عاجزين أمام مجرى الطبيعة ومجرى التاريخ ومن ثم فهم منفعلون لأن فكرهم أصبح خرافيا.وحينئذ تصبح الإرادة والسياسة ليسا عمل الحرية التي تحقق شروطها وثمراتها بل نفي العمل الحر وتعويضه بالاستبداد والفساد بمقتضى مجرى الطبائع.وهذه هي الحال التي أبحث لها عن علاج من خلال استعراض تكوينية العلوم الزائفة التي حرفت القرآن بالموانع الأربعة التي ذكرت فيما تقدم من الفصل.فالوساطة الكنسية تلغي الحرية الروحية والوساطة السياسية تلغي الحرية السياسية والجهل بالطبيعة والتاريخ يلغيان شروط التحرر بالعلم والأخلاق.وهذا ما حدث في تاريخنا السياسي :حررنا القرآن من الكنسية (الحرة الروحية) ومن الحق الإلهي في الحكم (الحرية السياسية) فتمت اعادتهما بشكلين شيعي وسني. 54 15
عند الشيعة كانت العودة صريحة :وساطة كنسية للمرجعيات ووساطة سياسية للأئمة بالحق الألهي .والإمام يجمع بين الوساطتين .ولا يزال الأمر كذلك.أما عند السنة فالأمر أعقد :لم يغيروا مبدأ الغاء الكنسية والحق بالحكم الإلهي المميزين للسنة عن الشيعة في الأقوال لكنهم عوضوه بما هو أدهى منه.أصبح للسنة كنسيتين متنافستين :كنسية الفقهاء وكنسية المتصوفة وكلتاهما في خدمة الحكم بالحق الطبيعي وليس الإلهي أي بالتغلب والعنف بدل الشرعية.فإذا أضفت هذه العودة المضاعفة إلى فقدان العلم بقوانين الطبيعة الرياضية وبسنن التاريخ الخلقية فهمت علل انحطاط الأمة بعد مرحلة الراشدين.وسأكتفي بالكلام على السنة رغم أن وضع الشيعة ليس أفضل لأن توهم إيران قوة دليل سذاجة الدعاية والمطبلين للخمينية :ستنفجر ربما قبل الوهابية.ما حدث عند السنة التي ما تزال تقول بنفي الكنسية والحق الإلهي الى الآن هو قلب العلاقة الانتقال من حكم الدستور إلى حكم حالة الطوارئ الدائمة.فبعد الحروب الأهلية الأربعة التي تلت الفتنة الكبرى وقعت الأمة في فصام الإرادة والسياسة بين ما تعتقد وما تمارس :الدستور القرآني صار مجرد كلام.وهذا شبيه جدا بما يجري اليوم في كل بلاد العرب :عندما تقرأ دساتيرها تجدها أكثر تقدمية حتى من بلاد الغرب الديموقراطية .وما يجري فعليا نقيضه.وهذا هو الداء الذي على الثورة علاجه .وطبعا فقل أن تخلو ثورة من العنف .همي هو فعل الفكر اللطيف وليس فعل اليد العنيف .والأول يحد من الثاني.ينبغي أن أشرح علة الازدواج في اسم هذه الأصناف من العلوم أو من الفقه .نلاحظ أن أول من سمى علمه باسمين مؤلفة من خمسة عناصر هو ابن خلدون. فهو سمى علمه \"علم العمران البشري والاجتماع الإنساني\" .وهذه خمسة عناصر: .1العمران .2البشري .3الاجتماع 54 16
.4الإنساني .5ووحدتها كموضوع.وبنفس المنطق لابد من المقابلة بين البشري والإنساني ومن المقابلة بين العمراني والاجتماعي مقابلتين ضروريتين ومتحدتين لفهم المعادلة الوجودية.ومعنى ذلك أن ابن خلدون كان يعمل بهذه المعادلة حتى وإن لم تكن واعية في رؤيته: وكما بينا فباب المقدمة الأول يبين العلاقة بالطبيعة والتاريخ.لكنهما وسيطان بين القطبين الإنسان والله .المقدمة بحث في شروط العمران الطبيعية والثقافية مع غلبة الطبيعي على العمراني والثقافي على الاجتماعي.والثقافي بعد رمزي يحدد معاني البعد المادي من الوجود الإنساني .إنه عين العلاقة بين الإنسان والمتعاليات أي العلاقة بين القطبين الله والإنسان.إنها عناصر المعادلة الوجودية الخمسة :الإنسان الله الطبيعة والتاريخ والعلاقة المباشرة وغير المباشرة بين القطبين الله والإنسان .مضمون المقدمة.ومضمون المقدمة هو الابداع الخلدوني لفقه الإرادة والسياسة بالمعنى الذي نريد تأصيله .فالإرادة مضاعفة إرادة الفرد وإرادة الجماعة .مثلها السياسة.هي علاقة بين إرادتين حاكمة بالفعل وحاكمة بالقوة .وغالبا ما يتعين ذلك في قيادتي الحكم والمعارضة للحقوق المترتبة على الحرية وشروط تحققها.والسؤال هو ماذا كان دور العلوم الزائفة في جعل هذه العلاقة بين الإرادات تنحط إلى ما ينافي أهم خصائصها المترتبة على أنها ثمرة حرية الإنسان؟جواب ابن خلدون واضح :صراع الإرادات بمقتضى التأله هو بالطبع صراع عنيف مناف لغايته وشرط وجوده :إرادة الجماعة لحماية ذاتها داخليا وخارجيا.فحاجتها إلى الاجتماع التي هي ضرورة طبيعية تحتاج إلى وازع خارجي يحمي التعاون والتبادل شرطي القيام الجمعي من التظالم :علة وجود الدولة خلدونيا.والحماية الداخلية لا تكفي فالجماعات تتنافس على شروط العيش فالعلاقة بينها من جنس العلاقة بين الأفراد في نفس الجماعة :حاجة لحماية خارجية. 54 17
ولا مخرج من هذه الوضعية إلا بتعاقد بين حاكم ومحكوم يبدأ لصالح الحاكم وحده ثم يتطور ليصبح لصالح الحاكم والمحكوم .ولا بد من طرف محايد يحدده.ابن خلدون ينسب هذا الحياد إلى الدين فيكون الطرف المحدد لعناصر العقد هو الشرع الإلهي .لكنه لم ينتبه إلى التحريف الذي يعيد العقد المجحف.فيعود للطبيعي في العلاقة التي أنشأت الدولة دوره في منع هذا التحريف الديني العائد بالعقد إلى جعله لصالح الحاكم وحده وهو المرحلة القرآنية.لكن هذه المرحلة القرآنية تحيلت عليها الشيعة علنا والسنة سرا فنكص المسلمون إلى دين يخدم الحكام بدلا من أن يكون الطرف المحايد لصوغ العقد.ولا يمكن للدين أن يؤدي هذا الدور إلا إذا تساوى الحاكم والمحكوم أمام حاكم الحاكمين: من هنا سياسة الله للعالم هي نموذج سياسة الإنسان للدنيا.وبهذا المعنى ينبغي قراءة الشورى 38في ضوء النساء 58حتى نفهم طبيعة الحكم وأسلوبه :فالحاكم ليس هو صاحب الأمر والسيادة بل الأمة وهو أجير عندها. 54 18
بدأت الكلام بفقه الوجود والرؤى آخر قائمة أصناف الفقه الخمسة وبآخر قائمة القيم وأسماها \"التعالي\" ثم ثنيت بأولاها لتناظر الشمول بين النظر والعمل.وحتى يتضح منطق التأصيل الذي اتبعه فلأذكر أن قيمة المتعالي هي عينها قيمة الجلال. وبنفس الترتيب سآخذ الثانية من النهاية ثم الثانية من البداية.أي أني سأمر إلى فقه الحياة والجمال قبل الوجود والجلال من الآخر وبعدها إلى فقه العلم والنظر بعد فقه الإرادة والعمل (السياسة) من البداية.فنسبة فقه الوجود والرؤى إلى فقه الإرادة والسياسة هي عينها نسبة فقه الحياة والفن إلى فقه العلم والنظر :نسبة بين الرمز والفعل في التاريخ والطبيعة.فلنأصل فقه الحياة والفن .وطبعا فالقصد بالحياة حياة الإنسان بما هو إنسان وليس مجرد حيوان مخلد للأرض :حياة الإنسان فنية وأدتها العلوم الزائفة.ولعل تأصيل فقه الحياة والفن أعسر التأصيل لأن الحياة والفن ماتا شر ميتة بسبب العلوم الزائفة وبسبب الفنون الفاسدة التي نتجت عنها عبارة وممثلين.وسأخلص بسرعة من تأثير الفنون الفاسدة عبارة وممثلين وسأنطلق من رأي ابن خلدون في مآل أسمى فنون العرب مقتصرا على توظيفه الدنيوي :الشعر.فالشعر لم يبق فنا عند العرب منذ أن أصبح أداة ارتزاق وكدية .لذلك يقول ابن خلدون أن كل من له كرامة ابتعد عن تعاطيه حتى وإن كان له بعض شاعرية.ولا شك أن الشعراء المتكدون تنافسوا في المحسنات البلاغية والفنيات الشعرية لكنهم بسبب هذا التوظيف أفقدوه جوهر الفنية لأنه صار أداة وليس غاية.حتى صار أفضل الشعراء -المتنبي -سافل الطبع مرتزقا بأسمى ما كان ينبغي ان يكون مطلوبا لذاته وليس مجرد أداة للارتزاق طمعا في أدنى سلطان سياسي. 54 19
وهذا يصح على أغلب شعرائنا إلى الآن حتى وإن لم يبق التوظيف مقصورا على التكدي المباشر بل بتوسط مغازلة السلطان الشعبي بما يشبه المعارضة.وقد حدث ذلك في الإعلام وفي الفلسفة التي تحولت كلها إلى إيديولوجيات تصبح فيه أمانة الإعلام ونزاهة الفلسفة شبه معدومتين بسبب التوظيف. فهل شعر المتصوفة خال من هذه العيوب التي تفصل بين الإبداع الفني وقيمة الجمال؟ هل يوجد فن لدى المتصوفة؟ لكن ابن خلدون لم يهمل نقد الشطح.فالشطح ليس عبارة فنية ولا عبارة معرفية بل هو ذروة الفن والعلم الزائفين خاصة إذا علمنا طبيعة الرؤية الوجودية والإرادة السياسية التي يمثلها.فهو يعارض الحياة بالاغتراب الروحي والسياسي الذي يجعل وجود الإنسان نهبة بين شيخ الطريقة وأمير الحكم ميتا يغسله الأول ويستغله الثاني.والفن يحيي ولا يقتل والاخلاق تحرر ولا تستبعد .إنه تعبير فاسد بممثلين يتحيلون على قيمة الجمال في العبارة تبريرا للطاغوتين الروحي والمادي.إذا لم يكن الفن مغذيا لعنفوان الحياة بالجميل فهو ليس فنا بل أداة دعاية للطاغوتين السياسي والروحي من أجل دور الوسيط بين الإنسان وربه.ولأمر الآن إلى العنصر الأهم الذي نتج عن أثر العلوم الزائفة مباشرة وليس بتوسط المهارب التي حاولت تقديم فن يمكن أن تسمح به هذه العلوم الزائفة.وما كان ينبغي أن يتحرر منه الفن بسموه نحو الجمال والجلال أصبح ملازما للفن الذي صار من وظائف الأجانب وطبقة سفلى لأسفل ما في الإنسان.وهو ما حدد منزلة للفنانين جعلت الجماعة تعتبرهم عين الفساد والانحطاط في الأقوال وهي تحن إليهم في الأفعال وخاصة الطبقات الباذخة من الجامعة.والنتيجة انحطاط الذوق وانعدام الإبداع وصار كل شيء مستوردا للترف وليس للعبارة عن متعاليات الروح التي هي شرط عنفوان الذوق الحيوي في الجماعة. 54 20
وهذا الفن الذي هو عين عنفوان الحياة ومغذيه يجمع بين قوانين الطبيعة الرياضية (الموسيقى) وسنن التاريخ الخلقي (الفروسية)المتجلية في الحياة.فلها صورة جامعة بين التناغم الموسيقي (الرياضيات) والتسامي البطولي (الأخلاق) في أهم ما تتميز به الحياة تعبيرا عن عنفوانها أي الحب والحرب.والحب والحرب في تجليات التناغم والتسامي يجتمعان في الجنس الذي هو علة الوعي الأولى بالجمال والكمال في علاقة الجنسين وعليها يقاس كل عنفوان.وهذه الرؤية تعد أكبر ثورة حققها الإسلام لما رفض التأويل المسيحي الذي يعتبر الإنسان ملعونا بسبب الجنس بين آدم وحواء :هل خلق الجنسان عبثا؟فليس الجنس مقصورا على الوظيفة التناسلية وإلا لكان الإنسان مجرد حيوان بل هو عين ذوق الحياة والاشرئباب إلى الجمال والجلال في الوجود كله.وبسبب فساد الذوق الجمالي أو الفن ترجمانا عن الحياة فسد الجنس نفسه فصار حيوانيا ومعه انحطت منزلة المرأة والجمال الحي والمبدع من الأحياء.وسأذكر حديثا سمعته لم اصدق أن قائله ناقد عربي حاصل على جائزة في النقد الشعري .ففي خلال كلامه على الرواية حصر حضور المرأة فيها في دور الخيانة.ولم يكن كلامه على الموجود في الرواية الغالبة بل على ما ينشده منها لاعتباره الكلام على الحب بين الزوجين مضجرا وغير مثير للأثر الإبداعي.ولست احكم بمنطق أخلاقوي على الأدب بل هو الذي يفعل :فهو أخلاقوي بالسلب بمعنى أن الأثر الجمالي للرواية مشروط بدور المرأة الخائنة.لكني أعتقد أن حضور المرأة في الرواية من شروط الجمال الدرامي في الأفعال لكن فيها جميعا السالب والموجب لأن المهم هو لياقة الذوق في الحالتين.ولياقة الذوق يعسر فهمها في الجمال الطبيعي وأرقاه جمال الجنسي في عين أحدهما عن آخرهما فهمها ايسر في ابداع الإنسان وليس في ابداع الطبيعة.فإبداع الإنسان المسموع موسيقى وهو رياضي وإبداع الإنسان المرئي رسم وهو رياضي فيكون الركن الرياضي محددا للتناسق ولابد لياقة بالجمال والجلال. 54 21
وتتعلق بالمسموعية والمشهودية وهي نسب في روح الإنسان المبدع فاعليتها في روح الإنسان المتلقي متناسبة مع ما اكتشفه مما يوحد الأرواح.وهذا التناسب مع ما يوحد الأرواح هو الجمال بداية والجلال غاية أو هو ما يثير في الأرواع الوعي بهما أحدهما أو كليهما ذروة لعنفوان الحياة.لست أدري هل يمكن لهذا الصوغ أن يبلغ القصد للقارئ بدور الإبداع الفني في عنفوان الحياة الإنسانية من حيث هي وعي بالذات الحرة وتشارك في الخلق.وهي تشارك فيه إما مرسلة أو متلقية .مبدع العلم الفني يشارك مبدعا .لكنه ما كان ليشارك مبدعا لو لم يكن قد شارك متلقيا لجمال إبداع الخالق.فالفن الراقي بهذا المعنى هو لب الدين .إنه تلق شبيه بالوحي لآيات الجمال الخلق والجلالة في الخليقة كما يدركها سواء في الآفاق أو في الانفس.لذلك فنسبة فقه الحياة والفن إلى فقه العلم والنظر هي نسبه فقه الوجود والرؤى إلى فقه الإرادة والسياسة :الإبداع الفني أساس الإبداع العلمي. العقم في الحياة والفن علة للعقم في العلم والنظر: .1أساس فعل الروح الرمزي. .2أساس فعلها المادي. وبهما يتم التعالي على الطبيعة والتاريخ.ذلك أن الجامع بينهما هو فعل الإبداع لنماذج المنشود المتجاوز لوقائع الموجود .إنه الخيال المبدع الذي مات نهائيا في حضارة زيفت علومها وأعمالها.لذلك كتبت فصلا منذ أكثر من عقدين حول \"هبل النخب العربية\" أو ما يسمونه واقعا. كم أمقت الكلام عن فقه الواقع .الواقع لا يفقه إلا بقدر ما يبدع.فهو اسم فاعل من الوقع وإذن فهو وقع فعل الإنسان بإرادته وعلمه وقدرته وحياته ووجوده وليس ما يخضع له الإنسان فيها جميعا فيكون منفعلا لا فاعلا.وأول أشكال إبداع الواقع الإبداع الفني المعبر عن عنفوان الحياة التي تبدع شروط بقائها الروحية والمادية في شكل رمزي كفن وفي شكل فعلي كعلم :الخلافة. 54 22
اختير الإنسان خليفة لأنه جهز بما يجعله قادرا على الإبداع وأهم أدوات رمز إليها القرآن بتعلمه الأسماء التي هي عين الفاعلية الرمزية المبدعة.ولها علاقة بـ\"كن\" الكلمة التي يبدع بها الله مملكته أي العالم وأصبح الإنسان بفضل الحياة الخاصة به ثمرة للنفخ من الروح الإلهي مبدعا بالرمز.أما الواقعية البدائية التي غلبت على الفنون والعلوم في حضارة مات عنفوان حياتها والخيال المبدع ولم يبق منها إلا حثثها علوما وأعمالا زائفة.الشاب الأمريكي أو الإسرائيلي أو أي شاب من الأمم الحية يحلم بغزو الفضاء في حين أن شبابنا الذي يحرضه القرآن على أن ينال ما وراء العرش واقعي.كل الأدب العربي صار بواقعتيه السطحية والشعبية مجرد تخريف لسكارى يحكون غثيان وجودهم المبتذل لعجزهم عن الإبداع الخالق لما يسمونه واقعا.وإن انحطاط بلاد العرب كلها سببه واقعية ما يسمونه إبداعا (رواية وسينما خاصة) وهي تأبيد للانحطاط والتخلف وعبودية الفقراء والنساء للأغنياء.ضربت مثالي الموسيقى والرسم لأنهما أصل كل الفنون مادة وصورة :فالمادة هي الزمان والمكان والصورة هي تجسيدهما الرياضي المسموع والمشهود.وهما في نفس الوقت أسمى أشكال الفن المسموع الموسيقي والمشهود الرسمي :حركة الصوت وبنية الشكل الخالصين لخلوهما من التلسين والتلوين.وقد يضاف التلسين فيكون الشعر والغناء ويضاف التلوين فكون تجسيم المرسوم .ثم تجمع البنية والحركة في الجسم الإنساني فيكون الرقص ذروة الجمال.فإذا هاج الجمع بين الحركة والبنية كانت أمواج البحر العاتية أو تضاريس الطبيعة السامقة جمعا بين النظام والفوضى المعبرة عن الجلال غاية للجمال.وعندما أرى الشمس أرى الجلال أمامي ماثلا أو عندما أرى النشور يوم الدين فيقشعر بدني ارى الجلال الجامع بين النظام والفوضى المطلقين متعانقينفيكون كياني نفسه مرتجا كأنه جزء من هذا الهيجان الطبيعي الكوني الذي بنص القرآن لا يستطيع القضاء على ضعف البدان خلد في الجنة أو في النار. 54 23
فأكون وكأني أرى بأم عيني توهم المحاسبي واصفا الجنة التي يصبح فيها الإنسان خالقا لما يشعر به بمجرد ان يشعر به دون حد ولا نهاية لقدرة الخلق.بهذا المعنى يكون القرآن معجزة فنية لتضمنه صورا من الجمال والجلال اللذين يجعلان الإنسان يخرج من سجنيه :بدنه والعالم فيشف بصورة لا حد لها.ولا يوجد فن لا يرد إلى ما أسلفت فالعمارة هندسة للمكان يكتنف الكيان ويروض الزمان حتى يثبت الإنسان لحظة حياته الفانية في لا متناهيهما الماحق.وصلت الفن بالحياة المتجاوزة للعضوي من الوجود إلى هذا العنفوان العضوي والروحي القادرين على تحدي المكان والزمان ليملكهما الكيان والوجدان. 54 24
ذكرت في الفصل السابق أن النسبة بين فقه الحياة والفن وفقه العلم والنظر هي عينها النسبة بين فقه الوجود والرؤى وفقه الإرادة والسياسة :تناسب مهم.ونقدم الفاعلية الرمزية على الفاعلية المادية :فقه الحياة والفن وفقه الوجود والرؤى فاعلية رمزية وفقه الإرادة والسياسة وفقه العلم والنظر مادية.والعلة هي أن الفاعلية الرمزية أوسع أفقا من الفاعلية المادية :ذلك أن الإرادة والسياسية والعلم والنظر كلاهما محدود بمعضلات موضوع فعله الخارجي.الإرادة والسياسة علاقة تفاعل مع الإرادات الفردية والجمعية والعلم والنظر علاقة تفاعل مع الظاهرات الطبيعية والتاريخية بخلاف الفقهين الآخرين.فالوجود والرؤى والحياة والفن يبدوان في حل من هذه المحددات بل هما يسبحان في آفاق أكثر حرية هي رؤى الممكن بإطلاق في الاولى والخيالي بإطلاق في الثانية.والممكن والخيال كلاهما أكثر تمثيلا للحرية والإبداع مما يوفره فقه الإرادة والسياسة وفقه العلم والنظر المتفاعلين مع الإرادات ومع الظاهرات.حددنا فقه العلم والنظر ومنزلته في منظومة العلوم أو في منظومة انواع الفقه التي حددناها ومنظومة القيم :تناظرها تناظر بين قيمتي الحقيقة والجمال.كما أن التناظر بين فقه الوجود والرؤى وفقه الإرادة والسياسية يناسب التناظر بين قيمة الجلال أو المتعالي في الاولى وقيمة الحرية والتوجيه في الثانية.وصلنا الآن إلى أهم مجالات الفكر الفلسفي لأنه مجالها الأول :نظرية العلم والنظر هي البداية والواجبة في كل فكر فلسفي من بدايته إلى غايته.وهذا هو مبحث الابستمولوجيا .فقه العلم بأتم معنى الكلمة لأن الابستميك اليونانية هي أتم أشكال المعرفة العلمية في مقابل الظن والرأي والحس. 54 25
بها يبدأ الفكر الفلسفي وإليها ينتهي وما عداها يعتبر تطبيقات لها أو تأسيسات بعمل نقدي يدحض الاعتراضات على إمكانها وعلى شروط إمكانها الفعلية.ولست أضيف جديدا في هذا إلا ما بينته من العلاقة بينها وبين فقه الحياة والفن .فهذه هو الإضافة التي ما كانت لتحصل لولا أثر القرآن الكريم.فهو الذي يعتبر ما يدعو إليه من علم محييا ومنيرا .وهو محي بما فيه من فقه الحياة والفن ومنير بما فيه من توسيع للأفق بالخيال الوجداني المبدع.الأبستمولوجيا هي نظرية المعرفة العلمية بما هي نظرية الخيال المبدع للنماذج النظرية أي مقدرات ابن تيمية الذهنية وتطبيقها على معطيات التجربة.إنها علم العلم وهي إذن قبس من النور المحيي الذي يدرك آيات الآفاق والأنفس فيطلع على نماذج خيالية للشاهد تكون رياضية للطبيعة وخلقية للتاريخ.وهي مستحيلة من دون أن يتنزل الفكر الإنساني نفسه في وضع يرى فيه منطق الخلق في العالمين الطبيعي والتاريخي يرينه الله إياها في الآفاق والانفس.وهو إبداع بالتلقي لكأنه شبيه بالوحي :سباحة خيالية اقيانوس الرموز يبني نموذجا رياضيا أو خلقيا يبدو وكأنه يتوبيا رياضية وخلقية قابلة للانطباق.وفقه العلم والنظر ليس علما لموضوعات خارجية بل هو علم لعلمها أو لنماذج علمها بوصفها الفعل الرمزي المطلق لذهن انسان يتخيل العالم وكأنه يصنعه.لا ابداع علمي بدون إبداع فني-2.تجل لعنفوان الحياة في رمز يبدع نموذج الجمال ونظام الروح -1تجل لعنفوانها في رمز يبدع نموذج الحقيقة ونظام المادة.لكن الإبداعين من جنس العبادة :لا يدعيان الإحاطة بموضوعهما بل هما يتلقيان آياته التي لا نهاية لها ويمسكان منها وميض المتعالي واللامتناهي.ومهما اقترب النموذج الرمزي في الأذهان من الموجود في الأعيان لن يحصل التطابق بينهما أبدا .الاقتراب مسار لامتناه ويبقى الفاصل بينهما سرا غيبيا.وتشبه علاقة نموذج الأذهان الرمزي بالموضوع الخارجي علاقة شبكة الصياد يرميها في البحر فلا يمسك من الأسماك إلّا ما يناسب ما ضاق من عيون الشبكة. 54 26
فالذهن شبكة رمزية للامساك بموضوع متخيل (مثل الفن) تكون عناصره متطابقة مع عناصر الشبكة الرمزية بحدود أولية وقواعد توليف بينها هي منطقها.وتعتبر المنظومة المؤلفة من ذلك مقدما لتال هو كل ما يقبل الاستنتاج منها بمقتضى تلك القوانين وتسحب النتائج على الموضوع المتخيل للتطابق المفروض.فإذا وجد شيء من التشاكل بين خصائص الموضوع المتخيل في النموذج الرمزي وخصائص موضوع خارجي تبينها التجربة أمكن اعتبار النموذج أداة لمزيد العلم به.ويمكن اعتبار النموذج خانات خالية من المضمون الخارجي هي متغيرات يشار إليها برموز واعتبار تطبقيها تعيينا لقيم هي معطيات تجريبية نملأها بها.والمشكل هو إذن في منظومة الشبكة التي ننسجها لنمسك بها \"سمك\" البحر الوجودي الخارجي كما يتجلى في معطيات التجربة التي تبرز بعض التشاكل بينهما.والشبكة التي ننسجها يمكن أن يكون العلم فيها مطلقا لأن ما نعلمه هو ما عملناه .لا نعلم شيئا خارجيا بل نصنع شيئا علمه هو عين صنعه :مقدرات ذهنية.والمقدرات الذهنية كلها إبداع رمزي حدودا وقواعد توليف مضمونا مجردا وشكلا منطقيا .لذلك حصر ابن تيمية العلم الضروري والكلي فيها دون سواها.وبمجرد تطبيقها على موضوع خارجي لملء الخانات الخالية أو الحدود المجردة وافتراض تطابق منطق منطقه مع منطقها ننتقل إلى نوع آخر من العلم.ومجرد افتراض المطابقة بين النموذج الرمزي عناصرا ومنطق توليف وموضوعا خارجيا يعني أن علمنا به يقتصر على ما تتحقق فيه المطابقة بمقتضى التجربة.والتجربة مفتوحة بلا حد فلا يمكن أن تحصل المطابقة ويبقى الأمر تداولا بين معطيات التجربة ومراجعة النموذج الرمزي للتقريب اللامتناهي بينهما.لكن الابداع الذي ينتج النماذج الرمزية ليس مقصورا على ما يجعله علما مساعدا في علم الوجود الخارجي بل هو علم بذاته بصرف النظر عن وظيفته هذه.وتلك هي الرياضيات التي هي العلم الأتم والفن الأتم :علم البنى المجردة التي تبدع عوالم رمزية لا نهاية لها يكون فيها الإنسان شبه إله خالق لها. 54 27
وذلك هو القصد بتعليمه الأسماء كلها :فقصة الاستخلاف تعتبره أهلا بسبب هذه القدرة رغم أنه يفسد في الأرض ويسفك الدماء .الإبداع محرر من الشر.وككل خير فإنه يكون خيرا عند مبدعيه وقد يصبح شرا عند مستعمليه .فالعلوم كلها خير عند مبدعيها لكن مستعمليها يحولونها إلى سلطان ينتج الشر.ففقه العلم والنظر مثله مثل فقه الحياة والفن لهما سلطان رمزي يوظفه صاحب فقه الوجود والرؤى وصاحب فقه الإرادة والسياسة لغايات أجنبية عنهما.فمعرفة أسرار المادة تتحول إلى مصدر للأسلحة بدل الرخاء ومعرفة خصائص النبات تتحول إلى مصدر لصنع السموم بدل الأدوية وهلم جرا من التوظيف الشرير.ومثلها الفنون فما يبدعه الفن لتنشيط الحياة وتفعيل قدراتها ال َخلقية وال ُخلقية سرعان ما يتحول إلى أداة دعاية وتخدير وتغييب عن فاعلية الوجود.وهكذا نقترب من بيت القصيد في هذه المعادلة التي تؤصل لعلوم الملة وبين ما يربط بينها من الصلات والعلاقات :إنه قلب المعادلة بعد المربع المحيط.والقلب هو فقه القدرة والاقتصاد .فالإنسان لا يمكن أن يكون مستخلفا في الأرض قبل أن ينجح في تعميرها .فهو مستعمر فيها كخليفة إما عارفا أو جاحدا.واستعمار الإنسان في الأرض هو العمران البشري بمصطلح ابن خلدون .واستخلافه هو الاجتماع الإنساني بلغته .فالأول لسد الحاجات والثاني للأنس بالعشير.والأنس بالعشير هو مجال فقه الحياة والفن وسد الحاجات هو مجال فقه العلم والنظر. وهما متشارطان دون الاقتصار على التوظيف الدنيوي رمزا للتعالي.وذلك هو مجال العلم الأعسر لتعلقه بقيمة الخير والشر :إنه مجال فقه القدرة والاقتصاد .فهو شرط الحياة العضوية قياما وشرط الحياة الروحية كمالا.إنه شرطها قياما لأن الإنسان لا يعيش إلى برضع أمه (الأرض) الدائم إذ منها معاشه وهو شرطها كمالا لأن من يفقد الأول يغرق في طلبه فلا يتعالى.الفقر المادي مغن عن الوعي بالفقر الروحي :لا يمكن للجائع أن يعي القيم السامية إلا سلبا كحرمان وليس كاستكمال موجب للذات .تدين الفقراء تعويض. 54 28
لذلك فالإسلام وضع نظاما هدفه إلغاء الفقر المادي حتى يسمو الجميع لإدراك الفقر الوجودي أو الحاجة الروحية للتسامي بالعبادة الموجبة لله وحده.ومن غابت عنه هذه المعاني لا يمكن أن يفهم أهمية القدرة والاقتصاد في القرآن الكريم. وقد بينت أن الفروض الخمسة مشروطة بتجاوز الفقر المادي.ولأختم هذا الفصل بملاحظتين :الأولى العلم إما مطلق بوصفه فرضيا في المقدرات الذهنية صوغا رمزيا لمضمون مقدر ذهنيا يصبح نسبيا إذا عين خارجيا.وتعينه في موضوع خارجي يجعله من جنس الشرطية المتصلة يكذب مقدمه بكذب تاليه فيكون معلقا دائما على تجربته بالتالي وهو مبدئيا محتمل التكذيب.وهذه الملاحظة الثانية تجعل العلم نسبيا دائما إذا كان موضوعه خارجيا ومطلق في المقدرات الذهنية لأنها مبدعات من جنس مبدعات الخيال الفني.وإذن لا وجود لعلم مطلق بالوجود الخارجي .المطلق يبقى مجرد تقدير ذهني لمنظومة رمزية بلا مضمون وجودي خارجي :خانات خالية بلا مرجعية خارجية.مرجعية هذا البناء الرمزي أو التقدير الذهني هي بدورها بناء رمزي أو تقدير ذهني: يفترض التقدير الذهني تقديرين للشكل والمضمون كالإبداع الفني.العلم والنظر تابعان للحياة والفن .الحياة تبدع ذاتها بما يشبه الإبداع الفني .والعلم مثلهما .وهما مثل الحياة يغتذيان من الوجود الخارجي. 54 29
فقه القدرة والاقتصاد هو قلب معادلة أنواع الفقه الخمسة .فقبله فقه الإرادة والسياسة وفقه العلم والنظر وبعده فقه الحياة والفن وفقه الوجود والرؤى.وهو في آن غايتها لأنها جميعا يمكن أن تصبح مجرد أدوات له هو شرط حالها أو ما هي عليه في آن .لذلك فمنزلته حاسمة في كل عمران وهي كذلك في القرآن.فلنعرف بحد جامع مانع قبل أن نؤصله .فيمكن أن نسميه بصورة مجازية بالحبل السري لكل جماعة يصلها بالعالم وصل قيام ووصل منزلة فيه طبيعة وتاريخا. وله وظيفتان متعامدتان -1سرالقيام بعلاقة عمودية بين البشر والطبيعة التي يستمد منها معاشه. -2سر المنازل بعلاقة أفقيه بين البشر بعضهم بالبعض.فبالعلاقة العمودية يعتبر الاقتصاد ثمرة سلطان الإنسان على الطبيعة وسلطان سعيه للتحرر منها بما يجعله ثمرة عمله بدل أن يكون ثمرتها المباشرة.ويمكن اعتبار ما طلب من نوح عمله في الطوفان رمزا لهذه العلاقة :فقد طلب منه أن يأخذ زوجين من كل شيء وأن يعيد تكوينها بعمله بعد الطوفان.فهذا الفعل رمز للعلاقة بمصادر العيش الطبيعي وبالسعي للتحرر بصنع المنتج الطبيعي بالعمل الإنساني كما في علاقة الغذاء بالزراعة بعد مجرد الجني.أما العلاقة الأفقية بين البشر فهي شروط وجود الجماعة المتعاونة على هذا الانتاج المادي المشروط في العيش بالعلاقة العمودية ويرمز إليه شعيب.والعلاقتان مشروطتان بما يرمز إليه المشترك بين جميع الأنبياء :الحاجة إلى نظامي حماية ورعاية داخلية (في نفس الجماعة) وخارجية (بين الجماعات).وهذا النظام هو موضوع فقه الإرادة والسياسة الذي يتأسس هو بدوره على موضوع فقه الوجود والرؤى :دولة ذات مرجعية تحدد شرعيتها بنموذجها. 54 30
وهو ما لا يخلو منه دين أو فلسفة .وما يحقق العلاقة العمودية هو فقه العلم والنظر وما يحقق العلاقة الأفقية هو فقه الحياة والفن بتداخل الدورين.فيتبين بذلك علة اعتباره قلب معادلة أنواع الفقه الخمسة .فهو يستعملها جميعا فيكون ثمرة عملها وشرطه في آن :حصيلة لفعلها وممول وجودها.وإذن فكل من يزعم الفصل بين الدولة والدين يتجاهل هذه الحقائق وكل من يلوم الماركسية على ما توليه من أهمية للمسألة الاقتصادية لم يتدبر القرآن.الفصل بين السلطتين الدينية والسياسية واجب لأنه فصل بين التربية والحكم والعيب في الماركسية هو اعتبار الاقتصاد المؤثر الوحيد أو حتى الأول.الإسلام يفصل بين السلطتين التربوية والحاكمة خادمتين لوظيفتي فقه الوجود والرؤى وفقه الإرادة والسياسة ويعتبر مرجعيتهما النظرية العملية واحدة.فليس للمربي سلطة روحية وليس للحاكم سلطة زمانية متعاليتين على المتعلم والمحكوم بل هما نواب عن الجماعة في إدارة عملية التربية والحكم لا غير.والإسلام يولي أهمية كبرى للاقتصاد لكنه لا يعتبره الأهم ولا حتى الاول :فهو علاقة عمودية بالطبيعة مشروط بعلاقة أفقية بين أفراد الجماعة.فللاقتصاد السوي علة غائية اجتماعية وروحية (التعاون والتضامن) وله علة فاعلية فنية وعلمية في العلاقة العمودية ووجودية وسياسية في العلاقة الأفقية.اعتباره الأهم أو الاول دليل ليس على دور الاقتصاد السوي بل على دوره اللاسوي :أي الاقتصاد المتنافي مع علته الفاعلية التي لا يوجد من دونها.وهو ما يمكننا الآن من تقديم حده الجامع المانع بعلله :فالعلة المؤسسة لعلمه هي خوف الندرة أو التزود بما يسد الحاجة قبل أزوفها أو سر الملكية.فالملكية هي موضوع فقه الاقتصاد الأول وهي علة وجود الدولة الحامية كما يعرفها ابن خلدون بوصفها ناتجة عن الحاجة إلى التعاون ومنع العدوان عليها.وهذه العلاقة واحدة في الجماعة وبين الجماعات :الاقتصاد من حيث هو حل لمشكل الخوف من الندرة هو أصل الملكية التي هي أصل الحاجة إلى الحماية. 54 31
والملكية هنا عامة وليست خاصة بالممتلكات بالمعنى الحديث بل هي متعلقة حتى بملكية الذات وما يتبعها مما يعتبره الفرد جزءا من قيامه الحر.ذلك أن البشر كانوا جزءا منها أي إن القوي يملك الضعيف وهو سر العبودية وسر منزلة الأطفال والمرأة في الصراعات البدائية حول شروط العيش الأولى.والعامل الذي لا يملك شيئا غير بدنه وكفاءاته ليس عنده ما يتبادله مع غيره إلا ما يملك فتكون ذاته ملكية خاصة يتصرف فيها فيصل إلى المتاجرة بها.ولهذا وجدت تجارة العبودية وخاصة تجارة المرأة والجنس حيث يتحول الكيان الذاتي نفسه إلى بضاعة تتبادل بسبب هذا الخوف من الندرة في أسباب العيش.ولا تقدم روحي خلقي من دون حل إشكالية تحرير الإنسان من خوف الندرة التي هي علة فاعلية للاقتصاد بصورة قد تنفي كرامة العيش فيلغي الاقتصاد علته.وهذا هو خطأ الحل الماركسي :الغاء الملكية التي تحرر من الخوف وإلغاء الدولة التي تحمي العلاقتين مع الطبيعة وبين البشر في حمايتها محررة منه.فلأثبت هذه الحقيقة لأصل إلى الحد الجامع والمانع لمقومات موضوع فقه القدرة والاقتصاد :شروط العلاقتين العمودية بالطبيعة والأفقية بين البشر.ولأذكر بهذه الشروط :الشرطان المباشران للعلاقتين هما فقه الحياة والفن وفقه العلم والنظر .فما الشرطان غير المباشرين؟ إنهما شرطا المباشرين.ففقه الوجود والرؤى وفقه الإرادة والسياسة هما الشرطان غير المباشرين لأنهما شرطا الشرطين المباشرين .وهما جوهر العلاقة بين الديني والسياسي. وتدبر القرآن الكريم يبين معنى أمرين شديدي الغرابة فيه: -1البعد الاجتماعي الاقتصادي من العبادات. -2القانون الجنائي الأشد متعلق بالملكية.قبل أن أدرس القانون وفلسفة التاريخ كنت أعجب من هذين الأمرين وخاصة من الثاني: حكم السرقة أشد من حكم قتل النفس لأن فيه تشجيعا على العفو. 54 32
فلسفة القانون والتاريخ تبينان أن الصراع على الحوز والملكية هما سر كل الحروب ومن ثم فعدم حمايتها لا يقتصر على قتل نفس واحدة بل ما لا يحصى.وقد ذهب ابن خلدون في تعريف الظلم إلى ما قد يفيد أنه يرده حصرا إلى العدوان على الملكية والحقوق المتعلقة بها بين الأفراد أو بينهم وبين الحكام.فالعدوان على الكرامة أشد من العدوان على الملكية .لكن لما كانت الملكية هي التي تعلل هذا العدوان من له يعتدي عمن ليس له فالملكية صارت مقدمة.فقلما يعتدي الفقير على كرامة الغني لكن الغني كثيرا ما يعتدي على الفقير :والعلة أن الملكية سلطة وهي تعطي لأصحابها عدوانية بسبب التأله.ولهذه العلة كان الاقتصاد ورمزه الملكية التي تحمي من خوف الندرة بحاجة إلى أن يكون تابعا للعبادات روحيا ومحدودا بالسياسات ماديا لمنع الظلم.إذا تحقق ذلك أمكن أن نقول إن كل عمل دال على القدرة والاقتصاد هو عمل جماعي حتما :ويتألف من خمسة عوامل هي مقومات جوهره وماهيته وهي عناصر حده.فسواء كانت ثمرة العملية الاقتصادية بضاعة أو خدمة فهي تتضمن عمل البشرية كلها من بدايتها إلى تلك العملية :القلب فكرة مبدعة للبضاعة أو الخدمة. فكيف تصبح الفكرة بضاعة أو خدمة تسد حاجة المستهلكين؟لا بد من تحويل الفكرة إلى عمل منتج للبضاعة أو الخدمة .وهو ما يقتضي ثلاثة عوامل أخرى.عندنا فكرة (رجل الأعمال) لسد حاجة (المستهلك) لا بد من ممول ومن عامل ومن نظام يكون ذا معنوية تدير منظومة تجمع بين هذه العناصر الأربعة.أساس البداية فكرة مبادر واساس الغاية حاجة مستهلك وبين البداية والغاية عندنا الممول والعامل وفي الوسط كيان معنوي يتعين في منظومة تدير المشروع.والاقتصاد السياسي هو نظام هذه المنظومات التي تسد حاجات الجماعة وتمكنها من العيش غير التابع وكذلك من التبادل مع الجماعات الأخرى بحسب الحاجة. 54 33
وبهذا المعنى فالدولة هي هذا النظام كله بشرط أن نعتبر الحماية والرعاية مقومين للاقتصاد :فالحماية شرط حصوله السلمي والرعاية للعناصر الخمسة.وشرط الحصول السلمي هو نظام العلاقة الأفقية بين البشر القانوني والخلقي وشرط رعاية العناصر الخمسة هو نظام العلاقة العمودية بينهم وبين الطبيعة.فنفهم عندئذ لماذا قلت إن كل البشرية من بدايتها إلى لحظة الإنتاج الاقتصادي الحالية مسهمة فيها :فالعلاقة الأفقية هي خبرة البشرية السياسة.والعلاقة العمودية هي خبرة البشرية العلمية .مثال ذلك أن استخراج البترول وفائدته الاقتصادية ليست عملية خليجية بل كونية جعلت البترول يسد حاجة.وهذا يصبح على أي بضاعة أو خدمة :البشرية المتساوقة والمتوالية كلها حاضرة في أي إنتاج اقتصادي بشروط هذا الانتاج السياسية والعلمية والحاجة.والعلة الفاعلة التي هي الخوف من الندرة هي التي تهدد الأرض بوصفها الحبل السري لحياة الإنسان .فضرع الأرض قد يجف لعدم احترام دوراتها الطبيعية.وهذا هو المعنى الثاني للاقتصاد بمعنى عدم التبذير الذي قد يجعل الأرض عقيما فتزول شروط البقاء مهما حاولنا استبدال دوراتها الطبيعية بالصناعية.وتلك هي أخلاق القرآن في المسألة الاقتصادية :المبذرون اخوان الشياطين .وتلك علة الحاجة إلى الدولة الكونية التي قد تحد من التنافس في التبذير.وهي تحد منه بالحد من الخوف من الندرة بين الجماعات مثلما ينبغي أن تفعل في نفس الجماعة .ففيها كل البشرية جماعة واحدة :النساء 1بقيم الحجرات .13بقي علي أن أشرح لم اعتبرت فقه القدرة والاقتصاد مناظرين لقيمة الخير والشر. لأبدأ باللغة :فالخير والشر والوجود والعدم مفهومات متعلقة بالثروة.وهما متعلقان بالقدرة عامة أو بالنسبة بين الإرادة والقدرة .وفيهما يتجلى جوهر الإنسان وحريته التي تقاس بهذه النسبة (في العربية والألمانية).ولعل ذلك من علل اعتماد القرآن لغة اقتصادية في الكلام على الأفعال عامة بما في ذلك دلالتها الروحية والدينية في العلاقة بين المؤمن وربه. 54 34
ففيها القرض الحسن وفيها الربا الحسن وفيها كل استعمالات المال في الخير .وعلى هذا الأساس حرم الربا في الدنيا لأنه دليل الاستعمال في الشر.وعلى هذا الفرق وحده كان يمكن اخراج وظيفة البنك بوصفه شرطا في تمويل اقتصاد الجماعة من مفهوم الربا لأنه استعمال في الخير لكأنه اقراضا لله.ذلك أن ثروة الجماعة مرتهنة به وإيمانها مرتهن بالتحرر من علل الاخلاد إلى الأرض وأهمها الفقر وفشل تعمير الارض الذي هو شرط الاستخلاف التام.وكان من المفروض أن يفهم الفقهاء ذلك لولا زيف العلم الذي يؤسسه وكان من المفروض ان يفهموا أن نظرية الفرائض بالنسب تقتضي حلا يحررها من مآلها.فمآلها بسبب فساد الفقه كان عكس القصد منها :فبدلا من أن تكون شرط الترابط الأسري تحولت إلى تفتيت الثروة والأسر وضياع فائدة الملكية المحررة.كان من المفروض أن يفهموا أن النسب في الميراث والفرائض يقتضي ألا تفتت الثروة لأن قسمتها بالنسب تقتضي تحولها إلى رأسمال مشترك بين الورثة.فتحقق الملكية وظيفتيها التي قصدها القرآن :العامة وهي تحرير الإنسان من خوف العوز خاصة وهي المحافظة على وحدة الأسرة بدل نزاعات الورثة.وشرط اخراج البنك من الربا الدنيوي أن يكون ملكية عامة وليس ملكية خاصة لأنه التمويل يتبع العملة رمزا لقوة الاقتصاد كله .والعملة أداة التبادل.فالمال في شكله كعملة ييسر تمويل العملية الاقتصادية بعناصرها الخمسة التي وصفت: صاحب الفكرة وصاحب الحاجة والممول والعامل وإدارة المشروع.والعملة والتمويل مثل المكاييل والمقاييس والموازين لهما صلة بشروط العدل في إنتاج الثروة وتبادلها بالتعاوض العادل بين المشاركين في إنتاجها.كل هذه المسائل حال دون فهمها وعلاجها ما سيطرمن علوم زائفة حاولنا بيان زيفها وما أدت إليه من فقر وعجز الغيا التحرير والتنوير بالتغرير والتزوير. 54 35
ما الحاجة إلى ثلاث فصول أخرى وقد أصلنا لأنواع الفقه الخمسة؟ بنينا التأصيل على تناسبات بين الأول والاخير وبين الثاني والرابع وبين قيمها.فهذان تناسبان بحاجة إلى التحليل لأن ما قدم كان شبه مسلمات دون تدليل .والمسألة الأهم :لماذا أنواع الفقه خمسة؟ ولم التناظر مقومات للذات والقيم؟تلك هي المسائل الثلاث التي علينا علاجها ليكون التأصيل مستوفيا شروطه الفلسفية مع بعض الإشارات إلى ما يمكن أن يكون وصلا لها مع رسالة القرآن.وهذه المسألة الاخيرة هي التي ستفهمنا منزلة الفقه الأوسط أي فقه القدرة والاقتصاد في صلة بالفقهين المتقدمين قبله والمتأخرين بعده ونظرة القيم.وبعلاج هذه المسائل الثلاث نكون قد فرغنا من تأصيل علوم الملة وبينا القصد العميق لنظرية ابن خلدون في فساد معاني الإنسانية جوهر انحطاط الأمة.ما بدأت به الفصل الثامن هو في آن خاتمة الفصول السبعة السابقة ومقدمة الفصول الثلاث الموالية .وسأعالج في هذا الفصل مسألة التناسب بين الفقهين 5و .1 لماذا يتناسب فقه الوجود والرؤى مع فقه الإرادة والسياسة؟ما الذي يجعلهما دائما في صراع رغم أن هذا الفقه الأول مبدئيا مرجعية هذا الفقه الثاني؟ولماذا تتناسب القيمة المرتبطة بالوجود والرؤى (التعالي أو الجلال) مع القيمة المرتبطة بالإرادة والسياسة (الجهة أو الحرية)؟ مشكلان عويصان؟ ابن خلدون بعبقريته المعتادة فسر الظاهرة نفسيا بعاملين لا يخلو منهما عمران: -لذة السلطة -وحب التأله عند الحكام وأصحاب الرؤى :السياسي والمفكر. 54 36
ولما كانت الظاهرة متعلقة بما يمكن أن نسميه السلطتين السياسية والروحية فإنها ظاهرة كونية بكونيتهما لئلا يظن أنهما مرض خاص بالمسلمين والعرب.لذة السلطة وحب التأله يجعلان أصحابهما في صراع يكون في الغالب داميا أو مؤديا إلى الدم في كلتا النخبتين وبينهما :نخبة الحكم ونخبة الرؤية.ولا يحصل ذلك إلا لأن النخبتين تنقسمان في الحكم وفي الرؤية فيحصل حلف بين قسم من الأولى وقسم من الثانية ضد قسم من الأولى وقسم من الثانية.فيتبين التلازم بين السياسة والمرجعية في صراع الإرادة وصراع الرؤية :كل حزب أو عصبية يجمعها مصالح وقيم ويقودها منها أصحاب الإرادة والرؤية.ويظل الأمر داميا حتى يحصل ما آل إليه نظام الرؤية ونظام الحكم في نظرية الدولة الحديثة وما تقدم إليه الإسلام عندما جعل الأمر أمر الجماعة.فالتربية (مضمون الرؤى) والحكم (مضمون الإرادة) أمر الجماعة بمنطق التواصي بالحق والتواصي بالصبر لا وسطاء روحيين وسياسيين بحق إلهي أو طبيعي.وبذلك يميز الغزالي وابن تيمية وابن خلدون بين الرؤية الشيعية والرؤية السنية: الإمامة رعاية الشأن العام باجتهاد الجماعة وبعدم تأثيم تعدده.بينا إلى حد الآن الترابط بين موضوعي الفقهين في الأمر الواقع من خلال مآله إلى الصراع والحل الذي قدمته الدولة الحديثة وسبق إليه الإسلام.لكن المطلوب هو بيان الأمر في الواجب أي بمقتضى المبدإ وطبيعة الأشياء وليس بمقتضى الامر الواقع الذي قد يكون مجدر صدفة عارضة :ما علة الترابط؟مثل هذا البحث ليس ممكنا ولا يفهم من دون تجاوز علوم الملة الزائفة :فهي تحجب الرؤية بما اعتمدت عليه من قلب لفصلت 53ومن جرأة على آل عمران .7لن أعجب إذا وجد نفورا من القراء لعدم تعودهم على مثل هذه القضايا .فهي لا تخطر على بال من لم يدرك زيف علوم الملة التي رفضتها مدرستنا النقدية.ومن لا يفعل يكون قد اعترف لأعداء الإسلام بأن علة انحطاط المسلمين هي الإسلام نفسه وليس العلوم المزيفة التي زعموها من مرجعيتيه قرآنا وسنة. 54 37
ذلك أن ما حل بالأمة من أحداث تاريخية خارجية مثل الصليبيات والمغوليات والاسترداديات والاستعماريات لا تكفي لتفسير ما حل بالمسلمين من نكبات.فقد صارت عزلاء بعد أن فسدت فيها معاني الإنسانية بالمصطلح الخلدوني فصارت عقيما وصارت القيم كلها مقلوبة عندنا دينها النفاق ووجودها الجاهلية.ويصح عليها في صورتيها في الأنظمة التقليدية القبلية التي تدعي التربية والحكم بالإسلام والأنظمة الحداثية العسكرية التي تدعيهما بالحداثة.ومن دون هذا التشخيص الأمين لا يمكن العلاج .فمن يغالط في التشخيص يغش في الدواء .لكني آليت على نفسي مهما كلفني ذلك من عداوات أن أصدق التشخيص.ما يعنيني هو الترابط المبدئي وليس العرضي :والترابط بين المجالين مضاعف فهو علاقة الرمزي بالفعلي وعلاقة الجلال (التعالي) بالتوجيه (الحرية).والعلاقة الأولى وجودية لأنها نسبة بين وجودين الرمزي والفعلي والثانية علاقة قيمية لأنها نسبة بين الجلال أو التعالي والتوجيه أو الحرية.فالوجود الرمزي هو مجال فقه الوجود والرؤى لأن العلاج الإنساني في ابداع الرؤى عملية رمزية تقع في الأذهان المرسلة والمتحررة من الوجود الخارجي.والوجود الفعلي هو مجال الإرادة والسياسة لأن العلاج الإنساني في إبداع السياسات عملية فعلية في الأعيان المحددة والخاضعة للوجود الخارجي.فمجال الأول أرحب من مجال الثاني ويكون الأول أكثر حرية من الثاني لأن الإبداع الرمزي خيالي حتى لو كان منطقيا والابداع الفعلي واقعي مهما تجبر.والخلاف بين صاحبيهما خلاف بين مثال وممثول مثالية وواقعية رغم أن الأول اقل قدرة من الثاني على فرض إرادته :تقابل الدين أو الفلسفة والسياسة.وهذه العلاقة يمثلها راي أفلاطون الممتنع :فلا يمكن أن يكون الفيلسوف حاكما لاختلاف فاعليتي الرمز والفعل رغم حاجة الثاني إلى الأول كمرجعية. ويمثلها فرق بالموقفين الحاكم والمعارض في كل الأنظمة الديموقراطية: -الأول محكوم بمحددات الفعل والواقعية 54 38
-والثاني محكوم بمحددات الرمز والمثاليةوبذلك يتبين أن تنافس السلطتين الرمزية والفعلية مداره مدى حرية الفعل أو مدى اضطراريته بحسب محددات مجاله ومجراه مهما تقارب السياسي والرؤيوي.تبين ان طبيعة النسبتين الوجوديتين (الرمز والفعل) محكومة بطبيعة النسبتين القيميتين (التعالي والتوجيه) .والعلاقة هنا أدق من العلاقة هناك وألطف.ذلك أن التوجيه تعال لكنه تعال متعين :فهو إدراك يميز بين الممكن والواجب والممتنع ليس بمقتضى الوجود الرمزي فحسب بل وبمقتضى الوجود الفعلي.فالسياسة مشروطة بهذا التمييز لكنه ليس مرسلا ولذلك قيل إنها فن الممكن :فالممكن هنا ليس الممكن المطلق والمجرد بل الممكن في وضعية عينية.السياسي هنا كجنرال الحرب خلال المعركة وصاحب الرؤى كالاستراتيجي قبل المعركة. كلاهما ينظر في الجهات الممكن والممتنع والواجب.والسياسي مقيد بمجرى المعركة الفعلية وليس بتصور المعركة في خطة تعد لها فحسب. لذلك فالتقريب بين الرؤى والسياسات هو سر الاستراتيجيا السياسية.ويصح ذلك عن كل فعل .لا بد أن يسبقه نظيره في المستوى الرمزي لئلا يكون مرتجلا وعملا على غير علم .وخاصة في الاقتصاد :استراتيجيا التنافس.من أين يأتي الاستبداد أو حب التأله الذي يتكلم عليه ابن خلدون :في السياسة لوهم الحرية المطلقة والتفرد بدلا من الحرية النسبية والتعاون.لذلك لا بد من تحديد السلط حتى تكون الحرية ثمرة التعاون لا الاستبداد والتفرد الذي يلغي ثمرة الحرية بفقدان الروية والتخطيط الرمزي والفعلي. والتحديد مضاعف وهو قيمي في الحالتين: -فرض مرجعية قانونية وخلقية وبمراقبة الجماعة للحكام. -ومرجعية منهجية وخلقية بمراقبة الجماعة للمربين.وتلك هي ثورة الإسلام المضاعفة عندما ألغى الكنسية أي سلطة الطاغوت الروحي والحق الإلهي في الحكم أي الطاغوت السياسي :حرية المؤمن روحيا وسياسيا. 54 39
ومرة أخرى ننتهي إلى أن هذه الثورة المضاعفة أضاعتها العلوم المزيفة التي تركت ما طلبته فصلت 53وتجرأت على آل عمران 7فأعادت الطغيانين.فيتبين أن اعادة اكتشاف ثورة الإسلام الروحية (الإنسان يلقى ربه فردا) بنفي الوساطة والتعلل بها يوم الحساب وثورته السياسية (الأمر للجماعة).لكن قلب فصلت 53والجرأة على آل عمران 7أنتج علوما زائفة حصرت الدين في معارك مذهبية (الكلام) وفي فقه يبرر الموجود ويلغي شروط السعي للمنشود.فكان المآل بمفعول الطغيانين في التربية (الكنسية) والحكم (الاستبداد) إفقاد الإنسان معاني الإنسانية وإفقاده الأهلية للخلافة لصيرورته عبدا لهما.وحتى بعض الاستثناءات من الفقهاء فهي غير مؤثرة لأن منافسهم كان أقوى منهم: الكنسية الصوفية التي تقول بالجبرية وتعتبر المستبدين ظل الله.وحرف مفهوم القضاء والقدر بحجة أن الله ليس عاجزا على منع ما يقع لو لم يكن ذلك هو قضاؤه وقدره ومكتوبا فصارت العبودية للمستبد والاستعمار شرعية.وهو عين الكفر بثورتي الإسلام :جاء لتحرير البشرية من الطغيانين فأعادهما من يسمون علماء الأمة بسبب القلب والجرأة كما بينت في أصل التحريف.والتضخم الحاضر في نوافل العبادات ليس من الدين في شيء بل هو من وجوه العطالة والبطالة .ذلك أن آليتي انتاج الثورة شرط الرعاية والحماية ألغيتا.فإذا كان تمويل الجهاد يوصف بكونه قرضا لله فإن تمويل الاقتصاد أولى لأنه شرط القوة العلمية والمادية التي من دونها يمتنع تحقيق فضيلة الجهاد.وتنظيم الرعاية والحماية شرطي قيام الدول لا يترك للتطوع والتبرع .إنه من فروض العين للمواطن إسهاما في الادخار لتمويل البحث العلمي والاقتصاد.وضمانه يقتضي أن توجد مؤسسات لجمع الادخار وهي منظومة البنوك التي تكون ملكا للجماعة وليس للخواص حتى يكون تمويل الاقتصاد قرضا لله مثل الجهاد.ونفس الأمر يقال عن الفرائض فجعلها مبنية على الكسور إشارة إلى ضرورة المحافظة على وحدة الملكية وعدم تشتيتها لتصبح موضوع حرب بين الورثة. 54 40
اخضاعها لمنطق القصور يعني المحافظة على وحدتها وتحويلها إلى أسهم في مؤسسة ترفع الملكية من العينية إلى الرمزية فتحفظها وتبقي على وحدة الأسرة.ولا خوف من التراكم الرأسمالي إذا كان الاقتصاد لصيقا ببعده الاجتماعي الناتج عن جعله جزءا من العبادات في الإسلام :إنفاق الرزق في وجوه محددة.ونفس الأمر يقال عن الإشكاليات التافهة التي تجعل العلم يدور حول منافسات لا تتجاوز الالفاظ لكأنها من جنس الشنشنات العبثية في ثرثرة البطالين.وكان ذلك يكون مقبولا لو لم يصحبه ترك الحبل على الغارب لطاغوت العلماء (التخدير بدل التنوير القرآني) والأمراء (الاستبداد والتبذير بدل التعمير).عقبات حالت دون العزة الإسلامية بسبب الغفلة عن سر ثورتي القرآن بتوجيه فصلت 53 وتحذير بآل عمران 7من مرض القلب وابتغاء الفتنة. 54 41
نأتي الآن إلى التناسب بين الفقه الرابع فقه الحياة والفن والفقه الثاني فقه العلم والنظر فنسأل عن علته وعلة تناسبه مع قيمتي الجمال والسؤال.سميت القيمة المرتبطة بفقه العلم والنظر بالسؤال ،والقصد طلب الحقيقة موضوع نظرية المعرفة الأول. لكن له دلالة أعمق هي دلالة الوعي بالفقر الوجودي.فالسائل يطلب أي شيء .ويفيد هنا من يطلب الحقيقة معرفيا ووجوديا بأولهما يكون مطلوبه أداتيا وبثانيهما يكون غائيا فيتضمن مطلوب الفقهين 5و.1فالسؤال المعرفي هو الذي يحقق شروط السلطان على الطبيعة وعلى التاريخ .فينفذ إلى آيات الله في الآفاق والأنفس وسلطان الفقه الأخير والفقه الاول.والوسيط بين فقه العلم والنظر وهذين الفقهين الأخير والاول هو فقه الحياة والفن إذ السؤال يتجاوز إلى الوجود والإرادة كبناء رمزي للطبيعة والتاريخ.وهذا هو أصل العلمين الرئيسيين الفلسفي والديني :فالأول ما بعد طبيعة والثاني ما بعد تاريخ والقرآن يجمع بينهما في ما اطلقت عليه ما بعد الأخلاق.واستنادا إلى هذه العلاقة وضعت نظرية المعادلة الوجودية :فعلاقة فقه الحياة والجمال بفقه العلم والنظر كسؤال وجودي تبدع نظام الطبيعة والتاريخ.فلا يكتفي الإنسان السائل في هذه الحالة بمعرفة الطبيعة والتاريخ بل هو ينقلب إلى إله خالق لنموذج نظري وفني صوغا رمزيا لبنية الآفاق والأنفس.فالسائل الوجودي يطلب ما ينقصه إذا قاس نفسه بالخالق فيتخيل بنية الوجود انطلاقا إما من الطبيعة أومن التاريخ فيبدع ما بعد الطبيعة أو ما بعد التاريخ.ويكون هذا السؤال الوجودي أو الصبو إلى الكمال شكرانا أو كفرانا :وهما معنيا التأله بمعنى تأله الحامد أو تأله الجاحد .ما بعد الاخلاق يجمعهما. 54 42
والقصد ما بعد الأخلاق كما يتجلى في الإنسان بمنزلة وجودية هي الخلافة سواء كان طائعا أو عاصيا لعلمه أنه يحاكي العالم رمزيا ولا يبنيه فعليا.لذلك رتبت نوعي الإبداع فقلت إن فقه الحياة والفن يحيط بفقه العلم والنظر دائما: وكل أمة مات فيها فقه الحياة والفن يموت فيها فقه العلم والنظر.ولولا إدراكي لهذا المأزق الذي تعاني منه حضارتنا منذ تأسيس العلوم المزيفة لما أدركت تميز المدرسة النقدية المستثناة من علاج التحديث المزيف.أدعياء العقلانية من المتكلمين (الاعتزال) والفلاسفة (المشائية) ظنوا العقل أجوبة جاهزة بدلا من ابداع ينتج عن سؤال وجودي فجمدوا هذين الفقهين.ومثلهم يفعل من يدعي الانتساب إليهم حاليا من أدعياء التحديث .يوثنون الموجود فيعميهم عن رؤية المنشود .وأدعياء التأصيل يردون الفعل بالرفض.فيتكرر العقم الذي آل إلى الانحطاط فيزيدنا غرقا فيه حتى وإن بدا ما يحصل وكأنه استئناف للفاعلية .لكن البروتاز تساعد صاحب الإعاقة ولا تلغيها.أفرادنا وجماعاتنا تعاني من الإعاقة وتكتفي بتركيب بروتازات في كل شؤونها بمجرد مبادلة ما أنتجته الطبيعة لدينا بما أنتجه الإنسان لدى المبدعين.فقه الحياة والفن وفقه العلم والنظر لا يكاد يوجد منهما شيء والاستيراد يحول دون تنميتهما فمراحل التعلم في مجاليهما يغرق في المحاكاة القاتلة.فلا يبقى المطلوب منشودا بإطلاق بل هو موجود حاصل عند الغير يوثن فيصبح منشودا عند المحاكي فلا يبقى مطلوب السؤال وجوديا حرا بل مطلوبه عبودي.والفرق بين السؤال الوجودي والسؤال العبودي كالتالي :الأول علته اشرئباب الإنسان نحو الله مثالا مطلقا والثاني اعتبار إنسان آخر في منزلة الله.وشتان بين عبادة رب العباد وعبادة العباد .الوجودي عبادة رب العباد والحكاية عبادة العباد .الأول إبداع الأحرار والثانية تقليد العبيد :عقم تام.الموقف الأول دين الاحرار .والموقف الثاني وثنية العبيد .والعلة هي نظام الحكم ونظام التعليم إذ يصبحان مفسدين لمعاني الإنسانية (ابن خلدون). 54 43
وهما يصبحان مفسدين لمعاني الإنسان فقاتلين للإبداع في فقه الحياة والفن وفقه العلم والنظر بما يتحولان إلى عنف يلغي انشراح الحياة ونشاطها.ولنعد إلى مسألتنا بوجهيها :التناسب بين فقه الحياة والفن وفقه العلم والنظر وعلاقته بالتناسب بين قيمة الجمال (بمستوييه) وقيمة السؤال (بمستوييه).وقبل هذه العودة لا بد من تعريجة وجيزة حول ما يؤدي إليه توثين المطلق الرمزي بتعيينه في عين فعلية من انحطاط يجمد الإبداع فيجعل الأوثان مقبرة.لما درست الفلسفة اليونانية شرطا في فهم فكرنا الفلسفي وغير الفلسفي (بعد الغزالي الذي أدخل فيه الفلسفة) هالني الفرق بين بدايتها ونهايتها.فقد وثن مفهوم \"النوس\" ومفهوم \"اللوغوس\" وأصبحا كائنين فعليين وليسا فعلي إبداع: لم يبق النوس فعل حدس عقلي يبدع اللوغوس بنى رياضية رمزية.أصبحا كائنا متجسما يسمونه العقل الذي يحرك السماوات بالجاذبية فيصبح العالم كله مبنيا على محاكاة بين نوعين من الكيان :الطبيعي وما بعده.لم تبق المعرفة طلبا لعلاقة فعل يبدع نماذج رمزية من طبيعة رياضية (نسبة رياضية وليس عقلا متعينا) وموضوع نطلب نظامه الرياضي دون مطابقة بينهما.تحولت النماذج الرمزية لبناء علم مفترض للطبيعة إلى كائنات فعلية فانعكست العلاقة الوجودية :صار النموذج الرمزي وجودا جامدا تحاكيه الطبيعة.وقد حصل ما يماثله في الماركسية :صار الماركسيون يغيرون الظاهرات الاجتماعية والسياسية بالعنف حتى تطابق النموذج الرمزي في النظرية الماركسية.والسر هو وهم المطابقة :يتصورون العلم يدرك الحقيقة المطلقة فيعلم الموجود على ما هو عليه ثم يعكسون فيصبح الموجود خاضعا لما ظنوه علما مطابقا.وهذا هو سر كل جمود في المعرفة والنظر وفي الحياة والفن أو عين الانحطاط والعلة كما رأينا ابستمولوجية أعني نظرية المعرفة القائلة بالمطابقة.وقد أرجع ابن خلدون ذلك إلى وهم \"رد الوجود إلى الإدراك\" عند كل مدرك في بادئ رايه .نظرية المعرفة المسؤولة على الانحطاط هي العقلانية الساذجة. 54 44
وبلغة كلامية هي وهمي رد المنقول إلى المعقول وقيس الغيب على الشهادة .فالمنقول في الطبيعة هو معطيات التجربة والمعقول هو النظرية الجامدة.تجاهل ما يتجاوز به المنقول (معطيات التجربة الحسية والحدسية) هو الذي يبسط الأمر فيوهم بالمطابقة بين العلم وموضوعه ثم يعكس :العلم هو المقياس.فيجمد العلم ويعمى الإنسان على رؤية آيات الله في الآفاق والانفس بسبب قلب العلاقة هذا وبسبب الجرأة على آل عمران 7نفيا للغيب المتجاوز للعلم.وهنا تعيدنا التعريجة لمسألتنا :فتقديم فقه الحياة والفن على فقه العلم والنظر علته أن الثاني هو دائما من جنس الأول لكنه بخلافه أقل حرية منه.ذلك أن فقه الحياة والفن يتجاوز الطبيعة والتاريخ لأنه يتشوف لمحاكاة رمزية لما يتخيل عليه مصدرهما المطلق أي الخالق فيحاكيه خلقا رمزيا وعبادة.أما فقه العلم والنظر فهو لا يمكن أن يتجاوز الطبيعة والتاريخ وعندما يتجاوزهما لينشئ ما بعد طبيعة وما بعد تاريخ فيصبح مرجعية سياسية جامدة.فقه الحياة والفن غايته دينية عندما يتجاوز الجمال إلى الجلال وفقه العلم والنظر غايته فلسفية تتجاوز السؤال المعرفي إلى السؤال الوجودي.والجلال والسؤال الوجودي من المفروض أن يتطابقا في القطب الأول من المعادلة الوجودية معبرين عن اشرئباب الإنسان إلى الله قطبي معادلة الوجود.فتكتمل المعادلة الوجودية :الله والإنسان وبينهما الطبيعة والتاريخ وسيطين بينهما في التواصل بينهم إما بفقه الحياة والفن أو بفقه العلم والنظر.والتواصل بينهما جوهره بفقه الحياة والفن موقف ديني والتواصل بينهما بفقه العلم والنظر موقف فلسفي .والقرآن يجمع بينهما :بفقه القيم والأخلاق.وإلى حد الآن لم أتكلم على فقه القيم والأخلاق بوصفه جوهر رسالة القرآن لأنه سيكون موضوع الفصل العاشر والأخير :وهو علم استراتيجية القرآن.اعتبرت من مثاله الاعلى الله إنسانا حرا ومن مثاله الأعلى إنسان آخر إنسانا عبدا قاصدا أن كلا منهما يعبد مثاله الأعلى الأول إلها والثاني وثنا. 54 45
والتوثين الذي يؤسس للعبودية تاريخيا والضرورة طبيعيا علته محاولة الاستغناء عن أحد القطبين في المعادلة :وهما فيها متلازمان وجودا وعدما.فما به ينتأ الإنسان من نظام الضرورة الطبيعية بنظام متعال عليها هو نظام الحرية الخلقية هو الاشرئباب نحو المتعالي المطلق .إلغاؤه يلغي ملغيه.وما يقال عن ملغي الألوهية من المعادلة ومآله إلى الطبعانية يقال عن ملغي الإنسانية من المعادلة ومآله إلى التاريخانية التي تغرق في الطبعانية.مشكل الأمة الحالي أنها تعيش حربا أهلية علتها الصفين الملغي للألوهية والملغي للإنسانية: -1صف ادعياء التحديث -2صف ادعياء التأصيلفأدعياء التحديث يلغون قطب الألوهية من المعادلة شرطا لدور الإنسان في التاريخ. وادعياء التأصيل يلغون قطب الإنسانية شرطا لدور الإله في التاريخ.والعلة في الحالتين العمى الروحي الذي يحول دون رؤية العلاقة بين فقه الحياة والفن وفقه العلم والنظر اساسي ابداع الفعل وإبداع الرمز :الخلافة.فقصة الاستخلاف القرآني ترمز إلى هذه العلاقة :فجعل الإنسان خليفة في الأرض سابق لما يظن خطيئة ولا ينفي فساده وسفك الدماء .فعلته علم الأسماء.وعلم الأسماء يعني القدرة على الإبداع المسمى أو الرمزي الذي يهدي الحياة والفن والعلم والنظر الذي يشرئب لفهم الإبداع الفعلي الخالق للوجود.فبهما يحاكي الخليفة مستخلفه :الإنسان أو القطب الثاني في المعادلة لا يوجد إلا كمتواجد مع الله .وما ان ينفى أحدهما حتى ينفى الثاني عند الصفين.وقد يسلم الكثير بصحة هذا القول بخصوص نفي وجود الله الذي ينتج عنه نفس مميز الإنسان الذي يخرجه من الضرورة الطبيعية .لكل قل أن يسلم المقابل.وهو في الحقيقة أوضح من الأول :فالذي ينفي دور الإنسان في التاريخ يلغي دور الله فيه .ذلك أن دور الإنسان في التاريخ هو ما تفعله الحرية. 54 46
إذا ألغينا دور الإنسان بوصفه الفاعل الحر بقي دور الفعل المضطر ولا يبقى معنى للحاجة إلى الله لأن الطبيعة تفي بالحاجة إلا إذا نفيناها كذلك.فإذا نفيناها فينبغي أن ننفي نوعي الفعل المضطر والحر ويبقى الفاعل الوحيد هو الله بفعل ليس له أي من الصفتين فيصبح لا مضطرا ولا حرا بل صدفة.والقول بالصدفة نفي خالص لإله حكيم وللحاجة إليه .وهذا هو مأزق الأشعرية الوجودي :نفي العلاقة السببية في الطبيعة ونفي الحرية في أفعال العباد.تلك حقيقة التناسبين بين الفقهين وبين القيمتين المرتبطتين بهما .حاولت بيانها فلسفيا مع إشارات لامحة لدلالاتها في الإسلام وفهم المسلمين له. 54 47
Search