Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore المائة الثانية من صحيح البخاري

المائة الثانية من صحيح البخاري

Published by مكتبة(ورتل) الإلكترونيه, 2021-04-20 12:45:21

Description: المائة الثانية من صحيح البخاري

Search

Read the Text Version

‫الحديث الثامن والعشرون‬ ‫َع ْن أُ ِّم َح ِبي َب َة رضي الله عنها َقالَ ْت‪َ :‬س ِم ْع ُت َر ُسولَ ال هلهِ صلى الله عليه وسلم َي ُقولُ‪:‬‬ ‫«لا َي ِحلُّ لا ْم َر َأ ٍة ُت ْؤ ِم ُن بِاَّ هللِ َوا ْل َي ْو ِم الآ ِخ ِر ُت ِح ُّد َعلَى َم ِّي ٍت َف ْو َق َثلا ٍث‪ ،‬إِ هلا َعلَى َز ْو ٍج‬ ‫أَ ْر َب َع َة أَ ْش ُه ٍر َو َع ْش ًرا»‬ ‫(بخاري‪)١2٨١ :‬‬ ‫شرح الحديث‪:‬‬ ‫يقول النبي صلى الله عليه وسلم ‪ \" :‬لا يحل لامرأة تؤمن باَّلل واليوم الآخر تحد‬ ‫على ميت فوق ثلاث \"‬ ‫أي لا يجوز لامرأة مؤمنة أن تلبس ثياب الحزن‪ ،‬وتهجر الزينة لموت أحد‬ ‫أقاربها‪ ،‬سواء كان أباً أو أخاً أو عماً أو ولد ًا‪ ،‬أكثر من ثلاثة أيام‬ ‫\" إلاّ على زوج أربعة أشهر وعشراً \" أي إ ّلا الزوج فإنها تحد عليه عند موته‪،‬‬ ‫وتترك الزينة لفقده مدة أربعة أشهر وعشرة أيام‬ ‫دل الحديث على ما يأتي‪:‬‬ ‫▪أولاً‪ :‬جواز إحداد المرأة على وفاة أحد أقاربها ما عدا الزوج مدة ثلاثة أ ّيام فقط‪،‬‬ ‫وما زاد على ذلك فهو حرام‬ ‫▪ثانياً‪ :‬مشروعية إحداد المرأة على زوجها أربعة أشهر وعشراً‪.‬‬

‫الحديث التاسع والعشرون‬ ‫َقالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪:‬‬ ‫«إِ هن َما ال هص ْب ُر ِع ْن َد ال هص ْد َم ِة الأُولَى»‬ ‫(بخاري‪)١2٨٣ :‬‬ ‫شرح الحديث‬ ‫َع ْن أَ َن ِس ْب ِن َمالِ ٍك رضي الله عنه َقالَ‪َ :‬م هر ال هن ِب ُّي صلى الله عليه وسلم ِبا ْم َر َأ ٍة َت ْب ِكي‬ ‫ِع ْن َد َق ْب ٍر َف َقالَ‪« :‬ا هتقِي ال هلهَ َوا ْصبِ ِري»‬ ‫َقا َل ْت‪ :‬إِلَ ْي َك َع ِّني َفإِ هن َك َل ْم ُت َص ْب ِب ُم ِصي َبتِي‪َ ،‬ولَ ْم َت ْع ِر ْف ُه‪َ ،‬ف ِقيلَ َل َها‪ :‬إِ هن ُه ال هنبِ ُّي صلى الله‬ ‫عليه وسلم ‪َ ،-‬فأَ َت ْت َبا َب ال هنبِ ِّي صلى الله عليه وسلم َف َل ْم َت ِج ْد ِع ْن َد ُه َب هوابِي َن‪َ ،‬ف َقا َل ْت‪:‬‬ ‫لَ ْم أَ ْع ِر ْف َك‪َ ،‬ف َقالَ‪« :‬إِ هن َما ال هص ْب ُر ِع ْن َد ال هص ْد َم ِة الأُولَى»‬ ‫يقول أنس رضي الله عنه‪ \" :‬مر النبي ‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪ -‬بامرأة تبكي عند‬ ‫قبر \"‪ ،‬وفي رواية أبي داود \" تبكي على صبي لها \"‬ ‫\" فقال‪ :‬اتقي الله واصبري \" أي فأمرها بالخوف من عقوبة الله لها على رفع‬ ‫صوتها بالبكاء‪ ،‬وأمرها بالصبر على القضاء‬ ‫\" فقالت إليك عني \" أي دعنى وشأني فإنك لا تحس بما أحس به من ألم الفراق‬ ‫وإلا لعذرتني‬ ‫\" فقيل لها‪ \" :‬إنه النبي ‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪ \" -‬أي فأخبرها الفضل بن العباس‬ ‫رضي الله عنهما أنه النبي صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬فذهبت إلى النبي صلى الله عليه‬ ‫وسلم \" فقالت‪ :‬لم أعرفك \"‬ ‫أي فاعتذرت إليه صلى الله عليه وسلم بأنها لم تكن تعرفه‬

‫\" فقال‪ :‬إنما الصبر عند الصدمة الأولى \" أي إنما الصبر الكامل الذي يجازى‬ ‫عليه بغير حساب هو الصبر عند أول وقوع المصيبة ونزول البلاء‪ ،‬حين يكون‬ ‫وقعه على النفس أليماً‪ ،‬ومرارته شديدة‬ ‫دل الحديث على ما يأتي‪:‬‬ ‫أولاً‪ :‬مشروعية زيارة القبور للرجال والنساء معاً‬ ‫قال النووي‪ :‬وبالجواز قطع الجمهور‬ ‫ثانياً‪ :‬الترغيب في الصبر عند أول وقوع المصيبة‪ ،‬لما يترتب على ذلك من عظيم‬ ‫المثوبة والأجر عند الله تعالى‪ ،‬حيث يؤجر على ذلك بغير حساب‪ .‬كما قال تعالى‪:‬‬ ‫(إِ هن َما ُي َو هفى ال هصا ِب ُرو َن أَ ْج َر ُه ْم ِب َغ ْي ِر ِح َسا ٍب)‬ ‫فالصبر عند أ ّول نزول البلاء هو الذي يثاب عليه بغير حساب كما قال ‪ -‬صلى الله‬ ‫عليه وسلم ‪ \" :-‬إنما الصبر عند الصدمة الأولى \"‬ ‫المراجع‬ ‫منار القاري‬ ‫شرح صحيح البخاري‬

‫الحديث الثلاثون‬ ‫َع ِن ا ْلم ِغي َر ِة َر ِض َي اللهُ َع ْنه َقالَ‪َ :‬س ِم ْع ُت الن ِبي صلى الله عليه وسلم َيقُولُ‪:‬‬ ‫\" َم ْن ِني َح َعل ْي ِه ُي َع هذ ُب بِ َما نِي َح َعلي ِه\"‬ ‫(البخاري‪)١2٩١ :‬‬ ‫معنى الحديث‪:‬‬ ‫يقول المغيرة بن شعبة رضي الله عنه‪ :‬سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول‪:‬‬ ‫\"من نيح عليه \" أي من بكى عليه أهله عند موته بصوت مرتفع‬ ‫\" يعذب بما نيح عليه \" أي فإنه يعذب بسبب بكائهم عليه‬ ‫دل هذا الحديث على ما يأتي‪:‬‬ ‫أولاً‪ :‬أنه تحرم النياحة على الميت وهي رفع الصوت في البكاء عليه مع ذكر‬ ‫محاسنه وفضائله بصوت مرتفع لما فيه من تعذيب الميت‬ ‫ف َع ْن ال ُّن ْع َما ِن ْب ِن َب ِشي ٍر َر ِض َي ال هلهُ َع ْن ُه َما َقالَ ‪ :‬أُ ْغ ِم َي َعلَى َع ْب ِد ال هلهِ ْب ِن َر َوا َح َة ‪،‬‬ ‫َف َج َع َل ْت أُ ْخ ُت ُه َع ْم َر ُة َت ْب ِكي ‪َ :‬وا َج َبلا ْه َوا َك َذا َوا َك َذا ُت َع ِّد ُد َعلَ ْي ِه ‪َ ،‬ف َقالَ ِحي َن أَ َفا َق ‪َ :‬ما‬ ‫قُ ْل ِت َش ْي ًئا إِلا قِيلَ لِي ‪ :‬آ ْن َت َك َذلِ َك ؟ َف َل هما َما َت لَ ْم َت ْب ِك َعلَ ْي ِه ‪ .‬البخاري‬ ‫ثانياً‪ :‬أن الميت يعذب بالنياحة والبكاء عليه‪ ،‬بصوت مرتفع وهذا إذا كانت النياحة‬ ‫من عادته وسنته‪ ،‬أو أوصى بذلك قبل وفاته ‪،‬أما إذا لم يكن هذا ولا ذاك‪ ،‬فإن‬ ‫الميت يعذب ببكائهم نفسياً حيث يتألم ويحزن لحزنهم‬ ‫َم ْع َنى ال هت ْع ِذيب َتأَلُّم ا ْل َم ِّيت ِب َما َي َقع ِم ْن أَ ْهله ِم ْن ال ِّن َيا َحة َو َغ ْير َها ‪َ ،‬و َه َذا ِا ْختِ َيار أَ ِبي‬ ‫َج ْع َفر ال هط َب ِر ّي ِم ْن ا ْل ُم َت َق ِّد ِمي َن ‪َ ،‬و َر هج َح ُه القاضي ِع َياض ‪َ ،‬و َن َص َر ُه شيخ الإسلام ِا ْبن‬ ‫َت ْي ِم َية َو َج َما َعة ِم ْن ا ْل ُم َتأَ ِّخ ِري َن ‪.‬‬

‫كما روي عن صفية بنت مخرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهاها عن‬ ‫البكاء على ابنها وقال ‪:‬‬ ‫\" أَ ُي ْغ َل ُب أَ َحد ُك ْم أَ ْن ُي َصا ِحب ُص َو ْي ِحبه ِفي ال ُّد ْن َيا َم ْع ُرو ًفا ‪َ ،‬وإِ َذا َما َت ِا ْس َت ْر َج َع ‪،‬‬ ‫َف َواَ هل ِذي َن ْفس ُم َح همد بِ َي ِد ِه إِ هن َأ َحد ُك ْم َل َي ْب ِكي َف َي ْس َت ْع ِبر إِ َل ْي ِه ُص َو ْي ِحبه ‪َ ،‬ف َيا ِع َباد ال هله ‪ ،‬لا‬ ‫َت َع ِّذ ُبوا َم ْو َتا ُك ْم \"‬ ‫قال الحافظ ‪ :‬إسناده حسن‬ ‫وقد اختار هذا المعنى جماعة من الأئمة‬ ‫وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله ‪ :‬ما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم ‪:‬‬ ‫(إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه ) ؟‬ ‫فأجاب ‪ \" :‬معناه أن الميت إذا بكى أهله عليه فإنه يعلم بذلك ويتألم ‪ ،‬وليس‬ ‫المعنى أن الله يعاقبه بذلك لأن الله تعالى يقول ‪َ ( :‬ولاَ َت ِز ُر َوا ِز َر ٌة ِو ْز َر أُ ْخ َر ٰى )‬ ‫والعذاب لا يلزم أن يكون عقوبة ألم تر إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم ‪ ( :‬إن‬ ‫السفر قطعة من العذاب ) والسفر ليس بعقوبة ‪ ،‬لكن يتأذى به الإنسان ويتعب ‪،‬‬ ‫وهكذا الميت إذا بكى أهله عليه فإنه يتألم ويتعب من ذلك ‪ ،‬وإن كان هذا ليس‬ ‫بعقوبة من الله عز وجل له‬ ‫المرجع‬ ‫منار القاري‬ ‫شرح صحيح البخاري‬

‫الحديث الحادي والثلاثون‬ ‫ع ْن َع ْب ِد ال هلهِ بن مسعود رضي الله عنه َقالَ‪َ :‬قالَ ال هن ِب ُّي صلى الله عليه وسلم ‪:‬‬ ‫«لَ ْي َس ِم هنا َم ْن َل َط َم ا ْل ُخ ُدو َد َو َش هق ا ْل ُج ُيو َب َو َد َعا ِب َد ْع َوى ا ْل َجا ِهلِ هي ِة »‬ ‫(البخاري‪)١2٩٤ :‬‬ ‫شرح الحديث‬ ‫يقول صلى الله عليه وسلم‪:‬‬ ‫\"ليس منا\" قال الحافظ‪ :‬أي ليس من أهل سنتنا وطريقتنا‪ ،‬وليس المراد به‬ ‫إخراجه من الدين‪ ،‬ولكن فائدة إيراده بهذا اللفظ المبالغة في الردع عن الوقوع في‬ ‫مثل ذلك‬ ‫\"من لطم الخدود\" أي من أظهر الجزع والحزن والسخط على قدر الله في أفعاله‬ ‫فلطم الخدود ‪ ،‬قال الحافظ‪ :‬وخص الخد بذلك لأنه الغالب‪ ،‬وإ ّلا فضرب الوجه داخل‬ ‫في ذلك‬ ‫\"وشق الجيوب\" جمع جيب وهو ما يفتح من الثوب ليدخل فيه الرأس‪ ،‬أي‬ ‫وشق ثيابه من شدة الجزع‬ ‫\"ودعا بدعوى الجاهلية\" أي وناح على الميت كما كانوا يفعلون في الجاهلية‬ ‫فقه الحديث‬ ‫دل هذا الحديث على تحريم التعبير عن الحزن باستعمال اليد في شق الثياب‪،‬‬ ‫وضرب الوجوه‪ ،‬واستعمال اللسان في النياحة‪.‬‬

‫الحديث الثاني والثلاثون‬ ‫قالَ صلى الله عليه وسلم‪ « :‬إِ هن ا ْل َع ْي َن َت ْد َم ُع َوا ْل َق ْل َب َي ْح َز ُن َولا َن ُقولُ إِ هلا َما َي ْر َضى‬ ‫َر ُّب َنا‪َ ،‬وإِ هنا بِ ِف َراقِ َك َيا إِ ْب َرا ِهي ُم َل َم ْح ُزو ُنو َن«‬ ‫(البخاري‪)١٣٠٣ :‬‬ ‫شرح الحديث‬ ‫عن أنس َر ِض َي اللهُ َع ْن ُه َقالَ‪َ :‬د َخ ْل َنا َم َع َر ُسو ِل اللهِ صلى الله عليه وسلم على أ ِبي‬ ‫َس ْي ٍف ال َق ْي ِن َو َكا َن ِظ ْئراً ِلإبرا ِهي َم‪ ،‬فأ َخ َذ صلى الله عليه وسلم إبرا ِهي َم‪َ ،‬ف َق هب َل ُه‬ ‫و َش هم ُه‪ ،‬ثم َد َخ ْل َنا َع َل ْي ِه َب ْع َد َذلِ َك‪َ ،‬وإ ْب َرا ِهي ُم َي ُجو ُد بِ َن ْف ِس ِه‪َ ،‬ف َجع َل ْت َع ْي َنا َر ُسو ِل الل ِه‬ ‫َت ْذ ِر َفا ِن‪َ ،‬ف َقالَ َل ُه َع ْب ُد ال هر ْح َم ِن ا ْب ُن َع ْو ٍف‪ :‬وأن َت َيا َر ُسولَ الل ِه! َف َقالَ ‪\":‬يا ا ْب َن َع ْو ٍف‬ ‫إنها َر ْح َمة \" ُث هم أتب َع َها بأ ْخ َرى ‪َ ،‬ف َقال صلى الله عليه وسلم‪\" -:‬إ هن ا ْل َع ْي َن َتد َم ُع‪،‬‬ ‫َوا ْل َق ْل َب َي ْح َز ُن‪ ،‬ولا َن ُقولُ إِ هلا َما ُي ْر ِضي َر هبنا‪ ،‬وإ هنا لِ ِف َرا ِق َك يا إ ْب َرا ِهي ُم َل َم ْح ُزو ُنو َن\"‬ ‫يحدثنا أنس رضي الله عنه عن قصة وفاة إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه‬ ‫وسلم من مارية القبطية‪ ،‬فيقول ‪\" :‬دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم‬ ‫على أبي سيف القين\" أي الحداد‪ ،‬واسمه البراء بن أوس‬ ‫\"وكان ظئراً لإبراهيم\" أي أباً له من الرضاعة لأن زوجته خولة بنت المنذر قد‬ ‫أرضعت إبراهيم رضي الله عنه‬ ‫\"ثم دخلنا عليه بعد\" أي بعد ذلك بمدة من الزمن‬ ‫\"وإبراهيم يجود بنفسه\" أي وإبراهيم في حال النزاع على وشك أن تفيض روحه‬ ‫\"فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان\"أي تفيضان بالدموع‬ ‫\" فقال له عبد الرحمن بن عوف‪ :‬وأنت يا رسول الله\" قال القسطلاني‪ :‬تقديره‪:‬‬ ‫الناس لا يصبرون عند المصائب ويتفجعون‪ ،‬وأنت يا رسول الله تفعل كفعلهم مع‬ ‫حثك على الصبر ونهيك عن الجزع‬

‫\"فقال‪ :‬يا ابن عوف إنها رحمة\" أي رقة في القلب تجيش في النفس عند فراق‬ ‫الأحبة‪ ،‬فتبعث على حزن القلب‪ ،‬وبكاء العين‪ ،‬وهي غريزة لا يلام عليها‪ ،‬وليست‬ ‫من الجزع في شيء‬ ‫\"ثم أتبعها بأخرى \" أي أتبع الدمعة الأولى بالدمعة الثانية‬ ‫\"فقال‪ :‬إن العين تدمع‪ ،‬والقلب يحزن\" بمقتضى الغريزة التي فطر الله عليها‬ ‫خلقه‪ \" ،‬ولا نقول إلاّ ما يرضي ربنا \" من الحمد والاسترجاع‪ ،‬وسؤال الخلف‬ ‫الصالح‬ ‫\"وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون\" أي وليس الحزن من فعلنا‪ ،‬ولكنه أمر‬ ‫أودعه الله فينا وأوقعه في قلوبنا‪ ،‬فلا نلام عليه إلاّ إذا قلنا أو فعلنا ما لا يرضي‬ ‫ربنا‬ ‫فقه الحديث‬ ‫دل الحديث على ما يأتي‪:‬‬ ‫أولاً‪ :‬جواز البكاء عند المصيبة لأنه ظاهرة طبيعية تنشأ عن غريزة الحزن التي‬ ‫فطر الله عليها الخلق‪ ،‬وعن رقة القلب التي خلقه الله عليها‪ ،‬كما قال ‪ -‬صلى الله‬ ‫عليه وسلم ‪ \" -‬إنها رحمة\" وقد خلق الله في الإِنسان الضحك والبكاء‪ ،‬كما خلق‬ ‫فيه الموت والحياة‪َ ( ،‬وأَ هن ُه ُه َو أَ ْض َح َك َوأَ ْب َكى (‪َ )٤٣‬وأَ هن ُه ُه َو أَ َما َت َوأَ ْح َيا) وهما‬ ‫سر من أسرار التكوين البشري‪ ،‬لا يدري أحد كيف هما‪ ،‬ولا كيف يقعان في هذا‬ ‫الجهاز الجسمي المعقد‪ ،‬وتعقيده النفسي لا يقل عن تعقيده العضوي الذي تتداخل‬ ‫المؤثرات النفسية والعضوية فيه وتتفاعلان‬ ‫ثانياً‪ :‬أن الواجب على المؤمن أن لا يقول عند المصيبة‪ ،‬ولا يفعل إلاّ ما يرضي‬ ‫الله عز وجل‪ ،‬كما قال ‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪\" :-‬لا نقول إِلا ما يرضى ربنا \"‪.‬‬

‫الحديث الثالث والثلاثون‬ ‫قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم‪\" :‬أَلا َت ْس َم ُعو َن‪ ،‬إِ هن ال هل َه لا ُي َع ِّذ ُب بِ َد ْم ِع ا ْل َع ْي ِن‬ ‫َولا بِ ُح ْز ِن ا ْل َق ْل ِب‪َ ،‬ولَ ِك ْن ُي َع ِّذ ُب بِ َه َذا ‪َ -‬وأَ َشا َر إِ َلى لِ َسا ِن ِه‪ -‬أَ ْو َي ْر َح ُم‪َ ،‬وإِ هن ا ْل َم ِّي َت ُي َع هذ ُب‬ ‫ِب ُب َكا ِء أَ ْهلِ ِه َع َل ْي ِه\"‬ ‫(البخاري‪)١٣٠٤ :‬‬ ‫شرح الحديث‬ ‫عن اب ِن ُع َم َر َر ِض َي اللهُ َع ْن ُه َما َقالَ‪ :‬ا ْش َت َكى َس ْع ُد ْب ُن ُع َبا َد َة َش ْك َوى َل ُه فأ َتاهُ ال هن ِب ُّي‬ ‫صلى الله عليه وسلم َي ُعو ُده َم َع َع ْب ِد ال هر ْح َم ِن ْب ِن َع ْو ٍف وسع ِد ْب ِن أبي َو هقا ٍص وعب ِد‬ ‫اللهِ ْب ِن َمس ُعو ٍد‪ ،‬فل هما َد َخلَ َعلَ ْي ِه َف َو َج َدهُ في غا ِش َي ِة أ ْه ِل ِه‪ ،‬ف َقالَ‪َ :‬ق ْد َق َضى؟ َقالُوا‪ :‬لا‬ ‫َيا َر ُسولَ الل ِه فب َكى ال هنبِ ُّي صلى الله عليه وسلم فل هما َرأى ا ْل َق ْو ُم ُب َكا َء ال هنبي صلى الله‬ ‫عليه وسلم َب َك ْوا‪َ ،‬ف َقالَ ‪\" :‬ألا َت ْس َم ُعو َن إ هن اللهَ لا ُي َع ِّذ ُب ِب َد ْمع ا ْل َع ْي ِن‪ ،‬ولا بِ ُح ْز ِن‬ ‫ال َق ْل ِب‪ ،‬ولك ْن ُي َع ِّذ ُب بِ َه َذا وأ َشا َر إلى لِ َسانِ ِه أ ْو َي ْر َح ُم‪َ ،‬وإ هن ال َم ِّي َت ُي َع هذ ُب ِب ُب َكا ِء أ ْهلِ ِه‬ ‫َعلَ ْي ِه\"‬ ‫يقول ابن عمر رضي الله عنهما‪\" :‬اشتكى سعد بن عبادة شكوى له\" أي اشتكى‬ ‫من مرض أصابه وألزمه الفراش‬ ‫\"فأتاه النبي ‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪ -‬يعوده فلما دخل عليه‪ ،‬فوجده في غاشية‬ ‫أهله\" أي وجده مغمى عليه بين أهله‬ ‫\"فقال‪ :‬قضى؟ \"‪ ،‬أي هل مات \" قالوا‪ :‬لا يا رسول الله‬ ‫\"فبكى النبي صلى الله عليه وسلم ‪ \" -‬إشفاقاً وحزناً عليه‬ ‫\"فقال‪ :‬ألا تسمعون إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب\" أي إن الله لا‬ ‫يعاقب الإِنسان ولا يجازيه على بكائه وحزنه‪ ،‬لأنهما خارجان عن إرادته‬

‫\"ولكن يعذب بهذا وأشار إلى لسانه أو يرحم\" أي وإنما يحاسب الله الإنسان‬ ‫على ما يصدر من لسانه فيعذبه‪ ،‬أو يثيبه بسببه‪ .‬فإن قال ما يغضب الله من‬ ‫النياحة أو الضجر والجزع عاقبه الله‪ ،‬وإن قال ما يرضي الله من الحمد‬ ‫والاسترجاع أنعم الله عليه في الدنيا بالخلف‪ ،‬وفي الآخرة بالجنة‬ ‫فقه الحديث‬ ‫دل الحديث على جواز البكاء على المريض والميت في دون صوت ودون جزع أو‬ ‫سخط‪.‬‬ ‫المرجع‬ ‫منار القاري‬ ‫شرح صحيح البخاري‬

‫الحديث الرابع والثلاثون‬ ‫ع ْن َعا ِم ِر ْب ِن َر ِبي َع َة رضي الله عنه ‪َ ،‬ع ِن ال هنبِ ِّي صلى الله عليه وسلم َقالَ‪» :‬إِ َذا‬ ‫َرأَى أَ َح ُد ُك ْم ِج َنا َز ًة َفإِ ْن َل ْم َي ُك ْن َما ِش ًيا َم َع َها َف ْل َيقُ ْم َح هتى ُي َخلِّ َف َها أَ ْو ُت َخ ِّل َف ُه َأ ْو ُتو َض َع‬ ‫ِم ْن َق ْب ِل أَ ْن ُت َخلِّ َفه«‬ ‫(البخاري‪)١٣٠٨ :‬‬ ‫شرح الحديث‬ ‫يقول النبي صلى الله عليه وسلم ‪ \" :‬إذا رأى أحدكم جنازة فإن لم يكن ماشياً معها‬ ‫فليقم حتى يخلّفها أو تخ ِّلفه\" أي أنه من لم يكن ماشيا مع الجنازة فالسنة أن‬ ‫يقوم لها حتى يفارقها أو تفارقه أي تصيرون وراءها غائبين عنها وسواء كان‬ ‫الميت مسلماً أو كافراً‬ ‫ف َع ْن َجابِ ِر ْب ِن َع ْب ِد ال هل ِه رضي الله عنهما َقالَ‪َ :‬م هر ِب َنا َج َنا َز ٌة َف َقا َم َل َها ال هنبِ ُّي صلى الله‬ ‫عليه وسلم َو ُق ْم َنا ِب ِه‪َ ،‬ف ُق ْل َنا‪َ :‬يا َر ُسولَ ال هلهِ‪ ،‬إِ هن َها ِج َنا َز ُة َي ُهو ِد ٍّي‪َ ،‬قالَ‪« :‬إِ َذا َرأَ ْي ُت ُم‬ ‫ا ْل ِج َنا َز َة َفقُو ُموا «البخاري‬ ‫وفي رواية ( أليست نفسا )‬ ‫وذلك تعظيما َّلل تعالى وفزعا من الموت‬ ‫كما قال ابن حجر القيام للجنازة‪ :‬إما تعظيما للموت اي لمصيبة الموت وتذكر‬ ‫الموت ‪ ،‬او لعظم الملك الذي نزل بأمر الموت تعظيما لأمره ( تعظيما َّلل تعالى‬ ‫الذي بعثه)‬ ‫\"أَ ْو ُتو َض َع ِم ْن َق ْب ِل أَ ْن ُت َخ ِلّ َفه\" أو توضع الجنازة على الأرض‬

‫فقه الحديث‬ ‫دل الحديث على مشروعية القيام للجنازة وهو قول ابن عمر وابن مسعود ‪،‬‬ ‫والجمهور على أ ّنه منسوخ لحديث علي رضي الله عنه ‪\":‬أن رسول الله صلى الله‬ ‫عليه وسلم قام للجنازة ثم قعد بعد\"‬ ‫أخرجه مسلم‬ ‫فالقيام للجنازة مستحب ويجوز القعود ‪ ،‬وفيه أنه ينبغي لمن رأى الجنازة أن يقلق‬ ‫من أجلها ولايظهر منه عدم الاهتمام‬ ‫المرجع‬ ‫منار القاري‬ ‫شرح صحيح البخاري‬

‫الحديث الخامس والثلاثون‬ ‫ع ْن أَبِ ْي َس ِعي ٍد ا ْل ُخ ْد ِر ِّي رضي الله عنه‪ :‬أَ هن َر ُسولَ ال هلهِ صلى الله عليه وسلم َقالَ‪:‬‬ ‫»إِ َذا ُو ِض َع ِت ا ْل ِج َنا َز ُة َوا ْح َت َم َل َها ال ِّر َجالُ َع َلى أَ ْع َناقِ ِه ْم‪َ ،‬فإِ ْن َكا َن ْت َصالِ َح ًة َقالَ ْت‪:‬‬ ‫َق ِّد ُمونِي‪َ ،‬وإِ ْن َكا َن ْت َغ ْي َر َصالِ َح ٍة َقالَ ْت‪َ :‬يا َو ْي َل َها أَ ْي َن َي ْذ َه ُبو َن ِب َها‪َ ،‬ي ْس َم ُع َص ْو َت َها ُكلُّ‬ ‫َش ْي ٍء إِ هلا الإِ ْن َسا َن‪َ ،‬و َل ْو َس ِم َع ُه َص ِع َق«(البخاري‪)١٣١٤ :‬‬ ‫شرح الحديث‬ ‫يحدثنا أبو سعيد الخدري رضي الله عنه ‪ \" :‬أن رسول الله صلى الله عليه وسلم‬ ‫قال‪ \":‬إذا وضعت الجنازة واحتملها الرجال على أعناقهم\" أي حملوا النعش فوق‬ ‫أعناقهم‬ ‫\"فإن كانت صالحة قالت‪ :‬قدموني\" أي قالت أثناء سيرهم بها‪ :‬أسرعوا بي‪ ،‬لما‬ ‫تراه أمامها من نعيم وسعادة‪ \"،‬وإن كانت غير صالحة قالت‪ :‬يا ويلها\" أي يا‬ ‫هلاكها‪ ،‬وعذابها لما ترى من العذاب وسوء المصير‬ ‫\"ويسمع صوتها كل شيء إل ّا ا ِلإنسان‪ ،‬ولو سمعه لصعق\" أي ولو سمع‬ ‫الإِنسان صوت الميت وهو يصرخ بذلك لهلك‬ ‫فقه الحديث‬ ‫دل الحديث على ما يأتي‪:‬‬ ‫أولاً‪ :‬أن الجنازة يحملها الرجال لقوله صلى الله عليه وسلم ‪ \" :-‬واحتملها الرجال‬ ‫على أعناقهم \"‪ ،‬فإن كلامه كله تشريع ولو كان خبراً‬ ‫ثانياً‪ :‬أن روح الميت تتكلم وهو فوق ال هن ْعش وترى مصيرها‪ ،‬فالسعيدة تقول‪:‬‬ ‫قدموني‪ ،‬والشقية تقول‪ :‬يا ويلها‪ ،‬وقال مجاهد‪ :‬إذا مات الميت فما من شيء إلاّ‬ ‫وهو يراه عند غسله وعند حمله حتى يصل إلى قبره‬

‫الحديث السادس والثلاثون‬ ‫ع ْن أَبِي ُه َر ْي َر َة رضي الله عنه ‪َ :‬ع ِن ال هنبِ ِّي صلى الله عليه وسلم َقالَ‪» :‬أَ ْس ِر ُعوا‬ ‫ِبا ْل ِج َنا َز ِة‪َ ،‬فإِ ْن َت ُك َصا ِل َح ًة َف َخ ْي ٌر ُت َق ِّد ُمو َن َها إليه‪َ ،‬وإِ ْن َي ُك ِس َوى َذلِ َك َف َش ٌّر َت َض ُعو َن ُه‬ ‫َع ْن ِر َقابِ ُك ْم«‬ ‫(البخاري‪)١٣١5 :‬‬ ‫شرح الحديث‬ ‫يقول النبي صلى الله عليه وسلم‪:‬‬ ‫\"أسرعوا بالجنازة فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه\" أي فإنما تسرعون بها‬ ‫إلى نعيمها وسعادتها وإلى روضة من رياض الجنة‬ ‫\"وإن تك سوى ذلك فش ٌّر تضعونه عن رقابكم\" أي‪ :‬فإن تلك الجنازة الشقية شر‬ ‫فوق أعناقكم فسارعوا إلى التخلص منه‬ ‫فقه الحديث‬ ‫دل الحديث على استحباب الإِسراع‪ .‬بالجنازة لمصلحة الميت إن كان سعيداً‪ ،‬أو‬ ‫لمصلحة المشيعين إن كان شقياً‬ ‫فمن السنة الإسراع بالجنازة والمراد بالإسراع أن يكون فوق المشي المعتاد لا‬ ‫الركض بها لأن هذا قد يضر الميت ويشق على المتبعين من الضعفاء‬

‫الحديث السابع والثلاثون‬ ‫ع ْن َعائِ َش َة رضي الله عنها ‪َ :‬ع ِن ال هن ِب ِّي صلى الله عليه وسلم َقالَ فِي َم َر ِض ِه ا هل ِذي‬ ‫َما َت ِفي ِه‪َ » :‬ل َع َن ال هلهُ ا ْل َي ُهو َد َوال هن َصا َرى ا هت َخ ُذوا ُق ُبو َر أَ ْن ِب َيا ِئ ِه ْم َم َسا ِج َد«‬ ‫َقا َل ْت‪َ :‬و َل ْولا َذلِ َك لأَ ْب َر ُزوا َق ْب َرهُ َغ ْي َر أَ ِّني أَ ْخ َشى أَ ْن ُي هت َخ َذ َم ْس ِج ًدا‬ ‫(البخاري‪)١٣٣٠ :‬‬ ‫شرح الحديث‬ ‫تحدثنا عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم‪ \" :‬قال في مرضه‬ ‫الذي مات فيه‪ :‬لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد \" أي دعا‬ ‫عليهم بالطرد من رحمة الله لأنهم بنوا المساجد على قبور أنبيائهم‬ ‫قال ابن حجر‪ :‬وكأنه صلى الله عليه وسلم علم أنه مرتحل من ذلك المرض ‪،‬‬ ‫فخاف أن يعظم قبره كما فعل من مضى ‪ ،‬فلعن اليهود والنصارى إشارة إلى ذم‬ ‫من يفعل فعلهم‬ ‫\"ولولا ذلك لأبرز قبره\" أي لكشف قبر النبي صلى الله عليه وسلم‪ ،‬ولم ُي هتخذ‬ ‫عليه الحائل‬ ‫فقه الحديث‬ ‫يستفاد منه‪ :‬أنه لا يجوز البناء على القبر لأنه صلى الله عليه وسلم لعن اليهود‬ ‫والنصارى على فعله‬ ‫قال الشيخ حبيب الله الشنقيطي في \" شرح زاد المسلم\" ‪ :‬والحكمة فيه أنه ربما‬ ‫يصير بالتدريج شبيهاً بعبادة الأصنام‬

‫الحديث الثامن و الثلاثون‬ ‫ع ْن أ َن ٍس َر ِض َي اللهُ َع ْنه ُُ‪َ :‬ع ِن ال هن ِب ِّي صلى الله عليه وسلم َقالَ \" ‪:‬ا ْل َع ْب ُد إِ َذا ُو ِض َع‬ ‫في َق ْب ِر ِه‪َ ،‬و َت َو هلى‪َ ،‬و َذ َه َب أ ْص َحا ُب ُه حتى إِ هن ُه َل َيس َم ُع َق ْر َع ِن َعالِ ِه ْم‪ ،‬أ َتا ُه َم َل َكا ِن فأ ْق َع َدا ُه‪،‬‬ ‫َف َيقُولا ِن لَ ُه‪َ :‬ما ُك ْن َت َتقُولُ فِي َه َذا ال هر ُج ِل ُمح هم ٍد ‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪-‬؟ َف َيقُولُ‪:‬‬ ‫أ ْش َه ُد أ هن ُه َع ْب ُد اللهِ َو َر ُسولُه‪َ ،‬ف ُي َقالُ‪ :‬ا ْنظر إلى َم ْق َع ِد َك ِم َن ال هنا ِر أب َدلَ َك اللهُ َم ْق َعداً ِم َن‬ ‫ا ْل َج هن َة‪َ ،‬قالَ ال هنبِ ُّي (صلى الله عليه وسلم)‪َ :‬ف َيرا ُه َما َج ِميعاً‪ ،‬وأما ال َكافِ ُر أ ِو ا ْل ُم َنا ِف ُق‬ ‫َف َي ُقولُ‪ :‬لا أ ْد ِري! ُك ْن ُت أ ُقولُ َما َي ُقولُ ال هنا ُس‪َ ،‬ف ُي َقالُ‪َ :‬لا َد َر ْي َت و َلا َتلَ ْي َت‪ُ ،‬ث هم ُي ْض َر ُب‬ ‫ِب ِمطر َق ٍة ِم ْن َح ِدي ٍد َض ْر َب ًة َب ْي َن أ ُذ َن ْي ِه‪َ ،‬ف َي ِصي ُح َص ْي َح ًة َي ْس َم ُع ُه َم ْن َيلِي ِه إ هلا ال هث َق َل ْي ِن\"‬ ‫(البخاري ‪(١٣٣٨ :‬‬ ‫شرح الحديث‬ ‫يحدثنا أنس رضي الله عنه ‪\":‬عن النبي ‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪ -‬أنه قال‪ :‬العبد‬ ‫إذا وضع في قبره‪ ،‬وتولى‪ ،‬وذهب أصحابه\" أي إذا دفن وبدأ أصحابه ينصرفون‬ ‫عنه‬ ‫\"حتى إنه ليسمع قرع نعالهم\" أي في ذلك الوقت الذي يسمع فيه صوت نعال‬ ‫المشيعين‪ ،‬وهي تضرب الأرض أثناء مشيهم‬ ‫\"أتاه ملكان فأقعداه فيقولان\" أي جاءه ملكان‪ ،‬وهما منكر ونكير فيجلسانه‬ ‫فيقولان له ‪\" :‬ما كنت تقول في هذا الرجل محمد ‪ -‬صلى الله عليه وسلم\" ‪ -‬ولم‬ ‫يقولا ما تقول في هذا النبي أو غيره من ألفاظ التعظيم‪ ،‬لقصد امتحان المسؤول‪،‬‬ ‫ولكن يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت‬ ‫\"فيقول‪ :‬أشهد أنه عبد الله ورسوله\" أي فيقول المؤمن الصادق الإيمان‪ :‬أشهد‬ ‫أن هذا الرجل ‪ -‬الذي تشيرون إليه هو عبد الله ورسوله‪ ،‬فيشهد لمحمد بالرسالة‪،‬‬

‫بتوفيق وتثبيت من الله تعالى‪ ،‬وذلك لأنه كان في دنياه مؤمناً موقناً برسالته ‪-‬‬ ‫صلى الله عليه وسلم‬ ‫\"فيقال له‪ :‬انظر إلى مقعدك من النار أبدلك الله مقعداً من الجنة\" أي فيكشف الله‬ ‫له عن منزله في النار الذي أبدله به منزلاً في الجنة‬ ‫\"وأما الكافر والمنافق فيقول‪ :‬لا أدري\" أي ما كنت في الدنيا أجزم بشيء فيما‬ ‫يتعلق برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬لأن الكافر كان ينكرها‪ ،‬والمنافق يشك‬ ‫فيها‪ ،‬ولم يعرف اليقين سبيلاً إلى قلبيهما‬ ‫\"فيقال‪ :‬لا دريت ولا تليت\" أي لا عرفت الحق بنفسك‪ ،‬ولا اتبعت أهل الحق في‬ ‫إيمانهم به‬ ‫\"ثم يضرب بمطرقة من حديد بين أذنيه\" لو ضرب بها جبل لصار تراباً كما في‬ ‫الأحاديث الأخرى‬ ‫\"فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلاّ الثقلين\" أي يسمع صوت صيحته كل‬ ‫الخلائق إلا الأنس والجن وذلك رحمة بهم‪ ،‬وابقا ًء على حياتهم‪ ،‬لأنهم لو سمعوها‬ ‫لصعقوا‬ ‫فقه الحديث‬ ‫دل الحديث على ما يأتي‪:‬‬ ‫أولاً‪ :‬أن الميت يسمع خفق نعال الشيعين‪.‬‬ ‫ثانياً‪ :‬إثبات عذاب القبر‪ ،‬وهو مذهب أهل السنة‬

‫الحديث التاسع والثلاثون‬ ‫قال ال هنبِ هي صلى الله عليه وسلم ‪\" :‬إِني َف َرط لَ ُك ْم وإِنى َش ِهي ٌد َع َل ْي ُك ْم وإ ِّني َوالل ِه‬ ‫لأ ْنظر إلى َح ْو ِضي الآ َن‪ِ ،‬وإ ِّنى أُ ْع ِطي ُت َم َفاتِي َح َخ َزا ِئ ِن الأ ْرض أ ْو َم َفا ِتي َح الأ ْرض‪،‬‬ ‫ِوإ ِّني َواللهِ َما أ َخا ُف َع َل ْي ُك ْم أ ْن ُت ْش ِر ُكوا َب ْع ِدي‪َ ،‬ولَ ِك ِّني أخا ُف َع َل ْي ُك ْم أ ْن َت َنا َف ُسوا ِفي َها‬ ‫(البخاري ‪)١٣٤٤ :‬‬ ‫شرح الحديث‬ ‫ع ْن ُع ْق َب َة ْب َن َعا ِم ٍر َر ِض َي اللهُ َع ْن ُه‪ :‬أ هن ال هنبِ هي صلى الله عليه وسلم َخ َر َج َي ْو َماً‬ ‫َف َص هلى َع َلى أ ْه ِل أُ ُح ٍد َص َلا َت ُه َعلَى ال َم ِّي ِت ُث هم ا ْن َص َر َف إلى ال ِم ْن َب ِر َف َقالَ ‪\":‬إِني َف َرط َل ُك ْم‬ ‫وإِنى َش ِهي ٌد َع َل ْي ُك ْم وإ ِّني َواللهِ لأ ْنظر إلى َح ْو ِضي الآ َن‪ِ ،‬وإ ِّنى أُ ْع ِطي ُت َم َفاتِي َح َخ َزائِ ِن‬ ‫الأ ْرض أ ْو َم َفا ِتي َح الأ ْرض‪ِ ،‬وإ ِّني َوالل ِه َما أ َخا ُف َعلَ ْي ُك ْم أ ْن ُت ْش ِر ُكوا َب ْع ِدي‪َ ،‬و َل ِك ِّني‬ ‫أخا ُف َع َل ْي ُك ْم أ ْن َت َنا َف ُسوا ِفي َها\"‬ ‫يحدثنا عقبة بن عامر رضي الله عنه \" أن النبي صلى الله عليه وسلم ‪-‬خرج يوماً‬ ‫فص ّلى على أهل أحد صلاته على الميت\" أي ص ّلى عليهم صلاة الجنازة كما‬ ‫يصلي على غيرهم من الموتى العاديين‬ ‫ثم انصرف إلى المنبر فقال‪ \":‬إني فرط لكم\" أي‪ :‬سابقكم وأول وار ٍد منكم على‬ ‫الحوض يوم القيامة‬ ‫\"وأنا شهيد عليكم\" أي وأنا شهيد لكم يوم القيامة بالشهادة في سبيل الله‬ ‫\"وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض\" أشار بذلك ‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪ -‬إلى‬ ‫اتساع الدولة الإِسلامية‪ ،‬وكثرة فتوحاتها‪ ،‬وتدفق الأموال عليها‪ ،‬لأ ّن من فتح بلداً‬ ‫فكأنما تسلم مفاتيح خزائنه‪ ،‬وامتلك ثرواته وأمواله‬

‫\" ولكني أخاف عليكم أن تنافسوا فيها\" أي ولكنني أخشى أن يحملكم التنافس‬ ‫على المال والجاه على التنازع فيما بينكم فيودي بكم ذلك إلى العداوة والبغضاء‬ ‫والتقاتل على الدنيا وخيراتها‬ ‫فقه الحديث‬ ‫دل الحديث على ما يأتي‪ :‬التحذير من إقبال الدنيا وفتنتها ومخاطرها‬ ‫المرجع‬ ‫منار القاري‬ ‫شرح صحيح البخاري‬

‫الحديث الأربعون‬ ‫قالَ ال هن ِب ُّي صلى الله عليه وسلم‪« :‬أَ ُّي َما ُم ْسلِ ٍم َش ِه َد َل ُه أَ ْر َب َع ٌة ِب َخ ْي ٍر أَ ْد َخلَ ُه ال هلهُ‬ ‫ا ْل َج هن َة»‪َ .‬ف ُق ْل َنا‪َ :‬و َثلا َث ٌة؟ َقالَ‪َ « :‬و َثلا َث ٌة»‪َ .‬فقُ ْل َنا‪َ :‬وا ْث َنا ِن؟ َقالَ‪َ « :‬وا ْث َنا ِن»‪ُ .‬ث هم لَ ْم‬ ‫َن ْسأَ ْل ُه َع ِن ا ْل َوا ِح ِد‬ ‫(البخاري‪)١٣6٨ :‬‬ ‫شرح الحديث‬ ‫ع ْن ُع َم َر ْب ِن ال َخ هطا ِب َر ِض َي اللهُ َع ْن ُه‪ :‬أن ال هنبِ هي صلى الله عليه وسلم َقالَ‪ \" :‬أ هي َما‬ ‫ُم ْسلِم َش ِه َد َل ُه أ ْر َب َع ٌة بِ َخ ْي ٍر أ ْد َخلَ ُه الل ِه ا ْل َج هن َة \"‪َ ،‬فقُ ْل َنا‪ :‬وثلاَث ٌة‪َ ،‬قال‪َ \" :‬و َثلاث ٌة \"‪،‬‬ ‫َفقُ ْل َنا‪ :‬وا ْث َنا ِن‪َ ،‬قالَ‪ \" :‬وا ْث َنا ِن \" َو َل ْم َن ْسأَل ُه َع ِن ا ْل َوا ِح ِد‪\".‬‬ ‫\"أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة\" يعني أن أي إنسان مات على‬ ‫الإِسلام وأثنى عليه أربعة من المسلمين بما يعرفونه عنه من الأعمال الصالحة‬ ‫التي كان يفعلها في حياته وز ّكوه بالصلاح الذي يعلمونه عنه دون مداراة أو‬ ‫مجاملة‪ ،‬فإنه يرجى له الجنة‪ ،‬لأن عمله الصالح بشير سعادته إن شاء الله‬ ‫فالمراد بالشهادة له الثناء عليه بالخير الذي يعلمونه عنه بدليل ما جاء في رواية‬ ‫أنس رضي الله عنه أنه قال‪ \" :‬م ُّروا بجنازة فأثنوا عليها خيراً‪ ،‬فقال‪ \":‬وجبت\"‪،‬‬ ‫ثم م ّروا بأخرى فأثنوا عليها شراً‪ ،‬فقال‪ \":‬وجبت\"‪ ،‬فقال عمر بن الخطاب رضي‬ ‫الله عنه‪ :‬ما وجبت‪ ،‬قال‪ \":‬هذا أثنيتم عليه خيراً فوجبت له الجنة‪ ،‬وهذا أثنيتم‬ ‫عليه شراً فوجبت له النار‪ ،‬أنتم شهداء الله في الأرض\"‬ ‫البخاري‬

‫فإن هذا الحديث يدل على أن الشهادة للميت معناها الثناء عليه بالخير‪ ،‬وهي في‬ ‫معنى التزكية‪ ،‬والأحاديث يفسر بعضها بعضاً‪ ،‬وليس المراد بقوله‪ \" :‬شهد له‬ ‫أربعة بخير \" الشهادة له بدخول الجنة والنجاة من النار‪ ،‬فإن هذا غي ٌب لا يجوز‬ ‫الشهادة به لأحد‪ ،‬إلاّ لمن شهد لهم النبي ‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪ -‬بالجنة‪ ،‬لأن‬ ‫النبي ‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪ -‬نهى عن القطع لأحد بالجنة أو النار‬ ‫بدليل ما جاء في الحديث الصحيح عن أم العلاء امرأة من الأنصار‪ ،‬أنه لما توفي‬ ‫عثمان بن مظعون‪ ،‬و ُغ ِّسلَ وكفن في أثوابه‪ ،‬دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم‬ ‫قالت‪ :‬فقلت‪ :‬رحمة الله عليك أبا السائب فشهادتي عليك لقد أكرمك الله ‪-‬أي لقد‬ ‫أكرمك الله بالجنة‪ -‬فقال النبي صلى الله عليه وسلم ‪ \" :-‬وما يدريك أن الله أكرمه‪،‬‬ ‫أما هو فقد جاءه اليقين‪ ،‬والله إني لأرجو له الخير‪ ،‬والله ما أدري وأنا رسول الله‬ ‫ما يفعل بي\" قالت‪ :‬فوالله لا أزكي أحداً بعده أبداً\"‬ ‫البخاري‬ ‫\"فقلنا‪ :‬وثلاثة؟ فقال‪ :‬وثلاثة‪ ،‬فقلنا‪ :‬واثنان‪ ،‬قال‪ :‬واثنان\" معناه وكذلك إذا شهد‬ ‫له ثلاثة‪ ،‬أو اثنان‪ ،‬فإنه ترجى له الجنة‬ ‫\"ثم لم نسأله عن الواحد\" أي فلا ندري هل يكفي أم لا‪.‬‬ ‫فقه الحديث‬ ‫دل هذا الحديث على ما يأتي‪:‬‬ ‫أولاً‪ :‬جواز الثناء على الميت المسلم بما يعلم عنه من الصلاح والخير‪ ،‬وحسن‬ ‫السلوك في حياته‪ ،‬وأن من أثنى عليه اثنان فصاعداً بالاستقامة على الأعمال‬ ‫الصالحة في دنياه‪ ،‬فإنه يرجى له الخير في الدار الآخرة‪ ،‬إن شاء الله‪ ،‬كما يرجى‬

‫له الفوز بالجنة والنجاة من النار‪ ،‬وذلك لقوله ‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪\" :-‬وجبت‬ ‫له الجنة\" وليس المراد من الشهادة له أن نشهد له بالجنة‪ ،‬فإن هذا لا يجوز إلاّ‬ ‫لمن شهد له ‪ -‬صلى الله عليه وسلم – بالجنة‬ ‫ثانياً ‪ :‬أن المعتبر في الثناء على الميت ثناء أهل الفضل والصدق‪ ،‬لما جاء في‬ ‫الشهادات‪ :‬المؤمنون شهداء الله في الأرض‪.‬‬ ‫قال القسطلاني‪ :‬فالمراد المخاطبون بذلك من الصحابة ومن كان على صفتهم في‬ ‫الإيمان‪ ،‬فالمعتبر شهادة أهل الفضل والصدق‪ ،‬لا الفسقة‪ ،‬لأنهم قد يثنون على من‬ ‫كان مثلهم‪.‬‬ ‫المرجع‬ ‫منار القاري‬ ‫شرح صحيح البخاري‬

‫الحديث الحادي والأربعون‬ ‫قالَ ال هن ِب ُّي صلى الله عليه وسلم ‪:‬‬ ‫«لا َت ُس ُّبوا ال َأ ْم َوا َت َفإِ هن ُه ْم َق ْد أَ ْف َض ْوا إِ َلى َما َق هد ُموا»‬ ‫(بخاري‪)١٣٩٣ :‬‬ ‫شرح الحديث‬ ‫عن َعائِ َش َة َر ِض َي اللهُ َع ْن َها َقالَ ْت‪:‬‬ ‫َقالَ ال هنبِ ُّي صلى الله عليه وسلم ‪ \" :-‬لا َت ُس ُّبوا الأ ْم َوا َت فإ هن ُه ْم قد أ ْف َض ْوا إلى ما‬ ‫َق هد ُموا \"‬ ‫تحدثنا السيدة عائشة رضي الله عنها في هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه‬ ‫وسلم أنه قال‪ \":‬لا تسبوا الأموات \"‬ ‫أي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن سب أموات المسلمين نهياً صريحاً‪،‬‬ ‫وذلك لأن أعراض المسلمين مصانة في الحياة وبعد الممات‬ ‫لعموم قوله صلى الله عليه وسلم ‪:-‬‬ ‫\" كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه \"‬ ‫بل إن عرض الميت أولى بالحرمة والصيانة لعجزه عن الدفاع عن نفسه‪ ،‬فاَّلل‬ ‫يدافع عنه‬ ‫\" فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا \"‬ ‫بفتح الهمزة من الإفضاء وهو الوصول إلى الشيء‪ .‬أي ليس هناك أي مبرر‬ ‫لس ّبهم‪ ،‬وإن أساءوا في حياتهم‪ ،‬لأنهم قد وصلوا إلى الجزاء العادل على أعمالهم‬ ‫إن كانت خيراً أو شراً‪ ،‬وانتهوا إلى أحكم الحاكمين‪ ،‬ولستم مسؤولين عن أعمالهم‬

‫حتى تسبوهم بعد موتهم (تِ ْل َك أُ هم ٌة َق ْد َخلَ ْت َل َها َما َك َس َب ْت َو َل ُك ْم َما َك َس ْب ُت ْم َو َلا‬ ‫ُت ْسأَلُو َن َع هما َكا ُنوا َي ْع َملُو َن)‬ ‫فقه الحديث‬ ‫دلَ الحديث على تحريم سب أموات المسلمين‪ ،‬لأن عرض المسلم حرام حياً كان‬ ‫أو ميتاً‪ ،‬وإذا كانت غيبة الحي حرام‪ ،‬فالميت أولى‬ ‫وأما الكافر فلا حرج من ذكر مساويه ما لم يتأ ّذ بذلك المسلم‪ ،‬لقوله صلى الله‬ ‫عليه وسلم لما س ّب أحد الأنصار عبد المطلب‪ \" :‬لا تسبوا أمواتنا فتؤذوا أحياءنا\"‬ ‫أخرجه النسائي‬ ‫المرجع‬ ‫منار القاري‬ ‫شرح صحيح البخاري‬

‫الحديث الثاني والأربعون‬ ‫عن أبي ُه َر ْي َر َة َر ِض َي ال هلهُ َع ْن ُه‪َ ،‬قالَ‪َ :‬قالَ َر ُسولُ ال هل ِه َصلهى اللهُ َع َل ْي ِه َو َس هل َم ‪:‬‬ ‫\" َما ِم ْن َم ْولُو ٍد إِ هلا ُيو َل ُد َعلَى ال ِف ْط َر ِة ‪َ ،‬فأَ َب َواهُ ُي َه ِّو َدا ِن ِه ‪ ،‬أو ُي َن ِّص َرا ِن ِه ‪ ،‬أَ ْو ُي َم ِّج َسا ِن ِه‬ ‫‪َ ،‬ك َما ُت ْن َت ُج ال َب ِهي َم ُة َب ِهي َم ًة َج ْم َعا َء‪َ ،‬هلْ ُت ِح ُّسو َن فِي َها ِم ْن َج ْد َعا َء \"‬ ‫ث هم َيقُولُ أَ ُبو ُه َر ْي َر َة َر ِض َي ال هلهُ َع ْن ُه ‪َ \" :‬وا ْق َر ُءوا إِ ْن ِش ْئ ُت ْم ‪ِ { :‬ف ْط َر َة ال هل ِه الهتِي َف َط َر‬ ‫ال هنا َس َع َل ْي َها لاَ َت ْب ِديلَ لِ َخ ْل ِق ال هلهِ َذلِ َك ال ِّدي ُن ال َق ِّي ُم} [ الروم ‪]٣٠ :‬‬ ‫( البخاري ‪)١٣5٩ :‬‬ ‫المفردات‪:‬‬ ‫الفطرة‪ :‬هي هيئة ال َخ ْلق وحاله‪ ،‬والمراد بها في الحديث ما َف َطر الله عليه الخل َق‬ ‫من معرفته والإقرار به‬ ‫يه ِّودانه‪ ،‬أو ُين ِّصرانه‪ ،‬أو ُيم ِّجسانه‪ :‬أي يجعلانه يهود ًّيا‪ ،‬أو نصران ًّيا‪ ،‬أو مجوس ًّيا‪،‬‬ ‫بالتعليم والتلقين‪.‬‬ ‫تن َتج‪ :‬يقال‪ُ :‬ن ِتجت الناق ُة فهي منتوجة‪ ،‬وأنتجت فهي َن ُتوج‪ ،‬إذا و َضع ْت‪.‬‬ ‫جمعاء ‪ :‬سالمة من العيوب‬ ‫ج ْدعاء‪ :‬جدع الأنف‪ :‬قطعه؛ وكذا الأذن‪ ،‬واليد‪ ،‬والشفة‪ ،‬و ُج ِدع البعير قُ ِطع‪ ،‬فهو‬ ‫أجدع‪ ،‬و ُج ِدعت الناقة فهي جدعاء‪.‬‬ ‫شرح الحديث‬ ‫ف َطر الله الناس جمي ًعا على معرفته وتوحيده ودينه الحق‪ ،‬وأع هدهم ل َق ُبوله‪ ،‬فما‬ ‫يولَد مولود إلا وهو ُمست ِع ٌّد لهذا الدين الحنيف؛ حتى لو ُت ِرك وشأنه‪ ،‬لما ابتغى‬ ‫غير الاسلام دي ًنا؛ ذلك بأنه ُمجا ِو ٌب للعقل السليم والنظر المستقيم‪ ،‬و ُيص ِّدق هذا‬ ‫قول الله جل ثناؤه ‪َ ﴿ :-‬فأَ ِق ْم َو ْج َه َك لِل ِّدي ِن َح ِني ًفا ِف ْط َر َت ال هلهِ ا هل ِتي َف َط َر ال هنا َس َع َل ْي َها‬ ‫َلا َت ْب ِديلَ لِ َخ ْل ِق ال هلهِ َذلِ َك ال ِّدي ُن ا ْل َق ِّي ُم َولَ ِك هن أَ ْك َث َر ال هنا ِس َلا َي ْعلَ ُمو َن [الروم‪]٣٠ :‬‬

‫قال ابن عثيمين رحمه الله ‪:‬‬ ‫\" كل مخلوق قد فطر على الإيمان بخالقه من غير سبق تفكير أو تعليم ‪ ،‬ولا‬ ‫ينصرف عن مقتضى هذه الفطرة إلا من طرأ على قلبه ما يصرفه عنها \"‬ ‫فما ِمن مولو ٍد ِمن َبني آد َم إ هلا ُيولَ ُد على ال ِفطرة الإسلام هي ِة‪ ،‬فأبواهُ ُيه ِّودا ِنه أو‬ ‫ُين ِّصرا ِنه أو ُيم ِّجسا ِنه؛ إما بتعلي ِمهما إ هياه وترغي ِبهما فيه‪ ،‬أو لكو ِنه َت َب ًعا لهما في‬ ‫ال ِّدي ِن يكون ُحك ُمه ُحك َمهما في ال ُّدنيا ‪ ،‬فإ ْن س َبق ْت له ال هسعاد ُة أسلَ َم‪ ،‬وإ هلا مات كاف ًرا‬ ‫\" كما ُت ْن َت ُج \" أي‪َ :‬ت ِل ُد البهيم ُة بهيم ًة \" َج ْم َعا َء\"‪ ،‬أي‪ :‬لم َيذ َه ْب ِمن بد ِنها شي ٌء؛‬ ‫ُس ِّمي ْت بذلك لاجتما ِع أعضائها‬ ‫\" هل ُت ِح ُّسو َن \" أي‪ :‬هل ُتب ِصرو َن فيها ِمن َج ْد َعا َء؟ أي‪ :‬مقطوع َة الأُ ُذ ِن أو الأن ِف‬ ‫أو الأطرا ِف‬ ‫ث هم يقولُ أبو هرير َة ر ِضي اللهُ عنه‪ :‬اق َرؤوا إن شئ ُتم { ِف ْط َر َت ال هلهِ}‪ ،‬أي‪ِ :‬خ ْل َق َته‬ ‫{ا هل ِتي َف َط َر ال هنا َس َع َل ْي َها} [الروم‪]٣٠ :‬‬ ‫أي‪ :‬خلَ َقهم عليها‪ ،‬وهي‪َ :‬قبولُ الح ِّق وتم ُّك ُنهم ِمن إدرا ِكه‪ ،‬أو‪ِ :‬م هل ُة الإسلام ‪ ،‬لأ هن‬ ‫ُحس َن هذا ال ِّدي ِن ثاب ٌت في ال ُّنفوس‪ ،‬وإ هنما ُيع َدلُ عنه لآف ٍة ِمن الآفات البشر هي ِة‪،‬‬ ‫كالتقليد‬ ‫المراد بولادة المولود على الفطرة‪:‬‬ ‫وجل ٌّي أن ليس المراد بولادة الطفل على الفطرة‪ ،‬أنه حين يخرج من بطن أمه يعلم‬ ‫هذا الدي َن الحق‪ ،‬إنما المراد أن كله مولود‪ ،‬فإنه ُيولَد على مح هبته لفاطره‪ ،‬وإقراره‬ ‫له بالربوبية‪ ،‬حتى إذا ُخلِّي ونفسه‪ ،‬لم َيع ِدل عن الإسلام إلى غيره؛ وذلك كما يولد‬ ‫على محبته لما يلائمه من الأغذية والأشربة‪ ،‬وعلى اهتدائه إلى ما ينفعه ود ْفع ما‬ ‫يضره‪.‬‬

‫ل َم اقتصر ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬على الأبوين في إضلال الطفل؟‬ ‫اقتصر صلى الله عليه وسلم على الأبوين في إضلال الطف ِل وإفساد فطرته بالتهويد‬ ‫والتنصير والتمجيس؛ لأنهما أسب ُق الناس إلى رعايته والقيام عليه‪.‬‬ ‫ومن روائع التشبيه أن ُيم ِّثل النبي صلى الله عليه وسلم الطفل المسكين وقد جنى‬ ‫عليه أبواه هذه ال ِجناي َة ال هنكراء بالبهيمة ينتجها أهلها تا همة الخلق‪ ،‬ثم َي ْعدون‬ ‫عليها ف َي ْج َد ُعونها و ُيغ ِّيرون ِخلق َتها‪ .‬فالبهيمة تلد البهيمة كاملة الأعضاء لانقص‬ ‫فيها وإنما يحدث الجدع والنقص بعد ولادتها‬ ‫من فوائد الحديث‪:‬‬ ‫أن أول واجب على العباد هو توحيد الله‪ ،‬وذلك أن الإيمان باَّلل وهو المعبر عنها‬ ‫بالفطرة مركوز في النفس الإنسانية والخلل الطارئ على البشر إنما هو في‬ ‫الشرك باَّلل واتخاذ آلهة أخرى‪ ،‬وعليه فأول ما يخاطب به من هذا حاله هو توحيد‬ ‫الله ونفي الشركاء‪ ،‬أما من كان الخلل عنده في قضية الوجود الإلهي بأن كان‬ ‫ملحداً فأول ما يخاطب به هو أدلة وجود الله‬ ‫أن الفطرة لا يمكن أن تزول‪ ،‬وإنما قد تطمس وتغطى بعوارض الكفر والإشراك‪،‬‬ ‫فإذا زالت تلك العوارض وموجباتها رجع الإنسان إلى فطرته فآمن بربه وعاد إليه‬ ‫أن التدين بالدين الحق ضرورة إنسانية لا يمكن للإنسان أن يتغافل ويعرض عنها‪،‬‬ ‫أو أن يمحوها من قائمة اهتماماته؛ وذلك لما ركز في أعماق النفس الإنسانية من‬ ‫نزوع إلى من تعبده وتعظمه وتلجأ إليه في النوائب والمصائب والمحن‬ ‫أن أولاد المؤمنين ناجون يوم القيامة وهي من المسائل المجمع عليها‪ ،‬واختلف‬ ‫العلماء في أولاد المشركين الذين ماتوا قبل أن يبلغوا‪ ،‬والراجح نجاتهم لكونهم‬ ‫ماتوا على الفطرة قبل أن ُتغ َير‬

‫ومن الأدلة على نجاتهم ما رواه البخاري عن سمرة بن جندب عن النبي ‪ -‬صلى‬ ‫الله عليه وسلم – في الحديث الطويل حديث الرؤيا‪ ،‬وفيه قوله صلى الله عليه‬ ‫وسلم (وأما الرجل الطويل الذي في الروضة‪ ،‬فإنه إبراهيم ‪ -‬عليه السلام ‪ -‬وأما‬ ‫الولدان حوله فكل مولود يولد على الفطرة‪ ،‬قال‪ :‬فقيل‪ :‬يا رسول الله وأولاد‬ ‫المشركين ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‪ :‬وأولاد المشركين )‬ ‫في الحديث تقدير للأسباب‪ ،‬وأنها لا تنافي قضاء الله و َق َدره‪ ،‬وكل مي هس ٌر لما ُخ ِلق‬ ‫له‪.‬‬ ‫وفيه إشارة إلى وجوب العناية بأمر الأطفال منذ الولادة إلى أن يبلُغوا ال ُحلُم‪.‬‬ ‫وفي الحديث رم ٌز إلى ُي ْسر هذا الدين وسماحته‪ ،‬وأن الأنبياء وورثة الأنبياء‬ ‫صلوات الله وسلامه عليهم إذ ي ْدعون عباد الله إلى الله‪ ،‬و ُيخرجونهم من الظلمات‬ ‫إلى النور‪ ،‬فإنما ُيعيدون ال ِف َطر سير َتها الأولى‪ ،‬ويرفعون النفوس إلى محلها‬ ‫الأرفع‪.‬‬ ‫المراجع‬ ‫من ذخائر السنة النبوية‬ ‫مجد بن أحمد مكي‬ ‫الدرر السنية‬

‫الحديث الثالث والأربعون‬ ‫قالَ ال هن ِب ُّي صلى الله عليه وسلم ‪َ « :‬كا َن بِ َر ُج ٍل ِج َرا ٌح َف َق َتلَ َن ْف َس ُه‪َ ،‬ف َقالَ ال هلهُ‪َ :‬ب َد َر ِني‬ ‫َع ْب ِدي بِ َن ْف ِس ِه‪َ ،‬ح هر ْم ُت َع َل ْي ِه ا ْل َج هن َة»‬ ‫(بخاري‪)١٣6٤ :‬‬ ‫شرح الحديث‬ ‫عن ُج ْن َدب رضي الله عنه‪َ :‬ع ِن ال هنبِ ِّي صلى الله عليه وسلم َقالَ‪َ « :‬كا َن بِ َر ُج ٍل ِج َرا ٌح‬ ‫َف َق َتلَ َن ْف َس ُه‪َ ،‬ف َقالَ ال هلهُ‪َ :‬ب َد َر ِني َع ْب ِدي بِ َن ْف ِس ِه‪َ ،‬ح هر ْم ُت َعلَ ْي ِه ا ْل َج هن َة»‬ ‫يخبِ ُر ال هنب ُّي ص هلى اللهُ عليه وسلهم عن ر ُج ٍل كان في َمن ق ْبلَنا ِمن الأُ َم ِم الماضي ِة‪،‬‬ ‫وكان به ُج ْر ٌح‪ ،‬فلم يصبِ ْر على إصاب ِته‪ ،‬و َيئِ َس منها‪ ،‬فأ َخذ س ِّكي ًنا فق َطع بها يده ‪،‬‬ ‫فلم ينق ِط ِع ال هد ُم إلى أن مات (كما في الرواية الأخرى للحديث )‬ ‫فقال تعالى‪« :‬ب َد َرني عبدي ب َن ْف ِسه‪ ،‬ح هر ْم ُت عليه الج هن َة» وهذا كناي ٌة ع ِن استعجا ِل‬ ‫المو ِت‬ ‫لأ هن َق ْتلَ ال هر ُج ِل لنف ِسه لم ُيس ِر ْع‪ ،‬بأ َج ِله ال ُمق هد ِر له‪ ،‬وإ هنما أط َلق عليه ال ُمبا َدر َة؛‬ ‫لوجو ِد صورتِها‪ ،‬وإ هنما است َح هق ال ُمعا َقب َة؛ لأ هن‬ ‫اللهَ لم ُيطلِ ْعه على انقضا ِء أ َج ِله‪ ،‬فاختار هو َق ْتلَ َن ْف ِسه‪ ،‬فاست َح هق ال ُمعا َقب َة لعصيا ِنه‬ ‫وقوله‪« :‬ح هر ْم ُت عليه الج هن َة»‪ُ ،‬ذ ِكر في معناه أقوالٌ‪:‬‬ ‫ف ِقيل‪ :‬إ هنه كان است َحله ذلك الفعلَ فصار كاف ًرا‬ ‫وقيل‪ :‬كان كاف ًرا في الأص ِل و ُعو ِق َب بهذه المعصي ِة زياد ًة على ُكف ِره‬ ‫وقيل‪ :‬إ هن المرا َد أ هن الج هن َة ُح ِّر َم ْت عليه في وق ٍت ما‪ ،‬وأن التحريم محصور في‬ ‫الوق ِت ا هلذي يد ُخلُ فيه ال هسابقو َن الجنة ‪ ،‬أو الوق ِت ا هلذي ُيع هذ ُب فيه عصاة‬ ‫ال ُمو ِّحدون في ال هنا ِر ث هم يخرجون‬ ‫(كما قال ابن حجر)‬

‫فالوعيد الوارد في ح ّق قاتل نفسه ‪ ،‬من التخليد في النار ‪ ،‬لا يعني الحكم بكفره ‪،‬‬ ‫بل هو مسلم عا ٍص ‪ ،‬وأمره إلى الله تعالى ‪ ،‬إن شاء تجاوز عن س ّيء فعله ‪ ،‬وإن‬ ‫شاء عاقبه وع ّذبه ‪ ،‬وبيان ذلك في قوله ع ّز وجل ‪ { :‬إن الله لا يغفر أن يشرك به‬ ‫ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } ( النساء ‪) ٤٨ :‬‬ ‫وقد جاء في الس ّنة صراح ًة ما يدلّ على ذلك ‪ ،‬فقد أخبر الطفيل بن عمرو الدوسي‬ ‫رضي الله عنه أن أحد الصحابة قطع يده فمات ‪ ،‬فرآه الطفيل رضي الله عنه في‬ ‫منامه وهيئته حسنة ‪ ،‬ورآه مغطيا يديه ‪ ،‬فقال له ‪ \" :‬ما صنع بك ربك ؟ \" فقال ‪:‬‬ ‫\" غفر لي بهجرتي إلى نبيه صلى الله عليه وسلم \" ‪ ،‬ودعا له النبي عليه الصلاة‬ ‫والسلام بقوله ‪ ( :‬اللهم وليديه فاغفر ) رواه مسلم‬ ‫فقه الحديث‬ ‫‪-١‬في الحدي ِث تحري ُم قت ِل ال هن ْف ِس‪ ،‬سوا ٌء أكان ْت َن ْف َس القات ِل أم غي ِره‬ ‫ففي الحديث الأخر َع ْن أَ ِبي ُه َر ْي َر َة رضي الله عنه َقالَ‪َ :‬قالَ ال هن ِب ُّي صلى الله عليه‬ ‫وسلم ‪« :-‬ا هل ِذي َي ْخ ُن ُق َن ْف َس ُه َي ْخ ُن ُق َها فِي ال هنا ِر‪َ ،‬وا هل ِذي َي ْط ُع ُن َها َي ْط ُع ُن َها ِفي ال هنا ِر»‬ ‫أي إ هن الهذي يخ ُن ُق نف َسه يخ ُنقُها في ال هنا ِر‪ ،‬وا هلذي َيط ُع ُنها يط ُع ُنها في ال هنا ِر؛ لأ هن‬ ‫الجزا َء ِمن جن ِس العمل‬ ‫‪-2‬وفيه ال هنه ُي عن إيذا ِء ال هنفس وفيه‪ :‬وعي ٌد شدي ٌد لِ َمن َيق ُتل ن ْف َسه‬ ‫‪ -٣‬وفيه الوقو ُف عند حقو ِق الل ِه‪ ،‬ورحم ُة الل ِه تعالى ب َخ ْل ِقه؛ حي ُث ح هرم عليهم َق ْتلَ‬ ‫ُنفو ِسهم‪ ،‬وأ هن الأن ُف َس ِمل ُك الل ِه‬ ‫‪ -٤‬وفيه ال هتحدي ُث ع ِن الأُ َم ِم الماضي ِة‪ ،‬وفضيل ُة ال هصب ِر على البلا ِء‪ ،‬وتر ُك ال هتض ُّج ِر‬ ‫ِمن الآلا ِم؛ لئ هلا ُيفض َي إلى أ َش هد منها‬ ‫‪ -5‬وفيه ال هنه ُي عن َتعا ِطي الأسبا ِب ال ُمفض َي ِة إلى َق ْت ِل ال هن ْف ِس‪.‬‬

‫الحديث الرابع والأربعون‬ ‫قالَ ال هنبِ ُّي صلى الله عليه وسلم ‪:‬‬ ‫«إِ هن أَ َح َد ُك ْم إِ َذا َما َت ُع ِر َض َعلَ ْي ِه َم ْق َع ُد ُه ِبا ْل َغ َدا ِة َوا ْل َع ِش ِّي‪ ،‬إِ ْن َكا َن ِم ْن أَ ْه ِل ا ْل َج هن ِة‬ ‫َف ِم ْن أَ ْه ِل ا ْل َج هن ِة‪َ ،‬وإِ ْن َكا َن ِم ْن أَ ْه ِل ال هنا ِر َف ِم ْن أَ ْه ِل ال هنا ِر‪َ ،‬ف ُي َقالُ‪َ :‬ه َذا َم ْق َع ُد َك َح هتى‬ ‫َي ْب َع َث َك ال هلهُ َي ْو َم ا ْل ِق َيا َم ِة»‬ ‫(البخاري‪)١٣٧٩ :‬‬ ‫شرح الحديث‬ ‫ع ْب ِد ال هلهِ ْب ِن ُع َم َر رضي الله عنهما ‪ :‬أَ هن َر ُسولَ ال هلهِ صلى الله عليه وسلم َقالَ‪« :‬إِ هن‬ ‫أَ َح َد ُك ْم إِ َذا َما َت ُع ِر َض َعلَ ْي ِه َم ْق َع ُد ُه بِا ْل َغ َدا ِة َوا ْل َع ِش ِّي‪ ،‬إِ ْن َكا َن ِم ْن أَ ْه ِل ا ْل َج هن ِة َف ِم ْن‬ ‫أَ ْه ِل ا ْل َج هن ِة‪َ ،‬وإِ ْن َكا َن ِم ْن أَ ْه ِل ال هنا ِر َف ِم ْن أَ ْه ِل ال هنا ِر‪َ ،‬ف ُي َقالُ‪َ :‬ه َذا َم ْق َع ُد َك َح هتى َي ْب َع َث َك‬ ‫ال هلهُ َي ْو َم ا ْل ِق َيا َم ِة»‬ ‫وا ْلم َراد ( بِا ْل َغ َدا ِة والعشي) وقتهما‪ ،‬وإلاه فالموتى َلا صباح ِع ْندهم َو َلا م َساء‬ ‫َوا ْلم َراد من المقعد‪ :‬ا ْلموضع اله ِذي أعد َل ُه فِي ا ْلج هنة أَو ِفي ال هنار‪.‬‬ ‫وقال القرطبي ‪ \" :‬يجوز أن يكون هذا العرض على الروح فقط ‪ ،‬ويجوز أن يكون‬ ‫عليه مع جزء من البدن ‪ ،‬والمراد‬ ‫بالغداة والعشي وقتهما ‪ ،‬وإلا فالموتى لا صباح عندهم ولا مساء ‪ ،‬وهذا في حق‬ ‫المؤمن والكافر واضح‬ ‫فأما المؤمن المخلط فمحتمل في حقه أيضا ‪ ،‬لأنه يدخل الجنة في الجملة ‪ ،‬ثم هو‬ ‫مخصوص بغير الشهداء لأنهم أحياء وأرواحهم تسرح في الجنة ‪ .‬ويحتمل أن‬ ‫يقال ‪ :‬إن فائدة العرض في حقهم تبشير أرواحهم باستقرارها في الجنة مقترنة‬ ‫بأجسادها ‪ ،‬فإن فيه قدرا زائدا على ما هي فيه الآن \"‬

‫( إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة ) اتحد فيه الشرط والجزاء لفظا ‪ ،‬قال‬ ‫التوربشتي ‪ :‬إن كان من أهل الجنة فمقعده من مقاعد أهل الجنة يعرض عليه‬ ‫وفي هذا الحديث إثبات عذاب القبر ‪ ،‬وأن الروح لا تفنى بفناء الجسد ‪ ،‬لأن‬ ‫العرض لا يقع إلا على حي ‪ ،‬وقد دل ظاهر القرآن على أن الأرواح ممسكة عند‬ ‫الله سبحانه ‪ ،‬وينالها من العذاب والنعيم ما شاء الله من ذلك ‪ ،‬ولا مانع من عرض‬ ‫العذاب والنعيم عليها وإحساس البدن أو ما بقي منه بما شاء الله من ذلك كما هو‬ ‫قول أهل السنة‬ ‫وقد دلت الأحاديث على إعادتها إلى الجسد بعد الدفن عند السؤال ‪ ،‬ولا مانع من‬ ‫إعادتها إليه فيما يشاء الله من الأوقات ‪ .‬وثبت في الحديث الصحيح أن أرواح‬ ‫المؤمنين في شكل طيور تعلق بشجر الجنة ‪ ،‬وأرواح الشهداء في أجواف طير‬ ‫خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ‪ ..‬والله أعلم‬ ‫( حتى يبعثك الله يوم القيامة ) أي حتى يبعثك الله إلى ذلك المقعد يوم القيامة‬ ‫فقه الحديث‬ ‫في ِه أَ هن ا ْل َم ِّي َت ُي ْع َر ُض َعلَ ْي ِه فِي َق ْب ِر ِه بِا ْل َغ َدا ِة َوا ْل َع ِش ِّي َم ْق َع ُدهُ ِم ْن ا ْل َج هن ِة إ ْن َكا َن ِم ْن‬ ‫أَ ْهلِ َها َأ ْو َم ْق َع ُد ُه ِم ْن ال هنا ِر إ ْن َكا َن ِم ْن أَ ْهلِ َها ‪َ ،‬و ُي َقالُ لَ ُه َه َذا َم ْق َع ُدك ‪َ ،‬وفِي َه َذا َت ْن ِعي ٌم‬ ‫لِ َم ْن ُه َو ِم ْن أَ ْه ِل ا ْل َج هن ِة َو َت ْع ِذي ٌب لِ َم ْن ُه َو ِم ْن أَ ْه ِل ال هنا ِر بِ ُم َعا َي َن ِة َما أُ ِع هد َل ُه َوا ْنتِ َظا ِر ِه‬ ‫َذلِ َك إلَى ا ْل َي ْو ِم ا ْل َم ْو ُعو ِد‬

‫الحديث الخامس والأربعون‬ ‫ع ْن أَبِي ُه َر ْي َر َة رضي الله عنه ‪ :‬أَ هن أَ ْع َرابِ ًّيا أَ َتى ال هن ِب هي صلى الله عليه وسلم َف َقالَ‪:‬‬ ‫ُد هل ِني َع َلى َع َم ٍل إِ َذا َع ِم ْل ُت ُه َد َخ ْل ُت ا ْل َج هن َة‬ ‫َقالَ‪َ « :‬ت ْع ُب ُد ال هل َه لا ُت ْش ِر ُك ِب ِه َش ْي ًئا‪َ ،‬و ُتقِي ُم ال هصلا َة ا ْل َم ْك ُتو َب َة‪َ ،‬و ُت َؤ ِّدي ال هز َكا َة‬ ‫ا ْل َم ْف ُرو َض َة‪َ ،‬و َت ُصو ُم َر َم َضا َن»‬ ‫َقالَ‪َ :‬واله ِذي َن ْف ِسي بِ َي ِد ِه لا أَ ِزي ُد َع َلى َه َذا‪َ .‬ف َل هما َو هلى َقالَ ال هنبِ ُّي صلى الله عليه وسلم‪:‬‬ ‫« َم ْن َس هر ُه أَ ْن َي ْن ُظ َر إِ َلى َر ُج ٍل ِم ْن أَ ْه ِل ا ْل َج هن ِة َف ْل َي ْن ُظ ْر إِ َلى َه َذا»‬ ‫(البخاري‪)١٣٩٧ :‬‬ ‫شرح الحديث‬ ‫يحدثنا أبو هريرة رضي الله عنه في حديثه هذا‪:‬‬ ‫\" أن أعرابياً \" أي رجل ًا من البادية‬ ‫\" أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‪ :‬دلّني على عمل إذا عملته دخلت الجنة \"‬ ‫أي دلّنى على عمل يترتب عليه دخول الجنة والنجاة من النار‬ ‫فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بأن دخول الجنة والنجاة من النار يتوقفان على‬ ‫أداء أركان الإِسلام حيث قال‪:‬‬ ‫\" تعبد الله لا تشرك به شيئاً \" وهو معنى شهادة أن لا إله إلاّ الله‪ ،‬التي هي الركن‬ ‫الأول من أركان الإِسلام‪ ،‬لأن معناها‪ :‬لا معبود بحق إلاّ الله‪ ،‬ومقتضاها إفراد الله‬ ‫بالعبادة‪ ،‬وذلك بعبادة الله وحده‪ ،‬وأن لا تشرك به شيئاً‬ ‫\" وتقيم الصلاة المكتوبة \" أي وتقيم الصلوات الخمس التي كتبها الله وأوجبها‬ ‫على عباده في كل يوم وليلة‬ ‫\" وتؤدي الزكاة المفروضة \" أي وتعطي الزكاة الشرعية التي أوجبها الله عليك‪،‬‬ ‫وتدفعها لمستحقها‬

‫\" وتصوم رمضان \" أي وتحافظ على صيام رمضان في وقته‬ ‫\" قال والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا \" أي لا أزيد على العمل المفروض الذي‬ ‫سمعته منك شيئاً من الطاعات ‪ ،‬وزاد مسلم \" ولا أنقص منه \"‬ ‫\" فلما ولى قال النبي صلى الله عليه وسلم ‪ \" :‬من سره أن ينظر إلى رجل من‬ ‫أهل الجنة فينظر إلى هذا \" أي فلينظر إلى هذا الأعرابي فإنه سوف يكون من أهل‬ ‫الجنة إن داوم على فعل ما أمرته به‪ ،‬لقوله في حديث أبي أيوب \" إن تمسك بما‬ ‫أمر به دخل الجنة \" أخرجه مسلم‪.‬‬ ‫فقه الحديث‬ ‫دل هذا الحديث على ما يأتي‪:‬‬ ‫أولاً‪ :‬بيان بعض أركان الإِسلام‪ ،‬وهي التوحيد والصلاة‪ ،‬والزكاة‪ ،‬والصوم‪ ،‬ولم‬ ‫يذكر الحج مع أنه الركن الخامس من أركان الإِسلام‪ ،‬لأنه لم يكن شرع بعد‬ ‫ثانياً‪ :‬بيان مشروعية الزكاة ووجوبها وأنها ركن من أركان الدين الحنيف‪ ،‬لقوله‬ ‫صلى الله عليه وسلم ‪ \" :‬وتؤدي الزكاة المفروضة \"‬ ‫ثالثاً‪ :‬قال القسطلاني‪ :‬فيه أن المبشر بالجنة أكثر من العشرة كما ورد النص في‬ ‫الحسن والحسين رضي الله عنهما وأمهما رضي الله عنها‪ ،‬وأمهات المؤمنين‪،‬‬ ‫فتحمل بشارة العشرة بأنهم بشروا دفعة واحدة‪ ،‬أو بلفظ بشره بالجنة‪ ،‬أو أن العدد‬ ‫لا ينفى الزائد‬ ‫رابعاً‪ :‬قال القرطبي ‪ :‬لا يقال إن مفهوم الحديث يدل على ترك التطوعات‪ ،‬أي‬ ‫النوافل‪ ،‬لأنا نقول لعلّ أصحاب هذه القصص كانوا حديثي عهد بالإِسلام فاكتفى‬ ‫منهم بفعل ما وجب عليهم في تلك الحالة‪ ،‬لئلا يثقل عليهم فيملوا‪ ،‬فإذا انشرحت‬ ‫صدورهم للفهم عنه‪ ،‬والحرص على ثواب المندوبات‪ ،‬سهلت عليهم‬

‫الحديث السادس والأربعون‬ ‫َع ْن أَبِي ُه َر ْي َر َة رضي الله عنه َقالَ‪َ :‬قالَ َر ُسولُ ال هلهِ صلى الله عليه وسلم ‪:-‬‬ ‫« َم ْن آ َتا ُه ال هلهُ َما ًلا َفلَ ْم ُي َؤ ِّد َز َكا َت ُه ُم ِّثلَ َل ُه َمالُ ُه َي ْو َم ا ْل ِق َيا َم ِة ُش َجا ًعا أَ ْق َر َع لَ ُه َزبِي َب َتا ِن‬ ‫ُي َط هو ُق ُه َي ْو َم ا ْل ِق َيا َم ِة ُث هم َيأْ ُخ ُذ بِلِ ْه ِز َم َت ْي ِه ‪َ -‬ي ْع ِني بِ ِش ْد َق ْي ِه‪ُ -‬ث هم َيقُولُ‪ :‬أَ َنا َمالُ َك‪ ،‬أَ َنا‬ ‫َك ْن ُز َك» ُث هم َتلا‪{ :‬لا َي ْح ِس َب هن ا هل ِذي َن َي ْب َخلُو َن} الآ َي َة‬ ‫(البخاري‪)١٤٠٣ :‬‬ ‫شرح الحديث‬ ‫يقول النبي صلى الله عليه وسلم ‪:-‬‬ ‫\" من آتاه الله مالاً \"أي من أعطاه الله مالاً بلغ النصاب الشرعي الذي تجب فيه‬ ‫الزكاة‬ ‫\" فلم يؤد زكاته \"‪ ،‬أي فلم يخرج زكاته‬ ‫\" ُمثل له يوم القيامة شجاع أقرع \" أي ُص ِّور له ماله الذي بخل به‪ ،‬ولم يؤ ّد‬ ‫زكاته بصورة ثعبان سا ّم‪ ،‬أبيض الرأس‪ .‬وهو من أخطر الثعابين‪ ،‬لأنه كلما كثر‬ ‫سم الثعبان ابيض رأسه‬ ‫\" له زبيبتان \" أي فوق عينيه نقطتان سوداوان‪ ،‬وهو من أخبث الحيات‬ ‫\" يطوقه \" أي يهجم عليه ويلتف حول عنقه‬ ‫\" ثم يأخذ بلهزمتيه يعني بشدقيه \" أي يمسك بجانبي فمه ويعضهما‪ ،‬ويفرغ سمه‬ ‫فيهما‬ ‫\" ثم تلا ( َو َلا َي ْح َس َب هن اله ِذي َن َي ْب َخلُو َن بِ َما آَ َتا ُه ُم ال هلهُ ِم ْن َف ْض ِل ِه ُه َو َخ ْي ًرا َل ُه ْم َبلْ ُه َو‬ ‫َش ٌّر َل ُه ْم َس ُي َط هو ُقو َن َما َب ِخلُوا بِ ِه َي ْو َم ا ْل ِق َيا َم ِة)‬ ‫وإنما قرأ هذه الآية ليستدل بها على ما قال‬

‫فقه الحديث‪:‬‬ ‫دل هذا الحديث على ما يأتي‪:‬‬ ‫أولاً‪ :‬إثم مانع الزكاة والوعيد الشديد المترتب على ذلك‪ ،‬وأن منع الزكاة كبيرة من‬ ‫الكبائر‪ ،‬وإلا لما ترتب عليه هذا الوعيد‪.‬‬ ‫ثانياً‪ :‬أن العبد إذا لم يشكر النعمة‪ ،‬ويؤدي حق الله فيها تكون نقمة ووبالاً عليه‬ ‫يوم القيامة‪ ،‬وتتمثل له في أبشع الصور التي تؤلمه وتؤذيه‬ ‫المرجع‬ ‫منار القاري‬ ‫شرح صحيح البخاري‬

‫الحديث السابع والأربعون‬ ‫َع ْن أَ ِبي ُه َر ْي َر َة رضي الله عنه َقالَ‪َ :‬قالَ َر ُسولُ ال هل ِه صلى الله عليه وسلم ‪:‬‬ ‫« َم ْن َت َص هد َق بِ َع ْد ِل َت ْم َر ٍة ِم ْن َك ْس ٍب َط ِّي ٍب‪َ ،‬ولا َي ْق َبلُ ال هلهُ إِ هلا ال هط ِّي َب‪َ ،‬وإِ هن ال هل َه َي َت َق هبلُ َها‬ ‫بِ َي ِمي ِن ِه ُث هم ُي َر ِّبي َها ِل َصا ِح ِب ِه َك َما ُي َر ِّبي َأ َح ُد ُك ْم َفلُ هوهُ َح هتى َت ُكو َن ِم ْثلَ ا ْل َج َب ِل»‬ ‫(البخاري‪)١٤١٠ :‬‬ ‫شرح الحديث‬ ‫يقول أبو هريرة رضي الله عنه‪:‬‬ ‫قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪\" :‬من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب \"‬ ‫أي بمقدار تمرة من مال حلال اكتسبه عن طريق مشروع بصفة مشروعة‪،‬‬ ‫وحصل عليه بوسيلة مشروعة من تجارة؛ أو صناعة؛ أو زراعة؛ أو وظيفة‬ ‫\" ولا يقبل الله إلاّ الطيب \" وهي جملة معترضة بين الشرط وجوابه \" معناها \"‬ ‫ولا يقبل الله صدقة إ هلا إذا كانت خالصة َّلل تعالى وكانت من مال حلال‬ ‫\"فإن الله يتقبلها بيمينه‪ ،‬ثم يربيها لصاحبها \"‬ ‫أي فإن الله يتقبل الصدقة الطيبة بيمينه‪ ،‬كما يتقبل الأشياء الشريفة الكريمة‪ ،‬ثم \"‬ ‫يربيها \" أي ينميها‪ ،‬ويضاعف ثوابها لصاحبها‬ ‫\" كما يربي أحدكم فلوه \" (بفتح الفاء وضم اللام وفتح الواو المشددة)‪ ،‬وهو‬ ‫المهر‪ ،‬أي الصغير من الخيل‪ ،‬أي وما يزال الله عز وجل يضاعف ثواب الصدقة‪،‬‬ ‫ويكبر حجمها \" حتى تكون مثل الجبل \"‪ ،‬أي حتى تكون الصدقة عند وضعها في‬ ‫الميزان يوم القيامة مثل الجبل صورة وحجماً وثقلاً‬ ‫والحاصل أ ّن من تصدق بصدقة قليلة خالصة من الرياء والسمعة من مال حلال‪،‬‬ ‫فإن الله يكبر صورتها‪ ،‬ويضاعف ثوابها‪ ،‬ويثقل وزنها في ميزانه يوم القيامة‪،‬‬ ‫حتى تكون كالجبل الضخم في صورتها ووزنها‪.‬‬

‫فقه الحديث‬ ‫دل هذا الحديث على ما يأتي‪:‬‬ ‫أولاً‪ :‬أن الصدقة لا تقبل عند الله تعالى إلاّ إذا كانت طيبة‪ .‬ومعنى كونها طيبة‪ ،‬أن‬ ‫يتوفر فيها شرطان‪:‬‬ ‫الأول‪ :‬أن تكون خالصة َّلل تعالى ليس فيها رياء‪ ،‬ولا سمعة‬ ‫والثاني‪ :‬أن تكون من مال حلال‬ ‫أما إذا كانت ريا ًء فإنها ترد على صاحبها لقول الله تعالى كما في الحديث القدسي‬ ‫\" أنا أغنى الشركاء عن الشرك‪ ،‬من عمل عملاً أشرك في معي غيري ‪-‬أي راءى‬ ‫فيه غيري‪ -‬تركته وشركه \"‬ ‫وكذلك الصدقة من الحرام لا تقبل‪ ،‬لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث ‪ \" :‬ولا‬ ‫يقبل الله إلا الطيب \" وقوله في حديث آخر‪ \" :‬لا يقبل الله صلاة بغير طهور‪ ،‬ولا‬ ‫صدقة من غلول \" أي ولا يقبل صدقة من مال حرام‬ ‫ثانياً‪ :‬أن الصدقة‪ ،‬لا ُت َق هو ُم بحجمها‪ ،‬وإنما تقوم بإخلاص صاحبها‪ ،‬وبالمال الذي‬ ‫خرجت منه‪ ،‬حلالاً كان أو حراماً‪ .‬فإذا توفر فيها الجوهر الطيب‪ ،‬وهو المال‬ ‫الحلال‪ ،‬والنية الخالصة‪ ،‬كان لها حجم ووزن في ميزان الله وإن كانت قليلة‬ ‫ثالثاً‪ :‬أن الأعمال الصالحة تحول يوم القيامة إلى أجرام مادية لها صورة وحجم‬ ‫ووزن‪ ،‬فتوضع في ميزان العبد‪ ،‬وتوزن في كفه حسناته‪.‬‬

‫الحديث الثامن والأربعون‬ ‫َع ْن َحا ِر َث َة ْب ِن َو ْه ٍب رضي الله عنه َقالَ‪َ :‬س ِم ْع ُت ال هن ِب هي صلى الله عليه وسلم َي ُقولُ‪:‬‬ ‫« َت َص هد ُقوا‪َ ،‬فإِ هن ُه َيأْ ِتي َعلَ ْي ُك ْم َز َما ٌن َي ْم ِشي ال هر ُجلُ بِ َص َد َقتِ ِه َفلا َي ِج ُد َم ْن َي ْق َبلُ َها‪َ ،‬يقُولُ‬ ‫ال هر ُجلُ‪َ :‬ل ْو ِج ْئ َت ِب َها ِبال َأ ْم ِس لَ َقبِ ْل ُت َها‪َ ،‬فأَ هما ا ْل َي ْو َم َفلا َحا َج َة لِي بِ َها»‬ ‫(البخاري‪)١٤١١ :‬‬ ‫شرح الحديث‬ ‫يقول حارثة بن وهب‪ \" :‬سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول‪:‬‬ ‫\"تصدقوا فإنه َيأ ِتي عليكم زمان \" أي بادروا بإخراج الزكاة وانتهزوا فرصة‬ ‫قبولها بوجود الفقراء قبل أن يأتي عليكم زمان يكثر فيه المال حتى أنه‬ ‫\" يمشي الرجل بصدقته \" أي يمشى بزكاته يبحث عن فقير يعطيها له فلا يجده‬ ‫\" يقول الرجل \" الذي يقدم له الصدقة‪ \" .‬لو جئت بها بالأمس \" أي أعتذر إليك‬ ‫عن قبول صدقتك ولو جئتني قبل هذا اليوم لأخذتها منك‪ ،‬أما اليوم فلا حاجة لي‪،‬‬ ‫لأنني غني‪ ،‬والظاهر أن ذلك يقع في زمن كثرة المال وفيضه وقرب الساعة‬ ‫كما في الحديث ‪ \" :‬لا َتقُو ُم ال هسا َع ُة َح هتى َي ْك ُث َر ِفي ُك ُم ا ْل َمالُ َفي ِفي َض َح هتى ُي ِه هم َر ُّب‬ ‫ا ْل َما ِل َم ْن َي ْق َبلُ َص َد َق َت ُه‪َ ،‬و َح هتى َي ْع ِر َض ُه‪َ ،‬ف َي ُقولُ ا هل ِذي َي ْع ِر ُض ُه َعلَ ْي ِه‪َ :‬لا أ َر َب ِلي ِفي ِه\"‬ ‫فقه الحديث‬ ‫مقصود الحديث الحث على التحذير من التسويف بالصدقة (الإبطاء بها وتأخيرها)‬ ‫‪ ،‬لما في المسارعة إليها من تحصيل النمو والبركة‬ ‫وقيل ‪ :‬لأن التسويف بها قد يكون ذريعة إلى عدم وجود القابل لها إذ لا يتم‬ ‫مقصود الصدقة إلا بمصادفة المحتاج إليها ‪ ،‬وقد أخبر الرسول عليه الصلاة‬ ‫والسلام أنه سيقع فقد الفقراء المحتاجين إلى الصدقة بأن يخرج الغني صدقته فلا‬ ‫يجد من يقبلها‬

‫الحديث التاسع والأربعون‬ ‫ع ِد ِّي ب ِن حاتِ ٍم رضي ال هله عنه قال ‪ :‬سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ‪:‬‬ ‫\"ا هتقُوا ال هنا َر َول ْو بِش ِّق َت ْمر ٍة\" (البخاري ‪)١٤١٧ :‬‬ ‫شرح الحديث‬ ‫يحدثنا عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول‪:‬‬ ‫\"اتقوا النار \" أي اجعلوا بينكم وبين النار ستراً وحجاباً بالصدقة‪ ،‬وتصدقوا بكل‬ ‫ما تستطيعون التصدق به مهما كان يسيراً‬ ‫\" ولو بشق تمرة \"‪ ،‬أي ولو لم تجدوا ما تتصدقون به إلاّ نصف تمرة‪ ،‬فتصدقوا‬ ‫به‪ ،‬ولا تحقروا من الصدقة شيئاً‪ ،‬ولو كان قليلاً‪ ،‬فإ ّنه ينفع المتص ِّدق‪ ،‬وينفع‬ ‫المتصدق عليه‬ ‫كما جاء في الحديث عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‬ ‫لها‪ \":‬يا عائشة استتري من النار ولو بشق تمرة \"‬ ‫وفي رواية َع ْن َع ِد ِّي ْب ِن َحا ِت ٍم ‪ :‬أَ هن ال هن ِب هي َص هلى ال هلهُ َع َل ْي ِه َو َسله َم َذ َك َر ال هنا َر َفأَ َشا َح‬ ‫بِ َو ْج ِه ِه َف َت َع هو َذ ِم ْن َها ‪ُ ،‬ث هم َذ َك َر ال هنا َر َفأَ َشا َح بِ َو ْج ِه ِه َف َت َع هو َذ ِم ْن َها ‪ُ ،‬ث هم َقالَ ‪ \" :‬ا هت ُقوا‬ ‫ال هنا َر َو َل ْو ِب ِش ِّق َت ْم َر ٍة ‪َ ،‬ف َم ْن لَ ْم َي ِج ْد َف ِب َكلِ َم ٍة َط ِّي َب ٍة \"‬ ‫من الذي لا يجد شق تمرة اليوم يتصدق به؟‪ ،‬فما بالك إذا كان أكثر من شق‬ ‫تمرة؟‪ ،‬أو إذا كان أعظم من كلمة طيبة يقولها الإنسان؟‪ ،‬والمقصود بهذا أن‬ ‫الإنسان لا يتوانى من عمل الخير وإن قلّ‪ ،‬ولا يتقالّ ذلك ولا يحقره‪ ،‬وإنما ينبغي‬ ‫أن يحرص عليه بكل وجه مستطاع‬ ‫فقه الحديث‪:‬‬ ‫دل الحديث على الترغيب في الصدقة واستحباب الحرص على فعلها مهما كانت‬ ‫يسيرة‪ ،‬لأ ّنها تسد مسدها‪ ،‬وهي وقاية لفاعلها من النار‪ ،‬مهما قلت‬

‫الحديث الخمسون‬ ‫َع ْن أَ ُبي ُه َر ْي َر َة رضي الله عنه َقالَ‪َ :‬جا َء َر ُجلٌ إِلَى ال هن ِب ِّي صلى الله عليه وسلم‬ ‫َف َقالَ‪َ :‬يا َر ُسولَ ال هلهِ‪ ،‬أَ ُّي ال هص َد َق ِة أَ ْع َظ ُم َأ ْج ًرا ؟‬ ‫َقالَ‪« :‬أَ ْن َت َص هد َق َوأَ ْن َت َص ِحي ٌح َش ِحي ٌح َت ْخ َشى ا ْل َف ْق َر َو َتأْ ُملُ ا ْل ِغ َنى‪َ ،‬ولا ُت ْم ِهلُ َح هتى‬ ‫إِ َذا َبلَ َغ ِت ا ْل ُح ْل ُقو َم ُق ْل َت‪ :‬لِفُلا ٍن َك َذا َولِ ُفلا ٍن َك َذا َو َق ْد َكا َن لِ ُفلا ٍن»‬ ‫(البخاري‪)١٤١٩ :‬‬ ‫شرح الحديث‬ ‫يقول أبو هريرة رضي الله عنه ‪ \" :‬جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم‬ ‫فقال‪ :‬يا رسول الله أي الصدقة أعظم أجراً \" أي أكثر ثواباً‬ ‫\" قال‪ :‬أن تص ّدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى \"‬ ‫أي أفضل الصدقة أن تتصدق في حال صحتك واستكمال قواك الجسمية‪ ،‬وحرصك‬ ‫الشديد على تنمية ثروتك وطمعك في الغنى وخشيتك من الفقر‪ ،‬وحبك الشديد‬ ‫لمالك‪ ،‬فإذا تصدقت وأنت على هذه الحال كانت صدقتك أعظم أجراً‪ ،‬لما في ذلك‬ ‫من مجاهدة النفس‪ ،‬ومقاومة غريزة الشح فيها‪ ،‬وقد أثنى الله تعالى على من فعل‬ ‫ذلك في قوله‪َ ( :‬و ُي ْط ِع ُمو َن ال هط َعا َم َع َلى ُح ِّب ِه ِم ْس ِكي ًنا َو َيتِي ًما َوأَ ِسي ًرا)‬ ‫\" ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم \" أي بلغت الروح الحلقوم وأوشكت على‬ ‫مفارقة البدن‬ ‫\" قلت‪ :‬لفلان كذا \"‪ ،‬أي أوصيت بجزء من مالك لفلان وفلان‪ ،‬فإن هذه الوصية‬ ‫وإن كانت مشروعة إلاّ أن الصدقة في حال الصحة أفضل‪ ،‬لأن مالك قد أصبح عند‬ ‫مفارقتك الحياة لورثتك‬ ‫فقه الحديث دل الحديث على أن الصدقة في وقت صحة الإِنسان وسلامته أفضل‬ ‫من الوصية‪ ،‬وأن الوصية جائزة مشروعة أيضاً‬

‫الحديث الحادي والخمسون‬ ‫َع ْن َعا ِئ َش َة رضي الله عنها َقا َل ْت‪َ :‬قالَ َر ُسولُ ال هلهِ صلى الله عليه وسلم ‪:‬‬ ‫«إِ َذا أَ ْن َف َق ِت ا ْل َم ْرأَةُ ِم ْن َط َعا ِم َب ْي ِت َها َغ ْي َر ُم ْف ِس َد ٍة َكا َن لَ َها أَ ْج ُر َها ِب َما أَ ْن َف َق ْت َولِ َز ْو ِج َها‬ ‫أَ ْج ُر ُه ِب َما َك َس َب َولِ ْل َخا ِز ِن ِم ْثلُ َذلِ َك لا َي ْن ُق ُص َب ْع ُض ُه ْم أَ ْج َر َب ْع ٍض َش ْي ًئا»‬ ‫(البخاري‪)١٤25 :‬‬ ‫شرح الحديث‬ ‫يقول النبي صلى الله عليه وسلم ‪ \" :‬إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة\"‬ ‫أي إذا أعطت المرأة من طعام بيتها‪ ،‬غير مبذرة‪ ،‬ولا قاصدة إتلاف ماله‪ ،‬وإلحاق‬ ‫الضرر به‬ ‫\" كان لها أجرها بما أنفقت‪ ،‬ولزوجها أجره بما كسب \" أي كان لها ثواب‬ ‫الإنفاق‪ ،‬وللزوج ثواب آخر مقابل كسبه وسعيه‬ ‫\" وللخادم مثل ذلك \" أَي ولمن ُع ِه َد إليه بحفظ الطعام أجر آخر على الإِنفاق من‬ ‫طعام سيده‬ ‫\" لا ينقص بعضهم أجر بعض شيئاً \" أي لا ينقص بعضهم من أجر بعض شيئاً‬ ‫كما في رواية الترمذي‪ ،‬حيث قال فيها‪ \" :‬لا ينقص كل واحد منهما من أجر‬ ‫صاحبه شيئاً \"‬ ‫فقه الحديث‪ :‬دل الحديث على ما يأتي‪:‬‬ ‫أولاً‪ :‬أن المسلم إذا أمر خادمه بالصدقة أو أذن له فيها وأخرجها عنه قبلت‬ ‫صدقته‪ ،‬وكان له ثوابها كما لو كان أخرجها بنفسه‪ ،‬لقوله‪ \" :‬وللخازن مثل ذلك \"‬ ‫أي يكون للرجل أجر الصدقة‪ ،‬وللخادم أجر إخراجها‪،‬‬

‫ثانياً‪ :‬أن ظاهر الحديث يدل على أنه يجوز للزوجة الإِنفاق من طعام زوجها بإذنه‪،‬‬ ‫أو بغير إذنه‪ ،‬ما لم يكن هناك إسراف‪ ،‬لكن ليس على إطلاقه‪ ،‬وإنما هو محمولٌ‬ ‫على ما إذا أذن الزوج بالإِنفاق‪ ،‬أو ُعلِ َم رضاه عنه‬ ‫و عامة العلماء على أنه لا يجوز لها التصدق من مال زوجها بغير إذنه؛ أو علمها‬ ‫برضاه‪ ،‬وكذلك الخادم‬ ‫فلاب ّد أن تستأذن وتعمل بما يراه زوجها ‪ ،‬والإذن تارة يكون بالصراحة وتارة‬ ‫بالعرف بأن تعلم من حاله ومن طريقته ومن عادته أنه يسمح بهذا الشيء‬ ‫وجاء في \"فتاوى اللجنة الدائمة\" (‪: )٨١/١٠‬‬ ‫\"الأصل أنه ليس للمرأة أن تتصدق من مال زوجها بدون إذن منه ‪ ،‬إلا ما كان‬ ‫يسيراً قد جرت العادة به ‪ ،‬كصلة الجيران والسائلين بشيء يسير لا يضر زوجها‬ ‫‪ ،‬والأجر بينهما‬ ‫المراجع‬ ‫منار القاري‬ ‫شرح صحيح البخاري‬ ‫الإسلام سؤال وجواب‬

‫الحديث الثاني والخمسون‬ ‫َع ْن َح ِكي ِم ْب ِن ِح َزا ٍم رضي الله عنه َع ِن ال هن ِب ِّي صلى الله عليه وسلم َقالَ‪:‬‬ ‫«ا ْل َي ُد ا ْل ُع ْل َيا َخ ْي ٌر ِم َن ا ْل َي ِد ال ُّس ْفلَى‪َ ،‬وا ْب َد ْأ ِب َم ْن َت ُعولُ‪َ ،‬و َخ ْي ُر ال هص َد َق ِة َع ْن َظ ْه ِر ِغ ًنى‪،‬‬ ‫َو َم ْن َي ْس َت ْعفِ ْف ُي ِع هف ُه ال هلهُ‪َ ،‬و َم ْن َي ْس َت ْغ ِن ُي ْغ ِن ِه ال هلهُ»‬ ‫(البخاري‪)١٤2٨ :‬‬ ‫شرح الحديث‬ ‫يقول الرسول صلى الله عليه وسلم \"اليد العليا خير من اليد السفلى \"‬ ‫المقصود به‪ :‬أن يد المعطي أفضل من يد الآخذ‬ ‫\"وابدأ بمن تعول \" سئل أبو هريرة رضي الله عنه عن هذا من المقصود بمن‬ ‫تعول؟‪ ،‬فقال‪ :‬زوجتك‪ ،‬تقول‪ :‬أنفق عل ّي أو فارقني‪ ،‬وخادمك‪ ،‬يقول‪ :‬أطعمني‬ ‫واستعملني‪ ،‬وولدك‪ ،‬يقول‪ :‬إلى من تتركني؟‬ ‫والمقصود كل من تحت يده ممن استرعاه الله إياهم فهؤلاء هم من يعولهم ‪،‬و من‬ ‫يجب عليه نفقتهم‪ ،‬من زوجة ومن ولد وبنت‪ ،‬وكذلك أيضاً الوالد والوالدة‪ ،‬يعني‪:‬‬ ‫الآباء‪ ،‬وإن علوا إذا كانوا يحتاجون إليه‪ ،‬لا يجدون‪ ،‬فإنه يجب عليه أن ينفق‬ ‫عليهم‪.‬‬ ‫فالإنسان لا ينفق على الأبعدين أو يتصدق‪ ،‬ومن تحت يده من ولد وزوجة ونحو‬ ‫ذلك هم بحاجة ‪ ،‬فالكثير من الناس يظن أن ما يبذله الإنسان لأهله وولده أن هذا‬ ‫ليس من الصدقة‪ ،‬والواقع أن هذا من الصدقة التي يؤجر عليها‪ ،‬والنفقة على‬ ‫هؤلاء هي من قبيل الواجب‪ ،‬والنفقة على غيرهم هي من قبيل المستحب‬

‫\" وخير الصدقة ما كان عن ظهر غنى \" بعضهم فهم هذه الجملة (ما كان عن‬ ‫ظهر غنى ) قال‪ :‬إن التنكير هنا يدل على أن المتصدق في حال من الغنى الواسع‪،‬‬ ‫أي‪ :‬إنسان غني‬ ‫وبعضهم فهم منها أن المراد (ما كان عن ظهر غنى) أي‪ :‬أنك تعطي المتصدق‬ ‫عليه ما يغنيه‪ ،‬وهذا بعيد‬ ‫والأقرب ‪-‬والله تعالى أعلم‪ -‬أن المراد ( ما كان عن ظهر غنى) بمعنى أنه فيما زاد‬ ‫عن ضرورات الإنسان‪ ،‬ولهذا يقول النبي ﷺ‪ \" :‬أفضل الصدقة جهد المقل \"‬ ‫\" ومن يستعفف يعفه الله \" يعني‪ :‬يطلب العفاف‪ ،‬بمعنى أنه يتعفف لا يسأل‬ ‫الناس‪ ،‬ولا يمد يده لأحد‪ ،‬ولا يحتاج إلى المخلوقين‪ ،‬ويكف نفسه عن السؤال فإن‬ ‫الله يعينه ويغنيه عن خلقه أجمعين‪ ،‬ويمنحه العفة ويجعلها طبيعة له راسخة في‬ ‫نفسه فيأنف السؤال ويكرهه بطبيعته‬ ‫أما الذي يمد يده ويسأل الناس‪ ،‬و ُينزل بهم حاجاته وضروراته وفقره فمثل هذا قد‬ ‫لا ُتسد جوعته‪ ،‬ولا ينتهي فقره‪ ،‬وإنما يبقى في حال من البؤس؛ لأنه أنزل حاجته‬ ‫بمخلوق فقير ضعيف‬ ‫\" ومن يس َتغ ِن يغنه الله \" أي‪ :‬يطلب الغنى عن المخلوقين‪ ،‬يستغن عنهم‪ ،‬ويعمل‬ ‫ويسعى ويطرق أسباب الكسب الشريف (يغنه الله ) بمعنى‪ :‬أنه لا يحتاج إلى‬ ‫الناس‪ ،‬فيكفيه الله حاجاته ‪ ،‬فيهيء له أسباب الغنى ويغنيه عن الناس‬ ‫وفي رواية أخرى ‪َ \":‬و َم ْن َي َت َص هب ْر ُي َص ِّب ْر ُه ال هلهُ‪َ ،‬و َما أُ ْع ِط َي َأ َح ٌد َع َطا ًء َخ ْي ًرا َو َأ ْو َس َع‬ ‫ِم َن ال هص ْب ِر»‪( .‬البخاري‪ ،)١٤6٩ :‬أي ومن يعود نفسه على الصبر مرة بعد أخرى‬ ‫يمنحه الله إياه حتى يصبح طبيعة له‬

‫وما أعطى الله أحداً نعمة ولا خلقاً كريماً أفضل ولا أوسع من الصبر‪ ،‬لأنه يتسع‬ ‫لكل الفضائل‪ ،‬فكلها تصدر عنه‪ ،‬وتعتمد عليه من عفة‪ ،‬وشجاعة‪ ،‬وعزيمة‪،‬‬ ‫وإرادة‪ ،‬وإباء‪ ،‬وغيرها‪.‬‬ ‫فقه الحديث‪:‬‬ ‫دل هذا الحديث على ما يأتي‪:‬‬ ‫أولاً‪ :‬الترغيب في التعفف عن السؤال‪ ،‬لما فيه من إراقة ماء الوجه‪ ،‬وإهدار‬ ‫كرامة الإِنسان‪ ،‬فلا يجوز إ ّلا لحاجة ما ّسة على قدر الكفاية عند العجز عن السعي‪،‬‬ ‫قال صلى الله عليه وسلم ‪ \" :-‬لا تحل الصدقة لغني ولا لذي ِم هر ٍة َس ِوي \"‬ ‫ثانياً‪ :‬أن الأخلاق الكريمة يمكن اكتسابها والوصول إليهاعن طريق التعود عليها‬ ‫كما قال ‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪ \" :-‬ومن يستعف يعفه الله \"‬ ‫المراجع‬ ‫منار القاري‬ ‫شرح صحيح البخاري‬ ‫خالد السبت‬

‫الحديث الثالث والخمسون‬ ‫َع ْن أَبِي ُمو َسى رضي الله عنه َقالَ‪َ :‬كا َن َر ُسولُ ال هلهِ صلى الله عليه وسلم إِ َذا َجا َء ُه‬ ‫ال هسائِلُ َأ ْو ُطلِ َب ْت إِ َل ْي ِه َحا َج ٌة َقالَ‪:‬‬ ‫«ا ْش َف ُعوا ُت ْؤ َج ُروا‪َ ،‬و َي ْق ِضي ال هلهُ َعلَى لِ َسا ِن َن ِب ِّي ِه صلى الله عليه وسلم َما َشا َء»‬ ‫(البخاري‪)١٤٣2 :‬‬ ‫شرح الحديث‬ ‫يقول أبو موسى الأشعري رضي الله عنه‪ \" :‬كان رسول الله صلى الله عليه وسلم‬ ‫إذا جاءه السائل \" المحتاج بطلب الصدقة‬ ‫\" أو طلبت إليه حاجة \" أي أو جاءه صاحب الحاجة يطلب منه صلى الله عليه‬ ‫وسلم قضاءها له‪ ،‬ومساعدته عليها‬ ‫\" قال اشفعوا تؤجروا \" أي اسألوني واطلبوا مني قضاء حاجته ما لم تكن‬ ‫معصية أو إسقاط ح ٍد من حدود الله تعالى‪ ،‬أما ما عدا ذلك من الحاجات كإنظار‬ ‫المعسر‪ ،‬وإعانة المدين والإِصلاح بين متخاصمين فبادروا إلى السعي عندي في‬ ‫ذلك‬ ‫وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالشفاعة في الخير وب ّين أن الشافع مأجور‪،‬‬ ‫سواء حصل المطلوب أم لا‪ ،‬فإن قضاء الأمور وتحقيقها ليست بأيديهم‪ ،‬كما قال‬ ‫صلى الله عليه وسلم ‪ \" :‬ويقضي الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ما‬ ‫شاء\" وما أراد من قضاء ذلك الأمر أو عدمه‪.‬‬ ‫فقه الحديث‪ :‬دل الحديث على استحباب التحريض على الصدقة والشفاعة فيها‬ ‫وفي سائر أعمال الخير‪ ،‬وأن الساعي مأجور وإن خاب سعيه‬

‫الحديث الرابع والخمسون‬ ‫َع ْن أَ ْس َما َء رضي الله عنها َقا َل ْت‪َ :‬قالَ لِ َي ال هن ِب ُّي صلى الله عليه وسلم ‪:‬‬ ‫«لا ُتو ِكي َف ُيو َكى َعلَ ْي ِك»‬ ‫وفي رواية‪َ :‬قالَ‪« :‬لا ُت ْح ِصي َف ُي ْح ِص َي ال هلهُ َع َل ْي ِك»‬ ‫(البخاري‪)١٤٣٣ :‬‬ ‫شرح الحديث‬ ‫وفي رواية‪« :‬لا ُتو ِعي َف ُيو ِع َي ال هلهُ َعلَ ْي ِك‪ ،‬ا ْر َض ِخي َما ا ْس َت َط ْع ِت»‬ ‫يقول صلى الله عليه وسلم لأسماء رضي الله عنها ‪:‬‬ ‫\" لا ُتو ِكي \" بمعنى لا ُتمسكي ‪ ،‬يقال‪ :‬أوكأ سقاءه إذا شده بالوكاء‪ ،‬وهو الخيط‬ ‫الذي يشد به رأس القربة‪ ،‬أي لا تمنعي ما عندك‬ ‫فالإنسان حينما يوكي الإناء بمعنى أنه يحكم إغلاقه‪ ،‬إذا كان عند الإنسان ص ّرة‬ ‫من مال ثم أوكى هذه الصرة فمعنى ذلك أنه أغلقها وربطها وأحكم ربطها فلا‬ ‫يخرج منها شيء‬ ‫\" ف ُيو َكى علي ِك \" أي لا تمنعي مالك عن الصدقة خشية نفاده فتنقطع عنك مادة‬ ‫الرزق‬ ‫\" لا ُتو ِكي ف ُيو َكى عليك\" ِ يعني‪ :‬لا تمسكي ما عند ِك‪ ،‬لا تمنعي ما بيدك فيو َكى‬ ‫علي ِك‪ ،‬أي‪ :‬فيكون ذلك متسبباً بمنع الرب تبارك وتعالى رزقه عنك‪ ،‬والجزاء من‬ ‫جنس العمل‪ ،‬فالذي ُيحسن وينفق يحسن الله تبارك وتعالى إليه‪ ،‬والذي يوسع‬ ‫على أهله أو على إخوانه المسلمين المحتاجين حري بأن يعامله الله تبارك وتعالى‬ ‫بالمثل‬

‫\" ولا ُتحصي ف ُيحصي الله علي ِك\" ُفسر بمعنى لا تدخري‪ ،‬ولكنه يمكن أن ُيفسر‬ ‫بمعنى مقارب لا ُتحصي ف ُيحصي الله علي ِك‪ ،‬بمعنى أن الإنسان لا يدقق في نفقاته‬ ‫بحيث يحسب كم يخرج وكم يبقى وإذا أخرج هذه النفقة كم سيبقى عنده بعدها وما‬ ‫إلى ذلك من هذا التنقير الذي قد يكون سبباً لذهاب البركة‪ ،‬لا ُتحصي ف ُيحصي الله‬ ‫علي ِك‪.‬‬ ‫\" ولا توعي فيوعى الله علي ِك \" لا توعي بمعنى لا تمنعي ما زاد عن حاجتك‪ ،‬لا‬ ‫تمنعيه عمن احتاج إليه فيكون ذلك سبباً لمنع الله رزقه عن ِك‪ ،‬فيقال‪ :‬أو َعى بمعنى‬ ‫جمع‪ ،‬وتوعد الله من جمع فأوعى‬ ‫ولهذا في هذا الحديث قال‪\" :‬وانفحي \"‪ ،‬بمعنى أنفقي‪ ،‬وهكذا في الروايات الأخرى‬ ‫\"أنفقي أو انفحي أو انضحي\"‬ ‫فقه الحديث‪:‬‬ ‫ويستفاد منه‪ :‬أن الصدقة تنمي المال‪ ،‬وأن البخل بالصدقة سيما الواجبة يؤدي إلى‬ ‫إتلافه‬ ‫المراجع‬ ‫منار القاري‬ ‫شرح صحيح البخاري‬ ‫خالد السبت‬

‫الحديث الخامس والخمسون‬ ‫َع ْن أَ ِبي ُه َر ْي َر َة رضي الله عنه أَ هن ال هن ِب هي صلى الله عليه وسلم َقالَ‪:‬‬ ‫« َما ِم ْن َي ْو ٍم ُي ْص ِب ُح ا ْل ِع َبا ُد ِفي ِه إِ هلا َملَ َكا ِن َي ْن ِزلا ِن‪َ ،‬ف َي ُقولُ َأ َح ُد ُه َما‪ :‬الله ُه هم أَ ْع ِط ُم ْنفِ ًقا‬ ‫َخ َل ًفا‪َ ،‬و َيقُولُ الآ َخ ُر‪ :‬ال هل ُه هم أَ ْع ِط ُم ْم ِس ًكا َتلَ ًفا»‬ ‫(البخاري‪)١٤٤2 :‬‬ ‫شرح الحديث‬ ‫الﻤال الﺬي أعﻄاه الله بﻨي آدم‪ ،‬أعﻄاهﻢ الله إياه فﺘﻨة؛ لﻴﺒلﻮهﻢ هﻞ يﺤﺴﻨﻮن‬ ‫الﺘﺼﺮف فﻴه أم لا! قال الله تعالى‪ ﴿ :‬إِ هن َما أَ ْم َوالُ ُك ْم َو َأ ْو َلا ُد ُك ْم ِف ْت َن ٌة َوال هلهُ ِع ْن َد ُه َأ ْج ٌر‬ ‫َع ِظي ٌم [التغابن‪]١5 :‬‬ ‫فﻤﻦ الﻨاس مﻦ يﻨفقه في شهﻮاته الﻤﺤﺮمة‪ ،‬وفي لﺬائﺬه الﺘي لا تﺰيﺪه مﻦ الله إلا‬ ‫ُبع ًدا‪ ،‬فهﺬا يﻜﻮن ماله وبالاً علﻴه ‪ ،‬ومﻦ الﻨاس مﻦ يﻨفقه ابﺘغاﺀ وجه الله فﻴﻤا‬ ‫ُيق ِّرب إلى الله على حﺴﺐ شﺮيعة الله‪ ،‬فهﺬا يكون ماله خي ًرا له‪.‬‬ ‫ومﻦ الﻨاس مﻦ يﺒﺬل ماله في غﻴﺮ فائﺪة‪ ،‬لﻴﺲ في شيﺀ مﺤﺮم ولا في شيﺀ‬ ‫مﺸﺮوع‪ ،‬فهﺬا ماله ضائع علﻴه‬ ‫\" ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان \" هذا في كل أيام السنة‪ ،‬يقول‬ ‫أحدهما‪:‬‬ ‫\"اللهم أع ِط منفقاً خلفاً \" من ينفق على عياله ‪ ،‬وكذلك النفقة على القرابات‪ ،‬على‬ ‫الفقراء‪ ،‬على المحتاجين‪ ،‬وما أشبه هذا‪ ،‬أي‪ :‬دعاء َّلل أن يعطيه خل ًفا عﻨه خي ًرا‬ ‫منه‬ ‫ويقول الآخر‪ \" :‬اللهم أعط ممسكاً تلفاً \" يعني أتلﻒ ماله‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook