الحديث السابع و العشرون بعد المائة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :قال رسول صلى الله عليه وسلم (( :ل َق ْد َرأَ ْي ُت َر ُجلا َي َت َقلَّ ُب في ال َج َّن ِة ،في َش َج َرة َق َط َعها ِمن َظ ْه ِر ال َّط ِري ِق ،كا َن ْت ُت ْؤ ِذي ال َّنا َس )) (مسلم) شرح الحديث و في رواية(( :مر رجل بغصن شجرة على ظهر طريق ،فقال :والله لأنحين هذا عن المسلمين لا يؤذيهم ،فأدخل الجنة)) و في رواية للبخاري ومسلم (( :بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق فأخره فشكر الله له ،فغفر له)) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال(( :لقد أريت رجلا يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي المسلمين)) و في الرواية الأخرى :أنه دخل الجنة ،وغفر الله له بسبب غصن أزاله عن طريق المسلمين ،أزال غصن شوك يؤذي المسلمين عن الطريق ،أبعده ونحاه ،فشكر الله له ذلك ،وأدخله الجنة ((رأيت رجلا يتقلب في الجنة في شجرة قطعها)) فهذا بمعنى السببية ،يعني :بسبب شجرة قطعها ،يعني :ما دخل الجنة بقيام الليل ،ولا بصيام النهار ،ولا بكثرة بذل وإنفاق ،إنما هو بعمل يسير ،بشجرة قطعها أو بغصن شجرة ،غصن شوك على الطريق ،فأخره ،فكيف بمن دفع عن المسلمين ما هو أعظم من غصن الشجرة؟! ،كيف بمن قدم للمسلمين شيئا ينفعهم ويرفعهم ويبقى أثره بعد موته؟! ،فأين هذا من غصن شجرة؟.
ففيه دليل على فضيلة إزالة الأذى عن الطريق ،وأنه سبب لدخول الجنة. و فيه أيضا دليل على أن الجنة موجودة الآن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى هذا الرجل يتقلب فيها ،وهذا أمر دل عليه الكتاب والسنة ،وأجمع عليه أهل السنة والجماعة؛ أن الجنة موجودة الآن.
الحديث الثامن و العشرون بعد المائة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :قال رسول صلى الله عليه وسلم َ (( :من َت َو َّضأَ فأ ْح َس َن ال ُو ُضو َءُ ،ث َّم أ َتى ال ُج ُم َع َة ،فا ْس َتمع وأَ ْن َص َتُ ،غ ِف َر له ما ب ْي َن ُه وب ْي َن ال ُج ُم َع ِة ،و ِزيا َدةُ َثلا َث ِة أ َّيام ،و َمن َم َّس ال َح َصى ف َق ْد َلغا )) (مسلم) شرح الحديث يو ُم ال ُج ُمع ِة َيو ٌم َعظي ٌم ،وهو يو ُم عيد أسبوع ٍّي لل ُمسلِمين؛ ففيه َيج َت ِمعون على َصلا ِة الج ُمع ِة ،الَّتي ج َعل اللهُ فيها أجرا عظيما لِ َمن أح َس َن الاس ِتما َع لِ ُخط َبتِها وأحس َن أدا َء َصلاتِها ،ول ِك ْن ليس كلُّ َمن َيح ُض ُر صلا َة الج ُمع ِة على د َرجة واحدة. و في هذا الحدي ِث َيقولُ ال َّنب ُّي صلى الله عليه وسلم َ (( :من ت َو َّضأَ فأح َس َن ال ُوضو َء)) أي :أ َتى به على الوج ِه الأك َم ِل والأت ِّم له ،وأعطى كلَّ عضو ح َّقه ِمن الما ِء. ((ث َّم أتى الج ُمع َة)) ،أي :صلا َة الجمع ِة. ((فاس َت َم َع وأن َصت)) ،أي :اس َت َمع ل ُخط َب ِة الإما ِم بإنصات وت َع ُّقل ،ولم ي َتك ّلَ ْم، وجلَس في َمكا ِنه ولم ي َتح َّر ْك ولم ي َتق َّد ِم ال ُّصفو َف ،أو ي َتن َّقلْ ُمتخ ِّطيا ال ِّرقا َب. (( ُغفِر له ما بي َن ال ُجمع ِة إلى الجمع ِة ،و ِزيادةُ ثلاث ِة أ َّيام)). أيُ :يك ِّف ُر اللهُ ع َّز وجلَّ ِمن ُذنو ِبه َع َشر َة أ َّيام؛ وذلك بأ َّن الل َه ع َّز وجلَّ َيقولُ: { َم ْن َجا َء بِا ْل َح َس َن ِة َف َل ُه َع ْش ُر أَ ْم َثالِ َها} [الأنعام]160 : و المرا ُد ُغفرا ُن ال ُّذنو ِب ال َّصغائ ِر لا ال َكبائ ِر؛ كما ب َّي َنت ال ِّروايا ُت الأخرى؛ لأ َّن الكبائ َر لا ُب َّد لها ِمن ال َّتوب ِة وع َد ِم العود ِة. ((و َمن م َّس ال َحصى)) ،أي :ان َش َغل عن ال ُخط َب ِة أ ِو ال َّصلا ِة بم ِّس ال َحصى أو ما شاب َه ذلك من الجوال أو الساعة او غيرها
((فقد لَغا)) ،أيَ :تكلَّ َم بما لا ُيش َر ُع له ،وي َتح َّق ُق ال َلّغ ُو بأ ِّي شيء ِمن الكلا ِم، ح َّتى وإن قال ال َّر ُجلُ لأَخيه :أن ِص ْت. و َمن َلغا فلا ح َّظ له ِمن أج ِر وثواب الجمع ِة. ففي الحدي ِث :بيا ُن فض ِل يو ِم الجمع ِة. و دليل على أن الحضور إلى الجمعة بعد أن يحسن الإنسان وضوءه ،ثم يستمع إلى الخطيب وهو يخطب ،وينصت ،فإنه يغفر له ما بين الجمعة إلى الجمعة ،وفضل ثلاثة أيام. و فيه :الح ُّث على الإنصا ِت و ُحس ِن الاس ِتما ِع يو َم الجمع ِة مع ُمراعا ِة الآدا ِب، وذلك له أج ٌر عظي ٌم. و فيه :ال َّزج ُر عن ال َّلغ ِو أثنا َء ُخطب ِة الجمع ِة؛ لأ َّنه ُمض ِّي ٌع للأج ِر.
الحديث التاسع و العشرون بعد المائة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :قال صلى الله عليه وسلم: (( إِ َذا َت َو َّضأَ ال َع ْب ُد ال ُم ْسلِ ُم ،أَ ِو ال ُم ْؤ ِم ُنَ ،ف َغ َسلَ َو ْج َه ُه َخ َر َج ِمن َو ْج ِه ِه ُكلُّ َخ ِطي َئة َن َظ َر إِ َل ْي َها ب َع ْي َن ْي ِه مع ال َما ِء ،أَ ْو مع آ ِخ ِر َق ْط ِر ال َما ِءَ ،فإِ َذا َغ َسلَ َي َد ْي ِه َخ َر َج ِمن َي َد ْي ِه ُكلُّ َخ ِطي َئة كا َن َب َط َش ْت َها َي َداهُ مع ال َما ِء ،أَ ْو مع آ ِخ ِر َق ْط ِر ال َما ِء، َفإِ َذا َغ َسلَ ِر ْجلَ ْي ِه َخ َر َج ْت ُكلُّ َخ ِطي َئة َم َش ْت َها ِر ْج َلاهُ مع ال َما ِء ،أَ ْو مع آ ِخ ِر َق ْط ِر ال َما ِء ،ح َّتى َي ْخ ُر َج َنقِيا ِم َن ال ُّذ ُنو َب)) (مسلم) شرح الحديث هذا الوضوء تطهر فيه الأعضاء الأربعة؛ الوجه ،اليدان ،والرأس، والرجلان ،وهذا التطهير يكون تطهيرا حسيا ،ويكون تطهيرا معنويا. أما كونه تطهيرا حسيا ؛ لأن الإنسان يغسل وجهه ،ويديه ،ورجليه ،ويمسح الرأس فإذا توضأ الإنسان لا شك أنه يطهر أعضاء الوضوء تطهيرا حسيا. أما الطهارة المعنوية ،وهي التي ينبغي أن يقصدها المسلم ،فهي تطهيره من الذنوب ،فإذا غسل وجهه ،خرجت كل خطايا نظر إليها بعينه ،وذكر العين ـ والله أعلم ـ إنما هو على سبيل التمثيل. و إلا فالأنف قد يخطئ ،والفم قد يخطئ؛ فقد يتكلم الإنسان بكلام حرام ،وقد يشم أشياء ليس له حق يشمها ،ولكن ذكر العين؛ لأن أكثر ما يكون الخطأ في النظر. فلذلك إذا غسل الإنسان وجهه بالوضوء خرجت خطايا عينيه ،فإذا غسل يديه خرجت خطايا يديه ،فإذا غسل رجليه خرجت خطايا رجليه ،حتى يكون نقيا من الذنوب.
(( َفإذا َغسلَ َيد ْي ِه َخر َج ِمن َيدي ِه)) أ ْيَ :ذه َب و ُم ِح َي ْت ُكلُّ َخطي َئة كا َن َبط َش ْتها، أ ْي :أخ َذ ْتها َيداهُ ،أ ْيَ :كال ُملام َس ِة ال ُمح َّرم ِة و َغي ِرها َم َع الما ِء ((أ ْو َمع آ ِخ ِر َقط ِر الما ِء)) (( َفإذا َغسلَ ِرجلَي ِه َخر َج ْت ُكلُّ َخطي َئة َمش ْتها ِرجلا ُه َمع ا ْلما ِء (أ ْو َم َع آخ ِر َقط ِر ا ْلما ِء)) ((ح َّتى َيخ ُر َج َنقيا ِم َن ال ُّذنو ِب)) ،أ ْيُ :ذنو ِب ا ْلأعضا ِء أو َجمي ِع ال ُّذنو ِب ِم َن ال َّصغائ ِر فينبغي للإنسان إذا توضأ أن يستشعر هذا المعنى ،أي أن وضوءه يكون تكفيرا لخطيئاته ،حتى يكون بهذا الوضوء محتسبا الأجر على الله ـ عز وجل و في الحدي ِث َ :فضلُ ال ُوضو ِء ،وأ َّنه ُيك ِّف ُر ال ُّذنو َب
الحديث الثلاثون بعد المائة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :قال رسول صلى الله عليه وسلم : ((ال َّصلَ َوا ُت ال َخ ْم ُسَ ،وا ْل ُج ْم َع ُة إلى ال ُج ْم َع ِةَ ،و َر َم َضا ُن إلى َر َم َضا َنُ ،م َك ِّف َرا ٌت ما ب ْي َن ُه َّن إِ َذا ا ْج َت َن َب ال َك َبائِ َر )) ( مسلم) شرح الحديث خلِ َق الإنسا ُن َضعيفاُ ،يخ ِطئ و ُيذ ِن ُب ،و َيغلِ ُبه ال َّشيطا ُن وال َّنف ُس ،وق ْد ج َعلَ اللهُ تعالى له أُمورا ُتك ِّفر الس ِّيئا ِت إذا اج َتن َب ال َكبا ِئر ،ومنها ما َذك َره النب ُّي صلى الله عليه وسلم في هذا الحدي ِث ،حي ُث قال(( :ال َّصلوا ُت ال َخم ُس)) ،أيُ :كلُّ صلاة إلى التي َتليها ((والج ُم َع ُة إلى ال ُجم َع ُة)) ،أيَ :صلا ُة الج ُم َع ِة إلى ال ُجم َع ِة التي َتليها ((ورمضا ُن إلى ر َمضا َن)) ،أي :وصيا ُم رمضا َن إلى ر َمضا َن الذي َيلي ِه. كلُّ هؤلا ِء (( ُمك ِّفرا ٌت ما بي َنه َّن إذا اج ُتن َب ِت ال َكبائ ُر)) ،أيُ :مك ِّفرا ٌت ل َصغائ ِر ال ُّذنو ِب والآثا ِم ،وإ َّنما لل َكبائ ِر في َتكفي ِرها شأ ٌن آ َخ ُر ،أ َلا وهو ال َّتوب ُة و ((ال َكبا ِئ ُر)) المقصو ُد بها ال ُّذنو ُب ال َعظيم ُة ،وهي كلُّ َذنب أُ ْطلِ َق عليه -في ال ُقرآ ِن ،أو ال ُّس َّن ِة ال َّصحيح ِة ،أو الإجماع -أ َّنه َكبيرةٌ ،أو أ َّنه ذن ٌب َعظيم ،أو أُ ْخ ِبر فيه ب ِش َّد ِة العقا ِب ،أو كا َن فيه َحد ،أو ُش ِّد َد ال َّنكي ُر على فاعلِه ،أو و َرد فيه َل ْع ُن فاعلِه ،و قيل :الكبائِ ُر هي كلُّ ِفعل َقبيح َش َّد َد ال َّش ْر ُع في ال َّنهيِ عنه، وأ ْع َظ َم أ ْم َره. و في الحدي ِث :بيا ٌن ل َسع ِة رحم ِة الل ِه ع َّز وجلَّ و َتف ُّضله بالمغفر ِة وإ ْعطاء الأ ْج ِر العظي ِم على ال َعم ِل ال َقلي ِل
الحديث الحادي والثلاثون بعد المائة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :قال رسول صلى الله عليه وسلم: \"أَلا أ ُدلُّ ُك ْم ع َلى ما َي ْم ُحو ال َّلهُ به ال َخطايا ،و َي ْر َف ُع به ال َّد َرجا ِت؟\" قالُوا َ :ب َلى يا َرسولَ الل ِه قالَ \" :إ ْسبا ُغ ال ُو ُضو ِء علَى ال َمكا ِر ِه ،و َك ْث َر ُة ال ُخطا إلى ال َمسا ِج ِد ،وا ْنتِظا ُر ال َّصلا ِة َب ْع َد ال َّصلا ِةَ ،ف َذلِ ُك ُم ال ِّربا ُط\" وفي رواية ( َف َذ ِل ُك ُم ال ِّربا ُطَ ،ف َذلِ ُك ُم ال ِّربا ُط) (رواه مسلم) شرح الحديث كان ال َّنب ُّي ص ّلَى الله عليه وسلَّم َيح ِرص على أ ْن َي ُدلَّ أصحا َبه ر ِض َي اللهُ عنهم على الخي ِروفي هذا المعنى يقول ال َّنب ُّي ص َّلى الله عليه وسلَّم ُمخا ِطبا أصحابه: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ،ويرفع به الدرجات؟ ) أي :أَ َلا ُتريدون أ ْن أُخ ِبركم وأُ ْطلِ َعكم( ،على ما َي ْمحو اللهُ) ،أيَ :يغ ِفر و َيس ُتر ،به (الخطايا) أي :ما كان من ُذنوب ومعاص (و َيرفع به ال َّدرجات) ،أي :ويكون سببا في ُعلُ ِّو ال َمن ِزلة في ال ُّدنيا والآ ِخرة؟ يعرض النبي صلى الله عليه وسلم عليهم هل يخبرهم ،ومن المعلوم أنهم سيقولون :نعم يا رسول الله أخبرنا ،ولكنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ اتخذ هذه الصيغة وهذا الأسلوب من أجل أن ينتبهوا إلى ما سيلقى إليهم (قالوا :بلى يا رسول الله) يعني نعم أخبرنا ودلنا يارسول الله على ذلك الخير ،فإننا نود أن تخبرنا بما ترفع به الدرجات وتمحى به الخطايا قال( :إسباغ الوضوء على المكاره ،وكثرة الخطا إلى المساجد ،وانتظار الصلاة بعد الصلاة) هذه ثلاثة أشياء:
أولا ( :إسباغ الوضوء على المكاره) ،يعني إتمام الوضوء وإعطاء كل عضو حقه من الماء ،والمكاره تكون بشدة البرد في أيام الشتاء؛ لأن أيام الشتاء يكون الماء فيها باردا .وإتمام الوضوء يعني إسباغه ،فيكون فيه مشقة على النفس ،فإذا أسبغ الإنسان وضوءه مع هذه المشقة ،دل هذا على كمال الإيمان ،فيرفع الله بذلك درجات العبد ويحط عنه خطيئته. ثانيا ( :كثرة الخطا إلى المساجد) ،أي والإكثار من الذهاب إلى المساجد لإدراك الجماعات ،وذلك في الصلوات الخمس ،ولو بعد المسجد فإنه كلما بعد المسجد عن البيت ازدادت حسنات الإنسان ،فإن الإنسان إذا توضأ في بيته وأسبغ الوضوء ،ثم خرج منه إلى المسجد ،لا يخرجه إلا الصلاة ،لم يخط خطوة واحدة إلا رفع الله له بها درجة ،وحط عنه بها خطيئة. ثالثا( :انتظار الصلاة بعد الصلاة) وهذا يحتمل البقاء في المسجد وانتظار الفرائض والصلاة بعد الصلاة ،ويحتمل أن يكون ذلك بانتظاره لها ،واشتغال قلبه بها ،أي أن الإنسان من شدة شوقه إلى الصلوات ،كلما فرغ من صلاة، فقلبه متعلق بالصلاة الأخرى ينتظرها ،فإن هذا يدل على إيمانه ومحبته وشوقه لهذه الصلوات العظيمة ،فإذا كان ينتظر الصلاة بعد الصلاة ،فإن هذا مما يرفع الله به الدرجات ،ويكفر به الخطايا وقوله صلى الله عليه وسلم( :فذلكم الرباط) أي هذه الأعمال الثلاثة هي : الرباط أي يكون صاحبها في منزلة من يرابط في سبيل الله تعالي وأصل الرباط :الإقامة على جهاد العدو بالحرب وارتباط الخيل وإعدادها ،والمرابط في سبيل الله هو الذي يلازم ثغور ( وهي حدود البلاد الإسلامية) بلاد المسلمين مع بلاد الكفار لحراستها ،وهذا من أعظم الإعمال عند الله عز وجل ،فلذلك شبه به ما ذكر من الأفعال الصالحة والعبادة في هذا الحديث، أي أن المواظبة على الطهارة والصلاة والعبادة كالجهاد في سبيل الله
قوله( :فذلكم الرباط) كررها في بعض الروايات كما في صحيح مسلم ،في بعض الروايات كررها مرتين ،وفي بعضها ثلاثا ،وهنا ذكرها واحدة، والتكرار لا شك أنه يفيد التأكيد .وقوله :فذلكم الرباط ،كأنه يفهم منه أن ذلك هو الرباط الكامل ،يعني :أنه ما تحقق فيه الوصف الكامل من هذه الحقيقة التي هي الرباط ،يعني :هذا هو الرباط الأتم والأوفى ،وإن كان غيره يسمى رباطا ،وهو المكث في الثغور في مقابلة العدو.
الحديث الثاني والثلاثون بعد المائة عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال :قال رسول صلى الله عليه وسلم : \" َمن َص ّلَى ال َب ْر َد ْي ِن َد َخلَ ا ْل َج َّن َة\" (متفق عليه) شرح الحديث َج َعل اللهُ ع َّز وجلَّ أعمالَ العبادا ِت َيف ُضل بع ُضها على بعض لِما تتم َّيز به؛ وج َع َلها سببا ل ُدخو ِل الج َّن ِة ومن تلك الأعما ِل ما ذكره النب ُّي ص َّلى الله عليه وسلَّم في هذا الحدي ِث ،حيث قال: » َم ْن َص َلّى ال َب ْر َد ْي ِن َد َخلَ ال َج َّن َة« أيَ :م ْن صلَّى ها َتي ِن الصلا َت ْي ِن و ُهما ال َفج ُر وال َعص ُر ،و ُهما وق ُت إِبرا ِد ال َج ِّو وت َل ُّط ِف ِه في الصبا ِح حي ُث تظه ُر ُرطوب ُة الهوا ِء و ُبرو َد ُت ُه ،وعن َد العص ِر حي ُث يظه ُر ان ِكسا ُر حرار ِة ال َّنها ِر وال ُّدخولُ في وق ِت اعتدا ِل ال َج ِّو .فم ْن ص َلّى ها َتي ِن الصلا َتي ِن دخلَ الج َّن َة. (البردان) :هما صلاة الفجر وصلاة العصر ،وذلك لأن صلاة الفجر تقع في أبرد ما يكون من الليل ،وصلاة العصر تقع في أبرد ما يكون من النهار بعد الزوال ،من صلاهما دخل الجنة ،يعني أن المحافظة على هاتين الصلاتين وإقامتهما من أسباب دخول الجنة. وقد ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال( :إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر) هذا فيه تشبيه الرؤيا بالرؤيا ،وليس المعنى تشبيه المرئي بالمرئي ،لأن الله ليس كمثله شيء ،ولكنكم ترونه رؤية حقيقية مؤكدة كما يرى الإنسان القمر ليلة البدر ،وإلا فإن الله عز وجل أجل وأعظم من أن يشابهه شيء من مخلوقاته
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم في آخر هذا الحديث( :فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا) يعني بالتي قبل الطلوع الشمس :الفجر ،والتي قبل غروبها :العصر ،فهاتان الصلاتان هما أفضل الصلوات وأفضلها صلاة العصر؛ لأنها هي الصلاة الوسطى التي قال الله تعالىَ ( :حا ِف ُظوا َعلَى ال َّصلَ َوا ِت َوال َّصلا ِة ا ْل ُو ْس َطى َو ُقو ُموا لِ َّل ِه َقا ِنتِي َن) (البقرة)238 : فإنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في غزوة الأحزاب( :ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر) وهذا نص صريح من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر. وقوله عليه الصلاة والسلام( :من صلى البردين) المراد صلاهما على الوجه الذي أمر به ،ذلك بأن يأتي بهما في الوقت ،وإذا كان من أصحاب الجماعة كالرجال فليأت بهما مع الجماعة ،لأن الجماعة واجبة ،ولا يحل لرجل أن يدع صلاة الجماعة في المسجد وهو قادر عليها .هنا ال َفج َر والعص َر؛ لأ َّن الفج َر يكو ُن عن َد ل َّذ ِة النو ِم ،والعص َر يكو ُن عن َد اشتِغا ِل الإنسا ِن ب َعملِ ِه ،فم ْن حا َف َظ علي ِهما كا َن من با ِب َأ ْولى أ ْن ُيحافِ َظ على بق َّي ِة ال َّصلوا ِت وهذا الحديث يدل على سعة فضل الله ورحمته ،وأن الجنة قد تنال بأعمال يسيرة يفرط فيها كثير من الناس
الحديث الثالث والثلاثون بعد المائة عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال :قال رسول صلى الله عليه وسلم: \"إ َذا َم ِر َض ال َع ْب ُد ،أ ْو َسا َف َرُ ،كتِ َب له ِم ْثلُ ما كا َن َي ْع َملُ ُمقِيما َص ِحيحا\" (صحيح البخاري) شرح الحديث \"إذا م ِرض العب ُد أو سا َفرُ ،كتِب له ِمثلُ ما كان يع َملُ ُمقِيما صحيحا\" أي :إ َّن َمن كان يع َملُ عملا صالحاِ ،من صلا ِة تط ُّوع أو صيا ِم تط ُّوع أو نح ِوه ،ث َّم سا َفر أو م ِرض ،فم َنعه ذلك ِمن أدا ِء العبادة ا َّلتي كان يتط َّو ُع بها، ك َتب اللهُ له أج َر ِمث ِل العبادة الَّتي كان يف َعلُها في حا ِل ص َّح ِته وحا ِل إقام ِته ، أي أن الإنسان إذا كان من عادته أن يعمل عملا صالحا ،ثم مرض أو سافر فلم يقدر عليه ،فإنه يكتب له الأجر كاملا فإذا كنت مثلا من عادتك أن تصلي مع الجماعة ،ثم مرضت ولم تستطيع أن تصلي مع الجماعة ،فكأنك مصل مع الجماعة ،يكتب لك سبع وعشرون درجة ،ولو سافرت وكان من عادتك وأنت مقيم في البلد أن تصلي نوافل، وأن تقرأ قرآنا ،وأن تسبح وتهلل وتكبر ،ولكنك لما سافرت انشغلت بالسفر عن هذا ،فإنه يكتب لك ما كنت تعمله في البلد مقيما ،مثلا لو سافرت وصليت وحدك في البر ليس معك أحد ،فإنه يكتب لك صلاة الجماعة كاملا إذا كنت في حال الإقامة تصلي مع الجماعة. وفي هذا تنبيه على أنه ينبغي للعاقل ما دام في حال الصحة والفراغ ،أن يحرص على الأعمال الصالحة ،حتى إذا عجز عنها لمرض أو شغل كتبت له كاملة .اغتنم الصحة ،اغتنم الفراغ ،اعمل صالحا ،حتى إذا شغلت عنه بمرض أو سفر كتب لك كاملا
وهذا يخرج منه الفرائض؛ لأن الفرائض يجب على الإنسان أن يعملها ،لكن يدخل في ذلك ألوان النوافل ،مثل صيام التطوع وصلاة السنن الرواتب وقيام الليل ولذلك لما مرض ابن مسعود رضي الله عنه بكى ،فسأله بعض أصحابه، قالوا :هل تبكي جزعا من المرض؟ ،فقال :لا ،ولكنه قد نزل بي في وقت فترة ( يعني :في وقت فتور من الأعمال) ،لم يكن ُمجدا في ذلك الوقت في الأعمال الصالحة والصيام والنوافل والقيام ،وما أشبه ذلك فجاء المرض، فما يكتب له إلا ما كان معتادا له قبل المرض ،فحزن لهذا السبب وبك . وفي الحدي ِث :عظي ُم فض ِل الله تعالى على ِعبا ِده ،وفضلُ العم ِل في حا ِل الإقام ِة وال ِّص َّحة؛ لينالَ هذا الأ ْج َر إذا سا َف َر أو َم ِرض
الحديث الرابع والثلاثون بعد المائة عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال :قال رسول صلى الله عليه وسلم: \" ُكلُّ َمعروف َص َد َق ٌة\" (رواه البخاري ،ورواه مسلم من رواية حذيفة رضي الله عنه) شرح الحديث قال النبي صلى الله عليه وسلم( :كل معروف صدقة( المعروف :ما عرف في الشرع حسنه إن كان مما يتعبد به لله ،وإن كان مما يتعامل به الناس فهو مما تعارف الناس على حسنه وهذا الحديث (كل معروف) يشمل هذا وهذا ،فكل عمل تتعبد به إلى الله فإنه صدقة ،كما ورد في حديث سابق( :كل تسبيحة صدقة ،وكل تهليلة صدقة، وكل تحميدة صدقة ،وأمر بالمعروف صدقة ،ونهى عن المنكر صدقة). وأما ما يتعارف عليه الناس على حسنه مما يتعلق بالمعاملة بين الناس فهو معروف ،مثل الإحسان إلى الخلق بالمال ،أو بالجاه ،أو بغير ذلك من أنواع الإحسان .ومن ذلك :أن تلقى أخاك بوجه طلق لا بوجه عبوس ،وأن تلين له القول ،وأن تدخل عليه السرور ف ُصن ُع المعرو ِف مندو ٌب إليه ،ودلَّ هذا الحدي ُث على أ َّن ِفع َله ِصدق ٌة عند الل ِه، ُيثي ُب المؤم َن عليه ،و ُيجازيه به وإ ْن َّقل؛ لعمو ِم قولِه( :كلُّ معروف َصدق ٌة) ؛ فكلُّ معروف يص َن ُعه الإنسا ُن ِمن أعما ِل الخي ِر وال ِب ِّر له ُحك ُم ال َّصدق ِة في ال َّثواب؛ فإغاث ُة الملهو ِف صدق ٌة ،والكلم ُة الط ِّيبة صدق ٌة ،و ِقراءةُ ال ُقرآن َصدق ٌة ،ونوافلُ العبادا ِت البدن َّي ِة ك ِّلها صدق ٌة ويؤخذ من هذا الحديث أن الصدقات لا تختص ببذل المال ،ودفعه في وجوه البر ،فهذا من الصدقات ،ولكن الصدقات تتعدى ذلك فهي تكون بالمال، وتكون أيضا بالأعمال الأخرى بالكلام والفعل والتبسم ،وما إلى ذلك ،كل هذا صدقة ،فمن الذي يعجز أن يتصدق؟
الحديث الخامس والثلاثون بعد المائة عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال :قال رسول صلى الله عليه وسلم: \"ما ِمن ُم ْسلِم َي ْغ ِر ُس َغ ْرسا إ َّلا كا َن ما أُ ِكلَ منه له َص َد َقة ،وما ُس ِر َق منه له َص َد َق ٌة ،ولا َي ْر َز ُؤهُ أ َح ٌد إ َّلا كا َن له َص َد َق ٌة\" (صحيح مسلم( وفي رواية له(( :فلا يغرس المسلم غرسا فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا طير إلا كان له صدقة إلى يوم القيامة)). وفي رواية له(( :لا يغرس مسلم غرسا ،ولا يزرع زرعا ،فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا شيء ،إلا كانت له صدقة)). شرح الحديث ما من َعبد ُمسلم َيقو ُم بعمل نافع إ َّلا َك َت َب اللهُ له به الأج َر وال َّثوا َب ،وفي هذا الحدي ِث ُي َن ِّب ُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على َف ْض ِل ال َغر ِس وال َّزر ِع ،وأ َّنه ما من ُمسلم َيغ ِر ُس أو َيزر ُع شيئا ،ف َيتع َّدى َنف ُع هذا ال َّزر ِع ف َيأكلُ منه الإنسا ُن أو ال َّطي ُر أو ال َبهي َم ُة ،إ َّلا كان له أَ ْج ٌر بذلك ففي هذا الحديث حث على الزرع، وعلى الغرس ،وأن الزرع والغرس فيه الخير الكثير ،فيه مصلحة في الدين، ومصلحة في الدنيا أما مصلحة الدنيا :فما يحصل فيه من إنتاج ،لأن الزرع والغرس ينفع نفس الزارع والغارس ،وينفع البلد كله ،كل الناس ينتفعون منه ،بشراء الثمر، وشراء الحب ،والأكل منه ،ويكون في هذا نمو للمجتمع وكثرة لخيراته أما المنافع الدينية :فإنه إن أكل منه طير؛ عصفور ،أو حمامه ،أو دجاجة، أو غيرها ولو حبة واحدة ،فإنه له صدقة ،حتى إن لم ينو الإنسان إفادة غيره حين الزرع أو الغرس فإنه إذا أُكل منه صار له صدقة ،وأعجب من ذلك لو سرق منه سارق ،كما لو جاء شخص مثلا إلى نخل وسرق منه تمرا ،فإن لصاحبه في ذلك أجرا،
مع أنه لو علم بهذا السارق لرفعه إلى المحكمة ،ومع ذلك فإن الله تعالى يكتب له بهذه السرقة صدقة إلى يوم القيامة! كذلك أيضا إذا أكل من هذا الزرع دواب الأرض وهوامها كان لصاحبه صدقة .ففي هذا الحديث دلاله واضحة على حث النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ على الزرع وعلى الغرس ،لما فيه من المصلحة الدينية والمصالح الدنيوية. وفي هذا دليل على أن المصالح والمنافع إذا انتفع الناس بها كانت خيرا لصاحبها وأجرا وإن لم ينو ،فإن نوى زاد خيرا على خير ،وآتاه الله تعالى من فضله أجرا عظيما. (يرزؤه) أي ينقصه وهذا حديث فيه سلوة ،وفيه تعزية للإنسان ،وكثير من الناس يجزع ويصيبه ما يصيبه من الهم والغم إذا فقد شيئا من متاعه ،أو من طعامه أو من زرعه أو نحو ذلك ،وإذا تذكر مثل هذا الحديث علم أنه معوض عن ذلك عند الله - تبارك وتعالى ،وأنه سيلقى أجره وجزاءه لا يضيع منه شيء ،فهذه الدنيا لا يذهب فيها شيء ،ولكن ينبغي للمؤمن أن يحتسب عند الله -تبارك وتعالى، وأن يكون إقباله على ما ينفعه
الحديث السادس والثلاثون بعد المائة عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال :أ َرا َد َب ُنو َسلِ َم َة أَ ْن َي ْن َت ِقلُوا إلى قُ ْر ِب ال َم ْس ِج ِدَ ،ف َبلَ َغ ذل َك َرسولَ الل ِه َص َّلى ال َّلهُ عليه وس َّل َمَ ،فقالَ له ْم \" :إ َّنه َب َل َغ ِني أ َّن ُك ْم ُت ِري ُدو َن أَ ْن َت ْن َت ِقلُوا ُق ْر َب ال َم ْس ِج ِد\" قالواَ :ن َع ْم ،يا َرسولَ الل ِه ،ق ْد أَ َر ْد َنا ذل َكَ ،فقالَ: \" َبنِي َسلِ َم َة ِد َيا َر ُك ْم ُت ْك َت ْب آ َثا ُر ُك ْمِ ،د َيا َر ُك ْم ُت ْك َت ْب آ َثا ُر ُك ْم\" (صحيح مسلم) وفي رواية(( :إن بكل خطوة درجة)) رواه مسلم شرح الحديث و (بنو سلمة) :قبيلة معروفة من الأنصار رضي الله عنهم (وآثارهم) خطاهم. أراد بنو سلمة أن يقربوا من المسجد ،ينتقلوا من ديارهم وأحيائهم حتى يكونوا قرب مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ،من أجل أن يدركوا الصلوات معه ويتلقوا من علمه ،فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فسألهم ،قال: (إنه قد بلغني أنكم تريدون أن تنقلوا قرب المسجد) قالوا :نعم يا رسول الله قد أردنا ذلك .فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم( :دياركم تكتب آثاركم) يعني الزموا ديا َركم ُتكتب آثا ُركم قالها مرتين ،وبين لهم أن لهم بكل خطوة حسنة أو درجة وفي الحدي ِث دليل على أنه إذا مشى الإنسان إلى المسجد ،فإنه لا يخطو خطوة إلا رفع له بها درجة ،وقد جاء ذلك مفسرا في حديث أبي هريرة رضي الله عنه ،أن النبي صلى الله عليه وسلم قال( :من توضأ فأسبغ الوضوء ،ثم خرج من بيته إلى المسجد ،لا يخرجه إلا الصلاة ،لم يخط خطوة إلا كتب الله له بها درجة ،وحط عنه بها خطيئة) فكثرة الخطا إلى المساجد
من أعظم أبواب الأجر والثواب ،وكلما بعد المسجد وكانت الخطوات كثيرة كان الثواب أكبر فبني سلمة كانت ديارهم بعيدة عن المسجد النبوي وأرادوا الانتقال ليقتربوا من المسجد النبوي ،فاخبرهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يلزموا ديارهم ولاينتقلوا منها تكتب لكم خطاكم إلى المسجد وفي الحدي ِث دليل على كثرة طرق الخيرات ،وأن منها المشي إلى المساجد، وهو مما يرفع الله به الدرجات ،ويحط به الخطايا ،فإن كثرة الخطايا إلى المساجد سبب لمغفرة الذنوب ،وتكفير السيئات ،ورفعه الدرجات
الحديث السابع الثلاثون بعد المائة عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال :كا َن َر ُجلٌ لا أَ ْع َل ُم َر ُجلا أَ ْب َع َد ِم َن ال َم ْس ِج ِد منهَ ،وكا َن لا ُت ْخ ِط ُئ ُه َص َلاةٌ ،ف ِقيلَ لهَ :أ ْو ف ُقل ُت لهَ :ل ِو ا ْش َت َر ْي َت ِح َمارا َت ْر َك ُب ُه في ال َّظ ْل َما ِء ،وفي ال َّر ْم َضا ِء قالَ :ما َي ُس ُّرنِي أ َّن َم ْن ِزلِي إلى َج ْن ِب ال َم ْس ِج ِد ،إ ِّني أُ ِري ُد أَ ْن ُي ْك َت َب لي َم ْم َشا َي إلى ال َم ْس ِج ِدَ ،و ُر ُجو ِعي إ َذا َر َج ْع ُت إلى أَ ْهلِي َفقالَ َرسولُ الل ِه َصلَّى ال َّلهُ عليه وسلَّ َم \" :ق ْد َجمع ال َّلهُ ل َك ذل َك ُك َّل ُه\" (صحيح مسلم) وفي رواية(( :إن لك ما احتسبت)) شرح الحديث هذا الحديث يتعلق بما قبله من الأحاديث الدالة على كثرة طرق الخير ،وأن طرق الخير كثيرة ،ومنها الذهاب إلى المساجد ،وكذلك الرجوع منها ،إذا احتسب الإنسان ذلك عند الله تعال فهذا الحديث في قصة صحابي كان بيته أبعد البيوت عن المسجد النبوي، وكان يأتي إلى المسجد من بيته في كل صلاة ،يحتسب الأجر على الله ،قادما إلى المسجد وراجعا منه. فقال له بعض الصحابة :لو اشتريت حمارا تركبه في الظلماء والرمضاء، يعني في الليل حين الظلام ،في صلاة العشاء وصلاة الفجر ،و في الرمضاء، أي في أيام الحر الشديد فقال رضي الله عنه (:ما يسرني أن بيتي إلى جنب المسجد) يعني أنه مسرور بأن بيته بعيد عن المسجد ،يأتي إلى المسجد بخطى، ويرجع منه بخطى ،وأنه لا يسره أن يكون بيته قريبا من المسجد ،لأنه لو كان قريبا لم تكتب له تلك الخطى ،وبين أنه يحتسب أجره على الله عز وجل،
قادما إلى المسجد وراجعا منه ،فقال النبي صلى الله عليه وسلم (إن له ما احتسب) أي سيعطيك الله عز وجل ما احتسبت ففي هذا دليل على أن كثرة الخطى إلى المساجد من طرق الخير ،وأن الإنسان إذا احتسب الأجر على الله كتب الله له الأجر حال مجيئه إلى المسجد وحال رجوعه منه
الحديث الثامن الثلاثون بعد المائة عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم\" :أ ْر َب ُعو َن َخ ْص َلة أ ْع َلا ُه َّن َم ِني َح ُة ال َع ْن ِز ،ما ِمن َعا ِمل َي ْع َملُ ب َخ ْص َلة منها َر َجا َء َث َوابِ َها ،و َت ْص ِدي َق َم ْو ُعو ِد َها ،إ َّلا أ ْد َخلَ ُه ال َّلهُ ب َها ا ْل َج َّن َة\" قالَ َح َّسا ُنَ :ف َع َد ْد َنا ما ُدو َن َم ِني َح ِة ال َع ْن ِزِ ،من َر ِّد ال َّس َلا ِم ،و َت ْش ِمي ِت ال َعا ِط ِس، وإ َما َط ِة الأ َذى َع ِن ال َّط ِري ِق ،و َن ْح ِو ِه َفما ا ْس َت َط ْع َنا أ ْن َن ْبلُ َغ َخ ْم َس َع ْش َر َة َخ ْص َلة. (رواه البخاري) شرح الحديث من عظي ِم رحمة الله تعالى بنا أ ْن ع َّظ َم الأعمال القليلة وأثاب عليها بالخي ِر الجزي ِل كرما منه وفضلا و ِمن هذا إخبا ُره ص َّلى الله عليه وس َلّم عن (أربعي َن َخصلة) أي :أربعون نوعا من أنواع البر والعمل الطيب الصالح َمن ع ِمل بها وح َّق َق شرطي ِن: الأ َّول :الإخلاص لله وال َّثاني :الج ْزم بما و َرد في فض ِلها وثواب فاعلها كان ثوابه المؤ َّك ُد أن ُيد ِخ َله اللهُ تعالى الج َّنة (أعلاها َمنيح ُة ال َع ْنز) وهذه ال ِخصالُ أعلا ُه َّن وأعظ ُمه َّن َم ِني َح ُة؛ أي :العط َّية من لبن أنثى الماعز ،فما ال َّظ ُّن بما هو أع َظ ُم منها؟ يعني هذه خصال ،أعمال طيبة يؤجر الإنسان عليها ،أعلاها منيحة العنز، والمنيحة :الأصل أن يقال ذلك في الناقة ،ولكنه يستعمل في الشاة ونحوها، تقول :أغرستك هذا الغرس ،وأعمرتك هذه الدار ،ومنحتك هذه الناقة، بمعنى :أنك تنتفع بها دون التملك ،تعطيه هذه الشاة أو العنز أو الناقة ينتفع بها يأخذ من صوفها ،أو شعرها ،أو وبرها ،ومن حليبها وما إلى ذلك ،لكنه لا يتملكها.
(ما من عامل يعمل بخصلة منها رجاء ثوابها وتصديق موعودها) تصديق موعودها :أي :ما وعد الله له فيها لمن عمل هذا العمل ،إلا أدخله الله بها الجنة أي أربعون عملا أعلاها منيحة العنز ،ما من عبد يعمل بها رجاء ما عند الله وتصديقا لموعودها إلا أدخله الله الجنة.وقد ذ َكر أح ُد ُرواة الحديث -ح َّسا ُن ب ُن عط َّي َة ال َّشام ُّي :-أ َّنه وغي َره ذ َكروا ما ظ ُّنوه أقلَّ من َم ِني َح ِة ال َع ْن ِز؛ ك َر ِّد ال َّسلام ،وتشمي ِت العاطس (بال ُّدعاء له بع َد حم ِده لله) ،وإزال ِة الأذى عن ُط ُرقات ال َّناس ،فذ َكر أ َّنهم لم َيستطيعوا ِذك َر خم َس ع ْشر َة َخصلة فالحاصل أن هناك أشياء كثيرة جدا من العمل الصالح ،مثل :إجابة الدعوة ، رد السلام ،إلقاء السلام ،تشميت العاطس ،أن تعين الإنسان على حمل متاعه كما جاء في بعض الأحاديث ،أن تصنع لأخرق ،أن تعين صانعا ،أن تدل إنسانا على الطريق ،الكلمة الطيبة صدقة ،تبسمك بوجه أخيك صدقة ،تعدل بين اثنين صدقة ،التسبيح والتهليل والتحميد ،كل تسبيحة صدقة ،وكل تهليلة صدقة ،إلى آخره ،كل هذه الأشياء التي يقولها الإنسان باللسان لا تكلفه شيئا فهي من جملة الصدقات ولايمكن تحديدها ولعلَّ الخي َر في عد ِم ِذك ِرها كما ف َعل ال َّنب ُّي صلَّى الله عليه وسلَّم؛ وذلِك خشي َة أن يكو َن ال َّتعيي ُن لها مز ِّهدا في غيرها من أبواب ال ِب ِّر ،ولأ َّن هذا الأج َر إن كان متر ِّتبا على منيحة العن ِز فما دو َنها ،فما ال َّظ ُّن بما هو أع َظ ُم منها فالأبواب إلى الخير كثيرة جدا ،طرق العمل الصالح كثيرة ،ولكن ُيحتاج أن يكون عند الإنسان قلب حي يحرص فيه على طاعة الله ،ويكون عنده إخلاص ورجاء لما عند الله ،لا يرجو ما عند الناس ولا ينتظر منهم الشكر والإثابة والتقدير لجهوده ،ويكون عنده يقين بوعد الله
الحديث التاسع الثلاثون بعد المائة عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال :سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول\" :ا َّتقُوا ال َّنا َر ولو ب ِش ِّق َت ْم َرة\" (متفق عليه( وفي رواية لهما عنه ،قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \" :ما ِمن ُكم ِمن أ َحد إ َّلا َس ُي َك ّلِ ُم ُه َر ُّب ُه ،لي َس ب ْي َن ُه وب ْي َن ُه ُت ْر ُجما ٌنَ ،ف َي ْن ُظ ُر أ ْي َم َن منه فلا َي َرى إ َّلا ما َق َّد َم ،و َي ْن ُظ ُر أ ْشأَ َم منه فلا َي َرى إ َّلا ما َق َّد َم ،و َي ْن ُظ ُر ب ْي َن َي َد ْي ِه فلا َي َرى إ َّلا ال َّنا َر تِ ْلقا َء و ْج ِه ِه ،فا َّت ُقوا ال َّنا َر ولو ب ِش ِّق َت ْم َرة ف َمن لَ ْم َي ِج ْد َفبِ َكلِ َمة َط ِّي َبة\" (متفق عليه) شرح الحديث هذا الحديث فيه بيان بعض من طرق الخيرات ،فطرق الخيرات ـ ولله الحمد ـ كثيرة ،شرعها الله لعباده ليصلوا بها إلى غاية المقاصد ،فمن ذلك الصدقة، فإن الصدقة كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم( :تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار) وفي هذا الحديث بين الرسول صلى الله عليه وسلم فيه أن الله سبحانه وتعالى سيكلم كل إنسان على حدة يوم القيامة ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم( :ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان) أي يكلمه الله يوم القيامة بدون مترجم ،يكلم الله كل عبد مؤمن ،فيقرره بذنوبه ،يقول له :عملت كذا وكذا في يوم كذا وكذا ،فإذا أقر بها وظن أنه قد هلك ،قال( :إني قد سترتها عليك في الدنيا ،وأنا أغفرها لك اليوم) فكم من ذنوب علينا سترها الله عز وجل لا يعلمها إلا هو ،فإذا كان يوم القيامة أتم علينا النعمة بمغفرتها وعدم العقوبة علينا .ولله الحمد.
ثم قال( :فينظر أيمن منه) يعني عن يمينه (فلا يرى إلا ما قدم ،وينظر أشام منه) أي عن يساره (فلا يرى إلا ما قدم ،وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه) قال النبي عليه الصلاة والسلام( :فاتقوا النار ولو بشق تمرة) يعني ولو بنصف تمرة أو قل .أتق النار بهذا ،أي :فليج َع ْل كلُّ واحد بينه وبين ال َّنار حاجزا ِمن ال َّصدق ِة ،ولو أن يتص َّد َق بنص ِف تمرة ،فإن لم ي ِج ْد ما يتص َّد ُق فبكلمة ط ِّيبة ت ِطي ُب بها ال َّنف ُس . والكلمة الطيبة تشمل قراءة القرآن ،فإن أطيب الكلمات القرآن الكريم. وتشمل التسبيح التهليل ،وكذلك تشمل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتشمل تعليم العلم وتعلم العلم ،وتشمل كذلك كل ما يتقرب به الإنسان إلى ربه من القول ،أي إذا لم تجد شق تمرة فإنك تتقي النار ولو بكلمة طيبة. فهذا من طرق الخير وبيان كثرتها ويسرها فينبغي للإنسان أن يجعل بينه وبين النار حاجزا من عمل صالح ،أو صدقة، أو شيء يقدمه وفي الحدي ِث دليل على كلام الله عز وجل ،وأنه سبحانه وتعالى يتكلم بكلام مسموع مفهوم ،لا يحتاج إلى ترجمة ،يعرفه المخاطب به. وفيه دليل على أن الصدقة تنجي من النار ،لقوله( :اتقوا النار ولو شق تمرة)
الحديث الأربعون بعد المائة عن أنس رضي الله عنه قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم\" :إ َّن ال َّلهَ َل َي ْر َضى َع ِن ال َع ْب ِد أَ ْن َيأْ ُكلَ الأ ْك َل َة َف َي ْح َم َد ُه َع َل ْي َها ،أَ ْو َي ْش َر َب ال َّش ْر َب َة َف َي ْح َم َدهُ َع َل ْي َها\" ( رواه مسلم) شرح الحديث ((الأكلة)) :وهي الغدوة أو العشوة ِرضا اللهُ ع َّز وجلَّ غا َي ُة ُكلِّ ُمسلم ،و َس ْع ُي الإنسا ِن في طا َع ِة الل ِه وا ِّتبا ِع َرسولِه َيكو ُن َسببا ل َن ْي ِل َمح َّب ِة اللهِ و ِرضا ُه. وفي َهذا الحدي ِث ُي َب ِّي ُن ال َّنب ُّي ص َّلى اللهُ عليه وس َّلم أح َد الأُمو ِر ا َّلتي َيس َتطي ُع ال ُمسلِ ُم أ ْن َيح َظى فيها ِب ِرضا اللهِ ،وهي َقولُ ُه صلَّى اللهُ عليه وس َّلم: (إ َّن اللهَ َل َي ْر َضى ع ِن ال َع ْب ِد أ ْن َيأ ُكلَ الأَ ْك َل َة) و ِه َي الم َّرةُ الواح َد ُة ِم َن الأَ ْك ِل كال َغدا ِء وال َعشا ِء ،ف َيح َم َده عليها (أو َي ْش َر ُب ال َّشر َب َة ف َيح َم َده عليها) ُسبحا َنه ما أَ ْك َر َمه أَ ْع َطى ال َمأْكولَ و َأ ْق َد َر على أَ ْكلِه و َج َع َله سائغا وسا َقه إلى َع ْب ِده ،وأَ ْو َج َده ِم َن ال َع َد ِم ُث َّم أَ ْق َد َره على َح ْم ِده ،وأَ ْل َه َمه َقو َل ُه و َع ّلَ َمه ال ُّن ْط َق بهُ ،ث َّم كان َسببا ل ِرضا ِئه ففي هذا دليل على أن رضا الله ـ عز وجل ـ قد ينال بأدنى سبب ،قد ينال بهذا السبب اليسير ولله الحمد .يرضى الله عن الإنسان إذا انتهى من الأكل قال: الحمد لله ،وإذا انتهى من الشرب قال :الحمد لله؛ وذلك أن للأكل والشرب آدابا فعلية وآدابا قولية. أما الآداب الفعلية :فإن يأكل باليمين ويشرب باليمين ،ولا يحل له أن يأكل بشماله أو يشرب بشماله ،فإن هذا حرام على القول الراجح ،لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يأكل الرجل بشماله أو يشرب بشماله ،وأخبر أن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله
وأما الآداب القولية:فإن يسمي عند الأكل ،يقول :بسم الله والصحيح أن التسمية عند الأكل أو الشرب واجبة ،وأن الإنسان يأثم إذا لم يسم الله عند أكله أو شربه ،لأنه إذا لم يفعل ،إذا لم يسم عند الأكل والشرب ،فإن الشيطان يأكل معه ويشرب معه ،ولهذا يجب على الإنسان إذا أراد أن يأكل أن يسمي الله ،وإذا نسى أن يسمي في أول الطعام ثم ذكر في أثنائه فليقل :باسم الله أوله وآخره أما عند الانتهاء فمن الآداب أن يحمد الله عز وجل على هذه النعمة حيث يسر له هذا الأكل ،فلهذا كان من شكر نعمة الله عليك بهذا الأكل والشرب أن تحمد الله إذا انتهيت من الشرب أو من الأكل ،ويكون هذا سببا لرضا الله عنك.
الحديث الحادي والأربعون بعد المائة عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ،قال: \" َع َلى ُكلِّ ُم ْسلِم َص َد َق ٌة\" قيلَ :أ َرأَ ْي َت إ ْن َل ْم َي ِج ْد؟ قالََ \" :ي ْع ِملُ ب َي َد ْي ِه َف َي ْن َف ُع َن ْف َس ُه و َي َت َص َّد ُق\" قيلَ :أ َرأَ ْي َت إ ْن َل ْم َي ْس َت ِط ْع؟ قالَُ \" :ي ِعي ُن ذا الحا َج ِة ال َم ْل ُهو َف\" قيلَ له :أ َرأَ ْي َت إ ْن َل ْم َي ْس َت ِط ْع؟ قالََ \" :يأْ ُم ُر بال َمعرو ِف أ ِو ال َخ ْي ِر\" قالَ :أ َرأَ ْي َت إ ْن َل ْم َي ْف َعلْ؟ قالَُ \":ي ْم ِس ُك َع ِن ال َّش ِّر؛ فإ َّنها َص َد َق ٌة\" (متفق عليه) شرح الحديث أخ َبر النب ُّي صلى الله عليه وسلم بأ َّن على ال ُمسلِم في كلِّ يوم َم ْه َما كان غنيا أو فقيرا َصدقة ،وهذه الصيغة \"على كل مسلم\" تدل على الوجوب ،على كل مسلم صدقة .فقِيل له :فإ ْن لم َي ِج ْد ما يتص َّدق به فد َّلهم صلى الله عليه وسلم على أ ْن َيعملَ بي ِده ما يعو ُد عليه بالكس ِب لنف ِسه ويتص َّد َق ِمن هذا الك ْس ِب. فقِيل :فإ ْن لم َيست ِطع أن يعملَ ،أو لم َيفعل عجزا وكسلا؟ فد َّلهم صلى الله عليه وسلم على ما هو أي َس ُر بأ ْن ُي ِعي َن و ُيساع َد المحتا َج ال َم ْل ُهو َف أي :المكرو َب والمست ِغي َث. قيل :فإ ْن لم َيفعل؛ لعدم ُقدرة أو لِ َك َسل؟ فقالَ :ف ْل َيأ ُمر بالخي ِر (كأمر بمعروف أو َن ْهي عن ُمن َكر).قيل :فإ ْن لم َيفعل؟ فد َّلهم صلى الله عليه وسلم على ع َمل آ َخ َر ،وذلك بأ ْن ُيم ِس َك ن ْف َسه عن ِفعل الش ِّر؛ فإ َّنه له َص َد َق ٌة؛ فإ َّن َت ْر َك ال َّش ِّر َع َملٌ ُيثا ُب عليه العب ُد إذا كان تركه ِمن أ ْج ِل الله تعالى. وفي الحدي ِث :أ َّن المؤم َن إذا لم َيق ِدر على باب من أبوا ِب الخي ِر ولا ُف ِتح له، فعليه أ ْن َينتقِلَ إلى باب آ َخ َر َيق ِدر عليه
المقدمة باب في الاقتصاد في العبادة الحديث الثاني والأربعون بعد المائة عن عائشة رضي الله عنها :أ َّن النب َّي َص َّلى اللهُ عليه وس َلّ َم َد َخلَ َع َل ْي َها و ِع ْن َد َها ا ْم َر َأ ٌةَ ،قالََ \" :من ه ِذه؟\"َ ،قا َل ْتُ :ف َلا َن ُةَ ،ت ْذ ُك ُر ِمن َص َلاتِ َها َقالَ\" : َم ْه ،علَ ْي ُكم بما ُت ِطي ُقو َنَ ،ف َوال َّل ِه لا َي َملُّ ال َّلهُ ح َّتى َت َم ُّلوا\" وكا َن أ َح َّب ال ِّدي ِن إلَ ْي ِه َما َداو َم َصا ِح ُب ُه عليه (متفق عليه) شرح الحديث د َخل ال َّنب ُّي صلى الله عليه وسلم يوما على عائش َة رضي الله عنها وكانت عندها امرأ ٌة ،فل َّما سأَل عنها ال َّنب ُّي صلى الله عليه وسلم ،ذ َك َر ْت عائش ُة أ َّن هذه فُلان ُة ،وس َّم ْتها ،ث َّم ذ َك َرت كثر َة صلاتِها وعباد ِتها ،وزادت في مد ِحها فقال ال َّنب ُّي صلى الله عليه وسلم َ (:م ْه) ،أيُ :ك ِّفي عن مد ِحها وال َّثنا ِء عليها ،فما فع َل ْته لا يستح ُّق ال َّثنا َء؛ لمخالف ِته ال ُّس َّنة؛ فإ َّن ال ِّدي َن في متا َبع ِة ال َّنب ِّي ص َلّى اللهُ عليه وسلَّم ،والع َم ِل ب ُس َننِه ،وليس في ال َّتشدي ِد على ال َّنف ِس وإرهاقِها بالعباد ِة. و (مه) :يعني أمر بالكف ،اسم فعل بمعنى اكفف. وصه :بمعنى أُسكت. فالمعنى أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمرها بالكف عن هذا القول ،وأمر هذه المرأة أن تكف عن عملها الكثير ،الذي قد يشق عليها وتعجز عنه في المستقبل فلا تديمه. ثم أمر النبي -عليه الصلاة والسلام -أن نأخذ من العمل بما نطيق ،فقال :
( عليكم بما ُتطيقو َن) أي :اش َت ِغلوا ِمن الأعما ِل بما تستطيعون المداوم َة عليه ،واف َعلوا ما تق ِدرون عليه ِمن ال ِّصيا ِم والقيا ِم ،ولا ت ُش ُّقوا على أن ُف ِسكم ،أي لا تكلفوا أنفسكم وتجهدوها ،فإن الإنسان إذا أجهد نفسه، وكلف نفسه ،ملت وكلت ،ثم انحسرت وانقطعت. ثم ذكرت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان أحب الدين إليه ماداوم صاحبه عليه). أي :ما دام عليه صاحبه ،يعني أي عمل وإن قل إذا داومت عليه كان أحسن لك ،لأنك تفعل العمل براحة ،وتتركه وأنت ترغب فيه ،لا تتركه وأنت تمل منه. ولهذا قال النبي ـ عليه الصلاة والسلام : (فو الله لا يمل الله حتى تملوا) يعني أن الله عز وجل يعطيكم من الثواب بقدر عملكم ،مهما داومتم من العمل فإن الله تعالى يثيبكم عليه. (فو الله لا يمل الله حتى تملوا) فسره كثير من أهل العلم بمعنى أن الله - تبارك وتعالى -لا ينقطع من إثابتكم حتى تنقطعوا من العمل ،فإن هذا الانقطاع يسمى بذلك ،يقال له :ملل في كلام العرب ،فإذا عمل ثم ترك يقال :مل العمل. وفي الحديث :أنه ينبغي للإنسان أن لا يجهد نفسه بالطاعة وكثرة العمل، فإنه إذا فعل هذا مل ،ثم ترك ،وكونه يبقى على العمل ولو قليلا مستمرا عليه أفضل. وقد بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال :لأصومن النهار ولأقومن الليل ما عشت ،قال ذلك رغبة في الخير ،فبلغ ذلك النبي عليه الصلاة والسلام ،فقال له( :أنت الذي قلت ذلك؟) قال :نعم يا رسول الله ،قال( :إنك لا تطيق ذلك).
ثم أمره أن يصوم من كل شهر ثلاثة أيام ،فقال :إني لأطيق أكثر من ذلك، فأمره أن يصوم يوما ويفطر يومين ،فقال :أطيق أكثر من ذلك ،فقال( :صم يوما وأفطر يوما) قال :إني أطيق أكثر من ذلك ،قال: (لا أكثر من ذلك هذا صيام داود). وكبر عبد الله بن عمرو وصار يشق عليه أن يصوم يوما ويترك يوما ،فقال: ليتني قبلت رخصة النبي صلى الله عليه وسلم ،ثم صار يصوم خمسة عشرا يوما سردا ،ويفطر خمسة عشر يوما سردا. ففي هذا دليل على أن الإنسان ينبغي له أن يعمل العبادة على وجه مقتصد، لا غلو ولا تفريط ،حتى يتمكن من الاستمرار عليها ،وأحب العمل إلى الله أدومه وإن قل.
الحديث الثالث والأربعون بعد المائة عن أنس رضي الله عنه قالَ :جا َء َث َلا َث ُة َر ْهط إلى ُب ُيو ِت أ ْز َوا ِج النب ِّي َص َّلى اللهُ عليه وسلَّ َمَ ،ي ْسأَلُو َن عن ِع َبا َد ِة النب ِّي َص َّلى اللهُ عليه وس ّلَ َمَ ،ف َل َّما أُ ْخبِ ُروا َكأ َّن ُه ْم َت َقالُّو َها ،وقالوا :أَ ْي َن َن ْح ُن ِم َن النب ِّي َص َلّى اللهُ عليه وس َّل َم؟ ق ْد ُغفِ َر له ما َت َق َّد َم ِمن َذ ْنبِ ِه وما َتأَ َّخ َر قالَ أ َح ُد ُه ْم :أ َّما أ َنا فأُ َص ِّلي ال ّلَ ْيلَ أ َبدا ،وقالَ الآ َخ ُر :وأ َنا أ ُصو ُم ال َّد ْه َر و َلا أُ ْف ِط ُر ،وقالَ الآ َخ ُر :وأ َنا أ ْع َت ِزلُ ال ِّن َسا َء فلا أ َت َز َّو ُج أ َبداَ ،ف َجا َء َرسولُ ال َّل ِه َص ّلَى اللهُ عليه وس َّل َم إلي ِهمَ ،فقالَ( :أ ْن ُت ُم ا َّل ِذي َن ُقل ُت ْم َك َذا و َك َذا ،أما وال َّل ِه إ ِّني َل َأ ْخ َشا ُك ْم لِ َّل ِه وأَ ْت َقا ُك ْم لهَ ،ل ِك ِّني أ ُصو ُم وأُ ْف ِط ُر ،وأُ َصلِّي وأَ ْر ُق ُد ،وأَ َت َز َّو ُج ال ِّن َسا َء ،ف َمن َر ِغ َب عن ُس َّنتي فلي َس ِم ِّني) (متفق عليه) شرح الحديث لا َينبغي لِلمسل ِم أ ْن يتكلَّ َف ما لا ُيطي ُق ِم َن العباد ِة ،وعليه أ ْن يبتع َد َع ِن الغل ِّو ُمتأ ِّسيا في ذلك ِبأ ْتقى ال َخل ِق وأخشاهم لله مح َّمد ص َّلى الله عليه وسلَّم ،فخي ُر اله ْديِ ه ْد ُيه. وفي هذا الحدي ِث أ َّنه جا َء ثلاث ُة رهط ،والمقصو ُد ثلاث ُة رجال إلى بي ِت ال َّنب ِّي َصلَّى ال َّلهُ َع َل ْي ِه َو َسلَّ َم ،وسألوا َعن ِعباد ِته فأُخبِروا بها فكأ َّنهم َتقالُّوها ،أي: رأَ ْوها قليلة. أي أن ثلاثة نفر جاءوا إلى بيوت النبي صلى الله عليه وسلم يسألون زوجاته عن عمله الذي يعمله في بيته ،وذلك لأن عمل النبي صلى الله عليه وسلم إما ظاهر يعرفه الناس كلهم؛ كالذي يفعله في المسجد أو في السوق أو في مجتمعاته مع أصحابه ،فهذا ظاهر يعرفه غالب الصحابة الذين في المدينة، وإما أن يكون سرا لا يعرفه إلا من في بيته ،أو من كانوا من خدمه مثل عبد الله بن مسعود ،وأنس بن مالك وغيرهما رضي الله عنهم.
فجاء هؤلاء النفر الثلاثة إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألونهم كيف كانت عبادته في السر ،يعني في بيته ،فأخبروا بذلك ،فكأنهم تقالوها ،لأن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان يصوم ويفطر ،وكان يقوم ويرقد ،وكان يتزوج النساء عليه الصلاة والسلام ،فكأنهم تقالوا هذا العمل ورأوه قليلا ،لأن معهم نشاطا رضي الله عنهم على حب الخير ،ولكن النشاط ليس مقياسا ،المقياس ما جاء به الشرع. (وقالوا :أي َن نحن ِم َن ال َّنب ِّي ص َّلى الله عليه وس ّلَم وقد ُغ ِف َر له ما تق َّد َم ِمن ذنبِه وما تأ َّخ َر؟ فقال أح ُدهم :أ َّما أنا فأصلِّي اللَّيلَ أبدا ،وقال الآ َخ ُر :أنا أصو ُم ال َّده َر ولا أُفط ُر ،وقال ال َّثال ُث :أنا أعتزلُ ال ِّنسا َء ولا أتز َّو ُج) ولا شك أن هذا الذي قالوا خلاف الشرع ،لأن هذا فيه إشقاقا على النفس وإتعابا لها. فل َّما س ِمعه ُم ال َّنب ُّي صلى الله عليه وسلم قال لهم« :أ َما والل ِه إ ِّني َلأخشاكم للهِ وأ ْتقاكم له ،لك ِّني أصو ُم وأفط ُر ،وأص ِّلي وأرق ُد ،وأتز َّو ُج ال ِّنسا َء». أي :مع َكوني أكث َركم خشية لل ِه وأكث َركم تقوى له ،ولك ِّني مع ذلك لا أُبال ُغ في العباد ِة ما ُتريدو َن المبالغ َة فيها ،ولك ْن أَصو ُم وأُفط ُر وأتز َّو ُج ال ِّنسا َء وأقو ُم وأنا ُم. وذلك لأ َّن المتش ِّد َد لا يأ َم ُن ِم َن ال َمل ِل ِبخلا ِف المقت ِص ِد فإ َّنه أمك ُن ِلاستمرا ِره، وخي ُر العم ِل ما دا َو َم عليه صاح ُبه. ثم ح َّذره ُم ال َّنب ُّي صلى الله عليه وسلم ِم َن الغل ِّو والابتعا ِد َعن س َّنتِه في العباد ِة ،فقال لهم\" :ف َمن ر ِغ َب َعن س َّنتي فليس ِم ِّني\" ،أي :ف َمن أع َر َض َعن َنهجي وطريقتي فإ َّنه بعي ٌد كلَّ ال ُبع ِد َعن متابع ِت ِه صلى الله عليه وسلم بمعنى أنه من رغب عن طريقته صلى الله عليه وسلم وهديه الذي شرعه فإنه مجاف لحاله صلى الله عليه وسلم ،وهديه الذي هو أقوم الهدي ،فهو على طريقة أخرى ،وبحسب ما تكون مفارقته بحسب ما يكون حاله.
و ُيخشى على الإنسان إن كان ميله عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم وطريقته رغبة عنها ،فإن ذلك قد يطبع على قبله ويختم عليه فيهلك صاحبه ،فالواجب على الإنسان أن يرضى بما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وهو المنهج الصحيح في الاعتدال والاستقامة في الأحوال كلها ،ففي هذا دليل على أنه ينبغي للإنسان أن يقتصد في العبادة ،بل ينبغي له أن يقتصد في جميع أموره ،لأنه إن قصر فاته خير كثير ،وإن شدد فإنه سوف يكل ويعجز ويرجع ،ولهذا ينبغي للإنسان أن يكون في أعماله كلها مقتصدا. ولهذا جاء في الحديث( :إن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى) والمنبت الذي يمشي ليلا ونهارا دائما ،هذا لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى ،بل يتعب ظهره ،وبالتالي يعجز ويتعب ويقعد. فالاقتصاد في العبادة من سنن االنبي صلى الله عليه وسلم ،فلا ينبغي لك أن تشق على نفسك ،فعليك بالراحة ،ولا تقصر ولا تزد ،فإن خير الهدي هدي النبي صلى الله عليه وسلم
الحديث الرابع والأربعون بعد المائة عن ابن مسعود رضي الله عنه :أن النبي صلى الله عليه وسلم ،قال: (( َه َل َك ال ُم َت َن ِّط ُعو َن)) قا َلها َثلاثا. (رواه مسلم) شرح الحديث كان من هديه صلى الله عليه وسلم لتأكيد الكلام وبيانه وتبليغه -أيضا -إعادة الكلام ثلاثا ،وهنا قال :هلك المتنطعون ،ثلاثا. والمقصود بالتنطع :التعمق والتكلف والتشدد. والمتنطعون :المتعمقون المتشددون في غير مواضع التشديد. (هلك المتنطعون .هلك المتنطعون .هلك المتنطعون) الهلاك :ضد البقاء ،يعني أنهم تلفوا وخسروا. وعلى قول بعض أهل العلم أن التنطع المقصود به أن يخرج الكلام من أقصى الحلق بحيث يتكلف ويتشدق بكلامه؛ ليظهر فصاحته للناس ،فهذا مذموم ،وإنما يتكلم الإنسان بحسب طريقته وسجيته وعادته من غير تكلف، ولا يقتصر ذلك على طريقة التكلم بل التنطع يكون بالتكلم ،ويكون بغيره من العمل والحال التي يكون عليها الإنسان. والمتنطعون :هم المتشددون في أمورهم الدينية والدنيوية ،ولهذا جاء في الحديث( :لا تشددوا فيشدد الله عليكم). فكل من شدد على نفسه في أمر قد وسع الله له فيه فإنه يدخل في هذا الحديث .فالإنسان الذي يحرم ما أحل الله يكون متنطعا ،والإنسان الذي يلزم نفسه بألوان من العبادات والتكاليف التي لم يوجبها الله عليه بحيث إن ذلك يفضي به إلى مشقة عظيمة غير محتملة هذا يكون من قبيل التنطع. و َت ْر ُك ُكلِّ مظاهر ال َّتن ُّط ِع ِم َن الآدا ِب ال َحسن ِة ا َّلتي جا َء بِها الإِسلا ُم. في الحدي ِث :ال َّنه ُي ع ِن ال َّتن ُّط ِع.
الحديث الخامس والأربعون بعد المائة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال(( :إ َّن ال ِّدي َن ُي ْس ٌر ،و َل ْن ُي َشا َّد ال ِّدي َن أ َح ٌد إ َّلا َغ َل َب ُهَ ،ف َس ِّد ُدوا و َقا ِر ُبوا ،وأَ ْب ِش ُروا، وا ْس َت ِعي ُنوا بال َغ ْد َو ِة وال َّر ْو َح ِة وشيء ِم َن ال ُّد ْل َج ِة)). (البخاري) وفي رواية له(( :سددوا وقاربوا ،واغدوا وروحوا ،وشيء من الدلجة، القصد القصد تبلغوا)) شرح الحديث في هذا الحدي ِث ح َّث ال َّنب ُّي صلى الله عليه وسلم على ملازم ِة ال ِّرف ِق في الأعما ِل ،والاقتصا ِر على ما ُيطي ُق العاملُ ،و ُيم ِك ُنه المداوم ُة عليه ،وأ َّن َمن َشا َّد ال ِّدي َن وتع َّم َق ،انق َطع ،وغلَ َبه ال ِّدي ُن وق َه َره. (إن الدين يسر) يعني :الدين الذي بعث به الله محمد صلى الله عليه وسلم، والذي يدين به العباد ربهم ويتعبدون له به ميسر مسهل. ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم ( :ولن يشاد الدين أح ٌد إلا غلبه) يعني :لن يطلب أحد التشدد في الدين ((إلا غلبه)) :أي غلبه الدين وعجز ذلك المشاد عن مقاومة الدين لكثرة طرقه. هذا معنى قوله( :لن يشاد الدين أحدا إلا غلبه) يعني أنك إذا شددت الدين وطلبت الشدة ،فسوف يغلبك الدين ،وسوف تهلك ،كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق( :هلك المتنطعون). ثم قال صلى الله عليه وسلم ( :فسددوا وقاربوا ابشروا) وال َّتسديد :هو العملُ بالقص ِد ،وال َّتو ُّس ِط في العباد ِة ،فلا يق ِّص ُر فيما أُ ِمر به، ولا يتح َّملُ منها ما لا ُي ِطيقهِ ،من غي ِر إفراط ولا تفريط. وقا ِربوا ،أي :إن لم تستطيعوا الأخ َذ بالأكم ِل ،فاع َملوا بما يق ُر ُب منه. وقوله :وأب ِشروا ،أي :بال َّثوا ِب على العم ِل ،وإن َقلَّ.
(واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة) ▪ و((الغدوة)) :سير أول النهار. ▪ و((الروحة)) :آخر النهار ▪ و((الدلجة)) :آخر الليل. ومعناه :استعينوا على طاعة الله عز وجل بالأعمال في وقت نشاطكم وفراغ قلوبكم بحيث تستلذون العبادة ولا تسأمون وتبلغون مقصودكم ،كما أن المسافر الحاذق يسير في هذه الأوقات ويستريح هو ودابته في غيرها فيصل المقصود بغير تعب. فأر َشد صلى الله عليه وسلم إلى ما يساع ُد على ال َّسدا ِد والمقا َرب ِة ،فهذه الأوقا َت ال َّثلاث َة أوقا ُت العم ِل وال َّسي ِر إلى الله؛ وقال :وشيء ِمن ال ُّدلج ِة ،ولم يقُلْ :وال ُّدلجة؛ تخفيفا؛ لمش َّق ِة عم ِل اللَّيل. فمعنى الحديث :لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية ،ويترك الرفق إلا عجز وانقطع عن عمله كله أو بعضه ،فتوسطوا من غير إفراط ،ولا تفريط، وقاربوا إن لم تستطيعوا العمل بالأكمل ،فاعملوا ما يقرب منه ،وأبشروا بالثواب على العمل الدائم وإن قل ،واستعينوا على تحصيل العبادات بفراغكم ونشاطكم ،قال الله تعالى{ :فإذا فرغت فانصب * وإلى ربك فارغب} [الشرح: ]8 ،7 وفي الحدي ِث :تنشي ُط أه ِل الأعما ِل ،وتبشي ُرهم بالخي ِر وال َّثوا ِب المر َّت ِب على الأعما ِل.
الحديث السادس والأربعون بعد المائة عن أنس رضي الله عنه قال :دخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد فإذا حبل ممدود بين الساريتين ،فقال: ((ما هذا الحبل؟ قالوا :هذا حبلٌ لزينب ،فإذا َف َترت تعلَّقت به ،فقال صلى الله عليه وسلم :حلُّوه ،ليصلِّ أحدكم نشاطه ،فإذا َف َت َر فليرقد)) (متفق عليه) شرح الحديث وفي روايه البخاري قالَ النب ُّي َصلَّى اللهُ عليه وس ّلَ َم( :لا ُح ُّلو ُه لِ ُي َصلِّ أَ َح ُد ُك ْم َن َشا َط ُهَ ،فإِ َذا َف َت َر َف ْل َي ْق ُع ْد). لا ينبغي للمسلم أن يتكلَّ َف ما لا ُي ِطيق؛ لأ َّن الل َه تعالى لم يك ِّل ْفه بذلك؛ قال تعالىَ {:لا ُي َكلِّ ُف ال َّلهُ َن ْفسا إِ َّلا ُو ْس َع َها}[البقرة ]286 :وفي هذا الحدي ِث َيروي أن ٌس رضي الله عنه أ َّن ال َّنب َّي صلى الله عليه وسلم د َخل المسج َد فو َجد َح ْبلا مربوطا بين ال َّساريتي ِن ،وهما أُسطوانتا ِن كالعمودين فسأل عن ال َح ْب ِل ،فقيل له :إ َّن ال َح ْبلَ لزين َب ،قيل :هي زين ُب بن ُت َجحش أم المؤمنين رضي الله عنها ،وأ َّنها ت َض ُعه في صلاتها ،ح َّتى إذا ف َت َر ْت وم َّل ْت تع ّلَ َق ْت به. فإذا فترت يعني :تعبت من طول القيام ،ومن كثرة الصلاة تعلقت به ،وهذا يدل على شدة اجتهاد النساء في ذلك الزمان بالعبادة ،بحيث إن الواحدة تصل إلى هذا الحد الذي تحتاج معه إلى أن تتعلق بشيء؛ لأنها لا تستطيع القيام بنفسها ،لا تحملها أقدامها من طول القيام ،فأين هذا من نسائنا في هذه الأيام؟! فأمر ال َّنب ُّي صلى الله عليه وسلم َمن معه أن ي ُحلُّوه ،ث َّم قال( :ل ُيصلِّ أح ُدكم نشا َطه ،فإذا ف َت َر فليرقد) وفي روايه (فليقعد) أي :ل ُيصلِّ كلُّ مسلم وق َت نشا ِطه وقدر ِته على ال َّصلاة ،فإذا ت ِعب أو أصابه الم َللُ فليرقد أو فليق ُع ْد.
وإ َّنما ُيك َرهُ ال َّتشدي ُد في العبادة خشي َة الفُتو ِر ،وخو َف الملَل؛ لئ َّلا ينقط َع عنها المر ُء ،فيكون كأ َّنه رجو ٌع فيما ب َذله ِمن نف ِسه لل ِه تعالى ،وتط َّوع به. ويؤخذ من هذا الحديث جواز تنفل النساء في المسجد ،فقد وضعت هذا الحبل تصلي تطوعا في المسجد ،فيجوز للنساء أن يتطوعن في المسجد ،ولا شك أن صلاتها في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد ،هذا في الفرض ،فكيف بالنفل؟ وفي الحديث دليل على أنه لا ينبغي للإنسان أن يتعمق وأن يتنطع في العبادة ،وأن يكلف نفسه ما لا تطيق ،بل يصلي ما دام نشيطا ،فإذا تعب فليرقد ولينم ،لأنه إذا صلى مع التعب تشوش فكره وسئم ومل وربما كره العبادة ،فلهذا أمر النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ بحل هذا الحبل ،وأمرنا أن يصلي الإنسان نشاطه ،فإذا تعب فليرقد. وهذا وإن ورد في الصلاة فإنه يشمل جميع الأعمال ،فلا تكلف نفسك ما لا تطيق ،بل عامل نفسك بالرفق واللين ،ولا تتعجل الأمور.
الحديث السابع والأربعون بعد المائة عن عائشة رضي الله عنها :أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال \" :إ َذا َن َع َس أ َح ُد ُك ْم وهو ُي َصلِّي َف ْل َي ْر ُق ْد ،ح َّتى َي ْذ َه َب ع ْنه ال َّن ْو ُم ،فإ َّن أ َح َد ُك ْم إ َذا َصلَّى وهو َنا ِع ٌس ،لا َي ْد ِري َل َع َّل ُه َي ْس َت ْغفِ ُر َف َي ُس ُّب َن ْف َس ُه\" (متفق عليه) شرح الحديث ال َّصلا ُة عباد ٌة َعظيم ٌة يقِ ُف فيها العب ُد بي َن ي َد ْي ر ِّبه؛ فلا ب َّد أن َيكو َن واعيا نشيطا ،خا ِشعا متد ِّبرا ،ولا َيج َعلَ وق َت ك َسلِه وت َعبِه و َنو ِمه لل َّصلا ِة ،وذلك ح َّتى َيحو َز على الأج ِر الكام ِل ولا َتكو َن َصلا ُته َوبالا عليه؛ ف ُر َّبما ح َّر َف الكلا َم وال ُّدعا َء ف َدعا على ن ْف ِسه .وفي هذا الحدي ِث َيقولُ ال َّنب ُّي صلى الله عليه وسلم\" :إذا َن ِع َس أ َح ُدكم\" ،أي :غا َل َبه ال َّنو ُم ِمن َتعب أو َكسل ،وال ُّنعا ُس :أ َّولُ ُمق ِّدما ِت ال َّنو ِم. \"في ال َّصلاة ف ْل َي ْر ُق ْد\" ،أيَ :ين َص ِر ْف ع ِن ال َّصلا ِة و َي َن ْم. \"ح َّتى َيذ َه َب عنه ال َّنو ُم\" ،أي :ح َّتى ين َش َط م َّرة أخرى ويب َت ِع َد عنه ال َّنو ُم والك َسلُ ،ث َّم ب َّين ال َّنب ُّي الكري ُم ال َّسب َب في ذلك فقال\" :فإ َّن أ َح َدكم إذا ص ّلَى وهو ناع ٌس لع َلّه َيذ َه ُب َيستغفِ ُر ف َي ُس ُّب ن ْف َسه\" أي :لعلَّ ا َّلذي ُيصلِّي وهو في حال ِة ال ُّنعا ِس وهو لا َي ْدري بما َيقولُه ف ُيب ِّدلُ الكلا َم ف َبدلا ِمن أن يد ُع َو ل َنف ِسه بالخي ِر َي ْدعو على نف ِسه بال َّش ِّر ،أو ي ُس ُّب ن ْف َسه وهو لا َيش ُع ُر .ومن حكم ذلك أن الإنسان لنفسه عليه حق ،فإذا أجبر نفسه على فعل العبادة مع المشقة فإنه يكون قد ظلم نفسه ،فلا تفرط فتقصر ،ولا تفرط فتزيد. ويؤخذ من هذا الحديث أنه لا ينبغي للإنسان أن يحمل نفسه ويشق عليها في العبادة ،وإنما يأخذ ما يطيق. وفي الحدي ِث :الح ُّث على الي َق َظ ِة وال َّتن ُّب ِه في ال َّصلا ِة.
الحديث الثامن والأربعون بعد المائة عن أبي عبد الله جابر بن سمرة رضي الله عنهما ،قال: ُك ْن ُت أُ َص ِلّي مع النب ِّي َص ّلَى ال َّلهُ عليه َو َس ّلَ َم ال َّص َل َوا ِت َف َكا َن ْت َص َلا ُت ُه َق ْصدا، َو ُخ ْط َب ُت ُه َق ْصدا. (صحيح مسلم) شرح الحديث كا َن ال َّنب ُّي صلى الله عليه وسلم يأ ُم ُر ب َتيسي ِر ال ِعبا َد ِة ،وعد ِم التكلُّ ِف فيها، و َيض ِر ُب المثلَ بذل َك بفِعله ل َيقتد َي به كلُّ ُمسلِم. وفي هذا ال َحدي ِث َيقولُ جاب ُر ب ُن َس ُم َر َة رض َي اللهُ عنه\" :كن ُت أُص ّلِي مع ال َّنب ِّي ص َّلى اللهُ عليه وسلَّ َم ال َّصلوا ِت\" أي :أُدا ِو ُم على أدا ِء ال َّصلوا ِت ال َخمس والج ُم َعة خل َفه -ص َّلى اللهُ علَي ِه وس َّل َم، فكان ْت صلا ُته قصدا ،وخطب ُته قصدا ،فلا ه َي طويل ٌة جدا ،ولا َقصيرةٌ ،بل هي ُمنا ِسب ٌة لل َكبي ِر وال َّصغي ِر ،غي ُر شا َّقة على أحد. (فكانت صلاته قصدا وخطبته قصدا) والقصد معناه التوسط ،الذي ليس فيه تخفيف مخل ولا تثقيل ممل. وفي ال َحدي ِث :الح ُّث على ع َد ِم إطا َل ِة ال ُخطب ِة وال َّصلوا ِت ال َخ ْم ِس.
الحديث التاسع والأربعون بعد المائة عن أبي ُج َح ْي َفة َو ْهب ب ِن عبد الل ِه رضي الله عنه َقالَ :آ َخى ال َّنب ُّي صلى الله عليه وسلم َب ْي َن َس ْل َما َن َوأَبي ال َّد ْردا ِءَ ،فزا َر َس ْل َما ُن أَ َبا ال َّدردا ِء َف َرأى أُ َّم ال َّدردا ِء ُم َت َب ِّذ َلةَ ،ف َقالََ :ما َشأ ُن ِك؟ َقا َل ْت :أ ُخو َك أَ ُبو ال َّدر َدا ِء َل ْي َس لَ ُه َحا َج ٌة في ال ُّد ْن َياَ ،فجا َء أَ ُبو ال َّد ْر َدا ِء َف َص َن َع َل ُه َط َعاماَ ،ف َقالَ َل ُهُ :كلْ َفإِ ِّني َصائِ ٌمَ ،قالََ :ما أنا ِبآ ِكل َح َّتى َتأ ُكلَ فأكلَ ،ف َل َّما َكا َن ال َّليلُ َذ َه َب أَ ُبو ال َّدر َدا ِء َي ُقو ُم َف َقالَ َل ُهَ :ن ْم، فنامُ ،ث َّم َذ َه َب َيقُو ُم َف َقالَ لَ ُهَ :ن ْمَ .ف َل َّما َكا َن من آ ِخر ال ّلَي ِل َقالَ َس ْل َما ُن :قُم الآن، َف َصلَّ َيا َج ِميعا َف َقالَ َل ُه َس ْل َما ُن(:إ َّن لِ َر ِّب َك َع َل ْي َك َحقاَ ،وإِ َّن لِ َن ْف ِس َك َع َلي َك َحقا، َولأَ ْهلِ َك َعلَي َك َحقاَ ،فأ ْع ِط ُكلَّ ِذي َح ٍّق َح َّق ُه)َ ،فأَ َتى ال َّنب َّي صلى الله عليه وسلم َف َذ َك َر ذلِ َك َل ُه َف َقالَ ال َّنب ُّي صلى الله عليه وسلمَ (( :ص َد َق َس ْل َما ُن)) (رواه البخاري) شرح الحديث آخى الرسول صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء رضي الله عنهما جميعا. آخى بينهما :أي عقد بينهما عقد أخوة ،وذلك أن المهاجرين حين قدموا المدينة آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم وبين الأنصار ،فكان المهاجرون في هذا العقد للأنصار بمنزلة الأخوة ،حتى إنهم كانوا يتوارثون بهذا العقد ،حتى أنزل الله عز وجلَ ( :وأُولُوا ا ْلأَ ْر َحا ِم َب ْع ُض ُه ْم أَ ْولَى بِ َب ْعض ِفي ِك َتا ِب ال َّلهِ) (الأنفال)75 : فجاء سلمان رضي الله عنه ذات يوم ودخل على دار أخيه أبي الدرداء رضي الله عنه ،فوجد امرأته أم الدرداء متبذلة ،يعني ليست عليها ثياب المرأة ذات الزوج ،بل عليها ثياب ليست جميلة فقال لها :ما شأنك؟ قالت :إن أخاك أبا الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، يعني أنه معرض عن الدنيا ،وعن الأهل ،وعن الأكل ،وعن كل شيء
ثم إن أبا الدرداء لما جاء صنع لسلمان طعاما ،فقدمه إليه وقال :كل فإني صائم فقال له :كل وأفطر ولا تصم ،لأنه علم من حاله بواسطة كلام زوجته أنه يصوم دائما ،وأنه معرض عن الدنيا وعن الأكل وغيره ،فأكل ثم نام ،فقام ليصلي ،فقال له سلمان :نم ،فنام ،ثم قام ليصلي ،فقال :نم ولما كان آخر الليل قام سلمان ـ رضي الله عنه ـ وصليا جميعا. ثم قال له سلمان (:إ َّن لِ َر ِّب َك َع َل ْي َك َحقاَ ،وإِ َّن لِ َن ْف ِس َك َع َلي َك َحقاَ ،ولأَ ْهلِ َك َعلَي َك َحقاَ ،فأ ْع ِط ُكلَّ ِذي َح ٍّق َح َّق ُه) ففي هذا دليل على أن الإنسان لا ينبغي له أن يكلف نفسه بالصيام والقيام، وإنما يصلي ويقوم على وجه يحصل به الخير ،ويزول به التعب والمشقة وأن يعطي كل ذي حق حقه.
الحديث الخمسون بعد المائة عن أَبي محمد عب ِد اللهِ ب ِن َع ْمرو بن العا ِص رضي الله عنهماَ ،قالَ :أُ ْخب َر ال َّنب ُّي صلى الله عليه وسلم أ ِّني أقُولَُ :والل ِه لأَ ُصو َم َّن ال َّن َها َرَ ،ولأَ ُقو َم َّن اللَّيلَ َما ((أن َت ا َلّ ِذي َتقُولُ ذلِ َك؟))ِ :ع ْش ُتَ .ف َقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم َف ُق ْل ُت لَ ُهَ :ق ْد قُ ْل ُت ُه بأبي أ ْن َت وأ ِّمي َيا رسولَ اللهَ .قالََ (( :فإِ َّن َك لا َت ْس َت ِطي ُع ذلِ َك َف ُص ْم َو َأ ْف ِط ْرَ ،و َن ْم َو ُق ْمَ ،و ُص ْم ِم َن ال َّش ْه ِر َثلاث َة أ َّيام ،فإ َّن ال َح َس َن َة بِ َع ْش ِر أ ْم َثالِ َها َو َذل َك ِمثلُ ِصيا ِم ال َّد ْه ِر)) قُ ْل ُتَ :فإِ ِّني أُطي ُق َأ ْف َضلَ ِم ْن ذلِ َكَ ،قالََ (( :ف ُص ْم َيوما َوأَ ْف ِط ْر َي ْو َم ْي ِن)) ُق ْل ُت: َفإ ِّني أُ ِطي ُق أف َضلَ ِم ْن ذلِ َكَ ،قالََ (( :ف ُص ْم َيوما َوأ ْف ِط ْر َيوما وذلِ َك ِص َيا ُم َدا ُود وهو أ ْع َدلُ ال ِّص َيا ُم)) ((لا أ ْف َضلَ :قُل ُتَ :فإ ِّني أُ ِطي ُق أ ْف َضلَ ِمن ذل َكَ ،ف َقالَ النب ُّي َصلَّى اللهُ عليه وس ّلَ َم ِ .من ذل َك)) (رواه البخاري ومسلم) وفي روايةُ (( :ه َو أ ْف َضلُ ال ِّصيا ِم)) َفقُ ْل ُتَ :فإِ ِّني أُطي ُق أ ْف َضلَ ِم ْن ذلِ َكَ ،ف َقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم(( :لا أف َضلَ ِم ْن ذلِ َك)) ،قالَ :ولأ ْن أ ُكو َن َقبِ ْل ُت ال َّثلا َث َة الأَيا ِم ا َلّتي َقالَ َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم أ َح ُّب إل َّي ِم ْن أ ْهلي َو َمالي. شرح الحديث وفي رواية(( :أَلَ ْم أُ ْخ َب ْر أ َّن َك َت ُصو ُم ال َّن َها َر و َت ُقو ُم ال َلّيلَ؟)) ُق ْل ُتَ :ب َلىَ ،يا َر ُسول اللهَ ،قالََ (( :فلا َت ْف َعلُْ :ص ْم َو َأ ْف ِط ْرَ ،و َن ْم َوقُ ْم؛ فإ َّن ِل َج َس ِد َك َعلَ ْي َك َحقاَ ،وإِ َّن لِ َع ْي َني َك َعلَ ْي َك َحقاَ ،وإِ َّن لِ َز ْو ِج َك َعلَ ْي َك َحقاَ ،وإِ َّن لِ َز ْو ِر َك َعلَ ْي َك َحقاَ ،وإ َّن ِب َح ْس ِب َك أ ْن َت ُصو َم في ُكلِّ َش ْهر َثلا َث َة أ َّيام ،فإ َّن َل َك بِ ُكلِّ َح َس َنة َع ْش َر أ ْم َثالِ َها، َفإِ َّن ذلِ َك ِص َيا ُم ال َّد ْهر)) َف َش َّد ْد ُت َف ُش ِّد َد َع َل َّي
قُ ْل ُتَ :يا َر ُسول الله ،إ ِّني أ ِج ُد ُق َّوةَ ،قالَُ (( :ص ْم ِص َيا َم َنب ِّي الله َدا ُود َولا َتزد َع َلي ِه)) قُ ْل ُتَ :و َما َكا َن ِص َيا ُم َدا ُود؟ َقالَ(( :نِ ْص ُف ال َّد ْه ِر)) َف َكا َن َعب ُد الله يقول َ .بع َد َما َكبِ َرَ :يا لَي َتنِي َق ِب ْل ُت ُر ْخ َصة َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية(( :أَلَ ْم أُ ْخ َب ْر أَ َّن َك َت ُصو ُم ال َّده َرَ ،و َت ْق َرأُ ال ُقرآ َن ُكلَّ لَ ْي َلة؟)) فقلت: َبلَىَ ،يا َر ُسول اللهَ ،ولَ ْم أُ ِر ْد بذلِ َك إلا ال َخير َقالََ (( :ف ُص ْم َصو َم َنب ِّي اللهِ َدا ُود، َفإ َّن ُه َكا َن أ ْع َب َد ال َّنا ِسَ ،وا ْق َرأ القُ ْرآ َن في ُكلِّ َش ْهر)) ُق ْل ُتَ :يا َنب َّي اللهِ ،إ ِّني أُ ِطي ُق أَ ْف َضلَ ِم ْن ذلِ َك؟ َقالَ(( :فاقرأه في كل عشرين)) قُ ْل ُتَ :يا نبي الله ،إني أطيق أفضل من ذلِ َك؟ َقالََ (( :فا ْق َرأهُ في ُكلِّ َع ْشر)) قُ ْل ُتَ :يا نبي الل ِه ،إ ِّني أُطي ُق أَ ْف َضلَ ِم ْن ذلِ َك؟ َقالَ(( :فا ْق َرأ ُه في ُكلِّ َس ْبع َولا َت ِز ْد َعلَى ذلِ َك)) فش َّد ْد ُت َف ُش ِّد َد َعلَ َّي َوقالَ لي ال َّنبي صلى الله عليه وسلم(( :إ َّن َك لا َتد ِري لَ َعلَّ َك َي ُطولُ بِ َك ُع ُم ٌر)) َقالََ :ف ِص ْر ُت إِ َلى ا َّل ِذي َقالَ لي ال َّنب ُّي صلى الله عليه وسلمَ .فلَ َّما َكبِ ْر ُت َو ِد ْد ُت أ ِّني ُك ْن ُت َقبِل ُت ُر ْخ َص َة َنب ِّي الله صلى الله عليه وسلم. .وفي روايةَ (( :وإِ َّن لِ َو َل ِد َك َعلَ ْي َك َحقا)) .وفي رواية(( :لا َصا َم َم ْن َصا َم الأَ َب َد)) ثلاثا وفي رواية(( :أَ َح ُّب ال ِص َيا ِم إِ َلى الل ِه َت َعا َلى ِص َيا ُم َدا ُودَ ،وأَ َح ُّب ال َّصلا ِة إِ َلى اللهِ َت َعالَى َصلاةُ َدا ُو َدَ :كا َن ينام نصف الليل ،ويقوم ثلثه ،وينام سدسه ،وكان يصوم يوما ويفطر يوماَ ،ولا َيفِ ُّر إِ َذا لا َقى)) وفي رواية قال :أنكحني أبي امرأة ذات حسب وكان يتعاهد كنته --أي :امرأة ولده -فيسألها عن بعلها .فتقول له :نعم الرجل من رجل لم يطأ لنا فراشا، ولم يفتش لنا كنفا منذ أتيناه .فلما طال ذلك عليه ذكر ذلك للنبي صلى الله :عليه وسلم ،فقال(( :القني به)) فلقيته بعد ذلك ،فقال ((كيف تصوم؟)) قلت :كل يوم ،قال(( :وكيف تختم؟)) قلت :كل ليلة ،وذكر نحو ما سبق ،وكان يقرأ على بعض أهله السبع الذي يقرؤه ،يعرضه من
النهار ليكون أخف عليه بالليل ،وإذا أراد أن يتقوى أفطر أياما وأحصى .وصام مثلهن كراهية أن يترك شيئا فارق عليه النبي صلى الله عليه وسلم كل هذه الروايات صحيحة ،معظمها في الصحيحين ،وقليل منها في أحدهما وفي الحدي ِث :أ َّن أ ْفضلَ َصوم ال َّتط ُّوع هو َص ْو ُم َنب ِّي الله دا ُو َد عليه ال َّسلا ُم وفيه :الاق ِتصا ُد في َب ْع ِض ال ِعبادا ِت؛ ل َي َت َب َّقى َبع ُض الق َّو ِة ل َغي ِرها وفيهَ :بيا ُن ِرف ِق َرسو ِل اللهِ ص َّلى الله عليه وس َّلم بأُ َّم ِتهَ ،و َش َف َق ِته عليهم، َوإِرشا ِده إ َّيا ُهم إلى ما ُيصلِحهمَ ،و َح ِّثه إ َّياهم على ما ُيطيقو َن ال َّدوا َم عليه، َو َن ْهيهم َعن ال َّتع ُّم ِق في ال ِعباد ِة؛ لما ُي ْخشى ِمن إِ ْفضا ِئه إلى ال َم َل ِل أو َتر ِك ال َبعض. وفيه :جواز الإخبار عن الأعمال الصالحة ،والأوراد ،ومحاسن الأعمال ،ولا يخفى أن محل ذلك عند أمن الرياء.
المقدمة باب في الاقتصاد في الطاعة الحديث الحادي والخمسون بعد المائة عن أبي ِرب ِعي حنظلة ب ِن الربي ِع الأُ َس ِّي ِد ِّي الكاتب أح ِد كتاب َر ُسول الله صلى الله عليه وسلمَ ،قالَ :لَ ِق َينِي أَ ُبو َبكر رضي الله عنه َف َقالََ :ك ْي َف أ ْن َت َيا ح ْن َظ َل ُة؟ ُق ْل ُتَ :نا َف َق َح ْن َظ َل ُة! َقالَُ :س ْب َحا َن الله َما َت ُقولُ؟! ُق ْل ُتَ :ن ُكو ُن ِع ْن َد َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم ُي َذ ِّك ُر َنا بال َج َّن ِة َوال َّنا ِر كأ َّنا َرأ َي َع ْين فإِ َذا َخ َر ْج َنا ِم ْن ِع ْن ِد َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم َعا َف ْس َنا الأَ ْزوا َج َوالأَ ْول َا َد َوال َّض ْي َعا ِت َنسي َنا َك ِثيرا َقالَ أَ ُبو بكر رضي الله عنهَ :ف َوالله إ َّنا َل َن ْل َقى ِم ْثلَ َه َذا ،فا ْن َطلَ ْق ُت أَ َنا وأ ُبو َب ْكر َح َّتى َد َخ ْل َنا َعلَى َر ُسول الله صلى الله عليه وسلم .فقُ ْل ُتَ :نا َف َق َح ْن َظ َل ُة َيا َر ُسول الل ِه! َف َقالَ َر ُسول الله صلى الله عليه وسلمَ (( :و َما َذا َك؟)) ُق ْل ُتَ :يا َر ُسول الل ِهَ ،ن ُكو ُن ِع ْن َد َك ُت َذ ِّك ُر َنا ِبال َّنا ِر وال َج َّن ِة كأ َّنا َرأ َي ال َع ْين فإِ َذا َخ َر ْج َنا ِم ْن ِع ْن ِد َك َعا َف ْس َنا الأَ ْزوا َج َوال َأ ْول َا َد َوال َّض ْي َعا ِت َنسي َنا َك ِثيراَ .ف َقالَ َر ُسول الله صلى الله عليه وسلمَ (( :وا َّل ِذي َن ْفسي ِب َي ِد ِهَ ،ل ْو َت ُدو ُمو َن َعلَى َما َت ُكونو َن ِع ْن ِدي، َوفي ال ِّذ ْكر ،ل َصا َف َح ْت ُك ُم الملائِ َك ُة َعلَى فُ ُر ِش ُك ْم َوفي ُط ُرقِ ُك ْمَ ،ولَ ِك ْن َيا َح ْن َظ َل ُة َسا َعة و َسا َعة)) َثلاَ َث َم َرات ( رواه مسلم) ((عافسنا)) أي :عالجنا ولاعبنا و((الضيعات)) :المعايش. شرح الحديث عن حنظلة الكاتب ،أحد كتاب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ،إنه قال :لقيني أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ فقلت :نافق حنظلة ،يعني نفسه، ومعنى نافق :يعني صار من المنافقين قال ذلك ظنا منه رضي الله عنه أن ما فعله نفاق
فقال أبو بكر :وما ذاك؟ فقال رضي الله عنه :نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر بالجنة والنار (حتى كأنا رأى عين) يعني كأنما نرى الجنة والنار رأى عين من قوة اليقين (فإذا خرجنا من عنده عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات) يعني لهونا معهم ونسينا ما كنا عليه عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر رضي الله عنه عن نفسه أنه يصيبه كذلك ،ثم ذهبا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ،فلما وصلا إليه قال حنظلة :نافق حنظلة يا رسول الله قال\" :وما ذاك؟\" فأخبره بأنهم إذا كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم فحدثهم عن الجنة والنار ،أخذهم من اليقين ما يجعلهم كأنهم يرونهما رأي العين ،ولكن إذا خرجوا عافسوا الأهل والأولاد والضيعات وتلهوا بهم نسوا كثيرا فقال النبي عليه الصلاة والسلام(( :والذي نفسي بيده ،لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم)) أي من شدة اليقين تصافحكم إكراما لكم وتثبيتا لكم؛ لأنه كلما زاد يقين العبد ،فإن الله سبحانه وتعالى يثبته ويقويه ((ولكن يا حنظلة ساعة وساعة، ساعة وساعة .ساعة وساعة)) يعني ساعة للرب عز وجل ،وساعة مع الأهل والأولاد ،وساعة للنفس حتى يعطي الإنسان لنفسه راحتها ،ويعطي ذوي الحقوق حقوقهم وهذا من عدل الشريعة الإسلامية وكمالها ،أن الله عز وجل له حق فيعطي حقه عز وجل ،وكذلك للنفس حق فتعطى حقها ،وللأهل حق فيعطون حقوقهم ،وللزوار والضيوف حق فيعطون حقوقهم ،حتى يقوم الإنسان بجميع الحقوق التي عليه على وجه الراحة ،ويتعبد لله عز وجل براحة ،لأن الإنسان إذا أثقل على نفسه وشدد عليها مل وتعب ،وأضاع حقوقا كثيرة
الحديث الثاني والخمسون بعد المائة ع ِن ابن عباس رضي الله عنهماَ ،قالَ :بينما ال َّنب ُّي صلى الله عليه وسلم يخطب إِ َذا ُه َو برجل قائم فسأل َع ْن ُه ،فقالوا :أَ ُبو إ ْس َرائيلَ َن َذ َر أ ْن َي ُقو َم في ال َّش ْم ِس َولا َي ْق ُع َدَ ،ولا َي ْس َت ِظلَ ،ولا َي َت َك َّل َمَ ،و َي ُصو َمَ ،ف َقالَ ال َّنبي صلى الله عليه وسلمُ (( :م ُرو ُهَ ،ف ْل َي َت َك ّلَ ْمَ ،و ْل َي ْس َت ِظلََّ ،و ْل َي ْق ُع ْدَ ،و ْل ُيتِ َّم َص ْو َم ُه)) (رواه البخاري) شرح الحديث نذر رجل يقال له أبو إسرائيل؛ أن يقوم في الشمس ولا يقعد ،وأن يصمت ولايتكلم ،وأن يصوم ،وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب ،فرأى هذا الرجل قائما في الشمس ،فسأل عنه فأخبر عن قصته ،فقال النبي صلى الله عليه وسلم( :مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه) وهذا النذر كان قد تضمن أشياء محبوبة إلى الله عز وجل ،وأشياء غير محبوبة أما المحبوبة إلى الله فهي الصوم؛ لأن الصوم عبادة ،وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم( :من نذر أن يطيع الله فليطعه) وأما وقوفه قائما في الشمس من غير أن يستظل ،وكونه لا يتكلم؛ فهذا غير محبوب إلى الله عز وجل ،فلهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم هذا الرجل أن يترك ما نذر. وليعلم أن النذر اصله مكروه ،بل قال بعض العلماء :أنه محرم ،وأنه لا يجوز للإنسان أن ينذر؛ لأن الإنسان إذا نذر كلف نفسه ما لم يكلفه الله ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النذر وقال (إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل) ،ولكن إذا قدر أن الإنسان نذر فالنذر أقسام: قسم حكمه حكم اليمين وقسم آخر نذر معصية وقسم ثالث نذر طاعة
أما الذي حكمه حكم اليمين ،فهو الذي قصد الإنسان به تأكيد الشيء؛ نفيا أو إثباتا أو تصديقا أو تأكيدا ،ومثاله :إذا قيل للرجل أخبرتنا بكذا وكذا ولكنك لم تصدق ،فقال :إن كنت كاذبا فلله على نذر أن أصوم سنة ،فلا شك أن غرضه من ذلك أن يؤكد قوله ليصدقه الناس ،هذا حكمه حكم اليمين؛ لأنه قصد بذلك تأكيد ما قال أما القسم الثاني :فهو المحرم فالمحرم إذا نذره الإنسان يحرم عليه الوفاء به ،مثل أن يقول :لله عليه نذر أن يشرب الخمر ،فهذا نذر محرم ،فلا يحل له أن يشرب الخمر أما القسم الثالث :فهو نذر الطاعة ،أن ينذر الإنسان نذر طاعة ،مثل أن يقول :لله على نذر أن أصوم الأيام البيض؛ وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر ،فيلزمه أن يوفي بنذره ،لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من نذر أن يطيع الله فليطعه) فإن اشتمل نذره على طاعة وغير طاعة؛ وجب أن يوفي بالطاعة ،أما غير الطاعة فلا يوفي بها مثل قصة هذا الرجل ،حيث نذر أن يقوم في الشمس ،وألا يستظل ،وألا يتكلم ،وأن يصوم ،فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يصوم لأنه طاعة، ولكنه قال في القيام ،وعدم الاستظلال ،وعدم الكلام؛ مروه فليستظل وليقعد وليتكلم
Search
Read the Text Version
- 1
- 2
- 3
- 4
- 5
- 6
- 7
- 8
- 9
- 10
- 11
- 12
- 13
- 14
- 15
- 16
- 17
- 18
- 19
- 20
- 21
- 22
- 23
- 24
- 25
- 26
- 27
- 28
- 29
- 30
- 31
- 32
- 33
- 34
- 35
- 36
- 37
- 38
- 39
- 40
- 41
- 42
- 43
- 44
- 45
- 46
- 47
- 48
- 49
- 50
- 51
- 52
- 53
- 54
- 55
- 56
- 57
- 58
- 59
- 60
- 61
- 62
- 63
- 64
- 65
- 66
- 67
- 68
- 69
- 70
- 71
- 72
- 73
- 74
- 75
- 76
- 77
- 78
- 79
- 80
- 81
- 82
- 83
- 84
- 85
- 86
- 87
- 88
- 89
- 90
- 91
- 92
- 93
- 94
- 95
- 96
- 97
- 98
- 99
- 100
- 101
- 102
- 103
- 104
- 105
- 106
- 107
- 108
- 109
- 110
- 111
- 112
- 113
- 114
- 115
- 116
- 117
- 118
- 119
- 120
- 121
- 122
- 123
- 124
- 125
- 126
- 127
- 128
- 129
- 130
- 131
- 132
- 133
- 134
- 135
- 136
- 137
- 138
- 139
- 140
- 141
- 142
- 143
- 144
- 145
- 146
- 147
- 148
- 149
- 150
- 151
- 152
- 153
- 154
- 155
- 156
- 157
- 158
- 159
- 160
- 161
- 162
- 163
- 164
- 165
- 166
- 167
- 168
- 169
- 170
- 171
- 172
- 173
- 174
- 175
- 176
- 177
- 178
- 179
- 180
- 181
- 182
- 183
- 184
- 185
- 186
- 187
- 188
- 189
- 190
- 191
- 192
- 193
- 194
- 195
- 196
- 197
- 198