Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore ثاني اثنين أدهم شرقاوي

ثاني اثنين أدهم شرقاوي

Published by كتاب فلاش Flash Book, 2021-03-21 07:26:05

Description: رواية أدبية في سيرة أبي بكر الصديق رضي الله عنه

Search

Read the Text Version

‫ُانظـ ْر للآمنيـن مـن الحـروب والفتـن‪ ،‬تجـد أغلبهم فـي غفلة‬ ‫عـن اللـ ِه‪ ،‬يعيشـون كل حياتهم للدنيـا‪ ،‬لأنهم يرون المـوت بعيد ًا‬ ‫فينسـون الاسـتعداد لـه‪ ،‬بينمـا الذيـن يحيط بهـم المـوت من كل‬ ‫جانـب تجدهم أكثـر اسـتعداد ًا له!‬ ‫‪ -‬صدق َت يا خليفة رسول الله‪.‬‬ ‫‪ -‬بارك الله بك يا ُبني‪.‬‬ ‫‪ -‬والآن هـل يتكـ ّرم خليفـة رسـول اللـه أن يح ّدثنـي عـن‬ ‫ظـروف توليـه الخلافـة؟‬ ‫‪ -‬ل َك هذا يا ُبني‪ ،‬فاسمع‪.‬‬ ‫‪ُ -‬ك ّلي آذان صاغية ل َك‪.‬‬ ‫‪ -‬عـاد النبـ ُّي ﷺ مـن حجة الـوداع فـي آخر شـهر ذي الحجة‬ ‫مـن السـنة العاشـرة للهجـرة‪ ،‬فأقـام فـي المدينـة مـا تبقـى‬ ‫مـن ذي ال ِحجـة‪ ،‬ثـم شـهر الله المحـ َّرم‪ ،‬ثم في شـهر َصفر‬ ‫بـدأ بتجهيـز الجيـش للخـروج وجعل أسـامة بن زيـد أمير ًا‬ ‫عليـه وكان يومهـا ابـن ثمانـي عشـر سـنة‪ ،‬فتكلـم بعضهم‬ ‫فـي إمارتـه ولـم يعجبهم الأمـر كون أسـامة مولـى وصغير‬ ‫فـي السـن! فلـم يـر َض النبـ ُّي ﷺ بهـذا الطعن في أسـامة‪،‬‬ ‫فصعـد المنبـر وقـال‪« :‬إن يطعنوا فـي إمارته فقـد طعنوا في‬ ‫إمـارة أبيه مـن قبل‪ ،‬و َأي َم اللـه إنه كان خليفـ ًا للإمارة‪ ،‬وكان‬ ‫مـن أحـ ِّب الناس إلـ َّي‪ ،‬وإ َّن ابنه هـذا لمن أحـ َّب الناس إل َّي‬ ‫بعده»‪.‬‬ ‫‪101‬‬

‫وبينمـا الناس يسـتع ّدون للخـروج في جيش أسـامة‪ ،‬إذ مر َض‬ ‫النبـ ُّي ﷺ مرضـ ًا شـديد ًا‪ ،‬منعـه مـن الخـروج إلـى الصالة ليـؤم‬ ‫الناس‪.‬‬ ‫‪ -‬فمن كان يؤم الناس في مرضه؟‬ ‫‪ -‬لمـا اشـت َّد علـى النبـي ﷺ المـرض‪ ،‬اسـتأذن زوجاتـه أن‬ ‫ُي َّمـر َض فـي بيـت عائشـة فـأ ِذ َن لـه‪ ،‬وكان عنـده نفـر مـن‬ ‫أصحابـه يعودونـه‪ ،‬فجاء بالل ودعـاه إلى الصالة‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫ُمـروا مـن يصلـي بالناس‪.‬‬ ‫فخـر َج عبـد اللـه بن زمعـة من عنـد النبـي ﷺ‪ ،‬فلقـ َي عمر بن‬ ‫الخطـاب ولـم يجدنـي‪ ،‬فقال له‪ :‬يا عمـر ُق ْم فص ِّل بالنـاس‪ .‬فتقدم‬ ‫عمـر‪ ،‬فك َّبـر‪ ،‬وقرأ وكان عمـر جهوري الصوت‪ ،‬فسـمع النب َّي ﷺ‬ ‫صوتـه‪ ،‬فقال‪ :‬فأين أبـو بكر؟ يأبـى الله ذلك والمسـلمون‪ ،‬فبع َث‬ ‫إل َّي فصليـ ُت بالناس‪.‬‬ ‫فقـال عمـر بعد ذلك لعبـد الله بن زمعـة‪ :‬ويح َك مـاذا صنع َت‬ ‫بـي يـا ابن زمعـة؟ والل ِه مـا ظنن ُت حيـن أمرتني إلا أن رسـول الله‬ ‫ﷺ أمـر َك بذلك‪ ،‬ولـولا ذلك ما صليـ ُت بالناس‪.‬‬ ‫فقـال لـه‪ :‬والل ِه ما أمرنـي النبي ﷺ بشـي ٍء‪ ،‬ولكني حيـن لم أ َر‬ ‫أبـا بكـر‪ ،‬رأيت َك أح َق مـن حضر بالصالة بالناس‪.‬‬ ‫‪ -‬إذ ًا رفض النب ُّي ﷺ إمامة عمر للناس؟‬ ‫‪102‬‬

‫‪ -‬الأمر كما أخبرتك‪.‬‬ ‫‪ -‬فلماذا لم ُيس ِّم َك إذ ًا؟‬ ‫‪ -‬مـا ظ َّن أن يتقـ َّدم أح ٌد غيـري‪ ،‬والأمر كما رأيـ َت فابن زمعة‬ ‫بحـ َث عنـي أولاً فلما لـم يجدني طلب ذلـك من عمر‪.‬‬ ‫‪ -‬فما الذي حدث في الصلوات اللاحقة؟‬ ‫‪ -‬لمـا حضـرت الصالة التاليـة قـال النبـ ُّي ﷺ‪ُ :‬مـروا أبا بكر‬ ‫فليصـ ِّل بالناس‬ ‫فقالت عائشـة‪ :‬يا رسـول الله إن أبا بكر رجل أسـيف‪ /‬سـريع‬ ‫الحـزن والبـكاء‪ ،‬وإنـه متـى يقـم مكانـ َك غلبه بـكاؤه فلم يسـمع‬ ‫النـاس منـه‪ ،‬فلو أ ّمـر َت عمر؟‬ ‫فقال‪ :‬مروا أبا بكر فل ُيص ِّل بالناس‪.‬‬ ‫فقالـت عائشـة لحفصـة‪ :‬قولـي للنبـي ﷺ إن أبـا بكـر رجـل‬ ‫أسـيف‪ ،‬وإنـه متـى يقـم مكانـ َك غلبـه بـكاؤه فلـم يسـمع الناس‬ ‫منـه‪ ،‬فلـو أمـر َت عمر؟‬ ‫فلمـا قالـ ْت حفصة ذلك لـه‪ ،‬قال‪ :‬إنكـ َّن صويحبات يوسـف!‬ ‫مـروا أبا بكـر فليصـ ِّل بالناس‪.‬‬ ‫فقالوا لي فصلي ُت بالناس‪.‬‬ ‫فلمـا دخلـ ُت في الصالة‪ ،‬وج َد النب ُّي ﷺ في نفسـه خفة ونشـاط ًا‪،‬‬ ‫فقـام متكئـ ًا علـى رجليـن‪ ،‬حتـى وقـف فـي الصـف خلفـي‪ ،‬فلمـا‬ ‫سـمع ُت ح َّسـه‪ ،‬أرد ُت أن أتأخـر ليتقـدم مكانـي‪ ،‬فأشـار إلـ َّي أن تابـع‬ ‫صلاتـك‪ ،‬فتابعتهـا‪ ،‬وبقيـ ُت طـوال مـرض النبـي ﷺ أصلـي بالناس‪.‬‬ ‫‪103‬‬

‫‪ -‬يـا لهـذا الإصـرار عليـ َك يـا خليفـة رسـول اللـه‪ ،‬كـم كن َت‬ ‫أثيـر ًا علـى قلبه‪.‬‬ ‫‪ -‬هذا فضل الله ُيؤتيه من يشاء يا ُبني‪.‬‬ ‫‪ -‬فماذا عن يوم وفاة النبي ﷺ؟‬ ‫‪ -‬بقيـ ُت أصلـي بالنـاس طيلة مـرض النبي ﷺ‪ ،‬حتـى إذا كان‬ ‫يـوم الإثنيـن‪ ،‬الثاني عشـر من شـهر ربيـع الأول من السـنة‬ ‫الحاديـة عشـرة للهجـرة‪ ،‬وقفـ ُت لأصلـي بالنـاس صالة‬ ‫الفجـر‪ ،‬فكشـ َف النبـ ُّي ﷺ سـتر ال ُحجـرة‪ ،‬وهو قائـم ينظ ُر‬ ‫إلينـا‪ ،‬وكأن وجهـه ورقـة مصحـف مـن سـروره لتجمعنـا‬ ‫وعـدم فرقتنـا‪ ،‬وظننـا أنه سـيخرج ليصلي معنا‪ ،‬فقـد بدا لنا‬ ‫أنـه بخيـر‪ ،‬فأشـار إلينـا أن أتموا صلاتكـم‪ ،‬ودخـل حجرته‪.‬‬ ‫وحيـن انتهينـا مـن الصالة‪ ،‬ظـ َّن النـاس أن الوجـع ذهـ َب‬ ‫عـن النبـي ﷺ وأنـه قـد ُشـفي‪ ،‬فدخلـ ُت عليـه ومـا به مـن وجع‪،‬‬ ‫ففرحـ ُت لهـذا‪ ،‬وقلـ ُت لـه‪ :‬يا نبـ َّي اللـه‪ ،‬إنـي أراك بنعمة مـن الله‬ ‫وفضـل كمـا نحـ ُّب‪ ،‬واليـوم يـوم زوجتـي بنـت خارجـة أفآتيها؟‬ ‫فقال لي‪ :‬نعم‪.‬‬ ‫فخرجـ ُت مـن عنـده إلـى أهلي بمنطقـة ُيقـال لها السـنح‪ ،‬فلم‬ ‫تحـن صالة الظهر حتـى جاء مـن يخبرنـي أن النبـي ﷺ قد لحق‬ ‫بالرفيـق الأعلى‪.‬‬ ‫‪104‬‬

‫‪ -‬ﷺ أشـه ُد أن قـد ب َّلغ الرسـالة وأدى الأمانـة‪ ،‬ونصح الأمة‪،‬‬ ‫وجاهـد في اللـه ح َّق جهـاده حتى آتـاه اليقين‪.‬‬ ‫‪ -‬وأنا على ذلك من الشاهدين‪.‬‬ ‫‪ -‬فحدثني ع َّما كان منك يوم وفاة النبي ﷺ؟‬ ‫‪ -‬اضطـرب المسـلمون يومهـا اضطرابـ ًا شـديد ًا‪ ،‬كانـوا فـي‬ ‫المسـجد حيـارى‪ ،‬منهـم مـن أصابته الدهشـة فكأنـه انعقد‬ ‫لسـانه‪ ،‬ومنهـم من لـم تعد قدمـاه تحملاه‪ ،‬ومنهـم من نفى‬ ‫عنـه احتمالية الموت جملـ ًة وتفصيل ًا! وإنهـا والل ِه لمصيبة‬ ‫مـا ُابتلى المسـلمون بمثلها أبـد الدهر ويكفـي أن النبي ﷺ‬ ‫قـال‪« :‬إذا أصـاب أحدكم مصيبـة فليتذكر مصابـه بي‪ ،‬فإنها‬ ‫أعظـم المصائب»!‬ ‫وكان مـن الذيـن أنكـروا موتـه عمـر بن الخطـاب حيث قـام في‬ ‫المسـجد فقـال‪ :‬إ َّن رجالاً مـن المنافقين يزعمون أن رسـول الله ﷺ‬ ‫قـد مـات‪ .‬وإنـه واللـ ِه مـا مـات‪ ،‬ولكنـه ذهـ َب إلـى ربـه كمـا ذهب‬ ‫موسـى بـن عمـران‪ ،‬وقد غاب عـن قومه أربعيـن ليل ًة ثم رجـع إليهم‬ ‫بعـد أن قيـل قـد مـات! واللـ ِه ليرجعـ َّن رسـول اللـه ﷺ كمـا رجـع‬ ‫موسـى‪ ،‬وليقطعـ َّن أيـدي رجـال وأرجلهم زعمـوا أنه قـد مات‪.‬‬ ‫ودخل ُت المسـجد وعمـر على هـذه الحال‪ ،‬فلم أكلمـه‪ ،‬وإنما‬ ‫دخلـ ُت إلـى حجـرة ابنتـي عائشـة حيـث النبـي ﷺ مسـ َّجى عليه‬ ‫ثيـاب يمانية‪ ،‬فكشـف ُت عـن وجهه‪ ،‬وق َّبلتـه ثم قل ُت لـه‪ :‬بأبي أنت‬ ‫‪105‬‬

‫وأمـي مـا أطيبـ َك حيـ ًا وميتـ ًا‪ ،‬أمـا الموتة التـي كتبهـا اللـ ُه علي َك‬ ‫فقـد ذقتهـا ثم لـن يصيبك بعدهـا موتـة أبد ًا‪.‬‬ ‫ثـم ردد ُت الغطـاء عليه‪ ،‬وخرجـ ُت إلى المسـجد وعمر ما زال‬ ‫يكلـم الناس‪ .‬فقلـ ُت له‪ :‬على ِرسـلك يا عمر‪ .‬فأبـى إلا أن يتكلم‪،‬‬ ‫فلما رأيته لا يسـك ُت ولا يسـم ُع‪ ،‬تركتـه‪ ،‬وأقبل ُت أريـ ُد أن أح ِّد َث‬ ‫النـاس‪ ،‬فتركـوا عمـر بن الخطـاب وأقبلـوا علـ َّي‪ ،‬فحمـد ُت الله‬ ‫وأثنيـ ُت عليـه ثـم قلـ ُت‪ :‬أيهـا النـاس مـن كان يعبـ ُد محمـد ًا فإن‬ ‫محمـد ًا قـد مـات‪ ،‬ومـن كان يعبـ ُد الله فـإ َّن الله حـ ُّي لا يموت‪.‬‬ ‫ثـم قـرأ ُت قـول اللـه تعالـى ﴿ َو َمـا ُم َح َّمـ ٌد إِلا َر ُسـو ٌل َقـ ْد‬ ‫َخ َلـ ْت ِمـ ْن َق ْب ِل ِه ال ُّر ُسـ ُل َأ َفـإِ ْن َمـا َت َأ ْو ُقتِـ َل ا ْن َق َل ْب ُت ْم َع َلـى َأ ْع َقابِ ُك ْم‬ ‫َو َمـ ْن َينْ َق ِلـ ْب َع َلـى َع ِق َب ْيـ ِه َف َلـ ْن َي ُضـ َّر ال َّلـ َه َشـ ْي ًئا َو َسـ َي ْج ِزي ال َّلـ ُه‬ ‫ال َّشـا ِك ِري َن﴾‪.‬‬ ‫فلما سمع الناس قولي علموا يقين ًا أن النب َّي ﷺ قد مات‪.‬‬ ‫‪ -‬فمـاذا عنيـ َت بقولـك‪ :‬أمـا الموتـة التـي كتبهـا اللـه عليـ َك‬ ‫فقـد ذقتهـا ثـم لن يصيبـك بعدهـا موتة أبـد ًا؟ فهـل يموت‬ ‫الإنسـان مرتين؟‬ ‫‪ -‬نعـم يمـو ُت الإنسـان مرتيـن‪ ،‬مـر ًة إذا مـات كمـا يمـوت‬ ‫النـاس‪ ،‬ومـر ًة ثانيـة إذا ماتـت أفـكاره التي كان ينـادي بها‪،‬‬ ‫ودعوتـه التـي كان يدعـو إليهـا‪ ،‬وهـذا بالضبـط مـا عنيتـه‬ ‫‪106‬‬

‫فإنـي لا أسـتطيع أن أرد عنـه الموتـة الأولـى‪ ،‬ولا أردهـا‬ ‫عـن نفسـي‪ .‬فـكل نفـس ذائقـة المـوت نهايـة المطـاف‪،‬‬ ‫أمـا شـرعه ودينـه وسـنته فلن تمـوت أبـد ًا‪ ،‬لقد عزمـ ُت أن‬ ‫أحمـل لـواءه‪ ،‬وأبلـغ سـنته‪ ،‬وأمـوت فـي سـبيل شـرعه‪.‬‬ ‫‪ -‬مـا أعظمـ َك ومـا أفقهـ َك‪ ،‬تؤمـن أن الدين مسـؤولية وليس‬ ‫مجـرد اعتقاد!‬ ‫‪ -‬هـو واللـ ِه كذلـك‪ ،‬فهـذا الديـن جـاء للبشـرية حتـى قيـام‬ ‫السـاعة‪ ،‬وليـس حتـى وفـاة النبـي ﷺ‪ ،‬متـى عرفنـا هـذه‬ ‫الحقيقـة ووعيناهـا في عقولنـا وقلوبنا‪ ،‬عرفنا أن كل مسـلم‬ ‫هـو نائب عن النبـي ﷺ‪ُ ،‬يب ِّلغ شـرعه‪ ،‬ويلتزم سـنته‪ ،‬ويقدم‬ ‫الغالـي والنفيـس ليبقـى هـذا الدين‪.‬‬ ‫‪ -‬مـا أرو َع خطابـ َك‪ ،‬بهـذه الكلمات القلائـل أخرج َت الناس‬ ‫مـن ذهولهـم وحيرتهـم‪ ،‬وأرجعتهم إلـى الفهـم الصحيح‪،‬‬ ‫بـأن اللـه هـو الحـي الـذي لا يمـوت‪ ،‬وأنـه وحـده الـذي‬ ‫يسـتح ُّق العبـادة‪ ،‬وأن الإسالم بـا ٍق أبـد الدهـر رغـم وفاة‬ ‫النبي ﷺ!‬ ‫‪ -‬هذا مما فتحه الله عل َّي يومها يا ُبني‪.‬‬ ‫‪ -‬فكيـف جـاء َك هـذا الثبـات‪ ،‬وأنـ َت أحـق النـاس أن تنهـار‬ ‫أمـام هـذا الحـدث الجلـل‪ ،‬فأنـ َت أرقهـم قلبـ ًا‪ ،‬وأكثرهـم‬ ‫صلـ ًة وصداقـ ًة ومحبـة للنبـي ﷺ؟‬ ‫‪107‬‬

‫‪ -‬اللـ ُه وحـده هـو مـن ُينـزل السـكينة علـى عبـاده فـي هـذه‬ ‫المواقـف‪ ،‬وقـد مـ َّن اللـه سـبحانه علـ َّي بسـكين ٍة وجدتهـا‬ ‫فـي قلبـي‪ ،‬وصواب ًا في لسـاني‪ ،‬واسـتخدمني ليكـون قولي‬ ‫فصا ًل‪ ،‬وكلامـي فيصل ًا‬ ‫‪ -‬فكيف بايع َك الناس بالخلافة؟‬ ‫‪ -‬لمـا أيقـن المسـلمون بوفـاة النبـي ﷺ اجتمـع الأنصار في‬ ‫سـقيفة بني سـاعدة قبل أن ندفـ َن النبـي ﷺ وتداولوا الأمر‬ ‫بينهـم فـي اختيـار من يلـي الخلافة مـن بعده‪.‬‬ ‫وعقـ َد الأنصـا ُر العـز َم علـى مبايعـة سـعد بـن عبـادة‪ ،‬ولمـا‬ ‫بلغنـا اجتماعهـم والغـرض الذي لأجلـه كان هـذا الإجتماع‪ ،‬قال‬ ‫المهاجـرون‪ :‬انطلقـوا بنـا نـرى مـا يصنـ ُع إخوتنـا مـن الأنصار‪.‬‬ ‫فانطلقنـا حتـى أتيناهـم فـي سـقيفة بنـي سـاعدة‪ ،‬فـإذا رجـل‬ ‫قاعـد مزمـل بينهـم‪.‬‬ ‫فقلنا‪ :‬من هذا؟‬ ‫قالوا‪ :‬هذا سعد بن عبادة‪.‬‬ ‫فقلنا‪ :‬ما باله هكذا؟‬ ‫قالوا‪ :‬مريض يوعك‪.‬‬ ‫فلمـا جلسـنا‪ ،‬قـام خطيـ ٌب مـن الأنصـار‪ ،‬فحمـد اللـه وأثنـى‬ ‫عليـه ثـم قـال‪ :‬نحن أنصـار اللـه‪ ،‬وكتيبـة الإسالم‪ ،‬وأنتم معشـر‬ ‫المهاجريـن نفـر قليـل‪ ،‬والأمـر إنمـا يجـب أن يكـون إلينا‪.‬‬ ‫‪108‬‬

‫فقـام عمـر بـن الخطـاب يريـ ُد أن يتكلم‪ ،‬فأشـر ُت إليـه أن دع‬ ‫الأمـر إل َّي‪.‬‬ ‫فقمـ ُت وقلـ ُت‪ :‬يـا معشـر الأنصـار مـا ذكرتـم فيكم مـن َخير‬ ‫فأنتـم لـه أهل‪ ،‬ولـن يعرف هـذا الأمر إلا لهـذا الحي مـن قريش‪،‬‬ ‫هـم أوسـط العرب نسـب ًا ودار ًا‪ ،‬وقـد رضي ُت لكم هذيـن الرجلين‬ ‫فبايعـوا أيهمـا شـئتم‪ ،‬وأخـذ ُت بيـد عمـر بـن الخطـاب ويـد أبي‬ ‫عبيـدة بـن الجراح‪.‬‬ ‫فقـال عمـر‪ :‬واللـه أن ُأقـ ّدم فتضـرب عنقـي أحب إلـ َّي من أن‬ ‫أتأمـر علـى قـوم فيهم أبـو بكر!‬ ‫فقال رجل من الأنصار‪ :‬منا أمير ومنكم أمير‪.‬‬ ‫فقـال عمـر‪ :‬هـذا واللـ ِه أول الوهـن‪ ،‬وإن هـذا الأمـر لا ينعقد‬ ‫إلا لرجـل واحـد‪ ،‬وهـذا أبو بكـر صديق رسـول اللـه ﷺ‪ ،‬ورفيق‬ ‫هجرتـه وثانـي اثنيـن إذ همـا فـي الغـار‪ ،‬وقـد أمـره النبـي ﷺ أن‬ ‫يصلـي بالنـاس حيـن مـرض فأيكم تطيـ ُب نفسـه أن يتقـدم عليه‪.‬‬ ‫فسكتوا ولم يقولوا شيئ ًا‪.‬‬ ‫فقل ُت‪ :‬يا عمر ُاب ُس ْط يد َك ُأبايعك‪.‬‬ ‫فقال لي عمر‪ :‬أن َت أفضل مني‪.‬‬ ‫فقل ُت‪ :‬أن َت أقوى مني‪.‬‬ ‫فقال‪ :‬فإن قوتي ل َك مع فضلك‪.‬‬ ‫ثـم وثـب فأخـذ بيـدي فبايعنـي‪ ،‬فقـام كل مـن فـي السـقيفة‬ ‫فبايعونـي‪...‬‬ ‫‪109‬‬

‫‪ -‬بهذه البيعة إذ ًا صر َت خليفة للمسلمين؟‬ ‫‪ -‬هذه كانت البيعة الخاصة‪ ،‬ثم تلاها البيعة العامة‪.‬‬ ‫‪ -‬وما هي البيعة العامة؟‬ ‫‪ -‬بيعـة مـن تبقـى مـن الصحابـة‪ ،‬كانـت بيعـة السـقيفة يـوم‬ ‫الإثنيـن يـوم وفـاة النبـي ﷺ‪ .‬ولمـا كان يـوم الغد جلسـ ُت‬ ‫عنـد المنبـر‪ ،‬فقـام عمـر قبلـي فقـال‪ :‬أيهـا الناس قـد كن ُت‬ ‫قلـ ُت لكـم بالأمـس مقالـة مـا كانـت إلا عـن رأيـي‪ ،‬ومـا‬ ‫وجدتهـا فـي كتـاب الله عـ َّز وجـل‪ ،‬ولا كانت عهـد ًا عهده‬ ‫إلـ َّي النبـي ﷺ ولكنـي قـد كنـ ُت أرى أن رسـول اللـه ﷺ‬ ‫سـيدبر أمرنـا حتـى يكـون آخرنـا‪ ،‬وإ َّن اللـه قد أبقـى فيكم‬ ‫كتابـه الذي فيـه هدى به رسـوله‪ ،‬فـإن اعتصمتم بـه هداكم‬ ‫لمـا كان هـداه لـه‪ ،‬وإ َّن اللـه جمـ َع أمركـم علـى خيركـم‬ ‫صاحـب رسـول اللـه ﷺ‪ ،‬وثانـي اثنيـن إذ همـا فـي الغـار‬ ‫وأولـى النـاس بأموركـم فقومـوا فبايعـوا‪.‬‬ ‫فقام الناس فبايعوني‪...‬‬ ‫‪ -‬رحم الله عمر بن الخطاب والل ِه إنه لنعم الرجل‪.‬‬ ‫‪ -‬أي والله إنه لنعم الرجل القوي الأمين‪.‬‬ ‫‪ -‬فهل تكلم َت يومها بعد كلام عمر؟‬ ‫‪ -‬أجل يا ُبني‪ ،‬تكلم ُت بعد أن فرغ الناس من مبايعتي‪.‬‬ ‫‪ -‬فماذا قلت؟‬ ‫‪ -‬حمـد ُت اللـه وأثنيـ ُت عليـه‪ ،‬ثـم قل ُت‪ :‬أيهـا النـاس إني قد‬ ‫‪110‬‬

‫ُوليـ ُت عليكـم ولسـ ُت بخيركـم‪ ،‬فـإن أحسـن ُت فأعينوني‪،‬‬ ‫وإن أسـأ ُت فقومونـي‪ .‬ال َّصدقـة أمانـة‪ ،‬والكـذب خيانـة‪،‬‬ ‫والضعيـف فيكـم قوي عنـدي حتـى أر َّد عليه ح َّقه إن شـاء‬ ‫اللـه‪ .‬والقـوي فيكـم ضعيف عنـدي حتـى آخذ الحـق منه‬ ‫إن شـاء الله‪.‬‬ ‫أيهـا النـاس لا يدع قـوم الجهاد في سـبيل اللـه إلا ضربهم الله‬ ‫بالـذل‪ ،‬لا تشـي ُع الفاحشـة فـي قـوم قـط إلا ع َّمهـم اللـه بالبالء‪،‬‬ ‫أطيعونـي مـا أطع ُت الله ورسـوله‪ ،‬فـإن عصي ُت الله ورسـوله فلا‬ ‫طاعـة لـي عليكم‪ ،‬قومـوا إلـى صلاتكم يرحمكـم الله‪.‬‬ ‫‪ -‬بالعـودة إلـى سـقيفة بنـي سـاعدة يـا خليفـة رسـول اللـه‪،‬‬ ‫لمـاذا أراد الأنصـار مبايعـة سـعد بـن عبـادة؟‬ ‫‪ -‬لقـد علـم الأنصار بحسـن فهمهم أنه لا بـد أن يكون للناس‬ ‫خليفـة وحاكـم‪ ،‬فال تسـتقيم دولـة إلا بـه‪ ،‬وعندمـا توفـي‬ ‫رسـول اللـه ﷺ سـارعوا يحضرون لبيعة سـعد بـن عبادة‪.‬‬ ‫أمـا لمـاذا سـعد بـن عبـادة فلأنـه زعيمهـم‪ ،‬فقد كان سـعد‬ ‫بـن عبـادة وسـعد بن معـاذ زعيمـا الأوس والخـزرج‪ ،‬وأما‬ ‫قد استشـهد سـعد بـن معـاذ‪ ،‬فمن البديهـي أن تقـع أعينهم‬ ‫على سـعد بـن عبادة‪.‬‬ ‫‪ -‬أعني لماذا أرادوا أن يقطعوا بالأمر دونكم؟‬ ‫‪ -‬إن كانـوا أحسـنوا فـي فهـم أنه لا ُبـ َّد أن يكون للنـاس إمام‪،‬‬ ‫وعملـوا مـن فورهـم لهـذا الأمـر‪ ،‬فإنهـم قـد أخطـأوا إذ‬ ‫‪111‬‬

‫أرادوا أن يقطعـوا بالأمـر دوننـا‪ ،‬هـذا أولاً‪ ،‬وثانيـ ًا أخطـأوا‬ ‫حيـن ظنـوا لأن المدينـة مدينتهم‪ ،‬وهـم الأكثريـة أن يكون‬ ‫الخليفـة منهـم‪ ،‬وما هكذا تنعقـد البيعة‪ ،‬لا صلـة قربى‪ ،‬ولا‬ ‫عـن مـكان وجغرافيا‪ ،‬وإنمـا تكون للأصلـح والأكفأ بغض‬ ‫النظر عـن اعتبـارات المـكان والعرق‪.‬‬ ‫‪ -‬ولكنك كن َت لين ًا معهم وأنت تردهم عن هذا الخطأ؟‬ ‫‪ -‬يـا ُبنـي هـؤلاء إخواننا‪ ،‬اسـتقبلونا فـي مدينتهم‪ ،‬وقاسـمونا‬ ‫بيوتهـم وخبزهـم‪ ،‬ودافعـوا عنـا‪ ،‬وحاربـوا لأجـل هـذا‬ ‫الديـن العـر َب قاطبـة ومـا ُينكر فضلهـم إلا جاحـد‪ .‬ثم إن‬ ‫كل إنسـان ينظـر إلـى الأمـر مـن زاويتـه‪ ،‬وقد يصيـب وقد‬ ‫ُيخطـئ‪ ،‬ليـس المهـم كيـف ينظـر الإنسـان إلـى الأمـر‪،‬‬ ‫المهـم أن لا ُيكابـر ويعاند ويبقـى على رأيـه الخاطئ إذا ما‬ ‫تب َّيـن لـه خطـأ رأيه‪.‬‬ ‫‪ -‬صدقـ َت يا خليفة رسـول الله‪ ،‬ولكني اسـتغرب ُت من زهد َك‬ ‫فـي الخلافـة‪ ،‬فأن َت لـم تخبـر الأنصار بعـدم أحقيتهـم بها‬ ‫لتأخذهـا لنفسـك‪ ،‬علـى العكـس أرد َت أن ُترجـع الحـ َّق‬ ‫إلـى قريـش فـي أن يكـون الخليفـة منهـم لأسـباب منطقية‬ ‫ذكرتهـا‪ ،‬ثـم بعـد ذلك طلب َت مـن عمـر أن يم َّد يـده لتبايعه‬ ‫ولكنـه رفض‪.‬‬ ‫‪ -‬يـا ُبنـي إن الأمـر هـذا مسـؤولية‪ ،‬ويكفـي المـر ُء خوفـ ًا أنـه‬ ‫س ُيسـأل عـن أعمالـه وعن أهـل بيتـه‪ ،‬فكيف بـه إذا ما صار‬ ‫مسـؤولاً عـن النـاس جميعـ ًا‪ ،‬وسـيقف يـوم القيامـة بيـن‬ ‫‪112‬‬

‫يـدي الله ليسـألهم عنه‪ ،‬أتحسـ ُب أن الأمر تشـريف و ُأبهة؟‬ ‫لا واللـه إنـه تكليـف ومسـؤولية‪ ،‬وقـد أرد ُت أن ألقيهـا في‬ ‫رقبـة عمر بـن الخطاب لأنـي كنـ ُت أراه أقوى منـي عليها‪،‬‬ ‫ولكنـه رفـ َض‪ ،‬وواللـ ِه لـو قبلها كنـ ُت أول مـن بايعه‪.‬‬ ‫‪ -‬وان ُظـ ْر لحـب عمـر بـن الخطـاب لك يـا خليفة رسـول الله‬ ‫حيـن قـال لـ َك‪ :‬لئن أتقـدم فتضـرب عنقـي أحب إلـ َّي من‬ ‫أن أتأمـر علـى قـوم فيهم أبـو بكر‪.‬‬ ‫‪ -‬ومـن كعمـر‪ ،‬ذلـك الصاحـب الأميـن‪ ،‬والخـل الوفـي‪،‬‬ ‫والنقـي الـذي لا تنسـيه قوتـه أن يرجـع إلـى الحـق‪.‬‬ ‫‪ -‬مـا أعرفـه أن النبـ َّي ﷺ لـم ُيسـ ِّم أحـد ًا ليكون خليفـة بعده‬ ‫ولكنـه تـر َك إشـارات كثيـرة تـدل علـى أنـه كان يريـدك أن‬ ‫تكـون الخليفـة بعـده‪ ،‬فهـل لـ َك أن تحدثنـي عـن هـذه‬ ‫الإشـارات؟‬ ‫‪ -‬لـ َك هـذا يـا ُبنـي‪ ،‬ولكـن قبـل أن أحدثـك عن الإشـارات‬ ‫الخفيـة التـي تتضمـن معنـى أن النبي ﷺ قـد أراد أن يكتب‬ ‫لـي وصيتـه بالأمر‪ .‬ففـي مرضه الـذي مات فيه قـال لابنتي‬ ‫عائشـة‪ :‬ادعـي لـي أبا ِك وأخـا ِك‪ ،‬حتـى أكتـ َب كتابـ ًا‪ ،‬فإني‬ ‫أخـاف أن يتمنـى متمـ ٍن‪ ،‬ويقـول قائـل‪ :‬أنـا أولـى‪ ،‬ويأبـى‬ ‫اللـه والمؤمنـون إلا أبـا بكر‪.‬‬ ‫‪ -‬فلماذا لم يكتب إذ ًا؟‬ ‫‪113‬‬

‫‪ -‬اشـت َّد عليـه المـرض بعدهـا‪ ،‬ومـا كانـت عائشـة ولا أحـد‬ ‫يحسـ ُب أن النبـي ﷺ سـيموت فـي مرضـه هـذا‪ ،‬فلـم ترد‬ ‫أن تشـق عليه فـي مرضـه‪ ،‬وأرادت أن تتريث حتى يسـتعيد‬ ‫عافيتـه‪ ،‬ولكـن قدر الله أمضـى‪ ،‬لتكون لي الخلافـة بالبيعة‬ ‫والإجمـاع وليـس بالوصية‪.‬‬ ‫‪ -‬فأ ُيهما كان أح ُّب إليك؟‬ ‫‪ -‬الأحـ ُب إلـ َّي مـا اختـاره الله لي‪ ،‬فلـو أراد اللـه أن تكون لي‬ ‫الخلافـة بالوصيـة كانـت أحـب إلـ َّي مـن أن تكـون بالبيعة‬ ‫والإجمـاع اللذيـن لا بـد منهمـا بعـد الوصيـة أساسـ ًا‪ ،‬أمـا‬ ‫وقد شـاء اللـه أن تكون الخلافـة بيعة وإجماعـ ًا فإني أح ُّب‬ ‫مـا ارتضـاه الله سـبحانه لي‪.‬‬ ‫‪ -‬يا لقلبك وإيمانك يا أبا بكر!‬ ‫‪ -‬يـا ُبنـي إن الإيمـان كلـه فـي الرضـا‪ ،‬فمـاذا يبقـى مـن إيمـان‬ ‫المـرءلـولـميـر َضعلـىقضـاءاللـهوقـدرهخيـر ًاكانأمشـر ًا‪.‬‬ ‫‪ -‬فماذا عن الإشارات الخفية يا خليفة رسول الله؟‬ ‫‪ -‬هـي كثيـرة وأولهـا أنـه ع ِهـ َد إلـ َّي أن ُأصلي بالمسـلمين في‬ ‫مرضـه‪ ،‬وعندمـا طلبـوا مـن عمـر بـن الخطـاب وأجـاب‪،‬‬ ‫رفـ َض النبـ ُّي ﷺ الأمـر رفضـ ًا قاطعـ ًا‪ .‬وعندمـا طلـب من‬ ‫عائشـة أن تطلـب منـي أن أصلـي بالنـاس‪ .‬وناقشـته فـي‬ ‫الأمـر‪ ،‬فرفـ َض‪ ،‬ثـم اسـتعان ْت بحفصـة لتناقشـه أيضـ ًا‬ ‫فرفـ َض‪ ،‬د َّل هـذا دلالـة لا شـك فيها أنـه أرادنـي أن أخلفه‬ ‫فـي المسـلمين‪.‬‬ ‫‪114‬‬

‫‪ -‬فلماذا لم ينتبه الأنصار إلى هذا الأمر؟‬ ‫‪ -‬يـا ُبنـي عندمـا تنـزل الخطـوب بالنـاس فإنهـم ينشـغلون‬ ‫بهـا‪ ،‬والمصائـب ومدلهمات الأمـور تجعل الناس ينسـون‬ ‫بعـض مـا كان مـن شـأنهم أن يتذكـروه وفـي الأمر سـعة‪.‬‬ ‫‪ -‬حسن ًا فهم ُت‪ ،‬فماذا عن باقي الإشارات؟‬ ‫‪ -‬أتـ ْت امـرأة إلـى النبـي ﷺ تطلـ ُب ُأعطيـة ولـم يكـن عنـده‬ ‫مـال‪ ،‬فأمرهـا أن ترجـع إليـه‪ ،‬فقالـ ْت لـه‪ :‬إن جئـ ُت ولـم‬ ‫أجـدك؟ كأنهـا ُتري ُد أن تقـول فربما ُعد ُت ولـم أجدك على‬ ‫قيـد الحياة‪.‬‬ ‫فقال لها‪ :‬إن لم تجديني َفاتي أبا بكر‪.‬‬ ‫‪ -‬يا لها من إشارة فهل هناك غيرها؟‬ ‫‪ -‬أجـل هنـاك غيرهـا‪ ،‬كنـا يوم ًا جلوسـ ًا عنـد النبـ ِّي ﷺ فقال‬ ‫لنـا‪ :‬إنـي لا أدري مـا قـدر بقائي فيكـم‪ ،‬فاقتـدوا بالذين من‬ ‫بعـدي‪ ،‬وأشـا َر إلـ َّي وإلـى عمـر بـن الخطـاب‪ ،‬وتمسـكوا‬ ‫بعهـد ع َّمـار‪ ،‬ومـا حدثكـم ابـن مسـعود فص ِّدقوه‪.‬‬ ‫‪ -‬وهذه إشارة جميلة أيض ًا‪ ،‬فهل هناك غيرها؟‬ ‫‪ -‬هناك غيرها أيض ًا‪.‬‬ ‫‪ -‬فحدثني عنها‪.‬‬ ‫‪ -‬كنـا جلوسـ ًا مـع النب َّي ﷺ فـي المسـجد إذ قـال ُي ِّحدثنا عن‬ ‫رؤيـا رآهـا‪ :‬بينمـا أنـا نائـم رأيـ ُت أني أنـز ُع علـى حوضي‬ ‫أسـقي النـاس‪ ،‬فجاءنـي أبـو بكـر فأخـذ الدلـو مـن يـدي‬ ‫ليريحنـي‪ ،‬فنـزع الدلويـن وفـي نزعـه ضعـف واللـه يغفـر‬ ‫‪115‬‬

‫لـه‪ ،‬فجـاء ابـن الخطـاب فأخذ منـه‪ ،‬فلـم أ َر نزع رجـ ٍل قط‬ ‫أقـوى منـه حتـى تولـى النـاس‪ ،‬والحـوض مآلن يتفجر‪.‬‬ ‫‪ -‬هـذه أيض ًا إشـارة لـ َك أن َك سـتخلفه‪ ،‬والدلو كمـا يظهر من‬ ‫الرؤيـا هـو الخلافـة‪ ،‬والحكـم‪ ،‬وأخـذك الدلـو منـه يعنـي‬ ‫أخـذ َك الحكـم والمنصب‪ ،‬وأخذ عمـر الدلو بعـد َك‪ .‬أيض ًا‬ ‫يدل أنـه سـيكون خليفت َك‪.‬‬ ‫‪ -‬هذا صحيح يا ُبني‪ ،‬وهنا تكمن الإشارة بالخلافة‪.‬‬ ‫‪ -‬فلمـاذا قـال النبـي ﷺ أنـك نزعـ َت دلويـن‪ ،‬وفـي نزعـ َك‬ ‫ضعـف‪ ،‬بينمـا كان نـزع عمر للدلالـة قوي ًا شـديد ًا حتى ع َّم‬ ‫المـا ُء الـذي نزعـه النـاس جميعـ ًا وامتأل الحوض؟‬ ‫‪ -‬وهـذه أيضـ ًا إشـارة يـا ُبنـي‪ ،‬فالضعـف فـي نزعـي للمـاء‬ ‫دلالـة علـى قصر مـدة حكمـي‪ ،‬وعجلـة موتي‪ ،‬وانشـغالي‬ ‫بحـروب الردة والفتـن الداخلية عند الفتوحـات الخارجية‪،‬‬ ‫وقـد و َّطـأ ُت الأمر لعمـر‪ ،‬فجاء بعـدي ليجد جبهـة داخلية‬ ‫مسـتقرة سـاعدته فـي أن يتجـه للفتوحـات الخارجية‪.‬‬ ‫‪ -‬تأويل رهيب يا خليفة رسول الله‪.‬‬ ‫‪ -‬بارك الله بك يا ُبني‪.‬‬ ‫‪ -‬ولكن عندي سؤال لو أذن َت لي؟‬ ‫‪ -‬تف َّضل يا ُبني‪.‬‬ ‫‪ -‬مـا دامـت الإشـارات كثيـرة فلمـاذا غابـ ْت عن النـاس أول‬ ‫ا لأ مر ؟‬ ‫‪116‬‬

‫‪ -‬لـم تكن هـذه الحوادث فـي مجلس واحد‪ ،‬ومـا كان جميع‬ ‫النـاس يحضـرون مجلـس النبـي ﷺ كل الوقـت‪ ،‬فعلـى‬ ‫سـبيل المثـال كان بيتـي فـي ال َّسـرح وغبـ ُت عـن بعـض‬ ‫مجالـس النبـي ﷺ‪ ،‬فقـال أشـيا ًء لـم أشـهدها‪ ،‬وكان عمـر‬ ‫بـن الخطـاب يتنـاوب هـو وأخ له علـى العمـل والجلوس‬ ‫فـي مجلـس النبـي ﷺ‪ ،‬بحيـ ُث يعمـ ُل عمـر يومـ ًا وينـزل‬ ‫أخـاه إلـى مجلـس النبـي ﷺ‪ ،‬فـإذا كان المسـاء أخبـره بما‬ ‫حصـل في مجلـس النبي ﷺ‪ ،‬فـإذا كان الغد جـاء عمر إلى‬ ‫مجلـس النبـي ﷺ وسـمع وشـاهد‪ ،‬بينمـا يبقـى أخـوه في‬ ‫العمل وهكـذا‪...‬‬ ‫وأيضـ ًا الأنصـار كانـت لهـم ضيـاع وبسـاتين يعملـون علـى‬ ‫زراعتهـا‪ ،‬وقطـف ثمرهـا‪ ،‬فال بـد أن يفوتهـم بعـض مـا يـدور‬ ‫فـي مجلـس النبـي ﷺ‪ .‬والمهاجـرون وإن لـم يكـن لهـم ِضيـاع‬ ‫وبسـاتين مقارنـة بأهـل المدينـة فإنهم كانـوا يعملون في السـوق‪،‬‬ ‫وهـذا العمـل يأخـذ منهـم وقتـ ًا‪ ،‬ويشـغلهم عـن حضـور بعـض‬ ‫مجالـس النبـي ﷺ‪ .‬لهـذا لا يوجـد أحـد أحـاط بـكل شـيء‪.‬‬ ‫‪ -‬حسن ًا فهم ُت يا خليفة رسول الله‪.‬‬ ‫‪ -‬فهل عند َك شيء بعد تسأل عنه؟‬ ‫‪ -‬فـي هـذا المجـال لا‪ ،‬ولكن هل يـأذن خليفة رسـول الله أن‬ ‫ننتقـل إلى مجـال آخر؟‬ ‫‪117‬‬

‫‪ -‬ل َك هذا يا ُبني‪ ،‬فس ْل ع َّما بدا ل َك‪.‬‬ ‫‪ -‬أرد ُت أن أسألك عن خطبتك يوم توليت الخلافة‪.‬‬ ‫‪ -‬فعن أي شيء منها تري ُد أن تسأل؟‬ ‫‪ -‬ألا تـرى أنهـا قصيرة نسـبي ًا‪ ،‬أعني أنها أول بيان سياسـي من‬ ‫الخليفـة الجديـد إلـى الأمة‪ ،‬وقـد ألفنا في أيامنـا أن عريف‬ ‫حفـ ٍل مـن احتفالاتنا اليـوم إذا أراد أن يم ِّهـد للمتكلم الذي‬ ‫سـيأتي بعـده لا يكاد ينتهـي‪ ،‬وإذا صعـد المتكلـم المنب ُر لا‬ ‫تطيب نفسـه المغادرة؟‬ ‫‪ -‬العبرة ليسـت في طـول الخطبة ولا قصرهـا وإنما العبرة في‬ ‫أن تـؤدي الغـرض منهـا‪ ،‬وتقـوم بإيصـال الأفـكار واضحة‬ ‫جليـة‪ ،‬علـى أن مـن عـادة العـرب أن لا تطيل فـي الخطبة‪،‬‬ ‫لأن البلاغـة فـي الإيجاز هـذا أولاً‪ ،‬وثاني ًا إن الكلام ُينسـي‬ ‫بعضه بعضـ ًا فإطالة الخطيـب ولفه ودورانه يجعل السـامع‬ ‫ينسـى بعضـ ًا ممـا قـال آنفـ ًا‪ ،‬بعكـس إذا كان الـكلام قليل ًا‬ ‫ومرتبطـ ًا بالفكـرة فإنـه يرسـخ في ذهنـه‪ ،‬والأهـم من ذلك‬ ‫قـول النبـي ﷺ‪« :‬قصـر خطبـة الرجل وطـول صلاتـه ِم ِئنّة‬ ‫مـن فقهه»‪.‬‬ ‫‪ -‬فهمـ ُت يـا خليفة رسـول الله‪ ،‬ولكـن أرد ُت أن أسـأل أليس‬ ‫مـن المفترض أن تكـون الخطبة الأولى أو البيان السياسـي‬ ‫الأول لـ َك إيضاحـ ًا لمعالم سياسـتك في الحكم؟‬ ‫‪ -‬بلى‪ ،‬هكذا كانت‪.‬‬ ‫‪118‬‬

‫‪ -‬فهـل يـأذن خليفـة رسـول اللـه أن يحدثنـي عـن ملامـح‬ ‫سياسـتهفـيالحكـمالتـيضمنهـافـيبيانـهالسياسـيالأول؟‬ ‫‪ -‬ل َك هذا يا ُبني‪ ،‬فاسم ْع‪.‬‬ ‫‪ -‬إني ُمص ٍغ فتف ّضل‪.‬‬ ‫‪ -‬عندمـا قلـ ُت‪ :‬أطيعوني ما أطع ُت الله ورسـوله‪ ،‬فإن عصي ُت‬ ‫الله ورسـوله فال طاعة لي عليكـم‪ .‬فإني بهـذا أخبر الناس‬ ‫بمصـادر التشـريع في الدولـة التي سـأحكمها‪ .‬وهما كتاب‬ ‫اللـه تعالى وسـنة رسـوله‪ .‬فالقـرآن هو المصـدر الأول من‬ ‫مصـادر التشـريع الـذي يحتـوي الأحـكام الشـرعية التـي‬ ‫ُتنظـم كل مناحـي الحياة‪ .‬أما السـنة المطهـرة فهي المصدر‬ ‫الثانـي مـن مصـادر التشـريع الـذي يسـتمد منـه الدسـتور‬ ‫الإسالمي رافديـن أساسـيين‪ .‬الأول الأحكام التـي لم ترد‬ ‫فـي القـرآن وجـاءت بهـا السـنة المطهـرة‪ .‬فبعـض أحكام‬ ‫القـرآن جـاءت مجملة فجـاءت السـنة النبويـة لتفصل هذه‬ ‫الأحـكام سـوا ًء فـي العبـادات أو المعاملات‪ ،‬فاللـه تعالى‬ ‫مثا ًل أمرنـا فـي القـرآن الكريـم بإقامـة الصالة‪ ،‬ولكنـه لم‬ ‫يخبرنـا بعـدد الصلـوات‪ ،‬ولا أوقاتهـا‪ ،‬ولا ركعاتها‪ ،‬ولا ما‬ ‫الـذي نقولـه فيهـا‪ ،‬فجـاءت السـنة النبوية شـارحة ومفصلة‪.‬‬ ‫‪ -‬شـرح جميـل ومف ّصـل يـا خليفة رسـول اللـه‪ ،‬فمـاذا قل َت‬ ‫فـيخطبتـ َكعـنملامـحسياسـتكغيرمصـادرالتشـريع؟‬ ‫‪119‬‬

‫‪ -‬عندمـا قلـ ُت‪ :‬فإن أحسـن ُت فأعينوني وإن أسـأ ُت فقوموني‪.‬‬ ‫فإنـي أرسـي مبـدأ مراقبـة عمـل الحاكـم ومحاسـبته‪.‬‬ ‫أخبرتهـم أنـي إنسـان‪ ،‬وأن الخطـأ منـي وارد‪ ،‬فقـد مضـى‬ ‫زمـن الأنبيـاء‪ ،‬فال عصمـة لأحـد مـن النـاس‪ ،‬وأنـا واحد‬ ‫منهـم يصـدر مني الخطـأ أيض ًا‪ .‬كنـ ُت أنظر إلـى الأمة على‬ ‫أنها شـريك فـي الحكـم‪ ،‬لا مجـرد تابع منقـاد‪ ،‬ففـي نهاية‬ ‫المطـاف أنـا موظـف عنـد النـاس أرعـى شـؤونهم‪ ،‬وأدير‬ ‫أمورهـم‪ ،‬لا هـم موظفـون عنـدي‪ .‬فلهـم علـ َّي حقـوق‬ ‫ولـي عليهـم واجبـات‪ ،‬ومـن واجبـي عليهـم أن يطيعونـي‬ ‫بالمعـروف‪ ،‬ولا آكل شـيئ ًا مـن مالهـم دون وجـه حق‪ ،‬فإن‬ ‫أمـر ُت بالمعروف كان واجبـ ًا عليهم طاعتـي‪ ،‬وإن أخطأ ُت‬ ‫كان واجبـ ًا عليهـم أن ينصحوا لـي ويقومونـي‪ .‬ألا ترى أنه‬ ‫إذا اسـتأجر ثـري عاما ًل علـى بسـتان له فـرآه قـد أخطأ في‬ ‫أمـر مـن أمور عمله‪ ،‬أرشـده إلى الصـواب‪ ،‬والأمة هي ذاك‬ ‫الثـري صاحـب البسـتان وأنـا ذاك العامل الذي اسـتأجروه‬ ‫ليقـوم بإصلاحه‪.‬‬ ‫‪ -‬يـا لهـذا الفقـه السياسـي منـك يـا خليفـة رسـول اللـه‪ ،‬ويا‬ ‫لاحتـرام الأمـة‪.‬‬ ‫‪ -‬يـا ُبني هذا ليس فقه ًا شـخصي ًا‪ ،‬وإنه شـرع اللـه الذي أعطى‬ ‫الحاكـم حرمـة وتبجيا ًل مـا دام يأمـر النـاس بالمعـروف‪،‬‬ ‫وأعطـى الأمـة حـق المحاسـبة للحاكـم إن هـو أخطـأ فـي‬ ‫بعـض أمـور الحكم‪.‬‬ ‫‪120‬‬

‫‪ -‬فمـاذا قلـ َت فـي خطبتـك أيضـ ًا وترى أنـه يرسـم الملامح‬ ‫السياسـية لعهدك؟‬ ‫‪ -‬عندمـا قلـ ُت الضعيـف فيكم قوي عنـدي حتـى ُأرجع عليه‬ ‫حقـه إن شـاء اللـه‪ ،‬والقوي فيكـم ضعيف حتـى آخذ الحق‬ ‫منه إن شـاء اللـه‪ .‬فقد كن ُت أرسـي مبـدأ العدل والمسـاواة‬ ‫بيـن الناس‪.‬‬ ‫فالنـاس أمـام القانـون سـواء‪ ،‬فالضعيـف صاحـب الحق قوي‬ ‫بالدولـة التـي تسـخر كل طاقاتهـا وإمكاناتهـا لتعيـد إليـه حقـه‪،‬‬ ‫والقـوي الظالـم ضعيـف أمـام هيبـة الدولـة المسـتنفرة بـكل‬ ‫أجهزتهـا لتقتـص منه‪ ،‬وتأخـذ حقوق النـاس التي غصبهـا بقوته‪.‬‬ ‫‪ -‬فأي شيء غير هذا المبدأ الجميل في خطبتك؟‬ ‫‪ -‬عندمـا قلـ ُت‪ :‬الصـدق أمانـة والكـذب خيانـة‪ .‬فقـد كنـ ُت‬ ‫أرسـي مبـدأ الصـدق فـي التعامـل بيـن الحاكـم والرعيـة‪،‬‬ ‫فلسـ ُت أدبـر أمـر ًا وأخبـر الرعيـة عكسـه‪ .‬ولا أريـد مـن‬ ‫الرعيـة أن تهـز رأسـها بالموافقـة أمامـي وبالمعارضة وراء‬ ‫ظهـري‪ .‬أرد ُت أن ُأرسـي مبـدأ الثقـة‪ .‬وأعـزز الاحتـرام‬ ‫المتبـادل بـدل الخـوف والشـك والريبـة‪ ،‬فلسـ ُت أقول إلا‬ ‫صدقـ ًا‪ ،‬ولسـ ُت أفعـ ُل غير مـا أقـول‪ ،‬بالمقابـل لا أريد من‬ ‫الرعيـة أكثـر مـن أن تحدثنـي بشـكوكها‪ ،‬وتفاتحنـي بمـا‬ ‫أشـكل عليهـا مـن قراراتـي‪ ،‬فهـذا من شـأنه أن يبنـي جبهة‬ ‫داخليـة قويـة لا يمكـن هزيمتهـا‪ ،‬فالدولـة التي تنهـار أمام‬ ‫‪121‬‬

‫الأعـداء هـي فـي الحقيقـة دولـة منهـارة مـن الداخـل لـم‬ ‫يفعـل الأعـداء أكثـر مـن إكمـال المشـهد الأخيـر فـي هذا‬ ‫الإنهيـار‪ ،‬القالع الحصينـة لا تسـقط إلا مـن الداخل‪ ،‬وقد‬ ‫أرد ُت دولـة حصينـة متماسـكة مـن الداخل‪ ،‬تليـق بالمهام‬ ‫الجسـام التـي عليهـا أن تقـوم بهـا وأهمهـا تعبيـد النـاس‬ ‫بر بهم ‪.‬‬ ‫‪ -‬يا للفقه السياسي الراسخ يا خليفة رسول الله‪.‬‬ ‫‪ -‬بارك الله بك يا ُبني‪.‬‬ ‫‪ -‬فمـاذا تض ّمنت خطبتـك بعد من خطوط عريضة لسياسـتك‬ ‫في الحكم؟‬ ‫‪ -‬عندمـا قلـ ُت‪ :‬مـا تـرك قـوم الجهـاد ف ي سـبيل اللـه إلا‬ ‫خذلهـم اللـه بالـذل‪ ،‬فإنـي ُأعلـ ُن أن هويـة هـذه الأمـة هي‬ ‫العـزة والكرامـة‪ ،‬وأننـا نأخـذ حقنـا بأيدينـا ولا نسـتجديه‬ ‫مـن الآخريـن‪ .‬نحـن أمـة لا تظلـم ولا تعتـدي‪ ،‬وإنمـا‬ ‫ننـادي بالتراحـم والتعايش‪ ،‬ولكـن تعايش القـوي لا تأقلم‬ ‫الضعيـف الـذي يحسـبه مـن اسـتمرأ الـذل وهانـت عليـه‬ ‫كرامتـه أنـه تعايـش‪.‬‬ ‫‪ -‬صدق َت يا خليفة رسول الله‪ ،‬فماذا تضمن ْت خطبتك بعد؟‬ ‫‪ -‬عندمـا قلـ ُت‪ :‬ولا تشـيع الفاحشـة فـي قـوم إلا ع َّمهـم الله‬ ‫بالبالء‪ .‬فقـد كنـ ُت أعلـن الحـرب علـى رزايـا الأخالق‪،‬‬ ‫‪122‬‬

‫وعلـى الزنـا والربـى والفجور‪ ،‬فنحـن أمة لها رسـالة‪ ،‬هذه‬ ‫الرسـالة النقيـة التي جـاءت خاتمـة الرسـالات‪ ،‬ونبيها ﷺ‬ ‫خاتـم الرسـل‪ ،‬إنما هـي للناس كافـة‪ ،‬وإن بـدأ ْت فينا نحن‬ ‫و ُأمرنـا بتبليغهـا للنـاس كافـة‪ ،‬فـكل مسـلم هـو نائـب عن‬ ‫النبـي ﷺ‪ ،‬ومأمـور بالتبليـغ عنه بقـدر اسـتطاعته‪ ،‬وبحجم‬ ‫إمكاناتـه وقدراتـه‪ ،‬فال بد من إصالح أفراد الأمـة ليكونوا‬ ‫جديريـن بـأن يكونـوا نوابـ ًا للنبـي ﷺ‪ .‬وعندمـا يصلـح‬ ‫الأفـراد‪ ،‬تصلـح الأمـة‪ .‬فمـا الأمـة إلا مجمـوع أفرادهـا‪.‬‬ ‫وواجـب الدولـة أن تزيـل كل العوائـق التـي تحـول بيـن‬ ‫النـاس وبيـن صالح دينهـم‪ .‬فكيـف سـتعد مجاهـد ًا فـي‬ ‫سـبيل اللـه فـي مجتمع غـارق بالفاحشـة والزنـا والفجور‪.‬‬ ‫وكيـف سـتحمل الرحمـة والعـدل للنـاس فـي مجتمـع لا‬ ‫يرحـم ولا يعـدل بين أفـراده‪.‬‬ ‫‪ -‬يا ل َك من عبقري يا خليفة رسول الله‪.‬‬ ‫‪ -‬بـارك اللـه بـك يـا ُبنـي‪ ،‬والآن أخبرنـي بعـد أن انتهينـا من‬ ‫خطبتـييـومتوليـ ُتالخلافـة‪،‬هـلعنـدكشـيءتسـألعنه؟‬ ‫‪ -‬أرد ُت أن أسـأل عـن أول قـرار سياسـي كبيـر اتخذتـه بعـد‬ ‫توليـك الخلافـة بأيـام وأعنـي بـه إنفـاد جيش أسـامة‪.‬‬ ‫‪ -‬كانـت الجزيـرة العربيـة تجـاور دولتين قويتيـن هما فارس‬ ‫والـروم‪ ،‬وكان العـرب في العراق يتبعـون الفرس‪ ،‬والعرب‬ ‫‪123‬‬

‫في الشـام وشـمال الجزيـرة يتبعون للـروم‪ .‬ولأن النبي ﷺ‬ ‫جـاء للنـاس كافـة‪ ،‬ولدعـوة البشـر جميع ًا إلـى عبـادة الله‬ ‫الواحـد الأحـد‪ ،‬فقد راسـل كسـرى عظيم فـارس‪ ،‬وهرقل‬ ‫عظيـم الـروم ودعاهما إلى الإسالم لكنهما اسـتكبرا وآثرا‬ ‫الحيـاة الدنيا علـى الآخرة‪.‬‬ ‫وكان العـرب فـي الجزيـرة العربيـة قبل الإسالم ينظـرون إلى‬ ‫فـارس والـروم نظرة هيبة لمـا لهما من قـوة عسـكرية وإقتصادية‪،‬‬ ‫وتقـدم فـي الحضـارة والعمـران‪ ،‬لهـذا كانـت خطـة النبـي ﷺ‬ ‫أن يكسـر شـيئ ًا مـن هـذه الهيبـة فـي قلـوب العـرب تجـاه فارس‬ ‫والـروم ممهـد ًا بذلـك للمعـارك الكبـرى التي جـاءت فيمـا بعد‪.‬‬ ‫ففـي العـام الثامن من الهجرة الشـريفة أرسـل النبي ﷺ جيشـ ًا‬ ‫إلى شـمال الجزيـرة العربيـة‪ ،‬واقتتل هذا الجيش مـع جيش الروم‬ ‫ومـن معهـم مـن نصـارى العـرب في غـزوة مؤتـة التـي أدت إلى‬ ‫استشـهاد قـادة الجيش الثلاثـة الذين عينهـم النبـي ﷺ تباع ًا‪ ،‬زيد‬ ‫بـن حارثـة وجعفـر بـن أبـي طالـب وعبدالله بـن رواحـة‪ ،‬إلى أن‬ ‫تولـى القيادة خالـد بن الوليد الذي رسـم خطة انسـحاب محكمة‬ ‫وعـاد بالجيـش إلـى المدينـة‪ ،‬ولـم يعجـب النـاس فـي المدينـة‬ ‫هـذا الانسـحاب‪ ،‬فقالـوا للمجاهديـن العائديـن أنتـم ال ُفـ َّرار أي‬ ‫الهاربون‪.‬‬ ‫فقال النبي ﷺ‪ :‬بل هم ال ُك َّرار أي المهاجمون‪.‬‬ ‫‪124‬‬

‫وكانـت هـذه أول مواجهة مباشـرة بيننا وبيـن الروم‪ .‬وفـي العام‬ ‫التاسـع للهجرة النبوية الشـريفة خـرج النب ُّي ﷺ علـى رأس الجيش‬ ‫بنـا إلـى تبـوك‪ ،‬ولكننـا لم نشـتبك مع الـروم‪ ،‬ولا مـع القبائـل التي‬ ‫خضعـت لحكمهـم‪ .‬وآثـر حـكام المناطـق التـي دخلناهـا الصلـح‬ ‫والجزيـة‪ .‬فمكثنـا فـي تبـوك عشـرين ليلـة ثـم عدنـا إلـى المدينـة‪.‬‬ ‫وكانـت هـذه ثانـي خطوة فـي كسـر هيبة الـروم من نفـوس العرب‪.‬‬ ‫أمـا عـن جيـش أسـامة فكنـ ُت قـد أخبرتـك أن النبـي ﷺ قـد‬ ‫جعـل أسـامة علـى رأس جيـ ٍش لقتـال الـروم‪ ،‬ولكنّـه مـا َت ﷺ‬ ‫والجيـش معسـكر علـى مشـارف المدينـة لـم يغادرهـا‪.‬‬ ‫وبقـي الجيـش مرابطـ ًا مكانـه حتـى ت ّمـ ْت بيعتـي‪ ،‬وصـر ُت‬ ‫خليفـ ًة للمسـلمين‪ ،‬وبعد ثلاثة أيـا ٍم أصدر ُت أمري إلى أسـامة أن‬ ‫يمضـي بالجيـش إلـى حيـث أمره النبـي ﷺ يوم قـال له‪ِ :‬سـ ْر إلى‬ ‫موضـع مقتـل أبيـك‪ ،‬فأوطئهـم الخيل‪ ،‬فقـد و ّلي ُتك هـذا الجيش‪.‬‬ ‫فقـال أسـامة لعمـر بـن الخطـاب‪ :‬اِرجـ ْع إلـى خليفـة رسـول‬ ‫اللـه ﷺ فاسـتأذنه أن يـأذن لي أن أرجـع بالناس‪ ،‬فـإ َّن معي وجوه‬ ‫النـاس‪ ،‬ولا آمـن علـى أبـي بكـر والنـاس فـي المدينـة أن يغيـر‬ ‫عليهـم أح ٌد مـن المشـركين‪.‬‬ ‫وقالـ ْت الأنصـار لعمـر‪ :‬وقـ ْل لأبـي بكـر إن أبـى إلا أن نمضـي‬ ‫فأبلغـه عنـا‪ ،‬واطلـ ْب إليه أن يولـي أمرنا رجل ًا أكبر ِسـن ًا من أسـامة‪.‬‬ ‫‪125‬‬

‫‪ -‬فماذا حدث بعد ذلك؟‬ ‫‪ -‬جـاء عمـر إلـ َّي وقال‪ :‬يـا خليفة رسـول اللـه إن العـرب قد‬ ‫اِرتـد ْت علـى أعقابهـا كفـار ًا كمـا قد علمـ َت‪ ،‬وأنـ َت تري ُد‬ ‫أن ُتنفـذ جيـش أسـامة؟ وفي جيش أسـامة جماعـة العرب‬ ‫وأبطـال النـاس فلـو حبسـته عنـد َك لتق ّويـ َت بـه علـى مـن‬ ‫ارتـ َّد مـن هـؤلاء العرب‪.‬‬ ‫فقلـ ُت لـه‪ :‬والل ِه لـو علم ُت أ َّن ال ِّسـباع تجر برجلـي إن لم أر َّده‬ ‫مـا رددتـه‪ ،‬ولا حلل ُت لـوا ًء عقده رسـول الله ﷺ!‬ ‫فقـال لي عمـر‪ :‬إ َّن الأنصـار أمرونـي أن أبلغ َك‪ ،‬وهـم يطلبون‬ ‫أن تولـي أمرهـم رجل ًا أكبر ِسـن ًا من أسـامة‪.‬‬ ‫فوثبـ ُت إلـى عمر‪ ،‬وأخـذ ُت بلحيتـه وقل ُت لـه‪ :‬ثكلتـ َك أم َك‪،‬‬ ‫وعدمتـ َك يـا ابن الخطاب‪ ،‬اسـتعمله رسـول اللـه ﷺ وتأمرني أن‬ ‫أنزعه؟!‬ ‫فعـاد عمر إلـى أسـامة والناس فـي المعسـكر‪ ،‬فقالوا لـه‪ :‬ماذا‬ ‫صنع َت ؟‬ ‫فقـال‪ :‬ام ُضـوا‪ ،‬ثكلتكـم أمهاتكـم‪ ،‬مـا لقيـ ُت في سـبيلكم من‬ ‫خليفـة رسـول الله‪.‬‬ ‫‪ -‬فماذا حدث بعد ذلك يا خليفة رسول الله؟‬ ‫‪ -‬أمـر ُت مناديـ ًا أن ينـادي فـي طرقـات المدينـة‪ :‬ليتـم بعـث‬ ‫أسـامة‪ ،‬ألا لا يبقيـ َّن بالمدينـة أحـد مـن جنـد أسـامة إلا‬ ‫خـرج إلـى عسـكره‪.‬‬ ‫‪126‬‬

‫ثـم قمـ ُت فـي النـاس خطيبـ ًا‪ ،‬فحمـد ُت اللـه وأثنيـ ُت عليه ثم‬ ‫قلـ ُت‪ :‬يـا أيهـا النـاس إنـي ولي ُت هـذا الأمـر وأنـا لـه كاره‪ .‬والل ِه‬ ‫لـودد ُت لـو أن بعضكـم كفانيـه‪ ،‬وإنمـا أنـا مثلكـم‪ ،‬وإنـي لا‬ ‫أدري لعلكـم سـتكلفوني مـا كان رسـول اللـه ﷺ يطيـق‪ ،‬إن اللـه‬ ‫اصطفـى محمـد ًا على العالميـن‪ ،‬وعصمه مـن الآفـات‪ ،‬وإنما أنا‬ ‫م ّتبـع ولسـ ُت بمبتـدع ولسـ ُت بخي ٍر مـن أحدكـم‪ ،‬فراعونـي‪ ،‬فإن‬ ‫رأيتمونـي اسـتقم ُت فبايعونـي‪ ،‬وإن رأيتمونـي زغـ ُت فقومونـي‪،‬‬ ‫وإن رسـول اللـه ﷺ قـد ُقبـ َض وليـس أح ٌد مـن هذه الأمـة يطلبه‬ ‫بمظلمـة ضربـة سـو ٍط فمـا دونهـا‪ ،‬ألا وإ َّن لـي شـيطان ًا يعترينـي‪،‬‬ ‫فـإذا أتانـي فاجتنبونـي لا ُأؤثـر في أشـعاركم وأبشـاركم‪.‬‬ ‫‪ -‬وماذا فعل َت بعد ذلك؟‬ ‫‪ -‬بعـد ذلـك ذهب ُت إلى معسـكر جيش أسـامة‪ ،‬وودعتهم وأنا‬ ‫أمشـي‪ ،‬وأسـامة علـى فرسـه‪ ،‬فقـال لـي‪ :‬يـا خليفة رسـول‬ ‫اللـ ِه لتركبـ َّن أو لأنزلِ َّن‪.‬‬ ‫فقلـ ُت لـه‪ :‬والل ِه لا تنـز ُل‪ ،‬وواللـ ِه لا أركب‪ ،‬وما علـ َّي أن ُأغ ِّبر‬ ‫قدمـ َّي فـي سـبيل الله سـاعة‪ ،‬فـإن للغازي بـكل خطـوة يخطوها‬ ‫سـبعمئة حسـنة ُتكتـب لـه‪ ،‬وسـبعمئة درجـة ُترفـع لـه‪ .‬ولكن إن‬ ‫رأيـ َت أن تعيننـي بعمـر فافع ْل‪.‬‬ ‫فأ ِذن لعمر أن يبقى معي في المدينة‪.‬‬ ‫‪ -‬وهل أوصي َت الجيش بشيء يا خليفة رسول الله؟‬ ‫‪ -‬بالطبع قد فعل ُت‪.‬‬ ‫‪127‬‬

‫‪ -‬فما كانت وصيتك لهم؟‬ ‫‪ -‬قلـ ُت لهـم‪ :‬يـا أيها النـاس قفوا أوصكـم بعشـ ٍر‪ ،‬فاحفظوها‬ ‫عنـي‪ :‬لا تخونـوا‪ ،‬ولا ت ُغ ُّلـوا‪ ،‬ولا تغـدروا‪ ،‬ولا ُتمثلـوا‪،‬‬ ‫ولا تقتلـوا طفا ًل صغيـر ًا‪ ،‬ولا شـيخ ًا كبير ُا‪ ،‬ولا امـرأة‪ ،‬ولا‬ ‫تعقـروا نخا ًل ولا تحرقـوه‪ ،‬ولا تقطعـوا شـجرة مثمـرة‪،‬‬ ‫ولا تذبحـوا شـا ًة ولا بقـر ًة ولا بعيـر ًا إلا لمأكلـ ٍة‪ ،‬وسـوف‬ ‫تمـرون بأقـوام قـد ف َّرغوا أنفسـهم فـي الصوامـع فدعوهم‬ ‫ومـا فرغـوا أنفسـهم لـه‪ ،‬وسـوف تقدمـون علـى قـوم‬ ‫يأتونكـم بآنيـ ٍة فيهـا ألـوان الطعـام‪ ،‬فـإذا أكلتـم منهـا شـيئ ًا‬ ‫بعـد شـي ٍء فاذكـروا اسـم اللـه عليهـا‪ ،‬وتلقـون قومـ ًا قـد‬ ‫فحصـوا أوسـاط رؤوسـهم وتركـوا حولها مثـل العصائب‬ ‫فاخفقوهـم بالسـيف خفقـ ًا‪ .‬اندفعـوا باسـم اللـه‪.‬‬ ‫‪ -‬وكـم غـاب أسـامة بجيشـه عـن المدينـة‪ ،‬ومـا كانـت نتيجة‬ ‫المعركـة التـي خاضها؟‬ ‫‪ -‬غاب أسـامة عـن المدينة أربعيـن ليل ًة‪ ،‬قاتـل خلالها وانتصر‬ ‫بفضـل الله وعاد إلينـا بالغنائم‪.‬‬ ‫‪ -‬وما كان أثر خروج جيش أسامة على العرب؟‬ ‫‪ -‬كان أسـامة لا يمـ ُّر بجيشـه على قبيلـة كان ْت ُتح ِّد ُث نفسـها‬ ‫بالـردة إلا قالـوا‪ :‬لـولا أ َّن لهـؤلاء قـوة ما خـر َج مثل هؤلاء‬ ‫مـن عندهم‪ ،‬وإنـا لندعهـم حتى يلقـوا الروم‪.‬‬ ‫فلمـا لقـي جيش أسـامة الـروم‪ ،‬وقاتلوهـم وانتصـروا عليهم‪،‬‬ ‫ثبـ َت أولئـك علـى دينهم‪.‬‬ ‫‪128‬‬

‫‪ -‬والآن هـل يـأذن خليفـة رسـول اللـه أن أسـأله بعـض مـا‬ ‫حدثنـي عنـه؟‬ ‫‪ -‬تفضل يا ُبني س ْل ما بدا لك‪.‬‬ ‫‪ -‬فـي كلام عمـر بـن الخطـاب وجهة نظـر حول إبقـاء جيش‬ ‫أسـامة فـي المدينـة‪ ،‬فقـد ارتـدت العـرب‪ ،‬ومـن البديهـي‬ ‫أن تصبـح المدينـة مقصـد ًا لهـم‪ ،‬وقـد طابـ َق رأي عمـر بن‬ ‫الخطـاب رأ َي أسـامة بن زيد قائـد الجيش نفسـه‪ ،‬ألم يكن‬ ‫إبقـاء الجيـش فـي المدينـة أسـلم مـن إنفـاذه لقتـال عـدو‬ ‫بعيد ؟‬ ‫‪ -‬طبعـ ًا فـي كلام عمر بـن الخطـاب وجهة نظر سـليمة‪ ،‬ومن‬ ‫مثـل عمـر لا ُيتهـم فـي رأيـه‪ ،‬ثـم ولـو كان رأيه خاطئـ ًا فما‬ ‫نشـ ُّك فـي نيتـه وحبـه للـه ورسـوله وللإسالم‪ ،‬فهـو حين‬ ‫أعطـى رأيـه إنمـا أعطـاه لمـا رأى أنه الأنفـع نظـر ًا للظرف‬ ‫السياسـي الطـارئ الـذي لم يكـن بالحسـبان‪ ،‬ولكـن يبدو‬ ‫يـا ُبنـي أنك لـم تنتبـه إلى نقطـة جوهريـة فـي الموضوع‪.‬‬ ‫‪ -‬وما هي يا خليفة رسول الله؟‬ ‫‪ -‬لـو كنـ ُت أنـا الـذي عزمـ ُت علـى إرسـال جيش أسـامة في‬ ‫هـذه الظـروف الخطـرة والإسـتثنائية لقبلـ ُت رأي عمـر بن‬ ‫الخطـاب‪ ،‬أو علـى الأقـل لقلبتـه فـي عقلـي‪ ،‬ولكـن هـذا‬ ‫الجيـش تشـ َّكل بأمـر النبـي ﷺ‪ ،‬وهـذا اللـواء قـد عقـده‬ ‫بيـده‪ ،‬فكيـف أحـ ُّل لـوا ًء عقـده النبـي ﷺ‬ ‫‪129‬‬

‫‪ -‬ألس َت الخليفة‪ ،‬ول َك الاجتهاد في الظروف المتغيرة؟‬ ‫‪ -‬بلـى أنـا كذلـك‪ ،‬ولكني متبـع لا مبتـدع‪ ،‬ولا أجتهـ ُد حيث‬ ‫قضـى النب ُّي ﷺ الأمـر‪ ،‬وأن آتي يـوم القيامة ف ُيقـال هذا أبو‬ ‫بكـر الـذي ُقتل لأنـه أنفذ جيشـ ًا أمـره النبـي ﷺ أن يمضي‬ ‫ولـم ُيبقـه في المدينـة ليحميـه أحب إلـ َّي من أن ُيقـال هذا‬ ‫أبـو بكـر الذي َسـ ِل ِم لأنـه ح َّل لـوا ًء عقـده النب َّي ﷺ‪.‬‬ ‫‪ -‬لا أحد ُيشبهك في اتباعك يا أبا بكر‪ ،‬لا أحد ُيشبهك!‬ ‫‪ -‬بارك الله بك يا ُبني‪.‬‬ ‫‪ -‬ولكن عندي سؤال آخر‪.‬‬ ‫‪ -‬وما هو؟‬ ‫‪ -‬ألـ ْم يكـن فـي كلام الأنصـار وجهة نظـ ٍر أيض ًا فـي أن تعزل‬ ‫أسـامة بـن زيـد و ُتع ِّين مكانـه من هـو أكبر سـن ًا منه؟‬ ‫‪ -‬أيـة وجهـة نظـ ٍر هـذه فـي أن أعـزل رجا ًل ع َّينـه النبـ َّي ﷺ‬ ‫علـى قيـادة الجيـش‪ ،‬إني لـو فعلـ ُت فكأنـي أتهـم النبي ﷺ‬ ‫بأنـه أخطـأ فـي توليـة أسـامة والعيـاذ باللـ ِه‪ .‬ثـم إن حجة أن‬ ‫أسـامة صغيـر في ال ِّسـن ليسـت جديدة فقـد قيل ْت فـي حياة‬ ‫النبـي صلـى لله عليه وسـلم وقـد ر َّد عليها بنفسـه حين قال‪:‬‬ ‫إن تطعنـوا فـي إمارتـه فقـد كنتـم تطعنون فـي إمـارة أبيه من‬ ‫قبـل‪ ،‬و َأيـ َم الله إنـه كان خليقـ ًا للإمـارة‪ ،‬وإن كان لمن أح ّب‬ ‫النـاس إلـ َّي‪ ،‬وإ َّن هـذا لمـن أحـ ّب الناس إلـ َّي بعده‪.‬‬ ‫فالنبـ ُّي ﷺ لـو يو ِّل أسـامة لح ّبه إياه فقـط‪ ،‬وإنمـا ولاه لأنه جدير‬ ‫بالإمـارة‪ ،‬وأي قـول غيـر هـذا اتهـام مبطـن للنبـي ﷺ بأنـه لـم يكن‬ ‫‪130‬‬

‫يضـع الرجل المناسـب في المـكان المناسـب‪ ،‬أو كان ُيقـ ِّدم ال ُح َّب‬ ‫فـي توليـة النـاس للمناصب علـى الكفـاءة‪ ،‬فـأي إيمان يبقـى للمرء‬ ‫إن اعتقـد هـذا‪ ،‬ثـم إن مـا حدث بعـد ذلك مـن انتصار أسـامة لدليل‬ ‫أنـه كان جديـر ًا بقيادتـه الجيش على صغر سـنه‪ ،‬وهذا مـن فقه النبي‬ ‫ﷺ فـي اسـتعمال الشـباب إذا رأى منهـم موهبـة وقـدرة‪ ،‬فالعبـرة‬ ‫ليسـت فـي السـن‪ ،‬فبرأيـك أيهمـا أنفـع للجيش شـاب صغيـر عنده‬ ‫الخبـرة بالحـرب‪ ،‬أم رجـل متقـدم فـي السـن لا يعرف منها شـيئ ًا؟‬ ‫‪ -‬بالطبع الشاب الذي لديه خبرة بالحرب‪.‬‬ ‫‪ -‬وهـذا مـا فعله النبـي ﷺ‪ ،‬وقد اتبعتـه في فعله‪ ،‬ومـا كان لي‬ ‫أن أعـزل قائد ًا ع َّينـه النبي ﷺ‪.‬‬ ‫‪ -‬أل ْم أقل ل َك أنه لا ُيشبهك أحد في اتباعك؟‬ ‫‪ -‬هذا من ُحسن ظنك يا ُبني‪.‬‬ ‫‪ -‬فإن لم تكن أنت أهل ًا لحسن الظن فمن عساه يكون؟‬ ‫‪ -‬بارك الله بك‪ ،‬فهل عند َك شيء تسأل عنه بعد؟‬ ‫‪ -‬أجـل عنـدي‪ ،‬أرد ُت أن أسـأل َك مـاذا قصـد َت بقولـ َك‪ :‬إ َّن‬ ‫لـي شـيطان ًا يعترينـي فـإذا أتانـي فاجتنبونـي لا أؤثـر فـي‬ ‫أشـعاركم وأبشـاركم؟‬ ‫‪ -‬أرد ُت أن أقـول للنـاس أنـي نهايـة المطـاف بشـر‪ ،‬ولـكل‬ ‫إنسـان طبـع‪ ،‬ومـن طباعي أني فـي مواقف ضيقـة أغض ُب‪،‬‬ ‫وقـد لا أملـ ُك زمـام نفسـي حينهـا‪ ،‬فطلبـ ُت منهـم أن لا‬ ‫يناقشـوني وقتهـا‪ ،‬خشـية أن أقـول لأحدهم كلامـ ًا لا أري ُد‬ ‫أن أقولـه‪ ،‬فإنـي لا أريـ ُد أن يكـون لأحـد مـن المسـلمين‬ ‫‪131‬‬

‫مظلمـة عنـدي ولـو كانـت كلمـة جارحـة قلتهـا في سـاعة‬ ‫غضـب تعترينـي‪.‬‬ ‫‪ -‬تخشى حتى أن تجرح أحد ًا بكلمة؟‬ ‫‪ -‬ومـا لي لا أخشـى هذا؟ يا ُبنـ َّي إن الناس قلـوب وكرامات‪،‬‬ ‫وجـرح كرامـة إنسـان‪ ،‬وكسـر خاطـره وقلبـه بكلمـة ل ِهـ َي‬ ‫عظيمـة عنـد اللـه‪ ،‬فكمـا أن جبـر الخواطـر عبـادة‪ ،‬فـإن‬ ‫الحـرص علـى عـدم كسـرها مـن الأسـاس عبـادة أيض ًا!‬ ‫‪ -‬أتعب َت من بعد َك يا أبا بكر‪ ،‬فهل نكمل؟‬ ‫‪ -‬تفضل يا ُبني‪.‬‬ ‫‪ -‬أعجبنـي أدب أسـامة معـ َك إذ أراد أن ينـزل عـن فرسـه‬ ‫لتركـب‪ ،‬فأنـ َت الخليفة وقـد أرا َد أن ُينزل َك منزلـ َك‪ ،‬فلماذا‬ ‫رفضـ َت أن ينـزل وتركـ َب؟‬ ‫‪ -‬واللـ ِه إن أسـامة كان سـمح ًا مؤدبـ ًا‪ ،‬وأكبـر ُت منـه أنـه لـم‬ ‫يـر َض أن يركـ َب هـو بينمـا أمشـي أنـا‪ ،‬ولكني رفضـ ُت أن‬ ‫ينـز َل لأركـ َب مكانه لسـببين‪:‬‬ ‫الأول‪ :‬لأنـه قائـد الجيـش‪ ،‬وأرد ُت أن أوقـره أمـام النـاس‬ ‫خصوصـ ًا بعـد مـا ُنصحـ ُت بـه مـن عزلـه‪ ،‬فكأنـي بتصرفـي هذا‬ ‫أقـول للنـاس‪ :‬إذا كنـ ُت أنـا الخليفـة أسـي ُر وقائد الجيـش راكب‪،‬‬ ‫فأنتـم أولـى بطاعتـه‪.‬‬ ‫الثانـي‪ :‬كان الجيـ ُش خارجـ ًا للجهـاد وقـد أرد ُت أن أمشـي‬ ‫معهـم قـدر اسـتطاعتي وأغ ِّبـر قدمـ َّي قليا ًل فـي سـبيل اللـه!‬ ‫‪132‬‬

‫‪ -‬فلمـاذا اسـتأذنت أسـامة فـي إبقاء عمـر بن الخطـاب مع َك‬ ‫فـي المدينـة وأنـ َت الخليفـة وهـو الـذي يجـب أن يأتمـر‬ ‫بأمـرك لا العكـس؟‬ ‫‪ -‬لأ َّن عمـر بـن الخطـاب كان قـد ذهـ َب فـي جيـش أسـامة‬ ‫فـي حيـاة النبـي ﷺ‪ ،‬ولكن كمـا أخبرتك فـإن الجيش كان‬ ‫فـي معسـكره عنـد مشـارف المدينة حيـن مـا َت النب ُّي ﷺ‪،‬‬ ‫وعندمـا أعطيـ ُت الأمـر للجيـش بالمسـير‪ ،‬كان عمـر بـن‬ ‫الخطـاب ضمنـ ًا تحـت إمـارة أسـامة بـن زيـد‪ ،‬فأدبـ ًا مني‬ ‫لـم أتخـ َّط قائـد الجيش وآخـذ أحـد مقاتليـه دون إذنه وإن‬ ‫كنـت بالعرف السياسـي القائـد الأعلى للقوات المسـلمة‪،‬‬ ‫أي قائـد عمر وأسـامة‪ ،‬ولكـن الأدب مطلوب مـع الناس يا‬ ‫ُبنـي وإن كانـوا يعملـون تحـت إمرتك‪.‬‬ ‫‪ -‬أل ْم أقل ل َك أن َك أتعب َت الناس من بعدك يا أبا بكر؟‬ ‫‪ -‬بارك الله ب َك يا ُبني‪ ،‬فهل من شيء عندك بعد تسأل عنه؟‬ ‫‪ -‬أرد ُت أن أسـأل َك عـن وصاياك للجيش‪ ،‬لمـاذا هذه الوصايا‬ ‫بالذات؟‬ ‫‪ -‬يـا ُبنـي نحـن نحـارب باسـم اللـ ِه لا باسـم أهوائنـا‪ ،‬ونعتبر‬ ‫الحـرب فـي ظل الإسالم عبادة كالصالة والصيـام تمام ًا‪،‬‬ ‫لهـذا نخوضهـا ضمـن الضوابـط التـي حددهـا لنـا ربنـا‬ ‫سـبحانه‪ ،‬ومـا أمـر ُت الجيـش إلا بوصايـا كان النبـ َّي ﷺ‬ ‫يوصـي الجيـش بها‪.‬‬ ‫‪133‬‬

‫فال نرضـى الخيانـة لأننا أمـة الأخالق‪ ،‬ولا نغ ُّل لأن السـرقة‬ ‫مـن الغنائـم عمـل قطـاع الطـرق لا عمـل المجاهديـن في سـبيل‬ ‫اللـه‪ ،‬ولا ُنمثـل فـي قتلـى أعدائنـا لأننـا لسـنا أمـة همجيـة‪ ،‬ولا‬ ‫نفعـل هـذا بأعدائنـا ولـو فعلـوا مثلـه معنـا‪ ،‬فتنـازل النـاس عـن‬ ‫أخلاقهـم ليـس مبرر ًا لنـا لنتنازل عـن أخلاقنا‪ .‬ولا نقتـل الأطفال‬ ‫والنسـاء والشـيوخ فنحـن لا نحـارب إلا مـن حاربنـا‪ ،‬ولا نقطـع‬ ‫الشـجر المثمـر لأننـا لسـنا رعاعـ ًا‪ ،‬ولا نعقـر الـدواب إلا لأكلها‬ ‫لأنهـا أرواح خلقهـا اللـه تعالـى لهـذا الغـرض‪ ،‬ولا نعتـدي على‬ ‫الآمنيـن فـي صوامعهـم وإن خالفونـا في الديـن لأنه ليـس لنا إلا‬ ‫دعوتهـم بالمعـروف‪ ،‬فـإن أجابـوا كان أجرهـم وأجرنا علـى الله‬ ‫وإن رفضـوا فحسـاب النـاس جميعـ ًا علـى الله‪.‬‬ ‫‪ -‬يا له من دين يا أبا بكر‪.‬‬ ‫‪ -‬صدق َت‪ ،‬يا له من دين!‬ ‫‪134‬‬

‫‪ -‬فماذا عن ردة فعل العرب بعد وفاة النبي ﷺ؟‬ ‫‪ -‬لمـا تو ّفـي النبـي ﷺ ارتـد ْت العـرب إلا مكـة والمدينـة‬ ‫والبحريـن بقـوا علـى مـا كانـوا عليـه مـن الإسالم‪.‬‬ ‫‪ -‬يا الله‪ ،‬تر َك الجميع دين الإسلام وعادوا إلى الوثنية‪.‬‬ ‫‪ -‬لا ليس هكذا يا ُبني‪.‬‬ ‫‪ -‬وكيف إذ ًا؟‬ ‫‪ -‬لـم يكـن المرتـدون فـي ِر ّدتهـم على مسـتوى واحـد وإنما‬ ‫كانـوا فريقين‪:‬‬ ‫الفريـق الأول‪ :‬أبقـوا علـى الصالة والقـرآن ولكنهـم منعـوا‬ ‫الـزكاة‪ ،‬وقالـوا كنـا ندفعهـا للنبـي ﷺ وهـو حـي‪ ،‬أما وقـد ما َت‬ ‫فال ندفـع أموالنـا لأحـ ٍد مـن النـاس بعده‬ ‫الفريـق الثانـي‪ :‬فقـد كفـروا بالكل ّيـة وآمنـوا بالكذابيـن الذيـن‬ ‫ادعـوا النبـوة بعـد مـوت النبـي ﷺ خصوصـ ًا مسـيلمة الكذاب‪،‬‬ ‫وطليحـة الأسـدي‪.‬‬ ‫‪ -‬إذ ًا لم يعبد المرتدون الأصنام؟‬ ‫‪ -‬لا يا ُبني لم يعبد أحد الأصنام في جزيرة العرب‪.‬‬ ‫‪135‬‬

‫‪ -‬وماذا عن الأسود العنسي ألم يرتد أيض ًا؟‬ ‫‪ -‬بلى ارت َّد ولكن كان له شأن آخر غير طليحة ومسيلمة‪.‬‬ ‫‪ -‬وكيف هذا؟‬ ‫‪ -‬أمـا طليحـة ومسـيلمة فقـد ادعيـا النبـوة بعـد وفـاة النبـي‬ ‫ﷺ‪ ،‬وأمـا الأسـود العنسـي فـكان جبـار ًا مشـعوذ ًا‪ ،‬اعتنـق‬ ‫الإسالم‪ ،‬ثـم مـا لب َث أن ارتـ َّد في زمـن النبـي ﷺ‪ ،‬وادعى‬ ‫النبـوة‪ ،‬واتسـع سـلطانه حتـى حكـم مناطـق شاسـعة فـي‬ ‫جزيـرة العـرب‪ ،‬فأرسـل النبـي ﷺ إلـى مسـلمي اليمـن‬ ‫بقتالـه‪ ،‬فقاتلـوه وقتلـوه قبـل شـهر مـن وفـاة النبـي ﷺ‪.‬‬ ‫‪ -‬حسن ًا فهم ُت‪ ،‬ولكن أخبرني ماذا فعل َت بالمرتدين؟‬ ‫‪ -‬فأمـا الذيـن أرادوا منـع الـزكاة‪ ،‬فأرسـلوا وفد ًا إلـى المدينة‬ ‫ليقابلنـي‪ ،‬وقالـوا‪ :‬نؤمـن باللـ ِه ونشـه ُد أن محمـد ًا رسـول‬ ‫اللـه‪ ،‬ولكننـا لا نعطيكـم أموالنا‪.‬‬ ‫فقلـ ُت‪ :‬واللـ ِه لو منعونـي عقال بعيـر كانوا يؤدونه إلى رسـول‬ ‫اللـه ﷺ لقاتلتهم عليه‪.‬‬ ‫وقلـ ُت لهـم‪ :‬ليـس عنـدي إلا هـذا‪ .‬فخرجـوا إلـى أقوامهـم‬ ‫يخبرونهـم بقلـة عـدد المسـلمين فـي المدينة خصوصـ ًا أن جيش‬ ‫أسـامة لـم يكـن قـد عـاد بعد‪.‬‬ ‫‪ -‬فما كان رأي الصحابة في قرارك؟‬ ‫‪ -‬لـم يكـن أغلبهـم يميـ ُل إلـى رأيـي‪ ،‬حتـى أن عمـر بـن‬ ‫الخطـاب قـال لـي‪ :‬كيـف تقاتلهـم وقـد قـال النبـي ﷺ‪:‬‬ ‫ُأمـر ُت أن أقاتـل النـاس حتـى يقولـوا لا إلـه إلا اللـه‪ ،‬فمن‬ ‫‪136‬‬

‫قـال لا إلـه إلا اللـه فقـد عصـ َم مني نفسـه ومالـه إلا بحقه‪،‬‬ ‫وحسـابه علـى اللـه‪.‬‬ ‫فقلـ ُت لـه‪ :‬واللـ ِه لأقاتلـ َّن من فـ َّر َق بين الصالة والـزكاة‪ ،‬فإ َّن‬ ‫الـزكاة حـق المـال‪ ،‬وااللـه لـو منعونـي ِعناقـ ًا‪ /‬الأنثى مـن أولاد‬ ‫المعـز لقاتلتهـم علـى منعها!‬ ‫‪ -‬فمن غير عمر بن الخطاب رأى غير رأيك؟‬ ‫‪ -‬جادلنـي فـي رأيـي كثيـر مـن كبـار الصحابـة كأبـي عبيـدة‬ ‫بـن الجـراح وسـالم مولـى أبـي حذيفـة وسـعد بـن عبـادة‬ ‫وغيرهـم كثيـر‪.‬‬ ‫‪ -‬فما كانت وجهة نظرهم؟‬ ‫‪ -‬كانـوا يـرون أن اللين أولـى‪ ،‬وأن الأرض قد ُزلزلـت بالردة‬ ‫فمـا ُيطـاق تثبيتهـا‪ ،‬وعـاد عمر بـن الخطـاب ليقول لـي‪ :‬يا‬ ‫خليفـة رسـول اللـه تأ َّلـ ِف النـاس وارفـق بهـم فقلـ ُت لـه‪:‬‬ ‫رجـو ُت نصرتـ َك وجئتنـي بخذلانـك‪ ،‬أج َّبار فـي الجاهلية‬ ‫وخـ َّوار فـي الإسالم يـا عمـر؟! وتقـول لـي أن النبـي ﷺ‬ ‫قـال‪ :‬أمـر ُت أن أقاتـل النـاس حتـى يقولـوا لا إلـه إلا الله‪،‬‬ ‫فمـن قـال لا إلـه إلا اللـه فقـد عصـ َم منـي نفسـه وماله إلا‬ ‫بح ِّقـه‪ .‬ومـن حقهـا الصالة وإيتـاء الـزكاة ولـو خذلنـي‬ ‫النـاس كلهـم لجاهدتهـم بنفسـي‪ ،‬ولأقاتلـ َّن من فـ َّر َق بين‬ ‫الصالة والـزكاة‪ ،‬وإنـه قـد انقطـع الوحـي‪ ،‬وتـم الديـن‪،‬‬ ‫أينقـ ُص الديـن وأنـا حي‪.‬‬ ‫‪137‬‬

‫‪ -‬فما الذي حدث بعد ذل َك؟‬ ‫‪ -‬شـرح اللـه صدورهـم لمـا شـرح اللـه لـه صـدري‪ ،‬ورأوا‬ ‫الحـ َّق فيمـا أقـول وأنـه لـو فرطنا فـي الـزكاة ما يلبـث أن لا‬ ‫يبقـىللنـاسديـن‪،‬كلواحـدسـيقولأفعـ ُلكـذاوأتـرككـذا‪.‬‬ ‫‪ -‬صدقـ َت يـا خليفـة رسـول اللـه‪ ،‬واللـ ِه لقـد حفـ َظ اللـه ب َك‬ ‫الإسالم إذ وقفـ َت يومهـا وقفة الأسـد الضـاري الـذي لا يخاف‬ ‫فـي اللـه لومـة لائم‪.‬‬ ‫‪ -‬بارك الله بك يا ُبني‪.‬‬ ‫‪ -‬فما الذي حدث بعد ذلك؟‬ ‫‪ -‬كنـ ُت أعر ُف أن المرتدين سـيهاجموننا فـي المدينة‪ ،‬فبعدما‬ ‫رجـع وفدهـم خائبـ ًا مـن عنـدي‪ ،‬جعلـ ُت علـى أنقـاب‬ ‫المدينة فرسـان المسـلمين عليـ ًا والزبير وطلحـة وعبد الله‬ ‫بـن مسـعود‪ ،‬وأخـذ ُت أهـل المدينـة إلـى المسـجد وقل ُت‬ ‫لهـم‪ :‬إ َّن الأرض كافـرة‪ ،‬وقـد رأى وفدهم قل ًة فينـا‪ ،‬وإنكم‬ ‫لا تـدرون أليا ًل ُتؤتون أم نهـار ًا‪ ،‬وأدناهم منكـم على بريد‪،‬‬ ‫وقـد كانـوا يأملـون أن نقبـل منهـم ونوادعهـم‪ ،‬وقـد أبينـا‬ ‫عليهـم‪ ،‬فاسـتعدوا وأع ُّدوا‪.‬‬ ‫‪ -‬وماذا حدث بعد ذلك؟‬ ‫‪ -‬لـم يمـر إلا ثلا ُث ليـا ٍل حتى أغـاروا علـى المدينـة بالليل‪،‬‬ ‫فتصـدى لهـم الفرسـان الذيـن وضعتهـم علـى مداخـل‬ ‫‪138‬‬

‫المدينـة‪ ،‬وأرسـلوا إلـ َّي والقتـال ناشـب‪ ،‬فقلـ ُت لهـم‪:‬‬ ‫الزمـوا أماكنكـم‪ ،‬وخرجـ ُت ومـن معـي مـن المدينـة حتى‬ ‫ناصرناهـم وقتلنـا منهـم مقتلـ ًة عظيمـة وعـادوا أدراجهـم‬ ‫خائبيـن‪.‬‬ ‫‪ -‬حدث ما كنت تخشاه إذ ًا‪.‬‬ ‫‪ -‬حـدث مـا كنـ ُت أتوقعه لا مـا كن ُت أخشـاه‪ ،‬فلا أخشـى إلا‬ ‫اللـه‪ ،‬وبفضل اللـه كنا فـي انتظارهـم ودحرناهم‪.‬‬ ‫‪ -‬وما الذي حدث بعد ذلك؟‬ ‫‪ -‬قلـ ُت فـي نفسـي الآن ُنها ِجـ ُم ولا ُنها َجـ ُم‪ ،‬وقـد علم ُت أن‬ ‫المرتديـن قـد عسـكروا عنـد ذي ال َق َّصة وهو موضع مسـير‬ ‫ليلـة عن المدينـة‪ ،‬فهيأ ُت الناس وح َّمسـتهم‪ ،‬وسـرنا إليهم‬ ‫ليا ًل فـي هـدوء وحـذر‪ ،‬فوصلنـا إليهـم عنـد الفجـر‪ ،‬وما‬ ‫انتبهـوا إلينـا إلا وقـد أعملنـا فيهـم السـيف وقتلناهـم شـ َّر‬ ‫قتلـة وأظفرنـا اللـه بهـم‪ .‬فـازداد المسـلمون ثباتـ ًا ويقينـ ًا‬ ‫أننـا علـى الحـق‪ ،‬وعاد بعـض مانعي الـزكاة إلى رشـدهم‪،‬‬ ‫فأرسـلوا إلـ َّي بالـزكاة فاسـتعنا بهـذه الأمـوال علـى تهيئـة‬ ‫الجيـوش‪ ،‬وبمقاتليهـم بعـد أن مـ َّن اللـه عليهـم أن عـادوا‬ ‫إلـي ِحياض الإسالم‪.‬‬ ‫‪ -‬كل هذا قبل مجيء جيش أسامة؟‬ ‫‪ -‬أجل يا ُبني كل هذا قبل مجيء جيش أسامة‪.‬‬ ‫‪139‬‬

‫‪ -‬يـا لـ َك مـن قائـد مغـوار‪ ،‬الرجـل الأسـيف الـذي لـم يكن‬ ‫يقـوى علـى القـرآن ك َّشـر عـن أنيـاب الأسـد الكامـن فيه‪.‬‬ ‫‪ -‬يا ُبن ّي من قال أن الإيمان مدعاة لل ُجبن؟‬ ‫‪ -‬لـم أقصـد هذا‪ ،‬مـا قصدته أنه قد ُعـرف فيك الرقـة واللين‪،‬‬ ‫فمـن أين أتتك كل هذه الشراسـة؟‬ ‫‪ -‬لـم يكـن لأبـي بكـر أن يليـن فـي موضـع الشـ َّدة‪ ،‬ولا أن‬ ‫يشـت َّد فـي موضـع الليـن‪ ،‬لـكل موقـف مـا يقتضـي وهـذا‬ ‫أوان الحـرب‪ ،‬وأنـا لهـا‪.‬‬ ‫‪ -‬والل ِه إن َك لها‪ ،‬فما الذي حدث بعد عودة جيش أسامة؟‬ ‫‪ -‬عـاد أسـامة بـن زيـد بجيشـه ونحـن نريـ ُد أن نخـرج إلـى‬ ‫الربـذة وهـي موضـع يبعـد عـن المدينة ثلاثـة أميـال‪ ،‬كان‬ ‫المرتـدون قـد جمعـوا مـا تبقـى منهـم فيـه‪ ،‬فقلـ ُت لهـم‪:‬‬ ‫اسـتريحوا‪ ،‬فأنتـم متعبـون مـن ال َّسـفر‪ ،‬وخرجـ ُت مـع‬ ‫الجيـش‪ ،‬فقـال لي المسـلمون‪ :‬يا خليفة رسـول اللـه‪ ،‬إن َك‬ ‫إن ُتصـب لم يكـن للناس نظـام‪ ،‬ومقامك على العدو أشـد‬ ‫فابعـ ْث رجا ًل فـإن ُأصيـ َب أ َّمـر َت غيـره‪.‬‬ ‫‪ -‬نِعم الرأي‪ ،‬فهل أخذ َت به؟‬ ‫‪ -‬لا والل ِه‪ ،‬ما كان لي إلا أن أكون على رأس الجيش‪.‬‬ ‫‪ -‬يا ل َك من صنديد يا أبا بكر‪ ،‬فما الذي حدث بعدها؟‬ ‫‪ -‬جـاء إلـ َّي علـي بن أبـي طالب وقـال لي‪ :‬يـا أبا بكـر‪ ،‬أقول‬ ‫لـ َك مـا قالـه لـ َك النبـي ﷺ يـوم أحـد‪ :‬اِغ ِمـ ْد سـي َف َك ولا‬ ‫‪140‬‬

‫تفجعنـا بنفسـك‪ ،‬وارجـ ْع إلـى المدينـة فواللـ ِه لئـن ُأصبنا‬ ‫فيـ َك لا يكـون للإسالم بعـد َك نظـام أبد ًا‬ ‫‪ -‬صد َق والل ِه عل ُّي‪ ،‬فماذا قل َت له؟‬ ‫‪ -‬قل ُت له‪ :‬والل ِه لا أفعل‪ ،‬ولأساو َينّكم بنفسي‪.‬‬ ‫وسـر ُت بهـم حتـى أتينـا الربـذة وقاتلنـا المرتديـن على اسـم‬ ‫اللـه وهزمناهـم شـ َّر هزيمة‪.‬‬ ‫‪ -‬واللـ ِه إنك لنع َم الخليفة الباسـل‪ ،‬وإن جنـودك لنعم الجنود‬ ‫الأشداء‪.‬‬ ‫‪ -‬وهكذا كانوا فعل ًا‪.‬‬ ‫‪141‬‬

‫‪ -‬ومـاذا عـن مسـيلمة الكـذاب‪ ،‬واليمامـة يـا خليفـة رسـول‬ ‫ا لله ؟‬ ‫‪ -‬كان مسـيلمة الكـذاب ُيحـ ّدث نفسـه با ّدعاء النبـوة في حياة‬ ‫النبـي ﷺ‪ ،‬فقـد كان يبعـ ُث من قومـه بني حنيفة من يسـتمع‬ ‫القـرآن ثـم يقـوم بنسـج أسـجاع تافهـة معتقـد ًا أنـه ُيحاكي‬ ‫القـرآن‪ ،‬ومـن حماقاتـه التـي قالهـا مدعيـ ًا أنهـا وحـي أتاه‬ ‫مـن ال َّسـماء‪ »:‬يـا ضفـدع يـا ضفدعيـن‪ ،‬نقـي مـا تنقيـن‪،‬‬ ‫أعال ِك في الماء وأسـفل ِك فـي الطين‪ ،‬لا الشـارب تمنعين‪،‬‬ ‫ولا المـاء ُتك ِّدرين»!‬ ‫ويـا سـبحان من يهـدي ويضـ ُّل‪ ،‬فقد وجـ َد كثير ًا مـن الحمقى‬ ‫الذيـن ص ّدقـوا أنه نبـي‪ ،‬وبعضهـم اتبعه حم َّيـة وعصبيـة جاهلية‪،‬‬ ‫ولمـا ُسـئلوا فـي أمـره‪ ،‬وقيـل لهـم‪ :‬أنتـم تعلمـون أن مسـيلمة‬ ‫كذ ا ب ‪.‬‬ ‫قالـوا‪ :‬نعـم إنـه كـذاب‪ ،‬ولكـن كـذاب ربيعـة أحـ ُّب إلينـا من‬ ‫صـادق ُمضر!‬ ‫يعنـون بصادق ُمضر النبي ﷺ‪ ،‬يشـهدون بصدقـه‪ ،‬ولا يؤمنون‬ ‫بنبوته!‬ ‫‪142‬‬

‫‪ -‬فهل التقى مسيلمة الكذاب بالنبي ﷺ؟‬ ‫‪ -‬أجل يا ُبني‪ ،‬لقد التقى به‪.‬‬ ‫‪ -‬فمتى؟ وأين؟‬ ‫‪ -‬فـي العام التاسـع للهجرة الشـريفة جـاء بنو حنيفة ليسـلموا‬ ‫بيـن يـدي النبـي ﷺ‪ ،‬وكان مـن بيـن مـن جـاء منهـم إلـى‬ ‫المدينـة المنورة مسـيلمة الكـذاب‪ ،‬وجعل مسـيلمة يقول‪:‬‬ ‫إن جعـ َل لـي محم ٌد الأمـ َر بعـده تبعته!‬ ‫فأقبـل النبـي ﷺ ومـا معـه إلا ثابت بـن قيس بن شـ َّماس وفي‬ ‫يـده جريـدة نخـل حتـى وقـف عنـد مسـيلمة وقـال لـه‪ :‬لـو أن َك‬ ‫سـألتني هـذه مـا أعطيتـك‪ ،‬ولئـن أدبـر َت ليعقر َّنـك اللـه‪ ،‬وهـذا‬ ‫ثابـت يجيبـك عنـي‪ ،‬وإنـي لأحسـ ُب َك الـذي رأيـ ُت فيمـا ُأري ُت!‬ ‫‪ -‬ومـاذا قصـ َد النبـي ﷺ بقولـه لمسـيلمة الكـذاب‪ :‬وإنـي‬ ‫لأحسـب َك الـذي رأيـ ُت فيمـا ُأريـ ُت؟‬ ‫‪ -‬قـال لنـا النبـ َّي ﷺ مـر ًة‪ :‬بينمـا أنـا نائـم ُأريـ ُت كأ َّن فـي يد َّي‬ ‫سـوارين مـن ذهـ ٍب فأه َّمنـي شـأنهما‪ ،‬فأوحـ َي إلـ َّي أن‬ ‫ُانفخهمـا‪ ،‬فنفختهمـا فطـارا‪ ،‬فأولتهمـا الكذابيـن يخرجـان‬ ‫بعـدي‪:‬العنسـيصاحـبصنعـاء‪،‬ومسـيلمةصاحـباليمامـة‪.‬‬ ‫‪ -‬أشه ُد أنه لرسول الله‪ ،‬وماذا حد َث بعد ذلك؟‬ ‫‪ -‬فـي العـام العاشـر للهجـرة مـر َض النبـ ُّي ﷺ مرضـه الذي‬ ‫مـا َت فيـه‪ ،‬فكتـب إليـه مسـيلمة رسـالة يقـول فيهـا‪ :‬مـن‬ ‫‪143‬‬

‫مسـيلمة رسـول اللـه إلـى محمـد رسـول اللـه‪ ،‬أمـا بعـد‪،‬‬ ‫فإنـي قـد ُأشـرك ُت فـي الأمـر معـ َك‪ ،‬فلـ َي نصـف الأرض‬ ‫ولـ َك نصفهـا!‬ ‫فاسـتدعى النبـ ُّي ﷺ ُأبـي بـن كعـ ٍب‪ ،‬وأملـى عليه رسـال ًة إلى‬ ‫مسـيلمة قـال لـه فيها‪:‬‬ ‫مـن محمـد رسـول اللـه إلـى مسـيلمة الكـذاب‪ :‬أمـا بعـد‪،‬‬ ‫فـإن الأر َض للـ ِه يورثهـا مـن يشـاء مـن عبـاده والعاقبـة للمتقين‪.‬‬ ‫والسالم علـى مـن اتبـع ال ُهـدى!‬ ‫‪ -‬ومن الذي حم َل رسالة مسيلمة الكذاب إلى النبي ﷺ؟‬ ‫‪ -‬حملهـا إليـه رجالن أحدهمـا ُيقـال لـه ابـن النواحـة وآخر‬ ‫لا أعرفـه‪ ،‬ولمـا قـرأ النبـ ُّي ﷺ رسـالة مسـيلمة الكـذاب‪،‬‬ ‫سـألهما‪ :‬ومـاذا تقـولان أنتمـا؟‬ ‫فقالا‪ :‬نقول كما قال‪.‬‬ ‫فقـال لهمـا‪ :‬أمـا واللـ ِه لـولا أن ال ُّرسـل لا ُتقتـل لضربـ ُت‬ ‫أ عنا قكمـا ‪.‬‬ ‫‪ -‬ومن الذي حمل رسالة النبي ﷺ إلى مسيلمة الكذاب؟‬ ‫‪ -‬حملهـا حبيـب بـن زيد الأنصـاري ابـن أم عمـارة‪ ،‬وعندما‬ ‫قـرأمسـيلمةالرسـالةقـاللحبيـب‪:‬أتشـه ُدأنهرسـولالله؟‬ ‫فقال له‪ :‬نعم ‪.‬‬ ‫فقال مسيلمة‪ :‬أتشه ُد أني رسول الله؟!‬ ‫‪144‬‬

‫فقال له‪ :‬أنا أص ُّم لا أسمع!‬ ‫فقطـع مسـيلمة عضـو ًا مـن جسـد حبيـب‪ ،‬ثـم عـاد فقـال له‪:‬‬ ‫أتشـهد أن محمـد ًا رسـول اللـه؟‬ ‫فقال‪ :‬نعم‪.‬‬ ‫فقال له مسيلمة‪ :‬أتشه ُد أني رسول الله؟‬ ‫فقال له‪ :‬إني أصم لا أسمع!‬ ‫وهكـذا بقـ َي يقطـع منـه عضو ًا بعـد عضو ويسـأله‪ ،‬فيشـهد أن‬ ‫محمـد ًا رسـول اللـه‪ ،‬ويقـول لـه إذا سـأله عمـا إذا كان يشـهد أنه‬ ‫رسـول اللـه‪ ،‬فيقول إنـي أصم لا أسـمع‪ .‬حتى ارتقى شـهيد ًا ثابت ًا‪.‬‬ ‫‪ -‬سـبحان اللـه‪ُ ،‬انظ ْر إلى الفـرق بين النبي والكـذاب يا خليفة‬ ‫رسـول اللـه‪ ،‬فأمـا النبي وهـو الصادق رفـض قتل الرسـولين لأن‬ ‫ال ُرسـل لا تقتـل‪ ،‬أمـا مسـيلمة وهـو الكذاب فقـد قتل حبيـ َب بن‬ ‫زيـد ولـم ُيـرا ِع حرمـة الرسـل‪ ،‬ومـا تعـارف عليـه النـاس جميع ًا‬ ‫بـأن ال ُرسـل لا تقتل‪.‬‬ ‫‪ -‬لقـد لخصتهـا بقولـ َك يـا ُبنـي‪ :‬هـذا هـو الفـرق بيـن النبي‬ ‫والكـذاب!‬ ‫‪-‬وما الذي حدث بعد ذلك يا خليفة رسول الله؟‬ ‫‪ -‬بعـد وفـاة النبـي ﷺ اسـتفحل امـر مسـيلمة في بنـي حنيفة‪،‬‬ ‫واتبعـه أكثرهـم‪ ،‬إلا ثمامـة بن أثـال ومعه نفـر قليل ثبتـوا على أن‬ ‫محمـد ًا رسـول الله‪ ،‬وأن مسـيلمة كـذاب‪ .‬وكان خالد بـن الوليد‬ ‫‪145‬‬

‫قـد انتهى مـن قتال أسـد وغطفـان ومالك بـن نويرة‪ ،‬فكتبـ ُت إليه‬ ‫أن يسـير إلـى اليمامة لقتال مسـيلمة‪.‬‬ ‫‪ -‬وماذا كتب َت له؟‬ ‫‪ -‬قلـ ُت لـه‪ :‬إنـي أحمـ ُد الله الفـرد الصمد‪ِ ،‬سـ ْر إلـى اليمامة‪،‬‬ ‫واتـ ِق اللـه وحـده‪ ،‬وعليـ َك بالرفـق بمـن معـ َك مـن‬ ‫المسـلمين‪ُ ،‬كـ ْن لهـم كالوالـد وإيـا َك يـا خالد ونخـوة بني‬ ‫المغيـرة‪ ،‬فإنـي قـد عصيـ ُت فيـ َك مـن لـم أعص ِه في شـي ٍء‬ ‫قـط‪ ،‬فان ُظـ ْر إلـى بنـي حنيفـة إذا لقيتهم إن شـاء اللـه فإنك‬ ‫لـم تلـ َق قوم ًا ُيشـبهون بنـي حنيفة كلهـم علي َك ولهـم بلا ٌد‬ ‫واسـعة‪ ،‬فـإذا قدمـ َت فباشـر الأمـر بنفسـك‪ ،‬واجعـل على‬ ‫ميمنتـك رجل ًا وعلى ميسـرتك رجل ًا‪ ،‬واجعـ ْل على خيلك‬ ‫رجا ًل‪ ،‬واستشـر من معـ َك من الأكابـر من أصحـاب النبي‬ ‫ﷺ مـن المهاجريـن والأنصـار‪ ،‬واعر ْف لهـم فضلهم‪ ،‬فإذا‬ ‫لقيـ َت القـوم وهـم علـى صفوفهـم فالقهـم إن شـاء اللـه‬ ‫وقـد أعـدد َت للأمـور أقرانها‪ ،‬فالسـهم للسـهم‪ ،‬والسـيف‬ ‫للسـيف‪ ،‬وهـ ِّول فيهـم القتل!‬ ‫‪ -‬يـا لها من رسـالة يا خليفة رسـول الله‪ ،‬فعلى خبرة خالـد وعبقريته‬ ‫الحرب َّيـة إلا أن َك تعطيه نصائح الخبير العارف بأسـرار الحرب‪.‬‬ ‫‪ -‬يـا ُبنـي كان واللـ ِه خالـد بـن الوليـد أسـد ًا مـن أسـود اللـه‪،‬‬ ‫وكنـ ُت أثـق به أيما ثقـة‪ ،‬ولكني لا أدخر نصح ًا لمسـلم في سـلم‪،‬‬ ‫فكيـف فـي حـرب والأرواح علـى الأكف؟‬ ‫‪146‬‬

‫‪ -‬ومـاذا عنيـ َت بقولـ َك لخالـد‪ :‬وإيـاك ونخـوة بنـي المغيرة‪،‬‬ ‫فإنـي قـد عصيـ ُت فيـ َك مـن لـم أعصه فـي شـي ٍء قط؟‬ ‫‪ -‬كان بنـو المغيـرة أهـل حـرب فـي الجاهليـة‪ ،‬وكان فيهـم‬ ‫شـجاع ًة وإقدامـ ًا‪ ،‬يقتحمـون الجيـوش غيـر عابئيـن‪ ،‬وكان خالد‬ ‫مـن فرط شـجاعته وإقدامه مثلهـم‪ ،‬بل كان أشـجعهم‪ ،‬وكان عمر‬ ‫بـن الخطاب ُيشـير علـ َّي أن أعـزل خالد بـن الوليد لهذا السـبب‪،‬‬ ‫فقـد كان يـرى أن خالـد ًا لـه شـجاعة تصـل حـ َّد التهـور‪ ،‬وأنه قد‬ ‫يحمـل المسـلمين بشـجاعته المفرطـة هـذه علـى مـا لا يطيقون‪،‬‬ ‫وكنـ ُت أقـول لـه‪ :‬أمـا تـرى أن خالـد ًا لا ُيحـارب إلا وانتصر‪.‬‬ ‫فيقـول‪ :‬هـذا الـذي أخشـاه أن ُيفتتن المسـلمون بـه‪ ،‬فيقولون‬ ‫إنمـا ننتصـر بخالد!‬ ‫كان عمـر ناصحـ ًا أمينـ ًا‪ ،‬وكان يـرى رأيـ ًا‪ ،‬وكنـ ُت أرى رأيـ ًا‪،‬‬ ‫وغفـر اللـه لـي وله‪.‬‬ ‫‪ -‬وما الذي حدث بعد ذلك يا خليفة رسول الله؟‬ ‫‪ -‬التقـى الجيشـان‪ ،‬وحـدث بينهمـا قتـال عظيـم‪ ،‬مالـ ْت فيـه‬ ‫الكفـة أول الأمـر لصالح جيش مسـيلمة‪ ،‬واستشـهد خيار صحابة‬ ‫النبـي ﷺ كان منهـم ثابـت بـن قيـس بـن شـماس‪ ،‬وعبـد الله بن‬ ‫سـهيل بـن عمـرو‪ ،‬وأبـو دجانـة‪ ،‬وع َّبـاد بـن بشـر‪ ،‬والطفيـل بـن‬ ‫عمرو الدوسـي‪.‬‬ ‫‪ -‬وماذا صن َع خالد؟‬ ‫‪ -‬كان خالـد إذا تل ّقـى الضربة صمد‪ ،‬فسـرعان مـا أعاد ترتيب‬ ‫الجيـش‪ ،‬ورفـع معنويـات جنـده‪ ،‬وحملـوا علـى جيـش‬ ‫‪147‬‬

‫مسـيلمة وأحدثـوا فيهـم مقتلـ ًة عظيمـة‪ ،‬فانسـحبوا إلـى‬ ‫الحديقـة‪.‬‬ ‫‪ -‬ما هي الحديقة؟‬ ‫‪ -‬حصن منيع كان مسيلمة قد ش َّيده‪.‬‬ ‫‪ -‬وكيف اقتحمه جيش خالد؟‬ ‫‪ -‬الفضـل من بعـد الل ِه يرجـع للبراء بـن مالـك‪ ،‬فعندما دخل‬ ‫جيش مسـيلمة إلـى الحديقـة وأغلقـوا بابها المنيـع‪ ،‬طلب‬ ‫البـراء بـن مالـك مـن المسـلمين أن يحملـوه علـى الرماح‬ ‫ويلقـوه مـن فـوق السـور ليفتح لهـم الباب‪.‬‬ ‫‪ -‬يا له من استشهادي!‬ ‫‪ -‬هـو واللـ ِه كذلـك‪ ،‬امتنعـوا اول الأمـر عـن قبـول طلبـه‬ ‫حفاظـ ًا على حياتـه‪ ،‬ولكنه أصـ َّر على ذلـك‪ ،‬فحملوه على‬ ‫الرمـاح وألقـوه من فوق السـور قـرب الباب‪ ،‬فاشـتب َك مع‬ ‫الحـراس وقتـل منهـم خم َس عشـرة رجا ًل ثم فتـح الباب‪،‬‬ ‫ودخـل الجيش إلـى الحديقـة‪ ،‬وأعملوا في جيش مسـيلمة‬ ‫السـيف وأبادوهم‪.‬‬ ‫‪ -‬وما كان مصير مسيلمة؟‬ ‫‪ -‬قتلـه وحشـي بن حـرب بحربته التي قتل بها سـيد الشـهداء‬ ‫حمـزة بن عبـد المطلـب يـوم أحـد‪ ،‬وكان يقول بعـد ذلك‬ ‫مشـير ًا إلـى حربتـه‪ :‬قتلـ ُت بحربتي هـذه خير النـاس حمزة‬ ‫بـن عبد المطلب‪ ،‬وشـر النـاس مسـيلمة الكذاب!‬ ‫‪ -‬سبحان من يهدي الناس بعد ضلالة‪.‬‬ ‫‪ -‬سبحانه وتعالى ما أكرمه على عباده‪.‬‬ ‫‪148‬‬

‫‪ -‬وماذا عن جمع القرآن الكريم يا خليفة رسول الله؟‬ ‫‪ -‬توفـي النبـي ﷺ والقـرآن الكريـم لـم ُيجمـع فـي مصحف‬ ‫واحـد‪ ،‬وإنمـا كان متفرقـ ًا فـي الصـدور والألـواح ونحوهـا مـن‬ ‫وسـائل الكتابـة‪ ،‬حيث لم تكن ثمـة دواع في حياته ﷺ اسـتدعت‬ ‫جمـع القرآن فـي مصحـف واحد‪.‬‬ ‫وبعـد أن توليـ ُت الخلافـة جـرت حـروب الـردة التـي حدثتـك‬ ‫عنها‪ ،‬واستشـهد فيهـا عدد كبير مـن حفظة القرآن‪ .‬ثـم كانت معركة‬ ‫اليمامـة التي استشـهد فيها عدد كبير مـن الصحابـة‪ ،‬وكان من بينهم‬ ‫عـدد كبيـر مـن ال ُقراء‪ ،‬ممـا دفع عمـر أن يأتي ويطلب مني الإسـراع‬ ‫فـي جمع القـرآن وتدوينـه‪ ،‬حتى لا يذهـب القرآن بذهـاب حفاظه‪.‬‬ ‫فقـال‪ :‬إن القتـل قد اسـتح َّر‪ /‬اشـت َّد وك ُثر يـوم اليمامة‪ ،‬وإني أخشـى‬ ‫أن يسـتح َّر القتـل بالقـراء فـي المواطـن‪ ،‬فيذهـب كثير مـن القرآن‪،‬‬ ‫إلا أن تجمعـوه‪ ،‬وإنـي لأرى أن تجمـع القرآن‪.‬‬ ‫فقل ُت لعمر ‪ :‬كيف أفعل شيئ ًا لم يفعله رسول الله ﷺ؟‪ ‬‬ ‫فقال ‪ :‬هو والله خير‪.‬‬ ‫فلـم يزل عمـر يراجعنـي فيه حتى شـرح الله صـدري‪ ،‬ورأيت‬ ‫الذي رأى عمر‪. ‬‬ ‫‪149‬‬

‫فأرسـل ُت إلـى زيـد بـن ثابـ ٍت وعمـر بـن الخطـاب عنـدي‪،‬‬ ‫وقلـ ُت لزيـد‪ :‬إنـك رجل شـاب عاقـل ولا نتهمـك‪ ،‬كنـ َت تكت ُب‬ ‫الوحـي لرسـول اللـه ﷺ‪ ،‬ف َت َتبـع القـرآن فاجمعـه‪.‬‬ ‫فقال‪ :‬كيف تفعلان شيئ ًا لم يفعله النبي ﷺ؟‪ ‬‬ ‫فقل ُت له‪ :‬هو والله خير‪.‬‬ ‫فاسـتثقل الأمـر‪ ،‬ولـم يزل‪ ‬يناقشـني حتـى شـرح اللـه صـدره‬ ‫للـذي شـرح اللـه له صـدري وصـدر وعمـر‪ ،‬فقـا َم فتتبـ َع القرآن‬ ‫يجمعـه مـن الرقـاع والجريـد وال ُعسـب وصـدور الرجـال حتـى‬ ‫جمعـه كلـه فـي مصحـف واحد‪.‬‬ ‫‪ -‬بـارك اللـه بـك يـا خليفـة رسـول اللـه‪ ،‬وبـارك بوزيـرك‬ ‫الناصـح الأميـن عمـر بـن الخطـاب‪ ،‬أسـأل اللـه أن يجعل‬ ‫كل حـرف نقـرأه اليـوم فـي مصاحفنـا فـي ميزانكمـا‪.‬‬ ‫‪ -‬اللهم آمين‪ ،‬وبارك الله بك يا ُبني‪.‬‬ ‫‪ -‬أرد ُت أن أستفسر عن أم ٍر في هذا الشأن إن أذن َت لي‪.‬‬ ‫‪ -‬تف َّضل‪َ ،‬س ْل ما بدا ل َك‪.‬‬ ‫‪ -‬فلماذا زيد بن ثابت تحديد ًا يا خليفة رسول الله؟‬ ‫‪ -‬لأنـه كان شـاب ًا يافعـ ًا‪ ،‬وهـذه الصفـات تؤهلـه للقيـام بمثل‬ ‫هـذا العمـل الصعـب‪ ،‬كمـا أن الشـاب لا يكـون شـديد‬ ‫الاعتـداد برأيـه‪ ،‬فعنـد حصـول الخالف يسـهل قبولـه‬ ‫النصـح والتوجيـه‪ .‬كمـا أن زيـد ًا كان معروفـ ًا بوفـرة عقله‪،‬‬ ‫‪150‬‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook