Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore ثاني اثنين أدهم شرقاوي

ثاني اثنين أدهم شرقاوي

Published by كتاب فلاش Flash Book, 2021-03-21 07:26:05

Description: رواية أدبية في سيرة أبي بكر الصديق رضي الله عنه

Search

Read the Text Version

‫وهـذا ممـا يؤهلـه لإتمـام هـذه المهمـة‪ .‬بالإضافة إلـى أنه‬ ‫كان يتولـى كتابـة الوحـي فـي عهـد رسـول اللـه ﷺ‪ ،‬فقـد‬ ‫شـاهد مـن أحـوال القـرآن مـا لـم يشـاهده غيـره‪ .‬كمـا أنه‬ ‫لـم يكـن متهمـ ًا فـي دينـه‪ ،‬فقـد كان معروفـ ًا بشـدة الـورع‬ ‫والأمانـة وكمـال الخلـق والاسـتقامة فـي الديـن‪ .‬والأهـم‬ ‫أنـه كان حافظ ًا للقـرآن الكريم عن ظهر قلـب‪ ،‬وكان حفظه‬ ‫فـي زمـن النبـي ﷺ وفـق العرضـة الأخيـرة‪ ،‬فقـد قـرأ زيد‬ ‫بـن ثابـت على رسـول اللـه ﷺ فـي العام الـذي توفـاه الله‬ ‫فيـه مرتيـن‪ ،‬و ُسـميت هـذه القـراءة قـراءة زيـد بـن ثابـت‪،‬‬ ‫لأنـه كتبهـا لرسـول اللـه ﷺ وقرأهـا عليـه وشـهد العرضة‬ ‫الأخيـرة‪ ،‬وكان يقـرئ النـاس بهـا حتـى مـات‪.‬‬ ‫‪ -‬ونعم الاختيار يا خليفة رسول الله‪.‬‬ ‫‪ -‬بـارك اللـه بك يـا ُبني‪ ،‬إنمـا اجتهـد ُت رأيي للأسـباب التي‬ ‫ذكرتهـا لـك‪ ،‬وقـد و َّفـ َق اللـه زيـد ًا فـي مهمتـه‪ ،‬وكان عند‬ ‫حسـن ظني به‪.‬‬ ‫‪ -‬فما قصة شهادة خزيمة بشهادة رجلين؟‬ ‫‪ -‬اشـترى النبـي ﷺ فرسـ ًا من رجل مـن الأعراب‪ ،‬فاسـتتبعه‬ ‫رسـول اللـه ﷺ ليعطيـه ثمنـه‪ .‬فأسـرع النبي المشـي وأبطأ‬ ‫الأعرابـي‪ ،‬فطفـق رجـال يلقـون الأعرابـي يسـاومونه على‬ ‫الفـرس‪ ،‬ولا يعلمـون أن رسـول اللـه ﷺ قـد ابتاعـه‪ ،‬حتى‬ ‫زاد بعضهـم الأعرابـي فـي ال َسـ ْوم علـى ثمـن الفـرس‪،‬‬ ‫‪151‬‬

‫الـذي ابتاعـه رسـول اللـه ﷺ‪ ،‬فلمـا زاده نـادى الأعرابـي‬ ‫رسـول اللـه ﷺ فقـال‪ :‬إن كنـت مبتاع ًا هـذا الفـرس فابتعه‬ ‫وإلا بع ُتـه‪ .‬فأقبـل عليـه النبـي النبـي ﷺ حيـن سـمع قـول‬ ‫الأعرابـي وقـال له‪ :‬ألسـت قـد ابتعتـه منك؟‪ ‬‬ ‫فقال الأعرابي‪ :‬لا والله ما بِعت َك!‬ ‫فقال رسول الله ﷺ‪ :‬بلى قد ابتعته منك‪.‬‬ ‫فطفـق النـاس يلـوذون بالنبـي وبالأعرابـي وهمـا يتراجعـان‪،‬‬ ‫فطفـق الأعرابـي يقـول‪ :‬هل ّم شـهيد ًا يشـهد أ ّني بعتـك‪ .‬فمن جاء‬ ‫مـن المسـلمين قـال للأعرابي‪ :‬ويلك إنه رسـول اللـه ﷺ لم يكن‬ ‫ليقـول إ ّل حقـ ًا‪ .‬حتـى جـاء خزيمة بن ثابـت فقال‪ :‬أنا أشـهد أنك‬ ‫قـد بايعته‪.‬‬ ‫فقـال رسـول اللـه ﷺ‪ :‬مـا حملـك علـى الشـهادة ولـم تكـن‬ ‫حاضـر ًا؟‬ ‫فقـال خزيمـة‪ :‬صدقتـك لمـا جئـت به وعلمـت أنـك لا تقول‬ ‫إ ّل حق ًا‪.‬‬ ‫فقـال رسـول اللـه ﷺ‪« :‬مـن شـهد لـه خزيمـة أو شـهد عليـه‬ ‫فحسـبه»‪ .‬فجعـل رسـول الله ﷺ شـهادة خزيمة بشـهادة رجلين‪.‬‬ ‫ولمـا جمـع زيد بـن ثابـت المصحـف كان من شـروط تدوين‬ ‫الآيـة في المصحـف أن يشـهد اثنان مـن الصحابة أنهم سـمعوها‬ ‫مـن فـم رسـول اللـه ﷺ‪ .‬وفقـ َد زي ٌد آيـة كان سـمعها من رسـول‬ ‫اللـه ﷺ فوجدهـا عنـد خزيمـة بـن ثابـت الأنصـاري ﴿ ِمـ َن‬ ‫‪152‬‬

‫ا ْل ُم ْؤ ِمنِيـ َن ِر َجـا ٌل َص َد ُقـوا َمـا َعا َهـ ُدوا ال َّل َه َع َل ْيـ ِه َف ِمنْ ُهـم َّمن َق َضى‬ ‫َن ْح َبـ ُه َو ِمنْ ُهـم َّمـن َين َت ِظ ُر َو َمـا َب َّد ُلـوا َت ْب ِدي ًل﴾‪ ‬‬ ‫فكتبها زيد في المصحف‪.‬‬ ‫‪ -‬هنيئ ًا لخزيمة تزكية النبي ﷺ‬ ‫‪ -‬صدق َت يا ُبني‪ ،‬والل ِه إنها لشهادة ُيغب ُط عليها‪.‬‬ ‫‪153‬‬

‫‪ -‬والآن هـل يـأذن لـي خليفة رسـول الله أن أسـأله عن بعض‬ ‫الأمـور التـي حدثـ ْت معه فـي خلافتـه بعيـد ًا عـن الحرب‬ ‫والقتال؟‬ ‫‪ -‬تف َّضل يا ُبني َس ْل ما بدا ل َك‪.‬‬ ‫‪ -‬كنـ َت رجا ًل ثريـ ًا‪ ،‬وخرج َت بمالـ َك كله يوم الهجـرة‪ ،‬فكم‬ ‫كان معـ َك من المـال يوم وليـ َت الخلافة؟‬ ‫‪ -‬لم يكن معي شيء!‬ ‫‪ -‬وأين ذه َب مالك؟‬ ‫‪ -‬علمـ ُت أنـه لا يمكننـي أن أصطحـب مالـي معي إلـى القبر‬ ‫عندمـا أمـوت فجعلته يسـبقني إلى هنـاك‪ ،‬وأنفقتـه كله في‬ ‫سـبيل الله‪.‬‬ ‫‪ -‬فما آخر مال َك الذي أنفقته في سبيل الله؟‬ ‫‪ -‬أنفقـ ُت آخـر مـا أملـ ُك مـن مـا ٍل يـوم أمرنـا النبـ ُّي ﷺ أن‬ ‫ُنج ِّهـز جيـش ال ُع ْسـرة‪.‬‬ ‫‪ -‬وما هو جيش ال ُعسرة يا خليفة رسول الله؟‬ ‫‪ -‬هـو الجيـش الـذي خـر َج إلـى تبـوك لقتـال جيـش الـروم‪،‬‬ ‫وقـد وقع ْت هـذه الغزوة في شـهر رجـب من العام التاسـع‬ ‫‪154‬‬

‫للهجرة‪ ،‬وسـببها الأساسـي هـو وصول خبر إلـى النبي ﷺ‬ ‫أن ملـ َك الـروم وقبائـل العرب التـي كانت علـى النصرانية‬ ‫كانـوا قـد عزموا الخـروج إلـى المدينـة لقتالنا‪ ،‬فأمـر النبي‬ ‫ﷺ بتجهيـز جيـش المسـلمين‪ ،‬وكنـا فـي وقـت حـر وفقر‬ ‫وجـدب‪ ،‬فجدنـا بأموالنـا‪ ،‬وخرجنـا لملاقـاة الـروم فـي‬ ‫جيـش قوامـه ثلاثيـن ألفـ ًا‪ ،‬وسـرنا حتـى وصلنا إلـى تبوك‬ ‫فلـم نجـد أحـد ًا مـن الـروم أو مـن حلفائهـم مـن نصـارى‬ ‫العـرب‪ ،‬فبقينـا هنـاك عشـرين يومـ ًا بانتظارهـم ولكـن لم‬ ‫يتجـرأوا علـى المجـيء فعدنـا أدراجنـا إلـى المدينة‪.‬‬ ‫‪ -‬أليسـت هـذه الغـزوة التي حاول فيهـا عمر بـن الخطاب أن‬ ‫يسـبقك في الإنفـاق فيها؟‬ ‫‪ -‬بلى‪ ،‬هي كذلك‪.‬‬ ‫‪ -‬فما القصة يا خليفة رسول الله؟‬ ‫‪ -‬القصـة يرويهـا عمـر بـن الخطـاب فيقـول‪ :‬أمرنـا النبي ﷺ‬ ‫أن نتصـدق لتجهيـز جيش تبـوك‪ ،‬وواف َق ذل َك عنـدي مالاً‪،‬‬ ‫فقلـ ُت‪ :‬اليـوم أسـب ُق أبـا بكـر! فجئـ ُت بنصف مالـي‪ ،‬فقال‬ ‫لـي النبي ﷺ‪ :‬مـا أبقيـ َت لأهلك؟‬ ‫فقل ُت‪ :‬مثله‪.‬‬ ‫فأتـى أبـو بكر بـكل ماله وهـو يومهـا أربعة آلاف درهـم‪ ،‬فقال‬ ‫النبـي ﷺ‪ :‬مـا أبقيـ َت لأهلك يا أبـا بكر؟‬ ‫فقال‪ :‬أبقي ُت لهم الله ورسوله!‬ ‫‪155‬‬

‫فقل ُت‪ :‬لا أسبقه إلى شي ٍء أبد ًا!‬ ‫‪ -‬كل مالك يا أبا بكر؟‬ ‫‪ -‬كل مالـي يـا ُبني‪ ،‬قل ُت لـ َك أني كن ُت أعر ُف أني لا أسـتطيع‬ ‫أن آخـذ مالي معـي إلى القبر‪ ،‬فجعلتـه ينتظرني هناك!‬ ‫‪ -‬تق َّبـ َل اللـه منـ َك أجـر جهـاد َك بنفسـك ومالـك يـا خليفـة‬ ‫رسـول اللـه‪.‬‬ ‫‪ -‬اللهم آمين‪.‬‬ ‫‪ -‬فمن ج َّهز الجيش غيركما بما أنها سير ٌة قد ُفتح ْت؟‬ ‫‪ -‬ضـر َب أثريـاء الصحابـة أروع الأمثلة يومها فـي الإنفاق في‬ ‫سـبيل اللـه‪ ،‬فجـاء عبـد الرحمـن بـن عـوف بنصـف ماله‪،‬‬ ‫وجـاء العبـاس بـن عبـد المطلـب بمـا ٍل كثيـ ٍر‪ ،‬وتصـدق‬ ‫النسـاء ب ُحليهـ َّن وذهب ِهـ َّن‪ ،‬وجـاء عاصم بن عد َّي بسـبعين‬ ‫وسـق ًا مـن تمـر طعامـ ًا للجيـش‪ .‬وتصـدق الموسـرون‬ ‫بالأحصنـة والخيـول لتكـون ركوبـ ًا لمن لا حصـان عنده‪،‬‬ ‫أمـا عثمـان بـن ع َّفـا ٍن فقـد فـا َق الجميـع‪ ،‬فقـد ج َّهـز ثلث‬ ‫الجيـش وحـده‪ ،‬حتـى قـال النبـي ﷺ‪ :‬مـا ضـ َّر عثمـان ما‬ ‫فعـل بعد اليـوم‪ .‬الكل تصـ َّدق يا ُبنـي حتى الفقـراء كل بما‬ ‫يستطيع ‪.‬‬ ‫‪ -‬وكيف تص َّدق الفقراء؟‬ ‫‪ -‬ل َّمـا سـارع أثريـاء الصحابـة بصدقاتهـم لتجهيـز الجيـش‪،‬‬ ‫ورأى فقـراء المسـلمين ذلـك‪ ،‬اشـتاقوا أن يبذلـوا و ُينفقـوا‪،‬‬ ‫‪156‬‬

‫وشـاركوا الأغنيـاء بما يسـتطيعون‪ ،‬فجـاء أبو عقيل بنصـ ِف صا ٍع‬ ‫مـن تمـر هـذا كل ما اسـتطاعه‪ ،‬أمـا ُعلبـة بن زيـد فلم يكـن عنده‬ ‫حتـى تمـرة واحدة ليتصـدق بها‪ ،‬فقـال للنبي ﷺ‪ :‬إنـه ليس عندي‬ ‫مـا أتصـ َّد ُق بـه‪ ،‬وإنـي أتصـ َّد ُق ب ِعرضـي علـى كل مسـل ٍم بـكل‬ ‫مظلمـ ٍة أصابنـي فيها!‬ ‫‪ -‬ماذا قال النبي ﷺ؟‬ ‫‪ -‬لمـا كان الغـد‪ ،‬صعد النبـي ﷺ المنبر وقـال‪ :‬أين المتصدق‬ ‫بعرضه البارحة؟‬ ‫فقـام ُعلبـة بـن زيد‪ ،‬فقـال لـه النبـي ﷺ‪ :‬أب ِشـ ْر‪ ،‬فقد قبـ َل الله‬ ‫منـ َك صدقت َك!‬ ‫‪ -‬يا الله‪ ،‬يا لها من أمة‪ ،‬ويا له من جيل!‬ ‫‪ -‬يـا ُبنـي هـؤلاء هـم الذيـن اصطفاهـم اللـه تعالـى لصحبـة‬ ‫نبيه ‪.‬‬ ‫‪ -‬يـا لكـرم الاصطفـاء‪ ،‬وهنيئـ ًا لـ َك أنـ َك كنـت سـ ِّيد هـذه‬ ‫الصفـوة‪.‬‬ ‫‪ -‬بارك الله بك يا ُبني‪.‬‬ ‫‪ -‬والآن نعـود إلـى مـا كنـا بـه‪ ،‬إذ ًا لـم يكـن عنـد َك مـال حين‬ ‫وليـ َت الخلافة؟‬ ‫‪ -‬كلا لم يكن عندي مال‪.‬‬ ‫‪ -‬فمن أين كن َت ُتنف ُق على عيالك؟‬ ‫‪157‬‬

‫‪ -‬عندمـا وليـ ُت الخلافـة‪ ،‬كنـ ُت فـي أول أيامـي أذهـ ُب إلـى‬ ‫السـوق فأتاجـر بالقليـل الـذي يكفينـي ثـم أعـود لأتابـع‬ ‫أمـور النـاس‪ ،‬فلقينـي مـرة عمر بـن الخطـاب وأبـو عبيدة‬ ‫بـن الجـراح وأنـا ذاهـب إلى السـوق وعلـى كتفـي أثواب‬ ‫أريـد أن أتاجـر بهـا‪ ،‬فقـالا لي‪ :‬أيـن تريـ ُد يا خليفة رسـول‬ ‫ا لله ؟‬ ‫فقل ُت‪ :‬أري ُد السوق لأبيع هذه!‬ ‫فقالا‪ :‬تبي ُع وتتاجر وقد ولي َت أمور المسلمين؟‬ ‫فقل ُت‪ :‬ومن أين أطعم عيالي؟‬ ‫فقالا‪ :‬انط ِل ْق معنا حتى نفرض لك شيئ ًا‪.‬‬ ‫فانطلقـ ُت معهمـا ففرضا لي مئتين وخمسـين دينار ًا في السـنة‪،‬‬ ‫وشـا ًة أحلبهـا لأهلـي‪ ،‬فوجـد ُت أن ذلـك لا يكفيني‪ ،‬فعـد ُت إلى‬ ‫السـوق أجنـي القليـل ع ّله يكفينـي مع ما قسـموه لي مـن راتب‪.‬‬ ‫‪ -‬ومـا الـذي حـدث بعد ذلـك‪ ،‬أعني هـل بقي َت تتاجـر وأنت‬ ‫الخليفة؟‬ ‫‪ -‬جـاء عمـر بـن الخطـاب إلـ َّي يومـ ًا فوجد عنـد بابي نسـو ًة‬ ‫جالسـا ٍت ينتظـرن عودتـي لأقضي لهـن حوائجهـ َّن‪ .‬فقال‬ ‫لهـ َّن‪ :‬ما شـأنكن؟‬ ‫فقل َن‪ :‬نري ُد خليفة رسول الله لبعض أمرنا‪.‬‬ ‫فانطلـ َق عمـر يبحـ ُث عنـي فوجدني فـي السـوق‪ ،‬فأخذني من‬ ‫يـدي وقـال‪ :‬تعال هـا هنا‪.‬‬ ‫‪158‬‬

‫فقلـ ُت‪ :‬لا حاجـة لـي فـي إمارتكم‪ ،‬قسـمتم لـي مـا لا يكفيني‬ ‫أنـا وعيالي‪.‬‬ ‫فقال لي‪ :‬سنزيدك‪.‬‬ ‫فقل ُت‪ :‬ثلاثمئة دينار وشاة‪.‬‬ ‫فقال لي‪ :‬لا‪.‬‬ ‫فجـاء علـي بـن أبـي طالـب ونحـن علـى هـذه الحـال‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫أعـ ِط خليفـة رسـول اللـه مـا طلـ َب فليـس ذلـك بالكثير‪.‬‬ ‫فقال له عمر‪ :‬ترى ذلك؟‬ ‫فقال علي‪ :‬نعم‪.‬‬ ‫فقلـ ُت‪ :‬أنتمـا رجلان مـن المهاجريـن ولا أدري أيرضـى بقية‬ ‫المهاجريـن أم لا؟‬ ‫فانطلقـ ُت‪ ،‬وصعـد ُت المنبـر‪ ،‬فاجتمـع علـ َّي النـاس‪ ،‬فقلـت‬ ‫لهـم‪ :‬أيهـا النـاس إن راتبـي كان مئتيـن وخمسـين دينـار ًا وبعض‬ ‫شـاة‪ ،‬وإ َّن عمـر وعليـ ًا ك َّملا لـي ثلاثمئة دينـا ٍر وشـاة‪ .‬أفرضيتم؟‬ ‫فقالوا‪ :‬اللهم نعم قد رضينا!‬ ‫‪ -‬أن َت الخليفة وتترك للناس أن يحددوا راتب َك؟‬ ‫‪ -‬ومـا لـي ألاَّ أفعـل؟ هـي أموالهـم‪ ،‬وأنـا أقـوم بأمـر فيـه‬ ‫خدمتهـم‪ ،‬وليـس لـي مـن مالهـم سـوى مـا قبلـوا أن يعطونـي‪،‬‬ ‫أليـ َس إذا اسـتأجر َت عاما ًل ليعمـل لك عما ًل ليس له مـن مال َك‬ ‫سـوى مـا أرد َت أن تعطيـه مـن طيـب خاطـر؟‬ ‫‪ -‬بلى‪ ،‬ولكنك الخليفة‪.‬‬ ‫‪159‬‬

‫‪ -‬وإن يكـن‪ ،‬سـوا َء كنت الخليفـة أو موظف ًا بسـيط ًا في الدولة‬ ‫فليس لـي إلا راتبي الـذي يحـدده القانون لي‪.‬‬ ‫‪ -‬ولكـن كا ٍن بإمكانـك أن تفـر َض لنفسـك الراتـب الـذي‬ ‫ترضـاه‬ ‫‪ -‬أنـا أطلـ ُب ولهم الحـق أن يقبلوا أم لا‪ ،‬أمـا أن أفر َض فلي َس‬ ‫لي أن آخذ شـيئ ًا مـن أموالهم‪.‬‬ ‫‪ -‬أتعب َت من بعد َك يا أبا بكر!‬ ‫‪ -‬هـذا هـو الحـق يا ُبنـي‪ ،‬أتريدنـي أن أختـم حياتي بـأن آخذ‬ ‫مـن أموال النـاس مـالاً لا يرضـون أن آخذه؟‬ ‫‪ -‬لا والل ِه‪ ،‬ولكن قصد ُت أن كل المال بيدك‪.‬‬ ‫‪ -‬المـال الـذي بيـدي هـو لهم وليـس لي‪ ،‬هـذا أمانـة عندي‪،‬‬ ‫ومـا كنـ ُت لأُض ِّيع هـذه الأمانة‪.‬‬ ‫‪ -‬صدق َت‪ ،‬ما كان لأبي بكر أن ُيض َّيع الأمانة‪.‬‬ ‫‪ -‬فما خبر حلب َك أغنام الناس؟‬ ‫‪ -‬كنـ ُت قبـل الخلافـة أ ِحلـ ُب لعجائـز المدينـة أغنامهـ َّن‪،‬‬ ‫أحتسـ ُب بذلـك الأجـر عنـد اللـه‪ ،‬فلمـا وليـ ُت الخلافـة‬ ‫قالـت إحداهـ َّن‪ :‬الآن لـن يحلـ َب لنـا أغنامنـا!‬ ‫فسـمعتها‪ ،‬فقلـ ُت‪ :‬لعمـري لأحلبنهـا لكـم‪ ،‬وإنـي لأرجـو ألا‬ ‫ُيغ ِّيرنـي مـا دخلـ ُت فيـه عـن ُخلـ ٍق كنـ ُت عليه‪.‬‬ ‫وبقي ُت أحل ُب له َّن أغنامه َّن‪.‬‬ ‫‪160‬‬

‫‪ -‬تحلـ ُب أغنـام العجائـز قبـل الخلافـة هـذه نتفهمهـا‪ ،‬أما أن‬ ‫تحلـ َب أغنامهـ َّن وقـد صر َت خليفـة المسـلمين‪ .‬أليس في‬ ‫هـذا انتقاص ًا مـن قدرك؟‬ ‫‪ -‬مـن قـال إ َّن خدمـة النـاس ُتنقـص مـن قـدر المـرء‪ ،‬علـى‬ ‫العكـس يـا ُبنـي إن قـدر المـرء يرتفـع بخدمـة النـاس‬ ‫خصوصـ ًا المسـاكين الذيـن ليـس لهـم أحـد إلا اللـه‪.‬‬ ‫‪ -‬أعني أن َك الآن الخليفة؟‬ ‫‪ -‬إن كنـ ُت أحلـ ُب لهـ َّن قبـل الخلافة صدقـ ًة منـي‪ ،‬فإني بعد‬ ‫الخلافـة كنـ ُت أحلـ ُب لهـ َّن واجبـ ًا‪ ،‬فهـم رعيتـي‪ ،‬واللـ ُه‬ ‫سيسـألني عنهـم يـوم القيامـة‪.‬‬ ‫‪ -‬لو أن َك أوكل َت هذا الأمر لغيرك؟‬ ‫‪ُ -‬أغلـ ُق بـاب خيـ ٍر فتحـه اللـه لـي‪ ،‬لا واللـ ِه مـا كان لـي أن‬ ‫أفعـل‪.‬‬ ‫‪ -‬يبـدو أن هذا ال ِّشـق مـن حديثنا سـيكون عنوانـه‪ :‬أتعب َت من‬ ‫بعـد َك يا أبـا بكر!‬ ‫‪ -‬يـا ُبنـي‪ ،‬قالـت العـرب‪ :‬سـيد القـوم خادمهـم‪ ،‬وأنا لسـ ُت‬ ‫سـيد النـاس‪ ،‬وإنمـا واحـ ُد منهـم وخادمهـم‪.‬‬ ‫‪ -‬وماذا عن قصة العجوز العمياء؟‬ ‫‪ -‬انتبـه عمـر بن الخطـاب إلى أني أخـر ُج إلى أطـراف المدينة‬ ‫بعـد صالة الفجر‪ ،‬ثم أدخـل إلى كوخ لسـاعات ثم أنصـر ُف إلى‬ ‫بيتـي‪ ،‬وهـو لا يدري مـا بداخل البيـت‪ ،‬ولا ما أفعل ُه ُهنـاك‪ ،‬ولأنه‬ ‫‪161‬‬

‫كان يعـر ُف مـا أعملـه مـن خيـ ٍر إلا سـ َّر هذا البيـت‪ ،‬قـرر عمر أن‬ ‫يدخـل إليـه بعـد إنصرافي منـه‪ ،‬ليشـاهد بعينه مـا الـذي أفعله فيه‬ ‫بعـد صالة الفجـر‪ .‬وعندمـا دخل عمـر إلى هـذا الكـوخ الصغير‬ ‫وجـد فيه عجـوز ًا لا تقوى علـى الحركة‪ ،‬كمـا أنها كانـت عمياء!‬ ‫فـزادت حيـرة عمـر ودهشـته‪ ،‬وسـأل العجـوز‪ :‬مـاذا يفعـل هـذا‬ ‫الرجـل عندكم؟‬ ‫فقالـ ْت لـه‪ :‬يأتينـي كل صبـاح و ُينظف لـي البيت ويكنسـه‪ ،‬ثم‬ ‫ُي ِعـ ُّد لـي الطعـام وينصـرف دون أن يخبرنـي من هو!‬ ‫عندها قال عمر‪ :‬أتعب َت الخلفاء من بعد َك يا أبا بكر!‬ ‫‪ -‬قلـ ُت لـ َك يا خليفـة رسـول اللـه أن حديثنا سـيكون عنوانه‬ ‫أتعبـ َت مـن بعـد َك يا أبـا بكر‪.‬‬ ‫‪ -‬بار َك الله ب َك يا ُبني‪.‬‬ ‫‪ -‬فمن كانت هذه المرأة؟ أعني هل كان بينك وبينها قرابة؟‬ ‫‪ -‬لا يـا ُبنـي‪ ،‬ليـس بينـي وبينهـا قرابـة‪ ،‬ولكنها عجـوز عمياء‬ ‫قعيـدة‪ ،‬ليـس لهـا إلا الله‪ ،‬وقـد علمـ ُت بأمرهـا‪ ،‬فقل ُت في‬ ‫نفسـي‪ :‬بـاب خير فتحـه الله لـي‪ ،‬فلأسـتغلنَّه‪.‬‬ ‫‪ -‬وقـد أحسـن َت واللـه اسـتغلاله‪ ،‬ولكـن لمـاذا تقـوم بالأمر‬ ‫بنفسـك‪ ،‬لـو كل َّفـ َت به أحـد ًا غيـر َك يقـوم به‬ ‫‪ -‬ومـن أحـ ُّق بالأجـر منـي‪ ،‬وأحـوج له‪ ،‬بـل أقوم به بنفسـي‪،‬‬ ‫ولا أر ُّد صدقـة أراد ربـي أن يتصدقهـا عل َّي‪.‬‬ ‫‪162‬‬

‫‪ -‬فمـا قصتـك مـع جابـر بـن عبـد اللـه‪ .‬ومـال البحريـن يـا‬ ‫خليفـة رسـول اللـه؟‬ ‫‪ -‬عندمـا وليـ ُت الخلافـة جاءنـا مـال البحريـن فقلـ ُت‪ :‬مـن‬ ‫كانـت لـه ِعـ َّدة عنـد النبـي ﷺ فليـأ ِت‪.‬‬ ‫فجاء جابر بن عبد الله فقال لي‪ :‬لي ِع َّدة عند النبي ﷺ‪.‬‬ ‫فقل ُت‪ :‬وما ِع َّدت َك؟‬ ‫فقـال‪ :‬قـد قـال لي النبـ ُّي ﷺ لو جـاء مـال البحريـن لأعطي ُت َك‬ ‫هكـذا وهكـذا وهكذا‪ ،‬يشـير إلـى حفن ٍة مـن يديه‪.‬‬ ‫فقل ُت له‪ُ :‬خ ْذ بكفي َك‪.‬‬ ‫فأخـذ حفنـ ًة بكفيه‪ ،‬ثم ع َّدهـا فإذا هي خمسـمئة دينـار‪ .‬فقل ُت‬ ‫لـه‪ُ :‬خـ ْذ مثليهـا‪ ،‬فأخـذ ألفـ ًا ومضـى‪ ،‬ثـم أعطيـ ُت من المـال كل‬ ‫إنسـان كان النبـ ُّي ﷺ قـد وعده شـيئ ًا‪.‬‬ ‫‪ -‬وفي َت إذا بعه ِد النب ِّي ﷺ بعد موته؟‬ ‫‪ -‬فبعهد من أفِي إن لم أ ِف بعهد النب ِّي ﷺ؟‬ ‫‪ -‬صدق َت‪ ،‬فوعده أح ُّق الوعود بالوفاء‪.‬‬ ‫‪ -‬فهل عند َك شيء تسأل عنه بعد في هذا الباب؟‬ ‫‪ -‬أجل ما زال عندي‪.‬‬ ‫‪ -‬فس ْل إذ ًا‪.‬‬ ‫‪ -‬هـل صحيـح أنـ َك لـم ت ُكـ ْن تسـتعمل أهل بـدر علـى أمور‬ ‫الحكـم والولاية؟‬ ‫‪ -‬نعم هذا صحيح يا ُبني‪.‬‬ ‫‪163‬‬

‫‪ -‬ول َم؟‬ ‫‪ -‬كنـ ُت أرى مكانتهـم وأحفظهـا‪ ،‬وأكرمهـم‪ ،‬ولكنـي لـم‬ ‫اسـتعملهم فـي الحكـم لأنـي كرهـ ُت أن أدنسـهم بالدنيـا‪.‬‬ ‫‪ -‬وكيف هذا؟‬ ‫‪ -‬يـا ُبنـي إن الحكـم فـي كثيـر مـن لحظاتـه اجتهـاد‪ ،‬وتعامل‬ ‫مـع النـاس‪ ،‬وأخـذ ورد‪ ،‬وصـواب وخطـأ‪ ،‬ولكرامـة أهـل‬ ‫بـدر عنـدي أرد ُت أن أبعدهـم عـن كل هـذا‪.‬‬ ‫‪ -‬ولكنـ َك اسـتعمل َت عمر بن الخطـاب‪ ،‬أعني أنـه كان وزير ًا‬ ‫لك ‪.‬‬ ‫‪ -‬وهـل ُيسـتغنى عن عمر ورأيه‪ ،‬بل إني اسـتأذن ُت أسـامة يوم‬ ‫كان عمـر فـي جيشـه أن يتركه عندي لأسـتعين بـه‪ ،‬عمر بن‬ ‫الخطـاب ليـس كسـائر النـاس‪ ،‬فلا يسـ ُّد أحـد مكانـه‪ ،‬وما‬ ‫لا يتـم بـه الواجـب إلا به فهـو واجب‪ ،‬أمـا ولايـة البلدان‪،‬‬ ‫والخـراج وجمع الـزكاة فهي قصـة أخرى‪.‬‬ ‫‪ -‬حسـن ًا فهمـ ُت يـا خليفـة رسـول اللـه‪ ،‬فمـا قصـة سـؤالك‬ ‫النـاس عـن واليـ َك علـى مكـة؟‬ ‫‪ -‬فـي أول عـام لـي في الخلافـة ك ّلفـ ُت عمر بـن الخطاب أن‬ ‫يحـ َّج بالنـاس‪ .‬وفـي العـام التالـي حججـ ُت بهم أنـا‪ ،‬فلما‬ ‫دخلـ ُت مكـة سـأل ُت أهلها‪ :‬هـل من أحـ ٍد يشـتكي مظلمة؟‬ ‫فما جاءني أح ٌد‪ ،‬وأثنى الناس على واليهم‪.‬‬ ‫‪ -‬فمن كان والِي َك على مكة يومها؟‬ ‫‪ -‬كان الوالي هو ع َّتاب بن ُأسيد‪.‬‬ ‫‪164‬‬

‫‪ -‬ألم تكن تثق به؟‬ ‫‪ -‬لو لم أكن أثق به ما وليته‪.‬‬ ‫‪ -‬فلماذا تسأل عنه الناس إذ ًا؟‬ ‫‪ -‬مـن واجبـي أن ُأتابـع أعمال الولاة‪ ،‬وأسـأل الناس مباشـرة‬ ‫عنهـم‪ ،‬فأنـا المسـؤول أمـام الله إن حـدث ظلـم على أحد‬ ‫مـن رعيتي‪.‬‬ ‫‪ -‬صدق َت يا خليفة رسول الله‪.‬‬ ‫‪ -‬بارك الله بك يا ُبني‪ ،‬فهل عندك شيء تسأل عنه بعد؟‬ ‫‪ -‬أجل ما زال عندي ما أسألك عنه‪.‬‬ ‫‪ -‬فهاته إذ ًا‪.‬‬ ‫‪ -‬ما قصة المرأة التي نذر ْت أن تحج صامتة؟‬ ‫‪ -‬هـذه المـرأة مـن أحم ٍس يقـال لها زينـب‪ ،‬رأيتها فـي الحج‬ ‫لا تتكلـم‪ ،‬فقلـ ُت‪ :‬ما لهـا لا تتكلم؟‬ ‫فقال ْت‪ :‬نذر ْت أن تحج صامتة‪.‬‬ ‫فقلـ ُت لهـا‪ :‬تكلمـي‪ .‬فـإ َّن هـذا لا ي ِحـ ُّل‪ ،‬وهـذا مـن عمـل‬ ‫ا لجا هليـة ‪.‬‬ ‫فتكلم ْت فقال ْت لي‪ :‬من أن َت؟‬ ‫قل ُت‪ :‬امرؤ من المهاجرين‪.‬‬ ‫قالت‪ :‬أي المهاجرين؟‬ ‫قل ُت‪ :‬من قريش‪.‬‬ ‫فقال ْت‪ :‬من أي قريش؟‬ ‫قل ُت‪ :‬إن ِك لسؤولة! أنا أبو بكر‪.‬‬ ‫‪165‬‬

‫فقالـت‪ :‬مـا بقاؤنـا علـى هذا الأمـر الصالـح الذي جاء بـه الله‬ ‫بعـد الجاهلية؟‬ ‫قل ُت‪ :‬بقاؤكم عليه ما استقامت أئمتكم‪.‬‬ ‫قال ْت‪ :‬وما الأئمة؟‬ ‫قل ُت‪ :‬أما كان لقومك رؤوس وأشراف يأمرونهم فيطيعونهم؟‬ ‫قالت‪ :‬بلى‪.‬‬ ‫قل ُت‪ :‬فهم أولئك الناس‪.‬‬ ‫‪ -‬فلماذا لم تخبرها باسمك أول الأمر؟‬ ‫‪ -‬وما الحاجة إلى ذلك؟‬ ‫‪ -‬كانت ستسمع منك فور ًا دون أن تناقشك‪.‬‬ ‫‪ -‬كان غرضـي أن تتـر َك مـا نـذر ْت مـن نـذ ٍر باطـل وليس أن‬ ‫أتباهـى أنـي خليفة المسـلمين‪.‬‬ ‫‪ -‬فماذا قصد َت بقول َك‪ :‬بقاؤكم عليه ما استقامت أئمتكم؟‬ ‫‪-‬قصـد ُت أ َّن النـاس بحكامهم‪ ،‬فإذا التز َم الحكام بشـرع الله‪،‬‬ ‫وطبقـوه على أنفسـهم‪ ،‬وأعلوا من شـأنه تبعتهـم الرعية في‬ ‫ذلـك‪ ،‬ومتـى مـا تركوا شـرع الله و ُسـنة نبيـه كانـت الرعية‬ ‫بهذا الأمـر أتـرك منهم له!‬ ‫‪ -‬فما قصة قولك‪ :‬دعاؤه أشد من سرقته؟‬ ‫‪ -‬جـا َء إلـ َّي رجـ ٌل مـن أهـل اليمـن مقطـوع اليـد والرجـل‪،‬‬ ‫فشـكا إلـ َّي أن الوالـي علـى اليمـن ظلمـه بالسـرقة‪ .‬وكان‬ ‫هـذا الرجـل يصلي مـن الليـل‪ ،‬وكنـ ُت أراه فأقـول‪ :‬وأبي َك‬ ‫مـا ليلـ َك بليل سـارق‪.‬‬ ‫‪166‬‬

‫ثـم أننـا فقدنـا ُحليـ ًا لزوجتـي أسـماء بنـت عميـس‪ ،‬وجعلنـا‬ ‫نبحـث عنهـا‪ ،‬فكان يبحـ ُث معنا ويقـول‪ :‬الله َم علي َك بمن سـر َق‬ ‫أهـل هـذا البيـت الصالح!‬ ‫ثـم وجدنـا ال ُحلي عنـد ضائغ‪ ،‬فسـألناه عنه‪ ،‬فأخبرنـا أن رجل ًا‬ ‫مقطـوع اليـد والرجـل جـاءه وباعـه إيـاه‪ ،‬فجئـ ُت بالرجـل فعرفه‬ ‫الصائـغ فـإذا هـو صاحبنـا الـذي جـاء مـن اليمـن يدعـي أن يـده‬ ‫ورجلـه قـد قطعتـا ُظلم ًا‪.‬‬ ‫فقل ُت‪ :‬والل ِه لدعاؤه على نفسه أش ُّد عليه من سرقته‪.‬‬ ‫‪ -‬وماذا قصد َت بقولك هذا؟‬ ‫‪ -‬أرد ُت أن أتعجـ َب مـن تجرئه علـى الله‪ ،‬أكرمناه‪ ،‬وحسـبناه‬ ‫مظلومـ ًا‪ ،‬فقـام بسـرقتنا ثـم م َّثـل دور البريء وأخـذ يبحث‬ ‫معنـا عـن السـارق‪ ،‬ويدعو اللـه أن ينتقم ممن قام بسـرقتنا‪،‬‬ ‫وهو السـارق!‬ ‫‪ -‬سبحان الله ما أجرأ بعض الناس على الله‪.‬‬ ‫‪ -‬بل قل سبحان الله ما أحلمه على الناس‪.‬‬ ‫‪ -‬فما قصة أيستنَّان بفارس الروم؟‬ ‫‪ -‬كان ُبنـان أحـد قـادة الـروم‪ ،‬وكان إذا قتـل أحـد ّا مـن‬ ‫المسـلمين‪ ،‬قطـع رأسـه وأرسـله إلـى قيصـر‪ ،‬ثـم وقعـ ْت‬ ‫معركـة بين المسـلمين والروم في الشـام و ُقتل ُبنـان‪ ،‬فبع َث‬ ‫إلـ َّي عمـرو بـن العـاص وشـرحبيل بـن حسـنة برأسـه مـع‬ ‫عقبـةبـنعامـر‪،‬فلمـاجاءنـيبـهغضبـ ُتوأنكـر ُتذلـك‪.‬‬ ‫فقال لي عقبة‪ :‬يا خليفة رسول الله‪ ،‬إنهم يفعلون هذا بنا‪.‬‬ ‫‪167‬‬

‫فقلـ ُت لـه‪ :‬أفيسـتنَّان بفـارس والـروم؟ لا ُيحمـل إللـ َّي رأس‪،‬‬ ‫وإنمـا يكفـي أن يكتبـوا لـي كتابـ ًا بمـا حدث‬ ‫‪ -‬ولكنهم كانوا يفعلون هذا بقتلى المسلمين!‬ ‫‪ -‬قـد علمـ ُت هـذا‪ ،‬ولكننـا نعامـل النـاس بأخلاقنـا لا‬ ‫بأخلاقهـم‪ ،‬فـإذا تخلـوا عـن أخلاقهم فهـذا ليس مبـرر ًا أن‬ ‫نتنـازل نحـن عـن أخلاقنـا!‬ ‫‪ -‬صدقـ َت يـا خليفـة رسـول اللـه‪ .‬وبقـي هنـاك شـيء أخيـر‬ ‫أسـأل َك عنـه فـي هـذا الباب‪.‬‬ ‫‪ -‬تف َّض ْل يا ُبني‪.‬‬ ‫‪ -‬ما قصة الرجل الذي دخ َل علي َك أن َت وعمر فضربته؟‬ ‫‪ -‬فـي أحد أيـام ال ُجمعة قم ُت خطيبـ ًا بالناس‪ ،‬فقلـ ُت في آخر‬ ‫الخطبـة‪ :‬إذا كان الغـداة فاحضـروا ص َدقات الإبل نقسـمها‬ ‫بيـن النـاس فإنهـا كثيـرة‪ ،‬ولا يدخـ ْل علينـا أح ٌد أنـا وعمر‬ ‫حتـى ننتهـي مـن قسـمتها‪ .‬غيـر أن امـرأة قالـت لزوجهـا‪:‬‬ ‫ُخـ ْذ هـذا الخطام‪ /‬الحبـل واذه ْب إلـى أبي بكر فلعـ َّل الله‬ ‫يرزقنـا جما ًل نربطه به‪.‬‬ ‫فمـا شـعر ُت إلا والرجل واقف عند رأسـي‪ ،‬فقل ُت لـه غاضب ًا‪:‬‬ ‫ما أدخلـ َك علينا؟‬ ‫ثـم أخـذ ُت منـه الخطـام وضربتـه بـه‪ ،‬ولمـا انتهينا من قسـمة‬ ‫الإبـل ندمـ ُت على مـا كان مني‪ ،‬فناديـ ُت في النـاس‪ :‬أين صاحب‬ ‫الخطام؟‬ ‫‪168‬‬

‫فجـاء يحمـل خطامـه‪ ،‬فقلـ ُت له‪:‬اقتـ َّص منـي‪ ،‬واضربنـي كما‬ ‫ضر بت َك !‬ ‫فقـال لـي عمـر‪ :‬واللـ ِه لا يقتـ ُّص منـ َك‪ ،‬لا تجعلهـا ُسـن ًة كلما‬ ‫أخطـأ خليفـة فـي حق واحـ ٍد مـن الرعيـة‪ ،‬قـام المظلـوم بضرب‬ ‫الأميـر فتضيـ ُع هيبته!‬ ‫فقل ُت لعمر‪ :‬فمن لي من الل ِه يوم القيامة؟‬ ‫فقال لي عمر‪َ :‬أ ْر ِضه إذ ًا‪.‬‬ ‫فأ ّمـر ُت غلامي أن يعطيـه ناق ًة‪ ،‬وثياب ًا‪ ،‬وخمـ َس دنانير‪ ،‬فأخذها‬ ‫الرجـل راضي ًا وذهـ َب إلى بيته‪.‬‬ ‫‪ -‬صد َق والل ِه عمر‪ ،‬كان هذا أفضل من أن يضرب َك‪.‬‬ ‫‪ -‬والل ِه لو لم ير َض إلاّ بضربي ما منعته‪.‬‬ ‫‪ -‬سبحان الله تدع أحد أفراد رعيتك يضربك؟‬ ‫‪ -‬ألس ُت قد ضربته أولاً؟‬ ‫‪ -‬بلى‪ ،‬ولكنه أخطأ أولاً‪.‬‬ ‫‪ -‬نعـم أخطـأ بالدخـول دون إذن‪ ،‬ولكـن هـذا لا يبيـح لـي‬ ‫ضربـه‪ ،‬رجـل جاء فـي حاجـة‪ ،‬وصاحـب الحاجـة أرعن‪،‬‬ ‫وأن يضربنـي فـي الدنيا أحب إلـ َّي أن أقف يـوم القيامة بين‬ ‫يـدي اللـ ِه فيشـكوني إليه‪.‬‬ ‫‪ -‬أتعب َت من بعد َك يا أبا بكر!‬ ‫‪169‬‬

‫‪ -‬والآن يـا خليفـة رسـول الله أشـعر بحـر ٍج شـديد‪ ،‬وخجل‬ ‫عـارم‪ ،‬لشـي ٍء أريـ ُد أن أسـألك عنه‪.‬‬ ‫‪ -‬ولِ َم الحر ُج يا ُبني؟ سل ما بدا ل َك‪.‬‬ ‫‪ -‬الحـر ُج يـا خليفـة رسـول اللـه أن بعـض أراذل النـاس قـد‬ ‫قالـوا عنـ َك أقـوالاً لا نرضـى أن ُتقـال فيـك‪ ،‬وأنـ َت عندنا‬ ‫أعـ ُّز وأكـرم وأنقـى مـن أن ُتتهم‪ ،‬ولكنـي أرد ُت أن أسـألك‬ ‫عنهـا لا لتدافـع عـن نفسـك‪ ،‬معـاذ اللـه‪ ،‬فإنمـا يحتـاج‬ ‫للدفـاع مـن كان متهم ًا وأنـ َت عندنا فوق ال ُشـبهات‪ ،‬ولكن‬ ‫مـن باب كمـا جرت العـادة منـذ أن التقينا أن نسـمع القصة‬ ‫مـن صاحبهـا‪ ،‬والحكاية مـن الحكاية نفسـها‪ ،‬وأنـك والله‬ ‫حكايـة مـن لحـم ودم ُتـروى للأجيـال علـى مـر الدهـور‬ ‫تسـلي ًة وعـزا ًء واقتدا ًء‪.‬‬ ‫‪ -‬يـا ُبنـي لا تجـد حرج ًا فـي صدرك من أي شـي ٍء‪ ،‬قـل لي ما‬ ‫قالـوا‪ ،‬وأنـا بـإذن اللـه أجيبـك‪ .‬وتذكـر أنـه ما من أحـ ٍد إلا‬ ‫ولـه كاره أو حاسـد‪ ،‬وأن النـاس طالمـا أسـاؤوا الأدب مع‬ ‫اللـه‪ ،‬فقـد قالوا يد اللـه مغلولة‪ ،‬ونسـبوا له الولـد والزوجة‬ ‫تعالـى اللـه عـن هـذا علـو ًا كبيـر ًا‪ .‬وقالـوا عـن النبـ ِّي ﷺ‬ ‫‪170‬‬

‫سـاحر‪ ،‬وشـاعر‪ ،‬ومجنـون‪ ،‬وكـذاب‪ ،‬فـإذا كان اللـه جـ َّل‬ ‫فـي عاله قـد قيـل فيه مـا قيـل‪ ،‬وسـيد الخلـق قد قيـل فيه‬ ‫مـا قيـل‪ ،‬فهل يسـلم أبـو بكر؟‬ ‫ثـم إ َّن موسـى عليه السالم قد سـأل الله يومـ ًا أن لا يقـول فيه‬ ‫النـاس مـا ليـس فيه‪ .‬فقـال له اللـه تعالى‪ :‬يا موسـى هذا شـيء لم‬ ‫أجعله لنفسـي فكيـف أجعله لك؟!‬ ‫‪ -‬أرحتنـي بعمـق فهمـك‪ ،‬وسـعة صـدرك‪ ،‬وبليـغ كلماتك يا‬ ‫خليفـة رسـول الله‪.‬‬ ‫‪ -‬بـارك اللـه بك يـا ُبني‪ ،‬هـا ِت ما عنـدك لا عليك‪ ،‬فـإن لكل‬ ‫ما تسـأل عنـه جواب ًا إن شـاء الله‪.‬‬ ‫‪ -‬قـال أراذل النـاس‪ :‬أن النبـي ﷺ قـال‪ :‬أن ِفذوا جيش أسـامة‪،‬‬ ‫لعـ َن اللـ ُه المتخلـ َف عن جيش أسـامة‪ ،‬وأنـك وعمـر وعثمان لم‬ ‫تكونوا فـي الجيـش‪ ،‬فما ردك؟‬ ‫‪ -‬أولاً‪ :‬لـم يقـل النبـي ﷺ هـذا‪ ،‬وإنمـا هـذا افتـراء وكـذب‬ ‫علـى النبـي ﷺ‪.‬‬ ‫ثانيـ ًا‪ :‬بعـ َث النبـ ُّي ﷺ جيـش أسـامة فـي مرضـه الـذي مـات‬ ‫فيـه‪ ،‬وكان الجيـش فـي معسـكره‪ ،‬ولم يتحـرك حتى ُقبـض النبي‬ ‫ﷺ‪ ،‬وقـد عهـ َد إلـ َّي فـي فتـرة مرضـه أن أصلـي بالنـاس‪ ،‬فكيف‬ ‫يأمرنـي أن أصلـي بالنـاس فـي مرضـه ثم أكـون في الجيـش؟ ثم‬ ‫إذا كان لعـن مـن تخ َّلـف عـن جيـش أسـامة فكيـف كان يأتي في‬ ‫‪171‬‬

‫مرضـه ويصلـي معنـا في المسـجد نحـن الذيـن بقينا فـي المدينة‬ ‫ولـم نكـن فـي معسـكر الجيـش؟ كيـف يلعننـا ثـم يأتـي ويصلي‬ ‫معنـا؟! الأمـر بحاجـة إلـى بعـض المنطـق والعقـل‪ ،‬ولكـن مـن‬ ‫أعمـاه الحقـد فال عقـل ولا منطـق لديه!‬ ‫ثالثـ ًا‪ :‬أنـا وعثمـان لـم نكـن ضمن جيـش أسـامة أساسـ ًا‪ ،‬فلم‬ ‫يبعثنـا النبـ ُّي ﷺ مـن الأسـاس‪ .‬وإنمـا اسـتبقانا فـي المدينـة‪ ،‬من‬ ‫كان فـي جيـش أسـامة هـو عمـر بـن الخطـاب فقـط وهـو لـم‬ ‫يتخلـف‪ ،‬ولـم يرفض الذهـاب‪ ،‬وإنما كان في المعسـكر‪ ،‬وعندما‬ ‫مـات النبـي ﷺ اسـتأذن ُت أسـامة بـن زيـد أن يبقـى عمـر عندي‪،‬‬ ‫لأن حاجـة المسـلمين إلـى رأي عمـر فـي هـذه الأزمـة أشـد من‬ ‫حاجتهـم إليـه مقاتا ًل عاديـ ًا فـي جيـش كثيـر العـدد! ولـولا أني‬ ‫اسـتبقيته لحاجتـي لـه‪ ،‬وزير ًا أمينـ ًا وناصحـ ًا صادق ًا لـكان ذه َب‪،‬‬ ‫ثـم إ َّن عمـر مـا تخلـف يومـ ًا عـن غـزوة‪ ،‬وكان فـي بـدر وأحـد‬ ‫وخيبـر وتبـوك وفتـح مكـة وكلهـا غـزوات أخطـر وأدهـى مـن‬ ‫جيش أسـامة‪.‬‬ ‫‪ -‬رد مفحـم يـا خليفـة رسـول اللـه‪ ،‬فسـبحان من أتـاك حكم ًا‬ ‫وعلم ًا‪.‬‬ ‫‪ -‬سبحانه وتعالى‪ ،‬فاذا قال هؤلاء الأراذل بعد؟‬ ‫‪ -‬قالـوا‪ :‬منـ َع أبـو بكـر فاطمة إرثهـا في خيبـر وفـدك‪ ،‬فقالت‬ ‫لـه‪ :‬يـا ابـن أبـي قحافـة أتـر ُث أبـا َك ولا أر ُث أبـي؟ والتجـأ إلـى‬ ‫روايـة انفـر َد بهـا‪ ،‬وهـي أن النبـ َّي ﷺ قـال‪ »:‬نحن معاشـر الأنبياء‬ ‫‪172‬‬

‫لا ُنـور ُث مـا تركناه صدقـة»‪ .‬والقـرآن الكريم يخالـف ذلك‪ ،‬لأن‬ ‫اللـه تعالـى قـال‪ُ ﴿ :‬يو ِصي ُكـ ُم ال َّل ُه فِـي َأ ْو َل ِد ُكـ ْم لِل َّذ َك ِر ِم ْثـ ُل َح ِّظ‬ ‫ا ْلُن َث َي ْيـ ِن﴾‪ .‬ولـم يجعـل ذلـك خاصـ ًا بالأمـة دونـه‪ .‬كمـا أن الله‬ ‫تعالـى يقـول‪َ ﴿ »:‬و َو ِر َث ُسـ َل ْي َما ُن َدا ُوود﴾‪ .‬فكيف ير ُث سـليمان‬ ‫عليـه السالم أبـاه داود عليه السالم ولا تـر ُث فاطمـة أباها؟‬ ‫‪ -‬أولاً‪ :‬لـم ت ُقـ ْل لـي فاطمـة‪ :‬أت ِر ُث أبـاك ولا أر ُث أبـي‪ .‬وإنما‬ ‫القصـة كلهـا أنهـا جاءتني بعـد وفاة النبـي ﷺ تطلـب ميراثها مما‬ ‫تركـه أبوها‪.‬‬ ‫فقلـ ُت لها‪ :‬يـا فاطمة إن أباك قال على مسـامعي‪ :‬نحن معاشـر‬ ‫الأنبيـاء لا ُنورث‪ ،‬مـا تركناه صدقة‪.‬‬ ‫فغضبـ ْت فاطمـة‪ ،‬ولم تـر َض بحكمي هـذا‪ ،‬فقل ُت لها‪ :‬لسـ ُت‬ ‫تـارك ًا شـيئ ًا كان النبـي ﷺ يعمـ ُل بـه إلا وعمل ُت به‪ ،‬فإني أخشـى‬ ‫إن تركـ ُت شـيئ ًا من أمـره أن أزيغ‪.‬‬ ‫ثم لنفترض جدلاً أنها قالت لي‪ :‬أتر ُث أباك ولا أر ُث أبي‪.‬‬ ‫فـإ َّن هـذا ممـا لا يصـ ُّح فيـه القيـاس‪ ،‬فأبـي واحـد مـن الناس‬ ‫يـر ُث و ُيـورث بنـص الآية‪ .‬أمـا أبوها فرسـول الله ﷺ فال يور ُث‬ ‫بنـص كلامـه هو‪.‬‬ ‫ثـم إني لـم آخذ مـا تركه النبـ ُّي ﷺ لنفسـي‪ ،‬بل إنمـا طبق ُت ما‬ ‫قـال بالحرف‪ ،‬أن يكون صدقـة‪ ،‬فجعلته في بيت مال المسـلمين‪.‬‬ ‫ولـو كان حقهـا لأعطيتها هـو‪ ،‬فما كن ُت لأنزع حقـوق عامة الناس‬ ‫حتـى أنزع حـق ابنة النبي ﷺ وهـي أكرم عندي مـن غيرها‪.‬‬ ‫‪173‬‬

‫أمـا قـول اللـه تعالـى‪ُ ﴿ :‬يو ِصي ُكـ ُم ال َّلـ ُه فِـي َأ ْو َل ِد ُكـ ْم لِل َّذ َكـ ِر‬ ‫ِم ْثـ ُل َحـ ِّظ ا ْلُن َث َي ْيـ ِن﴾‪ .‬فهـذا خـاص بالأمـة دون النبـي ﷺ‪ ،‬بنص‬ ‫قولـه‪ ،‬ومعلـوم أن قـول النبـي ﷺ شـارح للقـرآن‪ ،‬ومقيـد لـه‪،‬‬ ‫فالقـرآن يقـول‪ُ ﴿ :‬ح ِّر َمـ ْت َع َل ْي ُك ُم ا ْل َم ْي َتـ ُة َوال َّد ُم َو َل ْحـ ُم ا ْل ِخن ِزي ِر﴾‬ ‫والنبـي ﷺ يقـول‪ُ :‬أحلـ ْت لكـم ميتتان ودمـان‪ ،‬الكبـد والطحال‪،‬‬ ‫والسـمك والجـراد»‪.‬‬ ‫كان حكـم أكل الميتـة والـدم حرام مطلق ًا‪ ،‬وبنـص الآية كل دم‬ ‫وميتـة حـرام‪ ،‬فجـاء قوله ﷺ ليق َّيـد الآيـة بإباحه الكبـد والطحال‬ ‫من الـدم‪ ،‬والسـمك والجراد مـن الميتة‪.‬‬ ‫كذلـك لا يوجـد فـي القـرآن أن الذهـب حـرام علـى الرجال‪،‬‬ ‫وإنمـا ُحـ ِّرم بحديـث النبـي ﷺ‪ .‬تمامـ ًا كما ُحـ ِّرم ميراثـه بقوله!‬ ‫أمـا قولهـم‪ :‬كيـف لا ُيـورث الأنبيـاء واللـه يقـول‪َ ﴿ :‬و َو ِر َث‬ ‫ُسـ َل ْي َما ُن َدا ُوو َد﴾ فهـذا ميـراث العلـم والنبـوة لا ميـراث الدرهم‬ ‫والدينـار‪ ،‬بدليـل أنـه كان لـداود عليه السالم أولاد غير سـليمان‬ ‫فكيـف يرثـه وحـده لـو كان المقصـود بهـا وراثـة المال؟!‬ ‫ثـم إن داود عليـه السالم كان فقيـر ًا‪ ،‬وقـد قـال النبـي ﷺ‪»:‬ما‬ ‫أك َل أحـ ٌد طعامـ ًا خيـر ًا مـن أن يأكل من كسـب يده‪ ،‬وإن نبـ َّي الله‬ ‫داود كان يـأكل مـن كسـب يده»‪.‬‬ ‫بينمـا كان سـليمان عليـه السالم ملـك ًا نبيـ ًا‪ ،‬حيـزت لـه الدنيا‬ ‫كلها !‬ ‫‪174‬‬

‫وأزيـدك مـن الشـعر بيتـ ًا‪ ،‬أنـا لـم أنفـرد بروايـة أن الأنبيـاء لا‬ ‫ُيورثـون‪ ،‬بـل قد قـال النب ُّي ﷺ في موضـوع آخر قـولاً صريح ًا أن‬ ‫الأنبيـاء لـم ُيو ِّرثوا الدنيـا بعد موتهم‪ ،‬فقـد قـال‪»:‬إن العلماء ورثة‬ ‫الأنبيـاء‪ ،‬وإن الأنبيـاء لـم ُيو ِّرثـوا دينـار ًا ولا درهم ًا‪ ،‬وإنمـا ورثوا‬ ‫العلـم‪ ،‬فمـن أخـذ به أخـذ بخـ ٍط وافر»!‬ ‫إذا تفسـير أن سـليمان قـد ورث مـن داود مالاً‪ ،‬يتعـارض مع هذا‬ ‫القـول‪ ،‬فكيـف يجيء القـرآن بميراث الأنبيـاء في الدنيـا والمال‪ ،‬ثم‬ ‫يقـول النبـي ﷺ أنهـم لم ُيورثـوا دينـار ًا ولا درهم ًا‪ .‬أهـؤلاء الأراذل‬ ‫أعلـم بمعانـي القـرآن من النبـي ﷺ؟ أم هو الحقـد والخبث؟‬ ‫‪ -‬هو الحقد والخبث والجهل يا خليفة رسول الله‪.‬‬ ‫‪ -‬فماذا قال هؤلاء الأفاكون أيض ًا؟‬ ‫‪ -‬قالـوا‪ :‬إن أبـا بكر عنـد احتضاره قـال‪ :‬لي َت أمي لـم تلدني‪،‬‬ ‫يـا ليتنـي كنـ ُت تبنـة فـي لبنـة‪ .‬والنبـي ﷺ قـال‪ :‬مـا مـن‬ ‫محتضـر إلا ويـرى مقعـده مـن الجنـة أو النـار‪ .‬فهـو نـدم‬ ‫لأنـه رأى مقعـده مـن النـار!‬ ‫‪ -‬كذبـوا واللـه‪ ،‬فلم أقل هـذا عند احتضـاري‪ ،‬وإن كل القصة‬ ‫أن عائشـة ابنتـي لما رأتني في سـكرات المـوت‪ ،‬قالت‪:‬‬ ‫لعمــر َك مــا ُيغنــي الثــراء عــن الفتــى‬ ‫إذا حشـــرج ْت يومـــ ًا وضـــاق بهـــا الصـــد ُر‬ ‫فقلـ ُت لهـا‪ :‬ليـس كذلـك‪ ،‬وإنمـا قولـي ﴿ َو َجـا َء ْت َسـ ْك َر ُة‬ ‫ا ْل َمـ ْو ِت بِا ْل َحـ ِّق َٰذلِـ َك َمـا ُكنـ َت ِمنْـ ُه َت ِحيـ ُد﴾‪.‬‬ ‫‪175‬‬

‫وأمـا قولـي‪ :‬ليـ َت أمـي لم تلدنـي‪ .‬فقلتهـا وأنـا في كامـل قوتي‬ ‫وصحتـي‪ ،‬وهـذا قـول الصالحين من أتبـاع الأنبياء على مـ ِّر التاريخ‬ ‫خوفـ ًا مـن أهوال يـوم القيامـة‪ ،‬وهـذا مـن الأدب مع اللـه‪ ،‬وخوف‬ ‫الإنسـان على نفسـه أن لا تطاله رحمـة الله‪ ،‬فقد قـال النبي ﷺ‪»:‬لن‬ ‫ُيد ِخـ َل أحـد ًا عملـه الجنـة‪ .‬فقلنـا‪ :‬ولا أنـ َت يا رسـول اللـه؟ فقال‪:‬‬ ‫لا‪ ،‬ولا أنـا إلا أن يتغمدنـي اللـه بفضـل ورحمة»!‬ ‫وكان النبـي ﷺ كثيـر الاسـتغفار‪ ،‬فلي ّتهمـوه إ ًذا أ ّنـه كان كثيـر‬ ‫الذنـوب!‬ ‫سبحان الله كيف لهؤلاء كيف لا يفهمون معنى الأدب مع الله!‬ ‫‪ -‬أحسن َت قولاً وإجابة يا خليفة رسول الله‪.‬‬ ‫‪ -‬فماذا قال هؤلاء الأراذل بعد؟‬ ‫‪ -‬قالـوا‪ :‬لـم يـو ِّل النبي ﷺ أبا بكـر أي عم ٍل فـي حياته فكيف‬ ‫يوليه الخلافة؟‬ ‫‪ -‬سـبحان اللـه فهـذا جمع بيـن الجهل والكـذب‪ ،‬فـإ َّن النبي‬ ‫ﷺ ولاّنـي علـى الحج في العـام التاسـع للهجرة الشـريفة‬ ‫بعـد عودتـه من غـزوة تبـوك‪ .‬ثم ح َّج هـو بالناس فـي العام‬ ‫الذي بعـده فيما ُعـرف بحجـة الوداع‪.‬‬ ‫ثـم إ َّن عـدم ولايتـي إن ص ّح ْت فلا تـدل على نقصـي‪ ،‬بل تدل‬ ‫علـى حاجتـه لـي عنـده‪ ،‬فقـد كنـ ُت وزيـره‪ ،‬وهـذا دأ ُب الحـكام‬ ‫الفقهـاء‪ ،‬أنهـم ُيبقـون عندهـم مـن يحتاجـون لرأيـه لأنه لا يسـد‬ ‫‪176‬‬

‫أحـد مكانهـم‪ ،‬أمـا الوظائـف فيقـوم بهـا الكثيـرون‪ ،‬وقـد جـاء‬ ‫عمـر بـن الخطاب بعـدي ولم يكـن يولي أهـل الشـورى كعثمان‬ ‫وطلحـة والزبيـر وعلـي‪ ،‬وهـؤلاء أصلـح وأفضـل ممـن ولاْهـم‬ ‫المـدن والبالد‪ ،‬ولكـن حاجـة الأميـر إلـى بعضهـم ُقر َبـه أحوج‬ ‫مـن حاجتـه لهـم بعيـد ًا عنه‪.‬‬ ‫‪ -‬صدق َت يا خليفة رسول الله‪.‬‬ ‫‪ -‬فماذا قال هؤلاء الأفاكون بعد؟‬ ‫‪ -‬قالوا‪ :‬إ َّن أبا بك ٍر قال‪ :‬إ َّن لي شـيطان ًا يعتريني‪ ،‬فإن اسـتقم ُت‬ ‫فأعينونـي‪ ،‬وإن زغـ ُت فقوموني‪ ،‬ومن شـأن الإمـام تكميل‬ ‫الرعيـة‪ ،‬فكيف يطلب منهـم الكمال؟!‬ ‫‪ -‬هـذا قـول مجتـزأ! والحـ ُّق أنـي قلـ ُت‪ :‬إ َّن لـي شـيطان ًا‬ ‫يعترينـي عنـد الغضـب‪ ،‬فـإذا اعترانـي فاجتنبونـي لا أؤثـر‬ ‫فـي أبشـاركم‪.‬‬ ‫وقلـ ُت أيض ًا‪ :‬أطيعوني ما أطع ُت الله ورسـوله‪ ،‬فـإن عصيتهما‬ ‫فال طاعة لـي عليكم‪ .‬وهـذا والل ِه إنمـا يجب أن يكـون في كتاب‬ ‫مدحي لا فـي كتاب ذمي!‬ ‫فأمـا قولي عـن الشـيطان يعتريني‪ ،‬فالشـيطان يعتري الإنسـان‬ ‫عنـد الغضـب‪ ،‬فخشـي ُت إن غضبـ ُت أن أظلـم أحـد ًا‪ ،‬أو أقـول له‬ ‫كلامـ ًا جارحـ ًا‪ ،‬فأمرتهـم أن يجتنبونـي وأنا في فـورة غضبي‪ ،‬لأن‬ ‫‪177‬‬

‫الغضـب يحمـل الإنسـان علـى ما يكـره‪ ،‬وقد قـال النبـي ﷺ‪ :‬لا‬ ‫يقضيـ َّن حكـم بيـن اثنين وهـو غضبان‪.‬‬ ‫وهـذا ما أردتـه بالضبـط‪ ،‬أن لا أحكـم وأنا غضبـان‪ ،‬وهذا من‬ ‫طاعتـي للنبي ﷺ‪ ،‬ومـن حرصي على المسـلمين‪.‬‬ ‫ثـم إ َّن الغضـ َب يعتـري كل خلـق اللـه‪ ،‬وقـد قال النبـي ﷺ‪»:‬‬ ‫اللهـ َّم إنـي آخـ ُذ عنـد َك عهـد ًا لـن ُتخلفنيـه‪ ،‬فإنمـا أنا بشـر‪ ،‬فأي‬ ‫المؤمنيـن آذيته‪ ،‬شـتمته‪ ،‬لعنتـه‪ ،‬جلدته‪ ،‬فاجعلها له صال ًة وزكا ًة‪،‬‬ ‫وقربـ ًة ُتقربـه بها إليـك يـوم القيامة»‪.‬‬ ‫فها هو رسول الله قد يعتريه شيء من الغضب‪.‬‬ ‫وقـال اللـه تعالـى فـي القـرآن الكريـم‪َ ﴿ :‬و َل َّمـا َسـ َك َت َعـن‬ ‫ُّمو َسـى ا ْل َغ َض ُب َأ َخـ َذ ا ْلَ ْل َوا َح َوفِي ُن ْسـ َختِ َها ُه ًدى َو َر ْح َمـ ٌة ِّل َّل ِذي َن‬ ‫ُهـ ْم لِ َر ِّب ِهـ ْم َي ْر َه ُبو َن﴾‪.‬‬ ‫وهـذا كليم اللـه قد أخذه الغضـب‪ ،‬فـإذا كان الغضب لا يقدح‬ ‫فـي المـرء أن يكـون نبيـ ًا‪ ،‬فمن بـاب أولـى أن لا يقدح فـي المرء‬ ‫أن يكـون خليفـ ًة‪ ،‬لأن مقـام النبـوة أعلى من مقـام الخلافة‪.‬‬ ‫أمـا عـن اعتـراض الشـيطان للإنسـان ففـي القـرآن منـه كثير‪،‬‬ ‫فقـد قال موسـى عليه السالم عندما قتـل القبطي ﴿ َٰه َذا ِمـ ْن َع َم ِل‬ ‫ال َّشـ ْي َطا ِن إِ َّن ُه َعـ ُد ٌّو ُّم ِضـ ٌّل ُّمبِي ٌن﴾‪.‬‬ ‫‪178‬‬

‫وقـال فتى موسـى عليه السالم لما نسـي إخباره بأمـر الحوت‬ ‫﴿ َو َما َأن َسـانِي ُه إِ َّل ال َّشـ ْي َطا ُن َأ ْن َأ ْذ ُك َر ُه﴾‪.‬‬ ‫وقـال اللـه تعالـى عـن آدم عليـه السالم وحـواء ﴿ َف َأ َز َّل ُه َمـا‬ ‫ال َّشـ ْي َطا ُن َعنْ َهـا َف َأ ْخ َر َج ُه َمـا ِم َّمـا َكا َنـا فِيـ ِه﴾‪.‬‬ ‫فـإذا كان اعتـراض الشـيطان للإنسـان لا يقدح فـي نبوته‪ ،‬فمن‬ ‫بـاب أولـى أن لا يقدح في خلافتـه‪ ،‬لأن مقام النبـوة أعلى وأج ُّل‪.‬‬ ‫وأمـا قولـي‪ :‬فـإن اسـتقم ُت فأعينونـي‪ ،‬وإن زغـ ُت فقومونـي‪،‬‬ ‫فهـذا مـن عدلـي وتقـواي‪ ،‬وواجـب كل حاكـم أن يقتـدي بـي‬ ‫فـي ذلـك‪ ،‬وواجب الرعيـة أن تعامـل حكامهـا بهذا‪ ،‬فإن اسـتقام‬ ‫الحاكـم أعانـوه‪ ،‬وإن زاغ بينـوا لـه الصـواب ودلـوه عليـه‪.‬‬ ‫وأمـا قولهـم‪ :‬مـن شـأن الإمـام تكميـل الرعية‪ ،‬فكيـف يطلب‬ ‫منهـم التكميل؟‬ ‫فهذا أمره أيسر مما قبله‪ ،‬والرد على ذلك من وجوه‪:‬‬ ‫الأول‪ :‬معنـاه أنـه يجـب علـى الإمـام والرعيـة أن يتعاونـوا‬ ‫علـى البـر والتقـوى‪ ،‬لا علـى الإثم والعـدوان‪ ،‬والدين قـد اكتمل‬ ‫بالنبـي ﷺ‪ ،‬فلـم يبـ َق عنـد الحاكـم ديـن ينفـرد بـه‪ ،‬ولكـن لا ُبـ َّد‬ ‫مـن الاجتهـاد فـي الجزئيـات‪ ،‬وفي مسـتجدات الأمور‪ ،‬فـإن كان‬ ‫الحـق واضحـ ًا أمر بـه الحاكـم‪ ،‬وإن كان واضحـ ًا له خفيـ ًا عليهم‬ ‫‪179‬‬

‫ب َّينـه لهـم‪ ،‬وإن كان الأمـر مشـتبه ًا تشـاور فيـه الحكام مـع الرعية‬ ‫ليصلـوا إلـى الحـق‪ ،‬وإن تب َّين لأحد مـن الرعيـة رأي الحق‪ ،‬أدلى‬ ‫بـه إلـى الحاكم‪ .‬ويهـذا المعنـى تكمـل الرعيـة حاكمها‪.‬‬ ‫الثانـي‪ :‬كل من المخلوقين قد اسـ ُتك ِمل بالآخـر‪ ،‬كالمتناظرين‬ ‫فـي العلـم‪ ،‬والمتشـاورين فـي الـرأي‪ ،‬والمتعاونين المتشـاركين‬ ‫فـي مصلحة الديـن والدنيـا‪ ،‬فالناس يكمـ ُل بعضهـم بعض ًا‪.‬‬ ‫الثالـث‪ :‬مـا زال المتعلمـون ُينبهـون معلمهـم علـى أشـياء‪،‬‬ ‫ويسـتفيدها المعلـم منهـم‪ ،‬مـع أن عامـة مـا عنـد المتعلـم مـن‬ ‫الأصـول قـد تلقاهـا مـن معلمـه‪ ،‬ولكـن الأمـر كمـا قـال ربنا في‬ ‫محكـم التنزيـل ﴿ َو َفـ ْو َق ُك ِّل ِذي ِع ْلـ ٍم َع ِليـ ٌم﴾‪.‬‬ ‫الرابـع‪ :‬موسـى عليه السالم قد اسـتفاد من الخضـر في ثلاث‬ ‫مسـائل ولـم ُينقص هـذا من نبوتـه‪ .‬وقـال الهدهد لسـليمان عليه‬ ‫السالم﴿ َأ َحطـ ُت بِ َما َلـ ْم ُت ِح ْط بِـ ِه َو ِج ْئ ُت َك ِمن َسـ َبإٍ بِنَ َبـإٍ َي ِقي ٍن﴾‪.‬‬ ‫ولم ينقص هذا من نبوته‪.‬‬ ‫والنبـي ﷺ كان يستشـير أصحابـه‪ ،‬ويرجـع إليهـم بالـرأي‪،‬‬ ‫وربمـا تـر َك رأيـ ًا كان يـراه لـرأي أحـ ٍد منهـم تمامـ ًا كمـا حـدث‬ ‫فـي غزوة بـدر يوم قـال الحباب بـن المنـذر للنبي ﷺ‪ :‬يا رسـول‬ ‫اللـه‪ ،‬أرأيـ َت هـذا المنزل أهو منـزل أنزلـك الله تعالى إيـاه فليس‬ ‫لنـا أن نتعـداه‪ ،‬أم هـو الحـرب والـرأي والمكيدة؟‬ ‫‪180‬‬

‫فقال له النبي ﷺ‪ :‬بل هو الحرب والرأي والمكيدة‪.‬‬ ‫فقال الحباب‪ :‬ليس هذا بمنزل قتال!‬ ‫فرجـع النبي ﷺ إلـى رأي الحبـاب‪ .‬ولم يقدح ذلـك في نبوته‬ ‫شيئ ًا !‬ ‫‪ -‬صدقـ َت يا خليفة رسـول اللـه‪ ،‬رد مفحم و ُملجم‪ ،‬فسـبحان‬ ‫مـن جعـل بعـض البيـان سـحر ًا وأعطـاك منـه مـا تبلـغ بـه‬ ‫حجتـك‪ ،‬وتـذل خصمك‪.‬‬ ‫‪ -‬بـارك اللـه بـك يـا ُبنـي‪ ،‬فهـل انتهينا مـن هـؤلاء الأراذل أم‬ ‫أنهـم قـد افتـروا شـيئ ًا غيره؟‬ ‫‪ -‬للأسف لقد افتروا بعد!‬ ‫‪ -‬فماذا قالوا؟‬ ‫‪ -‬قالـوا‪ :‬يقـول اللـه تعالـى‪﴿ :‬إِ َّل َتن ُصـ ُرو ُه َف َقـ ْد َن َصـ َر ُه ال َّلـ ُه إِ ْذ‬ ‫َأ ْخ َر َجـ ُه ا َّل ِذيـ َن َك َفـ ُروا َثانِـ َي ا ْثنَ ْيـ ِن إِ ْذ ُه َما فِـي ا ْل َغـا ِر إِ ْذ َي ُقو ُل‬ ‫لِ َصا ِحبِـ ِه َل َت ْحـ َز ْن إِ َّن ال َّل َه َم َعنَـا َف َأن َز َل ال َّل ُه َسـ ِكينَ َت ُه َع َل ْي ِه َو َأ َّي َد ُه‬ ‫بِ ُجنُـو ٍد َّلـ ْم َت َر ْو َها﴾‪ .‬وهـذه الآية تدل على ضعـف إيمان أبي‬ ‫بكـر وقلـة صبـره‪ ،‬وعدم يقينـه بالله‪ ،‬وعـدم رضاه بمسـاواته‬ ‫للنبـي ﷺ‪ ،‬أي فـي أن يموتـا معـ ًا بقضاء اللـه وقدره‪.‬‬ ‫‪ُ -‬شـ َّل ْت أيمانهـم و ُأخرسـ ْت ألسـنتهم‪ ،‬فقـد افتـروا علـ َّي‬ ‫وقالـوا بهتانـ ًا عظيمـ ًا‪ ،‬والـرد على كذبهم سـهل بسـيط من‬ ‫عـدة وجوه‪:‬‬ ‫الأول‪ :‬ليـس فـي الآيـة مـا يدل علـى هـذا‪ ،‬على العكـس هذه‬ ‫أحـ ُّب آيـا ِت المصحـف إلى قلبـي‪ ،‬قـرآن ُيتلى إلـى يـوم القيامة‪،‬‬ ‫‪181‬‬

‫يشـه ُد أنـي كن ُت صاحـب النبـي ﷺ ورفيقه‪ ،‬وأنـه كان يرب ُت على‬ ‫قلبـي‪ ،‬ويطمئنـي ويقـول‪« :‬لا تحـزن إن اللـه معنـا»‪ .‬وواللـ ِه هـي‬ ‫أجمـل ما قـال صديـق لصديقه فـي تاريخ البشـرية‪.‬‬ ‫الثانـي‪ :‬هـذه الآيـة دليل علـى حزني علـى النبي ﷺ لئال ُيقتل‬ ‫فيذهـب الإسالم‪ ،‬وكنـ ُت أتمنـى لـو فديتـه بنفسـي‪ ،‬لهـذا كنـ ُت‬ ‫قبـل أن نبلـغ الغـار أمشـي أمامه تار ًة ووراسـه تـار ًة‪ ،‬فسـألني عن‬ ‫ذلـك‪ ،‬فقلـ ُت‪ :‬يا رسـول الله‪ ،‬أذكـ ُر ال َّرص َد فأكون أمامـك‪ ،‬وأذك ُر‬ ‫ال َّطل َب فأكـون وراءك‪.‬‬ ‫أمـا كذبهـم فـي قولهـم بأني لـم أر َض أن نمـوت معـ ًا‪ ،‬بل إني‬ ‫لـم أر َض أن ُيقتـل النبـ ُّي ﷺ وأعيـ ُش أنـا‪ ،‬وإنمـا أفديـه بنفسـي‬ ‫وأهلـي ومالـي‪ .‬وهـذا واجـب كل مسـلم‪ ،‬ومـن بـاب أولـى فهو‬ ‫واجبـي وأنـا صديقـه وخليله‪.‬‬ ‫أمـا حزنـي فـكان علـى النبـي ﷺ‪ ،‬وهذا ُيحسـب لـي لا عل َّي‪،‬‬ ‫فـإن لم أحـزن عليـه لاتهمـ ُت إيماني!‬ ‫الثالـث‪ :‬قولهـم إنـه يـدل علـى قلـة صبـري فباطـل‪ ،‬بـل ولا‬ ‫يـدل علـى انعدام شـي ٍء مـن الصبـر المأمور بـه‪ ،‬فـإ َّن الصبر على‬ ‫المصائـب واجـب بنـص القـرآن الكريـم والسـنِّة المطهـرة‪ ،‬ومع‬ ‫هـذا فحـزن القلـب لا ُينافـي ذلك‪.‬‬ ‫وقـد قـال النبـ ُّي ﷺ‪ :‬إ َّن الل َه لا ُيعـ َّذ ُب بدمع العيـن‪ ،‬ولا بحزن‬ ‫القلـب‪ ،‬ولكـن ُيعـ ِّذ ُب بهذا – وأشـار إلى لسـانه – أو يرحم‪.‬‬ ‫‪182‬‬

‫الرابـع‪ :‬أمـا قولهـم بهتانـ ًا إنه يدل على عـدم يقينـي بالله‪ .‬فهذا‬ ‫كـذب وافتـراء‪ ،‬فـإ َّن الأنبيـاء قـد حزنـوا‪ ،‬ولـم يكـن ذلـك دليا ًل‬ ‫علـى عـدم يقينهـم باللـه‪ ،‬كمـا حـزن يعقـوب عليـه السالم على‬ ‫فـراق يوسـف عليـه السالم‪ ،‬وكمـا حـزن النبـي ﷺ عنـد مـوت‬ ‫ابنـه إبراهيم‪ ،‬ودمعـ ْت عيناه‪ ،‬وقـال‪ :‬إن العين لتدمـع‪ ،‬وإن القلب‬ ‫ليحـزن‪ ،‬ولا نقـول إلا مـا ُيرضـي ربنـا‪ ،‬ووالل ِه يـا إبراهيـم إنا بك‬ ‫لمحزونون!‬ ‫الخامـس‪ :‬قولهـم كذبـ ًا بـأن هـذا يـدل علـى ضعفـي وعـدم‬ ‫رضـا َي بقضـاء اللـه وقـدره‪ ،‬فواللـ ِه إنـي لـم أسـخط يومـ ًا علـى‬ ‫قـدر اللـه‪ ،‬لقيـ ُت في سـبيل اللـه من كفـار قريـش ما يهـد الجبال‬ ‫فثبـ ُّت‪ .‬ثـم أنـا مـن طلبـ ُت مـن النبـي ﷺ أن يصحبني معـه‪ ،‬وقد‬ ‫تكـ َّرم علـ َّي أن َقبـل‪ ،‬وكن ُت أعلـ ُم بمخاطـر الطريـق‪ ،‬وصعوبة ما‬ ‫أنـا قـادم عليـه‪ ،‬فليـس الأمر فقـدان ابـن أو ما ٍل نـزل علـ َّي فجأة‪،‬‬ ‫وإنمـا مشـي ُت إلى قـدر اللـه مختـار ًا‪ ،‬راضيـ ًا به!‬ ‫‪ -‬كالعادة يا خليفة رسول الله‪ ،‬ر ٌد ُملجم‪ ،‬يثلج الصدر‪.‬‬ ‫‪ -‬بـارك اللـه بـك يـا ُبنـي‪ ،‬فهـل عنـد هـؤلاء النكرات شـيء‬ ‫بعد ؟‬ ‫‪ -‬أجل يا خليفة رسول الله‪.‬‬ ‫‪ -‬فها ِت إذ ًا‪.‬‬ ‫‪ -‬قالـوا‪ :‬إ َّن تقديـم أبي بكـر‪ ،‬إمام ًا في الصالة كان خط ًأ‪ ،‬لأن‬ ‫باللاً لمـا أ ّذ َن بالصالة‪ ،‬أمـر ْت عائشـة أن ُيقـ َّدم أبـا بكـر‪،‬‬ ‫‪183‬‬

‫فلمـا أفـاق النبـي ﷺ وسـمع التكبيـر‪ ،‬قـال‪ :‬مـن ُيصلـي‬ ‫بالنـاس؟ فقالـوا‪ :‬أبـو بكـر‪ .‬فقـال‪ :‬أخرجوني‪ .‬فخـر َج بين‬ ‫علـ ٍّي والعبـاس فن َّحـاه عـن القبلـة‪ ،‬وعزلـه عـن الصالة‪،‬‬ ‫وتولـى الصلاة‪.‬‬ ‫‪ -‬سبحان الله ما أكذبهم وأجهلهم!‬ ‫فأمـا كذبهـم‪ :‬فقد قالـوا بخلاف ما حـدث‪ ،‬فلا علاقة لعائشـة‬ ‫بالأمـر‪ ،‬على العكـس تمام ًا هي لم تـرد أن أصلي أساسـ ًا بالناس‪،‬‬ ‫وحيـن قال لهـا النبي ﷺ‪ :‬مروا أبـا بكر فليصـ ِّل بالناس‪.‬‬ ‫قالـت لـه‪ :‬إن أبـا بكـر رجـل أسـيف‪ /‬رقيـق إن ي ُقـ ْم مقامـك‬ ‫يبكـي‪ ،‬فال يقـدر علـى القـراءة‪.‬‬ ‫فقال‪ :‬مروا أبا بكر فل ُيص ِّل بالناس‪.‬‬ ‫واسـتعانت عائشـة بحفصة‪ ،‬لتقـول للنبي ﷺ مثـل قولها‪ ،‬فأبى‬ ‫وقـال‪ :‬إنك َّن صواحب يوسـف‪ ،‬مـروا أبا بكر فليصـ ِّل بالناس‪.‬‬ ‫وأمـا جهلهـم‪ :‬فإنهـم يحسـبون أنهـا كانـت صال ًة واحـدة‪.‬‬ ‫والصحيـح أنـي صليـ ُت بالنـاس طوال مـرض النبـي ﷺ‪ ،‬وبقي ُت‬ ‫علـى هـذا حتـى ُقبـ َض بأبـي هـو وأمي‪.‬‬ ‫‪ -‬أحسن َت رد ًا كالعادة يا خليفة رسول الله‪.‬‬ ‫‪ -‬بورك َت يا ُبني‪ ،‬فهل عند هؤلاء المفترين شيء بعد؟‬ ‫‪ -‬للأسف ما زال عندهم شيء بعد‪.‬‬ ‫‪ -‬فهاته إذ ًا‪.‬‬ ‫‪184‬‬

‫‪ -‬قالـوا‪ :‬لـو أنفـ َق أبو بكر في سـبيل اللـه لوج َب أن ينـز َل فيه‬ ‫قـرآن كمـا نزل فـي علي بـن أبي طالب في سـورة الإنسـان‪.‬‬ ‫‪ -‬عندما يجتمع الجهل مع الكذب!‬ ‫فأمـا الجهـل‪ :‬فقولهـم عـن نـزول سـورة الإنسـان فـي أخـي‬ ‫وصاحبـي علـي بـن أبـي طالـب قـول مـن لا علـم لـه!‬ ‫فسـورة الإنسـان مكيـة نزلـ ْت قبـل الهجـرة‪ ،‬وقبـل أن يتـزوج‬ ‫علـ ٌّي بفاطمـة‪ ،‬ولـم ينزل قط قـرآن في إنفـاق علي بـن أبي طالب‬ ‫علـى فضلـه وشـجاعته وجهـاده‪ ،‬لأنـه كان فقيـر ًا لا مـال لديـه‪،‬‬ ‫ولمـا ز َّوجـه النبـي ﷺ بفاطمة لـم يكن معـه مهر إلا درعـه‪ ،‬فمن‬ ‫أيـ َن ُينفـ ُق مـن ليس لديـه مهر ليتـزوج؟!‬ ‫وأمـا الكـذب‪ :‬وهو أشـد الكذب لأنـه تكذيب للنبـي ﷺ وهو‬ ‫القائـل فـي الخالف الـذي حدث بينـي وبين عمـر مـرة‪« :‬إ َّن الله‬ ‫بعثنـي إليكـم ‪ ،‬فقلتـم كذبـ َت‪ ،‬وقـال أبو بكـر‪ :‬صد َق‪ .‬وواسـاني‬ ‫بمالـه ونفسـه‪ ،‬فهل أنتـم تاركو لـي صاحبي»‪.‬‬ ‫فكيـف يقـول النبـي ﷺ إنـي واسـيته بمالـي ثـم ينكـر هـؤلاء‬ ‫الشـرذمة ذلـك؟‬ ‫ثـم أيـن إعتاقـي لبالل بـن ربـاح والمسـتضعفين مـن عبيـد‬ ‫المسـلمين فـي مكـة؟ وأين جيش العسـرة يـوم جئت بـكل مالي‪،‬‬ ‫فقـال لـي النبـي ﷺ‪ :‬مـا تركـ َت لأهلـ َك يا أبـا بكر؟‬ ‫‪185‬‬

‫فقل ُت‪ :‬ترك ُت لهم الله ورسوله!‬ ‫‪ -‬أحسن َت رد ًا يا خليفة رسول الله‪.‬‬ ‫‪ -‬بـار َك اللـه بـك يـا ُبنـي‪ ،‬فهـل عنـد هـؤلاء الكذابين شـيء‬ ‫بعد ؟‬ ‫‪ -‬أجل ما زال عندهم‪.‬‬ ‫‪ -‬فهاته إذ ًا!‬ ‫‪ -‬قالـوا‪ :‬إن أبـا بكـر كان معلمـ ًا للصبيان فـي الجاهلية‪ ،‬وكان‬ ‫خياطـ ًا فـي الإسالم فلمـا ولـ َي الخلافـة منعه المسـلمون‬ ‫مـن ذلك؟‬ ‫‪ -‬سـبحان اللـه مـن كذبهـم الذي لـو ص َّح مـا كان إسـاءة لي!‬ ‫لقـد كن ُت تاجـر ًا في الجاهليـة‪ ،‬وتاجر ًا في الإسالم‪ .‬ثم لنفترض‬ ‫أنـي كنـ ُت معلمـ ًا للصبيان في الجاهليـة فأين العي ُب فـي أن يكون‬ ‫المـر ُء معلمـ ًا‪ .‬ولنفتـرض أنـي كنـ ُت خياطـ ًا فـي الإسالم فأيـن‬ ‫العيـ ُب فـي هـذا أيضـ ًا‪ ،‬ولكنـه جهلهـم حيـن اعتقـدوا أن المهنة‬ ‫تقـدح بالمـرء‪ ،‬فقـد قـال النبـي ﷺ‪ « :‬كان زكريـا عليـه السالم‬ ‫نجـار ًا»! وهـذا لم يقـدح في نبوتـه‪ ،‬فلو كنـ ُت معلمـ ًا للصبيان لم‬ ‫يقـدح ذلـ َك فـ َّي أيض ًا!‬ ‫كذلـك أخبرنـا النبـي ﷺ أن داود عليـه السالم كان يـأكل من‬ ‫كسـب يديـه‪ ،‬وكان يصنع الـدروع ويبيعهـا‪ .‬وقال اللـه تعالى عنه‬ ‫فـي القـرآن‪َ ﴿ :‬و َع َّل ْمنَا ُه َصنْ َعـ َة َل ُبو ٍس َّل ُكـ ْم لِ ُت ْح ِصنَ ُكم ِّمن َب ْأ ِسـ ُك ْم‬ ‫َف َه ْل َأن ُت ْم َشـا ِك ُرو َن﴾‬ ‫‪186‬‬

‫ولم يقدح هذا في نبوته‪ ،‬فأين العي ُب لو كن ُت خياط ًا‪.‬‬ ‫والحـق أنـي كنـ ُت تاجـر ًا‪ ،‬ويـوم وليـ ُت الخلافـة أرد ُت أن‬ ‫أبقـى علـى عملـي لأطعـم عيالي‪ ،‬فـكان الـرأي أن أتفـرغ للناس‬ ‫ويعطوننـي راتبـ ًا مـن بيـت المـال‪ ،‬فأيـن العيـب فـي هـذا؟‬ ‫‪ -‬لا عيب‪ ،‬ولكن الحاقد يرى الأمور بسواد قلبه‪.‬‬ ‫‪ -‬صدق َت يا ُبني‪ ،‬فهل عند هؤلاء الأراذل من شيء بعد‬ ‫‪ -‬لا يا خليفة رسول الله‪ ،‬هذا كل ما افتروه كذب ًا‪.‬‬ ‫‪ -‬لا بأس يا ُبني‪ ،‬وعند الل ِه تجتم ُع الخصوم!‬ ‫‪187‬‬

‫‪ -‬وصلنـا الآن إلى مشـارف الـوداع يا خليفة رسـول الله‪ ،‬وإ َّن‬ ‫لقـاءك لعـذب‪ ،‬وكلامـك لحلـو‪ ،‬ولكـن علـى ما يبـدو أن‬ ‫لـكل شـيء نهاية فـي هـذه الحياة‪.‬‬ ‫‪ -‬صدقـ َت يـا ُبنـي‪ ،‬هـذه هي ُسـنَّة اللـ ِه تعالـى في الكـون‪ ،‬ما‬ ‫عافيـة إلا ويعقبهـا مـرض‪ ،‬ومـا لقـاء إلا ويعقبه فـراق‪ ،‬وما‬ ‫حيـاة إلا ويعقبهـا موت‪.‬‬ ‫‪ -‬فعلـى سـيرة المـوت يـا خليفـة رسـول اللـه‪ ،‬فحدثنـي عن‬ ‫مرضـك الـذي سـبق ارتحالـك إلـى جـوار ربـك‪ ،‬فقـد‬ ‫سـمع ُت عنـه أخبـار ًا كثيـرة متضاربـة‪.‬‬ ‫‪ -‬وما سمع َت يا ُبني؟‬ ‫‪ -‬هي ثلاثة أخبار‪:‬‬ ‫الأول‪ :‬هـي أنـ َك كنـ َت وطبيـ َب العـر ِب الشـهير الحـارث‬ ‫بـن كلـدة تـأكلان الحريـرة وهـي الدقيـق الـذي ُيطبـخ باللبـن أو‬ ‫الدسـم‪ .‬فبينمـا أنتمـا تـأكلان‪ ،‬قال لـك الحارث بـن كلـدة‪ :‬اِرف ْع‬ ‫يـد َك يـا خليفة رسـول اللـه‪ ،‬إ َّن فيها ُسـ َّم سـنة‪ ،‬وأنا وأنـت نمو ُت‬ ‫فـي يـوم واحـد عنـد انقضاء ال َّسـنة‪.‬‬ ‫‪188‬‬

‫الثانـي‪ :‬أن بدايـة مرضـ َك أنـ َك اغتسـل َت يـوم الإثنيـن فـي‬ ‫السـابع من ُجمـادى الآخـرة‪ ،‬وكان يوم ًا بـارد ًا‪ ،‬ف ُأصبـ َت بالحمى‬ ‫لمـدة خمسـة عشـر يومـ ًا‪ ،‬فلـم تكـن تخـرج إلـى الصالة لشـدة‬ ‫مرضـك‪ ،‬وأ ّمـر َت عمـر بـن الخطـاب أن يصلـي بالنـاس‪ ،‬فصلى‬ ‫فيهـم إلـى أن انتقلـت إلـى جـوار ِر ٍّب را ٍض غيـر غضبـان‪.‬‬ ‫الثالـث‪ :‬أن سـب َب موتـ َك هو الحـزن والكم ُد علـى النبي ﷺ‪،‬‬ ‫وأ َّن هـذا أورثـ َك مـرض ال ِّسـل‪ ،‬فمرضـ َت بعـد خـروج خالد من‬ ‫العـراق‪ ،‬وأنـ َت يومئـ ٍذ فـي دارك التـي أقطعـك إياهـا النبـي ﷺ‬ ‫قـرب دار عثمـان بـن عفان‪ ،‬فـكان أكرم النـاس ل َك فـي مرضك‪،‬‬ ‫وأكرمهـم لـ َك حتـى فاضت الـروح إلـى بارئها‪.‬‬ ‫‪ -‬فأمـا خبـر الحارث بـن كلدة فلا يصـح‪ ،‬ثـم إن الحارث بن‬ ‫كلـدة ع َّمـ َر وعاش حتـى توفي في خلافـة معاوية‪.‬‬ ‫وأمـا الحزن علـى النبي ﷺ ومرض ال ِّسـل‪ ،‬فلم يبـ َق مؤمن إلا‬ ‫حـزن لمـوت النبـي ﷺ‪ ،‬ولكن مـا علاقة الحـزن بمرض السـل‪،‬‬ ‫الـذي لـم ُأصب به أساسـ ًا‪.‬‬ ‫ولكـن الصحيـح هـو أنـي اغتسـل ُت فـي يـوم بـار ٍد‪ ،‬فأصابني‬ ‫ذلـك بالحمـى وبقيـ ُت أعاني منها خمسـة عشـر يوم ًا‪ ،‬تشـت ُّد عل َّي‬ ‫يومـ ًا بعـد يـوم حتـى غـادر ُت الدنيا إثـر هـذا المرض‪.‬‬ ‫وأمـا عثمـان ففعا ًل أنـه كان ألز َم النـاس لي فـي مرضي بحكم‬ ‫أنـه كان جاري‪.‬‬ ‫‪189‬‬

‫‪ -‬فمـاذا عـن اسـتخلافك عمـر بن الخطـاب يا خليفة رسـول‬ ‫اللـه‪ ،‬أعنـي كيف تـ َّم الأمر؟‬ ‫‪ -‬لمـا ث ُقـل عل َّي المـرض‪ ،‬وأدركـ ُت أن الموت قـد اقترب لا‬ ‫محالـة‪ ،‬جمعـ ُت النـا َس وقلـ ُت لهم‪ :‬إنـه قد نزل بـي ما قد‬ ‫تـرون‪ ،‬ولا أظننـي إلا ميت ًا لما بـي‪ ،‬وقد أطلق اللـه أيمانكم‬ ‫مـن بيعتـي‪ ،‬وحـ َّل عنكـم عقدتـي‪ ،‬ور َّد إليكـم أمركـم‪،‬‬ ‫فأ ِّمـ ُروا عليكـم من أحببتـم‪ ،‬فإنكـم إن أ َّمرتم في حيـا ٍة مني‬ ‫كان أجـدر ألا تختلفـوا بعدي‪.‬‬ ‫‪ -‬واللـ ِه إنـه لنعـ َم الـرأ َي‪ ،‬لقـد تركـ َت لهـم الأمر ليختـاروا‪،‬‬ ‫فمـاذا حـد َث بعـد ذلك؟‬ ‫‪ -‬ذهبـوا عنـي‪ ،‬ونظـروا فـي أمرهـم فلـم يسـتقم لهـم رأي‪،‬‬ ‫فرجعـوا إلـ َّي فقالـوا‪ :‬رأينـا يـا خليفـة رسـول اللـه رأيـ َك‪،‬‬ ‫فاقـ ِض أنـ َت‪.‬‬ ‫فقل ُت‪ :‬أمهلوني حتى أنظر لله ولدينه ولعباده‪.‬‬ ‫‪ -‬فما فعل َت؟‬ ‫‪ -‬دعـو ُت عبـد الرحمـن بـن عـوف‪ ،‬وقلـ ُت لـه‪ :‬أخبرني عن‬ ‫عمـر بـن الخطاب‪.‬‬ ‫فقال‪ :‬ما تسألني عن أم ٍر من أمور عمر إلا وأن َت أعلم به مني‪.‬‬ ‫فقل ُت له‪ :‬وإن يكن‪ ،‬فإني أري ُد أن أسم َع رأي َك‪.‬‬ ‫فقال‪ :‬هو والل ِه أفضل من رأي َك فيه‪.‬‬ ‫ثـم دعـوت عثمـان بن عفـان وقلـ ُت لـه‪ :‬أخبرني عـن عمر بن‬ ‫الخطاب‪.‬‬ ‫‪190‬‬

‫فقال‪ :‬أن َت أعل ُم به مني‪.‬‬ ‫فقل ُت‪ :‬ولكني أري ُد رأي َك‪.‬‬ ‫فقـال‪ :‬علمـي بـه أن سـريرته خير مـن علانيتـه‪ ،‬وأنه ليـس فينا‬ ‫مثله ‪.‬‬ ‫فقل ُت له‪ :‬يرح ُم َك الله‪ ،‬والل ِه لو تركته ما عدو ُت َك‪.‬‬ ‫‪ -‬وماذا حصل بعد ذلك؟‬ ‫‪ -‬بعـد ذلـك شـاور ُت سـعيد بـن زيـد‪ ،‬و ُأسـيد بـن ُحضيـر‪،‬‬ ‫وغيرهمـا مـن المهاجريـن والأنصـار‪ ،‬فقـال أسـيد بـن‬ ‫ُحضيـر‪ :‬اللهـم أعلمـه الخيـرة بعـد َك‪ ،‬يرضـى للرضـى‪،‬‬ ‫ويسـخط للسـخط‪ ،‬والـذي ُي ِسـ ُّر خيـر مـن الـذي ُيع ِلـ ُن‪،‬‬ ‫ولـن يلـ َي هـذا الأمـر أحـ ٌد أقـوى عليـه منـه‪.‬‬ ‫‪ -‬فهـل رضـي الجميـع عـن قـرارك باسـتخلاف عمـر بـن‬ ‫الخطـاب أم أن بعضهـم قـد عـار َض؟‬ ‫‪ -‬سـم َع بعـض الصحابـة باسـتدعائي لعبـد الرحمـن بـن‬ ‫عـوف‪ ،‬وعثمـان‪ ،‬وغيرهم‪ ،‬فدخلـوا عل َّي‪ ،‬وقـال لي طلحة‬ ‫بـن عبيـد اللـه‪ :‬مـا أنـ َت قائـ ٌل لربـ َك غـد ًا إذا سـأل َك عـن‬ ‫اسـتخلاف عمـر علينـا‪ ،‬وقـد تـرى غلظتـه‪ ،‬وهـو إذا ولـ َي‬ ‫كان أفـ َّظ وأغلـظ!‬ ‫‪ -‬فماذا أجبته يا خليفة رسول الله؟‬ ‫‪191‬‬

‫‪ -‬كنـ ُت نائمـ ًا مـن شـدة مرضـي‪ ،‬فقلـ ُت لمـن حولـي‪:‬‬ ‫أجلسـوني‪ .‬فلما جلسـ ُت قلـ ُت‪ :‬أباللـ ِه تخوفوننـي؟ خا َف‬ ‫مـن تـز َّو َد مـن أمركـم بظلم‪ .‬فإن سـألني أقـول‪ :‬اللهـ َّم إني‬ ‫قـد اسـتخلف ُت على أهلـ َك خير أهلـك! أب ِل ْغ عنـي ما قل ُت‬ ‫لـ َك لمـن وراء َك!‬ ‫‪ -‬فلماذا لم ير َض هو ومن معه بعمر؟‬ ‫‪ -‬كان عمـر بـن الخطـاب شـديد ًا حازمـ ًا‪ ،‬لمـا كان يـراه مـن‬ ‫لينـي‪ ،‬فـكان ي ُشـ ُّد لينـي بقوتـه فيسـتقيم أمرنا‪ ،‬وقد خشـوا‬ ‫إذا صـار الخليفـة أن يشـت َّد فال يليـن‪ ،‬وكنـ ُت أعـرف أن‬ ‫عمـر حـازم من غير قسـوة‪ ،‬رقيق مـن غير ضعـف‪ ،‬وكانت‬ ‫فراسـتي فيـه فـي مكانهـا‪ ،‬فواللـ ِه كان مـن خيـر خلفـاء‬ ‫المسـلمين علـى مـ ِّر التاريـخ‪ ،‬أع َّز اللـه به الإسالم وأهله‪،‬‬ ‫وأذ َّل بـه الشـرك وأهلـه‪.‬‬ ‫‪ -‬هـو واللـ ِه كما قلـ َت فيه‪ ،‬خيـر خل ٍف لخير سـل ٍف‪ ،‬وقد كان‬ ‫ختـام خلافتك مسـك ًا إذ وليته أمر المسـلمين بعدك‪.‬‬ ‫‪ -‬بار َك الله ب َك يا ُبني‪.‬‬ ‫‪ -‬وماذا حدث بعد ذلك يا خليفة رسول الله؟‬ ‫‪ -‬دعـو ُت عثمـان بـن عفـان إلـ َّي‪ ،‬وقل ُت لـه‪ُ :‬اكت ْب بسـم الله‬ ‫الرحمـن الرحيـم‪ ،‬هـذا مـا دعا بـه أبو بكـر بن أبـي قحافة‪،‬‬ ‫فـي آخـر عهـده بالدنيا خارجـ ًا منهـا‪ ،‬وأول عهـده بالآخرة‬ ‫داخا ًل إليها‪ ،‬حيث يؤمـن الكافر‪ ،‬ويوقـن الفاجر‪ ،‬ويصدق‬ ‫الـكاذب‪ ،‬وإني اسـتخلف ُت عليكم‪...‬‬ ‫‪192‬‬

‫وقبـل أن أذكـر لـه اسـم عمر بـن الخطـاب أخذتني غشـية من‬ ‫شـدة المـرض‪ ،‬فكتـ َب عنـي إنـي اسـتخلف ُت عليكم بعـدي عمر‬ ‫بـن الخطاب‪.‬‬ ‫فلما أفق ُت قل ُت اقر ْأ عل َّي ما كتب َت‪.‬‬ ‫فقرأ عل َّي اسم عمر بن الخطاب‪ ،‬فقل ُت‪ :‬الله أكبر‪.‬‬ ‫ثـم قلـ ُت لـه‪ :‬أراك ِخفـ َت أن تذهـ َب نفسـي فـي غشـيتي تل َك‬ ‫فيختلـف النـاس‪ ،‬فجزاك الله عن الإسالم خيـر ًا‪ ،‬واللـ ِه إ ْن كن َت‬ ‫لهـا أهل ًا‪.‬‬ ‫ثم أمرته أن يكتب تتمة الكتاب‪:‬‬ ‫فاسـمعوا لـه وأطيعوا‪ ،‬وإني لم آ ُل الله ورسـوله ودينه ونفسـي‬ ‫وإياكـم خيـر ًا‪ ،‬فـإ ْن عـد َل وذلك ظنـي به‪ ،‬وعلمـي فيـه‪ ،‬وإن ب َّد َل‬ ‫فلـكل امـرى ٍء مـا اكتسـ َب‪ ،‬والخيـ ُر أرد ُت ولا أعلـ ُم الغيـب‪،‬‬ ‫« َو َسـ َي ْع َل ُم ا َّل ِذيـ َن َظ َل ُمـوا َأ َّي ُمن َق َلـ ٍب َين َق ِل ُبـو َن»‪ .‬والسالم عليكم‬ ‫ورحمـة اللـه وبركاته‪.‬‬ ‫ثـم أمرتـه فختـ َم الكتـاب‪ ،‬وخـر َج بـه مختومـ ًا‪ ،‬فقـال للناس‪:‬‬ ‫أ ُتبايعـون لمـن فـي هـذا الكتاب؟‬ ‫فقالوا‪ :‬نعم‬ ‫وأقروا بذلك جميع ًا‪ ،‬ورضوا به وبايعوه‪.‬‬ ‫‪ -‬وماذا فعل َت بعد ذل َك يا خليفة رسول الله؟‬ ‫‪193‬‬

‫‪ -‬رفعـ ُت يـد َّي أدعـو اللـه تعالـى‪ ،‬فقلـ ُت‪ :‬اللهـ َّم إني لـم ُأر ْد‬ ‫بذلـك إلا إصلاحهم‪ ،‬و ِخفـ ُت عليهم الفتنـة‪ ،‬فعمل ُت فيهم‬ ‫مـا أنـ َت أعلـ ُم بـه‪ ،‬واجتهـد ُت لهـم رأيـي‪ ،‬فوليـ ُت عليهم‬ ‫خيرهـم وأقواهـم عليه‪ .‬وقد حضرنـي من أمر َك مـا حض َر‪،‬‬ ‫فاخلفنـي فيهـم‪ ،‬ف ُهـم عبـادك‪ ،‬ونواصيهـم بيـد َك‪ ،‬و َأص ِل ْح‬ ‫لهـم أميرهم‪ ،‬واجعلـه من خلفائـك الراشـدين‪ ،‬و َأص ِل ْح له‬ ‫رع َّيته‪.‬‬ ‫‪ -‬فهـل أوصيـ َت عمـر بـن الخطاب بشـي ٍء يـا خليفة رسـول‬ ‫ا لله ؟‬ ‫‪ -‬بالطبع يا ُبني‬ ‫‪ -‬وب َم أوصيته؟‬ ‫‪ -‬قلـ ُت لـه ُاد ُن منـي يا عمر‪ ،‬فلمـا دنا قل ُت‪ :‬إني مسـتخلفك‪،‬‬ ‫وأوصيـك بتقـوى الل ِه يا عمـر! إن لله عم ًل بالليـل لا يقبله‬ ‫بالنهـار‪ ،‬وعماًل بالنهار لا يقبلـه بالليل‪ ،‬واعلم أنـه لا ُتقبل‬ ‫منـك نافلة حتـى ُتـؤدي الفريضة‪ ،‬وأنـه إنما ثقلـت موازين‬ ‫مـن ثقلـت موازينـه يـوم القيامـة باتباعهـم الحـق‪ ،‬و ُحـ ّق‬ ‫لميـزان لا يوضـع فيـه إلا الحـق أن يكـون ثقياًل! وإنمـا‬ ‫خ َّفـ ْت موازيـن مـن خ َّفـ ْت موازينـه يـوم القيامـة باتباعهـم‬ ‫الباطـل‪ ،‬و ُحـ ّق لميـزان لا يوضـع فيـه إلا الباطـل أن يكون‬ ‫خفي ًفـا‪ .‬إن الله جـ ّل ِذكره ذكـ َر أهل الجنة بحسـن أعمالهم‬ ‫وتجـاوز عـن سـيئاتهم‪ ،‬فـإذا ذكرتهـم فقـل إنـي أخـاف‬ ‫‪194‬‬

‫ألا أكـون مـن هـؤلاء‪ .‬وذكـر آيـة الرحمـة مـع آيـة العذاب‬ ‫ليكـون العبـد راغ ًبـا راه ًبـا‪ ،‬لا يتمنى علـى الله غيـر الحق‪،‬‬ ‫ولا يلقـي بيـده إلـى التهلكـة‪ ،‬فـإن حفظـت وصيتـي فال‬ ‫يكونـنغائـبأحـبإليـكمـنالمـوت‪،‬ولسـ َتبمعجزه!‬ ‫‪ -‬هـي واللـ ِه وصيـة مـودع‪ ،‬وإن المـرء أصـدق ما يكـون إذا‬ ‫كان فـي إدبـار مـن الدنيا وإقبال مـن الآخرة‪ ،‬وقـد كن َت في‬ ‫حياتـ َك ص ّدي ًقـا‪ ،‬فكيـف لا تكـون وأنـ َت فـي آخـر عهد َك‬ ‫مـن الدنيـا‪ ،‬ولكـن هل يتسـع صـدر خليفـة رسـول الله لي‬ ‫لأسـأله عـن بعضها‪.‬‬ ‫‪ -‬سل ما بدا ل َك يا ُبني‪.‬‬ ‫‪ -‬لمـاذا بـدأ َت وصيتـ َك بقولـ َك‪ :‬أوصيـك بتقـوى اللـه يـا‬ ‫عمـر؟‬ ‫‪ -‬لأنـي كنـ ُت أعـر ُف أ ّن السـلطان فتنة لصاحبهـا‪ ،‬لأنه يملك‬ ‫القـوة والمـال‪ ،‬والناس أمامهـا ضعفاء‪ ،‬وإنه لمـن النادر أن‬ ‫يملـك أحد القـوة والمال ولا يطغـى‪ ،‬فـأرد ُت أن ُأذ ِّكره أن‬ ‫اللـه مطلع عليـه‪ ،‬وناظر مـا يفعل في السـلطان الـذي صار‬ ‫إليـه‪ ،‬وفـي المال الذي صـار عنده‪ ،‬وفي النـاس الذين صار‬ ‫أمرهـم بيديه‪ ،‬وإن السـلطان أحوج النـاس أن ُيخ ّوف بالله‪،‬‬ ‫لأن ليـس إلا اللـه فوقـه‪ ،‬فـإن العامة إنمـا تخاف السـلطان‬ ‫لأن القـوة بيـده‪ ،‬وتق َربـه لأن المـال بيـده‪ ،‬أمـا السـلطان‬ ‫‪195‬‬

‫فليـس قـوة فـي الأرض أكبـر مـن قوتـه ليخشـاها‪ ،‬وليـس‬ ‫مـال أكثر ممـا في يـده ليطلبه‪ ،‬وقـد أرد ُت أن ُأخ ِّوفـه بالله‪،‬‬ ‫و ُأذ ِّكـره ليراقبـه فـي أفعاله وأقواله‪ ،‬وسـيره فـي الر ّعية!‬ ‫‪ -‬ومـاذا قصـد َت بقولـ َك‪ :‬إن للـه عماًل بالليـل لا يقبلـه‬ ‫بالنهـار‪ ،‬وعماًل بالنهـار لا يقبلـه بالليـل؟‬ ‫‪ -‬أرد ُت أن أقـول لـه لا ت ُقـ ْم بديـن النّـاس وتنـ َس أن تقـوم‬ ‫بدينـك! فإنمـا أنـ َت عبـد مـن عبـاد اللـه‪ ،‬فـر َض عليـك‬ ‫أعمـالاً وعبـادات‪ ،‬فلا يشـغلن َك أمر الخلافة علـى أن تقوم‬ ‫بهـا‪ ،‬أرد ُت أن ُأذ ِّكـره أن يحافـظ على صلاتـه وصيامه‪ ،‬لأن‬ ‫الرعيـة علـى ديـن الراعـي‪ ،‬إن زهـد بالعبـادة زهـدوا معه‪،‬‬ ‫وإن َجـ ّد واجتهـد فيهـا جـ ّدوا واجتهـدوا معـه‪ ،‬وإن أقبـل‬ ‫علـى الدنيا أقبلـوا معه‪ ،‬وإن أقبـل على الآخـرة أقبلوا معه‪،‬‬ ‫فـإن الحاكـم للرعيـة كالـرأس للجسـد‪ ،‬حيثمـا توجـه تبعه‬ ‫الجسد!‬ ‫‪ -‬ومـاذا قصـد َت بقولـ َك‪ :‬إنـه لا ُتقبـل نافلـة حتـى ُتـؤدى‬ ‫الفريضـة ؟‬ ‫‪ -‬أرد ُت أن أقـول لـه إنه لا شـيء أحـ ّب إلى الله مـن أن يقوم‬ ‫العبـد بمـا فرضـه اللـه عليـه‪ ،‬وأن العبـد إذا فعـل النوافـل‬ ‫وتـرك الفرائـض فقـد أتعب نفسـه في غيـر الذي ُخلـق له‪،‬‬ ‫وإن قـام بهما م ًعـا فقد جمع الخيـر كله‪ ،‬فصيام ال ّسـنة كلها‬ ‫‪196‬‬

‫تطو ًعـا لا ُيغنـي عـن تـرك صيـام نهـار واحـد مـن رمضان‬ ‫بغيـر عـذر‪ ،‬وصالة الفجـر فـي جماعـة أفضـل مـن قيـام‬ ‫نصـف الليـل ثم النـوم عنها‪ ،‬وإخـراج ألف صدقـة لا تغني‬ ‫عـن تـرك الـزكاة وإن كان مجموع الصدقـات أكثر ما يجب‬ ‫عليـه مـن الـزكاة‪ ،‬ذلـك أن الصدقة نافلـة والـزكاة فريضة‪،‬‬ ‫والإكثـار من النوافـل لا يجبره تـرك الفرائـض! وأرد ُت أن‬ ‫ُأذ ِّكـره أن اللـه افتـرض علـى الحاكـم أمـو ًرا إن لـم يعمـل‬ ‫بهـا لـم ينفعـه أن يعمـل بسـواها وإن كان سـواها فيـه خيـر‬ ‫كثيـر‪ ،‬فقـد ُأمـر أن يقسـم المـال بالعـدل بيـن الرعيـة‪ ،‬فلو‬ ‫أخـذه لنفسـه ثـم أنفـق منـه كثيـ ًرا بعـد ذلـك عليهـم خاب‬ ‫وخسـر‪ ،‬ذاك أنه لـم يدفع إليهـم حقوقهـم‪ ،‬وكان في مظهر‬ ‫مـن يمنـح هبة وهـو فـي الحقيقة قـد منـع ح ًقا!‬ ‫‪ -‬ومـا قصـد َت بقولـ َك‪ ،‬إن اللـه ذكـر آيـة الرحمـة مـع آيـة‬ ‫العـذاب ليكـون العبـد راغ ًبا راه ًبـا‪ ،‬لا يتمنى علـى الله غير‬ ‫الحـ ّق ولا يلقـي بيـده إلـى التهلكة؟‬ ‫‪ -‬أرد ُت أن أقـول أن القـرآن قـر َن بيـن الترغيـب والترهيـب‪،‬‬ ‫لأنـه لـو خاطبهـم بالترهيـب دون الترغيـب لتقطعـت‬ ‫قلوبهـم خو ًفـا‪ ،‬وعبـدوه عبـادة العبد الـذي لا يطيع سـيده‬ ‫إلا خو ًفـا مـن السـوط‪ ،‬ولـو خاطبهـم بالترغيـب دون‬ ‫الترهيـب لعبـدوه عبـادة العبـد الـذي لا يأبـه بسـيده لأنـه‬ ‫أمـن عقابـه‪ ،‬أراد اللـه للنـاس أن يخشـوه ويحبـوه م ًعا‪ ،‬أن‬ ‫‪197‬‬

‫يرهبـوه ويطمعـوا بمـا عنـده‪ ،‬ومـن رحمتـه سـبحانه وهـو‬ ‫ُيثبـ ُت قدرتـه علـى العـذاب ُيذ ّكـر بحلمـه وعفـوه‪ ،‬وهـو‬ ‫يعـد بالحلـم والمغفـرة والصفـح ُيذ ّكـر بقدرتـه وجبروته‪،‬‬ ‫أراد لنـا أن نعبـده قارنيـن ال ُحـ َّب بالخشـية‪ ،‬فاللـه ُيح ُّب أن‬ ‫ُيحـ َّب‪ ،‬و ُيحـ ُّب أن ُيخشـى!‬ ‫‪ -‬يا لها من وص َّي ٍة جامع ٍة يا خليفة رسول الله‪.‬‬ ‫‪ -‬بارك الله بك يا ُبني‪.‬‬ ‫‪ -‬وب� َك بـار َك يـا خليفـة رسـول اللـه‪ ،‬والآن أخبرنـي فهـ ْل‬ ‫أوصيـ َت أهلـ َك بشـي ٍء؟‬ ‫‪ -‬بالطبـع يـا ُبنـي وهل أوصـي النـاس‪ ،‬والخليفة مـن بعدي‪،‬‬ ‫وأنسـى أهلي؟‬ ‫‪ -‬فب َم أوصيتهم؟‬ ‫‪ -‬دعـو ُت أولادي وقلـ ُت لهـم‪ :‬أمـا إننـا منـذ ولينـا أمـر‬ ‫المسـلمين لـم نأكل لهـم دينـار ًا ولا درهم ًا‪ ،‬ولكننـا قد أكلنا‬ ‫مـن جريـ ٍش‪ /‬خشـن طعامهم في بطوننا‪ ،‬ولبسـنا من خشـن‬ ‫ثيابهـم علـى ظهورنـا‪ ،‬فانظـروا ما زاد فـي مالي منـذ دخل ُت‬ ‫الإمـارة‪،‬فابعثـوابـهإلـىالخليفـةمـنبعـديوابـرأوامنه َّن‪.‬‬ ‫‪ -‬فماذا فعلوا؟‬ ‫‪ -‬عندمـا مـ ُّت نظـ َر أهلـي فيمـا تركتـه‪ ،‬فـإذا عبـ ٌد نوبـي كان‬ ‫يخدمنـي‪ ،‬وبعيـر لـي أركبه وأسـتعين به على قضـاء أمري‪،‬‬ ‫‪198‬‬

‫وقطيفـة كنـت ألبسـها‪ .‬فبعثـوا بهـا إلى عمـر‪ ،‬فلمـا وصلته‬ ‫بكـى حتـى سـالت دموعـه علـى خـده وهـو يقـول‪ :‬رحـم‬ ‫اللـه أبـا بكر لقـد أتعـ َب مـن بعده‪.‬‬ ‫ثم قال لغلامه‪ :‬ضعها في بيت المال‪.‬‬ ‫فقـال لـه عبـد الرحمن بـن عوف‪ :‬سـبحان اللـه‪ ،‬تسـل ُب عيال‬ ‫أبـي بكـر عبـد ًا وبعيـر ًا وثوب ًا ما تسـاوي خمسـ ًة مـن الدراهم!‬ ‫فقال له عمر‪ :‬فماذا ترى؟‬ ‫فقال‪ :‬تر ُّدهن على عياله‪.‬‬ ‫فقـال لـه عمـر‪ :‬والـذي بعـ َث محمـد ًا بالحـق لا يكـون هـذا‬ ‫فـي ولايتـي أبـ ًدا‪ ،‬ولم يكـن أبو بكـر ليخـرج منه َّن عنـد الموت‪،‬‬ ‫وأردهـ َّن أنـا علـى عياله!‬ ‫‪ -‬فبأي شي ٍء كفنو َك يا خليفة رسول الله؟‬ ‫‪ -‬قل ُت لعائشة‪ :‬ب َم ك ّفنتم النبي ﷺ؟‬ ‫فقالـ ْت‪ :‬فـي ثلاثـة أثـواب بيـ ٍض كحوليـة يمانيـة ليـس فيهـا‬ ‫قميـص ولا عمامـة‪.‬‬ ‫فقلـ ُت لهـا‪ :‬فـإذا مـ ُّت أنـا فخـذوا ثوبـ َّي هذيـن فاغسـلوهما‬ ‫وكفنونـي بهمـا‪.‬‬ ‫فقال ْت‪ :‬أبتاه قد رز َق الل ُه وأحس َن‪ُ ،‬نكفن َك في جديد‪.‬‬ ‫فقلـ ُت‪ :‬إن ال َحـ َّي هـو أحـوج للجديـد يصـون بـه نفسـه مـن‬ ‫الميـت‪ ،‬وإنمـا يصيـ ُر الميـت إلـى الصديـد‪ ،‬وإلـى البِلـى‪.‬‬ ‫‪ -‬تستخس ُر ثوب ًا جديد ًا ليكون كفن ًا لك؟‬ ‫‪199‬‬

‫‪ -‬مـا ينفعنـي الكفـن الجديـد‪ ،‬ولا يضرنـي القديـم‪ ،‬فإنـي‬ ‫سـألقى اللـه بأعمالـي لا بكفنـي‪.‬‬ ‫‪ -‬فمن الذي غ َّسل َك يا خليفة رسول الله؟‬ ‫‪ -‬أوصي ُت أن ُتغسلني زوجتي أسماء بنت عميس‪.‬‬ ‫‪ -‬وماذا عن مكان الدفن يا خليفة رسول الله؟‬ ‫‪ -‬أوصيـ ُت ابنتـي عائشـة أن ُأدفـن فـي حجرتهـا إلـى جانـب‬ ‫النبـي ﷺ‪.‬‬ ‫‪ -‬هنيئ ًا ل َك‪ ،‬صديقان في الحياة وفي الممات‪.‬‬ ‫‪ -‬بارك الله ب َك يا ُبني‪ ،‬فهل ل َك من حاج ٍة قبل أن أمضي؟‬ ‫‪ -‬الأمة كلها لها حاجة أن تبقى يا خليفة رسول الله‪.‬‬ ‫‪ -‬يكفينـي مـا لقيـ ُت مـن الدنيـا‪ ،‬وإن هـذه الأمة في عيـن الله‬ ‫ورعايتـه‪ ،‬لا ينقطـع فيهـا الخيـر‪ ،‬فالسالم عليـ َك ورحمـة‬ ‫اللـه وبركاتـه‪ ،‬فإنـي ما ٍض‪.‬‬ ‫‪ -‬وعلي َك السلام ورحمة الله وبركاته‬ ‫ومضى كما أتى‪...‬‬ ‫تفوح منه رائحة الصحراء‪...‬‬ ‫عرب ُّي خالص لا ِشية فيه‪...‬‬ ‫فـي ظهـره انحنـاء قليـل ليليق بمن حمل الإسالم علـى كتفيه‬ ‫طـوال عمره‪.‬‬ ‫‪200‬‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook