Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore ثاني اثنين أدهم شرقاوي

ثاني اثنين أدهم شرقاوي

Published by كتاب فلاش Flash Book, 2021-03-21 07:26:05

Description: رواية أدبية في سيرة أبي بكر الصديق رضي الله عنه

Search

Read the Text Version

‫‪ -‬وكيف هذا؟‬ ‫‪ -‬عهـد ُت إلـى خادمـي عامر بـن فهيـرة أن يرعـى أغنامي مع‬ ‫رعيـان قريـش حتى يبـدو الأمر طبيعيـ ًا‪ ،‬ولا يلفـت الأنظار‬ ‫إلـى شـيء‪ ،‬حتـى إذا أمسـى جـاء بالأغنـام إلـى غـار ثور‪،‬‬ ‫فحلـ َب وسـقانا‪ ،‬ثـم يرجـع بالقطيـع فيمشـي به علـى آثار‬ ‫ابنـي عبـد اللـه وهكـذا تضيع أثـر خطوتـه حيـث تمحوها‬ ‫الأغنام!‬ ‫‪ -‬يا للدهاء يا أبا بكر!‬ ‫يـا ُبن َّي إ َّن النبـ َّي ﷺ علمنا أن نأخذ بالأسـباب ما اسـتطعنا إلى‬ ‫ذلـك سـبيل ًا‪ ،‬ثـم نتوكل علـى اللـ ِه وحده لا علـى الأسـباب التي‬ ‫أخذنـا بهـا‪ ،‬ألم تـ َر أنه قد اسـتأج َر عبـد الله بـن ُأريقط ليكـون لنا‬ ‫دليا ًل‪ ،‬ولـم يقـل أنـا نبـي ولـن يتركنـي الله أضيـع فـي الصحراء‬ ‫وسـأصل إلـى المدينـة على أية حـال‪ ،‬والل ِه مـا كان اللـه ليضيعه‪،‬‬ ‫وكان سـيصل إلـى المدينـة نهايـة المطـاف‪ ،‬ولكنـه أراد أن ُيع ِّلـ َم‬ ‫أ ّمتـه ثقافة الأخذ بالأسـباب!‬ ‫‪ -‬ﷺ كـم كان يحـرص علـى تعليم هـذه الأمة حتى في أشـ ّد‬ ‫لحظـات حياته خطر ًا ومشـقة‪.‬‬ ‫‪ -‬أي والل ِه لقد كان كذلك‪.‬‬ ‫‪ -‬عندي سؤال يا خليفة رسول الله‪.‬‬ ‫‪ -‬تف َّضل يا ُبني‪.‬‬ ‫‪51‬‬

‫‪ -‬أخبرتنـي أن أبـاك قـد تأخر إسالمه حتـى عام الفتـح‪ ،‬فهل‬ ‫كان لـه من خبـر يـوم الهجرة؟‬ ‫‪ -‬عندمـا علـم أبـي بخبـر هجرتنـا‪ ،‬جـاء إلـى بيتـي يتفقـد‬ ‫أولادي‪ ،‬وكان قـد عمـ َي وفقـد بصـره‪ ،‬فقال لأهلـي‪ :‬والل ِه‬ ‫إنـي لأراه قـد فجعكـم في نفسـه ومالـه‪ .‬وبالفعـل كن ُت قد‬ ‫أخـذ ُت كل مـا تبقـى مـن مالـي معـي خشـية أن يلزمنـا في‬ ‫الطريـق‪ .‬ولكـن ابنتـي أسـماء كانت ذكيـة عاقلـة حصيفة‪،‬‬ ‫فجـاءت بصنـدوق فـي أسـفله حصـى وعلى وجهـه بعض‬ ‫ال ُحلـي لهـا ولأختهـا ولأمهـا‪ ،‬ووضعـت فوقهـا قطعـة‬ ‫قمـاش‪ ،‬وقالـت لـه‪ :‬لا يا جدي‪ ،‬لقـد ترك مالـه‪ ،‬ضع يدك‪.‬‬ ‫فوضـع أبـي يـده‪ ،‬وتحسـس ما فـي الصنـدوق‪ ،‬فلم يشـك‬ ‫أن مالـي كلـه فيه‪.‬‬ ‫‪ -‬عائلـة مـن الدهـاة يـا أبـا بكـر‪ ،‬ذريـة بعضهـا مـن بعـض‪،‬‬ ‫فسـبحان مـن علمكـم‪.‬‬ ‫‪ -‬سبحانه وتعالى‪.‬‬ ‫‪ -‬فما الذي حدث بعد ذلك؟‬ ‫‪ -‬بعـد أن أمضينـا فـي غـار ثور ثلاثـة أيـام‪ ،‬وهـدأ ْت الحركة‪،‬‬ ‫وخـ َّف الطلـب‪ ،‬ويئسـت قريش مـن إيجادنـا‪ ،‬حتى أنها من شـدة‬ ‫يئسـها جع َلـ ْت جائزة مئة ناقـة لمن يأتي بنـا إليها أحيـا ًء أو أموات ًا‪،‬‬ ‫جاءنـا دليلنـا الحـاذق عبد اللـه بن ُأريقـط‪ ،‬وخادمنـا الأمين عامر‬ ‫بـن فهيرة‪ ،‬وانطلقنا في مسـيرنا ت ُح ُّفنـا رحمة اللـه‪ ،‬وتكلؤنا عنايته‬ ‫حتـى وصلنا إلـى المدينة‪.‬‬ ‫‪52‬‬

‫‪ -‬قبـل أن أسـألك عن شـهر الوصـول إلـى المدينة‪ ،‬هـل تأذن‬ ‫لـي أن أسـألك عـن مروركـم علـى أم معبـد الخزاعيـة‪ ،‬وعلى ما‬ ‫كان بينكـم وبيـن ُسـراقة بـن مالك؟‬ ‫‪َ -‬س ْل ما شئ َت يا ُبني!‬ ‫‪ -‬فإنـي قد سـأل ُت‪ ،‬فح ِّدثني يرحمك اللـه‪ ،‬فالحكاية بصوتك‬ ‫نكهة أخـرى‪ ،‬وطعم خاص‪.‬‬ ‫‪ -‬فـي طريقنـا إلى المدينة مررنا على خيمـة أم معبد الخزاعية‪،‬‬ ‫وكانـت امرأة جـوادة عفيفـة‪ُ ،‬تحسـن إلى الضيـف‪ ،‬وتعين‬ ‫المسـافر‪ ،‬فسـألناها عـن لحـ ٍم وتمـ ٍر نشـتريه منهـا‪ ،‬فلـم‬ ‫نجـد عندهـا مـن ذلـك الشـيء‪ ،‬فقـد كانـوا يومها فـي فاقة‬ ‫وجـدب‪ ،‬وكان زوجهـا قـد خـرج بأغنامـه إلـى الباديـة‬ ‫ليرعاهـا‪ .‬فنظـر النبي ﷺ إلـى شـا ٍة واقفة بجانـب الخيمة‪،‬‬ ‫ثـم قـال لها‪ :‬مـا هـذه الشـاة يـا أم معبد؟‬ ‫فقالـ ْت‪ :‬شـاة لا تسـتطيع المشـي‪ ،‬وقـد تركهـا أبـو معبـد هنـا‬ ‫ولـم يأخذهـا مـع الغنـم للرعي‪.‬‬ ‫فقال لها‪ :‬أتأذنين أن أحلبها؟‬ ‫فقالت‪ :‬بأبي أنت وأمي إن رأي َت بها حليب ًا فاحلبها‪.‬‬ ‫فدعـا بهـا النبـ ُّي ﷺ‪ ،‬فقربناهـا لـه‪ ،‬فسـمى اللـه‪ ،‬ثـم مسـح علـى‬ ‫ضرعهـا بيـده الشـريفة‪ ،‬وحلبهـا حتى مأل إنا ًء كبيـر ًا وسـط ذهول أم‬ ‫معبـد لمـا رأ ْت كيف تحولت هـذه الشـاة التي ج َّف ضرعهـا بالأمس‬ ‫إلـى شـاة حلـوب بيـن يديه‪ .‬ثـم قام فسـقى أم معبـد حتى شـبع ْت‪ ،‬ثم‬ ‫سـقانا حتـى شـبعنا نحن أيضـ ًا‪ ،‬ثـم كان هو آخـر القوم ُشـرب ًا‪.‬‬ ‫‪53‬‬

‫ثـم قام إلى الشـاة مـر ًة أخـرى فملأ الإناء مـن حليبهـا‪ ،‬وناوله‬ ‫لأم معبـد ليشـربه زوجهـا وأهلهـا بعـد عودتهـم مـن ال َّرعـي ثـم‬ ‫تابعنـا طريقنا‪.‬‬ ‫‪ -‬شاة جدباء صار ْت شا ًة حلوب ًا يا لبركة يد رسول الله!‬ ‫‪ -‬كان واللـ ِه مبـارك ًا قبـل نب ّوتـه فكيـف بعدهـا‪ ،‬كانـت أغنـام‬ ‫حليمـة السـعدية أهـزل أغنـام بني سـعد‪ ،‬فلما جـاءت إلى‬ ‫مكـة وأخذتـه لترضعـه فـي ديارها ح َّلـ ْت البركة هنـاك يوم‬ ‫حـ َّل‪ ،‬فصـار ْت أغنامهـا أسـ ّمنها لحمـ ًا‪ ،‬وأكثرهـا حليبـ ًا‪،‬‬ ‫حتـى صار النـاس يقولون‪ :‬انظـروا أين ترعى أغنـام حليمة‬ ‫فارعـوا أغنامكم!‬ ‫‪ -‬والل ِه إنه لبركة بأبي هو وأمي‪.‬‬ ‫‪ -‬والآن بعـد أن انتهينـا من قصـة أم معبد الخزاعيـة‪ ،‬فما قصة‬ ‫سـراقة بن مالك يـا خليفة رسـول الله؟‬ ‫أخبرتـك أن قريشـ ًا جعلـت جائـزة مئة ناقـة لمن يأتي بنـا إليها‬ ‫أحيـا ًء أو أمواتـ ًا‪ ،‬وكان سـراقة بـن مالـك قصاصـ ًا بارعـ ًا للأثـر‪،‬‬ ‫وكان جالسـ ًا فـي مجلـس قريـش حين جـاء رجـل فقال‪ :‬لقـد م َّر‬ ‫جماعـة فـي الصحـراء ومـا أظنهـم إلا محمـ ًدا وأصحابه‪.‬‬ ‫فأشـار إليه ُسـراقة أن ُأسـك ْت‪ ،‬ثم قـال‪ :‬إنهم بنو فالن يتبعون‬ ‫ضالـة لهم‪.‬‬ ‫‪54‬‬

‫وهـو بذلـك ُي َمنِّـي نفسـه بالجائـزة أن يسـتأثر بهـا وحـده‪ ،‬فقـد‬ ‫وقـع فـي قلبـه أننا نحـن الذيـن رآنا الرجـل‪ ،‬ثم قـام إلى بيتـه فج َّهز‬ ‫فرسـه‪ ،‬وأخـذ سالحه‪ ،‬وتبع أثرنـا‪ ،‬فلما رآنا مـن بعيـد ورأيناه وهو‬ ‫يطلبنـا‪ ،‬إذ سـقط عن فرسـه ونحن نشـد المسـير كي لا يتبعنـا‪ ،‬فقام‬ ‫وامتطـى فرسـه فوقع مـرة ثانية‪ ،‬فعـرف أن النبي ﷺ محـروس بعين‬ ‫اللـه وأنـه لن يصـل إليه فنادانـا قائل ًا‪ :‬أنا ُسـراقة بن مالـك انتظروني‬ ‫أكلمكـم فواللـ ِه لا أريبكـم ولا يأتيكـم مني شـيء تكرهونه‪.‬‬ ‫فقـال لـي النبـ ُّي ﷺ‪ :‬يا أبـا بكر قـل له كيف أنـ َت يا ُسـراقة بن‬ ‫مالك إذا أخفي َت أمرنا فلبسـ َت سـواري كسـرى؟‬ ‫فقال‪ :‬كسرى بن هرمز؟!‬ ‫فقل ُت‪ :‬نعم كسرى بن هرمز‪.‬‬ ‫فقال‪ :‬قبل ُت‪ ،‬على أن تكتب لي كتاب ًا يكون آية بيني وبينكم‪.‬‬ ‫فقال النبي ﷺ‪ :‬يا أبا بكر‪ُ ،‬اكتب له كتاب ًا‪.‬‬ ‫فكتب ُت له رقعة هذا الوعد‪ ،‬وأعطيته إياه ومضينا‪...‬‬ ‫وقـد تحقـق وعـد رسـول اللـه ﷺ يـا أبـا بكـر ل ُسـراقة‪ ،‬ففـي‬ ‫خلافـة عمـر بـن الخطـاب ُفتحت بالد فـارس‪ ،‬وجيء إلـى عمر‬ ‫بكنـوز كسـرى‪ ،‬وجـاء ُسـراقة بـن مالـك بالرقعـة إلـى عمـر بـن‬ ‫الخطـاب ودفعهـا إليـه‪ .‬فألبسـه عمر سـواري كسـرى وملابسـه‪،‬‬ ‫ثـم أخذهـا منه وردهـا إلى الغنائم لتقسـم بين المسـلمين‪ ،‬فالوعد‬ ‫كان أن يلبسـها لا أن يسـتأثر بهـا لنفسـه‪.‬‬ ‫‪55‬‬

‫‪ -‬ولكن عندي سؤال يا خليفة رسول الله‪.‬‬ ‫‪ -‬وما هو يا ُبني؟‬ ‫‪ -‬هل كان رسول الله ﷺ يعلم الغيب؟‬ ‫‪ -‬لا يعلـ ُم الغيـ َب إلا اللـه يـا ُبني‪ ،‬ولكـ َّن الله تعالـى قد أطلع‬ ‫نب َّيـه علـى شـي ٍء منه‪ .‬فـكان يعل ُم مـا أطلعه اللـه عليه فقط‪،‬‬ ‫أمـا خبـ َر النبـ ُّي ﷺ أن مـن علامـات السـاعة أن ال ُحفـاة‪،‬‬ ‫رعاة الشـاة سـيتطاولون في البنيـان وهذا من أمـور الغيب‪،‬‬ ‫وهـا هـو الأمـر كمـا تـرى قد تحقـق‪ ،‬ومـا ينطـ ُق نبينـا عن‬ ‫هـوى‪ ،‬إنما هـو وحـي يوحى‪.‬‬ ‫‪ -‬حسـن ًا فهمـ ُت‪ ،‬فأخبرنـي عن لحظـة الوصول إلـى المدينة‪،‬‬ ‫وكيف اسـتقبلكم الناس؟‬ ‫‪ -‬كان خبـر انطلاقنـا مـن مكـة قـد وصـل إلـى المدينـة قبـل‬ ‫وصولنـا‪ ،‬وكان المسـلمون ينتظروننا علـى أحر من الجمر‪،‬‬ ‫فلمـا وصلنـا فرحـوا فرحـ ًا عظيمـ ًا‪ ،‬ورحبـوا بنـا‪ ،‬وجلـس‬ ‫النبـ ُّي ﷺ صامتـ ًا لم يتكلـم‪ ،‬وكن ُت أنـا واقف ًا‪ ،‬فجـاء رجال‬ ‫مـن الأنصـار ممـن لـم يـروا النبـي ﷺ مـن قبـل ُيحيونني‬ ‫لأنهـم ظنونـي هو‪ ،‬فأمسـك ُت ردائي وظللـ ُت النب َّي ﷺ من‬ ‫الشـمس‪ ،‬فعرفـوا أنـه هو‪.‬‬ ‫‪ -‬ف ِل َم فعل َت هذا؟‬ ‫‪ -‬يـا ُبنـي فعلته جبـر ًا للخواطر‪ ،‬فقـد وجد ُت فيهـا حرج ًا لهم‬ ‫أن يحيوننـي فأقول لهم لسـ ُت أنـا‪ ،‬فلما فعل ُت هـذا‪ ،‬عرفوا‬ ‫مـن فعلي‪ ،‬وفهمـوا أن الذي أظلله هـو النبي ﷺ‪.‬‬ ‫‪56‬‬

‫‪ -‬مـا أعذبـ َك‪ ،‬حتـى فـي هـذا الموقـف لـم تنـ َس خواطـر‬ ‫النـاس‪.‬‬ ‫‪ -‬يـا ُبنـي ما النـاس إلا خواطر وكرامات‪ ،‬وكسـر عظم إنسـان‬ ‫لا يقـل ألمـ ًا عن كسـر خاطره‪ ،‬وإن كسـر العظـم يلتئم‪ ،‬أما‬ ‫كسـر الخاطر فيبقى!‬ ‫‪ -‬فماذا عن نشيد طلع البدر علينا‪ ،‬لماذا لم تذكره لي؟‬ ‫‪ -‬يـا ُبنـي إن نشـيد طلـع البـدر علينا لم يكـن يـوم قدومنا إلى‬ ‫المدينـة‪ ،‬وإنمـا أنشـده أهـل المدينـة للنبـي ﷺ يـوم عـاد‬ ‫فاتحـ ًا مـن غـزوة خيبر!‬ ‫‪ -‬سـبحان اللـه‪ ،‬لهـذا حرصـ ُت أن أسـمع الحكايـة مـن فـم‬ ‫صاحبهـا‪ .‬فحدثنـي يـا خليفة رسـول اللـه عن خبر سـمعته‬ ‫عـن مرضـ َك يـوم قدمـ َت إلـى المدينة؟‬ ‫‪ -‬كانـت المدينـة شـديدة الوبـاء‪ ،‬فأصـاب أصحـاب رسـول اللـه‬ ‫ﷺ منـه شـيء‪ ،‬ودفـ َع اللـه ذلـك عـن نبيـه‪ ،‬فكنـ ُت أنـا وبالل‬ ‫وعامـر بـن فهيـرة مرضـى فـي بيـت واحـد‪ ،‬فاسـتأذن ْت ابنتـي‬ ‫عائشـة زوجها رسـول الله ﷺ أن تأتـي لزيارتنا فـأ ِذن لها‪ ،‬ولما‬ ‫دخلـ ْتعلـ َّيقالـتلـي‪:‬كيـفتجد َكيـاأبـ ِتفقلـ ُتلهاشـعر ًا‪:‬‬ ‫كل امـــرى ٍء ُمص َّبـــ ٌح فـــي أهلـــه‬ ‫والمــو ُت أدنــى مــن شــرا ِك نعلــه‬ ‫فقالـت لـي‪ :‬واللـ ِه إنـ َك لا تـدري مـا تقـول يـا أب ِت من شـدة‬ ‫ال ُحمـى التـي نزلـت بك!‬ ‫‪57‬‬

‫ثـم سـألت بلالاً وعامـر ًا فأجاباها قريبـ ًا مما أجبتهـا‪ ،‬فرجع ْت‬ ‫عائشـة إلـى النبـي ﷺ فأخبرته الـذي كان منـا‪ ،‬وقالت‪ :‬يا رسـول‬ ‫اللـه إنهم يهـذون من شـدة ال ُحمى‪.‬‬ ‫فقـال‪ :‬اللهـم َح ِّبـب إلينـا المدينـة كحبنـا مكـة أو أشـد‪،‬‬ ‫وص ّححهـا‪ ،‬وبـارك لنـا فـي صاعهـا و ُم ِّدهـا‪ ،‬وان ُقـل ح َّماهـا‬ ‫فاجعلهـا فـي ال ُجحفـة‪.‬‬ ‫‪ -‬وما ال ُجحفة يا خليفة رسول الله؟‬ ‫‪ -‬مـكان قريـب مـن المدينـة‪ ،‬وقد سـ ّماها النبـي ﷺ إذ كانت‬ ‫يومـذاك ديـار اليهود!‬ ‫‪58‬‬

‫‪ -‬فماذا عن غزوة بدر يا خليفة رسول الله؟‬ ‫‪ -‬كانـت قريـش قـد صـادرت أمـوال المسـلمين فـي مكـة‪،‬‬ ‫وبلـغ النبـ َّي ﷺ أن قافلـ ًة لقريـش يقودهـا أبو سـفيان على‬ ‫مقربـة مـن المدينـة‪ ،‬فانتدبنـا النبـي ﷺ للإغارة عليهـا ع َّله‬ ‫ُيعـ ِّو ُض المسـلمين شـيئ ًا ممـا فقدوه فـي مكة‪ ،‬فبلـغ الخب ُر‬ ‫أبـا سـفيان فغ َّيـر سـير القافلة‪ ،‬وأرسـل رسـولاً إلـى قريش‬ ‫يطلـب نجدتهـا‪ ،‬وخرجـ ْت قريـش بجيشـها‪ ،‬خرجنـا ُنريد‬ ‫القافلـة فلـم ندركهـا‪ ،‬وخرجـ ْت قريـش تريـ ُد الدفـاع عـن‬ ‫القافلـة ولكنهـا نجـ ْت منـا دون حاجتهـا لنصـرة قريـش‪،‬‬ ‫أرادوا شـيئ ًا وأردنـا شـيئ ًا ولكـن اللـه سـبحانه أراد الحرب‬ ‫فكا نت !‬ ‫‪ -‬فمـا الذي حدث قبـل المعركة‪ ،‬أقصد كيـف كانت الأجواء‬ ‫في معسـكر المسلمين؟‬ ‫‪ -‬جمعنا النب ُّي ﷺ وقال‪ :‬أشيروا عل َّي أيها الناس‪.‬‬ ‫فقمـ ُت وتح ّدثـ ُت وأخبرتـه أن يمضـي علـى بركـة اللـه فكلنا‬ ‫معـه وطـوع أمره‪.‬‬ ‫فقال مجدد ًا‪ :‬أشيروا عل َّي أيها الناس‪.‬‬ ‫‪59‬‬

‫فقام عمر بن الخطاب وقال نحو ًا مما قل ُت‪.‬‬ ‫ولك َّن النب َّي ﷺ قال مجدد ًا‪ :‬أشيروا عل َّي أيها الناس‪.‬‬ ‫‪ -‬فلمـاذا كان يريـ ُد مزيـد ًا مـن المشـورة بعـد قولـك وقـول‬ ‫عمـر؟‬ ‫‪ -‬كان يري ُد أن يسمع قول الأنصار لسببين‪:‬‬ ‫الأول‪ :‬أنـي وعمـر مـن المهاجرين فـكان لا يري ُد أن ُيشـركهم‬ ‫فـي حـرب لا يخوضوهـا عن رغبـة منهم‪.‬‬ ‫الثانـي‪ :‬أنهـم عاهـدوا النبـ َّي ﷺ أن يحموه ما دام فـي المدينة‪،‬‬ ‫أمـا الآن فنحـن خـارج المدينـة‪ ،‬عنـد آبـار بـدر‪ ،‬وهـذا موقـف‬ ‫جديـد والنُصـرة والمنعة هنا لا تدخـل ضمن العهـد القديم الذي‬ ‫أعطـوه للنبي ﷺ‪.‬‬ ‫‪ -‬حسن ًا فهم ُت‪ ،‬فما الذي حدث بعد ذلك؟‬ ‫‪ -‬ف ِطـ َن سـعد بـن معـاذ زعيـم الأنصـار لمقصـد النبـي ﷺ‪،‬‬ ‫وكان رجا ًل ذكيـ ًا شـجاع ًا‪ ،‬فقـال‪ :‬كأنـ َك تريدنـا يا رسـول‬ ‫ا لله ؟‬ ‫فقال له النب ُّي ﷺ‪ :‬نعم‬ ‫فقـال لـه‪ :‬قـد آمنـا بـك‪ ،‬وصدقنـاك‪ ،‬وشـهدنا أ َّن مـا جئـ َت به‬ ‫هـو الحـق‪ ،‬وأعطينـاك على ذلـك عهودنـا ومواثيقنا على السـمع‬ ‫والطاعـة‪ ،‬فامـ ِض يا رسـول الله لمـا أرد َت فوالذي بعثـ َك بالحق‬ ‫لـو خضـ َت بنـا البحـر لخضنـاه معـ َك‪ ،‬ومـا تخ َّلـ َف منـا رجـل‬ ‫واحـد‪ ،‬ومـا نكـره أن تلقـى بنا عـدو ًا غد ًا‪ ،‬إنـا ل ُص ُب ٌر فـي الحرب‪،‬‬ ‫ِ ُصـ ُد ٌق عنـد اللقـاء‪ ،‬ولعـ َّل اللـه يريك منـا ما تقـ َّر عينك‪َ ،‬ف ِسـ ْر بنا‬ ‫‪60‬‬

‫بركـة اللـه‪ .‬عندهـا تهلـل وجـه النبـ ِّي ﷺ‪ ،‬واطمأ َّن على تماسـك‬ ‫جيشـه‪ ،‬وارتفـاع الـروح المعنويـة لجنوده‪.‬‬ ‫‪ -‬فهل دعا النب ُّي ﷺ بشيء يوم المعركة؟‬ ‫‪ -‬كان النبـ ُّي ﷺ أكثـر هـذه الأمـة دعـا ًء ومناجـاة‪ ،‬ولـم يكن‬ ‫ليدعـو فـي الرخـاء ويتركه في الشـدة‪ ،‬وها نحـن الآن قاب‬ ‫قوسـين أو أدنـى من بدء القتال‪ ،‬فاسـتقبل النبـ ُّي ﷺ القبلة‪،‬‬ ‫ثـم رفـع يديـه يدعـو فقـال‪ :‬اللهـم أنجـ ْز لـي مـا وعدتني‪،‬‬ ‫اللهـ َّم إن ُتهلـك هـذه العصابة من أهل الأسالم فلـن ُتعبد‬ ‫فـي الأرض أبد ًا‪.‬‬ ‫ومـا زال يدعـو حتـى سـقط رداؤه عـن منكبيه‪ ،‬فأخـذ ُت رداءه‬ ‫فأعدتـه عليـه وقل ُت لـه‪ :‬يا نبـ َّي الل ِه‪ ،‬كفا َك مناشـدت َك ر َّبـ َك‪ ،‬وإنه‬ ‫سـينجز ل َك مـا وعد َك‪ .‬حسـ ُب َك يا رسـول الله‪ ،‬قـد ألحح َت على‬ ‫ر بك ‪.‬‬ ‫‪ -‬فما خبر العريش يوم بدر يا خليفة رسول الله؟‬ ‫‪ -‬كان هـذا اقتراحـ ًا ذكي ًا من سـعد بـن معاذ‪ ،‬حيث قـال للنبي‬ ‫ﷺ‪ :‬يـا رسـول اللـه‪ ،‬نبني ل َك عريشـ ًا من نخـل فتكون فيه‪،‬‬ ‫ثـم نلقـى عد َّونـا فـإن نصرنـا اللـه عليهـم كان ذلـك ممـا‬ ‫أحببنـا‪ ،‬وإن كان غيـر ذل َك‪ ،‬لحقـ َت بمن وراءنـا من قومنا‪،‬‬ ‫فقـد تخ َّلـ َف عنـ َك أقـوام مـا نحـن بأشـد حبـ ًا لـ َك منهم‪،‬‬ ‫ولـو ظنـوا أن َك سـتحارب مـا تخلفـوا عنـ َك‪ ،‬يمنعـ َك الله‬ ‫بهـم‪ ،‬ويناصحونـك ويجاهـدون مع َك‪.‬‬ ‫‪61‬‬

‫‪ -‬يا لسعد بن معاذ من رجل‪ ،‬ويا لهذا الاقتراح ما أذكاه!‬ ‫‪ -‬يـا ُبنـي هـذا رجـل ن َذر نفسـه للـ ِه‪ ،‬ويكفيـه شـرف ًا أن عرش‬ ‫الرحمـن اهتـ َّز لموته!‬ ‫‪ -‬فهل وافق النب ُّي ﷺ على الخطة؟‬ ‫‪ -‬أجل‪ ،‬وافق عليها‪.‬‬ ‫‪ -‬إذ ًا الخبر الذي سمعته صحيح؟‬ ‫‪ -‬وما سمع َت يا ُبن َّي؟‬ ‫سـمع ُت أ َّن علـ ّي بـن أبي طالـب قال يومـ ًا للناس‪ :‬من أشـج ُع‬ ‫الناس؟‬ ‫فقالوا‪ :‬أن َت‪.‬‬ ‫فقـال‪ :‬أمـا إني ما بارز ُت أحـد ًا إلا انتصف ُت منه‪ ،‬ولك َّن أشـجع‬ ‫النـاس أبـو بكـر‪ ،‬فلمـا كان يـوم بـدر جعلنـا للنبـي ﷺ عريشـ ًا‪،‬‬ ‫وقلن�ا‪ :‬م�ن يك�ون مع�ه لئال يص�ل إلي�ه أح�د م�ن المش�ركين؟‬ ‫فواللـ ِه مـا قام أحـ ٌد إلا أبو بكر شـاهر ًا سـيفه‪ ،‬مسـتعد ًا للدفاع عن‬ ‫النبي ﷺ‪.‬‬ ‫‪ -‬هـذا من ُحسـن ظـن عل ّي بنـا‪ ،‬ودماثـة أخلاقه‪ ،‬فأسـأل الله‬ ‫أن يكتـب لـه أجـر إسالمه وجهـاده‪ ،‬فطالما كان أسـد ًا من‬ ‫أسـود الإسلام‪.‬‬ ‫‪ -‬فهل قال النب ُّي ﷺ ل َك شيئ ًا وأنتما في العريش؟‬ ‫‪ -‬أجـل قـال لـي‪ :‬أب ِشـ ْر يـا أبـا بكـر قد أتـاك نصـر اللـه‪ ،‬هذا‬ ‫جبريـل آخـ ٌذ بعنـان فرسـه يقوده‪.‬‬ ‫‪62‬‬

‫ثـم خر َج مـن العريش فحـ َّرض المسـلمين على القتـال وقال‪:‬‬ ‫والذي نفسـي بيـده لا يقاتلهم اليـوم رج ٌل‪ ،‬ف ُيقتل صابر ًا محتسـب ًا‪،‬‬ ‫مقبا ًل غير مدبـر إلا أدخله اللـه الجنَّة‪.‬‬ ‫فقاتلنا على بركة الله ومعيته‪ ،‬وم َّن علينا سبحانه بالنصر‪.‬‬ ‫‪ -‬فما خبر أسرى بدر يا خليفة رسول الله؟‬ ‫‪ -‬قتلنـا يـوم بـدر سـبعين مـن جيـش قريـش‪ ،‬وأسـرنا منهـم‬ ‫سـبعين أيضـ ًا‪ ،‬ولم يكـن عند النبـ ّي ﷺ ن ٌّص في الأسـرى‪،‬‬ ‫ولا وحـي مـن ربـه‪ ،‬وكان مـن عادتـه والأمـر كذلـك أن‬ ‫يجمـع المسـلمين للشـورى‪ ،‬فجمعنا وطل َب رأينـا‪ ،‬فقم ُت‬ ‫فقلـ ُت‪ :‬يـا نب َّي اللـ ِه هـؤلاء بنو العـم والعشـيرة والإخوان‪،‬‬ ‫وإنـي أرى أن تأخـذ منهـم ال ِفديـة‪ ،‬فيكـون ما أخذنـا منهم‬ ‫قـو ًة لنـا‪ ،‬وعسـى اللـ ُه أن يهديهـم فيكونـوا لنـا ع ُضد ًا‪.‬‬ ‫‪ -‬فماذا قال ل َك رسول الله ﷺ؟‬ ‫‪ -‬لـم يقـل لـي شـيئ ًا‪ ،‬وإنمـا قـال لعمـر‪ :‬مـا تـرى يـا ابـن‬ ‫ا لخطـا ب ؟‬ ‫فقـال عمـر‪ :‬لا والل ِه مـا أرى الـذي رأى أبو بكـر‪ ،‬ولكني أرى‬ ‫أن تم ّكننـي مـن فلان قريبي فاقتلـه‪ ،‬وتمكن حمزة مـن فلا ٍن قريبه‬ ‫فيقتلـه‪ ،‬حتـى يعلـم النـاس أنـه ليـس فـي قلوبنـا هـوادة للكفار‪.‬‬ ‫هـؤلاء صناديدهـم وقادتهـم وأئمتهم‪.‬‬ ‫‪ -‬فماذا قال النب ُّي ﷺ لعمر؟‬ ‫‪ -‬أيض ًا لم يقل شيئ ًا‪ ،‬وإنما قام فدخ َل خيمته‪.‬‬ ‫‪63‬‬

‫‪ -‬فما الذي حدث بعد ذلك؟‬ ‫‪ -‬صـار بعـض النـاس يقولـون سـيأخذ النبـ ُّي ﷺ بـرأي أبـي‬ ‫بكـر‪ ،‬وبعضهـم يقولـون سـيأخذ بـرأي عمـر‪.‬‬ ‫‪ -‬فبرأي َم ْن أخذ؟‬ ‫‪ -‬خـرج النبـ ُّي ﷺ مـن خيمتـه وقـال‪ »:‬إ َّن اللـه َل َي ِليـن قلـوب‬ ‫رجـا ٍل فيـه حتـى تكـون أليـ َن مـن اللبـن‪ ،‬وإ َّن الله ليشـدد‬ ‫قلـوب رجـا ٍل فيـه حتـى تكـون أشـ َّد مـن الحجـارة‪ .‬وإن‬ ‫مثلـك يـا أبـا بكر مثـل إبراهيـم حين قـال َف َمـن َتبِ َعنِـي َفإِ َّن ُه‬ ‫ِمنِّـي َو َمـ ْن َع َصانِـي َفإِ َّنـ َك َغ ُفـو ٌر َّر ِحي ٌم»‪.‬‬ ‫ومثلـك يـا أبا بكر مثل عيسـى حيـن قـال‪﴿ :‬إِن ُت َع ِّذ ْب ُهـ ْم َفإِ َّن ُه ْم‬ ‫ِع َبـا ُد َك َوإِن َت ْغ ِفـ ْر َل ُه ْم َفإِ َّنـ َك َأن َت ا ْل َع ِزيـ ُز ا ْل َح ِكي ُم﴾‪.‬‬ ‫ومثلـك يـا عمر مثل نوح حين قـال‪َّ « :‬ر ِّب َل َتـ َذ ْر َع َلى ا ْلَ ْر ِض‬ ‫ِمـ َن ا ْل َكافِ ِري َن َد َّيا ًرا﴾‪.‬‬ ‫مثلـك يـا عمـر مثـل موسـى حيـن قـال‪َ ﴿ :‬ر َّبنَـا ا ْط ِمـ ْس َع َل ٰى‬ ‫َأ ْم َوالِ ِهـ ْم َوا ْشـ ُد ْد َع َلـ ٰى ُق ُلوبِ ِهـ ْم َفاَل ُي ْؤ ِمنُـوا َح َّتـ ٰى َيـ َر ُوا ا ْل َعـ َذا َب‬ ‫ا ْلَلِيـ َم﴾‪.‬‬ ‫ثـم أخـذ برأيـي‪ ،‬ووافـق علـى إطالق الأسـرى مقابـل فدية‪،‬‬ ‫ثـم تبيـن فـي اليوم التالـي أن الحـ َّق كان فـي رأي عمر‪ ،‬فقـد أنزل‬ ‫اللـه تعالـى قولـه ﴿ َمـا َكا َن لِنَبِـ ٍّي َأن َي ُكـو َن َل ُه َأ ْسـ َر ٰى َح َّتـ ٰى ُي ْث ِخ َن‬ ‫فِـي ا ْلَ ْر ِض ُت ِريـ ُدو َن َعـ َر َض ال ُّد ْن َيا َوال َّلـ ُه ُي ِري ُد ا ْل ِخـ َر َة َوال َّل ُه َع ِزي ٌز‬ ‫َح ِكي ٌم ﴾‬ ‫‪ -‬مـا يضـرك يـا خليفـة رسـول اللـه‪ ،‬فقـد اجتهـد َت برأيـك‪،‬‬ ‫‪64‬‬

‫ونصحـ َت للـه ورسـوله‪ ،‬ومـا كان رأي العفـو منـ َك إلا‬ ‫لأنـك ل ّين رقيـق وقد شـ َّبهك النب ُّي ﷺ في لينك وشـفقتك‬ ‫بإبراهيـم عليـه السالم‪ ،‬وبعيسـى عليه السالم‪.‬‬ ‫‪ -‬غفر الله لنا ما كان منا يا ُبني‪.‬‬ ‫‪65‬‬

‫‪ -‬وماذا عن غزوة ُأ ُحد يا خليفة رسول الله؟‬ ‫‪ -‬أرادت قريـش أن تثـأر لمـا أصابهـا فـي بـدر‪ ،‬وتنتقـم لتلك‬ ‫الهزيمـة النكـراء التـي ألحقناهـا بهـم‪ ،‬فقـد ُقتـل فـي بـدر‬ ‫قـادة قريـش وأسـيادها‪ ،‬أبـو جهل‪ ،‬وعتبـة بن ربيعـة‪ ،‬وأمية‬ ‫بـن خلـف‪ ،‬وهـؤلاء كانـوا مـن رؤوس الشـرك‪ ،‬ولهـم من‬ ‫خلفهـم أهـل وطالِبو ثـأر‪ .‬فجمعوا عتادهم وجـاؤوا‪ ،‬وكان‬ ‫النبـ ُّي ﷺ يميـل إلـى رأي الشـيوخ أن لا يخـرج لملاقاتهم‬ ‫وإنمـا يمكـث فـي المدينـة فـإن جـاؤوا قاتلهـم‪ ،‬ولكـن‬ ‫حماسـة الشـباب‪ ،‬وبعـض الذيـن لـم يشـهدوا بـدر ًا أل ّحوا‬ ‫عليـه بالخـروج‪ ،‬فدخـل بيتـه ولبـس ثيـاب الحـرب ثـم‬ ‫خـرج‪ ،‬فقالـوا يـا رسـول اللـه لعلنـا حملنـاك علـى غير ما‬ ‫تر يد ‪.‬‬ ‫فقال‪ :‬ما كان لنبي إذا لب َس لأمة الحرب أن يخلعها!‬ ‫وهكذا خرجنا إلى ُأ ُحد لملاقاة جيش قريش‪.‬‬ ‫وخشـي النبـ ُّي ﷺ أن يلتـ َّف علينا المشـركون مـن وراء الجبل‬ ‫فنصبـح بيـن فكي كماشـة‪ ،‬جيـش قريـش الذيـن يقاتلوننـا وجه ًا‬ ‫لوجـه‪ ،‬وأولئـك الذيـن مـن الممكـن أن يلتفـوا علينـا‪ ،‬فوضـع‬ ‫‪66‬‬

‫سـبعين مـن أمهـر رماتنـا علـى الجبـل وقـال لهـم‪ :‬لا تبرحـوا‬ ‫أماكنكـم‪ ،‬إذا رأيتمونـا ننتصر فال تشـاركونا‪ ،‬وإذا رأيتمونـا ُنهزم‬ ‫فال تنصرونا‪.‬‬ ‫وبـدأت المعركـة‪ ،‬وأبلينـا بال ًء حسـن ًا‪ ،‬وكانت هند بنـت عتبة‬ ‫قـد وعـد ْت وحشـي بـن حـرب إن قتـل حمزة بـن عبـد المطلب‬ ‫الـذي قتـل أباهـا يـوم بـدر أن تعتقـه‪ ،‬وكان حمـزة يومهـا كما هو‬ ‫دائمـ ًا أسـد اللـه وأسـد رسـوله‪ ،‬قتـل وحـده ثلاثيـن مـن جيـش‬ ‫قريـش‪ ،‬وبينمـا حمـزة يصـرع الفرسـان واحـد ًا تلـو آخـر باغتـه‬ ‫وحشـي بالحربـة من بعيد فاستشـهد‪ ،‬فقال المسـلمون‪ :‬استشـهد‬ ‫حمـزة فلنثـأر لـه‪ .‬فهجمنـا علـى جيـش قريش بشراسـة أشـد من‬ ‫الأولـى ففـروا أمامنـا‪ ،‬ولكـن الرمـاة علـى الجبـل لمـا رأوا هـذا‬ ‫المشـهد تركـوا أماكنهـم‪ ،‬وخالفـوا وصيـة النبي ﷺ لهـم‪ ،‬عندها‬ ‫اغتنـم خالد بن الوليـد هذه الفرصـة‪ ،‬والت َّف علينا بفرسـانه الذين‬ ‫كان يقودهـم‪ ،‬فلمـا رأى مقاتلـو قريـش الفاريـن هـذا المشـهد‬ ‫عـادوا أدراجهـم‪ ،‬ووقـع مـا كان النبـ ُّي ﷺ يخشـاه‪ ،‬صرنـا فـي‬ ‫الوسـط فريـق مـن جيش قريـش يقاتلنـا من الأمـام‪ ،‬وخالـد ومن‬ ‫معـه يقاتلوننـا مـن الخلـف‪ ،‬فسـقط منـا سـبعون شـهيد ًا و ُأشـيع‬ ‫وقتهـا أن النبـ َّي ﷺ قـد ُقتـ َل‪ ،‬فقـال أنـس بـن النضـر لرجـال قـد‬ ‫ألقـوا أسـلحتهم‪ :‬مـا تصنعون؟‬ ‫فقالوا له‪ُ :‬قت َل رسول الله!‬ ‫‪67‬‬

‫فقـال لهـم‪ :‬فمـاذا تصنعـون بالحيـاة بعـد رسـول اللـه‪ ،‬قوموا‬ ‫فموتـوا علـى مـا مـات عليه‪.‬‬ ‫ُشـ ْج يومهـا رأس النبـي ﷺ‪ ،‬و ُكسـرت مقدمـة أسـنانه‪ ،‬وأول‬ ‫مـن رآه حيـ ًا يومهـا كعـب بـن مالـك‪ ،‬فنـادى بأعلـى صوتـه‪ :‬يـا‬ ‫معشـر المسـلمين أبشـروا هـذا رسـول اللـه ﷺ حـ ٌّي ُيقاتـل‪.‬‬ ‫عندهـا تجمعنـا خلـف رسـول اللـه ﷺ‪ ،‬وبدأنـا ننسـح ُب‬ ‫تدريجيـ ًا حتـى صعدنـا الجبـل ليصعـب علـى قريـش أن تتبعنـا‪.‬‬ ‫‪ -‬فما الذي حدث بعد ذلك؟‬ ‫‪ -‬تأخـرت قريـش عنـد سـفح الجبـل‪ ،‬غيـر أن ُأبي بـن خلف‬ ‫تبعنـا وهـو يقول‪ :‬أيـن محمـد؟ لا نجـو ُت إن نجا!‬ ‫فقلنا يا رسول الله‪ :‬أينز ُل إليه أحد منا؟‬ ‫فقال‪ :‬دعوه‪.‬‬ ‫ثـم تنـاول الحربـة من أنـس بـن ال ُّصمة‪ ،‬فرمـاه بهـا فأصابه في‬ ‫رقبتـه وألقاه عن فرسـه!‬ ‫‪ -‬أليـس ُأبـي بـن خلف الـذي راهنتـه علـى نصر الـروم على‬ ‫فـارس مقابـل مئـة ناقة؟‬ ‫‪ -‬بلى‪ ،‬هو بعينه‪.‬‬ ‫‪ -‬فهل مات من أثر هذه الضربة؟‬ ‫‪ -‬لـم يمت مباشـرة‪ ،‬وإنمـا مات من أثـر جرحه وهـم في طريق‬ ‫عودتهـم إلـى مكة‪ ،‬وتحقق وعد رسـول اللـه ﷺ فيه‪.‬‬ ‫‪68‬‬

‫‪ -‬أي وعد؟‬ ‫‪ -‬كان ُأبـي بـن خلـف يلقـى النبـي ﷺ فـي مكـة فيقـول‪:‬‬ ‫يـا محمـد إنـي أعلـ ُف فرسـي كل يـوم مكيـالاً مـن ذرة‪،‬‬ ‫وسـأقتلك عليـه‪.‬‬ ‫فيقول له النبي ﷺ‪ :‬بل أنا أقتلك إن شاء الله‪.‬‬ ‫ولـم يقتـل النبـي ﷺ رجا ًل بيـده غيـره‪ ،‬وكان كثير ًا مـا يقول‪:‬‬ ‫أشـقى النـاس من قتـل نبيـ ًا أو قتلـه نبي!‬ ‫‪ -‬فهل تق َّدم إليكم من قريش أحد بعد ُأبي بن خلف؟‬ ‫‪ -‬أجـل يـا ُبنـي تق َّدم أبو سـفيان حتـى إذا وقف في مـكان يرانا‬ ‫ونراه قـال‪ :‬أفيكم محمد؟‬ ‫فقال النبي ﷺ‪ :‬لا تجيبوه‪.‬‬ ‫ثم قال‪ :‬أفيكم ابن أبي قحافة‪ ،‬يقصدني أنا؟‬ ‫فقال النبي ﷺ‪ :‬لا تجيبوه‪.‬‬ ‫ثم قال‪ :‬أفيكم عمر بن الخطاب؟‬ ‫فقال النبي ﷺ‪ :‬لا تجيبوه‪.‬‬ ‫فالتفـ َت إلـى جيـش قريش وقـال‪ :‬أمـا هؤلاء فقـد ُقتلـوا‪ ،‬ولو‬ ‫كانـوا أحيـا ًء لأجابوا‪.‬‬ ‫فلـم يتمالـك عمـر بـن الخطاب نفسـه‪ ،‬فقـال‪ :‬كذب َت يـا عدو‬ ‫اللـه‪ ،‬فقـد أبقـى الله لـ َك مـا ُيخزيك‪.‬‬ ‫فقال أبو سفيان‪ :‬الحرب ِسجال‪ ،‬يو ٌم بيوم بدر‪.‬‬ ‫‪69‬‬

‫فقـال النبـي ﷺ‪ :‬أجيبوه فقولوا‪ :‬ليسـوا سـوا ًء قتلانـا في الجنة‬ ‫وقتلاكم فـي النار‪.‬‬ ‫فقال أبو سفيان‪ :‬اع ُل ُهبل‪.‬‬ ‫فقال النبي ﷺ‪ :‬أجيبوه فقولوا‪ :‬الله أعلى وأج ُّل‪.‬‬ ‫فقال أبو سفيان‪ :‬ال ُعزى لنا ولا ُعزى لكم‪.‬‬ ‫فقال النبي ﷺ‪ :‬أجيبوه فقولوا‪ :‬الله مولانا ولا مولى لكم‪.‬‬ ‫ثم رجعت قريش إلى مكة‪ ،‬ونزلنا فدفنا شهداءنا‪.‬‬ ‫‪70‬‬

‫‪ -‬وماذا عن فتح مكة يا خليفة رسول الله؟‬ ‫‪ -‬يـا ُبنـي لا يمكننـا الحديـث عن فتح مكـة قبل المـرور على‬ ‫صلـح الحديبيـة‪ ،‬فقـد كان ذاك الصلـح هـو بوابـة الدخول‬ ‫إلـى مكة‪.‬‬ ‫‪ -‬فحدثني إذ ًا‪.‬‬ ‫‪ -‬لـ َك هـذا إن شـاء اللـه‪ ،‬رأى النبـ ُّي ﷺ فـي منامه أنـه دخل‬ ‫إلـى مكـة مـع أصحابـه‪ ،‬فبشـرنا بذلـك‪ ،‬ففرحنـا فرحـ ًا‬ ‫شـديد ًا‪ ،‬وخـر َج بنـا محرميـن نري ُد العمـرة ولا نسـعى إلى‬ ‫قتـال‪ .‬ولكـن قريشـ ًا عزمـ ْت أمرهـا علـى أن تمنعنـا مـن‬ ‫دخـول مكـة‪ ،‬فعسـكرنا بالحديبيـة‪ ،‬وجـر ْت بيننـا وبيـن‬ ‫قريـش مفاوضـات طويلـة‪ ،‬ثـم تـ َّم الصلـح بيننـا وبينهـم‬ ‫عندمـا أرسـلت قريـش سـهيل بـن عمـرو‪.‬‬ ‫‪ -‬فما هي بنود صلح الحديبية يا خليفة رسول الله؟‬ ‫‪ -‬كانت بنود الصلح أربعة‪:‬‬ ‫الأول‪ :‬أن نرجـ َع عـن مكـة هـذا العـام ثم نرجـع إليهـا للعمرة‬ ‫العـام القادم‪.‬‬ ‫الثانـي‪ :‬أن تضـع الحـرب أوزارهـا مـدة طويلـة هـي عشـر‬ ‫سـنوات‪.‬‬ ‫‪71‬‬

‫الثالـث‪ :‬مـن أراد مـن العـرب أن يدخـل في حلف المسـلمين‬ ‫دخـل معهـم‪ ،‬ومـن أراد أن يدخل فـي حلف قريش دخـل معهم‪،‬‬ ‫ويصبـح ذلـك الفـرد أو القبيلـة التي دخل ْت مـع أي مـن الفريقين‬ ‫جـزء ًا من الفريـق الذي دخلـ ْت فيه وأي اعتـداء يتعرض لـه ُيعتبر‬ ‫اعتـدا ًء على الفريـق كله‪.‬‬ ‫الرابـع‪ :‬مـن جـاء من قريـش إلينا مسـلم ًا رددناه إليهـم‪ ،‬أما من‬ ‫جـاء من المسـلمين إلـى قريش لم تـرده إلينا‪.‬‬ ‫‪ -‬أليـس فـي بعض هـذه البنـود اجحافـ ًا لكم يا خليفة رسـول‬ ‫ا لله ؟‬ ‫‪ -‬هكـذا رآهـا أغلـب المسـلمين ممـن شـهدوا الصلـح‪ ،‬ولكني‬ ‫كنـ ُت أعلـم أن الرجـل نبـي‪ ،‬وأنـه مأمـور مـن ربـه‪ ،‬وأ َّن اللـه‬ ‫تعالـى لن يضيعـه‪ ،‬وجرى بينـي وبين عمر بن الخطـاب يومها‬ ‫حـوار طويـل حـول الأمر‪ ،‬حيـث كان عمـر يرى بنـود الصلح‬ ‫اجحافـ ًا‪ .‬فقلـت لـه‪ :‬يـا عمـر إن الرجل لنبـي فالـزم غرزه‪.‬‬ ‫‪ -‬مـا أحسـن اتباعـك وتسـليمك يـا أبا بكـر‪ ،‬ولكني لـم أفهم‬ ‫مـا علاقـة صلـح الحديبية بفتـح مكة؟‬ ‫‪ -‬سـأخبرك يـا ُبنـي‪ ،‬قلـ ُت لـ َك أن البنـد الثالـث مـن صلـح‬ ‫الحديبيـة كان يقضـي أنـه مـن أراد مـن قبائـل العـرب أن‬ ‫يدخـل فـي حلفنـا دخـل فيـه‪ ،‬ومـن أراد أن يدخـل فـي‬ ‫حلـف قريش دخـل فيه‪ ،‬وأنـه بمجـرد دخوله يصبـح جزء ًا‬ ‫‪72‬‬

‫مـن الفريق الذي دخـل فيه‪ ،‬وأي اعتـداء عليه ُيعتبـر اعتدا ًء‬ ‫علـى الفريـق كلـه‪ ،‬أليـس كذلك؟‬ ‫‪ -‬بلى‪ ،‬لقد أخبرتني بهذا‪.‬‬ ‫‪ -‬حسـن ًا إذ ًا‪ ،‬لقـد دخل ْت قبيلة بكر في حلـف قريش‪ ،‬ودخل ْت‬ ‫قبيلـة خزاعـة في حلفنـا‪ ،‬واسـتمر ْت بنود المعاهدة سـارية‬ ‫ثمانية عشـر شـهر ًا‪ ،‬ثـم إ َّن بكـر ًا هجمت علـى خزاعة ليل ًا‪،‬‬ ‫وكانـت قـد أخـذ ْت بعـض السالح والرجـال مـن قريـش‬ ‫معتقديـن أن الوقـت ليـل ولـن ينكشـف أمرهـم‪ ،‬وعلـى‬ ‫أيـة حـال كان هجـوم بنـي بكـر وحـده كافيـ ًا ليكـون خرق ًا‬ ‫للمعاهـدة‪ ،‬فكيـف وقد شـاركت قريـش فيه‪.‬‬ ‫‪ -‬هذا صحيح‪ ،‬فما الذي حدث بعد ذلك؟‬ ‫‪ -‬جـاء عمرو بن سـالم سـيد خزاعة إلـى المدينة‪ ،‬فسـ َّلم على‬ ‫النبي ﷺ ثم أنشـده شـعر ًا قائل ًا‪:‬‬ ‫اللهـــ َّم إنـــي ناشـــ ٌد محمـــد ًا‬ ‫ِحلـــ َف أبِينـــا وأبيـــه الأتلـــدا‬ ‫فا ْن ُصـــر هـــدا َك اللـــه نصـــر ًا أعتـــدا‬ ‫واد ُع عبـــا َد اللـــ ِه يأتـــوا مـــددا‬ ‫فقال له النب ُّي ﷺ‪ُ :‬نصر َت يا عمرو بن سالم‪.‬‬ ‫فجهـز جيشـ ًا قوامـه عشـرة آلاف مقاتـل‪ ،‬ودعـا حلفـاءه مـن‬ ‫خزاعـة والعـرب‪ ،‬ودخـل مكـة فاتحـ ًا‪ ،‬وصعـد بالل علـى ظهر‬ ‫الكعبـة معلنـ ًا أن اللـه أكبـر‪ ،‬وأن مكـة سـتبقى عاصمـة التوحيـد‬ ‫حتى قيـام السـاعة‪.‬‬ ‫‪73‬‬

‫‪ -‬والآن قبـل الحديـث عـن ت َو ِّليـ َك الخلافـة‪ ،‬هل تـأذن لي يا‬ ‫خليفـة رسـول الله أن أسـألك عن أشـياء حدثـ ْت معك في‬ ‫المدينـة في حيـاة النبي ﷺ؟‬ ‫‪ -‬تف َّض ْل يا ُبني‪َ ،‬س ْل عما بدا ل َك‪.‬‬ ‫‪ -‬ما قصة قول النبي ﷺ ل َك أن أبواب الجنة كلها ُتناديك؟‬ ‫قـال رسـول اللـه ﷺ يومـ ًا‪ :‬مـن أنفـ َق زوجيـن فـي الإسالم‬ ‫فـي سـبيل اللـ ِه نـود َي مـن أبـواب الجنَّ ِة‪ ،‬يـا عبـد الله هـذا خير‪،‬‬ ‫فمـن كان مـن أهـل الصلاة ُدعـ َي من بـاب الصلاة‪ ،‬ومـن كان من‬ ‫أهـل الجهـاد ُدعـ َي من بـاب الجهـاد‪ ،‬ومـن كان من أهـل الصيام‬ ‫ُدعـ َي مـن بـاب الر َّيان‪ ،‬ومـن كان من أهـل ال َّصدقة ُدعـ َي من باب‬ ‫الصدقة‪.‬‬ ‫فقلـ ُت‪ :‬يـا رسـول اللـه‪ ،‬هـل ُيدعـى أحـد مـن تلـك الأبواب‬ ‫كلها ؟‬ ‫فقال‪ :‬نعم‪ ،‬وأرجو أن تكون منهم‪.‬‬ ‫‪ -‬يـا لهـا من ُبشـرى يـا أبا بكـر‪ ،‬أبـواب الجنـة كلها سـتنادي‬ ‫علي َك ‪.‬‬ ‫‪ -‬يا ُبني إني أسأل الله السلامة‪.‬‬ ‫‪ -‬أبو بكر يسأل الله السلامة‪ ،‬فماذا نقول نحن؟‬ ‫‪74‬‬

‫‪ -‬غفـر اللـه لنـا ولكـم‪ ،‬ونسـأله أن يتقبـل منـا مـا عملنـاه في‬ ‫سبيله ‪.‬‬ ‫‪ -‬ال ّلهم آمين‪ ،‬فهل نكمل يا خليفة رسول الله؟‬ ‫‪ -‬نكمل إن شاء الله‪.‬‬ ‫‪ -‬فحدثنـي يـا خليفـة رسـول اللـه عـن قولـك لعمـر بـن‬ ‫الخطـاب مـا كنـ ُت لأفشـ َي سـ َّر رسـول اللـه ﷺ‪.‬‬ ‫‪ -‬كانـت حفصـة بنت عمر بـن الخطـاب متزوجة مـن ُخنيس‬ ‫بـن حذافـة‪ ،‬وكان رجا ًل عابـد ًا تقيـ ًا وممـن شـهدوا مـع‬ ‫النبـي ﷺ غـزوة بدر‪ ،‬ثم مـات ُخنيـس‪ ،‬فلما انقضـ ْت ِعدة‬ ‫حفصـة‪ ،‬أراد عمـر بـن الخطـاب أن يبحـث لها عـن زو ٍج‪،‬‬ ‫فلقـ َيعثمـانبـنعفانفقـاللـه‪:‬إنشـئ َتزوجتـكحفصة‪.‬‬ ‫فقال له عثمان‪ :‬دعني أنظ ُر في أمري‪.‬‬ ‫فلقيـه عثمـان فـي اليـوم التالـي فقـال لـه‪ :‬لقـد بـدا لـي أن لا‬ ‫أتـز ّوج‪.‬‬ ‫فوج َد عم ُر في قلبه شيئ ًا على عثمان!‬ ‫ثم لقيني فقال‪ :‬يا أبا بكر إن شئ َت زوجتك حفصة‪.‬‬ ‫فسـك ُت‪ ،‬ولـم أقـل شـيئ ًا‪ .‬فـكان عمـر أوجـ َد علـ َّي ممـا على‬ ‫عثما ن !‬ ‫ثم بعد أسبوع خطبها النب ُّي ﷺ لنفسه‪ ،‬وت َّم الزواج‪.‬‬ ‫فلقيـ ُت عمـر بن الخطـاب فقلـ ُت له‪ :‬يا عمـر‪ ،‬لعلـ َك وجد َت‬ ‫عل ّي في نفسـ َك شـيئ ًا إذ لـم ُأجب َك يـوم عرض َت علـ َّي الزواج من‬ ‫‪75‬‬

‫حفصـة‪ ،‬أمـا إنـه لـم يمنعنـي إلا أني سـمع ُت رسـول اللـه ﷺ قد‬ ‫ذكرهـا لـي يريدهـا زوجة لـه‪ ،‬وما كن ُت لأفشـ َي ِسـ َّر رسـول الله‪.‬‬ ‫ولو تركهـا لتزوجتها‪.‬‬ ‫‪ -‬ألم يج ْد عمر حرج ًا في أن يبحث لابنته عن زوج؟‬ ‫‪ -‬وأيـن الحـرج فـي ذلـك يـا ُبنـي‪ ،‬لمـاذا نبحـث للولـد عن‬ ‫زوجـة صالحـة‪ ،‬ولا نبحـث للبنـت عـن زوج صالـح؟‬ ‫‪ -‬أقصـد أن العـادة جـر ْت أن يكـون ال ّشـاب هـو الخاطـب‪،‬‬ ‫فيطـرق بـاب أهـل البنـت‪ ،‬لا العكـس‬ ‫‪ -‬نعـم هكـذا جـرت العـادة‪ ،‬وهكـذا كانـت الحيـاة تسـير فـي‬ ‫المدينـة‪ ،‬ولكـن ما المانـع في أن يرى الرجل شـاب ًا تقيـ ًا ورع ًا‬ ‫يرضـاه زوجـ ًا لابنتـه فيحدثـه فـي شـأنها‪ ،‬يـا ُبنـي إن الحلال‬ ‫والعيـب لا يجتمعـان‪ ،‬ثـم ف ِّكـ ْر في الأمـر من زاويـة الأب لا‬ ‫مـن زاويتـك أنـ َت‪ ،‬رجـل لديـه ابنـة أرملـة‪ ،‬فأيهمـا خيـر أن‬ ‫يجـد لهـا زوجـ ًا صالح ًا‪ ،‬ويسـعى لإصالح دنياهـا‪ ،‬لأن هذه‬ ‫هـي ُسـنة الحيـاة‪ ،‬أو يتركها هكـذا في الـدار‪ ،‬الأمـر لا يتعلق‬ ‫بطعامهـا وشـرابها لا أحد منـا ُيزوج ابنتـه لأنه يسـتثقل النفقة‬ ‫عليهـا‪ ،‬رزق العبـاد جميعهـم على اللـه‪ ،‬ولكن الحياة ليسـت‬ ‫طعام ًا وشـراب ًا ولباسـ ًا‪ُ ،‬خلقـت المرأة للرجـل‪ ،‬و ُخلق الرجل‬ ‫للمـرأة‪ .‬فطـرة الله التـي فطرنـا عليها‪.‬‬ ‫‪ -‬فهل ترى هذا مقبولاً في المطلقة والأرملة فقط؟‬ ‫‪ -‬لا أبـد ًا‪ ،‬ومـا المانـع أن يسـعى الأب لتزويـج ابنتـه البكـر‬ ‫أيضـ ًا‪ ،‬أن يراهـا فـي كنـف رجـل يرعاهـا ويحنو عليهـا‪ ،‬يا‬ ‫‪76‬‬

‫ُبنـي الأب لا يسـ ُّد مـكان الـزوج‪ ،‬والـزوج لا يسـ ُّد مـكان‬ ‫الأب‪ ،‬تمامـ ًا كمـا أن الأم لا تسـ ُّد مكان الزوجـة‪ ،‬والزوجة‬ ‫لا تسـ ُّد مـكان الأم‪.‬‬ ‫‪ -‬حسـن ًا فهمـ ُت‪ ،‬ولكن ما منعـ َك حين عر َض عليـ َك الزواج‬ ‫مـن حفصة أن تخبـره أن النبي ﷺ أرادها لنفسـه؟‬ ‫‪ -‬يـا ُبنـي إن المجالـس بالأمانـات‪ ،‬وقد أفضى إلـ َّي النب ُّي ﷺ‬ ‫بسـ ٍّر بيني وبينه‪ ،‬فيكف أكشـ ُف ِسـ َّره؟‬ ‫‪ -‬أقصد كي تتجنّب أن يجد عمر في قلبه شيئ ًا عليك‪.‬‬ ‫‪ -‬ومـاذا لـو غ ّيـر النبـي ﷺ رأيـه وعـد َل عـن الـزواج مـن‬ ‫حفصـة‪ ،‬ألـن يتسـاءل عمـر مـا الـذي حـدث‪ ،‬وقـد يدخل‬ ‫الشـيطان فـي الأمـر فيحـ ِّرش بيـن المؤمنيـن‪ ،‬ويعتقد عمر‬ ‫أن النبـ َّي ﷺ قـد سـم َع شـيئ ًا عـن ابنتـه ‪.‬‬ ‫‪ -‬كلامك صحيح يا خليفة رسول الله‪.‬‬ ‫‪ -‬لهذا تريث ُت‪ ،‬وعندما تم الزواج شرح ُت موقفي لعمر‪.‬‬ ‫‪ -‬فنع َم ما فعل َت‪.‬‬ ‫‪ -‬بـارك اللـه بـ َك يـا ُبنـي‪ ،‬فهل عنـدك شـيء بعد تسـألني عنه‬ ‫أم انتهينا؟‬ ‫‪ -‬لا لم ننت ِه بعد‪ ،‬ما زال في جعبتي الكثير!‬ ‫‪ -‬ف ُق ْل إذ ًا‪.‬‬ ‫‪ -‬ما خبر الطعام الذي أحضره غلام َك ل َك‪ ،‬فتقيأ َت بعد؟‬ ‫‪77‬‬

‫‪ -‬كان لـي غالم يعمـل عنـدي‪ ،‬وكان مـن عادتـي إذا جاء لي‬ ‫بطعـام مـن غيـر مالـي سـألته عـن مصـدره‪ ،‬وفـي يـوم من‬ ‫الأيـام جـاء لـي بطعـا ٍم فأكلـ ُت‪ ،‬فقـال لـي‪ :‬كنـ َت تسـألني‬ ‫دومـ ًا عـن الطعـام مـن أين أتيـ َت به ومـا أراك سـألتني هذه‬ ‫ا لمر ة !‬ ‫فقل ُت له‪ :‬فمن أين أحضر َت هذا الطعام؟‬ ‫فقـال‪ :‬كنـ ُت قـد تكهنـ ُت لرجـ ٍل مـن الجاهليـة‪ ،‬ومـا أحسـ ُن‬ ‫الكهانـة إلا أنـي خدعتـه‪ ،‬فلقينـي فأعطانـي هـذا الطعـام‪.‬‬ ‫فأدخل ُت يدي في فمي أريد أن أتقيأ فلم أقدر‪.‬‬ ‫فقالوا‪ :‬لا تخرج إلا بالماء‪.‬‬ ‫فجعل ُت أشرب الماء‪ ،‬وأضع يدي في فمي وأتقيأ‪.‬‬ ‫فقالوا‪ :‬قد أكثر َت على نفسك‪.‬‬ ‫فقلـ ُت‪ :‬واللـ ِه لـو لـم تخـرج إلا بطلـوع روحـي لأخرجتهـا‪،‬‬ ‫فإنـي سـمعت النبـي ﷺ يقـول‪ :‬أ ّيمـا لحـم نب َت مـن حـرا ٍم فالنار‬ ‫أولـى به‪.‬‬ ‫‪ -‬ولكن َك لم تكن تعرف‪.‬‬ ‫‪ -‬قد عرف ُت‪.‬‬ ‫‪ -‬أقصـ ُد أنـه ليـس ذنبـ َك‪ ،‬وقـد اعتـد َت أن تسـأ َل فنسـي َت‬ ‫هـذه المـرة‪ ،‬أ ّمـا كان يكفـي أن تسـتغفر‪ ،‬فلسـ َت صاحـب‬ ‫الكهانـة؟‬ ‫‪ -‬لسـ ُت صاحـب الكهانـة نعـم‪ ،‬ولكنـي صاحـب بطنـي وما‬ ‫كان لبطـن أبـي بكـر أن يدخلـه شـيء مـن حرام‪.‬‬ ‫‪78‬‬

‫‪ -‬بهذا الورع سبق َت الناس يا أبا بكر‪.‬‬ ‫‪ -‬يا ُبني ودد ُت لو خرج ُت من الدنيا كفاف ًا لا لي ولا عل َّي‪.‬‬ ‫‪ -‬خرجـ َت منها لـك أجر إسالمك‪ ،‬وجهادك‪ ،‬وإفناء نفسـك‬ ‫ومالـك لهـذا الدين‪ ،‬فأسـأل اللـه أن يتق ّبل منك‪.‬‬ ‫‪ -‬بـارك اللـه بـك يـا ُبنـي‪ ،‬ومـا أحـ ُّب المديـح‪ ،‬فهـل عنـد َك‬ ‫شـيء بعـد تسـأل عنـه؟‬ ‫‪ -‬واللـ ِه إنـك لأهـل للمديـح‪ ،‬ولكـن كمـا تشـاء‪ ،‬سأمسـ ُك‬ ‫لسـانيهـذهالمـرة‪.‬وبالفعـلمـازالعنـديمـاأسـألعنـه‪.‬‬ ‫‪ -‬فعن أي شيء تريد أن تسأل؟‬ ‫‪ -‬عن قول النبي ﷺ‪ :‬فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟‬ ‫‪ -‬جـر ْت بينـي وبيـن عمـر بن الخطـاب محـاورة‪ ،‬فقـام عمر‬ ‫غاضبـ ًا‪ ،‬فلحقتـه أسـأل أن يسـامحني ويسـتغفر لـي‪ ،‬فأبى‪،‬‬ ‫حتـى أنـه أغلـ َق بابه فـي وجهي‪.‬‬ ‫فأتيـ ُت إلـى النبـي ﷺ لأح ّدثه بما جـرى بيني وبيـن عمر‪ ،‬وقد‬ ‫بـدا علـى وجهي أثـر الانزعـاج‪ ،‬فعرف النبـ ُّي ﷺ ذلك بفراسـته‪،‬‬ ‫فقـال لمـن حولـه قبـل أن أتكلـم‪ :‬أمـا صاحبكـم فقـد غامـ َر‪/‬‬ ‫خا ص َم ‪.‬‬ ‫فسـ َّلمت‪ ،‬وجلسـ ُت‪ ،‬وأخبر ُت النب َّي ﷺ بالـذي كان بيني وبين‬ ‫عمـر‪ ،‬وكيف طلب ُت منه أن يسـامحني‪ ،‬ويسـتغفر لي فرفض‪.‬‬ ‫‪79‬‬

‫فقال لي النبي ﷺ‪ :‬يغفر الله لك يا أبا بكر‪.‬‬ ‫‪ -‬وما الذي حدث بعد ذلك؟‬ ‫‪ -‬نـد َم عمـر بـن الخطـاب على مـا كان بينـي وبينـه‪ ،‬فقصدني‬ ‫فـي بيتـي ليعتذر إل َّي فلـم يجدني‪ ،‬فأتـى مجل َس النبي ﷺ‪ ،‬فسـ َّل َم‬ ‫وجلـ َس‪ ،‬والنبـ ُّي ﷺ تبـدو عليـه علامـات الغضب‪ ،‬فخشـي ُت أن‬ ‫يقـول شـيئ ًا لعمـر ُيحزنه‪ ،‬فجثـو ُت على ُركبتـ َّي وقل ُت‪ :‬يا رسـول‬ ‫اللـه‪ ،‬واللـ ِه أنا كنـ ُت أظلـم‪ /‬أي أن الحق مـع عمر‪.‬‬ ‫‪ -‬فقـال النبـ ُّي ﷺ‪ :‬إ َّن اللـه بعثنـي إليكـم فقلتم كذبـ َت‪ ،‬وقال‬ ‫أبـو بك ٍر صـد َق‪ .‬وواسـاني بنفسـه ومالـه‪ ،‬فهل أنتـم تاركو‬ ‫لـي صاحبـي‪ ،‬فهـل أنتـم تاركو لـي صاحبي؟!‬ ‫‪ -‬يا لحب النب ِّي ﷺ لك يا أبا بكر إذ لم ين َس فضل َك‪.‬‬ ‫‪ -‬بـل ُقـ ْل يـا لوفائـه‪ ،‬ففضله علـ َّي أكبر‪ ،‬يكفـي أن اللـه تعالى‬ ‫قـد هدانـي بـه إلـى الإسالم‪ ،‬ولكنـه يذكـر صنيعـي معـه‪،‬‬ ‫وينسـى صنيعـه معـي‪ ،‬وهـذا هـو شـأن النبالء‪ ،‬دومـ ًا‪،‬‬ ‫يذكـرون معـروف النـاس معهـم‪ ،‬ويتحينـون الفـرص‬ ‫لسـداده‪ ،‬وينسـون معروفهـم مـع الآخريـن‪ ،‬ولا ينتظـرون‬ ‫عوضـ ًا ولا سـداد ًا‪ ،‬وقـد كان النبـ ُّي ﷺ سـيد النبالء‪.‬‬ ‫‪ -‬فعلى أي شيء كان الخصام بينك وبين عمر؟‬ ‫‪ -‬يـا ُبنـي ليـس المهـم علـى أي شـيء كان الخالف‪َ ،‬سـ ِّمه‬ ‫خلافـ ًا لا خصامـ ًا‪ ،‬النـاس عقـول وآراء‪ ،‬وكل واحـد يـرى‬ ‫الأمـور بعقلـه ورأيه‪ ،‬ويحـدث أن تختلف وجهـات النظر‪،‬‬ ‫بـل هي غالبـ ًا ما تختلـف‪ ،‬والناس نفسـيات وقلـوب‪ ،‬وقد‬ ‫‪80‬‬

‫يكـون المـرء متضايقـ ًا مـن أمر مـا‪ ،‬فال يتحمل كلمـة لأنه‬ ‫فـي ظـرف غير عـادي‪ ،‬بينما لو كان فـي حالتـه العادية ربما‬ ‫تق َّبل جبـالاً مـن الكلمات‪.‬‬ ‫‪ -‬صدقـ َت يـا خليفـة رسـول اللـه‪ ،‬ولكـن لمـاذا قمـ َت وراء‬ ‫عمـر تسـترضيه؟‬ ‫ولِـ َم لا أفعـل‪ ،‬أخـي وصاحبي وقد حـدث بيننا خالف‪ ،‬وهو‬ ‫أحـ َّب إل َّي مـن رأيي‪ ،‬وكسـ ُب الناس أولـى من كسـب المواقف‪،‬‬ ‫وقـد أرد ُت بذلـك أن أخبـر عمـر بن الخطـاب أنه أثيـر على قلبي‬ ‫‪ -‬فلماذا لم يقبل اعتذارك وأغل َق بابه في وجهك؟‬ ‫‪ -‬يـا ُبنـي لـكل إنسـان طبـع‪ ،‬ولـو فهمنـا طبـاع النـاس الذين‬ ‫نتعامـل معهـم لتجنبنـا الكثيـر مـن المشـاكل‪ ،‬ولفهمنـا أن‬ ‫الإنسـان إ ّنمـا فعـل هـذا لطبـع فيـه وليـس الأمـر مسـألة‬ ‫شـخصية‪ ،‬هـذا هـو طبـع عمـر‪ ،‬قـوي وحـاد‪ ،‬وردة فعلـه‬ ‫تشـبه طبعـه‪ ،‬وإنه فـي طبعه هـذا يحـ ُّب الله ورسـوله‪ ،‬نذر‬ ‫نفسـه لخدمـة ديـن اللـه‪ .‬فاسـأل اللـه أن يتقبـل مـن أخـي‬ ‫وحبيبـي عمـر بـن الخطـاب‪.‬‬ ‫‪ -‬فلمـاذا ذهبـ َت أنـ َت إلـى النبي ﷺ تخبـره بالـذي كان بينك‬ ‫وبيـن عمر؟‬ ‫‪ -‬لقـد عـ َّز علـ َّي مـا حـدث بينـي وبيـن عمر‪ ،‬فـإن لـم أذهب‬ ‫إلـى النبـي ﷺ ليكـون واسـطة خير بيننـا‪ ،‬ويحكم بمـا أراه‬ ‫اللـه‪ ،‬فإلـى مـن أذهـب‪ ،‬ثـم أليـس إذا حدث خالف بينك‬ ‫وبيـن صديـق لـك‪ ،‬وأرد َت أن ترضيـه بحثـ َت عـن صدي ٍق‬ ‫‪81‬‬

‫مشـتر ٍك بينكمـا يكـون واسـطة خير؟‬ ‫‪ -‬بلى‪.‬‬ ‫‪ -‬ولقد كان النبي ﷺ هو صديقنا المشترك‪.‬‬ ‫‪ -‬ونبيـل عمـل بـن الخطـاب أيضـ ًا يـا خليفـة رسـول اللـه‪،‬‬ ‫إذ عندمـا هـدأ‪ ،‬لـم ُيهـن عليـه أيضـ ًا مـا كان بينكمـا‪ ،‬فجاء‬ ‫إليـ َك فـي بيتـك يريـ ُد أن يصلـح الأمـر‪.‬‬ ‫‪ -‬هـذا هـو عمـر‪ ،‬الشـديد الحـازم‪ ،‬الـذي إذا زالـت عنـه‬ ‫فـورة الغضـب‪ ،‬رجـع إلـى الحـق‪ ،‬وإن فـي شـخصية عمر‬ ‫شـيء من شـخصية موسـى عليـه السالم‪ ،‬ألا تذكـر حادثة‬ ‫الأسـرى يـوم بـدر‪ ،‬كيـف أخبـره النبـي ﷺ أنـه فـي رأيـه‬ ‫كموسـى عليـه السالم‪ ،‬موسـى أيضـ ًا كان في طبعه شـيء‬ ‫مـن الحـدة‪ ،‬فحين غضب مـن بني إسـرائيل ألقـى الألواح‬ ‫التـي ُكتبـت بها التـوراة كمـا أخبرنا ربنـا في كتابـه الكريم‪.‬‬ ‫ولمـا ذهبـ ْت عنـه فـورة الغضـب كان أول ما فعلـه أن أخذ‬ ‫الألـواح‪ ،‬الإنسـان لا يمكنـه أن يتخلـص من طبعـه‪ ،‬ولكنه‬ ‫لا يجـري وراءه ولا ينسـاق لـه‪ ،‬ونبـي اللـه موسـى عليـه‬ ‫السالم غضـب للحظـة‪ ،‬ثـم أعـاده إيمانـه ونقـاء قلبـه إلى‬ ‫الشـكل الـذي يجـب أن يكـون عليه‪ ،‬وهـذا ما فعلـه عمر‪،‬‬ ‫غضبـه الأول ُيشـبه إلـى حـد بعيـد إلقـاء سـيدنا موسـى‬ ‫للألـواح‪ ،‬ومجيئـه إلـى بيتـي يحـاول إصالح مـا كان بيننا‬ ‫ُيشـبه إلـى حـد بعيـد ذهـاب فـورة الغضب عـن كليـم الله‪.‬‬ ‫‪ -‬جميل هذا الربط يا خليفة رسول الله‪.‬‬ ‫‪82‬‬

‫‪ -‬بارك الله ب َك يا ُبني‪ ،‬فهل ما زال عندك شيء تسأل عنه؟‬ ‫‪ -‬أجل ما زال عندي ما أسأل عنه‪.‬‬ ‫‪ -‬فعن أي شيء ُتريد أن تسأل هذه المرة؟‬ ‫‪ -‬عـن قصـة قولـك أدخلانـي فـي ِسـلمكما كمـا أدخلتماني‬ ‫فـي حربكما‪.‬‬ ‫‪ -‬دخلـ ُت علـى النبـ ّي ﷺ أزوره وهـو فـي بيت ابنتي عائشـة‪،‬‬ ‫وكان بينهـا وبينـه مـا يكون بيـن المرأة وزوجهـا من خلاف‬ ‫البيـوت‪ ،‬فسـمعتها ترفع صوتهـا على النبـ ِّي ﷺ‪ ،‬فغضب ُت‪،‬‬ ‫وهممـ ُت أن أضربها وقلـ ُت‪ :‬أترفعين صوت ِك على رسـول‬ ‫الله ﷺ؟!‬ ‫فحا َل النب ُّي ﷺ بيني وبينها فمنعني منها‪.‬‬ ‫فلمـا خرجـ ُت جعـل النبـ ُّي ﷺ يقـول لهـا‪ :‬ألا تريـن أنـي قـد‬ ‫حلـ ُت بينـك وبيـن الرجـل؟‬ ‫ثـم عـد ُت ودخلـ ُت عليهمـا آخـر النهار فـإذا همـا يضحكان‪.‬‬ ‫فقلـ ُت لهما‪ :‬أدخلاني في سـلمكما كما أدخلتمانـي في حربكما‪.‬‬ ‫فقالا‪ :‬قد فعلنا‪.‬‬ ‫‪ -‬خالف زوجـي فـي بيـ ِت النبـ ِّي ﷺ‪ ،‬أليـس هـذا عجيبـ ًا يا‬ ‫أبـا بكر؟‬ ‫‪ -‬وأيـن العجـب فـي هذا يـا ُبنـي‪ ،‬الأنبياء فـي نهايـة المطاف‬ ‫بشـر مـن النـاس‪ ،‬وأهلهـم كذلـك‪ ،‬ويحـدث فـي بيـوت‬ ‫الأنبيـاء مـا يحـدث فـي بيـوت الناس‪.‬‬ ‫‪83‬‬

‫الخلافـات الزوجيـة تقـع فـي كل البيـوت‪ ،‬تفرضهـا المعاملـة‬ ‫اليوميـة‪ ،‬وهمـوم الحيـاة‪ ،‬وتقلب النفس البشـرية بين طـور وآخر‪،‬‬ ‫وعندمـا ترفـع عائشـة صوتهـا علـى النبـ ّي ﷺ‪ ،‬فلأمـر لا علاقـة‬ ‫لـه بمنسـوب الإيمـان‪ ،‬ولا بمقـدار التقوى‪ ،‬إنهـا الحيـاة الزوجية‬ ‫فقـط‪ ،‬وهـي حين فعلـ ْت هذا لم تفعلـه بصفتها إحدى المسـلمات‬ ‫العاديـات‪ ،‬وإنمـا بصفتهـا زوجة‪ ،‬بمعنـى أن أي امرأة قـد تتعجب‬ ‫وتقـول‪ :‬كيف لامـرأة أن ترفع صوتهـا في وجه النبـي ﷺ‪ ،‬ولكنها‬ ‫لـو كانـت زوجتـه‪ ،‬وحصل بينهـا وبينـه ما يحصـل بيـن الأزواج‪،‬‬ ‫وفـي كل البيـوت‪ ،‬لربمـا فعلـ ْت أكثـر مما فعل ْت عائشـة‪.‬‬ ‫‪ -‬فلماذا أرد َت أن تضربها إذ ًا؟‬ ‫‪ -‬لأنه لم ي ُه ْن عل َّي أن أراها ترفع صوتها على النب ِّي ﷺ‪.‬‬ ‫‪ -‬ألم تقل أن هذا شيء طبيعي ويحدث في كل البيوت؟‬ ‫‪ -‬بلـى‪ ،‬قـد قل ُت هـذا‪ ،‬ولكـن كون الأشـياء قابلـة للحدوث‪،‬‬ ‫وهـي إن حدثـ ْت فضمن السـياق الطبيعي للحيـاة‪ ،‬وهذا لا‬ ‫يعنـي أن نرضـى بها‪ ،‬وأنـ َت إذا دخل َت بيت ابنتـك‪ ،‬ورأي َت‬ ‫خلافـ ًا بينهـا وبين زوجهـا ستسـعى لإصلاحه‪ ،‬ولـن تقول‬ ‫هـذا الأمر طبيعـي ويحدث‪.‬‬ ‫تف ُّهـم الأشـياء الطبيعيـة القابلة للحدوث شـيء‪ ،‬وعـدم العمل‬ ‫علـى إزالتهـا شـيء آخـر‪ ،‬ثـم هـذا رسـول اللـه ﷺ‪ ،‬ولا أرضـى‬ ‫أن أقـف فـي صـف ابنتـي ضـده ولـو كان الأمـر شـيئ ًا في سـياقه‬ ‫ا لطبيعي ‪.‬‬ ‫‪84‬‬

‫‪ -‬إذ ًا أن َت مع أن يتد ّخل الأهل في حياة أبنائهم الزوجية؟‬ ‫‪ -‬يـا ُبني إن ال ّتد ّخـل في حياة الأولاد الزوجيـة في كل صغيرة‬ ‫وكبيـرة‪ ،‬وإملاءعليهـم كيـف يتص ّرفـون‪ ،‬ومـاذا يفعلـون‬ ‫شـيء‪ ،‬وال ّتد ّخل فـي مواقـف معينة لإصلاح الأمور شـيء‬ ‫آ خر ‪.‬‬ ‫أنـا مـع أن نتـرك الأولاد يعيشـون حياتهـم‪ ،‬ومع عـدم التدخل‬ ‫فـي كل صغيـرة وكبيرة‪ ،‬والتعليق على الشـاردة والـواردة‪ .‬ولكني‬ ‫مـع إذا وقـع الخلاف أن يسـعى الأهل ما اسـتطاعوا ليصلحوا هذا‬ ‫الخالف بعقـل وحكمة وعـدل‪ ،‬دون تعصب أهل البنـت لابنتهم‬ ‫لدرجـة أن ينسـوا فضل صهرهـم‪ ،‬وكل مواقفه المشـ ّرفة السـابقة‬ ‫معهـم ومعهـا‪ ،‬ودون تعصـب الأهـل لابنهـم لدرجـة أن ينسـوا‬ ‫أيضـ ًا كل مواقـف ِكنَّتهم المشـ ّرفة السـابقة معهـم ومعه‪.‬‬ ‫مـا أرد ُت قولـه أن ُنم ِّيـز بيـن التدخـل الـذي ُيشـبه الوصايـة‪،‬‬ ‫وبيـن التدخـل الذي ُيشـبه الرعاية‪ ،‬فالأول مذمـوم ولا خلاف في‬ ‫ذلـك‪ ،‬والثانـي محمـود مطلوب مـا زال عقالء الأهـل يفعلونه‪.‬‬ ‫‪ -‬حسـن ًا فهمـ ُت‪ ،‬ولكن لِ َم برأيـك منع َك النبـ ُّي ﷺ أن تنتصر‬ ‫له مـن ابنتك؟‬ ‫‪ -‬لأنـه نبيـل‪ ،‬ولأن عائشـة لـم ت ُه ْن عليـه وهما فـي خلافهما‪،‬‬ ‫أراد أن يخبرهـا أنهـا غاليـة عنـده‪ ،‬وأن الخالف معهـا‬ ‫طقـس‪ ،‬سـرعان مـا يحل مـكان المطر شـمس مشـرقة‪ ،‬أما‬ ‫‪85‬‬

‫حبهـا فـي قلبـه فمنـاخ ثابـت‪ ،‬يتكـرر دوم ًا‪.‬‬ ‫‪ -‬والل ِه إ َّن هذا النب َّي لمدرسة!‬ ‫‪ -‬وهكـذا كان فـي كل مواقـف حياتـه‪ ،‬فـي فرحـه وحزنـه‬ ‫مدرسـة‪ ،‬فـي رضـاه وغضبـه مدرسـة‪ ،‬فـي كلامـه وصمته‬ ‫مدرسـة‪ ،‬فـي حركاتـه وسـكناته مدرسـة‪.‬‬ ‫‪ -‬والل ِه إن َك قل َت فصدق َت‪.‬‬ ‫‪ -‬فهل انتهينا‪ ،‬أم ما زال عند َك شيء تسأل عنه؟‬ ‫‪ -‬ما زال عندي أشياء يا خليفة رسول الله‪.‬‬ ‫‪ -‬ف ُق ْل إذ ًا‪.‬‬ ‫‪ -‬ما قصة ناف َق حنظلة؟‬ ‫‪ -‬خـر َج حنظلـة بن الربيع مـن بيته ضجر ًا‪ ،‬فلقيتـه في الطريق‪،‬‬ ‫فقلـ ُت‪ :‬كيف أنـ َت يا حنظلة؟ فقـال‪ :‬ناف َق حنظلة!‬ ‫فقل ُت‪ :‬سبحان الله‪ ،‬ما تقول؟‬ ‫فقـال‪ :‬نكـون عند النبـي ﷺ ُيذ ِّكرنـا بالجنـة والنار كأننـا نراها‬ ‫رأي العيـن‪ ،‬فـإذا خرجنـا مـن عنـده عافسـنا الأزواج والأولاد‬ ‫والضيعـات فنسـينا كثيـر ًا‪.‬‬ ‫فقل ُت‪ :‬فو الل ِه إ َّنا لنلقى مثل هذا!‬ ‫فانطلقنـا حتـى إذا أتينـا النبـ َّي ﷺ‪ ،‬فقـال لـه حنظلـة‪ :‬نافـ َق‬ ‫حنظلـة يـا رسـول اللـه‪.‬‬ ‫فقال له‪ :‬وما ذاك؟‬ ‫فقـال‪ :‬نكون عنـد َك ُتذ ِّكرنا بالجنة والنـار كأننا نراهـا رأى العين‪،‬‬ ‫فـإذا خرجنا مـن عندك عافسـنا الأزواج والضيعات فنسـينا كثير ًا‪.‬‬ ‫‪86‬‬

‫فقـال لـه النبـ ُّي ﷺ‪ :‬والـذي نفسـي بيـده لـو تدومـون على ما‬ ‫تكونـون عنـدي لصافحتكـم الملائكـة فـي الطرقـات‪ ،‬لكـن يـا‬ ‫حنظلـة سـاعة وسـاعة‪.‬‬ ‫‪ -‬فما قصد النب ُّي ﷺ بقوله ساعة وساعة؟‬ ‫‪ -‬قصـد أنـه يسـتحيل علـى المسـلم أن يبقـى علـى وتيـرة‬ ‫واحـدة مـن العبـادة‪ ،‬ثمـة حيـاة عليهـا أن تمضـي ُقدمـ ًا‪،‬‬ ‫هنـاك تحصيـل رزق‪ ،‬وزوجـة وأولاد‪ ،‬وأقـارب وأصدقـاء‬ ‫وجيـران‪ ،‬وزيـارات ومناسـبات‪ ،‬وهـذا هـو معنـى سـاعة‬ ‫وسـاعة‪.‬‬ ‫وأنها لاتعني أن تكون سـاعة لربك وسـاعة لشـيطانك‪ ،‬سـاعة‬ ‫في المسـجد وسـاعة فـي مجلس الغيبـة والنميمة‪ ،‬سـاعة تتصدق‬ ‫وسـاعة تـأكل الربا‪ ،‬سـاعة مع صحبـة صالحة وسـاعة مع صحبة‬ ‫فاسـدة‪ ،‬سـاعة على سـجادة صلات ِك وسـاعة متزينة متعطرة يشـم‬ ‫ريحـ ِك الناس!‬ ‫سـاعة وسـاعة تعنـي أن لا تكـون فـي العبـادة ولكنـك فـي‬ ‫المبـاح لا فـي الحـرام‪.‬‬ ‫‪ -‬حسن ًا فهم ُت‪.‬‬ ‫‪ -‬شرح الله صدر َك يا ُبني‪.‬‬ ‫‪ -‬اللهم آمين‪ ،‬وإياك يا خليفة رسول الله‪.‬‬ ‫‪ -‬فماذا عندك بعد؟‬ ‫‪ -‬أرد ُت أن أسـأل عـن قـول ُأسـيد بـن ُحضيـر‪ :‬مـا هـي بأول‬ ‫بركتكـم يـا آل أبـي بكر؟‬ ‫‪87‬‬

‫‪ -‬خرجنـا مـع النبـ ِّي ﷺ في بعـض أسـفاره‪ ،‬وكانـت معه من‬ ‫نسـائه ابنتي عائشـة‪ ،‬حتـى إذا كنا فـي مكان مـن الصحراء‪،‬‬ ‫انقطـع ِعق ٌد لعائشـة‪ ،‬فأوقف النب ُّي ﷺ مسـير القوم‪ ،‬وجعل‬ ‫يبحـ ُث لهـا عن عقدها‪ ،‬وجعـل النا َس يبحثـون معه‪ ،‬ولكن‬ ‫دون جـدوى‪ ،‬وقـد اقتـر َب وقت الصالة‪ ،‬وليـس معنا ماء‬ ‫للوضـوء‪ ،‬وبسـبب تأخرنـا فـي البحـث عـن ِعقـد عائشـة‬ ‫لـم يعـد بإمكاننـا أن نبلـغ المـكان الـذي فيـه مـاء لنتوضأ‪،‬‬ ‫ودخـل النبـ ُّي ﷺ خيمة عائشـة لينـام قليل ًا‪ .‬وجعـ َل النا َس‬ ‫يقولـون لـي‪ :‬ألا ترى مـا فعل ْت عائشـة بالنبـ ِّي ﷺ والناس‬ ‫معـه‪ ،‬وليسـوا فـي موضـع مـاء‪ ،‬وليـس معهـم مـاء يكفـي‬ ‫للوضـوء‪ ،‬وإنما هو للشـرب‪.‬‬ ‫فدخلـ ُت خيمـة النبـ ِّي ﷺ فـإذا هـو نائـم وواضـع رأسـه على‬ ‫فخـذ عائشـة‪ ،‬فعاتبتها بصـو ٍت منخف ٍض خشـية أن يسـتيقظ النبي‬ ‫ﷺ‪ ،‬وجعلـ ُت أطعنهـا فـي خاصرتهـا بإصبعي لشـدة ما سـمع ُت‬ ‫مـن عتـاب النـاس‪ ،‬وهـي تتحامـل علـى نفسـها كـي لا تتحـرك‬ ‫وتوقـظ النبـي ﷺ‪.‬‬ ‫‪ -‬فما الذي حد َث بعد ذلك؟‬ ‫‪ -‬بعـد وقـ ٍت قصيـ ٍر قـام النبـ ُّي ﷺ للصالة‪ ،‬وليس معنـا ما ٌء‬ ‫كمـا أخبرتـك‪ ،‬فأنـزل اللـه تعالـى آيـة التيمـم‪َ ﴿ :‬يـا َأ ُّي َهـا‬ ‫ا َّل ِذيـ َن آ َمنُـوا إِ َذا ُق ْم ُتـ ْم إِ َلـى ال َّصاَل ِة َفا ْغ ِسـ ُلوا ُو ُجو َه ُكـ ْم‬ ‫َو َأ ْي ِد َي ُكـ ْم إِ َلـى ا ْل َم َرافِـ ِق َوا ْم َسـ ُحوا بِ ُر ُءو ِسـ ُك ْم َو َأ ْر ُج َل ُكـ ْم‬ ‫‪88‬‬

‫إِ َلـى ا ْل َك ْع َب ْيـ ِن َوإِن ُكن ُت ْم ُجنُ ًبـا َفا َّط َّه ُروا َوإِن ُكن ُتـم َّم ْر َض ٰى َأ ْو‬ ‫َع َلـ ٰى َسـ َف ٍر َأ ْو َجا َء َأ َح ٌد ِّمن ُكم ِّم َن ا ْل َغا ِئ ِط َأ ْو َل َم ْسـ ُت ُم النِّ َسـا َء‬ ‫َف َلـ ْم َت ِج ُدوا َمـا ًء َف َت َي َّم ُموا َص ِعيـ ًدا َط ِّي ًبا َفا ْم َسـ ُحوا بِ ُو ُجو ِه ُك ْم‬ ‫َو َأ ْي ِدي ُكـم ِّمنْـ ُه َما ُي ِريـ ُد ال َّل ُه لِ َي ْج َعـ َل َع َل ْي ُكم ِّم ْن َحـ َر ٍج َو َٰل ِكن‬ ‫ُي ِريـ ُد لِ ُي َط ِّه َر ُكـ ْم َولِ ُيتِـ َّم نِ ْع َم َتـ ُه َع َل ْي ُكـ ْم َل َع َّل ُك ْم َت ْشـ ُك ُرو َن﴾‬ ‫فقال لي ُأسيد بن ُحضير‪ :‬ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر‪.‬‬ ‫‪ -‬فما الذي عناه بقوله هذا؟‬ ‫‪ -‬أراد أن يقـول أن رخصـة التيمـم لمـن لـم يجـد مـا ًء‪ ،‬أو‬ ‫وجـده وكان عاجـز ًا عـن اسـتخدامه‪ ،‬إنمـا نزلـ ْت بسـبب‬ ‫هـذه الحادثـة‪ ،‬فلـو تابعنا مسـيرنا لكنا قـد بلغنا المـاء‪ ،‬وما‬ ‫نزلـت آيـة التيمـم‪ ،‬ولكن ليمضـي قدر اللـه‪ ،‬ويقضـي أمر ًا‬ ‫كان مفعـولاً‪.‬‬ ‫‪ -‬والل ِه إنها لبركتكم يا آل أبي بكر‪.‬‬ ‫‪ -‬بـارك اللـه بـ ِك يـا ُبنـي‪ ،‬ولكنـي أراك لـم تنتبـه لشـيء هذه‬ ‫المـرة ولـم تسـأل عنه!‬ ‫‪ -‬وما هو يا خليفة رسول الله؟‬ ‫‪ -‬أمـا رأيـ َت كيـف أ َّخ َر النبـ ُّي ﷺ مسـير قـوم بأكملهم لأجل‬ ‫أن يبحث لعائشـة عـن عقدها؟‬ ‫‪ -‬بلى والله إنه لتصرف عجيب‪.‬‬ ‫‪ -‬أرأيـ َت كيـف كان النبـ َّي ﷺ ينتبـه لأدق التفاصيـل‪ ،‬وكيف‬ ‫يجبـر الخواطـر فـي مواقـف يظـ ّن النـاس أنهـا ليسـت‬ ‫‪89‬‬

‫موضعـ ًا لهـذا‪ ،‬ولكنـه برحمته وشـفعته مـا كان ليتـرك هذه‬ ‫الحادثـة تمـر مـرور الكـرام‪.‬‬ ‫‪ -‬صدقـ َت يـا خليفـة رسـول اللـه‪ ،‬فمـاذا عـن العقـد‪ ،‬هـل‬ ‫وجدتمـوه؟‬ ‫‪ -‬أجـل وجدنـاه‪ ،‬فبعدمـا نزلـت آية التيمـم وتيممنـا وصلينا‪،‬‬ ‫أردنـا الارتحـال‪ ،‬فحركنـا الناقـة التـي ترك ُب عليها عائشـة‬ ‫فـإذا العقـد تحتها‪.‬‬ ‫‪ -‬أسرة مباركة يا أبا بكر‪.‬‬ ‫‪ -‬بارك الله بك يا ُبني‪ ،‬فماذا عندك بعد؟‬ ‫‪ -‬أرد ُت أن أسـألك عـن حديـث جـ ِّر الثياب ُخيلاء‪ ،‬وشـهادة‬ ‫النبـ ِّي ﷺ لك؟‬ ‫‪ -‬كنـا عنـد النبـي ﷺ يومـ ًا فقـال‪ :‬مـن جـ َّر ثوبـه ُخيالء‪ ،‬لم‬ ‫ينظـر اللـ ُه إليـه يـوم القيامة‪.‬‬ ‫فقلـ ُت‪ :‬يـا رسـول اللـه‪ ،‬إ َّن أح َد ِشـ َق ْي ثوبـي يسـترخي إلا أن‬ ‫أتعاهـد ذلـك منه‪.‬‬ ‫فقال‪ :‬إن َك لس َت تصن ُع ذل َك ُخيلاء‪.‬‬ ‫‪ -‬هـذه براءة لـك من ال ِكبـر وال ُخيالء هنيئ ًا ل َك هذه الشـهادة‬ ‫مـن ال َّصـادق الأمين الـذي لا ينطق عـن الهوى‪.‬‬ ‫‪ -‬بارك الله بك يا ُبني‪.‬‬ ‫‪ -‬ولكـن أرد ُت أن استفسـر مـا علاقـة جـ ِّر الثـوب بال ُخيالء‬ ‫وال ِكبر؟‬ ‫‪90‬‬

‫‪ -‬كان مـن عـادة العرب في الجاهليـة أنه مـن أراد أن يتك َّبر أو‬ ‫يسـتعلي علـى النـاس‪ ،‬أو أن ُيظهـر ثـراءه حتى‪ ،‬جعـل ثوبه‬ ‫طويا ًل يجـ ُّر علـى الأرض‪ ،‬وقـد جـاء الإسالم بالتواضع‪،‬‬ ‫وللقضـاء علـى الاسـتعلاء وال ِكبـر فـي النفـوس‪ ،‬لمـا فيـه‬ ‫مـن ضـرر على قلـب صاحبـه‪ ،‬وضرر علـى قلـوب الناس‬ ‫لأن التعامـل مـع الثـري المتكبر ربمـا جعلهم ينظـرون إلى‬ ‫ُدنيـاه‪ ،‬ويتمنـون مـا عنده مـن المال‪.‬‬ ‫وقـد حدثنـا النبـ ُّي ﷺ يوم ًا فقـال‪ :‬بينما رج ٌل يمشـي فـي ُح َّل ٍة‬ ‫ُتعجبـه نفسـه‪ُ ،‬م َر ِّجـ ٌل ُج َّمتـه‪َ /‬شـعره‪ ،‬إذ خسـف اللـه بـه‪ ،‬فهـو‬ ‫يتجلجـل إلـى يـوم القيامة‪.‬‬ ‫‪ -‬وهـل الإسالم ضـد أن يكـون الإنسـان أنيقـ ًا فـي ثيابـه‪،‬‬ ‫مسـ ِّرح ًا َشـعره‪ ،‬واضعـ ًا عطـر ًا جميا ًل؟‬ ‫‪ -‬أبـد ًا يـا ُبنـي‪ ،‬هـذا مـن الإسالم‪ ،‬واللـه جميـل ُيحـ ُّب‬ ‫ال َجمـال‪ ،‬وإ َّن اللـه ُيحـ ُب أن يـرى أثـر نعمتـه علـى عبده‪.‬‬ ‫ولكـن الأناقـة شـيء وال ِكبـر شـيء آخـر‪.‬‬ ‫الإسالم مـع الأناقـة وضـد ال ِكبـر‪ ،‬أي ضـد أن يجعـل الرجل‬ ‫مـن مظهـره وسـيلة للاسـتعلاء على خلـق اللـه‪ ،‬الفكـرة كلها في‬ ‫أن تكـون الدنيـا في يدك لا في قلبـك‪ ،‬وأن ُيج ِّم َل الثوب جسـد َك‬ ‫لا أن ُيفسـ َد قلبك!‬ ‫‪ -‬حسن ًا فهم ُت يا خليفة رسول الله‪.‬‬ ‫‪91‬‬

‫‪ -‬فهل عند َك من شيء تسأل عنه بعد؟‬ ‫‪ -‬أجـل مـا زال عنـدي‪ ،‬فحدثنـي عـن خالف حـد َث بينـ َك‬ ‫وبيـن ربيعـة الأسـلمي علـى نخلـة كل منكمـا قـال أنهـا لـه‪.‬‬ ‫‪ -‬كان ربيعـة الأسـلمي يخـد ُم النب َّي ﷺ‪ ،‬فأعطـاه أرض ًا بجوار‬ ‫أر ٍض لـي‪ ،‬فجـاء ربيعة يومـ ًا فقال‪ :‬هـذه النخلة لي‪.‬‬ ‫فقل ُت‪ :‬لا هي لي‪.‬‬ ‫فـكان هـو يقـول لـي ما يكـون بيـن الخصـوم‪ ،‬وأنـا أقـول له‪،‬‬ ‫حتـى غضبـ ُت فقل ُت لـه كلم ًة كرهتهـا‪ ،‬ثم ندمـ ُت‪ ،‬فقل ُت لـه‪ُ :‬ق ْل‬ ‫لـي مثلها‪.‬‬ ‫فرف َض أن ير َّد عل َّي‪...‬‬ ‫فقل ُت‪ :‬لتقول َّن أو لأستعدي َّن علي َك النبي ﷺ!‬ ‫فانطلقـ ُت أريد النبـي ﷺ‪ ،‬وانطل َق ربيعة َيتبعنـي‪ ،‬فجاء جماعة‬ ‫مـن قـوم ربيعة فقالوا لـه‪ :‬رحـ َم الل ُه أبا بكر‪ ،‬بأي شـي ٍء يسـتعدي‬ ‫عليـ َك النبـ َّي ﷺ‪ ،‬وقد قال لـ َك ما قال؟‬ ‫فقـال ربيعـة‪ :‬أتـدرون مـن هـذا؟ هـذا أبو بكـر الصديـق‪ ،‬هذا‬ ‫ثانـي اثنيـن‪ ،‬وهـذا ذو شـيبة المسـلمين‪ ،‬إياكـم أن تدخلـوا فـي‬ ‫الأمـر معـي فيراكـم تنصروننـي عليـه فيغضـب فيأتي رسـول الله‬ ‫ﷺ فيغضـب لغضبـه‪ .‬فيغضـ ُب اللـه تعالـى لغضبهمـا‪ ،‬فيهلـ َك‬ ‫ر بيعة ‪.‬‬ ‫قالوا‪ :‬فما تأمرنا؟‬ ‫قال‪ :‬اِرجعوا‪ ،‬أنا أذه ُب وحدي‪.‬‬ ‫‪ -‬وما الذي حدث بعدها؟‬ ‫‪92‬‬

‫‪ -‬تبعنـي ربيعـة حتـى إذا وصلنـا عنـد النبـ ِّي ﷺ‪ ،‬سـبقني‬ ‫بالـكلام‪ ،‬وأخبـره بالـذي كان منـي‪.‬‬ ‫فقال له النبي ﷺ‪ :‬يا ربيعة‪ ،‬ما ل َك وللص ِّديق؟‬ ‫فقـال ربيعـة‪ :‬يـا رسـول اللـه تخاصمنـا فـي نخلـة‪ ،‬فقـال لـي‬ ‫كلمـ ًة كرهتهـا‪ ،‬ثـم نـد َم علـى قولـه‪ ،‬وأراد أن أقـول لـه مثلهـا‪،‬‬ ‫فأبيـ ُت‪.‬‬ ‫فقـال لـه النبـي ﷺ‪ :‬أجـل لا تـر َّد عليه‪ ،‬ولكـن قل له غفـ َر الل ُه‬ ‫لـك يا أبـا بكر‪.‬‬ ‫فقال لي‪ :‬غف َر الله ل َك يا أبا بكر‪.‬‬ ‫فمضي ُت وأنا أبكي!‬ ‫‪ -‬فلمـاذا لـم تتنـازل لـه عـن النخلـة وأن َت الـذي أنفقـ َت ك َّل‬ ‫مالـ َك فـي سـبيل الله؟‬ ‫‪ -‬يـا ُبنـي أن تكـون كثيـر الصدقـة شـيء‪ ،‬وأن يأخـذ النـاس‬ ‫مالـ َك وأنـ َت تنظـ ُر إليـه شـيء آخـر‪ ،‬ولـو سـألني ربيعـة‬ ‫النخلـة علـى أنهـا لـي لكنـ ُت تركتهـا لـه‪ ،‬ولكـن أن يقـول‬ ‫أنهـا لـه وأنـا على يقيـن أنهـا لي فقـد وجـد ُت أنه أنسـ َب‪،‬‬ ‫أن أثبـ َت حقـي فيهـا‪.‬‬ ‫‪ -‬فهل كانت الكلمة التي قلتها له بذيئة؟‬ ‫‪ -‬معـاذ اللـه‪ ،‬إنـي لـم أكـن فاحشـ ًا بذيئـ ًا فـي الجاهليـة حتى‬ ‫أكـون فـي الإسالم‪ ،‬ولكـن فـي لحظـة الغضـب قـد يقول‬ ‫الإنسـان كلامـ ًا يجـرح فيـه غيـره وإن لـم يكن هـذا الكلام‬ ‫بذ يئ ًا ‪.‬‬ ‫‪93‬‬

‫‪ -‬صدق َت‪ ،‬ولكن لماذا أرد َت منه أن ير َّد علي َك بمثلها؟‬ ‫‪ -‬لأنـي لا أحـ ُّب أن يكـون لأح ٍد عندي حـق‪ ،‬لا أري ُد أن أقف‬ ‫بيـن يدي اللـه تعالى يـوم القيامـة خصم ًا لأحد المسـلمين‬ ‫بسـبب كلمـة قلتها له‪.‬‬ ‫‪ -‬ولكـن للأمانة يا خليفة رسـول الله أعجبنـي أن ربيعة عر َف‬ ‫قـدر َك‪ ،‬ووصفـ َك بأوصـا ٍف تليـق بـ َك‪ ،‬وقد قـ َّدر مكانتك‬ ‫مـن النبي ﷺ وأنـك أثير عنـده‪ ،‬وأنه يغضـب لغضبك‪.‬‬ ‫‪ -‬أي والل ِه لقد أنزلني منزلي‪ ،‬وهذا ما زاد الطين بلة!‬ ‫‪ -‬وكيف هذا؟‬ ‫‪ -‬يـا ُبنـي حيـن ُتخطئ في حـق أحد فيـر ُّد علي َك بمثـل ما قلته‬ ‫لـه واللـ ِه أنه ليريحك‪ ،‬أمـا أن يعترف بفضلـ َك‪ ،‬دون أن ير َّد‬ ‫عليـ َك‪ ،‬فهـو عندهـا لـم يسـامح َك‪ ،‬ولـن يدعـ َك تسـامح‬ ‫نفس َك !‬ ‫‪ -‬وأعجبنـي موقـف النبـي ﷺ‪ ،‬فعلـى حبـه ل َك‪ ،‬وعلـى قوله‬ ‫لربيعـة ما لـ َك وللص ِّديـق‪ ،‬إلا أنه عندما عـر َف أن الح َّق مع‬ ‫ربيعة أرشـده لمـا فيه صالح القلوب‪.‬‬ ‫‪ -‬وهـل كنـ َت تحسـ ُب أن النب َّي ﷺ يقـ ُف مع باطـل ِض َّد ح ٍّق‬ ‫لأجـل أح ٍد مـن النـاس ولو كان أبـا بكر؟‬ ‫‪ -‬لا واللـ ِه‪ ،‬كيـف يفعـل وهـو القائـل‪ :‬لـو أن فاطمـة بنـت‬ ‫محمـد سـرق ْت لقطعـ ُت يدهـا!‬ ‫‪ -‬أحسـن َت يـا ُبني‪ ،‬فهـل انتهينا‪ ،‬أم ما زال عندك شـيء تسـأل‬ ‫عنه ؟‬ ‫‪94‬‬

‫‪ -‬بالفعل ما زال عندي ما أسأل عنه‪.‬‬ ‫‪ -‬ف َس ْل إذ ًا‪.‬‬ ‫‪ -‬حدثنـي عـن حديـث البقـرة التـي ُتكلـ ُم الناس الـذي أخبر‬ ‫النبـ ُّي ﷺ للناس؟‬ ‫‪ -‬صلـى النبـ ُّي ﷺ الفجـر‪ ،‬ثـم أقبـل علـى النـاس ُيح ِّدثهـم‬ ‫فقـال‪ :‬بينمـا رجـ ٌل يسـو ُق بقـر ًة لـه‪ ،‬إذ ركبهـا فضربهـا‪،‬‬ ‫فالتفتـ ْت إليـه البقـرة‪ ،‬فقالـ ْت‪ :‬إني لـم ُأخلق لهـذا‪ ،‬ولكني‬ ‫ُخلقـ ُت للحـرث‬ ‫فقال الناس تعجب ًا‪ :‬سبحان الله بقرة تتكلم؟‬ ‫فقال النب ُّي ﷺ‪ :‬فإني أؤم ُن به وأبو بكر وعمر!‬ ‫ثـم قال‪ :‬بينمـا رج ٌل في غنمـه إذ عدا عليه الذئب فذهب بشـا ٍة‬ ‫منهـا‪ ،‬فلحقـه حتـى أنقذهـا منـه‪ ،‬فقال لـه الذئـب‪ :‬قد اسـتنقذتها‬ ‫منـي‪ ،‬فمن لهـا يوم ال َّسـبع؟ يـوم لا راعي لهـا غيري؟‬ ‫فقال الناس تعجب ًا‪ :‬سبحان الله ذئب يتكلم؟‬ ‫فقال النب ُّي ﷺ‪ :‬إني أؤم ُن به وأبو بكر وعمر‪.‬‬ ‫‪ -‬فلماذا قال النب ُّي ﷺ‪ :‬وأبو بكر وعمر تحديد ًا؟‬ ‫‪ -‬هذا لأننا ُكنَّا غائبين!‬ ‫‪ -‬لم أفهم‪.‬‬ ‫‪ -‬أراد أن يقـول للنـاس‪ :‬لـو أ َّن أبـو بكـر وعمـر كانا جالسـين‬ ‫معنـا لص َّدقـا مـا قلته‪.‬‬ ‫‪ -‬يـا لهـا مـن شـهادة يـا أبـا بكـ ٍر لـ َك ولعمـر‪ ،‬كان يعلـ ُم أنكمـا‬ ‫تص ِّدقانـهفـيكلمـايقـولولـوكانالحديـثعجيبـ ًاعلـىالنـاس‪.‬‬ ‫‪95‬‬

‫‪ -‬وهـذا واللـ ِه حدي ٌث أحـ َّب إل َّي مما شـهدته‪ ،‬اللهـ َّم إلا قوله‬ ‫فـي الغـار‪ :‬يـا أبـا بكـر لا تحـزن إ َّن الله معنـا‪ ،‬يا أبـا بكر ما‬ ‫ظنـك باثنين اللـه ثالثهما‪.‬‬ ‫‪ -‬فهنيئ ًا ل َك يا خليفة رسول الله ‪.‬‬ ‫‪ -‬بـارك اللـه بـ َك يـا ُبنـي‪ ،‬فهـل عنـد َك مـن شـي ٍء بعد تسـأل‬ ‫عنه ؟‬ ‫‪ -‬سؤال أخير في هذا المجال‪ ،‬واعذر إطالتي علي َك‪.‬‬ ‫‪ -‬لا علي َك يا ُبني‪ ،‬فعن أي شي ٍء أرد َت أن تسأل؟‬ ‫‪ -‬عـن سـؤال عمـرو بن العـاص للنبـي ﷺ‪ :‬أي النـاس أح ُّب‬ ‫إ ليك ‪.‬‬ ‫‪ -‬بعـ َث النبـ ُّي ﷺ عمـرو بـن العـاص أميـر ًا على غـزوة ذات‬ ‫السلاسـل‪ ،‬فعـا َد ظافـر ًا منتصر ًا بفضـل الله‪ ،‬فلمـا جاء إلى‬ ‫النبـي ﷺ‪ ،‬قـاللـه‪ :‬يـارسـول الله من أحـب النـاس إليك؟‬ ‫فقال له‪ :‬عائشة‪.‬‬ ‫فقال عمرو بن العاص‪ :‬ومن الرجال؟‬ ‫فقال النب ُّي ﷺ‪ :‬أبوها‬ ‫قال‪ :‬ثم َم ْن؟‬ ‫قال‪ :‬عمر بن الخطاب‪.‬‬ ‫‪ -‬ولماذا سأله عمرو بن العاص هذا السؤال؟‬ ‫‪ -‬يـا ُبنـي‪ ،‬كنـا نتسـابق علـى مـكان لنـا في قلـب النبـ ِّي ﷺ‪،‬‬ ‫وقـد عاد عمـرو بن العـاص منتصر ًا‪ ،‬فأراد أن ُيسـعد نفسـه‬ ‫ويغتنـم هـذه الفرصـة السـانحة‪ ،‬ليقـول لـه أنـ َت‪ .‬ولكـ َّن‬ ‫‪96‬‬

‫النبـ َّي ﷺ علـى حبـه لنا جميعـ ًا‪ ،‬إلا أنـه قال عائشـة لأنه لا‬ ‫ُيحابـي ولـو كان عمرو بن العـاص صاحب النصـر المظ ّفر‬ ‫بفضـل الل ِه‪.‬‬ ‫‪ -‬ولكنه قال ومن الرجال أبوها‪.‬‬ ‫‪ -‬أجل يا ُبني لقد قال‪.‬‬ ‫‪ -‬فهنيئ ًا ل َك هذه المكانة في قلب النب ِّي ﷺ‪.‬‬ ‫‪ -‬بـار َك اللـه ب َك يـا ُبني‪ ،‬وكل المسـلمين لهم فـي قلبه محبة‪،‬‬ ‫فقـد خـر َج يومـ ًا إلـى المقبـرة‪ ،‬فقـال‪ :‬السالم عليكـم دار‬ ‫قـوم مؤمنيـن‪ ،‬وإنا إن شـاء الله بكـم لاحقـون‪ ،‬وود ُت أني‬ ‫قـد رأيـ ُت إخواننا‬ ‫فقلنا‪ :‬يا رسول الله ألسنا بإخوانك؟‬ ‫فقـال‪ :‬بـل أنتم أصحابـي‪ ،‬وإخوانـي الذي لـم يأتوا بعـد‪ ،‬وأنا‬ ‫فرطهـم علـى الحوض‪.‬‬ ‫فقلنا‪ :‬يا رسول الله كيف تعر ُف من يأتي من أمتك بعدك؟‬ ‫فقـال‪ :‬أرأيتـم لو كان لرجـ ٍل خي ٌل ُنحـر محجلة في خيـ ٍل ُد ْه ٍم‬ ‫بهم ألا يعـر ُف خيله؟‬ ‫قلنا‪ :‬بلى يا رسول الله‪.‬‬ ‫فقـال‪ :‬فإنهـم يأتـون يـوم القيامـة ُغـر ًا محجلين مـن الوضوء‪،‬‬ ‫وأنـا فرطهـم علـى الحوض‪.‬‬ ‫‪97‬‬

‫‪ -‬هـل يـأذن خليفة رسـول اللـه أن يحدثني عن ظـروف تو ّليه‬ ‫الخلافة؟‬ ‫‪ -‬تلـك قصـة طويلـة يا ُبنـي‪ ،‬بـدأت قبـل أن يبتليني اللـه بهذا‬ ‫الأمر!‬ ‫‪ -‬وهل تعتبر الخلافة ابتلا ًء؟‬ ‫‪ -‬كل حيـاة الإنسـان ابتالء يا ُبني‪ ،‬فالإنسـان فـي امتحان منذ‬ ‫لحظـة تكليفـه حتـى لحظة موته‪ .‬واللـه ينظ ُر مـا يفع ُل عبده‬ ‫فـي هـذا الامتحـان‪ ،‬ينجـح أم يرسـب‪ ،‬ومخطئ مـن يظ ُّن‪،‬‬ ‫أن الابتالء بمـا يحسـبه الإنسـان شـر ًا أهـون ممـا يحسـبه‬ ‫خير ًا‪.‬‬ ‫‪ -‬وكيف ذلك يا خليفة رسول الله؟‬ ‫‪ -‬تقصـد كيـف يكون الإنسـان طـوال عمـره في امتحـان؟ أم‬ ‫عـن أن الابتالء بمـا يحسـبه شـر ًا أهـون مـن الابتالء بمـا‬ ‫يحسـبه خير ًا؟‬ ‫‪ -‬كلاهما‪.‬‬ ‫‪ -‬حسـن ًا سـ ُأخبرك‪ ،‬كل لحظة مـن لحظات عمر الإنسـان هي‬ ‫امتحـان‪ ،‬عندمـا يسـي ُر فـي الطريـق فهـو فـي امتحـان هـل‬ ‫يغـ ُّض بصـره أم يطلـق لـه العنـان؟ هل يسـ ّلم علـى الناس‬ ‫‪98‬‬

‫ويبتسـم لهـم أم يسـير صلفـ ًا متكبـر ًا كأنـه لا يـرى أحـد ًا؟‬ ‫عندمـا يتـزوج هو فـي امتحـان دائم‪ ،‬هـل ُيح ِسـن إلى هذه‬ ‫المـرأة التـي سيسـأله الله عنهـا فيقـوم بحقهـا ويعينها على‬ ‫دينهـا ودنياهـا أم يظلمها ويكـون هو والدنيـا عليها؟ عندما‬ ‫يرزقـه اللـه أولاد ًا فهو في امتحـان هل يربيهم حـ َّق التربية‪،‬‬ ‫ويعلمهـم الأخالق والإسالم أم يعتقـد أن دور الأب فقط‬ ‫فـي إحضار الطعـام والشـراب واللبـاس فقط؟‬ ‫عندمـا ُيح ِّصـ ُل رزقـه فهـو فـي امتحان أيضـ ًا‪ ،‬هل يصـدق في‬ ‫بيعـه وشـرائه أم يغـش ويحلـف كذبـ ًا؟ هـل يخـد ُم مراجعيه لأن‬ ‫هـذا واجبـه الـذي يتقاضى لأجلـه راتبه أم يشـ ُّق علـى الناس ولا‬ ‫ُييسـر أمورهم؟‬ ‫عندمـا تكـون لـه عائلـة فهو فـي امتحـان‪ ،‬هل يبـر أبويـه‪ ،‬هل‬ ‫يصـل رحمـه‪ ،‬هـل يحسـن إلـى إخوتـه أم ُيض ُّيع هـذا كله؟‬ ‫عندمـا يكـون لـه بيـت‪ ،‬فقـد صـار لديـه جيـران فكيـف هـو مـع‬ ‫جيرانـه‪ ،‬جـار مأمـون الجانـب‪ ،‬حسـن الأخالق‪ ،‬يطمئن النـاس له‪،‬‬ ‫ويأمنونـه على دمائهم وأموالهـم وأعراضهم أم يندمـون على اللحظة‬ ‫التـي جاورهـم فيهـا ويتمنـون أنهـا مـا كانـت ولا رأوه ولا رآهم؟‬ ‫عندمـا يـأوي إلـى فراشـه ليا ًل فهو فـي امتحـان‪ ،‬هل نـوى أن‬ ‫ينـام ليا ًل طويا ًل ولا يهمـه فاتتـه صلاتـه أم أدركهـا‪ ،‬أم يحتـاط‬ ‫ليسـتيقظ لصالة الفجـر؟‬ ‫‪99‬‬

‫هكذا هي الدنيا يا ُبني امتحان دائم!‬ ‫‪ -‬حسـن ًا فهمـ ُت‪ ،‬فكيـف يكـون الابتلاء بما يحسـبه الإنسـان‬ ‫شـر ًا أهـون مـن الابتلاء بمـا يحسـبه خير ًا؟‬ ‫‪ -‬المصائـب تكسـ ُر النـاس يا ُبنـي‪ ،‬وترقـق قلوبهـم‪ ،‬وعندما‬ ‫ينك ِسـ ُر الإنسـان ويـر ّق قلبـه تجـده بفطرتـه يلجأ إلـى الله‬ ‫تعالـى‪ُ ،‬انظـ ْر إلـى المرضـى كيـف لا يكفون عـن الالتجاء‬ ‫إلـى الله سـبحانه‪ ،‬وكيف لا يتوقفون عـن الدعاء والتضرع‪،‬‬ ‫ُانظـ ْر إلـى الفقـراء كيـف يسـألون اللـه السـتر والبركـة في‬ ‫الـرزق‪ ،‬فتجـد قلوبهم لينـة‪ ،‬وأخلاقهم سـمحة‪ُ ،‬انظـ ْر إلى‬ ‫الخائفيـن فـي زمـن الويالت والحـروب كيـف اعتصموا‬ ‫باللـه وأناخـوا مطاياهم ببابه يسـألونه الأمن والنجـاة‪ ،‬قلما‬ ‫ُيبتلـى الإنسـان بالشـر ولا ينجح في الامتحـان‪ ،‬أما الابتلاء‬ ‫بالخيـر فيجعـل الإنسـان ينسـى ويطغـى‪ ،‬وقد تجـد الغني‬ ‫الشـاكر‪ ،‬ولكـن قلـة الشـكر فـي الأغنيـاء أكثـر‪ ،‬تجدهـم‬ ‫يتكبـرون‪ ،‬ويحسـبون أن مـا عندهـم قد حصلـوه بجهدهم‬ ‫وشـطارتهم‪ ،‬تمامـ ًا كمـا قـال قـارون متباهيـ ًا بمالـه «‪ ‬إِ َّن َمـا‬ ‫ُأوتِي ُتـ ُه َع َلـ ٰى ِع ْلـ ٍم ِعن ِدي»!‬ ‫ُانظـ ْر إلـى قلوب الأصحـاء وقارنهـا بقلوب المرضـى تجد أن‬ ‫قلـوب المرضـى أرق‪ ،‬ذلـك أن الإنسـان فـي أوج صحتـه وقوتـه‬ ‫يعتقـ ُد أن الصحـة والقـوة هما حقـه‪ ،‬بينمـا المريض الذي ُسـلب‬ ‫القـوة والصحـة تجـده أقرب إلـى القوي سـبحانه‪.‬‬ ‫‪100‬‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook