Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore جدلية الانا و الذات فى ثلاثية #سمير_عبد_الباقي

جدلية الانا و الذات فى ثلاثية #سمير_عبد_الباقي

Published by ashrafsamir222, 2020-03-20 18:21:39

Description: جدلية الانا و الذات فى ثلاثية #سمير_عبد_الباقي

Keywords: جدلية الانا و الذات فى ثلاثية #سمير_عبد_الباقي

Search

Read the Text Version

‫‪51‬‬ ‫والحساس بالذنب وارتكاب الجريمة له مبر ارته أمام القارىء‪ ،‬لكن الكاتب حين يعود للواقع يجد الجميع‬ ‫يغيرون من قناعاتهم ويتنازلون عن أشياء حميمية مثل بيت الهناءة الولى بدافع من النانية‪ ،‬أو لتغير الظروف‬ ‫التى تجعل الق اررت شوهاء متناقضة‬ ‫\"وه ا ه و وق د غمرن ى ش عور ج اد بالجريم ة ‪ ،‬ي دفعنى إل ى الموافق ة عل ى بي ع ال بيت بي ت الحلم‬ ‫والطفولة والمرح‪\".‬‬ ‫إن التمس ك ب البيت كرم ز لزم ن جمي ل ق ديم يش به تش كك الك اتب ف ى مواق ف الرف اق اليس اريين‪ ،‬وه و ل‬ ‫يبرئ نفسه من النانية وبيع القضية فى نوع من جلد الذات يستمر على مدار ثلثيته‪ ،‬لكنه يسوق لنا ولنفسه‬ ‫مبر ارت التخلى عن البيت‪ :‬لقد صار البيت يمثل مشكلة حقيقية لخيه هشام‪:‬‬ ‫والبيت أصبح عبئا عليه دوننا فقد كان مضط ارً أن يعود للبلد كل مدة‪ ،‬ي ارج ع الموت ور ويت ابع مش اكل‬ ‫الرض ‪ .‬وازداد عبء البيت مع الي ام‪ ،‬فالس قف ب دأ ينه ار وأص بح الم بيت في ه خط ار أو م ثيًار للخ وف خاص ة‬ ‫لدى البنات‪ ،‬و ازد من عبئه مشاكل زوجته وبناته مع الجي ارن وأبنائهم بعد الهجرة إلى المدين ة وممارس ة الحي اة‬ ‫الحضرية‪.‬‬ ‫هكذا نلحظ أن استدعاء المكان المنزل مر بثلث م ارحل‪ :‬الولى هى الحديث عن بيت الجد كبيت‬ ‫الهناءة والطفولة‪ ،‬ثم الحديث عن البيت بعد تعديلت الب لستقبال الم‪ ،‬وأخي اًر البيت بعد الخروج من السجن‪.‬‬ ‫وقد حمل هذا المكان دللت مختلفة تبعاً لرؤى الشخصية والحالة النفسية التي تمر بها‪ ،‬وتنوع الزمنة الذاتية‬ ‫فالحساس بالمكان يتبدل تبعاً لتلك الحالة التي ل تعرف الثبات‪ .‬لكنه يشكل بكل تأكيد أهم الفضاءات ال تى يدور‬ ‫حولها نص \"موال الصبا فى المشيب\"‬ ‫أما فى \"ولهم يحزنون\" فالبيوت تختلف‪ ،‬والبيت ليس دائماً بهذه الحميمية‪ ،‬فالفقر والقهر يجعلن البيت‬ ‫مكان اً ملعون اً تس كنه الش باح‪ ،‬وأرواح المض طهدين‪ ،‬فوص ف بي ت \"ف رج ال\" ض حية الفق ر والظل م‪ ،‬يجع ل مص ير‬ ‫البيت غير منفصل عن مصير ساكنه‪ ،‬فلنرى أشباح بيت الضحية‪:‬‬ ‫\" اختبات أشباح وعفاريت فرج ال عن دما أرت الش نقيط قادم ا م ن بعي د‪ ...‬ول و أن ه التف ت لوهل ة قب ل‬ ‫خروجه من باب الدار لشاهد زمرة من الشباح تتابعه متلصصة من كل الرك ان المظلم ة‪ ،‬تلص ص م ن يخش ى‬ ‫إغض اب ف رج ال ال تى ح ذرتهم حي ن أرت ه أن يظه روا ل ه‪..‬لكنه عن دما اختف ى ع ن األنظ ار وص ار بعي دا ع ن‬ ‫متناول الصوات رقصت و ازطت وهاصت وأحاطت بفرج ال تنتظر أوامرها عما ستفعله فى هذا اليوم العصيب‪\".‬‬ ‫وعندما تذهب رتيبة بصينية طعام لفرج ال يصبح المكان أشد قسوة من السجن ‪ ،‬ويصبح التعذيب فيه‬ ‫مضاعفاً‪ ،‬إذ يمارس البيت بالضحية القادمة أشد أنواع التنكيل إن لعنة المكان واضحة‪ ،‬لكنها لعنة لها مبر ارتها ‪،‬‬ ‫فرتيبة قد شاركت فى إجهاض فرج ال وحرمانها من طفلها‪.‬‬ ‫\"ح وطت ف رج ال عليه ا ب ذ ارعين كالم دارى وأخ ذتها ف ى حض ن ك اللهب‪ ...‬لك ن أح دا ل م يج رؤ عل ى‬ ‫القت ارب من الباب المغلق ال ذى ك انت تم ور وتتص اعد خلف ه همهم ات الش باح وأص وات غامض ة تش به مض غ‬ ‫وتكسير عظام وضلوع ودقات طبول مجهولة كطبل ازر رهيب‪.‬‬

‫‪52‬‬ ‫فضاء القرية‬ ‫ف ى م وال الص با ف ى المش يب‪ :‬انته ج الك اتب منه ج تق ديم المك ان ف ى الفتتاحي ات الكلس يكية‪ ،‬فج اء الوص ف‬ ‫طوبوغ ارفيا لميت سلسيل‪ ،‬متحدثاًعن معالمها التى تغيرت الل ن بل شك ‪ ،‬وهى صورة نوان كانت ترسم الجو‬ ‫العام ومكان الحداث‪ ،‬إل أن الوصف جاء جغ ارفيا بعين باردة غير مندهشة‪ ،‬أو قادرة على اثارة الدهشة‪ ،‬لكن‬ ‫الكاتب ي ارها ضرورية لرسم ديكور وخلفية الحداث‪ .‬تأتى محاولة اثارة الدهشة وأسطرة الواقع بالحديث عن أصول‬ ‫القرية وسبب تسميتها حيث يختلط الواقع بالخيال‪ ،‬ويمتزج فى عقل الطفل بحكايات خالته‪ .‬المكان هنا له علقة‬ ‫بالجن والعفاريت وتاريخ الف ارعنة والمماليك وحكايات الدب الشعبى‪ .‬هنا يصبح الوصف ممتعاً‪ ،‬ومرجع المتاع‬ ‫فيه أن المكان مؤنسن بحكايات ساكنيه‪ ،‬فكل مكان له علقة بشخصية ما‪ ،‬مثل \"زهزهان\" الجنية \"فهى من سللة‬ ‫الذين تزوجوا جنيات البحيرة\" أو بشخصية الخالة المكشوف عنها الحجاب ذات القد ارت السحرية والم ازيا الخفية‪،‬‬ ‫والش يخة \"نعيم ة\" العمي اء \"التى ترى عز ارئيل فتبصره حي ن يح وم ح ول القري ة ف ى نص اص الي الى ليقب ض أرواح‬ ‫العذارى\"‪.‬‬ ‫فى القرية نرى الس ارية‪ ،‬ذلك المكان العجائبى‪ ،‬سن اره فى النص وهو فى طور ازدهاره مرتين مرة بعيون سمير‬ ‫الطف ل ف ى زي ارة عائلي ة \" أثن اء الح رب المش تعلة بي ن النجلي ز واللم ان ف وق أرض وس ماء مص ر\" حي ث يب دو‬ ‫المكان ذكورياً وعدائياً بعض الشىء ‪ ،‬إذ يستقبله حارس عجوز‪:‬‬ ‫\"فتح لنا رجل مسن عتيق غامض ظهر فجاة أم امى ف أفزعنى ك أنه ش بح خ ارج للت و م ن قمق م اح دى‬ ‫حكايات ألف ليلة‪ ،‬فهذا البستان المسكون بالجنيات والحوريات كان دائماًاً مركز تص و ارتى ع ن جن اين ح واديت‬ ‫خالتى ‪ ،‬عمامته المعقدة الكالحة المتربة ‪ ،‬وث وبه الب الى المعق ود ح ول وس طه كاش فاًاً ع ن س اقى عن زة جرب اء‬ ‫بالضافة إلى لحيته الطويلة الرمادية التى تؤطر فى غموض وجهاًاً جافا تبرق في ه عين ان ثعلبيت ان ‪ ،‬س مرتنى‬ ‫هيئته على التو حين فاجأتنى تسألنى بصوت صاعد من جب عميق عما أريد\"‬ ‫ومرة أخرى بصحبة صبية من سنه تقريباًاً‪ ،‬وهى ابنة أصحاب المكان‪ ،‬ورغم أن البنت فتاة عادية‪ ،‬لم‬ ‫يصفها النص بالجمال إل أن الحضور النثوى فى أعمال عبد الباقى يضفى دائماً جمالً على وحشة المكان أو‬ ‫يضيف جمالً إلى جماله‪:‬‬ ‫\" ووج دتنى معه ا ف ى الجنين ة الغامض ة الغني ة الظلل‪ ،‬الرطب ة‪ .‬تس رى بي ن أغص ان أش جارها الغض ة‬ ‫الثرية أنفاس جنيات غامضة تهمس بنداءات مثيرة وتتدلى منها عناقيد من ثم ار ش هية أع رف بعض ها وأخ رى‬ ‫ل أعرفها تكاد تنفجر عصائرها ممزقة بشرتها الشفافة‪ .‬وثمة أصوات طي ور أس طورية متخم ة وحش ارت لتك ف‬ ‫عن الطنين والثرثرة ‪ ،‬تطير فى بطء منتفخة من الشبع ‪ ،‬نهمة عدوانية‪ ،‬سك ارنة بعسل الفاكهة الناضجة‪ .‬تؤك د‬ ‫لى أن هذه الجنينة هى البستان الذى كان منذ ب دء الخليق ة مي داناًاً لك ل الل ح داث ال تى ج رت ف ى ك ل بس اتين‬ ‫حواديت خالتى السيدة من أول )يامقص قص طرف لسانه( إلى جنيات الشاطر جاهنش اه اللئ ى رآه ن طي و ارًاً‬ ‫يخلعن ثياب الريش ليصبحن حوريات ارئعات‪ .‬خاض من أج ل اح داهن اله ول ف ى بس تان المل ك س ليمان ال ذى‬ ‫يحرسه عم عثمان الذى يعرف لغات الطير والعفاريت‪.‬‬

‫‪53‬‬ ‫وس مير عب د الب اقى حريص عل ى تتب ع تاري خ الم اكن وزيارته ا م رة بع د م رة لرص د تغي ارته ا وتحولته ا‪،‬‬ ‫والرواية بصفة عامة تنحو نحو الفقد والنقصان‪ ،‬والزمن له تأثير سلبى فهو ليبدل القبح جمالً‪ ،‬بل على النقيض‬ ‫نرى مساحات الجمال تتقلص شيئاً فشيئاً فلنلحظ تبدل المكان )الس ارية( بعد مرور سنوات‪:‬‬ ‫\"ل م تع د ف ى هيبته ا القديم ة ال تى أس رتنى م ن قب ل ك انت أو ارق الش جر المهم ل ت ت اركم ح ول الج د ارن‬ ‫وعلى السلم الرخامى الذى انتزعت منه الن درجتان على القل‪.‬‬ ‫الج د ارن كش فت ع ن الط وب الحم ر ال ذى ب دا مرصوص ا عل ى الف ارغ‪ .‬وتح ولت المون ة إل ى غب ار‬ ‫‪..‬الرطوبة اكلت البياض ‪ ،‬وتساقط البهاء الذى كان يغلف الجد ارن‬ ‫الجنينة التى كانت ثرية الظلل والثمر ص ارت أش جا ار ج رداء تثم ر قطع ا قديم ة م ن القم اش وال ورق‬ ‫‪،‬ترفرف ك اريات جيش مهزوم‪ ،‬وأو ارق متغضنة جافة وقطع من خشب بالى ‪ ،‬وحطب واعش اش زن ابير ‪ .‬هرب ت‬ ‫الطيور إلى رياض اخرى ‪ ،‬لم تجدبها الخلفات ويتحدث فيها البشر العاديون أحاديث ودية‪.‬‬ ‫ك انت الس ارية تب دو خالي ة ‪ .‬تطي ر الطي ور ع بر ف ارغه ا خلل النواف ذ المكس ورة والمخلوع ة بينم ا ظ ل‬ ‫الباب الكبير مغلقا باحكام وقد عله الصدأ وفقد أكره التى كانت تلمع ‪ ،‬عدي د م ن الس حالى الخض ارء والرمادي ة‬ ‫تم رح تح ت تح ت أك وام الل و ارق المت اركم ة الجاف ة‪ ،‬ال تى أص بح م ن الص عب ا ازحته ا ف تركت لحاله ا م أوى‬ ‫لجعارين سوداء وخنافس ولبعض الثعابين المحتمل ة غي ر المرئي ة والقناف ذ المعتزل ة ‪ ،‬كن ت اح س بعش ارت م ن‬ ‫عيونها السرية ت ارقبنا فى حذر توقيا لى حركة غدؤر تصدر منا‪\".‬‬ ‫ومع عصر السادات سنرى ميت سلسيل بعد النفتاح بنظرة تشاؤمية ‪ ،‬وهذه النظرة نجدها فى العديد من‬ ‫كتابات سمير عبد الباقى حتى فى كتاباته للطفال‪ ،‬إذ يقدم دائما مرثية لمكان حميم ارتبط بسحر وخيال قديم‪،‬‬ ‫نجده فى قصة ذلك الطائر الذى يعود فى هجرته فل يجد فى القرية سوى مساحات أسمنتية بدلً من الحقول‬ ‫والشجار القديمة‪:‬‬ ‫\"ميت سلسيل لم تعد ميت سلسيلك ‪ ،‬كهرباء السد العالى أفسدت ليالى الخيال البكر وطاردت حوريات‬ ‫القم ر وجني ات الظلم ة الحاني ة فض حت س ذاجة الرعش ة المس روقة تح ت ايك ة الياس مين وب ارءة س حر أش عار‬ ‫العش ق الول ى ‪ ...‬طاردته ا محلت الل ت ارى والفي ديو واغ ارءات بورس عيد الح رة ال تى أ ازل ت بك ارة الع ذارى‪،‬‬ ‫وعلمت الفلحين فنون السمسرة والتج ارة المحرم ة‪ ،‬ومس حت بأس تيكة الحاج ة المتنامي ة ك ل ماب ذاكرة الع واجيز‬ ‫العجزة من أمثال ومواويل‪ ،‬ودفنت ف ى حم ى المسلس لت الحديث ة جث ث ح واديت الش طار ولي الى المنق د الدافئ ة‬ ‫وعطر الجدات\"‬ ‫فضاء البحر‬ ‫الح ديث ع ن البح ر ل يس تلزم بح اًر جغ ارفي اً‪ ،‬فل يقص د ب ه الك اتب‪ ،‬بح رى مص ر البح ر الحم ر أو‬ ‫المتوسط‪ ،‬وقد وردت كلمة بحر في معاجم اللغة لمعان عدة‪ ،‬منها ما د جل على الماء الكثير مل ًحا كان أو عذبا‬ ‫وهو خلف البجر‪ ،‬و ماء بحر‪ :‬ملح‪ :‬ق جل أو كثر‪ 77 .‬و في الصحاح‪ :‬ماء بحر أي ملح ‪ ،‬و أبحر‪ .‬الماء‪َ :‬ملح‪78.‬‬ ‫ابن منظور‪ ،‬محمد بن مكرم‪ :‬لسان العرب‪ ،‬بيروت‪:‬دار صادر‪ ،‬مادة)بحر(‪.‬‬ ‫‪77‬‬ ‫الجوهري‪ :‬الصحاح‪ ، ،‬تحقيق‪:‬عطار‪:‬أحمد عبد الغفور‪ ،‬ج ‪ ،2‬بيروت‪:‬دار العلم للمليين‪ ،‬مادة)بحر(‬ ‫‪78‬‬

‫‪54‬‬ ‫و في المقاييس‪ \":‬يقال للماء إذا فغلظ بعد عذوبة‪ :‬استبحر‪ ،‬و ماء بحر أي ملح \" ‪ 79‬و ازد الثعالبي‪ \":‬ل يقال للماء‬ ‫الملح أفجاج‪ ،‬إل إذا كان مع ملوحته مًار\" ‪.80‬‬ ‫كما دلت كلمة بحر في المعاجم جمي ًعا على معنى النهار العظيمة‪ ،‬قال ابن منظور‪ \":‬وقد أجمع أهل‬ ‫اللغ ة أن الي جم ه و البح ر‪ ،‬و ج اء في س ورة القصص\" فألقيه ف ي الي م\"‪ .81‬وف ى ذلك ق ال أهل التفسير‪ \" :‬ه و ني ل‬ ‫مصر حماها ال تعالى‪ 82\".‬وعند ابن فارس أي ًضا‪\":‬النهار كلها بحار\"‪ 83‬وفي الصحاح‪ \":‬كل نهر عظيم بحر‪84‬‬ ‫نخلص من ذلك أن استخدام الكاتب مفردا ٍت مثل بحر النيل أو البحر الصغير وهو مجرد ترعة كبيرة‪،‬‬ ‫لم يجاف الصواب‪ ،‬لكننا سنتوقف عند البحر بمفهومه الجغ ارفى الحديث‪ ،‬ففى الطريق الى السكندرية‪ ،‬يستشعر‬ ‫الول د ري ح البح ر‪ ،‬وس وف ن رى فرح ه ب البحر قب ل أن ي اره‪ ،‬وكي ف يعق د مقارن ات بي ن البح ر الحقيق ى وبي ن بح ر‬ ‫الصحاح‪:‬‬ ‫\"أخرجت أرسي من الشباك أواجه الريح رغم تح ذي ارت وال دي أل أفع ل ‪ .‬ك انت هن اك ارئح ة تك اد تك ون‬ ‫غريبة ‪.‬‬ ‫‪ -‬دي ريحة البحر ‪ ..‬إحنا على وصول ‪ .‬واليود ح يوسع صدرك ‪.‬‬ ‫الشمس كانت دافئة والنسمة تشرح القلب ‪ ..‬لبد أنه البحر ‪ ..‬البحر –‬ ‫لبد أنه أكبر من )البحر الصغير( ‪ ..‬ولذلك سميناه البحر الصغير وأكبر من )بحر النيل( كما كانت تطلق ستي‬ ‫على النيل عند )المنصورة( يقولون أننا ل نستطيع أن نرى ضفته الخرى ‪ .‬والبعض أكد لي أنه ل ض فة أخ رى‬ ‫له ‪.‬‬ ‫وعندما يقف فعلياً أمام البحر ليجد كلمات لوصفه‪ ،‬وقديماً قال النفرى \"كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة\"‬ ‫\"البحر ‪..‬‬ ‫يا له من كائن ويا له من كيان ‪..‬‬ ‫كن ت أظ ن أنن ي مل ك الحق ول الخض ر ‪ ..‬مل ك )الخم س( و)الس باخ( و)أرض الطي ر( و)الس احل( ‪..‬‬ ‫وأنن ي المس يطر عل ى مي اه )البح ر الص غير( و)المغ ذي( و)الس حارة( و)الخ اررة( و)اله َدار( ‪ .‬وح تى )ترع ة‬ ‫الج وابر( ل أطي ق البع د عنه ا نه اًار واح ًدا ‪ .‬وأنن ي أس رع م ن يعبره ا س باحة أوغط ًس ا ‪ ..‬وأنن ي المرص ود م ن‬ ‫جنيتها ذات الصابع شبه البل ح الحم ر ‪ ..‬ف إذ ب ي وبمج رد أن عبرن ا الك ورنيش ووج دتني ف ي م واجهته وج ًه ا‬ ‫ابن فارس‪ :‬مقاييس اللغة‪ .‬تحقيق‪:‬هارون‪ ،‬عبد السلم‪ ،‬بيروت‪:‬دار الفكر‪ 1979 ،‬مادة)بحر(‪.‬‬ ‫‪79‬‬ ‫الثعالبي‪:‬أبو منصور‪ ،‬فقه اللغة و أس ارر العربية‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد فتحي السيد‪ ،‬القاهرة‪:‬المكتبة التوفيقية‪ ،‬ص ‪37‬‬ ‫‪80‬‬ ‫‪81‬‬ ‫سورة القصص‪ ،‬آية ‪7‬‬ ‫‪82‬‬ ‫ابن منظور‪ :‬لسان العرب‪ ، ،‬مادة)بحر(‪.‬‬ ‫‪83‬‬ ‫ابن فارس‪ :‬مقاييس اللغة‪ ، .‬مادة)بحر(‪.‬‬ ‫‪84‬‬ ‫الجوهري‪ :‬الصحاح‪ ،‬مادة‪ ،‬مادة)بحر(‪.‬‬

‫‪55‬‬ ‫ل وجه أص ابني الخ رس أو أك اد أص اب بالش لل ‪ .‬واتس عت عين اي وفغ ر فم ي ف ي دهش ة وبله ة ‪ ..‬تعج ب له ا‬ ‫والدي الذي كان يكرس معظم وقته للحد من علقتي بالماء ‪.‬‬ ‫عجزت عن النط ق ‪ .‬ك انت الجمل ة ت دور ف ي ح روف مبع ثرة أم ام مخيل تي ول أس تطيع نطقه ا‪ ..‬كلم ا‬ ‫انتظمت بعترها هجوم الموج المباغت الذي كان يعلو الصخور ف ي إص ارر ‪ ،‬وك أنه مص ر عل ى الوص ول إلين ا ‪.‬‬ ‫ض حكوا أو قف زوا مح اولين تجن ب رذاذه ‪ ..‬أن ا ل م أفع ل ‪ ..‬ب ل تجم دت ع اجًزا ع ن نطقه ا ‪ ،‬أو نط ق أي غيره ا‬ ‫يعبر عما أحسه وأنفعل به ‪ ..‬احتاج المر لربع قرن كامل لكي ينطقها )ابني( ‪ ..‬معبًار عن دهشته حين ش اهد‬ ‫موج النيل يلطم صدر الوتوبيس النهري في أول مواجهة له مع الماء وهو لم يزل دون سن المدرسة ‪ .‬صاح‬ ‫في تلقائية ومرح ‪..‬‬ ‫‪ -‬يااااه ‪ ..‬الدنيا بتستحمى ‪\"..‬‬ ‫وقد زعم الكثير من الدارسين أن العربى القديم كان يخاف البحر وبالغوا فى تضخيم ذلك‪ ،‬مع ذلك لم‬ ‫يتوافر بين أيدينا سوى قطعة شعرية واحدة‪ ،‬تنسب إلى أع ارب جي‪ ،‬كلفه السود بن بلل المحاربي عامل هشام بن‬ ‫عبد الملك ‪ ،‬بغزو البحر‪ ،‬فلما أصابته الهوال قال‪:‬‬ ‫أقول و قد لج السفين ملج ج وقد َب فعدت بعد التقرب ص ور‬ ‫أل ليت أجري و العطا َء صفا لهم وحظي َحطوط في الزمام وكور‬ ‫وتظهر البيات كما نرى أع اربًيا ملتاعاً‪ ،‬يندم ويرتجف فرقا من ركوب البحر‪ ،‬وحالة الع ارب جي ليست‬ ‫مستغربة‪ ،‬وليست دليلً مطلقاً على خوف الشاعر العربى القديم من البحر سواء كان ذلك في العصر المو جي أم‬ ‫فى العصر الحاضر‪.‬‬ ‫وموقف سمير عبد الباقى من البحر يشبه موقف الكثير من الشع ارء العرب الذين حاروا فى تفسير موج‬ ‫البحر‪ ،‬فقد اختلفت مشاعر شع ارء العرب من البحر‪ ،‬فقد حاول الشاعر العباسى ابن خفاجة تفسير ظاهرة الموج‬ ‫فلم يفلح فى تفسير اضط اربها فقال‪:‬‬ ‫فما تني أحشاؤها تخفق‬ ‫فولجٍة تفرق أو تعشق‬ ‫من ال َصبا مزبدة تقلق‬ ‫شارفتها وهي بما هاجه‬ ‫أما ابن حمديس قد شبهه بالجمل حين يرغي ويزبد غضًبا فقال‪:‬‬ ‫من نكبٍة هوجاء فح جل وثاقها‬ ‫ومن جسم الذ في يعبق شطه‬ ‫فيها القروم وأزبدت أشداقها‬ ‫وكأنما أرت ال ِحقاق فعجعجت‬ ‫وابن حمديس هو صاحب أغرب صورة على الطلق فى شعرنا العربى‪ ،‬فقد شبه البحر بالشيطان‪ ،‬الذي يعبث‬ ‫بمصروع حين قال‪:‬‬ ‫وما تفارق منه روعة روعي‬ ‫وأخضر حصلت نفسي به ونجت‬ ‫كما تعجبث شيطان بمصروع‬ ‫أرغى وأزبد والنكباء تغضب ه‬

‫‪56‬‬ ‫على هذا تبدو مشاعر سمير عبد الباقى الشاعر من البحر‪ -‬فى خوفه وفرحه به فى آن واحد‪ -‬مبررة‪،‬‬ ‫ل على المستوى النسانى فقط ولكن على مستوى ثقافته الشعرية‪ ،‬فكما يقول دريدا كل نص هو رماد نصوص‬ ‫أخ رى‪ ،‬وبالتأكي د ش كلت تل ك الق ارءات الش عرية وج دان س مير عب د الب اقى‪ ،‬فع بر ع ن ذل ك متمثلً خ برة ش ع ارء‬ ‫آخرين‪ ،‬ولكن على المستوى النثرى‪ .‬ولن يختلف المر فى شعرنا الحديث فمحمود درويش مثل يتردد فى وصفه‬ ‫للبحر‪ ،‬أحيانا يستمد من البحر معاني القوة و البأس و الجبروت‪ ،‬حيث يتخذه رم از للثورة والعنفوان‪:‬‬ ‫لو كان لي في البحر أشرعة‬ ‫أخذت الموج و العصار في كفي‬ ‫ونومت العباب‬ ‫وأحيانا ي اره الدرويش وديعاً هادئاً‪ ،‬شديد الجمال والرقة في ابتسامة المحبوبة‪:‬‬ ‫أحلم أن أرى عينيك يوما تنعسان!‬ ‫فأرى هدوء البحر عند شروق شمس‬ ‫شفتيك‬ ‫موقف سمير عبد الباقى من النهر يذكرنا أو يكاد بموقف باشلر‪ 85‬من الماء حين أرى فى النهر وظيفة جنسية‬ ‫حي ن ق ال‪\" :‬إنه ا تمث ل للع ارء النث وي )‪ (...‬ف الم أرة ال تي تس تحم في ه س تكون بيض اء‪ ،‬ش ابة وبالت الي عاري ة‪.‬‬ ‫فضل عن ذلك يستدعي الماء الع ارء الطبيعي الذي يمكنه المحافظة على الب ارءة )‪ .(...‬الكائن الذي يخ رج م ن‬ ‫الماء‪ ،‬هو عبارة عن انعكاس يتجسد شيئا فشيئا ‪ :‬إنه صورة قبل كونه كائن ا ث م رغب ة قب ل تح وله إل ى ص ورة‪.‬‬ ‫بالنسبة لبعض أحلم اليقظة‪ ،‬كل ما ينعكس في الماء يحمل الس مة النثوي ة‪ \"86‬والم اء عن د باش لر ه و م وطن‬ ‫للحوريات الحية والميتة‪ ،‬ويعتبر بذلك المادة الحقيقية للموت شديد النثوية على هذا يبدو أن ارتباط سمير عبد‬ ‫الباقى بالماء ل ينفصل ‪-‬حسب آ ارء باشلر‪ -‬عن ارتباط شاعرنا بجسد الم أرة‪ ،‬ويكمننا الن فهم ولع سمير عبد‬ ‫الباقى بالماء ‪.‬‬ ‫\" حينم ا نرتب ط بالم اء‪ ،‬نح ب جس د الم أرة‪ ،‬وه و ينم ي الع ارء ال ذي ي وحي بك ل أش كال الص فاء‪ .‬يض في الخي ال‬ ‫المادي على الماء كل صور الست ارحة البدي ة ورمزي ات الحي اة والح ب‪ .‬يرس م‪ ،‬الم اء مث ال للم أرة المعش وقة ‪:‬‬ ‫))حيث نتوحد بها كليا‪ ،‬ونحن نغطس في الماء‪ ،‬إلى غاية الحساس بها باطنيا‪ .‬جل‪ ،‬تأويلت الحلم‪ ،‬تق ر ب أن‬ ‫أحلم الماء مرتبطة بالحب والولدة\"‪.87‬‬ ‫لكننا لو تركنا تعامل الشع ارء القدامى والمحدثين مع البحر‪ ،‬فليس المر مثي اًر للدهشة أن يكرس الكاتب‬ ‫فى كل نصوصه الحتفاء بالماء وعدم الخوف منه‪ ،‬فالماء كان صديقاً له منذ الطفولة‪ ،‬ولست أدرى لماذا يلح‬ ‫على خاطرى بحر محمود درويش مرة أخرى‪ ،‬حين يعتبر البحر موتة رومانسية‪:‬‬ ‫‪Gaston Bachelard : l'eau et les rêves, essai sur l'imagination de la matière, José corti‬‬ ‫‪85‬‬ ‫نفسه ‪49‬‬ ‫‪86‬‬ ‫‪87‬‬

‫‪57‬‬ ‫\"أيها الموت انتظرني عند باب البحر في مقهى الرومانسيين\"‬ ‫وطبيعى أن يجد الطفل والم ارهق سح اًر غير عادى فى الماء‪ .‬كان باشلر يرى فى الماء دعوة للموت ‪،‬‬ ‫لكنه أرى فيه أيضا صورة للست ارحة البدية‪ .‬تومثيلًلً للحياة والحب‪ .‬بل‪ ،‬كان يعتبره رحما وأ جما لكل الشياء‪.‬‬ ‫وقد اعتبره يونغ ‪ ،‬من الرموز الكثر قدما للنمط الصلي المتعلق بالمومة‪ .‬فالماء أمومي‪ ،‬يهدهد‪ ،‬لنه يشبع‬ ‫رغبة مستترة‪ ،‬وقد يجسد الماء‪ ،‬أيضا الم أرة المعشوقة‪ .‬وفى ذلك يقول باشلر‪:‬‬ ‫الم اء‪ ،‬طمطه ر ي دعو النف س البش رية للص فاء والنق اء‪ .‬تنبع ث من ا غري زة النق اء والطُه ر‪ ،‬ك ي تتبل ور‬ ‫رمزي ا‪ .‬والم اء‪ ،‬عنص ر وج ودي يعك س ذل ك‪ .‬وق د نظ ر ق دماء المص ريين إل ى نه ر الني ل باعتب اره منبثق ا م ن‬ ‫\"أوزيرس\"‪ .‬وفي السياق ذاته‪ ،‬نظر البعض إلى منابع الماء مثل أمكنة لقامة الحوريات واللهة الصغيرة‪88.‬‬ ‫لكننا نعود لحكايات سمير عبد الباقى مع الماء وعلقته الخاصة به فن اره يقول فى \" زمن الزنازين‪:‬‬ ‫\" والدي وأنا وزميلن لي مع والديهما ذهبنا للبحر )‪ (...‬شاهدت عدة )دلفين( تقفز في النيل متجهة‬ ‫إل ى )دمي اط( ‪ .‬ك انت مي اه البح ر يومه ا تص ل إل ى حي ث )س د فارس كور( ال ذي ع ادة م ا تب دأ إ ازلت ه اس تعداًدا‬ ‫لستقبال الفيضان التي ‪ .‬وأغ ارني حضور هؤلء الزوار البحريين إلى النيل أن أستحم ‪ .‬اعتبرت ذلك دعوة ل ي‬ ‫وعلمة‪ .‬وألح علي هذا الخاطر فتسللت خفية عنهم وألقيت نفسي في النيل‪ .‬وأنا واث ق أنن ي ل و غرق ت فس وف‬ ‫تنقذني تلك )الد ارفيل( الصديقة كما ق أرت في حكايات البحر وسمعت في حواديت خالتي ‪..‬‬ ‫وفى \"ول هم يحزنون\" سنرى البحر هذه المرة بعيون الخت آمال‪ ،‬هناك تاريخ للمنصورة لينى يتكرر فى أعمال‬ ‫س مير عب د الب اقى انه ا منص ورة الزم ن الجمي ل‪ ،‬حي ث يرب ط دائم اً بي ن البح ر وبي ن اللحظ ات الجميل ة‪ ،‬فعذوب ة‬ ‫الوصف هنا تغرينا بالصمت وتأمل تلك الصورة المشهدية ال ارئعة‪ ،‬حيث يختلط الماء بالم اركب بالناس المتابعين‬ ‫وكأن –البحر الصغير‪ -‬نموذج مصغر للبحر‪ ،‬شديد اللفة يتابعه الناس فى معرض أو سيرك‪ ،‬وسوف تصبح‬ ‫الصور السمعية هنا ذات أهمية خاصة حيث يختلط أصوات الرجال الشداء بصيحات اعجاب الطفال‪ ،‬بتهليل‬ ‫العابرين‪ ،‬بالغنيات إنه \"بحر\" صغير فعل مروض إلى أقصى حد‪.‬‬ ‫\" كانت المنصورة مدينة أخرى غير هذه المدينة التى تبدو كئيبة قاسية‪ ،‬بعد أن ردم البح ر الص غير\"‬ ‫كانت تأتى صغيرة لتشاهد دخول وخروج الم اركب عبر الهويس إلى فرع دمياط\"‬ ‫\" ك انت الم ارك ب ت دخل الح وض الك بير الهائ ل وعليه ا م اركبي ة وبض ائع ومس افرين م ن جه ة النه ر‪ ،‬ث م تغل ق‬ ‫البوابات بواسطة ت روس ض خمة ي ديرها رج ال نص ف ع اري ا ي ردون عل ى ك بيرهم بأص وات مجه دة ولكنه ا قوي ة‪،‬‬ ‫وبعد غلق البوابات‪ ،‬تفتح طاقات يندفع نحوها الم اء الع الى م ن البح ر الص غير‪ ،‬ح تى يمتلىء الح وض وتطف و‬ ‫الم اركب‪ .‬الطفال والمتفرج ون م ن الن اس ال ذين تج ذبهم أص وات البح ارة وغن اء الم اركبي ة يهلل ون عن دما يص ل‬ ‫الم اء إل ى مس توى م اء البح ر الص غير‪ .‬تفت ح البواب ة الخ رى وتتهي أ المرك ب للخ روج‪ ،‬وترتف ع أص وات البح ارة‬ ‫ون داء الري س‪ ،‬وتف رد الش رعة للس تفادة م ن ري ح الش مال‪ ،‬وتنغ رس أع واد خش بية ض خمة وطويل ة ف ى ح ائط‬ ‫الح وض لت دفع الم ارك ب‪ ،‬بينم ا تلق ى حب ال ض خمة يتلقاه ا بح ارة عل ى ال بر يلفونه ا ح ول ص دورهم وأجس ادهم‬ ‫نص ف العاري ة ليج ذبوا الم ارك ب ف ى ايق اع محس وب م ع أص وات وهمهم ات منغم ة و ارء ك بيرهم‪ .‬يختل ط غن اء‬ ‫‪ 88‬انظر جاستون باشلر وخيالت الماء‬

‫‪58‬‬ ‫البح ارة بص يحات الطف ال المرح ة‪ ،‬ويتب ادل الجمي ع التحي ة والمحب ة‪ ،‬ث م تش ق المرك ب طريقه ا خ ارج الح وض‬ ‫وسط تهليل المتفرجين والعابرين‪\"...‬‬ ‫فضاء السينما‪:‬‬ ‫تعد قاعة السينما أحد الفضاءات التي يوليها الكاتب اهتماماً خاصاً‪ ،‬فهي واحدة من التجارب التي أثرت‬ ‫حياته وشكلت منعطفاً كبي اًر في مسيرته‪ ،‬إذ نقلته من عالم لخر يمثل الول عالم الطفولة وبدايات الم ارهقة‪ ،‬ذلك‬ ‫العالم المحدود ‪ ،‬والذي كانت فيه )النا( محاصرة بالفقر والعوز‪ .‬ويمثل العالم الخر مرحلة النضج والنعتاق‪،‬‬ ‫والتحرر والنفتاح على العالم الخارجي‪ ،‬وتحقيق الذات المتعطشة للمعرفة والتجربة‪.‬‬ ‫وهذا ما يؤكده النص‪ ،‬فلنتأمل الوصف الذى يجعل من قاعة السينما مكاناً مسحو اًر عجائبياً‪ ،‬فالحقل‬ ‫السيمائى الذى يستخدمه الكاتب أرحب بكثير من أى فضاء آخر‪ ،‬إنه يمثل نقلة نوعية فى المكان؛ من الواقعى‬ ‫إل ى المتخيل‪ ،‬والحديث له علقة دائم ا بالباب‪ ،‬يمكن للسينما أن تكون المك ان البرزخ أو العتب ة‪ :‬فالبرزخ هو‬ ‫العتبة الفاصلة والواصلة بين مكان ومكان‪ ،‬إنه مكان عبور ل ينتمي إلى مكان النطلق كما ل ينتمي إلى مك ان‬ ‫الوص ول‪ .‬ول ذلك فه و لي س مكان اًاً م ا دام لي س مح ل إقام ة‪ .‬نواذا ك ان ال برزخ ف ي الق اموس ال ديني ه و المك ان‬ ‫الفاص ل بي ن الم وت والبع ث؛ الش يء ال ذي يس مح للمقيمي ن في ه ب ارح ة خاص ة‪ ،‬ف إنه ف ي ق اموس الرواي ة مك ان‬ ‫خاص‪ ،89‬وسوف نجد أن الكلمات المستخدمة تحيلنا إلى مكان مفتوح مت ارمى‪ ،‬والسينما رغم ذلك تستدعى نوعاً‬ ‫من الوجل والرهبة‪ ،‬سوف تقابلنا بتواتر كلمات مثل النور‪ ،‬والضواء‪ ،‬والقمر‪ ،‬والسموات‪ ،‬وبوابات الجنة‪..‬الخ‬ ‫ابتلتني )السكندرية( إذن بأمنيتين لم أشف منهما أبًدا ‪ ..‬هما ضعفي أمام خضم البح ر المال ح ال ذي‬ ‫ل شطوط له )‪ (...‬وشغفي المرضي ببوابات وم داخل الس ينما ف ي ك ل الم دن القادم ة ال تي زرته ا ف ي مص ر أو‬ ‫في العالم ‪ ..‬والتي ل م تس تطع أي منه ا ‪ -‬عل ى تن وع أش كالها وأحجامه ا وحرك ة الن وار اللهث ة عل ى ج د ارنها‬ ‫الملونة ‪ ،‬المتعددة السرعات والمختلفة اليقاع وزجاجها الملَون عاكس الضواء الثرية وحتى تلك القروي ة ذات‬ ‫المكانات الفقيرة ‪ -‬أن تنس يني تل ك الرجف ة المتطلع ة المبه ورة ال تي غمرتن ي به ا بواب ة س ينما )الهم ب ار( لول‬ ‫مرة لتدشن ولعي بالعوالم الساحرة السطورية التي يخطفني إليها سحر الظلم حين أع بر برزخه ا إل ى م ا وراء‬ ‫تل ك البواب ات م ن م دى ل تح ده مس افات ‪ ،‬غن ي بالض واء والن وار ‪ ،‬بالس ماوات ذات القم ار ‪ ،‬والغاب ات ذات‬ ‫الشجار والجبال المكسوة بالخضرة والمتفج رة بالن ار والم دن ال تي تخط ف البص ار ‪ ،‬والق رى الغارق ة ف ي غب ش‬ ‫السحار ؛ تجتاحها الجيوش والفرسان وقطعان الوحوش ويس عى ف ي حقوله ا الفلح ون وتض يء ليله ا قص ص‬ ‫الغرام ‪ ..‬أصبحت كل تلك البوابات منذ بوابة سينما )الهمب ار( هي بوابات الجنة بالنسبة إل َي ‪...‬‬ ‫وسوف يمارس المكان سطوته على الشخصية ويحدد مصيرها‪ ،‬وصحيح أن السينما هنا مقصود بها فن‬ ‫الس ينما بع والمه الخيالي ة ال تى يفت ح آفاقه ا الف ن‪ ،‬لك ن وص ف فض اء دور الس ينما نفس ه لحظ ة دخ ول البط ل‪،‬‬ ‫والمتفرجين‪ ،‬وديكو ارتها سوف يمهد و يتناسب مع الحالة البرزخية التى نوهنا إليها من قبل‪:‬‬ ‫أعترف أن الطفل الريفي الساذج الذي خرج من السينما يومه ا ل م يع د ه و نفس ه ال ذي دخله ا متع ثر‬ ‫الخطى فوق السجاد الحمر عابًرا المدخل والممر الغامض المؤطر بالصور الملونة والنوار الحية التي ل تك ف‬ ‫‪ 89‬انظر س يرة ج برا الذاتي ة ف ي ) البئر الولى وشارع المي ارت ( خليل شكري هياس‬

‫‪59‬‬ ‫عن الحركة ذهاًبا لواياًبا ‪ ..‬إلى الف ارغ الضخم الذي تؤدي إلي ه الب واب المتحرك ة حي ث بش ر ك ثيرون م ن رج ال‬ ‫ونس اء ملون ون يح دثون ض جي ًجا ص امتًا ‪ ..‬ويتحرك ون ك الظلل ول يكف ون ع ن الف رح تح ت إض اءة خافت ة ل‬ ‫مصدر لها إلى أن تنفرج ستائر فاخرة ثرية عن ستائر بيضاء هفهافة لتنفت ح م ع الموس يقى الص اخبة ناف ذة ل‬ ‫أفق لها على حياة أروع كثيًرا م ن الحي اة ‪ ..‬وبش ر ليس وا كالبش ر لحركته م س حر خ اص ولكلمه م وق ع عمي ق‬ ‫ليس كالكلم ‪ ،‬تحمله أجنحة الموسيقى الغامضة إلى الوجدان ‪..‬‬ ‫ويكشف هذا النص عن بعض آثار المكان على الشخصية‪ ،‬والبعاد النفسية الناجمة عنه‪ ،‬إذ يفصح‬ ‫النص عن حالة النبهار التى سيطرت عليه وستلزمه فى كل دار سينما سيدخلها‪ ،‬وقد حاول ال اروي هنا إسقاط‬ ‫الحال ة الش عورية ال تي ارودت ه م ن خلل بع ض الس تعا ارت والتش بيهات ال تي يلج أ إليه ا لعط اء ص ورة ع ن ه ذه‬ ‫اللحظ ات الحالم ة الس عيدة ‪ ،‬إذ يح دث انتق ال عل ى مس توى التخي ل لرتي اد أم اكن أخ رى دائم ا مفتوح ة يعبقه ا‬ ‫والسحر ويغشاها النور‪.‬‬ ‫فضاء القطار‪:‬‬ ‫علقة المصرى بالقطار علقة حميمة وقديمة إلى حد ما‪ ،‬فمصر صاحبة ثاني أقدم سكة حديد في‬ ‫العالم‪ ،‬بدأ العمل بها في عام ‪ 1851‬بعد الخط الذي يربط مدينتي مانشستر وليفربول بانجلت ار عام ‪ ،1830‬ومنذ‬ ‫ذلك التاريخ دخل القطار في نسيج حياتنا‪ ،‬وأصبح له دور تاريخي وحضاري‪ ،‬فهو ليس مجرد وسيلة المواصلت‬ ‫الرخص والكثر أمناً للعمال والموظفين والباعة الجائلين وطلب العلم‪ ،‬نوانما أصبح له ما يشبه الكينونة الخاصة‬ ‫في ال ذاكرة الجمعية وفى ثقافتنا الشعبية‪ ،‬وتعددت دللته ورموزه ‪ ،‬وأصبحت المثال التي تساق باسمه تشكل‬ ‫نوعا من التلخيص للكثير من أنماط الحياة الجتماعية والثقافية‪ ،‬بداية من العانس التي »فاتها القطار« والش خص‬ ‫الملتزم الواضح الذي ل يحيد عن الحق الذى نصفه أنه مثل »القطار ل يخرج عن القضبان«‪،‬‬ ‫لك ن القط ار رغ م ذل ك ك ان س لحا للتم رد والغض ب ومقاوم ة الع دوان والظل م‪ .‬فف ى ث ورة ‪ ،1919‬ق ام‬ ‫المص ريون بقط ع خط وط الس كك الحدي د لع زل المحت ل النجلي زي ومنع ه م ن مط اردتهم والوص ول إليه م‪ ،‬وأعلن وا‬ ‫بعض المدن والمحافظات جمهوريات مستقلة مثل »جمهورية زفتى«‪.‬‬ ‫وفي الفضاء الروائي يصبح القطار رم اًز للنتقال من محطة إلى محطة‪ ،‬من دار إلى دار‪ ،‬من عالم‬ ‫إل ى آخ ر‪ .‬الرحل ة والقط ار يش كلن مع ادل للحي اة م ن محط ة الميلد إل ى الم وت‪ .‬ك ل تل ك ال دللت تجع ل م ن‬ ‫القطار رم اًز ساح اًر‪ .‬ولذلك نجد كثي اًر من الكتاب قد أفادوا منه واعتبروه معادلً لرحلة الحياة نفسها‪ ،‬مثل تولستوي‬ ‫على سبيل المثال‪ .‬والقطار عند سمير عبد الباقى عاشق المغامرة والترحال منذ نعومة أظفاره يرتبط أيضا بأول‬ ‫قص ص الح ب‪ ،‬فالقط ار‪ ،‬ك ونه أح د الطق وس اليومي ة‪ ،‬يص نع علق اته الخاص ه ويخل ق مج الً اجتماعي اً لش كال‬ ‫مختلفة من التواصل‪:‬‬ ‫فى زمن الزنازين‬ ‫كانت )الهواري ة( بعي دة المن ال رغ م ص لت الق ارب ة ولكن ي كن ت أف رض عليه ا حم ايتي ونح ن ذاهب ون‬ ‫للمدرسة في القطار م ًع ا وح تى تن زل ف ي محط ة )الجمالي ة( حي ث مدرس تها ‪ ..‬ب ل وكن ت بنف وذي بص فتي اب ن‬ ‫أخت )فتوح افندي( أمنع الكمساري أن يتقاضى منه ا وم ن أخيه ا نص ف الق رش المطل وب ‪ .‬وك ان زملئ ي م ن‬

‫‪60‬‬ ‫)ميت سلسيل( يغارون عندما تبتسم لي شاكرة ‪ .‬تلك البتسامة التي ك انت تش رق م ع مطل ع الش مس فتض يء‬ ‫حولها ‪ ..‬كانت رؤيتها والقت ارب منها ازد يومي أتزود به من )الكفر الجديد( حتى )الجمالية( ‪ ..‬إن صعدت ولم‬ ‫تجد مكاًنا دبرته لها ‪ ..‬وأخذت أخاها في يدي أحميه من الزحام ‪ ،‬وأظل أحاجي عليها فار ًضا وص ايتي ال تي ل م‬ ‫ترفضها بل كانت تمنحني تلك البتسامة لعيش عليها طوال اليوم ‪ ..‬ويا فرحة قلبي ال ذي ك ان يك اد يقف ز م ن‬ ‫صدري إذا ما تصادف وتلمست يدانا على حديد سلم القطار حتى تنزل بسلم وأسلمها أخاها ‪ ..‬والحقيقة أنه ا‬ ‫ك انت تظ ل واقف ة تمنحن ي ابتس امة الن ور تل ك ح تى يختف ي القط ار وأختف ي مع ه ف ي أول مل ف بع د محط ة‬ ‫)الجمالية( ‪!..‬‬ ‫أما فى موال الصبا فى المشيب‪:‬‬ ‫فالقط ار ح تى ل و ك ان بطيئ ا متهالك ا ه و س بيل ال اروى للوص ول إل ى المنص ورة والقي ام بمغ امرة دخ ول‬ ‫السينما وتحقيق حلمه بمعايشة \"السابحات الفاتنات\" المضيئات على واجهة جنة )عدن( ‪.‬‬ ‫\"ظل ت الفك رة تط اردني وتمل عل ى تفكي ري ‪ ..‬فأخ ذت أتح رى ع ن مواعي د القط ا ارت الذاهب ة إل ى‬ ‫المنص ورة وتل ك ال تي تغادره ا إلين ا ‪ ..‬وأجم ع الق روش قر ًش ا ف وق ق رش كبخي ل أ ارري وأح رم نفس ي ح تى م ن‬ ‫الضروريات )‪(...‬حتى تجمعت لدى كل الدوات والمعلوم ات ال تي تجع ل الرحل ة لمش اهدة )الس ابحات الفاتن ات(‬ ‫ميسورة وقليلة المخاطر‪ .‬رسمت خطتي أن أسافر في أول قطار متج ه إل ى )المنص ورة( وال ذي يس تغرق حس ب‬ ‫تحرياتي ثلث ساعات ونص ف تقريًب ا ‪ ..‬فأص ل إل ى المنص ورة ف ي العاش رة والنص ف ‪ .‬ف إذا اس تغرقت المس افة‬ ‫بين المحطة وبين الس ينما نص ف س اعة أخ رى واس تغرقت حفل ة الس ينما س اعتين ونص ف فس أجد أم امي وقتًا‬ ‫مري ًح ا كافًي ا للع ودة ف ي آخ ر قط ار يغ ادر )المنص ورة( ‪ .‬ص حيح أن ه قط ار بض ائع ويس تغرق وقتًا ط ويلً إل ى‬ ‫قريتنا بحكم بطئه الشديد وكثرة المن او ارت ال تي يقض يها ف ي معظ م المحط ات ل ترك عرب اته المحمل ة إل ى الق رى‬ ‫المختلفة‪\"..‬‬ ‫والقط ار يفتح للطف ل الص غير آفاق ا جدي دة لكتش اف الع الم أيض اً‪ ،‬لن ه الداة التى تح رره م ن أوه امه‪،‬‬ ‫حيث تصبح ميت سلسيل فى وعيه عالماً أضيق مما كان يظن‪ ،‬فتتعدد القرى الصغيرة التى تشبه قريته‪ ،‬ول يجد‬ ‫إشارة واحدة لوجودها‪ ،‬والب الذى من المفترض أنه يعرف كل شىء ليعرف تلك القرى أصلً ‪ .‬سوف يستقر فى‬ ‫ذهن البطل حتى ولو لم يعلن ذلك ص ارحة أن ميت سلسيل لتكفى طموحاته‬ ‫\"ظللت منتب ًه ا من ذ ركبن ا القط ر إل ى )المنص ورة( لك ل اللفت ات ال تي نم ر عليه ا ابت داء م ن )الك ردي(‬ ‫و)موق ف المكب اتي( ح تى )مي ت حدي د( و)محل ة دمت ة( و)محل ة امش اق( ‪ ..‬أم ا بع د المنص ورة وركوبن ا قط ار‬ ‫سكك حديد المملكة المصرية فقد حيرني أن كثيًرا م ن الق رى ل م يك ن القط ار يق ف عليه ا ولي س له ا أرص فة أو‬ ‫محطات ول حتى لفتات ‪ .‬بعضها كان أبي يسميها لي ولكنني ظننت ه ف ي غ الب الح وال يؤل ف ل ي أس ماء م ن‬ ‫عن دياته ‪ .‬لن بع ض الرك اب ك ان يص حح ل ه معلوم اته ‪ .‬وب دأت أتش كك فيم ا دونت ه وف ي ج دواه ‪ .‬وب دأ المل ل‬ ‫يتسلل إل َي ‪ .‬حتى أنني نمت مخدًرا بحركة القطار وصوت عجلته الرتيب المنتظم الذي ل يتغير‪\".‬‬

‫‪61‬‬ ‫والقطار عند سمير عبد الباقى هو مكان انسانى بامتياز‪ ،‬أنه ملذ من البرد رغم البطء والفقر الشديد‬ ‫لذلك القطار الفرنساوى الصغير الحميمى‪ ،‬وبالطبع ليعرفه الكثير من ق ارء سمير عبد الباقى‪ ،‬إل أن ذلك القطار‬ ‫قد مارس تأثي اًر غريباً على مبدعى الدقهلية‪.‬‬ ‫كنا نركب للذهاب إلى المدرسة واحدة من اثنتين ‪ ..‬قطار سكة حديد وجه بح ري )الفرنس اوي( ‪ ،‬ال ذي‬ ‫عادة ما يكون قاطرة تسحب عربة أو عربتين‪ ،‬مفتوحتين من كل جانب للهواء الطل ق ‪ .‬إن أمك ن إغلق بع ض‬ ‫شبابيكها في الشتاء تكون نعمة وفضل ‪ ..‬أو يكون قاطرة طويلة‪ ،‬هي القاطرة والعربة ف ي نف س ال وقت‪ ،‬حي ث‬ ‫يجلس السائق في )كابينة( ضيقة جًدا في المقدمة ‪ ،‬بينما الموتور الضخم يمل ف ارغ الجزء الك بر م ن العرب ة‪.‬‬ ‫تتناثر حوله عدة دكك خش بية أو حديدي ة ‪ .‬ف ي الش تاء يك ون ركوبه ا نعم ة ف ي الحقيق ة ‪ ،‬إذ أن الموت ور رغ م‬ ‫ص وته المزع ج وأبخ رة الج از والزي ت المتص اعدة من ه يص بح ملًذا م ن ال برد ‪ .‬خاص ة وأن موع د تل ك العرب ة‬ ‫)المكيفة( كان الصباح الباكر جًدا ‪ ..‬قبل شروق الشمس بكثير ‪..‬‬ ‫والقط ار ه و أق دم رم وز النتق ال م ن عص ر م ا قب ل الحداث ة إل ى الحداث ة‪ ،‬لن ه يط وي الزم ن وينطل ق‪،‬‬ ‫ويرسل دخاناً يناسب عالم الصناعة الجديد‪ .‬ذلك الذى يسميه الكاتب عصر الص ارخ والنفط والزحام‬ ‫\"يتكدس الركاب في ف ارغ )الديزل العربة( حول الموتور وفوقه ‪ ..‬وكان ركوبها ف ي الش تاء كم ا قل ت ‪،‬‬ ‫نعمة حيث الزحام تلحم والحديث ص ارخ ‪ ،‬والضجيج يخترق سكون الريف الهادئ المدغمش ‪ ،‬ليعل ن أن هن اك‬ ‫ما سيقلق ارحته إلى البد ‪ ،‬مبدلً الروائح والصوات والمناظر والعلقات داه ًم ا ك ل ش يء من ذًار بعص ر الص ارخ‬ ‫وبخار الزيت والنفط والزحام ‪..‬‬ ‫أما العودة فتحمل دللت أخرى حيث يصبح القطار وسيلة العودة لدفء البيت‪ ،‬وحضن الم وطوال‬ ‫الطريق يحلم الطفل المغترب بوجبة ساخنة فى الشتاء‬ ‫\"كنت أعود من الغرب دائ ًما في قطار س كك حدي د وج ه بح ري عل ى م دى س نوات طفول تي وص باي ‪..‬‬ ‫أحياًنا كثيرة قاد ًما من )دمياط( في الحادية عشرة من عمري ‪ -‬عل ى م دد متفاوت ة ‪ ،‬لقض ي الخمي س والجمع ة‬ ‫أو الج ازة لم دة أس بوع ‪ ،‬ملهوفً ا ف ي الش تاء ل دفء الس رة‪ ،‬ولطع م محش ي الكرن ب ب الكوارع ف وق الس طح‬ ‫المشمس ‪ ..‬أو لصواني )الصيادية( والرز الحمر التي طالما وفق ت )أم س مير( مواعي دها م ع مواعي د وص ول‬ ‫البن البكري )الغريب فى مدن الغ ارب( ‪.‬‬ ‫ورغم حميمية رحلت القطار‪ ،‬إل أن رحلة واحدة تظل عالقة ب أرس الكاتب وهى رحلة الذهاب والياب‬ ‫للمنصورة‪ ،‬إنها نكبته الشخصية وفجيعة السرة فى أخيه الصغر \"سامى\" وكان الكاتب حريصا على تصوير‬ ‫رحلة الذهاب أول تمهي دا للمأس اة ال تى ستقع عل ى أرس الس رة‪ .‬ان القط ار المغل ق أش به بت ابوت ك بير س واء ف ى‬ ‫الذهاب أو فى العودة‬ ‫\" كانت ظروف الحرب تفرض على السفر قيوًدا صعبة ‪ ،‬جعلت الرحلة حل ًما غامض الملم ح ‪ ..‬ركبن ا‬ ‫عربة مغلقة ‪ ،‬جلسنا فوق أرضها على كليم أو حصيرة ‪ ،‬حتى وصلنا )المنصورة(‬

‫‪62‬‬ ‫وتصبح رحلة القطار رحلة نحو الموت‪ ،‬ويشحذ الكاتب مهارته السلوبية فى رسم القطار كم اردف للقدر‪ ،‬فهناك‬ ‫علمات منذرة‪ ،‬تمهد للقارىء أن الرحلة لن تمر على خير‪ ،‬إنه هذه المرة \" قطار الموت\" ‪ ،‬ويختار الكاتب او‬ ‫يخت ار ل ه الق در العرب ة الخي رة بم ا له ا م ن دللت‪ .‬الب اب الض خم ال ذى يبتلعه م ابتلع اً‪ ،‬ه ذا غي ر النواف ذ تل ك‬ ‫العيون التى تحدق فيهم‪ ،‬المصابيح الباهتة والضواء الزرقاء ‪ ..‬كلها ترسم لوحة جنائزية \"غامضة\"‬ ‫يخيل إلى أنها كانت عربة )سبنسة( أو على ما يبدو كانت )عربة ماشية( جديدة ‪ .‬كنا نح ن أول م ن‬ ‫ركبها ‪ ،‬أذك ر أن ه حي ن فت ح بابه ا الض خم ‪ ،‬عن دما توق ف القط ار ك انت ل ه قعقع ة ‪ ،‬جعل ت أخ تي تص رخ فزًع ا‬ ‫وكن ت نائ ًم ا فانتفض ت ‪ ..‬فاج أتني الض واء الزرق اء الباهت ة ك النجوم متن اثرة معلق ة تمل ص فحة الس ماء ‪..‬‬ ‫تضفي على الليل سحًار غام ًضا ‪ ،‬لم تك ن نجوًم ا كم ا خي ل إل ي‪ .‬ح تى ت بين ل ي أنه ا نواف ذ بي وت عالي ة تح دق‬ ‫صامتة‪ ..‬ومصابيح أعمدة باهتة‪ ..‬وكشافات عربات رك وب وف وانيس عرب ات حنط ور ‪ ،‬تختل ط وتتم ازج مبهم ة‬ ‫تهوم في ذاكرتي ‪ ،‬حتى الن مثلما تل وح به ا النعكاس ات الغامض ة المتحرك ة لض واء الش ارع ف ي النه ار وف ي‬ ‫الليل من خلل شيش النوافذ القديمة العالية ‪ .‬صانعة لوحات حية متحركة غامضة ‪ ..‬تبهت وتهمس ‪ ..‬تقتحم‬ ‫رم وش عين ي نص ف الناعس ة ‪ ،‬ف ي ت واٍز وت واٍل ‪ ،‬عل ى س قف وج د ارن الغرف ة نص ف المظلم ة ف ي ذل ك ال بيت‬ ‫العتيق ‪ ،‬المكون من أربعة أدوار في شارع )سيدي عبد القادر(‪.‬‬ ‫لك ن قط ار الع ودة يختل ف‪ ،‬إذ أن الب المكل وم يحم ل جثم ان الخ الص غير ف ى حقيب ة‪ ،‬فلي س بوس ع‬ ‫الس رة أن تم ارس طق وس حزنه ا‪ ،‬أو تعل ن أن م اتخفيه ف ى تل ك الحقيب ة ه و جث ة ولي دها‪ ،‬وم ع ذل ك فالقط ار ذو‬ ‫القلب المعدنى البارد ليشفق على تلك السرة ويتقيأ الحقيبة الغالية‪ ،‬ويتوسل الكاتب فى ب ارعة بصور بصرية فى‬ ‫معظمها‪ ،‬لكنه هذه المرة يوظف القاموس الشمى؛ فالروائح تكاد تلف السرة وكأن للموت ارئحة‪ ،‬إنها تلك ال ارئحة‬ ‫الغريبة التى تغمرهم‪ ،‬ونلحظ على مدار الرواية تلك الحرفية العالية التى تميز الوصف الحسى القوى لسمير عبد‬ ‫الباقى‪.‬‬ ‫وال دخان هن ا ثن ائى الدلل ة فه و يرس م ص ورة غائم ة ض بابية للمش هد‪ ،‬وف ى نف س ال وقت يجس د ال ارئح ة‬ ‫الخانقة التى تجثم على صدر السرة‪ .‬كما أن شخصنة الحقيبة‪/‬الكفن فى نهاية المشهد‪ ،‬تلك التى تستقر \"مجهدة\"‬ ‫فى حقل قمح‪ ،‬تلك الحقيبة ذات السر الحزين‪ ،‬تلك الهاربة من ظلمة القبر البارد إلى حقل قمح‪ ،‬تظل من الصور‬ ‫الشجنية الموجعة التى تشى بقدرة تصويرية عالية لسمير عبد الباقى حيث أن يصير الوصف فى اللحظات الفارقة‬ ‫فى نصوصه متحركاً غير ستاتيكى‪.‬‬ ‫\"بنفس القطار عدنا ف ي عرب ة مكش وفة ه ذه الم رة ‪ ..‬ك ان ال دخان الثقي ل الرط ب يغمرن ا ط وال ال وقت‬ ‫ب ارئحة غريبة لبخار ماء حامض وخشب طري محترق ‪ ..‬بعد خروجنا من )كفر علَم( بمسافة طويلة ‪ ..‬أري ت‬ ‫أبي يصرخ وهو ينط قافًزا العربات المكشوفة وسط عاصفة الدخان محاولً الوصول إلى القاطرة ليوقف القط ار ‪.‬‬ ‫ف ي نف س ال وقت لمح ت الحقيب ة الجلدي ة الك بيرة ال تي و َس دوا فيه ا خفي ة جث ة أخ ي ‪ ،‬لي دفن ف ي القري ة تجنًب ا‬ ‫للوقوع في تعقيدات قانونية ‪ ،‬ومساءلة ل يدري أحد كيف تنتهي ‪ ،‬طائرة مع الريح والدخان والغب ار ث م تت دحرج‬ ‫على الطريق الز ارعي المجاور لشريط القطر لتستقر مجهدة في حقل قمح ‪.‬‬

‫‪63‬‬ ‫توق ف القط ار ‪ ،‬بع د أن تنب ه الس ائق للش ا ارت الغريب ة المح ذرة للن اس الس ائرين ‪ ..‬والع املين ف ي‬ ‫الحق ول مح اولين لف ت نظ ره لمح اولت ذل ك الرج ل المكل وم الوص ول إلي ه ف أوقف القط ار ‪ .‬وقف ز أب ي ليحض ر‬ ‫الحقيبة الهاربة ‪ .‬قبل أن يغري الفضول أحًدا فيفضح سرها الحزين‪\".‬‬ ‫وليملك الصبى رفاهية التشاؤم أو ك ارهية القطار‪ .‬إن قدر الريفيين ال ارحلين نحو المدين ة عدم الستغناء‬ ‫عن القطار‪ ،‬وتك ارر الرحلة الحزينة م ارت وم ارت‪ ،‬ومع الشتاء تحديدا تهاجم تلك الذكرى قلب الطفل الصغير‪،‬‬ ‫والشتاء دائما مايستدعى برودة الموت‪،‬‬ ‫\"فصبي السنة الولى الثانوية في الحادية عشرة من عمره كان يضطر كثيًرا للعودة بالقط ار نفس ه ف ي‬ ‫أيام الشتاء عبر )ميت الخولي عبد الله( ‪ ..‬و)ميت الخولي مؤمن( ‪ ..‬عابًرا نفس المس افة ال تي ط ارت عبره ا‬ ‫تلك الحقيبة ‪ ،‬فتموت أصابعه على ال َسابت أو الحقيبة المكتظة بملبس ه غي ر النظيف ة ‪ .‬وه و يخش ى أن يتك در‬ ‫حلمه بطعم حضن الم ومذاق أطعمتها الممي زة ال تي ل م يع د الفس يخ م ن بينه ا إل ى الب د ‪ .‬أو يفس د ش يء م ا‬ ‫لهفته للعودة ‪ ..‬لم اربع الطفول ة ال تي اض طر للغ ت ارب عنه ا ف ي ذل ك الس ن المبك ر ‪ .‬لتغس ل ع ن قلب ه مواج ع‬ ‫المدينة ‪..‬‬ ‫والروائح بدورها تستدعى صورة النار‪ ،‬فى محاولة لقهر برودة وذكريات الموت‪ .‬تلك النار المنحصرة ف ي‬ ‫الموقد التى كان ي ارها باشلر تمثل للنسان المجال والموضوع الول للتأمل الشارد‪ ،‬فهي رمز ودعوة للست ارحة‬ ‫والهناء‪ .‬ويستمر قاموس الروائح مصاحباً للوصف‪ ،‬فالكاتب ل ينسى أن أخيه مات من أجل أكلة فسيخ‪.‬‬ ‫\"يخرج أرسه مواج ًها ب رودة ري اح الش تاء‪ ،‬ال تي تص ارع القط ار حامل ة إل ى رئ تيه دخ ان الفح م الرط ب‬ ‫ذي ال ارئحة الخاصة‪ ..‬وه و يتطل ع إل ى حق ول )ال طخم س( ونخل ة )ياس ين( وترع ة )مه ّدب(‪ ..‬مح اولً اس تخلص‬ ‫ارئحة زيت القدح المحترق وطعم البصل الخضر والك ارت أب و شوش ة م ن بي ن مزي ج الروائ ح ال ذي يخي م عل ى‬ ‫القري ة س اعة الغ روب ‪ ،‬مش ب ًعا بطع م الحق ول والنبات ات والبش ر والطي ن المح ترق‪ ..‬ليح س معه ا بحض ن الم‬ ‫الفرحانة بعودته وبالس تجابة الرباني ة ل دعواتها بس لمته ونج احه وتف وقه عل ى أق ارن ه ‪ .‬مخفي ة إش فاقها ال دائم‬ ‫عليه من الغربة باحثة فيه عما يمكنها من تعويض ما ‪ ،‬لفقدانها )سامي( الذي تطذكرها به دائ ًما ص فارة القط ار‬ ‫القادم من الغ رب ‪ .‬رغ م م ا مض ى م ن س نوات عوض ها ال خلله ا بأطف ال آخري ن بن ات وأولد‪ ..‬لهفته ا علي ه‬ ‫يشعلها حضوره بالقطار من الغرب ‪.‬‬ ‫ورحلة القطار تختلف بعد السجن‪ ،‬لقد فقد القطار جبروته نوانسانيته ‪ .‬لم يعد ذلك الكيان الهائل‪ ،‬إنه‬ ‫مجرد وسيلة مواصلت ل أكثر‪:‬‬ ‫\"لكن عودته بع د س نوات خم س ف ي المعتق ل ك انت فري دة ل مثي ل ول ش بيه له ا ‪ ..‬يومه ا أص ر عل ى‬ ‫العودة بالقطار ‪ ،‬نف س القط ار الق ديم ‪ ..‬ال ذي ل م يس تطع ه ذه الم رة أن يح رك في ه مش اعر الطفول ة أو الص با‬ ‫حزًنا أو فرًحا ‪ .‬ول أن يجسد أمامه أًيا م ن تل ك الص ور ال تي ل م ينس ها أب ًدا ‪ .‬ك ان هن اك خ وف غ امض يغ زو‬ ‫قلبه ‪ ..‬يطمس الذكريات على صفحة روحه وينتزع منه شيًئا ل ملمح له ‪ ،‬ينتمي لتلك اليام البريئة ‪ ..‬ك انت‬ ‫العودة تلك المرة يكتنفها الكثير من عدم الثقة ‪ ..‬هل غَيره السجن – أم أن الدنيا تغيرت –‬

‫‪64‬‬ ‫فق دت نغم ة عجلت القط ار الرتيب ة إيقاعاته ا القديم ة ‪ ..‬ض اعت ارئح ة الزي ت المح روق ‪ .‬وك ل م ا‬ ‫توحي به من ألفة المساء بعد يوم مجهد طويل ‪ .‬أفقدت سنوات السجن روحه ما ك انت تفي ض ب ه عن د ع ودته‬ ‫من مشاعر حنونة تبعثها ارئحة الزيت المقدوح ‪ ،‬نكهة الرز الساخن الفقير في صدور المجهدين ‪..‬‬ ‫والقط ار ه و الس بب ف ى أول تجرب ة جنس ية للك اتب إن ه عتب ة ال دخول نح و الم ارهق ة ‪ ،‬بتل ك اللمس ات‬ ‫المسروقة التى ستعلن عن تدشين ذكورته‪ ،‬وعن القطيعة التامة مع عالم قديم من الب ارءة‪ ،‬كان ذلك يوم عودته‬ ‫بعد امتحان الشهادة البتدائية من )المنصورة(‪:‬‬ ‫‪ ..‬وك ان القط ار مزدح ًم ا ‪ ..‬وجلس ت إل ى ج وار الش باك وأم امي مباش رة ام أرة بض ة هائل ة الحج م‬ ‫وانحشرنا على الك ارسي ‪ .‬ولم تكن المسافة بيننا تسمح إل بتبادل المسافات ‪ ،‬فتداخلت السيقان)‪(...‬‬ ‫ف ي نف س ال وقت ال ذي أطبق ت في ه س اقي النحيل تين عل ى س مانة س اقها الممتلئ ة ‪ ..‬وبينم ا س ندتها بالس اق‬ ‫اليسرى بدأت أحرك بطن قدمي اليمنى الذي انتزعته من الحذاء ‪ ..‬صعوًدا وهبو ًطا في حنان ‪..‬‬ ‫فوجئت الست التي كان زوجها يقف في الطرقة المزدحمة بين الك ارسي مشارًكا في حفل العج اب ب ي‬ ‫‪ ..‬نظ رت إل َي معاتب ة مندهش ة غي ر مص دقة ‪ ،‬فكفف ت للحظ ة ع ن الحرك ة ‪ ..‬لك ن ت وتر جفونه ا وال دماء ال تي‬ ‫اندفعت لخديها ‪ ..‬كانت فيهما الكفاية ‪ -‬لدعوتي أن أستمر ‪ ..‬في حنان بالغ مضت عيني تحاول النفاذ خلسة‬ ‫إل ى عم ق عينيه ا ‪ ،‬الل تين احمَرت ا بال دمع والنفع ال ‪ .‬وج دت س اقها تلي ن تح ت رك ام الش ياء الميت ة ف وق‬ ‫ركبتينا)‪(...‬‬ ‫م ع حرك ة القط ار ال ذي ب دأ يه دئ م ن س رعته ل دخول المحط ة ‪ ..‬ه دأت حرك ات ب اطن ق دمي ف وق‬ ‫السمانة ‪ ..‬وبدأت هي تلم شتات نفسها ‪ ..‬وحين وقفت لخمت نفسي في جمع )السواتر( ووقفت بشكل ط بيعي‬ ‫لحتضنها مان ًعا سقوطها على الجالسين مع صدمة وقوف القطار ‪..‬‬ ‫أماكن السكن‪:‬‬ ‫ل نع رف عن أم اكن الس كن التى تع اقب عليه ا سمير عب د الب اقى‪ -‬رغ م أنه ب دأ رحلة اغت اربه مبك اًر‪-‬‬ ‫سوى شقة السكاكينى والغرفة ‪ ،66‬أما الخيرة فجاء الحديث عنها كتلة واحدة‪ ،‬والغرفة تمثل المكان المغلق‪ ،‬الذى‬ ‫تذوى فيه النا‪ .‬والغرفة أكثر ازدحاما من السجن‪ ،‬فيكاد المكان أن يتملك البطل ل العكس‪ ،‬ومع ذلك فهو مفتوح‬ ‫على علقات انسانية متشعبة‪ ،‬ويبدأ الكاتب الحديث عن موقعها الجع ارفى قائلً‪:‬‬ ‫وال )‪ (66‬كانت أشهر غرفة في )وسط القاهرة( يعرفها شباب )ميت سلسيل( ف ى أوائ ل الس تينات ‪..‬‬ ‫من الطلبه والمجن دين ‪ .‬تق ع ف ى ال دور الث انى م ن ار‪،‬ب ع هائ ل مرب ع الش كل يق ع ف ي )قنط رة الدك ة( عل ى يمي ن‬ ‫الشارع الممتد من )شارع إب ارهيم باشا( حيث الميدان المعروف بذلك السم حتى )شارع كلوت بك( ‪...‬‬ ‫الغرف ة ه ى مع ادل موض وعى لغ ت ارب وانس حاق ال ذات الريفي ة ف ى مجتم ع المدين ة‪ ،‬ويزي د م ن العم ق‬ ‫النفسى لتأثيرها الحديث عنها بعد تجربة السجن‪ .‬بداية نقول أن الحميمية مفقودة فى ذلك المكان‪ ،‬حيث أنه أشبه‬ ‫بالمستشفى أو الثكنة العسكرية‪ ،‬والغرفة هى نافذة على مجتمع المدينة الصاخب المعقد‪ ،‬الغرفة ‪ 66‬هى المكان‬

‫‪65‬‬ ‫المشاع الذى يفقد فيه المرء خصوصيته‪ .‬إنه مكان بل ذاكرة أو تاريخ‪ ،‬تعاقب عليه الوافدون الريفيون من ميت‬ ‫سلسيل‪ ،‬ومع ذلك فل أحد يهتم بمعرفة تاريخ ذلك المكان‬ ‫مبنى هائل ل يهتم أحد من قاطنيه أن يعرف من يملكه ‪ ،‬ول فيم كان الغ رض الس ابق ال ذي بن ى م ن‬ ‫أجله ‪ .‬له باب هائل يؤدى لمدخل بين الب واكى يتص دره س لم عري ض تص عد درج اته إل ى بس طة عريض ة تش كل‬ ‫قاعدة لشباك من الزجاج الملون ترتفع حتى السطح ‪ -‬ثم يعاود السلم الصعود إلى الدور الول ‪ ..‬تارًكا مدخلً‬ ‫واس ًعا إل ى ش رفة عريض ة ذات أربع ة أض لع تحي ط بف ارغ مرب ع هائ ل ‪ ..‬عليه ا تفت ح أب واب الغ رف ‪ .‬ويتك رر‬ ‫المر في الدور الثانى مما يعطيك إحسا ًسا بأنك بصدد مق ر لثكن ة عس كرية ‪ ..‬أو مستش فى أث رى تص طف في ه‬ ‫الغرف ‪ .‬حيث كانت ال )‪) (66‬وهو رقمها بالمناسبة( تبدو فيه مميزة بل مناسبة ‪ -‬في الطرف القص ى القبل ي‬ ‫عند ال ازوية المقابلة للمدخل الرئيسي ‪.‬‬ ‫والمكان أشبه بجسد عجوز يحتضر‪ ،‬إنه لينى يتقلص ويتآكل‪ ،‬ويصبح السكان أشبه بكائنات طفيلية‬ ‫تسكن جسداً مريضاً‪ ،‬فالمكان ليرتاده سوى المهمشين وأصحاب أنصاف الحلم أو الحلم الضائعة‬ ‫وتقلصت الغرف المسكونة مع اليام ‪ -‬حتى انحصرت في غرف ال دور الث الث بالض افة إل ى ثلث أو‬ ‫أربع غرف فقط من الدور الثاني تمسك بها ساكنوها من أعضاء وآلتية بعض الفرق الموس يقية والمس رحية ‪،‬‬ ‫ونساء من أف ارد ك ورس الغ اني ف ي الذاع ة أو ف ي ف رق الرق ص بمس ارح وس ط البل د ‪ ..‬وق د ج رت الع ادة أن‬ ‫يتوارث المستأجرون تلك الغرف ‪ ،‬لدرجة لم يعد أحد يذكر من هو المستأجر الصلي لمعظمه ا ‪ ..‬كم ا ل يع رف‬ ‫الكثيرون ‪ ،‬من يملك هذا المبنى العريق ول من هو صاحبه ‪.‬‬ ‫وم ع ذل ك تق دم الغرف ة الح د النس انى الدن ى لولئ ك الريفيي ن البس طاء‪ ،‬فه ى ت وفر س قفاً يجمعه م‪،‬‬ ‫والمشاركة نوان كانت تعنى ازدحاماً وتكدساً‪ ،‬فانها فى نهاية المطاف تخلق جيتو خاص بها‪:‬‬ ‫كان مستأجر ال )‪ (66‬بلدياتي )عبد السلم عويضة( أحد جي ارن حارتن ا وزمي ل طفولتن ا بع د أن ص ار‬ ‫موظفا في إحدى الو از ارت ‪ ،‬بعد حصوله على ال دبلوم ‪ .‬ول أح د يع رف كي ف آل ت إلي ه ه ذه الغرف ة ‪ .‬لك ن الك ل‬ ‫عرفوا الطريق إليها فشاركه فيه ا ثلث ة أو أربع ة أو خمس ة م ن بل دياتنا عل ى الق ل ‪ .‬وم ر عليه ا عش ارت م ن‬ ‫المجن دين ال ذين يفض لون قض اء أج ا ازتهم ف ي الق اهرة ‪ ،‬ت وفيًار للمص اريف واختص اًار للمس افات ‪ ..‬ناهي ك ع ن‬ ‫العدي د م ن الق ارب والمع ارف ال ذين يتواف دون لقض اء حاج اتهم الملح ة ‪ .‬وتض طرهم ظ روف ق اهرة أو طارئ ة‬ ‫لقضاء ليلة أو أكثر في القاهرة ‪...‬‬ ‫ومع ذل ك ففى لحظة الحك ى يعم د الك اتب للمقارنة بينه ا وبين السجن المك ان الخ انق المزدح م المتك دس‪ ،‬ويك اد‬ ‫السجن أن يكون أفضل منها بم ارحل‪:‬‬ ‫زن ازنة الواح ات ك انت تتس ع لربع ة عش ر معتقلً أو س جيًنا عل ى الك ثر ‪ ..‬أم ا ال )‪ (66‬فق د ك انت‬ ‫تحتمل في أحي ان ك ثيرة أك ثر م ن اثني ن وعش رين ) ارق دا ‪ (...). (.!.‬كم ا أن الحي اة ف ي زن ازن ات الواح ات ك انت‬ ‫تشبه المعيشة في زن ازنة ال )‪ .. (66‬وأن لم تكن تزدحم إلى هذه الدرجة ‪ .‬علوة على أن نزلءها كانوا يرتبون‬ ‫ش ئون حي اتهم ف ى حي اة عام ة وكوميون ات تنظ م ش ئون أكله م ون ومهم حس ب م ا تقض ى تقالي د وأع ارف‬ ‫المسجونين والمعتقلين الشيوعيين ‪ .‬أما فى ال )‪ (66‬فكان المر مختلفا تما ًم ا ‪ ..‬فلي س هن اك حي اة عام ة أو‬

‫‪66‬‬ ‫مشتركة إل بالصدفة ‪ .‬يعني ك ل واح د ك ان متعل ق م ن عرقوب ة ‪ .‬ك ان الع ابرون يحض رون أكله م معه م ‪ ،‬وق د‬ ‫يش اركهم بع ض الموج ودين دون تطف ل ‪ ..‬خاص ة أن الك ثيريين ك انوا ي أكلون ف ي الخ ارج حر ًص ا عل ى نظاف ة‬ ‫المكان وهو المر الذي لم يكن المقيمون دائما يتهاونون فيه ‪..‬‬ ‫إن س عة المك ان وض يقه‪ ،‬انغلق ه وانفت احه‪ ،‬رهين ان بالحال ة النفس ية أو الش عورية لس اكن المك ان‪ ،‬فبع د أن تتوث ق‬ ‫معرفته بسكان المكان وبعد ان تصبح أيام السجن بعيدة نسبياً عن بؤرة ذاكرته‪ ،‬يشعر أنه من أصحاب المكان‬ ‫ويتبدد شعوره بالغربة شيئا فشيئاً ويمارس حياته العادية‪ ،‬وليمسى وجوده وجوداً عاب اًر‪ .‬لقد صار ساكنا مقيماً ل‬ ‫مؤقتاً‪:‬‬ ‫وفي معظم الحيان لم يكن الزحام في ال )‪ (66‬على هذه الدرج ة م ن الكتظ اظ ب ل وف ي أحي ان ك ثيرة‬ ‫كنت أبقى فيها وحدي بعد أنقشاع النزلء إلى مصالحهم وأعمالهم فاستمتع بالجلوس على المكتب الفقير ال ذي‬ ‫وض عت علي ه ع دة كت ب ورواي ات رخيص ة لم ن يق أر ‪ ..‬ولنن ي م ن ح املي المفاتي ح كن ت أحظ ى أي ًض ا بمتع ة‬ ‫الخروج والتسوق وتجهيز وجبات منزلية ‪ .‬يش اركني فيه ا م ن يص ل مبك ًار منه م س واء ه و أو م ن الخري ن ‪..‬‬ ‫قبل أن يبدأ توافد )الف ارد( من العابرين والضيوف المؤقتين بالضبط مثل حجز )قسم عابدين( ‪!.‬‬ ‫وعلى عكس توقع القارىء ليكون الليل سكناً فل تعرف السكينة سبيلً الى تلك الغرفة سوى فى النهار‪:‬‬ ‫نه ا ارت ال )‪ (66‬ك انت أه دا وأري ح وأجم ل م ن لياليه ا ‪ ..‬إذ تص مت تما ًم ا الس يمفونية الخانق ة ال تى‬ ‫تعزفه ا الحن اجر المتعب ة المختلف ة ال درجات ‪ ،‬والعم اق المتنوع ة البع اد ‪ ..‬تتخلله ا نق ارت وهمس ات وفرقع ات‬ ‫طبول وأبواق المؤخ ارت والبطون التي أرهقها الفول والعدس والبصل والكشري وكافة الوجب ات الش عبية الس ريعة‬ ‫الرخيصة المشبعة بالغا ازت والصوات ‪.‬‬ ‫في العاده ليغلق باب ال )‪ (66‬طالما هن اك م ن يوج د فيه ا ‪ ..‬ه ذا يش به عرفً ا يش مل جمي ع حج ارت‬ ‫وغرف ذلك الربع الرهيب ‪ ..‬فمعظ م نس اء المك ان يبقي ن نائم ات ح تى وق ت مت أخر م ن النه ار ‪ .‬نس اء وفتي ات‬ ‫الكورس عادة متزوجات من الرجال الكومبارس في الس ينما والمس رح ‪ .‬ف إن ك ن ل يعمل ن ف أزواجهن يس هرون‬ ‫في أعمالهم لس اعات مت أخرة ‪ ..‬ول ذلك يبق ى معظمه م ارئع ة النه ار لس اعات ف ي )الّرب ع( ‪ ..‬وب الطبع ل يطق ن‬ ‫البق اء ف ي الحج ارت بي ن الج د ارن ‪ .‬فيتخ ذن مجالس هن ف ي الطرق ة الشاس عة العريض ة الممت دة أم ام الغ رف ‪.‬‬ ‫يفترشن حص ار أو كليمات ويقمن بكل أعمال النهار المطلوب ة م ن كن س وغس ل وطب خ ف ي تل ك الطرق ة المربع ة‬ ‫الدائرة حول الَربع ‪ ..‬وهن يتبادلن الحديث ال ازعق فيما بين ك ل ض لع وم ا يق ابله ببس اطة م ن يجلس ن مع ا ف ي‬ ‫غرف ة واح دة ‪ ..‬وك ان الطف ال يمرح ون ويش طحون ح ولهن ‪ ..‬وي دخلون إل ى الغ رف فيه ّش هم البع ض برق ة أو‬ ‫بغلظة مفتعلة لكي ل تتبعها ردود أفعال صارمة أو خناقات جادة ‪..‬‬ ‫ويتجلى فقر المكان كما أرينا فى نوعية ساكنيه‪ ،‬إنهم من المهمشين ولكنهم نوعية أخرى من المهمشين‬ ‫فالكومبارس وفتيات الكورس يمثلون طبقة مختلفة وذات خصوصية‪ ،‬إنهم يجاورون نجوم الفن الذين يعيشون فى‬ ‫شهرة وبحبوحة‪ ،‬وعلى هذا فهم طائفة أكثر احباطا من غيرها‪ ،‬شخصيات مغرية وموحية‪ ،‬تتجلى المفارقة بين‬ ‫عالم الشهرة والضواء الذين يقفون على حدوده دون الولج فيه‪ ،‬وبين الواقع المبتذل الذى يعيشون فيه ‪ ،‬فتصبح‬ ‫مأساتهم أعمق ‪...‬‬

‫‪67‬‬ ‫\"كثيًرا ما كان الفض ول ي دفع بعض هن للتطل ع داخ ل ال )‪ (66‬فيج دننى جالس ا ف ى مه ب النس يم أكت ب‬ ‫على المكتب المتواضع ‪ ،‬أو أق أر ف ي كت ب مختلف ة ف ي إن دماج ك بير فاعتق دن أنن ي أح د الكت اب ‪ .‬أو ق د أك ون‬ ‫ذاصلة بالوسط المسرحي أو السينمائي ‪ ..‬والحقيقة أنهن وضعنني بسبب ذلك في مكانة مميزة ‪ .‬دفعته ن ك ثيًار‬ ‫لتب ادل أط ارف الح ديث مع ي ‪ .‬يس ألنني عم ا اكت ب أو يطلب ن من ى أن أق أر له ن بع ض م ا كتب ت ‪ .‬وم ع الي ام‬ ‫نشأت بيني وبين الكثي ارت منهن مودة ‪\" ..‬‬ ‫فضاء المقهى‪:‬‬ ‫يش كل المقه ى واح داً م ن الفض اءات النتقالي ة الخاص ة ال تي تتمي ز بتن وع دللته ا الفني ة‪ ،‬فه و الب ؤرة‬ ‫المكانية التي تلتقي عندها الشخصيات محاولة البحث عن ارحتها النفسية في وسط ذلك الفضاء الداخلي‪.‬‬ ‫وعادة ماتكون دللة المقهى سلبية فى معظم الروايات العربية‪ 90‬فهى فى العادة مكان‪\" :‬لتأطير لحظات البطالة‬ ‫والممارسة المشوهة‪ ...‬وبؤرة للثرثرة واغتياب العالم‪ ،‬ومحطة لتناقل الشائعات الرخيصة\"‪91‬‬ ‫وريم ا تك ون ه ذه الص ورة حقيقي ة ف ى رواي ة \"وله م يحزن ون\" حي ث تظ ل مقه ى \"الن ادى\" مرك اًز لتب ادل‬ ‫الخبار والشاعات ولكن فى \"زمن الزنازين\"‪ :‬يصبح المقهى مكاناً للتقاء الرفقاء الشيوعيين ‪ ،‬لكنها تظهر فى‬ ‫النص مقفرة خاوية ‪:‬‬ ‫توجهت إلى مقهى )إي ازفيتش( ‪ ..‬لم يكن هناك صريخ ابن يومين ‪ ..‬ضحك الخواجة وقال ‪:‬‬ ‫‪ -‬إيه الحكاية – ‪ ..‬إيه اللي حصل امبارح ‪.‬‬ ‫لم أجد عندي نفس للرد عليه ‪ ..‬فأس رعت هارًب ا إل ى )ري ش( ‪ .‬ك انت تنع ى م ن بناه ا ‪ ..‬تجنب ت الظه ور فيه ا‬ ‫وعدت إلى شارع )النزهة(‬ ‫وف ى المقه ى تنش ب خناق ات حامي ة ال وطيس دون س بب حقيق ى س وى الهزيم ة ف ى لع ب الطاول ة أو‬ ‫الكوتشينة‪ ،‬لكن هناك سبب حقيقى رواء كل شىء ليدركه الرواد‪ ،‬فالمقهى ليوفر لرواده ميزة واحدة‪ ،‬إنه يمثل‬ ‫العشوائية والمصادفة وغياب القانون والمنطق‪:‬‬ ‫\"ن اداه الس طى )عب د الس لم ش طا( لين تزعه م ن وس ط زح ام ح ول إح دى موائ د قه وة الن ادي‪ .‬زح ام‬ ‫ض احك ي ومي يش اهده ف ي معرك ة دومين و ل تنته ي م ع ش قيق )عب د الس لم( )مجاه د ش طا( أك بر حري ف‬ ‫)دومينو( ‪ ..‬وسر المرح والضحك هو الحظ الغريب له ؛ إذ يه زم )مجاه د( الحري ف باس تم ارر رغ م أن ه ل م يك ن‬ ‫يعرف من اللعبة إل قواعدها العامة التي يعرفها الكاف ة ول م يك ن ق د ع رف بع د أن لك ل رق م ف ي ال دومينو س بع‬ ‫م ارتب ولم يكن قد اكتشف أس ارر كشف المستور وحسابات الرقام ال تى يتقنه ا المعل م )مجاه د( ول م يك ن ي دري‬ ‫أن لعبه العشوائي هو الذي يهزم دائ ًما خطط وحسابات خصمه الذي ك ان يث ور ويلع ن م ثيًار ض حكات وس خرية‬ ‫رواد المقهى ‪\" ..‬‬ ‫() ينظر‪:‬أب ارج المدينة محمد عز الدين القاري قصيدة النثر ‪ .64 :‬ومجنون المل‪ ،‬عبد اللطيف اللعبي‪ .90 :‬واليتيم‪ ،‬عبد ال العربي‪.6 :‬‬ ‫‪90‬‬ ‫() بنية الشكل الروائي‪.91 :‬‬ ‫‪91‬‬

‫‪68‬‬ ‫وأحيانا تصبح المقهى ملجئاً للبطل‪ ،‬ومع ذلك تظهر دائما مرتبطة بالخيبة أو على القل ذات علقة‬ ‫بحدث مهين ‪ ،‬فبعد محاولة السائق التح رش ب ه يحك ى للرفي ق الش يوعى\" جبت سندوتش فول وطرش ي وقع دت ع‬ ‫القهوة أشرب شاي لحد ما ألقط نفاسي واسترد روحي ‪\"..‬‬ ‫أما فى موال الصبا والمشيب فلم يتغير موقفه منها كثي اًر‪ ،‬فأحياناً ما تثار فى المقهى أمور غير مستحبة‪ ،‬ولها‬ ‫علقة باللوطية أو الجنسية‪:‬‬ ‫\"ذات ي وم ف وجئ رواد مقه ى )حس ن مص طفى( ف ي وس ط الس وق ب ي وأن ا أنه ال بعص ا صفص اف‬ ‫كالكرباج على أرس وضهر ووجه الواد )سامي( الذي ك ان ص ديقًا ل ي ‪ ..‬تبعت ه وق د جه زت عص اي ح تى دخ ل‬ ‫دائرة الضوء وضجيج الزهر والقواشيط لفعل فعلتي ‪ ..‬حتى يك ون ت أديبي ل ه علًن ا جه اًار نه اًار ‪ ..‬وحي ن ان دفع‬ ‫الجميع لتخليصه من قسوتي ‪ ،‬سألوني ‪..‬‬ ‫قلت ‪ :‬إسألوه هَو ‪ ..‬لو عنده رجولة يقول ليه – ‪ ..‬لزم يفهم ان مش كل الطير اللي يتاكل لحمه ‪..‬‬ ‫وربت )سعيد المريح( على خدي مهدًئا بطريقة وجدتها تجاوزت حدودها فصفعته على وجهه أم ام الك ل ص فعة‬ ‫أطلقت من عينيه ش ار ارت تؤكد أنني أعني ما أقول ‪) .‬مش كل الطير اللي يتاكل لحمه( ‪..‬‬ ‫وف ى خط اب الحبيب ة ج وزفين نكتش ف أن المقه ى ه و آخ ر مك ان يمك ن للك اتب أن يث ق ف ى رواده‪ ،‬إذ‬ ‫تصارحه الحبيبة بخسة رواد المقهى من الرفاق الشيوعيين‪ ،‬الذين يفترض بهم أن يكونوا أصحاب رسالة وقضية‬ ‫فتخ بره ب ذلك قائل ة‪\" :‬ك ل م ن ق دمتني إلي ه م ن زملئ ك أص دقاء القه وة ارودن ي ع ن نفس ي\"‪ .‬ونلح ظ أن ذك ر‬ ‫المقه ى‪ ،‬بص فة عام ة ف ى النصوص الثلث ة خل ى م ن أي ة علم ات س يميولوجية‪ ،‬وأن الك اتب ل م يتوق ف لوص ف‬ ‫مفردات وتفاصيل المكان‪ ،‬بل اختزله اخت ازلً‪ ،‬ولم يغره ذلك المكان الثنائى الدللة المفتوح ‪ /‬المغلق بسبر أغواره‬ ‫أو أغوار شخصياته‪.‬‬ ‫فضاء المدرسة‪:‬‬ ‫تع د المدرس ة واح دة م ن الفض اءات الخاص ة ال تي أوله ا الك اتب اهتمام اً اس تثنائياً لنه ا أح دثت تغيي اًر‬ ‫ك بي اًر ف ي مس ار حي اته‪ ،‬ل ذا نج دها محف ورة ف ي ذاكرت ه بك ل تفاص يلها ودقائقه ا الص غيرة‪ ،‬خاص ة ف ى المرحل ة‬ ‫البتدائية‪ ،‬فعلى الرغم من الفاصل الزمني الطويل بين زمن الكتابة وذلك الزمن المستعاد‪ ،‬نجد الكاتب يستحضر‬ ‫ذكري اته عن المك ان بكل تفاصيله ودقائقه وكأنه يحاول الرجوع إلى الو ارء‪ ،‬والعي ش فيه مرة أخرى \"حي ث يغدو‬ ‫المكان امتداداً حيوياً للذات‪ ،‬للذات الواعية التي استعادته‪ ،‬كتابياً على القل\")‪،(92‬‬ ‫ولجدي د ف ى الح ديث ع ن المدرس ة‪ ،‬وأي ام الد ارس ة الول ى وخ وفه المقي م م ن معلمي ه‪ ،‬ولك ن أه م م افى‬ ‫المدرسة هو الحديث عن النشطة‪ ،‬وأهم من تلك النشطة وأهم من تعلمه مبادىء الق ارءة والكتابة ومشاكله مع‬ ‫المدرسين‪ ،‬الحديث عن المسرحية التى قدمتها المدرسة‪ .‬لكن لنبدأ بأيامه الولى فى مدرسة \"الشيخة بنات\" التى‬ ‫درس فيها سمير الطفل مجاملة لبيه‪ ،‬رغم أنه صبى لم يبلغ سن الل ازمى‪ ،‬وسوف نرى أن الوصف جاء فى ح ده‬ ‫الدنى‪ ،‬فالحضور الخانق للمدرس بأوامره الصارمة يجعل علقة الطفل بالمدرسة محصورة بين الكلمة والحرف‪:‬‬ ‫‪ () 92‬كتابة المكان بعيداً عنه‪ ،‬خليل النعيسي‪ ،‬مجلة القلم‪ ،‬العدد ‪ 2‬لسنة ‪.40 :1998‬‬

‫‪69‬‬ ‫كان )محمد أفندي شاكر( ‪ ..‬يضربني بحرف المسطرة على ظه ر كف ي ‪ ،‬إذا م ا ش ردت من ي الح روف‬ ‫خ ارج ه امش الص فحة الحم ر ‪ ..‬ول م تتس ع للكلم ات )الثم اني( ال تي ك ان لب د أن تنحش ر بدق ة وحرفن ة بي ن‬ ‫الهامشين ‪ ..‬كان المر عنده مقد ًسا ‪ ،‬يصل لمرتب ة الكف ر واليم ان ‪ ..‬ف الخروج عل ى اله امش فوض ى ‪ ،‬وع دم‬ ‫قدرة على الفهم وعجز عن الستيعاب ‪ ،‬إنه شيء هام جًدا ‪ ،‬أشد أهمية من أخطاء الملء والهم ازت ‪ ،‬وت واتر‬ ‫الحروف الملغزة في الكلمات المهولة‪ ،‬التي تظهر المهارة من الخيبة ‪ -‬كاللؤلؤ والسموءل والسجنجل وغيرها ‪-‬‬ ‫والتي تعتبر كتابتها صحيحة من دلئل التفوق والمقدرة والعبقرية المبكرة ‪..‬‬ ‫كنت أيامها أدرس م ع أخ تي )البكري ة( )آم ال( ف ي مدرس ة )الش يخة( بن ات ‪ ..‬ل م أك ن ق د بلغ ت س ن‬ ‫الل ازم بعد ‪ ،‬لكن أبي ك ان مدرس ا به ا ‪ ..‬وه ي مدرس ة تق ع ف ي الط رف الخ ر )الش رقي( م ن بل دتنا ‪ ..‬أي ف ي‬ ‫)واطي البلد ‪ (..‬بينما تقع مدرسة البنين في )علوه ا( ‪ ..‬وألحقن ي أب ي م ع أخ تي بفص ل )ش اكر أفن دي( ولي س‬ ‫بفصله هو ‪ ..‬كان يقول إن ذلك أجدى ‪ ..‬حتى ل نتدلع عليه‪ ..‬لكنني أظن أنه فضل أل نحكم على كفاءاته‪.‬‬ ‫وسوف نرى كيف يضيق العالم فتصبح المسافة بين الكلمات وم ارعاة السطور والهامش هى فضاء خانق شديد‬ ‫النغلق يجعل من المدرسة جحيماً مصغ اًر‪:‬‬ ‫ك انت حص ة إملء ‪ .‬وك ان الموض وع ه و )ش جرة القط ن وش جرة البرتق ال( وه و موض وع س خيف ع ن‬ ‫المفاضلة بين الشجرتين ‪ .‬واحدة تتباهى بجماله ا والخ رى بقيمته ا للوط ان ! وك ان لب د أن نل تزم بالهامش ين‬ ‫وبعدد الكلمات في السطر الواحد ‪ ..‬وكانت الواقعة‪ ،‬لم نكن نكت ب بالرص اص ‪ ..‬ول م نك ن ق د عرفن ا بع د القلم‬ ‫الجافة ‪ ..‬ول حتى أقلم الحبر البنوس ‪ .‬كنا نكت ب ب الحبر الس ائل ‪ ،‬بالس ن المرك ب عل ى ع ود م ن الخش ب ‪،‬‬ ‫والذي نسميه الريشة ‪ ..‬ولستعمال الريشة والدواي ة أص ول ‪ .‬كي ف تغم س الريش ة ف ي الدواي ة ‪ ،‬وكي ف تحتف ظ‬ ‫بالدواية المليئ ة ب الحبر عل ى قمط ر ض يق ‪ ،‬يك اد يتس ع للك ارس ‪ .‬وم ن ك ان حظ ه جي ًدا ‪ ،‬ك ان لقمط ره ثق ب ‪،‬‬ ‫تسقط فيه دواة خاصة ‪ ،‬تشبه فنجاًنا له حافة مستديرة ‪ ،‬تحتفظ به في مستوى س طح القمط ر ‪ ..‬أم ا م ن ك ان‬ ‫حظه نيلة زي حالتي ‪ ..‬و ازئد عن العدد ؛ ول د وس ط عش ارت البن ات ‪ .‬ك ان ل ي قمط ر ل يتمت ع به ذه المي زة ‪.‬‬ ‫ولذا كان عل َي أن أسير على السلك ‪ ،‬موازًنا بين المساحة التي تحتله ا الك ارس ة ‪ -‬م ع وض ع حركته ا العص بية‬ ‫تحت يدي في العتبار‪ -‬وبين الركن الضيق الذي تكاد الدواية الزجاجية العادية تحتله ‪ ..‬بالمللي !!‬ ‫لك ن لن ترك ذل ك الفض اء الض ئيل ال ذى تك اد تنس حق في ه طفول ة س مير الطف ل انس حاقاً‪ ،‬ولننظ ر كي ف‬ ‫ق دمت المدرس ة فض اء أك ثر رحاب ة واتس اعاً‪ ،‬ش كل شخص ية ووج دان الطف ل ال ذى ص ار بع د ذل ك كاتب اً وممثلً‬ ‫ومخرجاً مسرحياً‪ ،‬وذلك الشغف لم يصنعه شىء سوى المدرسة‪ ،‬حين شارك فى مسرحية عن \"المين والحجر‬ ‫السود\"‬ ‫ف ي تل ك الس نة ق ررت المدرس ة الحتف ال بمول د )حض رة الن بي( احتف الً ك بيًار ‪ ..‬تش ترك في ه القري ة‬ ‫كلها ‪ ..‬وخاصة أن الحتفالت ومواكب المولد كانت مؤجلة طويلً بسبب الحرب ‪..‬‬ ‫استعدت المدرسة بتجهيز فرق القسم المخصوص والكشافة ‪ ..‬وانهمك ت مجموع ات ف ي حف ظ أناش يد‬ ‫وأغاني دينية ومصرية ‪ ..‬كما اختير عدد م ن الولد لحف ظ والت دريب عل ى تمثيلي ة ديني ة ‪ ،‬ألفه ا م درس اللغ ة‬ ‫العربية )الستاذ المعاملي(‪.‬‬

‫‪70‬‬ ‫ويتض ح هن ا ال دور اله ام ال ذى ك انت تلعب ه المدرس ة‪ ،‬فل م تك ن قاص رة عل ى حش و عق ول التلمي ذ‬ ‫بالمعلوم ات ول م تك ن جزي رة منعزل ة ع ن مجتمعه ا‪ ،‬ب ل تك اد تك ون المدرس ة ه ى ج وهرة الت اج ال ذى تجله ا القري ة‬ ‫وتحتفى بها‪ ،‬فالموكب المهيب الذى خرج من المدرسة يؤكد ذلك‪ .‬وهنا نرى مشاركة مجتمعية تقدي ار لدور المدرس ة‬ ‫م ن ناحي ة‪ ،‬ولس لطة المدرس ة عل ى القري ة م ن ناحي ة أخ رى‪ ،‬لدرج ة أن الحرفيي ن والغف ارء والب ائعين والعي ان‬ ‫والمتصوفة يشاركون جميعاً فى المناسبة‪ ،‬وكأنه مولد ولى من أولياء القرية‪ ،‬ويصور الكاتب فرحة القرية والزغاري د‬ ‫التى تستقبل بها ذلك النشاط المدرسى‪:‬‬ ‫كانت القرية بقيادة المدرس ة ‪ ،‬والمدرس ة بقي ادة الس تاذ )هاش م( ‪ ،‬تقف ان عل ى ق دم وس اق لع دة أي ام‬ ‫سبقت الحتفال ‪ ..‬نطظفت الشوارع وتم كنس ها ورش ها ‪ ..‬انتظ م الباع ة ف ي أم اكن بعينه ا ‪ ..‬بعي ًدا ع ن المس ار‬ ‫المح دد للم وكب و طعلق ت الزين ات ‪ ..‬ف وق واجه ات ال دكاكين وف ي الش رفات ‪ ..‬أعلم ملون ة حم ارء وص ف ارء‬ ‫وسوداء ‪ ..‬علوة على علم مصر الخضر الحبيب ذي الهلل والنجوم الثلثة ‪..‬‬ ‫ابتدأ الموكب من المساحة الخالية أمام المدرسة ‪ ،‬يتق دمه م دير المديري ة وم أمور المرك ز والحكم دار‬ ‫وعمدة )الجمالية( ‪ .‬وطب ًع ا ن اظر المدرس ة ورج ال مجل س المديري ة وأعي ان البل دة والق رى المج اورة ‪ ..‬وخلفه م‬ ‫كان طابور الخف ارء والعسكر وأمامهم طابور الكشافة والقسم المخص وص ف ي خط وة منتظم ة عل ى ه دير دق ات‬ ‫الطبول ‪ ..‬وصفارة الستاذ )هاشم( الذي كان يتحرك في رشاقة وخفة كعصفور ‪.‬‬ ‫وخل ف الم وكب الرس مي س ارت عرب ات الك ارو تحم ل ك ل واح دة رج ال حرف ة م ن الح رف‪ ،‬ح دادين‬ ‫ونج ارين وخي اطين وحلقي ن ونقاش ين وترزي ة ومبيض ي نح اس ‪ .‬وقصاص ين وس روجية وص ناع حص ر‬ ‫وأقفاص ‪ ..‬صيادين وص ناع م ارك ب ‪ ..‬وك ل منه م يم ارس فعلً م ن أفع ال حرفت ه ‪ .‬وعل ى الج انبين تجم ع أه ل‬ ‫القرية والقرى المجاورة ‪ .‬وانطلق ت الزغاري د م ن الش بابيك والش رفات وم ن ف وق أس طح المن ازل ‪ ،‬حي ث لعب ت‬ ‫الري ح ش يلن وط رح وجللي ب الفتي ات والنس اء الملون ة ‪ ..‬واختلط ت ص يحات الف رح بالزغاري د ‪ ..‬بتهالي ل‬ ‫المنشدين ورنات صاجات أصحاب الطريقة مع الم ازهر والدفوف ‪..‬‬ ‫وكانت الستعدادات المسرحية تقوم على قدم وساق‪ ،‬وذلك باقتناع وحماس حقيقى من إدارة المدرسة التى تحولت‬ ‫لغرفة عمليات‪:‬‬ ‫م ر الم وكب ف ي ك ل الش وارع الرئيس ية بالقري ة ‪ ،‬ليع ود م رة أخ رى إل ى ح وش المدرس ة حي ث جه زت‬ ‫مقاعد لعدد كبير من الضيوف وأهل القرية وأولياء الم ور ‪ ..‬وحي ث ك انت خش بة مس رح ق د أقيم ت بي ن حج رة‬ ‫الناظر وحجرة الشغال وه ي ش رفة مربع ة يظلله ا س قف م ن الخش ب ‪ ،‬علق ت عل ى مق دمتها س تارة متحرك ة ‪..‬‬ ‫صنعها الستاذ )العشي( مدرس الرسم ‪ ،‬بطريقة فنية ‪ .‬بحي ث تفت ح وتغل ق ك أي س تارة مس رح ‪ ،‬بواس طة حب ل‬ ‫واحد يتوله أحد التلميذ ‪.‬‬ ‫وكانت غرفة الناظر المحَرم دخولها أو القت ارب منها لغير ضرورة مؤكدة ‪ ،‬قد أصبحت غرفة للملبس‬ ‫وللمكي اج ‪ ..‬ش غلناها نح ن ال ذين ت دربنا عل ى التمثي ل لتغيي ر الملب س‪ ،‬ووض ع م ا يل زم م ن دق ون وش وارب ‪،‬‬ ‫وكان ذلك )أ املاة( كبيرة ‪.‬‬

‫‪71‬‬ ‫أما وصف المسرح نفسه‪ ،‬فل يهتم الكاتب برسم ديكو ارته‪ ،‬بقدر مايرسم الحركة التى تمور فى أعماق‬ ‫أبطال المسرحية‪ ،‬وفى أعماق المتفرجين‪ ،‬والغريب تقديم شخصية المين أى الرسول الكريم وتجسيدها فى ذلك‬ ‫الزم ن دون اع ت ارض‪ ،‬فل م نس مع بتق ديم شخص ية الرس ول طفلً عل ى خش بة أى مس رح‪ .‬المه م أن القدس ية تلق ى‬ ‫ظللها هى والسياق التاريخى على الوصف‪ ،‬فالرهبة لتنفصل عن جلل اللحظة ‪:‬‬ ‫وم ا أن ب دأ التمثي ل ‪ ..‬وارتف ع ص وت أه ل مك ة الكف ار يتص ارعون ويختلف ون ح ول وض ع الحج ر‬ ‫السود ‪ ،‬ح تى ش عرت بريق ي ق د ج ف وقل بي يتوق ف ‪ ..‬لوان كن ت أس مع نبض ه ي دوي ف ي أذن ي ‪ ..‬وأن ا أنص ت‬ ‫للكلمات التي أصبحت تمل الساحة ‪ ،‬تض خمها مك ب ارت الص وت ‪ ،‬وتض اعفها ال دماء ال تي ان دفعت ح ارة لطبل ة‬ ‫أذني ‪ ..‬وما أن نطق )المرسي( يجملة ‪..‬‬ ‫‪ -‬ها هو )المين( !!‬ ‫حتى وجدتني مدفو ًعا بل إ اردة إلى خشبة المس رح ‪ .‬ل م أع د أبص ر ش يًئا ‪ ..‬س ال عرق ي عل ى عي وني ‪ ..‬وس اد‬ ‫صمت خيل إل َي أنه دام إلى البد ‪ ،‬لدرجة لم أتبين ما قيل لي بالضبط ‪ ..‬ولكني سمعت صوتي يخرج هادًئا في‬ ‫موع ده رزيًن ا عميقً ا ‪ ..‬طخي ل إل َي أن أم ي تس معه عل ى بع د م ا بي ن قريتن ا و)الجمالي ة( ‪ ،‬ب ل خي ل إل َي أن ي‬ ‫سمعتها تبكي وتدعو لي فصرخت ‪ -:‬إيتوني بثوب !)‪(...‬‬ ‫وتق دمت ف ي وق ار وش موخ ‪ ..‬حمل ت )الحج ر الس ود( ال ذي ص نعه الس تاذ )العش ي( م ن ال ورق المطب وخ ‪..‬‬ ‫سمعت شهقة جماعية من كل الحاضرين ‪ ..‬فقد بدت الصخرة المقدسة خفيفة يحملها )المين( بكفيه الرقيقتين‬ ‫كمعجزة وخط وت به ا وأن ا أدع ي ثقله ا ‪ ..‬ث م انحني ت لض عها وس ط الث وب المف رود ‪ ..‬وأخ ذت أنظ ر مس تمل ًحا‬ ‫الصمت السائد في عيون الكفار وكأنني أقول لهم ‪) ..‬لو كنتم تفقهون!( وقلت ‪:‬‬ ‫‪ -‬ليأخذ كل منكم بطرف !‬ ‫استرد المتفرجون شهقتهم المندهش ة ‪ ..‬وص احوا مهللي ن إعجاًب ا ‪ ..‬وه م ي رون كف ار قري ش وكباره ا يتق دمون‬ ‫طائعين ‪ .‬يحملون الثوب وف وقه الحج ر الس ود ‪ ،‬ح تى ذل ك الج دار ال ذي ل م يكتم ل بن اؤه ف ي الخلفي ة ‪ ..‬ولم ا‬ ‫وصلوا إليه وقف وا ح ائرين ‪ ،‬ينظ رون ل ي متس ائلين ‪ ..‬تق دمت منه م م رة أخ رى ‪ ..‬حمل ت الحج ر ووض عته ف ي‬ ‫بساطة متناهية في مكانه ‪ ..‬وقلت بصوت جهوري حازم ‪:‬‬ ‫‪ -‬الن ل خلف ‪ ..‬أكملوا البناء ‪..‬‬ ‫ل أستطيع أن أقرر بالضبط أو أصف ما حدث بعدها‪ ..‬فقد كنت شبه غائب عن الوعي‪ ..‬ولكن أكف الن اس ل م‬ ‫تكف عن التصفيق طب ًعا ‪ .‬لبساطة الفكرة العبقرية التي حسم به ا )المي ن( الخلف بي ن رج ال قري ش ‪ ..‬ال ذين‬ ‫سوف يقاتلونه ويعذبون أنصاره فيما بعد ‪..‬‬ ‫فاضت الزغاريد وغطت على الناش يد ال تي ختم ت به ا المس رحية ‪ ..‬وج دت م درس الرس م يحتض نني‬ ‫سعيًدا ‪ ،‬وهو يقبل جبهتي ‪ .‬وسمعت أمي بل و أريته ا م ن خلل غيام ة ال دموع ال تي ملت عين ي ‪ ،‬ترب ت ف وق‬ ‫ظهري وتهسون عل َي ما أصابني من رعشة ‪ ،‬انتابت جسدي من شدة النفعال ‪ ..‬ولمحت الستاذ )هاش م( يخ رج‬ ‫منديله ‪ ،‬ويمسح به العرق الذي تفجر من جبيني !‬

‫‪72‬‬ ‫فى زمن الزنازين‬ ‫وحيث إن السرد يرصد حركة الشخصية الروائية في الزمان والمكان \" ذهابا نوايابا وسف ار واستق ار ار \" كما ترى سي از‬ ‫قاسم ‪ ،‬فإنه يحدث تحولت جوهرية فى الشخصية؛ وناذا كان تنقل الشخصية الروائية من مكان إلى آخر في العالم‬ ‫الس ردي يمث ل محاول ة للبط ل ف ى البح ث ع ن معن ى أو حل أو ع ن حقيق ة‪ ،‬أو ع ن كينون ة مغ ايرة‪ .‬إل أن الق در‬ ‫الفت ارضى الذى يمارسه السرد‪ ،‬أو القدر الحقيقى الذى يسجله كاتب السيرة قد يفضي بالشخصيات الروائية أو‬ ‫السيرذاتية إلى مصائر أخرى خارج كل معن ى أو حقيقة أو حل‪ .‬المدرسة هنا ارتبطت دائما بحركة الس ارد فى‬ ‫العديد من القرى والمدن فمع ذلك لنرى فضاء المدرسة بقدر مانسمع عنه معلومات تلخيصية‪:‬‬ ‫كن ت ق د انتقل ت للد ارس ة ف ي الس نه الخامس ة الثانوي ة أو التوجيهي ة إل ى مدرس ة )كش ك( ف ي )زف تى(‬ ‫وذلك بدافع رغبة عارمة في التغيير والبتع اد ع ن مدرس ة )المنزل ة( الثانوي ة ال تي قض يت فيه ا ع امين ك املين‬ ‫على غير العادة وبحجة أنه ل يوجد مدرس لغة فرنسية وم ا س يترتب عل ى ذل ك م ن حتمي ة س قوطي ف ي اللغ ة‬ ‫الفرنس ية ذاته ا بع د أن كن ت ق د رس بت ف ي الثقاف ة العام ة ف ي )ش فوي( الفرنس اوي )أي وال ف ي ش فوي‬ ‫الفرنس اوي( رغ م نج احي بتف وق ف ي بقي ة العل وم ‪ .‬ول ذلك واف ق أب ي عل ى انتق الي واتف ق م ع الش يخ )عل ي‬ ‫مسعود( على أن أعيش وسط أولده ليتابعني بنفسه ‪ ،‬وكان الستاذ )محمد الشناوي( قد طنقل إلى تلك المدرسة‬ ‫بجوار بلدة )دقادوس( بعد أن سعى جاهًدا لرد الجميل لبي لتقبلني مدرسة )كشك( ‪ ،‬وكانت مدرسة عريق ة له ا‬ ‫سمعة ‪ ،‬امتحاناتها ترد في الكتب النموذجية وليس سهلً أن تقبل مثلي دون أسباب قوية ‪.‬‬ ‫ويأتى الحديث عن المدرسة من وجهة نظر الريفيين‪ ،‬فليست هى بالمكان الذى يتلقى فيه العلم وحده‬ ‫وليمارس فضاؤها أى تأثير على الشخصية‪ ،‬حيث تتمايز الواحدة عن الخرى بمي ازت نفعية صرفة‪:‬‬ ‫كن ت أن زل إل ى ني ل )دمي اط( عل ى كيف ي ‪ ..‬من ذ ألحق ت ف ي الس نة الول ى الثانوي ة بمدرس ة )دمي اط(‬ ‫تحت إغ ارء أنها ك انت تق دم لطلبته ا ‪ -‬كم ا يتح دث ب ذلك الركب ان ف ي بل دنا ‪ -‬طعا ًم ا ف اخًار مطبو ًخ ا ش هًيا أرز‬ ‫وخضار ولحم وفاكهه في أيام الد ارس ة الكامل ة الس بت والح د والثلث اء والربع اء ‪ ..‬وغ داء م ن بي ض و)جبن ه‬ ‫شيدر( وعدس بجبة وفواكه في أيام الثنين والخميس ‪ ..‬شيء ل يصدقه العقل الريفي ‪..‬‬ ‫فضاء السجن ‪:‬‬ ‫يعد السجن نوعا من الفضاء المغلق الخانق ‪ ،‬إنه المكان الضيق المعتم‪ ،‬وهو المكان الذي ل يشعر‬ ‫النس ان باللف ة مع ه ‪ ،‬ب ل عل ى العك س م ن ذل ك يش عر نح وه بالع داء ‪ ،‬وه ذه الم اكن ليقي م فيه ا النس ان إل‬ ‫مرغم اً‪ .‬لم يك ن تركي ز الك اتب عل ى المك ان لذاته ‪ ،‬بل ليبرز الجانب النفس ي والشعور الداخلي للشخص ية به ذه‬ ‫المكنة ‪ ،‬فالسقاطات الذاتية تظهر للمسرود له بوضوح‪ ،‬وهذا ما ينطبق أيضاً على كل أماكن العتقال والسجن‬ ‫فى زمن الزنازين ‪:‬‬ ‫وأول علقتنا بالماكن المقبضة هى غرفة الحجز فى و ازرة الداخلية \" أدخلونى غرفة خالية إل من مكت ب خش بى‬ ‫ق ديم‪ ،‬علي ه أب اجورة‪ .‬دفع ونى فج أة فك دت انكفىء وأغلق وا الب اب‪ .‬وقف ت وحي دا للحظ ة مح اول حف ظ ت وازنى‬ ‫بص عوبة‪ .‬أخ ذت أتأم ل م احولى ك ان الس قف عالي ا بطريق ة غريب ة غارق ا ف ى ظلم ل زج محس وس‪ ،‬واللمب ة‬

‫‪73‬‬ ‫الساقطة منه تصارع لتنير الركان ‪ .‬بدا المكان باردا موحشا‪ .‬أحسس ت بك ل طواب ق المبن ى تجث م عل ى نفس ى‪.‬‬ ‫كان ضؤء اللمبة الضعيف يزيد الف ارغ وحشة وبرودة ‪ ،‬ويشيع حول نفس ه ظلل باهت ة‪ .‬وقف ت أتأم ل م احولى‪:‬‬ ‫مكتب كالح إل من دوسيه قديم ‪ ..‬بقايا تفل شاى وأعق اب س جائر ف ى ك وب زج اجى ق ذر ‪ ،‬مقع د خ ر ازن خل ف‬ ‫المكتب ‪ ،‬ولشىء آخر\"‪.‬‬ ‫وحضور السجن كان فى مخيلة البطل قبل أن يسجن فعلياً‪ ،‬فقد ذهب لزيارة الرفاق فى قره ميدان وكان‬ ‫يحلم به كثي اًر‪ ،‬فمع المطاردة المستمرة ظل السجن ي اروده فى أحلمه‬ ‫\" وكن ت ق د حلم ت حلم ا مرهق ا‪ .‬وجتن ى ف ى س جن ليش به الس جون ب ل قاع ة ك بيرة غريب ة مض ببة‬ ‫ببخار الماء وتعرفت فيها جموع المس اجين والمنتش رين ف ى أنحائه ا يس يرون ف ى ك ل التجاه ات يحمل ون كتب ا‬ ‫مممزقة وعلى وجوههم آثار دماء\" ويرى حسين عبد ربه \" ولم ا أردت ان أذه ب إلي ه منعن ى حب ل غلي ظ وج دته‬ ‫يكتفنى ويقيد يدى مربوطا لحلقة حديدية فى الجدار وحال بينى وبين رؤيته جسم ضخم لعس كرى مرع ب يمس ك‬ ‫فى يده كرباجا سودانيا وهو يتفحصنى ويهز الكرباج‪\".‬‬ ‫بعد تسع وسبعين صفحة يبدأ وصف السجن الحقيقى سجن المنصورة بتفاصيله‪ ،‬حيث يقف مثل الفأر‬ ‫المسلوخ‪ ،‬يخيرونه بين الملكى والميرى‪ ،‬ويتعرف على لئحة المكان التى لم ينقلها له الرفاق المسجونين‪ ،‬وليملك‬ ‫أن يجعل والده يدفع تسعة جنيهات ثمن طعامه‪ ،‬فمصاريف د ارسته وهو طليق كانت ستة جنيهات‪ ،‬يرتدى الن‬ ‫ملب س متس ول‪ ،‬ليمل ك ش يئا يض عه ف ى المان ات‪ ،‬يس تقبلونه ب دش الم اء الب ارد‪ ،‬ويحلق ون ش عر أرس ه ‪..‬بع دها‬ ‫تسرق منه ملبسه الداخلية‪ .‬يفقد البطل اسمه ويصبح رقماً فىالل ي ارد الجديد‪ ،‬كل هذه المقدمات ليلقى به بعد‬ ‫ذلك فى أتون المكان‪:‬‬ ‫\" ك ان العن بر نظيف ا وب اردا وعش ارت المس اجين ف ى ثي اب خض ارء وبيض اء منهمكي ن تنظي ف الج د ارن‬ ‫والرض النظيفة‪ .‬كانت الصوات المتداخلة تمل العنبر‪..‬نداءات وص يحات وثرث رة تخ ترق الج د ارن وزعق ات له ا‬ ‫رنين غامض\"‬ ‫فت ح المس جون المرب رب الب اب وأدخلن ى عب د الت واب ث م دف ع بق دمه كوم ة م ن الهللهي ل الص وف‬ ‫والبطاطين وجردل قديم قذر وأغلق الباب بشدة‪..‬وجدتنى ف ى مس احة لتتج اوز م ترين ط ول وعلرض ا له ا ناف ذة‬ ‫لها قاعدة منحدرة خالية ونظيفة وما ازلت مياه المسح تبل ل الرض ية ‪..‬وم اإن أغل ق الب اب س قطت ف ى بئ ر م ن‬ ‫الصمت العميق‪..‬‬ ‫وقفت تائها وسط الزن ازنة‪ ،‬تلفت أتامل المكان‪ ،‬كانت على الح ائط اليس ر مربع ات م ن ض وء الش مس‬ ‫الباهت تجاهد للتش بث بالج دار وه ى تص عد ف ى بطء نح و حدي د الناف ذة لتتلش ى ‪..‬غم رت عين ى ظلل رمادي ة‬ ‫جعلت الرض تبدو أكثر سوادا‪ ..‬وقع نظرى على الهللهيل اقتربت منها فى حذر وخوف‪.‬‬ ‫بع د ذل ك ت أتى محاول ة التكي ف م ع المك ان‪ ،‬واكتس اب الص لبة وتعل م الرج و الخ اص بالس جن مث ل‪:‬‬ ‫\"الج ارية‪ ،‬والبرش‪ ،‬وكاويرك\"‪ ،‬والتعود على اللغة الفاحشة التى تظل سمة من سمات المكان‪.‬‬

‫‪74‬‬ ‫وفى زمن الزنازين تتعدد السجون والمعتقلت ‪ ،‬ويستعين ال اروى بجانب شهادة البطل بشهادات آخرين‪،‬‬ ‫لكن فى الفصل العشرين يتعملق السجن ليصبح وحشاً أسطورياً من حديد وحجر‪ ،‬وكأننا نق أر فصلً من فصول‬ ‫جحيم دانتى‪ ،‬ففى وصف سجن قره ميدان‪ ،‬حاول الكاتب استخدام كل مايثير الرهبة‪ ،‬لينقل للقارىء فزعه من‬ ‫شكل السجن‪ ،‬لكن أهم مافى الوصف التركيز على القاموس السمعى‪ ،‬فجلبة الصوات تكاد تخرق أذن القارىء‬ ‫\"ضجيج‪ ،‬زئير‪ ،‬خوار‪ ،‬ثرثرة‪ ،‬صرخات‪ ،‬نداءات‪ ،‬ضربات\" أما المقارنات المستخدمة فجاءت كلها على وزن أفعل‬ ‫التفض يل كص يغة م ن ص يغ التعج ب‪ ،‬لتغل ق المج ال أم ام أى تش ابه‪ ،‬ه ذا غي ر إس ارف الك اتب المقص ود ف ى‬ ‫استخدام صيغة الجمع‪:،‬‬ ‫كان السجن قره مي دان يلي ق باس مه إن ه أض خم ثلث م ارت م ن س جن المنص ورة يحيط ه س ور أعل ى‬ ‫وأسلك شائكة أكثر كثافة‪ .‬وطبعا كانت الضجة المنبعثة ضجة أضخم وأكبر وأكثر إبهاما وغموضا وك ان مئ ات‬ ‫الوحوش ت أزر وتخور وتثرثر‪ .‬تخترقها صرخات ونداءات ورنين مع ادن يص در م ن ورش وض ربات طائش ة عل ى‬ ‫أبواب مصمطة ‪ .‬مداخن عدة تبعث دخاناًاً دسما من ورش ‪ .‬أس وار ش اهقة بي ن العن ابر وعليه ا أب ارج ح ارس ة‪،‬‬ ‫غير أبواب ضيقة لتهدأ الحركة دخول وخروجا منها ‪ ،‬تحت السيطرة‪\".‬‬ ‫ويصف لنا سجنا آخر هو السجن الحربى‪ ،‬حيث يصبح المكان معادياً مرتين‪ :‬مرة لكونه محبساً‪ ،‬ومرة لعلقته‬ ‫بفض اء قاح ل م وحش غي ر مطمئ ن ه و فض اء الص ح ارء‪ ،‬فعن دما يع رف الرفي ق \"محم د ط ه\" أن عزي ز ق ادم م ن‬ ‫السجن الحربى يشفق عليه ويتفهم مأساته لنه قد خبرها‪ ،‬يحكى هو الخر والغريب وعلى عكس توقع القارىء‪،‬‬ ‫ليتح دث المس جونين ع ن ص مت طوي ل وقات ل‪ ،‬فأش د م ايثير الرع ب ف ى الس جون ه و تل ك الص وات‪ ،‬فيس تمر‬ ‫التركيز على قاموس سمعى أكثر منه بصرى ‪ ،‬إذ يقول \"محمد طه\"‪:‬‬ ‫السجن الحربى ده مش سجن ده مق برة ك بيرة وس ط الص ح ار‪ ...‬أول م اتخطى أول عتب ة تلق ى نفس ك‬ ‫مع زول ع ن الع الم ك ل اص وات الع الم النس انية تم وت ولتس مع ال أص وات غريب ة خلي ط م ن ص يحات أل م‬ ‫وصيحات استغاثة وعواء كلب وحشية ل تسمعها فى مك ان ت انى وك ل م ا تخط ى عتب ة ويتقف ل علي ك ب اب و ار‬ ‫باب تحس إن انت بتتحول لرقم‪\".‬‬ ‫واذا تركنا البنية جانباً‪ ،‬سنرى كيف صور لنا الكاتب احساس الشخصية بالسجن من الداخل‪ ،‬وليس‬ ‫هناك أصدق أو أفدح من شهادة عزيز ‪ ،‬وعزي ز لم يشكو على مدار الن ص‪ ،‬ولم يح دثنا عن سجن واحد‪ ،‬فقد‬ ‫فضل أن تكون شهادته مرسومة ل مكتوبة‪ ،‬ورسوم عزيز تلخص حالة كل سجون ومعتقلت العالم‪ ،‬وكيف تبدو‬ ‫فى عيون المضطهدين‪.‬‬ ‫فاللوحة الجدارية التى رسمها عزيز هى فضاء تخيلى‪ ،‬يرسم مكاناً نفسياً ل حقيقياً‪ ،‬فعيون الفنان التى‬ ‫ترى المكان تحت وطأة القهر المضاعف وهو السجن أولً‪ ،‬وشعور البرىء بالغبن والظلم ثانياً‪ ،‬ناهيك عن حوادث‬ ‫الغتصاب كأشد وأقوى أنواع القهر النسانى‪ ،‬تجعل عين الفنان المرهف ترى المكان بصورة أشد قسوة من كل‬ ‫الكلمات التى استخدمها الكاتب سواء على لسانه أو على لسان آخرين‪ ،‬وهاهى شهادة عزيز الرسام الخيرة التى‬ ‫سجلها بفرشاته‪ -‬هو الصامت دوماً‪ -‬قبل أن يرحل منتح اًر‬

‫‪75‬‬ ‫لوحة جدارية رهيبة ترتفع فوق الجدار الشرقى عبارة عن صليب ضخم بنى تضيئه بقع صف ارء وعلي ه‬ ‫مصلوب مسيح ضخم فى ملبس السجن يميل وجهه على رقبته وعين اه شاخص تان نح و الجم ع الم ت ازحم عل ى‬ ‫الباب وخارجه وفيهما نظرة اتهام نارية تخترق المس افة بينه ا وبينن ا ف ى حق د ل يلئ م مس يحا مص لوبا تص يب‬ ‫مشاهدها بالهلع بينما تناثرت أحذية عسكرية ضخمة تهرس صلبانا محطمة فوق الح ائط وعل ى الرض وك انت‬ ‫الدماء تسيل من الذ ارعين المسمرين فى خشب الصلب تض فى عل ى المش هد كل ه دموي ة ورعب ا يجم د ال دم ف ى‬ ‫العروق‪\".‬‬ ‫وحينئ ذ يص رخ البط ل أم ام حقيق ة المك ان ف ى وج ه الزب انيه والجلدي ن ق ائل‪\" :‬ياش اويش عب د ال لس ه الحيط ان‬ ‫عايزه وش تانى عشان تدارى فضيحتنا كلنا‪\".‬‬ ‫إنه ا ش هادة أش د قس وة من شهادة عب د الحمي د عن معتق ل الع زب‪ ،‬وسوف ن رى كي ف ترب ط الش هادات دائم اً بي ن‬ ‫تجربة السجن والموت‪ ،‬فكلمة مقبرة ومقابر ترد دون وعى على لسان كثير من المسجونين‪:‬‬ ‫ظل )عبد الحميد( يحكي لي عن معتقل )العزب( الذي كان يشبه معتقلت )الن ازي( ف ي مك ان م وحش‬ ‫بالقرب من دير )النبا إب ارم( على بعد حوالي )‪ (15‬كيلو جنوب مدينة )الفيوم( حيث مقابر المسيحيين ‪ .‬وعل ى‬ ‫بعد نصف كيلو تقع مقابر المسلمين ‪ .‬ووسط الصمت الرهيب للمقابر توجد بواب ة )الخ رة والم وت( عل ى ش كل‬ ‫عن ابر )معتق ل الع ازب( تحي ط به ا الس لك الش ائكة ومس احات م ن المس تنقعات ‪ .‬حي ث ترتف ع م ن الس ور‬ ‫الساسي أب ارج الح ارسة الخشبية والكش افات الض وئية ال تي تمس ح المنطق ة مش فوعة بن داءات الح ارس ح املي‬ ‫الم دافع الرشاش ة يزعق ون )واح د تم ام ‪ ..‬اتني ن تم ام( لي ل نه ار ‪ .‬وك ان مبن ى الدارة يق ع عل ى يمي ن الع ابر‬ ‫للبوابة التي تسد الطريق مكونة من عدة طبقات من السلك الشائك ‪ .‬وعلى اليسار كانت هناك ثمان عن ابر ك ل‬ ‫أربعة متوالية في ناحية وبينها أسوار شائكة أخ رى وس طها طري ق عري ض م ن أول المعتق ل لخ ره يفص ل بي ن‬ ‫العنابر ودو ارت مياهها التي تقع كل واحدة في صف خلف العنابر ‪ .‬وهي دو ارت ل آدمية بل أب واب أص لً وف ي‬ ‫كل منها حوض م ن الص اج الص دئ يفص ل بينهم ا وبي ن آخ ر عن بر مس احة ك بيرة ‪ .‬ولي س هن اك س ور يحي ط‬ ‫بالمعتقل من الطوب كغيرة من الس جون‪ .‬ول ذلك تص بح مس احة المعتق ل كله ا ح رة للري ح الب اردة ف ي الش تاء ل‬ ‫تحجزها موانع ‪..‬‬ ‫وليصبح الموت هنا ارحة أو نهاية مطاف حيث السكينة والصمت والف ارغ الموحش‪ ،‬على العكس فعلى‬ ‫بوابات جحيمه يكون الحديث دوماً عن زبانية جهنم الرضية‪:‬‬ ‫\"وفي الطري ق الوس طى ك انت خي ام جن ود الهجان ة ال ذين يض افون ليلً إل ى ح ارس الس جن بك اربيجه م‬ ‫المنقوع ة ف ي الزي ت عل ى ال دوام وج اهزة لتنفي ذ أوام ر الض رب عن دما يح ل أوان الت أديب والتك دير ‪ .‬والعن ابر‬ ‫مستطيلة تغطيها جمالون ات م ن الخش ب المغط ى بالص اج وب ذلك تص بح ثلج ات زمهريري ة قارس ة ف ي الش تاء‬ ‫وتتحول في الصيف إلى نار جنهم ‪..‬‬ ‫السجن فى و لهم يحزنون‪:‬‬ ‫ق د نس تغرب وص ف المك ان بعي ون ن وال‪ ،‬فه و لي س بالقس وة ال تى نتوقعه ا‪ ،‬وه ذا ط بيعى فن وال ليس ت معتقل ة أو‬ ‫محتجزة لتجرب فداحة الشعور النفسى بفقدان الحرية‪ ،‬والحق أن المكان بعيون محايدة لن يؤثر فينا من الخارج‬

‫‪76‬‬ ‫ولكن سيتضح بعد ذلك فى زمن الزنازين أن المكان قد تجمل بفعل مجهودات أخيها سمير أو سالم فى النص‪،‬‬ ‫لق د\" تخيلته أكثر كآبة مم ا ه و علي ه ‪،‬ك انت تتوق ع مكان ا بائس ا رهيب ا ف إذ به ا ت رى مبن ى متأنق اً م دهوناً ح وله‬ ‫خضرة وناس\"‬ ‫ورغ م أن الرواي ة كتب ت كله ا بالض مير الث الث \" ال اروى العلي م \" إل أن س مير عب د الب اقى يص ف الس جن بعي ون‬ ‫الشخصية فيبدأ بوصف الموقع الجغ ارفى‪:‬‬ ‫ك ان س جن المنص ورة بج وار غاب ة م ن أش جار الجازورين ة والك افور تمت د لع دة أفدن ة عل ى م دخل‬ ‫الطريق الجنوبى المؤدى إلى القاهرة وتمتد أمامه الم ازرع ح تى ش ط الري اح الت وفيقى القري ب ف ى الش رق وأم ام‬ ‫ب وابته مس احة ز ارعي ة ح والى ف دانين مزروعي ن بخض روات مختلف ة تحي ط به ا وتتخلله ا ع دة أش جار خ روع‬ ‫وفيكس مزهر ويفصلها عن تلك الغابة الطريق المتجهة غربا والذى يقطعه شريط السكة الحديد‬ ‫ثم ينتقل الكاتب لوصف دهشة نوال مما أرته فى السجن الذى كان لس مير‪/‬سالم دو اًر فى تجميله‪ ،‬طبعاً دون أن‬ ‫تعرف مجهودات أخيها وقيادته نواش ارفه على المساجين لتحويله لمكان انسانى‪ ،‬وهذا ما سيعرفه القارىء فى رواية‬ ‫زمن الزنازين‪.‬‬ ‫\"لكن دهشتها الحقيقية كانت لما أرته فى حوش السجن‪..‬كانت هناك خضرة ازهية منظمة ومعتنى به ا‬ ‫مرصعة بزهور بنفسجية وحم ارء نظيفة و ازهية وهناك ملعب لكرة السلة مخططاً بالجير وملعب آخر لل اركت أكثر‬ ‫نظافة وتنسيقاً من ملعب مثله أرته فى المدرسة العدادية‪ .‬وام ام مبن ى مرك ب منخف ض ش ديد البي اض س قوف‬ ‫بجمالون من القرميد الحمر جلس احد الضباط تحت مظلة شاطىء ملونة\"‬ ‫لكن عندما تدخل نوال فى التجربة‪ ،‬وهى بكل تأكيد لتقارن بتجربة الس جن‪ ،‬سترى مبن ى النيابة أشد‬ ‫قسوة وقبحاً من السجن‪ ،‬فوصف السجن جاء من الخارج فلم تدرك نوال بشاعة مايحدث داخله‪ ،‬أما هذا المبنى‬ ‫فيبدو فمن داخله كالتى‪:‬‬ ‫\"طرقة وسخة ‪ ،‬هواء ف ارغها مزيج من ريحة ت ارب وتفل شاى ودهن بش رى وغب ار مظ الم وآه ات قه ر‬ ‫عش ارت السنين تركت آثار غلبها على الجد ارن\"‬ ‫الخاتمة‪:‬‬ ‫باختصار كانت هذه أهم الفضاءات أو المكنة التى يتحرك فيها السارد فى ثلثيته‪ ،‬وكما أرينا فالمكان‬ ‫هو واحد من أهم عناصر البناء القصصي الذي تدور فيه الحداث وتتحرك الشخصيات‪ ،‬ويقوم بدور المناظر‬ ‫الخلفية في المسرح ‪ ،‬كما يلعب دو اًر أساسياً في إظهار المضمون الجتماعي أو السياسي للقصة‪ ،‬فالمكان هو‬ ‫الموقع الثابت المحسوس القابل للد ارك والحاوي للشيء‪ ،‬وهو مستقر بقوة فى إحساس الكائن الحي \" النسان \"‪،‬‬ ‫لن العلقة بين النسان والمكان تقوم على ركيزتين ‪ :‬هما‪ :‬التضاد و اللتقاء‪.‬‬ ‫وقد لحظ باختين \"أن المدن فى القصص الكلس يكية تشكل بالنسبة للحبكة خلفية يمك ن الستعاضة‬ ‫بواحدة منها عن الخرى\"‪ 93.‬لكن النقاد المحدثون يحددون أهمية تلك العلقة‪:‬‬ ‫‪ 93‬ديفيد لودج \"الفن الروائى\" ترجمة ماهر البطوطى المجلس العلى للثقافة ص ‪66‬‬

‫‪77‬‬ ‫‪ - 1‬قبل النص ‪ :‬حيث يشكل المكان دافعاً للبداع‪.‬‬ ‫‪ - 2‬أثناء النص ‪ :‬حيث يدخل المكان في نسيج النص من خلل حركة السارد في المكان ‪.‬‬ ‫‪ - 3‬بع د النص ‪ :‬يتعلق هذا الجانب بالمتلقي \" القارئ \" وطريقة تلقيه للشا ارت المكانية التي يرسلها القاص‪،‬‬ ‫ويرتبط ذلك بقدرة الكاتب على اخت ازن أمكنة مغايرة لما يعهده القارئ أو تقديم المكان المعهود بصورة فنية مختلفة‪.‬‬ ‫هك ذا ي دخل المك ان ف ى علق ات جدلي ة م ع بقي ة العناص ر الحكائي ة الخ رى للمت ن الس ردى مث ل‬ ‫الشخصيات والحداث‪ .‬هذا الفضاء السردى يتشكل عبر الكلمات‪ ،‬بمعنى أن النص الروائى نفسه يخضع لتنظيم‬ ‫مكانى من فق ارت وجمل وفواصل وعلمات ترقيم وحجم وشكل خط الطباعة‪ ،‬ناهيك عن عتبات النص‪ :‬العنوان‪،‬‬ ‫صورة الغلف‪ ،‬الهداء و وكلمة الغلف ‪.‬‬ ‫وبع د ق ارءة تفكيكي ة للنص وص مح ور الد ارس ة نؤك د أن المك ان يم ارس س طوة ف ى العم ال البداعي ة‬ ‫الثلثة‪ -‬ربما هو كذلك فى كل عمل إبداعي لو شئنا التعرض له نقدياًاً ‪ -‬ويمثل ظاهرة طاغية تطفو على سطح‬ ‫الكلمات بما يتولد عنها من دللت ل حصر لها؛ تعكس وتجسد الحساس بما و ارء النص‪.‬‬ ‫لق د حاولن ا أن نقوم بعملي ة تتب ع لخط ى هذا المكون ‪ /‬المحور داخ ل النص وص‪ ،‬لنكش ف كي ف يتحول‬ ‫المك ان إل ى عنص ر فاع ل‪ ،‬وبع د جم الي م ن أبع اد الن ص الس ردي‪ ،‬لم ا يمنح ه م ن إمكاني ة الغ وص ف ي أعم اق‬ ‫الن ص ورص د تف اعلته وتناقض اته‪ .‬ورغ م أن رواي ات س مير عب د الب اقى ه ى رواي ات س ير ذاتي ة‪ ،‬إل أن ه تحي ز‬ ‫للمكان من منظور الروائى ل المؤرخ‪ ،‬وحتى لو كانت الذات الساردة واحدة‪ ،‬وحتى فى تجلياتها فى صورة ال اروى‬ ‫العليم إل أنه قد عرض أماكنه وفضاءاته بعيون شخصياته وحسب السياق النفسى وتطور السرد لدى شخوصه‪.‬‬ ‫حتى ضمير النا نفسه كان ينظر للماكن حسب موقع شخصيته‪ ،‬نواد اركه للموقف كشخصية روائية تمارس مع‬ ‫المكنة دو اًر فاعلً حيث يؤثر ويتأثر به‪.‬‬ ‫لكننا من ناحية أخرى ليمكننا فصل المكان عن الزمن لرتباطه الوثيق به‪ .‬نواذا اعتبرنا المكان خطاً‬ ‫حدي دياً ف إن الزم ان ه و الق اطرة ال تى تتح رك ف وقه‪ .‬إنن ا ن درك المك ان إد ارك اًاً حس ياًاً مباش اًراً ف ى حي ن أن إد اركن ا‬ ‫للزمن هو إد ارك نفسى غير مباشر يتجلى من خلل فعله بالناس والشياء‪.‬‬ ‫لقد استعار باختين مصطلح الزمكانية من علم الحياء الرياضى‪ ،‬حيث ترى النظرية النسبية تقول أن‬ ‫الفص ل بي ن الفع ل والزم ن أم ر مح ال لن الزم ن ه و البع د ال ارب ع للمك ان \"إن مؤش ارت الزم ان والمك ان تتش ابك‬ ‫معاًاً ‪...‬فالزمن يتكثف شاخصا يكتسى لحماًاً ويصبح من الناحية الفنية مرئياًاً‪ ،‬وبالمثل يصبح المكان مشحوناًاً‬ ‫ومستجيباًاً لحركات الزمن والحبكة والتاريخ‪94\".‬‬ ‫نواذا كان القص هو رحلة فى الزمان والمكان معا‪ ،‬فإننا فى الفصل القادم سنتعرض \"للزمن وتقني اته\" فى‬ ‫لنه ل يقل إغواء عن فضاءات سمير عبد الباقى‪.‬‬ ‫‪\" 94‬ميجان الرويلى وسعد البازعى \" دليل الناقد الدبى\"المركز الثقافى العربى ص ‪0 170‬‬

‫‪78‬‬ ‫الفصل الثالث‪:‬‬ ‫مفهوم الزمن في السيرة الذاتية‪:‬‬ ‫يمكنن ي جي داً أن أروي قص ة دون أن أعي ن المك ان ال ذي تح دث في ه ‪ ،‬وه ل ه ذا المك ان بعي د ك ثي اًر أو قليلً ع ن‬ ‫المكان الذي أرويها منه ‪ ،‬هذا في حين يستحيل عل ْي تقريباً أل أموقعها في الزمن بالقياس إلى فعل( السردي ‪،‬‬ ‫مادام عل ْي أن أرويها بالضرورة في الزمن الحاضر أو الماضي أو المستقبل\"‬ ‫جي ارر جينيت‬ ‫فى شعرنا القديم طالما وقف الشع ارء أمام الطلل كواحدة من أهم موضوعات الشعر الجاهلى‪ .‬كانت‬ ‫الطلل دائماً تدعو للتفك ر فى ت أثير الزمن عليهم وعلى الموجودات من حولهم‪ ،‬وقديماً قال الشاعر \"ما أقرب‬ ‫اليوم من غد\" لقد استوقفت الشاعر الجاهلي المقولة الزمنية‪ ،‬وانشغل بها ف أرى الزمن في خطيته )اليوم‪ ،‬الغد (‬ ‫بنظره مأساوية ؛ لنه يفاجئك ويقضي عليك دون سابق إنذار‪ ،‬فالزمن ينتقل بسرعة من الحاضر إلى المستقبل‪،‬‬ ‫وفي سيره السريع إشارة إلى فناء‪ .‬لقد ظن الشاعر أن حياة النسان مهددة باستم ارر من قبل الزمن‪ ،‬فهي تمضي‬ ‫دائماً إلى زوال ‪ ،‬وأن الزمن سيهلكه كما أهلك عاداً والقرون الولى‪ ،‬وفى ذلك قال طرفة بن العبد‪:‬‬ ‫ماغال عادا والقرون فأشعبوا‬ ‫ولقد بدا لى أنه سيغولنى‬ ‫وتتجلى الخطية الزمنية أفقية في رؤية الشاعر العربي القديم‪ ،‬إذ حصر حاتم الطائى الزمن‬ ‫في ثلثة أقانيم – هي الحاضر والماضي والمستقبل‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫هل الدهر إل اليوم أو أمس أو غد كذلك الزمان بيننا يتردد‬ ‫يبدو هذا الترتيب دقيقاً من الناحية الفلسفية ؛ لن النسان ينطلق عادة لتحديد موقعه من حاضره الذي‬ ‫يعيشه ويحسه‪ ،‬ثم يعود بالذاكرة إلى الزمن الذي عاشه في الماضي‪ ،‬أما المستقبل فهو في حكم الغيب‪ ،‬لذلك جاء‬ ‫في المرتبة الثالثة ‪.‬فمشكلة الزمن لدى الشاعر العربي كانت ول ت ازل تشكل هاجسه المحوري‪.‬‬ ‫الزمان الروائي‪:‬‬ ‫ونقصد بذلك أكثر من زمن فهن اك زمن الكتابة‪ ،‬أي الزمن الذي تدور فيه الحداث المتخيلة‪ .‬وهناك‬ ‫زمن الق ارءة‪ .‬وهناك الزمن الداخلي للنص‪ .‬وهناك الزمن الذي تستغرقه الحداث‪ .‬فزمن الحداث قد يكون زمناً‬ ‫استط اردياً‪ .‬الن وأم س وغ داً‪ .‬وهن اك زم ن استرجاعي أو الفلش ب اك‪ ،‬و الزمن المتقطع الذي يتقدم ث م يت ارجع‪.‬‬

‫‪79‬‬ ‫وأخي ار زم ن تي ار الش عور حي ث تعم ل ال ذاكرة م ن دون انتظ ام اس تط اردي كم ا ه و ف ي رواي ة »ع وليس« لجيم س‬ ‫جويس‪ ،‬فالحدث يجب أن يتس م بالزمانية‪ ،‬والزمن يجب أن يتص ف بالتاريخية‪ .‬ف الزمن والتاريخ هما شئ واحد‪،‬‬ ‫حسبما يرى عبد الملك مرتاض‪.‬‬ ‫ولكن ليعن ى ذلك أن يصبح الروائي مؤرخاً‪ ،‬ويرى تودوروف أن الذي يحكي »مؤلف الرواية« يج جسد‬ ‫الزمن الحاضر‪ ،‬وأن ما يحكيه يمثل الزمن الماضي وعليه أن يزيح الزمانين ليتدرج نحو المستقبل على أساس أن‬ ‫المتلقي يأتي حتماً متأخ اًر‪ .‬إذاً يقوم المر على تمثل علقة طولية متعددة متتابعة ل تلتقي خطوطها أبداً‪.‬‬ ‫وللزمن فاعلية كبيرة في النص السردي فهو إحدى الركائز الساسية للعملية السردية‪ ،‬ود ارسة الزمن في‬ ‫النص السردي هي التي تكشف عن الق ارئن التي يمكن من خللها الوقوف على كيفية اشتغال الزمن في العمل‬ ‫الدبي)‪ .(95‬فالزمن هو الخيط الذي يجمع كل العناصر السردية‪ ،‬فالشا ارت الزمنية في أي نص سردي تشترك‬ ‫وتتفاعل مع جميع العناصر السردية الموجودة في النص مؤث اًر فيها ومنعكساً عليها ف \"الزمن حقيقة مجردة سائلة‬ ‫ل تظهر إل من خلل مفعولها على العناصر الخرى\")‪.(96‬‬ ‫إن وجود الزمن في السرد حتمي إذ ل سرد بدون زمن)‪ .(97‬وهذه الحتمية التي تجعل من الزمن سابقاً‬ ‫منطقياً على السرد هي التي دفعت بجي ارر جينيت إلى القول بإمكانية رواية قصة من دون تحديد للمكان الذي‬ ‫تدور فيه الحداث‪ ،‬واستحالة إهمال العنصر الزمني في النص السردي الذي بوساطته تنتظم العملية السردية)‪.(98‬‬ ‫ويعد الزمن بكل إحدى الركائز الساسية في خلق النص السير ذاتي حيث أن \"الماضي بوصفه البنية‬ ‫الزمني ة الس اس ف ي الس يرة يق دم الح وادث المطلوب ة اس تقدامها مج ردة‪ ،‬وتق وم فعالي ات الت ذكر… باس تلم ه ذه‬ ‫الحوادث على شكل مادة أولية ل يصح نقلها كما هي في كيان فعل أدبي خلق\")‪.(99‬‬ ‫ولما كان الزمن في السيرة الذاتية‪ -‬شأنه شأن أي خطاب قصصي‪ -‬يحمل على عاتقه تنظي م السرد‬ ‫وترتيب ه فق د انط وى عل ى مش كلة مزدوج ة تكم ن ف ي ترتي ب الح داث ف ي الس رد‪ ،‬ه ل ترت ب عل ى وف ق ال ترتيب‬ ‫الكورنولوجي التص اعدي يأخ ذ الزمن فيه ا الط ابع الخط ي‪ ،‬زمن هذا الفع ل من دون أي تق ديم أو تأخير بوص فه‬ ‫قص ة اس تعادية لحي اة حقيقية؟ أم ترت ب فيه ا الحداث عل ى وفق ض رو ارت العملي ة الس ردية إذ ل يح اول الك اتب‬ ‫تتبع مجريات الحداث على وفق الت ارتب الطبيعي بل يستخدم التحريف الزماني لغ ارض جمالية؟‬ ‫ولك ل م ن ه اتين الطريق تين أنص ارها فأن دريه م وروا ي رى ض رورة \"التعقي ب المط رد النظ ام التسلس ل‬ ‫الزمني\")‪ .(100‬ويجعلها القاعدة الساسية الولى لكتابة سيرة قريبة من فنية الرواية وبعيدة عن الجفاف العلمي مع‬ ‫الحفاظ على الحقائق‪ .‬فمن الخطأ استباق المور في السيرة‪ ،‬كما يرى ضرورة الت ازم التسلسل المنطقي القائم على‬ ‫السبب والنتيجة لكشف التطور البطيء الحاصل في حياة الشخصية)‪.(101‬‬ ‫)( بنية الشكل الروائي‪.113 :‬‬ ‫‪95‬‬ ‫‪96‬‬ ‫)( بناء الرواية‪.27 :‬‬ ‫‪97‬‬ ‫‪98‬‬ ‫بنية الشكل الروائي‪.117 :‬انظر‬ ‫)(‬ ‫‪99‬‬ ‫‪100‬‬ ‫)( انظر مرايا نرسيس‪.117 :‬‬ ‫‪101‬‬ ‫)( السيرة الذاتية الشعرية‪.15 :‬‬ ‫)( أوجه السيرة‪.5 :‬‬ ‫)( انظر مرايا نرسيس‪.53 -50 :‬‬

‫‪80‬‬ ‫أم ا ليون ايدل في رى أن الن ص الس يري ل يختل ف ع ن أي ن ص حك ائي آخ ر‪ ،‬ويرف ض إتب اع التسلس ل‬ ‫الزمني التاريخي لنه ل يوحي بالعنصر النساني الزمني في السيرة‪ ،‬ومن شأنه أن يباعد بين الحوادث والفكار‬ ‫ويبعثره ا بي ن الس نين)‪ .(102‬كم ا ي رى ف ي اس تخدام التقني ات الزمني ة م ن اس ترجاع واستباق أو غيره ا وسيلة لجع ل‬ ‫السيرة أكثر فنية‪ ،‬وتخليصها من الطابع الخبري‪\" :‬فإذا ما سردت هذه الحقائق طبقاً للتسلسل الزمني جاءت وكأنها‬ ‫صحيفة يومية‪ ،‬تقفز فيها من خبر لخر دون أن يكون هناك اربط ظاهر يؤلف بين هذه الخبار\")‪.(103‬‬ ‫وق د لج أ س مير عب د الب اقى لطريق ة اي دل لن الس يرة الذاتي ة‪ ،‬رغ م كونه ا قص ة اس تعادية تعتم د عل ى‬ ‫الحداث الماضية في عملية السرد \"إل إنها في الوقت نفسه محكومة بذاكرة تنسى وتتوهم وتشوه ويعسر عليها‬ ‫احت ارم الترتيب الزمني للحداث وتعاقبها الواقعي\")‪ .(104‬إذ أن الذاكرة بوصفها آلية الفعل الول في السيرة \"ل تقوم‬ ‫باستعادة شريط الماضي على أنه أثر قادم من متحف الذاكرة‪ ،‬إنما هي تؤلف نسخة جديدة من هذا الثر تنقله‬ ‫من نشاطه المتحفي إلى نشاط حيوي خلق يغادر فيه السكون إلى الحركة ويتمرد على ثب اته‪ ،‬ويكسر السياق‬ ‫الزمني المألوف لنه يتصرف بالزمن بالشكل الذي يخدم الواقعة أو الحدث بشكله الجديد الحي ل بصورته القديمة‬ ‫الجامدة\")‪.(105‬‬ ‫ويتخذ الزمن لدى كاتب السيرة الذاتية أشكالً متعددة فقد يكون \"مكوناً من لحظات متتابعة أو متناثرة‬ ‫وأحيان اً متن افرة\")‪ .(106‬فه و يق وم عل ى النتقائي ة‪ ،‬ولك ن ه ذا النتق اء لي س عش وائياً إذ يظ ل هن اك ن وع م ن ال ت اربط‬ ‫يحرص عليه الكاتب من خلل إيجاد شبكة من العلقات تربط الحداث بعضها بعضاً‪.‬‬ ‫ب الرغم م ن أن الرواي ة‪/‬السيرة سوف تب دأ م ن الماض ى نحو المس تقبل بحك م أنه ا رواي ة س يرية تب دأ م ن‬ ‫الطفولة حتى اللحظة النية‪ ،‬إل أن سمير عبد الباقى لم يلتزم فيها بالمستوى البسيط للتتابع والتتالى لكنه عمد ف ى‬ ‫أحيان كثيرة لخلط المستويات الزمنية من ماضى وحاضر ومستقبل خلطاً تاماً ‪ ،‬مما خلق نوعا من التلحم بين‬ ‫المس تويات الثلث ة لن الزم ن كم ا اتفقن ا ه و حقيق ة س ائلة ولي س ل ه وج ود مس تقل ‪ ،‬والحقيق ة أن اس تخدام الفع ل‬ ‫الماضى كانت له السطوة‪ ،‬وأسرف الكاتب فى استخدام فعل الكينونة \"كان‪ ..‬وكانت\" ولم يعمد لستخدام أفعال‬ ‫المقاربة والشروع إل على استحياء‪ ،‬وربما كانت مرجعيته فى ذلك ت ارثية‪ ،‬جعلته يعمد لمقاربة نصه من \"ألف ليلة‬ ‫وليلة\" أو للثيمات الشعبية فى الحكى التى تحتفى بكلمة \"كان\"‪.‬‬ ‫والفعل الماضى هو القوى دلليا وله تاريخ طويل مع السرد الت ارثى‪ ،‬فى حين أن الفعل المضارع حديث‬ ‫بعض الشىء‪ ،‬وبدأ مع كتاب الرواية الجديدة الفرنسيين‪ ،‬ويرجح البعض ذلك لتأثير فن السينما مع العل م أن الفع ل‬ ‫الماض ى ف ى الق رآن ق د ي دل عل ى المس تقبل وذل ك لقوله تع الى \" اق تربت الس اعة وانش ق القم ر\"‪ .‬لك ن يقي ن الفع ل‬ ‫الماضى يمنع أحيانا الحيوية والديمومة عن الحكى ففارق كبير بين \" أريت لك\" وبين \"لنرى معا\"‪.‬‬ ‫وفى آخر أعماله \"موال الصبا فى المشيب\" نجد أن الفتتاحية قد تقلصت‪ ،‬ولم تعد تشغل حي از كبي اًر فقد‬ ‫اعتمد سمير عبد الباقى على عمليه السابقين لعطاء القارئ خلفية عن المكان‪ ،‬فالبطل واحد وعالم ميت سلسيل‬ ‫)( فن السيرة الدبية‪.167 :‬‬ ‫‪102‬‬ ‫)( فن السيرة الدبية‪.173 :‬‬ ‫‪103‬‬ ‫)( سيرة الغائب‪ .‬سيرة التي‪ :‬السيرة الذاتية في كتاب اليام لطه حسين‪.64 :‬‬ ‫‪104‬‬ ‫)( السيرة الذاتية الشعرية‪.17 :‬‬ ‫‪105‬‬ ‫‪106‬‬ ‫)( مرايا نرسيس‪.17 :‬‬

‫‪81‬‬ ‫كان دائما فى بؤرة العملين السابقين‪ .‬وقديما كتب بل ازك وزول روايات تكرر فيها ظهور نفس الشخصيات فمكنهم‬ ‫ذلك من اختصار الفتتاحيات‪.‬‬ ‫وعادة ما يلجأ الكاتب للسترجاع كلما قدم شخصية جديدة ‪ ،‬فرغم الت ازمه بالخط المستقيم بصفة عامة‬ ‫إل أنه رغم ذلك يتذبذب مابين حاضر الشخصية وماضيها‪ .‬ورغم ذلك التعقيد الظاهر إل أننا نجد فى أعمال‬ ‫سمير عب د الب اقى بحك م أنه ا أعم ال س يرية مع الم نصية تس اعد الق ارىء عل ى تتب ع الزم ن‪ .‬لنقص د ب ذلك مج رد‬ ‫ظروف الزمان أو الزمن الكونى‪ ،‬بل لجأ الكاتب لتواريخ محددة‪ ،‬و اضطر فى أحيان كثيرة للتدخل المباش ر لتن بيه‬ ‫القارئ أن هذه الحداث سابقة أو تالية للحظة الحكى‪ ،‬وأحياناً ماكان يقاطع الحكى الماضى باستخدام كلمة الن‪.‬‬ ‫ومعروف أنه كلما ضاق الزمن الروائى \" ‪ 3‬أيام فقط\" مثلما ح دث ف ى ولهم يحزنون‪ ،‬ش غل الس ترجاع‬ ‫الخارجى لما قبل بداي ة الرواية حي از أكبر‪ .‬لقد اختار الك اتب النطلق من لحظة موت العمدة‪ ،‬ولكنن ا نجد أن‬ ‫الس ترجاع الخ ارجى أق ل حجم ا بالنس بة لزم ن الق ص‪ ،‬وق د تمث ل ذل ك ف ى الح ديث ع ن تاري خ القري ة وع ن زواج‬ ‫وال ديه ‪ .‬ولك ثرة الشخص يات ال تى تظه ر عل ى مس يرة الن ص‪ ،‬ظ ل الك اتب يع اود الس ترجاع لتق ديم ماض ى‬ ‫الشخصية‪.‬‬ ‫فى ولهم يحزنون لجأ للسترجاع الداخلى حيث كان يترك الشخصية الرئيسية نوال‪ ،‬ويعود للحديث عن‬ ‫شخصيات أخرى أهمها \"فرج ال\" وزوجة \"الشيخ مقبل\" و \"الشنقيط \"‪.‬‬ ‫ومفهوم الزمن عند سمير عبد الباقى شأنه شأن الشع ارء العرب يسير بكل أسف نحو مستقبل متشائم‪.‬‬ ‫صحيح أن مآل النسان هو الموت‪ ،‬لكن يظل الزمن طوال النص عنص اًر هداماً الى أقصى درجة‪ ،‬حيث تتآكل‬ ‫الماكن الحميمية وفضاءات اللفة‪ .‬يغزوها اللسمنت ويشوهها القبح وتفقد روحها‪ .‬أما العلقات النسانية فتتوتر‬ ‫وتكاد تتلشى‪ ،‬والتواصل بين الجيال يكاد بكل أسف أن يكون معدوماً‪ .‬حتى رهان الكاتب أى كاتب على الكلمة‬ ‫لنها ستكتب له الخلود ولن تنتهى بعد موته‪ ،‬يتشكك الكاتب فى أهميتها‪ ،‬فأعمال سمير عبد الباقى أقرب لروح‬ ‫رواي ة الق رن التاس ع عش ر حي ث ك انت تمث ل تل ك الرواي ات وخاص ة رواي ات \" إمي ل زول\" وك ذلك رواي ات‬ ‫\"دوستيوفسكى\" أسطورة السقوط‪ .‬باختصار الزمن له طابع مدمر عند سمير عبد الباقى ‪.‬‬ ‫الروابط الزمنية‪:‬‬ ‫الروابط الظاهرة‪:‬‬ ‫يقصد بالروابط‪ :‬جملة من العلقات التركيبية التي تنتظم في نطاقها المقاطع السردية والمواقع الزمنية‪.107‬‬ ‫والزمن هو أهم اربط يستخدمه الكاتب فالروابط الظاهرة ل يقصد بها أدوات الستئناف وق ارئنه التي تتص در بع ض‬ ‫الفصول نوانما يقصد بها ثلثة مبادئ هي‪ :‬الستعادة والتداعي والتتابع)‪.(108‬‬ ‫أ‪-‬مبدأ الستعادة‪:‬‬ ‫تحليل الخطاب الروائي‪.136 :‬‬ ‫‪107‬‬ ‫)( سيرة الغائب‪ .‬سيرة التي‪ :‬السيرة الذاتية في كتاب اليام لطه حسين‪.55 -53 :‬‬ ‫‪108‬‬

‫‪82‬‬ ‫يقوم هذا المبدأ على استعادة ال اروي في بعض الفصول عناصر من فصول سابقة لهمية ما يكتسبها أو ليمهد‬ ‫بها للفصل اللحق)‪.(109‬‬ ‫ومن الصعوبة الحديث عن ذلك بتحديد الفصول‪ ،‬ففى رواية ولهم يحزنون يأتى النص كتلة واحدة وف ى‬ ‫زم ن الزن ازين اس تخدم الك اتب نجيم ات للفص ل بي ن الفق ارت الس ردية‪ ،‬ولكنن ا سنض رب مثل بس فر س مير إل ى‬ ‫المنصورة بالقطار دون علم السرة ‪ .‬فى الفصل ‪ 16‬قد شغفها حبا ‪ ،‬حيث يترك القارئ دون أن يخبره برد فعل‬ ‫الب وهل عاقبه أم ل‪ .‬ثم يعود فى الفصل ‪ 40‬وقلوبهم شتى ليحدثنا عن قلق السرة وانتظار عودته ‪ .‬وأحيانا‬ ‫كان الستدعاء يتم عن طريق استعادة الحدث السابق مباشرة مثل رحلة السكندرية للعلج من عضة الكلب نهاية‬ ‫فصل ‪ 14‬ظللت منتبها منذ ركبنا القطر الى المنصورة‪ .‬ث م ف ى الفص ل ‪\" 15‬في المنص ورة انتقلن ا م ن محط ة‬ ‫سكة حديد وجه بحري إلى محطة المنصورة الميرية بسهولة ‪..‬‬ ‫ب‪-‬مبدأ التداعي‬ ‫يقوم هذا المبدأ على نوعين‪:‬‬ ‫‪ -1‬الت داعي اللفظ ي‪ :‬أى اس تدعاء اللف ظ ال ذي ينغل ق ب ه الفص ل مح ور الفص ل اللح ق فيت م التص ال بينهم ا‬ ‫بتكرير اللفظ)‪ (110‬فنجد تك ارر لفظة \"ربع قرن\" فى ست وحدات سردية‪ ،‬تبدأ فى نهاية الفصل ‪ 15‬وتستمر فى‬ ‫الفصل ‪ 16‬قد شغفها حبا ومنذ الوحدة السردية الثانية استخدم \"‪ 25‬عاماً‪ ،‬ثلث م ارت‪.‬‬ ‫‪ -2‬التداعي الغرضي‪ ،‬يقوم على ربط الفصول على أساس وحدة الغرض)‪ .(111‬وهى فصول التى تتحدث عن‬ ‫صعود نجم الخوان وممارساتهم فى الريف‪.‬‬ ‫ج ‪-‬مبدأ التتابع‬ ‫والساس أن التتابع الذى يقوم به الكاتب هو تتابع خطى‪ ،‬نوان كان قد حدث فى النصف الثانى من‬ ‫موال الصبا فى المشيب نوع من النكوص نحو الماضى‪ ،‬وسيحدث ذلك دائماً بعد كل لحظة توقف عن الحكى‪.‬‬ ‫وقد تحقق ذلك نهاية الفصل الثامن تلك عصاى‪ .‬الحديث عن إعادة الحتفال بمولد سيدى مجاهد يبدأ فى الفصل‬ ‫‪ 9‬يحى العظام بالح ديث ع ن ترميم ات وتجدي دات المق ام والمس جد‪ ،‬وف ى الفص ل الت الى ‪10‬كل فى فلك‪ ،‬والفص ل‬ ‫‪ 11‬من كل فج‪ ،‬والفصل ‪ 12‬لنرينهم والفصل ‪ 13‬ويعلم مايسرون‪.‬‬ ‫وفضلً عن هذه النواع من الروابط‪ ،‬نرى التتابع الخطي واضحاً في الكثير من الفصول التي يمكن أن‬ ‫نس تدل عليه ا م ن خلل التحدي دات الزمني ة ال تي يش ير إليه ا الك اتب ليرش د الق ارئ إل ى تتب ع المس ار الزمن ي‬ ‫للحداث‪ .‬وتأخذ هذه التحديدات الزمنية شكلين‪ :‬من خلل العمر الذي يبلغه الكاتب فى النص‪،‬أو من خلل ذكر‬ ‫السنة تحديداً‪.‬‬ ‫‪-‬الروابط العميقة‪:‬‬ ‫)( مرايا نرسيس‪.54 :‬‬ ‫‪109‬‬ ‫)( سيرة الغائب‪ .‬سيرة التي‪ :‬السيرة الذاتية في كتاب اليام لطه حسين‪.54 :‬‬ ‫‪110‬‬ ‫‪111‬‬ ‫)( نفسه‪.‬‬

‫‪83‬‬ ‫الموضوع الساسى الذى أقام عليه عبد الباقى ثلثيته هو ص ارع النا مع المجتمع لتحقيق الذات‪ ،‬وذلك من‬ ‫خلل ثلث ة مح اور مح ور ال بيت والقري ة والس جن‪ ،‬نواذا ك ان الك اتب ق د ظ ل وفي ا ل ذلك ف ى عمل ه الول وله م‬ ‫يحزن ون‪ ،‬وك ذلك ف ى زم ن الزن ازين‪ ،‬ف إنه ف ى م وال الص با ف ى المش يب ل م يس تطع رب ط الفصول ببعض ها طيل ة‬ ‫الوقت‪ ،‬فل م تتمت ع بتماس ك وت اربط العملي ن الس ابقين‪ ،‬فنج د ف ى بع ض الفصول نوع اً م ن التوق ف والنتقائي ة‪ .‬ب ل‬ ‫خالف الكاتب أهم سمات النصوص السير ذاتية باستخدام المضارع أى الكتابة بالصيغة النية مثلما كان يوقف‬ ‫الحكى للحديث عن مشكلت القط مشكاح‪ .‬أو عن عمل ملوخية بال ارنب‪.‬‬ ‫إن عزوف ال اروي عن السرد بصيغة الماضي‪ -‬أحد أهم سمات النص السير ذاتي وتحوله إلى السرد‬ ‫بصيغته النية‪ -‬أي أنه ينطلق من اللحظة التي يبدأ فيها بالكتابة دون الرجوع بالسرد إلى الو ارء‪ ،‬قد يربك القارىء‬ ‫بعض الشىء أو على القل يخون توقعاته‪ .‬صحيح أن الكاتب السير ذاتي ل يستطيع التخلص من الحاضر‬ ‫لحظة كتابته لسيرته إل أن هذا الحضور ليصل إلى حد إلغاء أحد السمات المميزة للنص السير ذاتي‪ .‬مما جعل‬ ‫النص أقرب فى حداثيته للرواية الجديدة عند آلن روب جرييه‪ .‬لم يعد الكاتب يحكى لنا عن مغام ارته واكتفى‬ ‫بمغامرة الكتابة وحدها‪.‬‬ ‫ومن هنا نجد أن الكاتب قد أخضع موال الصبا فى المشيب إلى انتقائية أكبر بكثير من عمليه السابقين‪،‬‬ ‫فقد اقتصر فى ولهم يحزنون على ثلثة أيام وفى زمن الزنازين على ثلث سنوات‪ ،‬لذا جاءت الفصول أكثر‬ ‫تماسكاً وت اربطاً‪ .‬أما فى الموال فالحديث يمتد لسبعين عاما بعد حذف سنوات السجن الخمس‪ .‬وقد استوعب هذا‬ ‫النص تحديداً العديد من الصيغوالجناس الدبية بما يمكن أن يطلق عليه النص المفتوح‪.‬‬ ‫ول و نظرن ا بمفه وم كلس يكى لف ن الس يرة أو الرواي ة لقلن ا إن ه ذا الض ط ارب بي ن فص ول \" موال الصبا فى‬ ‫المشيب\" أث ر على المسار السردي للحداث‪ ،‬وأربكه وأوجد نوع اً من الثغ ارت الزمنية‪ ،‬إذ نقف في السيرة على‬ ‫أزمنة مضمرة يسكت عنها النص‪ ،‬ول يعطيها حقها على الرغم من أهميتها‪ .‬من ذلك على سبيل المثال علقته‬ ‫بزوجته \"نجلء\"‪ .‬يظل هذا النص ‪ ،‬بانقاطاعاته الزمني ة أقرب للحداث ة فكما يقول ميشيل بوتور‪ :‬إن الكثيرين من‬ ‫الكتاب أصبحوا يكتبون قصصهمكتلًلً منفصلة متقابلة‪ ،‬وغايتهم م ن ذل ك جعلن ا نش عر بتل ك النقطاع ات\"‪ .‬وف ى‬ ‫الحديث عن بيت السرة وتعديلت وتغيي ارت الب‪ ،‬ظل سمير عبد الباقى يركز على شيء واحد‪ ،‬وهو استحضار‬ ‫كل ما تستطيعه الذاكرة من ذكريات تتعلق بهذا البيت ليصوغ بكائية على أطلل عالم قديم‪.‬‬ ‫طبيعة الزمن‪:‬‬ ‫الزمن في الدب حسبما يرى هانز ميرهوف هو‪\" :‬الزمن النساني‪ ،‬إنه وعينا للزمن بوصفه جزءاً من‬ ‫الخلفي ة الغامض ة للخ برة أو كم ا ي دخل الزم ن ف ي نس يج الحي اة النس انية والبح ث ع ن معن اه‪ ،‬إذاً ل يحص ل إل‬ ‫ضمن نطاق عالم الخبرة هذا أو ضمن نطاق حياة إنسانية تعتبر حصيلة هذه الخب ارت‪ .‬وتعريف الزمن هنا هو‬ ‫خاص‪ ،‬شخصي‪ ،‬ذاتي‪ .‬أو كما يقال غالباً نفسي‪ ،‬وتعني هذه اللفاظ أننا نفكر بالزمن الذي يدخل في خبرتنا‬ ‫بص ورة حض ورية مباش رة\")‪ .(112‬أم ا )ك انط( فق د اعت بر الزم ان والمك ان عنص رين \"مفط ورين ف ي ص لب العق ل‬ ‫‪ () 112‬الزمن في الدب‪ ،‬ترجمة‪ :‬أسعد رزوق‪.11 -10 :‬‬

‫‪84‬‬ ‫النساني الذي يقوم بعملية المعرفة‪ ،‬فهما شكلن قبليان للحساسية يتم وفقاً لهما ترتيب معطيات هذه الحساسية‬ ‫ومضمون خبرة النسان بالعالم الخارجي\")‪.(113‬‬ ‫وترى سي از قاسم أن هناك زمنان أساسيان يمثلن بعدي البناء في النص الحكائي‪:‬‬ ‫‪ -‬الزمن الطبيعي )خارجي‪ .‬ظاهري( وهو زمن أفقى‪.‬‬ ‫‪ -‬الزمن النفسي )داخلي‪ ،‬باطني( وهو الزمن العمودى‪.‬‬ ‫‪-1‬الزمن الطبيعي )الخارجي‪ .‬الظاهري(‬ ‫هو الزمن الذي يخضع لمقاييس موضوعية ومعايير خارجية تقاس بالسنة والشهر واليوم والليل والنهار‬ ‫والصباح والظهيرة والمساء لكن المقاييس التي يقاس بها الزمن الطبيعي في النص الحكائي ل تتطابق مطابقة‬ ‫تامة‪ ،‬فالساعة في النص الحكائي غير الساعة في العالم الحقيقي الخارجي وما يحدث في يوم روائي أو س يري ل‬ ‫يش ترط ح دوثه ف ي ي وم م ن أي ام الواق ع الخ ارجي لن الزم ن ف ي أي ن ص حك ائي –بم ا في ه الن ص الس ير ذات ي‪-‬‬ ‫تخيلي وليس حقيقياً‪.‬‬ ‫والحقيقة أن الكاتب السير ذاتي ل يحاكي الواقع‪ ،‬نوانما يحاول كشف ما في الواقع وصياغته ليس كما‬ ‫هو في الواقع ولكن كما هو مترسخ في ذهن الكاتب أو الفنان‪ ،‬فيتلون بالحالة الشعورية التي أحسها الكاتب أو‬ ‫الفنان ف ي أثناء عملي ة الكش ف؛ إن ه ن وع من الخلق الفن ي الذي يخلق ه الفنان بفع ل الد ارك الذاتي)‪ .(114‬وهذا م ا‬ ‫يؤكد قول جوزيف ميشال‪\" :‬زمن السرد هو غير زمن الحداث الحقيقية فهو أولً زمن جمالي… وهو ثانياً زمن‬ ‫عاطفي وجداني\")‪.(115‬‬ ‫وللزمن الطبيعي ارتباط وثيق بالتاريخ لكونه يمثل إسقاطاً للخبرة البشرية على خط الزمن الط بيعي‪ ،‬وهو‬ ‫يمثل الذاكرة البشرية‪ ،‬يختزن خب ارتها مدونة في نص له استقلليته عن عالم الوجود في النص السردي‪ ،‬يلجأ إليه‬ ‫الكاتب الروائي أو السير ذاتي في نسج خيوط عمله الفني)‪ .(116‬فالزمن الطبيعي بركنيه التاريخي والكوني يشكل‬ ‫إحدى الدعائم الساسية لدى الكاتب لتعزيز عمله داخل النص السردي)‪.(117‬‬ ‫ومن الطبيعى على كاتب السيرة تحديد الزمن التاريخى إما بسنوات محددة‪ ،‬أو بحقبة تاريخية وسيبدو‬ ‫ذل ك واض حا ف ى زم ن الزن ازين‪ ،‬وف ى \"م وال الص با ف ى المش يب\"‪ ،‬الول ى بحك م الحساس ية المفرط ة ب الوقت ف ى‬ ‫الس جن‪ ،‬وفى الثانية بحكم أنه ا تاريخ حياة يتماس مع تاريخ وطن ‪ ،‬لكن اهتم امه بالزمنة التاريخية فى ولهم‬ ‫يحزنون كان أضعف بكثير بلغ به إي ارد أحداث كثيرة دون تحديد‪ ،‬فمثل تاريخ الخوان المسلمين لينى يظه ر فى‬ ‫أعماله الثلثة‪ ،‬رغم أن زمن الحكى لم يكن يوازيه حضور مكثف للخوان على الساحة السياسية‪ .‬وتاريخ القرية‬ ‫ل ينفص ل ع ن تاري خ الخ وان المس لمين‪ ،‬وف ى النص وص الثلث ة نج د إلحاح ا م ن الك اتب عل ى علقت ه المت وترة‬ ‫)( رؤى العالم في المجتمع المصري‪ :‬النظر إلى الزمان‪ ،‬عل مصطفى‪ ،‬المجلة الجتماعية القومية‪ ،‬المجلد ‪ ،29‬العدد ‪ 1‬لسنة ‪.33 :1992‬‬ ‫‪113‬‬ ‫)( الواقعية‪.21 -20 :‬‬ ‫‪114‬‬ ‫‪115‬‬ ‫)( دليل الد ارسات السلوبية‪.18 :‬‬ ‫‪116‬‬ ‫)( بناء الرواية‪.46 :‬‬ ‫‪117‬‬ ‫)( الفضاء الروائي عند جبرا إب ارهيم جبرا‪:‬‬

‫‪85‬‬ ‫بالخوان‪ ،‬هم موجودون دائما فى النصوص الثلثة فالكاتب يحدثنا عن صعود وأفول نجم الخوان‪ ،‬ويستغل أدن ى‬ ‫مناسبة للتعرض لذلك فصوان ع ازء الشيخ مقبل سيقام فى الجرن‬ ‫\" حيث يقع فى الركن الغربى الجن وبى من ه المبن ى الس ابق لجمعي ة الخ وان المس لمين ال ذى اس تولى‬ ‫عليه العمده أول ماركب بعد أن اغلق لسنوات بمعرفة البلد والش يخ مقب ل ف ى مقاب ل انش اء المدرس ة البتدائي ة‬ ‫ولم ا أص بحت الجمعي ة تهم ة عقوبته ا القت ل او الس جن جعل ه مق ار للتليف ون والعمودي ة معتم دا عل ى ان ه ك ان‬ ‫شخص يا عل ى أرس حمل ة جم ع التبرع ات لبن ائه بفل وس أه ل البل د وأعيانه ا أي ام ك ان لحس ن البن ا ش نة ورن ة‬ ‫وجم اعته تحظ ى برعاي ة الس ارية وحماي ة النجلي ز ف ى مواجه ة الم د الف الت لش باب الوف د والطلب ة الش يوعيين‬ ‫والعمال المتطرفين ‪\".‬‬ ‫وفى ثلثيته لم يقف الكاتب عند حدود فترة الزمن الحكائى‪ ،‬نوانما يتجتاوزها‪ ،‬فنجد السرد قد تناول أحداثاً‬ ‫سابقة عن زمن السرد أو لحقة له‪ .‬من خلل تقنيتي السترجاع والستباق‪ ،‬خاصة فى زمن الزنازين‪.‬‬ ‫وهن اك حض ور فاع ل مكث ف للزم ن الط بيعي الك وني ف ي الس يرة‪ ،‬فق د لع ب دوار رئيس ا ف ي تنظي م زم ن‬ ‫الخطاب وتحديد سرعته‪ .‬فاليقاع الفلكي )الصباح‪ ،‬المساء‪ ،‬الليل‪ ،‬النهار‪ ،‬فصول السنة‪ ،‬المواسم( له بحضور‬ ‫دائم ومكثف‪ ،‬وخاصة فصلى الصيف والشتاء‪ .‬ومن الواضح أن نظرة سمير عبد الباقى للزمن تتطابق مع النظرة‬ ‫الشعبية التى تقسم العام إلى صيف وشتاء‪ ،‬فناد ار مايؤرخ الدب الشعبى أو عموم المصريين للحداث والوقائع‬ ‫بربي ع أو خري ف‪ ،‬لكنن ا رغ م ذل ك نج د حض و اًر للش هور القبطي ة ال تى تخ رج ع ن كونه ا روزنام ة وذل ك لرتباطه ا‬ ‫بمواس م الز ارع ة‪ ،‬ون اد ار مايلج أ سمير عب د الب اقى لتحدي د الس اعة ب ل يكتف ى ب المواقيت الفلكي ة وم واقيت الص لة‪،‬‬ ‫المترسخة فى الكاتب بحكم جذوره الريفية‪.‬‬ ‫وسنرى ذلك فى زمن الزنازين‪ :‬ففى غياب الساعة يصبح الحساس بالزمن الكونى هو الساس‪ ،‬وفى‬ ‫المساء تبدو تجربة السجن أشد قسوة على النفس‪:‬‬ ‫في المساء كَورت جسدي في رحم الزن ازنة بعد أن ربطت أط ارف البطانية في الحدي د المتق اطع للناف ذة‬ ‫هروًبا من مشاعري المضطربة وألصقت خدي مستمت ًعا ببرودة الحديد المنَدى ‪..‬‬ ‫هدأت الحركة في الزنازين ‪ ..‬من وقت لخر ل يقطع السكون س وى ص وت فيش ة التس جيل ال تي لب د‬ ‫أن يحكه ا س جان العن بر ف ي )الك وبس( ك ل س اعة مض طًرا أن يم ر ب الدوار الربع ة )خل ف خلف( ليؤك د‬ ‫اس تيقاظه ‪ ..‬وي دور ليفعله ا الس جان المن اوب ف ي ح وش الس جن ح ول أرك ان الس ور الربع ة ‪ ،‬ث م يس ود‬ ‫الصمت ‪ ..‬كأن الم وت ق د تس لم ن وبته معه م بالتب ادل ‪ ..‬ل ول بع ض ص رخات أل م أو نهنه ات بك اء مفاجئ ة أو‬ ‫تضرعات مستجدية الرحمة أو العفو من الرحمن الرحيم ومستنزلة لعنات وبطش المنتقم الجبار ‪.‬‬ ‫لما انتبهت لموقفي وغفوت كأنني أس تيقظ أس لمت روح ي للس كون والظلم المش وب بإض اءات خابي ة‬ ‫معتمة للمصابيح قليلة الحيلة المتناثرة ف ي الرك ان ‪ ..‬وأرخي ت جف وني متعلقً ا بك ل م ا يس تيقظ ف ي داخل ي م ن‬ ‫أصوات وصور تتداعى وتتسارع أو تتباطأ في إيقاعات ل قصد فيها ول توقع ‪..‬‬

‫‪86‬‬ ‫والزم ن الك ونى ف ى تل ك الرواي ة يهت م بفص ل الش تاء تحدي داً‪ ،‬فق د ارتب ط دون غي ره بالس جن‪ ،‬إن ه أقس ى‬ ‫الفصول‪ ،‬يستشعره السجين فى زن ازنته وتزيد منه الوحدة‪ .‬فالبطانية هى أهم الشياء التى يحرص السجين عليها‪،‬‬ ‫وعند ترحيله للتحقيق أو من سجن لخر تتبدى ب ارعة الكاتب عندما يوظف فى فقرة واحد الزمن الكونى\" الشتاء\"‬ ‫مع الحالة النفسية للبطل السجين فى زمن الزنازين‪ ،‬وكأن الزمن التاريخى والكونى يتآم ارن ضده‪ ،‬فنرى بعيني ه‬ ‫كيف يستقبل المطر‪ ،‬رغم أن المطر يحمل دللت ثرية توحى بالخير والرخاء ونهاية الجدب‪ ،‬بل عادة ماتكون‬ ‫دللته أنثوية‪ ،‬إل إنه يصبح عدائيا‪ ،‬بل جاء استخدام الكاتب لعوامل الطقس المصاحبة مكرساً للغضب والعنف‪،‬‬ ‫فكلمة ريح طالما ذكرت فى القرآن م اردفة للغضب والسخط \" مثال ذلك قوله تعالى فى سورة الحاقة \"اوأا َما اعاد‬ ‫فاأط ‪،‬هكل طكوا كبكري ٍح اص‪،‬ر اصٍر اعاكتاي ٍة \" ب ديلً ع ن الري اح المترتبط ة دائم ا ب الخير‪ ،‬مث ال ذل ك قوله تع الى سورة الع ارف\"‬ ‫اوطهاو ٱلَكذى يطر كس طل ٱلسرايٰ اح بطشاار ابي ان ايادى ارح امكت كهۦ‪:‬‬ ‫\"انطلقت العربة وانطلقت معها ك اربيج الريح عبر ش قوق المش مع المم زق‪ ،‬تجل د جس دى النحي ل غي ر‬ ‫آبهة بقماش الجلباب القديم الناح ل‪\" (...).‬ك انت الس ماء ملب دة ب الحزن والغي وم الكام دة ال تى م اانفكت ت ت اركم‪،‬‬ ‫لتزداد كآبة العالم ثم توالى البرق والرعد وهطلت المطار بكثافة لتسلح ك اربيج الريح بس يوف رذاذ المط ر الب ارد‬ ‫التى انهمرت من كل ناحية لتجلدنى أنا بالذات‪\".‬‬ ‫وهناك مبالغة مقصودة فى التحديد التاريخى فى ولهم يحزنون‪ ،‬فبداي ة الح داث ترتب ط بالش تاء‪ .‬وق د اس تغل‬ ‫الصيف الحار لرمضان ذلك العام تعبي اًر عن عام المحنة بجوار القويم القبطى والعربى‪ ،‬بحكم أن الرواية تدور‬ ‫أحداثها فى الريف وارتباط التقويمين بأسلوب الحياة وبالعقيدة وممارسة الشعائر‪ ،‬فهنا يتبنى الحكى منطق الذات‬ ‫الجمعية للقرية‪\" :‬بعد منتصف ليل الثالث من صفر الذى واف ق الث انى م ن أمش ير ف ى الع ام ال ذى ج اء رمض انه‬ ‫فى عز حر أبيب وقبيل موع د ص يحات الديك ة ال تى ك انت ستبش ر بفج ر ي وم الربع اء‪ -‬ال ذى ع ادت ف ى الي وم‬ ‫السابق عليه‪ -‬عربة الت ارحيل إلى سجن المنصورة حاملة المتهمين الثلثة سمير عبد الباقى ‪\"\" ...‬‬ ‫أم ا التحدي د الزمن ى ف ى بداي ة زم ن الزن ازين‪ ،‬فه و تحدي د مش ابه لكن ه يس تخدم تق ويم الش هور الفرنجي ة‬ ‫ويذكر العام تحديداً‪ ،‬بحكم أن الذات التى ستحكى هى ذات مثقفة ‪ :‬فيصف فيه لحظة دخول السجن‪ ،‬ويربطها‬ ‫بتاريخ وطن كامل ل بتاريخ قري ة \"في الثالثة والنصف عص ر ي وم ‪ 27‬س بتمبر س نة ‪ 1959‬؛ أي بع د خروج ي‬ ‫إلى الدنيا من رحم أمي بعشرين عا ًما وستة أشهر ودستة أي ام ‪ ،‬ف ي ذل ك الع ام ال ذي ج اء )رمض انه( ف ي ع ز‬ ‫حسر أبيب‪\".‬‬ ‫\"أن ا الط الب )س مير عب د الب اقي( المنق ول إل ى الس نة ال اربع ة بكلي ة ز ارع ة عي ن ش مس ‪ -‬بامتي از ‪-‬‬ ‫قسم القتصاد الز ارعي والتعاون ؛ التي كانت تشغل الصطبلت والمطابخ الملكية في س اري القبة الواقعة شرق‬ ‫عاصمة جمهورية مصر ؛ بعد قلب نظام الحكم فيها على يد )حركة الجيش المباركة( بقيادة )ضباطه الح ارر(؛‬ ‫موس وم بالته ام بإع ادة قل ب نظ ام الحك م المقل وب فعلً من ذ س بع س نوات وم ا يزي د عل ى ش هرين وأربع ة أي ام‬ ‫بالكمال والتمام‪\".‬‬

‫‪87‬‬ ‫وبب ارع ة فني ة يم زج الزم ن الك ونى بالت اريخى‪ :‬وقلي ل م ن الكت اب م ن يهت م بحال ة الطق س‪ ،‬لك ن يس تغل‬ ‫الكاتب فصل الشتاء لوصف ل معاناة نوال وحدها ‪ ،‬بل أيضا فى وصف اليوم الذى وقع فيه الحدث الجلل \"وفاة‬ ‫الشيخ مقبل\" فالشتاء ليوحى بأى أمل حيث تغيب فيه الشمس‪ ،‬وبرودته معادل موضوعى لعدم التواصل بين‬ ‫الشخصيات‪:‬‬ ‫لم يشرق وجه نه ار الربع اء الث الث م ن ص فر وال ذى واف ق الث انى عش ر م ن امش ير ف ى تل ك الس نة‬ ‫الس ودا عل ى المني ة‪ ،‬ظل ت الظلم ة متكاثف ة ي وم م اطلعتلوش ش مس\")‪ (...‬وأحس ت بلس عة ب رد تخ ترق جل د‬ ‫ساقيها\" \" ظلت السحب تت اركم لتمنع اش ارقة النهار\"‬ ‫إن نوال تواجه الظلمية‪ ،‬وتقرر أن تخرج بنفسها للبحث عن أخيها المعتقل ظلماً‪ ،‬ولتمنعها الحداث‬ ‫س واء موق ف الب المتخ اذل‪ ،‬أو أه ل البل د الخ انعين المص دقين لك اذيب النظ ام‪ ،‬ولج بروت المؤسس ة –الغ ول‪-‬‬ ‫ال ذى ت ذهب لملق اته م ن أن تفق د ش جاعتها‪ .‬رحل ة الل ف مي ل تب دأ بخط وة‪ .‬وخط وة بع د خط وة ت زداد ثق ة ن وال‬ ‫بنفسها وبنبل مسعاها فتخضع الزمن نفسه‪ ،‬أو لنقل تشفق السماء عليها وتتعاطف معها‪ ،‬فيتبدل الزمن الكونى‪،‬‬ ‫ورغ م حلكة الس اعات التى تس بق الفج ر إل أن الش مس تش رق‪ .‬وسوف ن رى كي ف طلع النه ار جميلً بع د موت‬ ‫الطاغية‪:‬‬ ‫\"وأشرقت شمس نهار الربعاء جديدة مغس ول وض عيفة انعكس ت أش عتها الواهن ة عل ى او ارق البرس يم‬ ‫والصفصاف وعلى زرقة انصال القمح المبلولة انتعشت روحها وهى تتأمل خض رة ال ب ارعم الوليدةلش جار الت وت‬ ‫التى تتحول باستم ارر إلى بقع وكتل من الخضرة الذهبية التى تبعث على الفرح\"‬ ‫‪-2‬الزمن النفسي )الداخلي‪ .‬الباطني(‬ ‫يختلف الزمن النفسي عن الزمن الطبيعي في كونه ل يخضع لمقاييس موضوعية أو معايير خارجية‪،‬‬ ‫بل يرتبط بالشخصية وحالتها النفسية بما يجري حولها ‪ ،‬ومن هنا يتحدد سرعته ‪ ،‬وتمارس اللغة دو اًر كبي اًر في‬ ‫هذا التحديد ‪ ،‬فالشخص قد يشعر بالساعة مثلً ‪ ،‬وكأنها دهر عندما يكون حزيناً أو يعاني من مشكلة ما ‪ ،‬بينما‬ ‫يحس بمضيها وكأنها لحظات لو كانت حالته نفسية جيدة ‪ ،‬وخير تعبير عن ذلك هو مقولة فرجينيا وولف‪\" :‬إن‬ ‫س اعة زمني ة ت دخل ف ي نط اق ذل ك العص ر الغري ب م ن النف س البش رية ق د تمت د لتص بح خمس ين أو مائ ة س اعة‬ ‫بالحس اب الل ي‪ ،‬ورب س اعة تمث ل تم ثيلً دقيق اً بثاني ة ف ي العق ل البش ري‪ .‬إن ه ذا التب اين الغري ب بي ن الس اعة‬ ‫بالقياس اللي وبي ن الساعة الذهني ة معروف أقل مم ا يجب ويستحق أن ينال بحث اً واستقصا ًء أوفى\")‪ .(118‬وم ن‬ ‫قبله ا ق ال مارس يل بروس ت \" إن الروائيي ن ال ذين يع دون الي ام والس نين حمق ى فق د تك ون الي ام متس اوية بالنس بة‬ ‫للساعة ولكنها ليست كذلك عند البشر بأى حال من الحوال\"‬ ‫وتكمن أهمية هذا الزمن الذاتى في قدرته على اقتناص أحداث كثيرة وطويلة ل يستغرق وقوعها سوى‬ ‫دقيق ة أو دقيق تين وتجميعه ا ف ي إط ار زمن ي مح دد ‪ ،‬ويتجس د ه ذا الزم ن ف ي الرواي ات بص ور ش تى كال ذكريات‬ ‫والصور والرموز ‪ ،‬والس تعا ارت والح وا ارت الداخلي ة‪ .‬فتص بح حينه ا انعكاس ات للحق ائق الساس ية للع الم ال داخلي‬ ‫للوعي ‪ ،‬الذي هو كل ما نعرف عن الحقيقة‪ \" :‬أي إن البعد الزمني مرتبط هنا بالشخصية ل بالزمن حيث الذات‬ ‫‪ () 118‬فن السيرة الدبية‪.165 :‬‬

‫‪88‬‬ ‫تأخذ محل الصدارة ويفقد الزمن معناه الموضوعي ويصبح منسوجاً في خيوط الحياة النفسية)‪ .(119‬فالوعي جسر‬ ‫ال ذات إل ى الع الم الخ ارجي)‪ .(120‬كم ا أن ال داخل \"ه و ب ؤرة الخ ارج‪ .‬نوان الع الم النفس ي ه و ال ذي يحتض ن ال ت اركم‬ ‫المعرفي للشخصية‪ ،‬ويختزن أثره في الذات‪ .‬ورد فعله الصامت الناطق\")‪.(121‬‬ ‫ولهذا النوع من الزمن حضوره في سيرة سمير عبد الباقى الذاتية‪ ،‬إذ يمكن التوصل إليه من خلل طريقين‪:‬‬ ‫‪ -1‬الطريقة المباشرة وهى لغة ال اروي في السرد‪.‬‬ ‫‪ -2‬الطريقة غير المباشرة وهى ايقاع النص من حيث سرعته وبطئه )سنتحدث عنها لحقاً(‪.‬‬ ‫ف \"كلما ركز الكاتب على الشخصية وذاتها تقلص الزمن الخارجي وصغرت أحداثه‪ ،‬وكلما خرج خارج الشخصية‬ ‫اتسعت الرقعة الزمنية\")‪ .(122‬وحتى نرى بوضوح كيف يتضح تأثير الزمن النفسى فى نصوص السيرة ‪ ،‬نضرب‬ ‫للقارىء مثالين‪:‬‬ ‫‪-1‬عن دما تس يطر عل ى البط ل مش اعر الح زن أو القل ق وال ترقب‪ :‬فف ى أول تجرب ة احتج از ف ى زم ن‬ ‫الزنازين يش عر الك اتب بتجل ط ال وقت ويص بح الحس اس ب الوقت فادح ا ثقيل \" جربت كل ما جربت ه م ن قب ل م ن‬ ‫محاولت لتمضية الوقت الممل لوان كنت )أول مرة( أود أن ت دفئني الحرك ة إذ كن ا ف ي ع ز الش تاء ‪ ..‬أم ا الي وم‬ ‫ف الجو أدف أ ‪ ..‬ولكنن ي مض يت أدور ح ول الغرف ة وأقطعه ا م ن ناحي ة لخ رى لتمض ية ال وقت ل أك ثر ‪ ..‬ولك ن‬ ‫الوقت ل يريد أن يمر ‪ ..‬والنافذة المغلقة منذ س نوات ل ي وحي م ا يل وح منه ا م ن ض وء ب أي تغي ر أو تب دل ‪..‬‬ ‫والصمت يت اركم بمرور الثواني والدقائق طويلة ل تحس ‪\"..‬‬ ‫‪-2‬عندما يكون فى حالة نفسية سعيدة‪ :‬عندما يقبل البنت مديحة‪ ،‬فى \"موال الصبا فى المش يب وه ى‬ ‫قبلت ه الول ى فعلي اً‪ ،‬يص بح الزم ن أب دياً \" فأنحنيت عليها واختطف ت بش فتى ش فتيها البك ر وأذوب ف ى عس ل أول‬ ‫قبلة تلهبها مشاعر حقيقية ‪ .‬وأهيم في رعدة غامرة لم أعرفها من قبل‪ .‬ل في أوهام غيبوبتى م ع )زهزه ان( ول‬ ‫فى أحلم يقظني مع )نرجس(‪ .‬كانت قبلة أبدية كونية لم يفارقنى طعمها الخشن المغبر فى يوم من اليام‪\".‬‬ ‫وأه م تجلي ات الزم ن النفس ى ك انت ذل ك الزم ن ال وهمى ال ذى يص نعه البط ل لنفس ه ليتح رر م ن الس جن‬ ‫ويم ارس هروب اً نح و الخ ارج‪ ،‬نح و الش مس والحري ة‪ .‬اله روب م ن الس جن يب دأ م ع أغني ات الص باح‪ ،‬إن مش اهد‬ ‫اله روب تفتح مج الًلً للفن ان ل المؤرخ‪ ،‬وتهرب من أسر اللقطات التس جيلية للواقع الجاثم ‪ ،‬حتى تخلق للبط ل‬ ‫واقع اًبديلً لً تفرضه أنا النص‪ ،‬وبالرغم من أن \" زمن الزنازين\" قد استثمرت طاقة المكنون السيرذاتي لقصى‬ ‫درج ة‪ ،‬إل إن وع ي التش كيل عن د روائ ي موه وب مث ل س مير عب د الب اقى ن أى بكت ابته ‪-‬ف ى أحي ان ك ثيرة‪ -‬ع ن‬ ‫النسحاق تحت وطأة الغ ارء السيرذاتي‪ ،‬ونقصد بذلك أنه لم يسقط فى فخ اللحاح على الوقائع المجردة إلحاحاً‬ ‫تسجيلياً ‪ ،‬ونجح الفنان بداخله فى تمثل أدوات اللعب السردي الروائي والشتغال عليها ‪ ،‬محافظا على الحدود‬ ‫الدقيقة التي تبقي الخيط السيرذاتي موازياً للخيط الروائي‪.‬‬ ‫)( بناء الرواية‪.73 :‬‬ ‫‪119‬‬ ‫)( الفضاء الروائي عند جبرا إب ارهيم جب ار‪.58 :‬‬ ‫‪120‬‬ ‫‪121‬‬ ‫)( مرايا نرسيس‪.58 :‬‬ ‫‪122‬‬ ‫)( بناء الرواية‪.52 :‬‬

‫‪89‬‬ ‫\"قبل فتح السجن بساعة تقريبا يفتح سجان المكاتب ال اردي و أقف ز كق رد ي تيم زقزق ت ل ه أم ه إل ى رح م‬ ‫البطانية المعلقة بحديد الشباك المطل على الحوش حتى لتفوتنى صورة أغنيات الصباح والجد ارن تنهار حولى‬ ‫والحج ارة تن ازح ل لر ح ل إل ى أى مك ان انس انى ف أغنى م ع ك روان أم كلث وم ياص باح الخي ر وأس ابق حم ار عب د‬ ‫الوهاب وأناشده أن يجرى إلى حيث حبيب الروح مستنى مرة على طريق تفتيش السرو حيث نجاة أو ف ى زح ام‬ ‫شارع النزهة أتطلع حيث شباك زينب أو أجدنى على ز ارعية ميت سلسيل ‪ ،‬ل ارها تنتظرنى مختفي ة خل ف نخل ة‬ ‫ياس ين مديح ة ذات الش عر الك رت والعي ون البرس يم( فتنمح ى كآب ة مبن ى المستش فى والي ارد وبي ت الم أمور‬ ‫وتحملنى بانو ارما كافورة ترعة مهدب وجمي ازت غيط الخمس وسور المستش فى الياس مين ونخلت ياس ين حي ث‬ ‫مديحة تنتظرنى بابتسامتها وتلومنى لننى تخليت عنها وسافرت دون أن أودعها‪.‬‬ ‫ثم ة عص افير نش طة لتك ف ع ن مناكف ة بعض ها البع ض والقف ز ح ول الس لك الش ائك الممت د ف وق‬ ‫السور‪) ...‬ياطير ياطاير خدنى معاك وهات لى جناح وأنا أطير وي اك( لرف رف ع اب ار قب ة س يدى مجاه د وج رن‬ ‫دار أحمد والمدرسة إلى بي وت دار ع وض ال تى ت ذوب ملمحه ا ح تى التلش ى ف ى غيام ة غرغ رة دم وعى ال تى‬ ‫أفشل فى حبسها إلى أن يغلق السجان الب ايت ال اردي و ف ى خش ونة ‪ .‬م ع ب دء موس يقى الغب اء الحي ة ‪ ،‬أص وات‬ ‫السلس ل والمفاتي ح المعدني ة ‪ ،‬مفاص ل البواب ة ‪ ،‬وكع وب العس اكر المهرول ة‪ ،‬فته رب مش اعرى وتس قط ممزق ة‬ ‫مقرفصة أسفل الجدار فى ركن الزن ازنة المعتم‪\".‬‬ ‫والذكريات تشكل زمنا نفسيا أشبه بالشرنقة‪ ،‬يدخلها لترحمه من واقع الزن ازنة‪ ،‬حيث يمر الوقت بطيئاً‪.‬‬ ‫إنه يبحث بالخيال عن وقت آخر‪ ،‬عن زمن مستعاد‪ ،‬فيه الخضرة والماء والفتيات الحسان اللتى عرفهن‪ .‬ففى‬ ‫السجن يفقد كل من السجين والسجان حريته ولكن يعرف السجان متى سيخرج وهذا م ايهون عليه الشعور بفداحة‬ ‫الزمن ‪ ،‬ففى آخر النهار يمكنه أن يمارس طقوس الحرية‪ ،‬ويقول له الشاويش بولجانين بين إشفاق ومعايرة ‪:‬‬ ‫\" أنا على القل باقضى فى السجن نص اليوم وبعدين أروح أقلع م ارتى ملط وأنزل حرت طول الليل\"‬ ‫لكنه ليس محقا تماماً‪ ،‬فللبطل شرنقته السحرية التى ستذهب به إلى عوالم من النفتاح والحرية لم تخطر على بال‬ ‫سجانيه‪.‬‬ ‫وزمن السجن رغم قسوته هوزمن مستعاد‪ ،‬عرفه الكاتب قبل الدخول فى التجربة‪ ،‬لم يكن يعرف التفاصيل طبعا‪،‬‬ ‫لكن التجربة فى جوهرها العام متشابهة كما يقول الكاتب فى افتتاحيته‪ .‬تبدو إذن تجربة السجن تجربة ثانية مستعادة‬ ‫لبطل خبرها على المستوى الخيالى‪ .‬مع ذلك فالواقع أبشع بكثير من كل التصو ارت فمن ذاق عرف كما يقولون‪:‬‬ ‫\"لقد تعرفت على كثيرين من ق اطني الس جون ومعان اتهم وقص ص حي اتهم نظرًي ا قب ل دخ ولي الس جن وبع د‬ ‫خروجيوأثناء وجودي متنقلً بين متغي ارت صفاته ‪..‬‬ ‫عرف ت )د‪ .‬م انيت( والك ونت )دي م ونت كريس تو( و)ديستوفس كي( )ود‪ .‬بل ود( و)أكي م أكيم وفيتش( )واب ن‬ ‫المقف ع( وآخري ن ؛ ق دامى ومح دثين ‪ ،‬ش ع ارء ومجرمي ن وسياس يين ‪ .‬وك م ف ي الس جن م ن مظ اليم وك م في ه م ن‬ ‫جبارين ولصوص ونصابين ‪ ..‬تنوع مذهل ما عش ته من ه وم ا أريت ه لي س إل قط رة ف ي بح ر ممت د عل ى ط ول تاري خ‬ ‫النسانية والدول ‪ .‬ومع كل هذا التنوع بين غلظة وقسوة الجلدي ن والس جانة ‪ ..‬ورق ة مش اعر المس اكين والش ع ارء‬ ‫وبين دموية التسلط والقهر والذلل ورغبة الهروب ال دائم بالمش اعر والحاس يس ع بر الج د ارن الغليظ ة إل ى ع والم‬

‫‪90‬‬ ‫الذكرياتوالرغبات ودفء ما فات من علقات ‪ ،‬أو الحلم بما يمكن أن يكون من الحتمالت فيما هو آت ‪ ..‬م ع ك ل‬ ‫هذا التنوع فالسجن هو السجن ‪\"..‬‬ ‫والق ارءة هى فعل آخر للهروب من واقع السجن‪ ،‬وانتصار على الوقت‪ ،‬فعندما سرب له مسجون كتاب )الحرية‬ ‫الحم ارء( ل)ح بيب جام اتي( يقول \"انقلب حال الزن ازن ة وانقل ب ح الي\" ث م يق ول ف ى موض ع آخ ر\" وأص بحت أق أر ك ل‬ ‫كتاب يحضره لي في نفس اليوم )‪ .(...‬وكان هذا انتصاًار كبيًار على الوحدة بين الجدران الربعة الصماء ‪ ،‬ولكنه ل م‬ ‫يكن يكفي لقتل كل هذا الوقت المأسور بينها طوال هذا الزمن الممل الذي ل يتق دم إل بص عوبة بالغ ة ف ي عن اد ثقي ل‬ ‫يجبرك على ابتكار وسائل لقتل الوقت ل تخطر على بال ‪.‬‬ ‫والحقيق ة أنه رغ م حس ده للخ وان عل ى مكتبته م الع امرة ف ى الس جن‪ ،‬إل أن ه ل م يك ن أحيان ا ف ى حاجة للكت ب‬ ‫فهناك زمن نفسى ثرى يعيشه مع كتب قديمة ق أرها قبل السجن‪:‬‬ ‫دفعني حسدي للخوان على ما حباهم الحكم عليهم من كتب إلى استدعاء كتب خالي )إب ارهي م( المحش ورة‬ ‫في دولب ه الق ديم فأخ ذت )أس تعرض بخي الي أل ف ليل ة وليل ة ‪ .‬وأع دت إل ى الحي اة الت اجر وعفريت ه و)الحم ال‬ ‫ونساءه( و)علء ال دين أب و الش امات( و)جاهنش اه( ‪ ..‬كم ا ارجع ت كت اب أس تاذ الرس م ف ي مدرس ة الجمالي ة‬ ‫وق أرت مع ه )أس اطير الح ب والجم ال( ‪ ..‬وجس دت )زي وس( و)بوس يدن( وخض ت البح ر م ع )أولي س(‬ ‫و)هي اركلي س( وأخ ذت أق ارن بي ن )وح ش أولي س( و)عملق الس ندباد( ذي العي ن الواح دة ‪ .‬وكن ت أنش ط‬ ‫ذاكرتي بإعادة تلوة ما أذكره على أسماع )أحمد يوسف( و)عبد الحميد عبد ال ارزق( خلل لقاءاتنا القليل ة ف ي‬ ‫دورات المي اه أو ف ي الط ابور أو م ن خلل الج د ارن ‪ ..‬وامت دت الغواي ة إل ى كت ب كش ك )س يدي عب د الق ادر(‬ ‫فاستعدتوعشت مع شخصيات )أرسين لوبين( و)شرلوك هولمز( ‪ ..‬وخطفني )الفرسان الثلثة( م ن ج د ارن‬ ‫زن ازنتي إلى مروج فرنسا الخض ارء كما عبرت مع )كابتن بلود( المحيط إلى)بورت رويال( ممتطًيا سطح سفينته‬ ‫المحبوب ة )أ اربيل( س مية محب وبته وه اجمت م ع )فرس ان المائ دة المس تديرة( جي وش الغ ازة وم ع )ج ان دارك(‬ ‫هزم ت النجلي ز و ازمل ت )س كا ارموش( و)روب ن ه ود( وهرب ت م ن الزن ازن ة م ع )الك ونت دي م ونت كريس تو(‬ ‫واستحض رت شخص يات )بي ت الم وتى( ومخلوق ات )ج وركي( ال تي ك انت رج الً ‪ ..‬وفتي ان )ش ارع الس ردين‬ ‫المعلَب( و)طريق التبغ( ‪ ..‬عرفت حينه ا فض ل الق ارءة ال تي ش غلت أي ام ص باي وش بابي فخفف ت عن ي جلف ة‬ ‫جدران السجن‬ ‫وتش كل أفلم الس ينما ازدا آخ ر للك اتب يس تعيده قط رة قط رة ويس تحلب حلوة ع المه‪ ،‬حي ث تنتص ب شاش ة‬ ‫وهمية فى الزن ازنة أمام عينيه‪ ،‬فى الف ارغ الضئيل الذى يتحرك فيه‪ ،‬فيستعرض فيها وجوهاً أخرى صديقة‪:‬‬ ‫وقد ازرني كل أبطال هذه الفلم في زن ازنتي وتحدثوا إل َي وواس اني بعض هم بينم ا تش فَى ف ي م أزقي آخ رون‬ ‫م ن الش ارر وك م جس دت أح داثًا عل ى شاش تي )الش برين( م ن أس فل ج دار الزن ازن ة أو شاش تي اللمح دودة أو‬ ‫)الس كوب( ف ي فض اء الح وش ف ي اللي ل أو ف ي س ماء القم ر الملب دة ب الغيوم تعينن ي عل ى استحض ار ب ارح س هول‬ ‫الغرب المريكي ليرفه عني )راندولف سكوت( و )إيرول فلين( )وتايلور( و)ماتيور( و)بربا ار ستانويك( ‪ ،‬و)جون(‬ ‫و)جين باول( ! أو اتساع بحار الق ارصنةوأبطال الغريقوالرومان ‪ ..‬ياااه عرف ت بس بب ذل ك أن س اعات حض ور‬ ‫تلك الفلم لم تضع هباء فقد أعانتني على الوقت وما أبشع انتظار مروروالوقت وأن ت أع زل أم امه م ن أي س لح‬ ‫تقتله به حتى الكتب ‪.‬‬

‫‪91‬‬ ‫وم ن الزم ن النفس ى أيض ا اله روب إل ى الحل م‪ ،‬والحل م يمث ل هروب اً م ن واق ع الس جن وم ن القي د ال ذى ي دمى‬ ‫معصمه‪ ،‬فعند ترحيله من السجن يغفو وساعتها‪:‬‬ ‫أخذنى زورق الحلم من علبة العرب ة المي ري الممزق ة مش فقًا عل َي م ن لس عات ال برد وتأم ل وج وه العس اكر‬ ‫الكالحة الحادة في عبوس يفوق عبوس الدنيا الغائمة الممطرة حولنا ‪ .‬ولح لي هذا الخاطر كإنذار مبكروأنا أنت وي‬ ‫أن أبحر خلف ذكريات النيل مستمت ًعا بذكريات )دمياط( )سوق الحسبة( ود ارفيل النهر في الش تاء وس ينما )اللب ان(‬ ‫وسينما )دمياط( الجديدة ‪ .‬لك ن ص دمتني ص خور ش اطئ الحقيق ة الب اردة وأيقظن ي أح دهم وه و يزغ دني ف ي جن بي‬ ‫قائلً ‪:‬‬ ‫‪ -‬قوم يا اخويا‪.‬‬ ‫وتتبدى فداحة الزمن النفسى أيضا فى الحديث عن رحيل الرفاق الشيوعيين مرة أخرى إلى الوردى‪ ،‬حيث تسيطر‬ ‫عليه حالة من الخوف ليس فقط من حرمانه من مؤانستهم له‪ ،‬ولكن خوفاً عليهم من استقبال الوردى‪ ،‬ففى مثل هذا‬ ‫الستقبال مات كثير من المناضلين والرفاق الشرفاء‪:‬‬ ‫\"ومرت عدة أيام طويل ة وثقيل ة الظ ل ‪ ،‬انت ابني ش عور بالفق د مث ل م ا ح دث ل ي عق ب ترحي ل )ال زملء الخ وان(‬ ‫وقضيت يومها قلقًا بشدة عم ا يك ون ق د ح دث له م ف ي )التش ريفة( ال تي ك انت ف ي انتظ ارهم للم رة الثاني ة ‪ .‬وك انت‬ ‫تنتابني كوابيس ش نيعة إذ كن ت أقض ي وقتًا ط ويلً أتخي ل س يناريوهات عدي دة لم ا ح دث له م ‪ -‬وأتمن ى أن تص لني‬ ‫إشارة ولو من السماء تؤكد لي عبورهم ص ارط العذاب ‪ ،‬والشارع الخضر المنص وب أم ام بواب ة الجحي م ال ذي ع ادوا‬ ‫إليه ‪..‬‬ ‫وفى السجن سيتعلم البطل فن التعامل مع الوقتواستئناس الصمت ومنازلة وحش اسمه النتظار‪ ،‬وس يتحتم‬ ‫عليه إما معاداة الوقت أو ترويضهول يعرف هل سينهزم أم سينتصر ف ى تل ك المعرك ة فيق ول\" هأنذا بين أربعة ج د ارن‬ ‫في زن ازنة عارية تما ًما وباب مغل ق ‪ ،‬عارًي ا أو ش به ع ار بل طع ام أو ش ارب أو أقلم أو أو ارق أو كت ب أو أي ش يء‬ ‫إنساني آخر ‪ ..‬ل شيء سوى ال وقت ‪ .‬وقطع ة م ن الض وء انس حبت م ن ف وق الج دار م ع الش مس ال تي توش ك أن‬ ‫تغيب )‪(...‬أعود لتأمل الجدران النظيفة ومربعات الحديد ال تي تب دو الس ماء م ن خلفه ا س جينة تح اول أن تش اركني‬ ‫حزني الدفين ‪ ..‬ارح الضوء يخفت في الزن ازنة ‪ ،‬فقد غابت الشمسواكتمل فناء ضي مربعات الش مس عل ى الح ائط‬ ‫وتلشيها‬ ‫والنسان هو الكائن الوحيد الذي يحس بالزمن في حركته الذاهبة واليبة‪ ،‬ويتأثر بهذه الحركة‪ ،‬ويؤثر فيها سلبا‬ ‫نوايجابا‪ ،‬إذ كلما ازدادت خبرة– الكاتب – في الحياة ازداد إحساسه ووعيه بالزمن‪ .،‬فالزمن كامن في وعي كل إنسان‪،‬‬ ‫غير أن كمونه فيوعي المبدع أشد إيلما‪،‬وأعمق مدى‪ ،‬والسجن من شأنه شحذ هذا الوعى فيتأثر بأقل التفاصيل‪:‬‬ ‫\"ل تصدق من يقول لك إن أيام السجن متش ابهة ‪ -‬ه ي مبالغ ة ‪ ..‬فالي ام ل تش به بعض ها ف ي المطل ق ‪ .‬فالنس بية‬ ‫هي قانون أزلي من قوانين الوجود ‪ ..‬بالضبط كما أن التغيير قانون الحياة الذي ل يتغير ‪..‬‬ ‫اليام بعد ترحيل الخوان اختلفت تما ًما عن أيام الشهور الخمس أو الست قبل ذلك ‪ ..‬كانت أيا ًما غي ر الي ام ‪..‬‬ ‫تختلف اختلفًا جذرًيا ‪ ..‬كالفرق بين أيام السجن النف ارديوأيام الحرية ‪..‬‬

‫‪92‬‬ ‫وتظل دائما علقته متوترة بالوقت‪ ،‬وقد انعكس ذلك على الصفات التى استخدمها الكاتب لوصف جبروته‬ ‫\"في الزن ازنة النف اردية وحيث يقضي المرء أكثر من اثنتين وعشرين ساعة ك ل ي وم خل ف ب اب موص د بلي د قبي ح‬ ‫اللونوالمنظر ‪ ،‬ومحا ًص ار بجد ارن صماء ل تحس ول تس تجيب ‪ ..‬وش باك مرب ع تحاص ر قض بانه وق واطعه الس ماء‬ ‫وتحبس السحبوالنجوم وتكسر الضوء والظلمة ‪..‬‬ ‫ل يكون أمام المرء إل أن يقضم الوقت بأسنانه وأظافرهوأحاسيسه لحظ ة بلحظ ة تم ر ثقيل ة كام دة ‪ ..‬فل ي تركه‬ ‫إل جث ة هام دة ث م يكتش ف أن ال وقت ه و ال ذي أخل ى س بيله وت رك رقبت ه ليس تطيع أن يح رر أنفاس ه ال تي أرهقه ا‬ ‫الص ارع غير المتكافئ ‪ ..‬الذي يجبر النسان المحبوس انف اردًيا عل ى اللج وء إل ى أحض ان أوه ام يلمل م أش تاتها م ن‬ ‫حياته ‪ ..‬يستحضر بها أحاسيس ومواقف من ذكرياته يتغلب إن نجح في تمثلها ‪ -‬على طاغوت الص مت وج بروت‬ ‫الوقت‪\".‬‬ ‫وف ى موال الصبا فى المشيب ‪ ،‬يتس لل البط ل الم اره ق إل ى غرف ة نرج س الم أرة المتزوج ة‪ ،‬وتك اد تس لم ل ه نفس ها‪،‬‬ ‫وبع د ارتعاش ات الل ذة وارتجاف ات الخوف م ن الفض يحة‪ ،‬ته رب م ن الغرف ة وت تركه وحي داً ‪ ،‬ه ذه اللحظ ات م ن الت وتر‬ ‫الشديد تضغط على أعصابه حتى أنه يفقد احساسه بما حوله تماماً‪ ،‬ويسيل الزمن ويتمدد لتصبح تلك اللحظات –‬ ‫لحظات تخييلية محضةوهو فى غرفة نرجس‪:-‬‬ ‫\"لست أدري كم من الوقت مضىوأنا بين الصحو والن وم ‪ ،‬ت دور ب أرس ي الحلم ‪ ،‬وتص و ارت ملون ة لم ا س يحدث‬ ‫‪ ..‬كن ت بي ن الحل م والعل م ‪ ..‬بي ن الص حو والمن ام ‪ ،‬لكنه ا ك انت دائ ًم ا مع ي ‪ ..‬أخ ذتني م ن ي دي ‪ ..‬نزلن ا البح ر ‪،‬‬ ‫س بحنا ح تى غرقن ا ‪ ..‬أنق ذنا قرص ان ع ابر ح اول اغتص ابها فقتلت ه ‪ ..‬لحقته ا ف وق الس طح بي ن كيم ان الق ش ‪.‬‬ ‫تاهت مني ‪ ،‬درت كأني في متاهة شاسعة أبحث عنها ‪ ..‬كانت مستغرقة في النوم مستلقية بين أكوام قش الرز وق د‬ ‫تعرت إل من قميص ممزق ‪ .‬وكان القم ر ‪ ..‬يغم ر اللي ل ح ولي يحيطن ي بوه ج ض ياء ل ح دود ل ه‪ .‬كن ت نش وانا ‪..‬‬ ‫تقدمت منها ‪ ..‬وجلست أتأملها وهي ساكنة في سلم ‪ ..‬وحين لمستها فزع ت‪ ،‬لكنه ا أخ ذتني ف ي حض نها ‪ ..‬ح تى‬ ‫فاجأنا عسكر الخليفة وجرجرونا بعد أن ربطونا من القدام بحبال من مسد خلف الخيل ‪ ..‬وأنا أح اول حمايته ا دون‬ ‫جدوى ‪ ..‬ثم فرقوا بيننا ‪ ..‬إصطحبوها إلى مقر السلطان ‪ .‬أما أنا فجلدوني تحت شباكها حتى تقطعت أنفاسي ‪..‬‬ ‫تقنيات الزمن‪:‬‬ ‫وحتى يتسنى لنا تحليل زمن السرد فلبد من التميي ز بين مستويين هما‪ :‬مستوى الوقائع أى الترتيب الطبيعي‬ ‫للحداث كما وقعت‪ ،‬ومستوى القول أى الترتيب الفني الذى اختاره الكاتب فى سرده‪ .‬لقد فرق الشكلنيون الروس بين‬ ‫المت ن الحك ائى ‪ :‬الحكاي ة عل ى النح و ال ذي ربم ا ح دثت علي ه ح دوثا فعلي ا ف ي الزم ان‪ ،‬والمك ان‪ ،‬ف ي خ ط ممت د م ن‬ ‫الح داث المتج اورة ال تي ل حص ر له ا – الحكاي ة ف ي ص ورتها البيض اء المحاي دة – وبي ن المبن ى الحك ائى‪ :‬الن ص‬ ‫اللفظي التي ظهرت فيه الحكاية ‪ :‬النص بكل ما فيه من فجوات وحذوفات وتأكيدات‪،‬وناعادة لترتيب الحداث‪)123.‬‬ ‫ويجدر بنا الشارة أن \"التتابع الطبيعي في عرض الحداث هو حالة افت ارضية أكثر مما هي واقعية‪ ،‬لن تلك‬ ‫المتواليات قد تبتعد كثيراً أو قليلً عن المجرى الخطي للسرد‪ ،‬فهي تعود إلى الو ارء لتسترجع أحداثاً تكون قد حصلت‬ ‫في الماضي أو على العكس قد تقفز لتستشرف ما هو آت أو متوقع من الحداث‪ .‬وفي كلتا الحالتين نكون إ ازء مفارقة‬ ‫‪ 123‬السيد إب ارهيم‪ ،‬نظرية الرواية‪ ،‬دراسة لمناهج النقد الدبي في معالجة فن القصة ص ‪100:101‬‬

‫‪93‬‬ ‫زمنية توقف استرسال الحكي المتنامي وتفسح المجال أمام نوع من الذهابوالياب على محور السرد انطلقاً من‬ ‫النقطة التي وصلتها القصة\")‪ .(124‬ويحدث هذا عن طريق تقنيتين هما‪ :‬السترجاعوالستباق‪.‬‬ ‫السترجاع‪:‬‬ ‫هو أن يترك ال اروى مستوى القص الول ليعود إلى بعض الحداث الماضية ويرويها فى لحظة لحقة‬ ‫لحدوثها‪ .125‬إذ يعلن السرد توقفه عن السير للمام ويعود إلى الو ارء ليكشف عدداً من الجوانب التي تسهم في إضاءة‬ ‫النص‪ ،‬وتحقق في الوقت نفسه غايات فنية منها التشويق والتماسكواليهام بالحقيقي)‪ .(126‬فالسترجاع \"يؤلف نوعاً‬ ‫من الذاكرة القصصية التي تربط الحاضر بالماضي وتفسره وتعلله‪ ،‬وتضيء جوانب مظلمة من أحداثه ومسا ارت هذه‬ ‫الحداث في امتداداتها أو انكسا ارتها\")‪.(127‬‬ ‫جاءت السترجاعات في ثلثية سمير عبد الباقى كالتالى‪) :‬السترجاعات التاريخية‪ ،‬السترجاعات الدينية‬ ‫والت ارثية‪ ،‬السترجاعات ذات المدى القريب‪ ،‬السترجاعات ذات المدى البعيد‪.(،‬‬ ‫السترجاعات التاريخية‪:‬‬ ‫ففى موال الصبا تثير مشكلة تاريخ ميلده استرجاعاً تاريخياً فيقول‬ ‫\"‪ ..‬فأنا مقتنع أنني ولدت في )‪ 15‬مارس( ‪ .‬وأكتب ذلك على صفحات كل كتبيوأقوله في كل أحاديثي‬ ‫الصحفيةوالذاعية ‪ .‬وأصر على أنني من مواليد برج )الحوت( فلست أميل كثيًار لحكاية )الدلو( هذه التي تعني‬ ‫بفجاجة )جردل(!‬ ‫ملمح )الحوت( أكثر احت ار ًماوأبهة ‪ ..‬ويحمل مواليده الكثير من ملمح ذاتي وصفاتي‪ ..‬التي أفخر بها على‬ ‫العالمين ! ثم إن )‪ 15‬مارس( حدث فيه حدث من أهم الحداث الدرامية والتاريخية ‪ ..‬ألم يقل )شيكسبير( على‬ ‫لسان الرجل )بتاع ربنا( الذي قابل )قيصر( ‪ .‬وصرخ فيه بدون مناسبة أو متنبًئا ‪ -‬ال أعلم‪.‬‬ ‫‪ -‬حذار من منتصف )مارس( !!‬ ‫فلم يعره انتبا ًها ‪ ..‬وكان أن طذبح وهو أهم )قيصر( متسلط في التاريخ ‪ ،‬في ذات نفس يوم ميلدي!!‬ ‫أما فى ولهم يحزنون فأهم السترجاعات التىربطها بمهارة بأزمة الشخصية هى استرجاع تاريخ وطنى آخر‪،‬‬ ‫لكنه لم يحدده زمنياً‪ ،‬وربما أفلت من القارئ‪ ،‬وهو شنق خميس والبقرى‪ ،‬فأحيانا تصبح اشكالية كاتب السيرة كتابة‬ ‫الشياء كمسلمات معتقداً أن عموم الق ارء سيفهمون تلميحاته‪ ،‬ولنجد سبباً للتلميح فالرجل لم تكن تنقصه الشجاعة‬ ‫أبدا‪ ،‬لكنه لنغماسه فى القضية يعتقد أن اشارة بسيطة منه تكفى‪ .‬ففى زمن الزنازين يفقد اسم الشاويش عبد ال‬ ‫بولجانين كل دللة لو لم يكن القارىء يعرف \"نيقولى بولجانين\" رئيس الوز ارء الروسى صاحب النذار الشهير‬ ‫لس ارئيل وانجلت ار وفرنسا أثناء حرب ‪ ،56‬كذلك حديثه عن مقتل \"عبد اللطيف رشدى\" دون إشارة يعرف بها‬ ‫)( بنية الشكل الروائي‪.119 :‬‬ ‫‪124‬‬ ‫‪125‬‬ ‫بناء الرواية‪58 :‬‬ ‫‪126‬‬ ‫‪127‬‬ ‫)( تقنيات السرد الروائي‪.75 :‬‬ ‫)( الفضاء الروائي عند جبرا إب ارهيم جب ار‪.92 :‬‬

‫‪94‬‬ ‫القارىء أن المقصود هو يقصد ضابط السجن الذى قتل المناضل شهدى عطية‪.‬‬ ‫وكنت أتمنى أن يفصح الكاتب عن تفاصيل أكثر فى شهادته فهى وثيقة هامة لجيل ليعرف الشهيدين‬ ‫»محم د مصطفى خمي س« و» محم د عب د الرحم ن البق ري« ‪ ،‬و ليع رف شيئاً ع ن تاري خ ذل ك اليوم السود ف ى‬ ‫تاريخ عمال مصر‪ 128.‬المهم يستغل سمير عبد الباقى ذلك السترجاع التاريخى ليربط بي ن سقوط الب الشيخ‬ ‫مقبل رمز السلطة البوية وسقوط سلطة نجيب وعبد الناصر وزير داخليته وقتها فى عيون البناء اليساريين ‪،‬‬ ‫فالمشهد فيه كثير من الخبث حين يصبح الب الذى يدعى الحكمة والعدل هو مجرد رجل ذو إلية عارية‪ ،‬يتمرغ‬ ‫فى وحل الزريبة مع خادمته‪ ،‬مثلما مرغ حادث شنق خميس والبقرى أسماء بعينها فى الوحل‪ ،‬وبالمناسبة كان‬ ‫رئيس المحكمة العسكرية وقتها »عبد المنعم أمين« أحد الضباط الح ارر‪ ،‬وأحد كوادر الخوان المسلمين‪ .‬إن لعبة‬ ‫الزم ن هن ا غي ر بريئ ة فه اهى تعي د للذه ان ذك رى دنش واى‪ ،‬وس قوط الب وتمرغ ه ف ى وح ل الزريب ة ه و مع ادل‬ ‫موضوعى لتمرغ النظام فى جريمة نك ارء مهما ادعى غير ذلك‪:‬‬ ‫\"ف ى ذل ك الي وم ك ان ال بر كل ه وأه الى كف ر ال دوار يش اهدون منظ ار فري دا ل م يح دث ف ى تاري خ مص ر‬ ‫الحديث إل مرة واحدة على يد العساكر النجليز من حوالى نصف قرن فى قرية اسمها دنشواى ‪..‬لكن العساكر‬ ‫–المصريين‪ -‬هذه المرة أجبروا الناس على الفرجة على جسدين مصريين مثلهما فقيرين يتدليان من مش نقتين‬ ‫نصبتا على عج ل دون محاكم ة تقريب ا ف ى س احة مص نع نس يج ليكون ا ع برة لم ن ليعت بر – لك ن ل \"ف رج ال\"‬ ‫كانت ترى الج ارئد ول كانت تعرف الق ارءة أصل ‪..‬فلم يعكر صفو حلمها هذا المر ول غيره‬ ‫‪ -‬غرقت الدنيا عز الضهر فى بحر الليل‪.‬‬ ‫اس ودت ال دنيا ف ى وج ه حم دى)‪ (...‬اذ يش اء العلي م الحكي م أن يش اهد م ؤخرة أبي ه الفخم ة عاري ة‬ ‫بيض اء م ن غي ر س وء‪ -‬تعل و وتهب ط ف ى ت وتر ليلي ق بس نه ف وق جس د الب ت الس م ارء – ال ذى يتل وى تحته ا‬ ‫وصاحبته تموء مثل قطة لئدة‪\".‬‬ ‫وطبعا لم يصدق حمدى وكاد يكذب عينيه‪ ،‬وسيترك هذا المشهد أث ار لينسى‪ ،‬فذلك التاريخ سيرتبط من‬ ‫الن فصاعد بخييبته الجنسية‪ ،‬ولن يستطيع أبدا مضاجعة زوجته‪ ،‬فأزمة حمدى بسقوط الب مركبة لنه واقع‬ ‫\"فرج ال\" هو الخر من قبل‪ ،‬وكان يحبها‪.‬‬ ‫في ‪ 12‬أغسطس ‪ 1952‬قامت إدارة مصنع كفر الدوار‪ ،‬بنقل مجموعة من العمال من كفر الدوار إلى كوم حمادة دون‬ ‫‪128‬‬ ‫سبب واضح ‪ ،‬ساعتها ظن العمال المساكين أن ثورة يوليو قد جاءت لتنصفهم‪ ،‬فأعلنوا اض اربا سلميا طالبوا فيه بأجر‬ ‫مناسب وبسكن آدمى‪ ،‬ولكن فوجئ العمال بمحاصرة قوات المن للمصنع نواطلق النار عليهم‪ ،‬مع ذلك لم يفعل العمال‬ ‫شيئاً سوى تنظيم مسيرة لباب المصنع فقد سمعوا أن محمد نجيب‪ ،‬رئيس الجمهورية وقتها‪ ،‬سيمر على المصنع‪ ،‬كان‬ ‫العمال يهتفون فى اخلص ووطنية »يحيا القائد العام ‪ ...‬تحيا حركة الجيش« وعندما تأخر نجيب خرج العمال لنتظاره‬ ‫عند مدخل المدينة‪ ،‬وفي طريقهم مروا بأحد نقاط الجيش فهتف العمال من جديد \" تحيا حركة الجيش\" ولما وصلت مسيرة‬ ‫العمال لحد الكباري‪ ،‬قامت معركة غير مفهومة السباب بين الجنود المسلحين والعمال العزل‪ ،‬المهم تم القبض على‬ ‫مئ ات العم ال‪ ،‬وتش كلت محاكم ة عس كرية‪ ،‬واته م مئ ات العم ال بالقي ام بأعم ال التخري ب والش غب وحكم ت المحكم ة‬ ‫العس كرية ‪-‬دون دف اع أو مح ام حقيق ى‪ -‬بالع دام عل ى »محم د مص طفى خمي س« وك ان وقته ا ف ى التاس عة عش ر و»‬ ‫محمد عبد الرحمن البقري« الذى كان فى السابعة عشر‪.‬‬

‫‪95‬‬ ‫\"لك ن طرب وش الش يخ ‪ ،‬ك ان معلق ا ف وق أح د الوت اد المزروع ة ف ى الج دار وك انت العب اءة الس وداء‬ ‫الفاخرة مغ برة ب الت ارب والتب ن تت دلى ف وق الط واله كخرق ة بالي ة وك ان الش ال البي ض الش اهى المش هور وال ذى‬ ‫اشتهر ببياض ه ال ذى يش رب من ه العص فور ملق ى ف ى اهم ال ف وق الرض الموحل ة ب القرب من ه ‪ ..‬وج د نفس ه‬ ‫يلتقطه ويخرج فزعا الى نهار الزريبة الفاضح منزلقا لحضن القيلولة المشتعلة وهو يستحم بعرق الغضب\"‬ ‫لن أطيل على القارئ فى الشرح‪ ،‬سيلحظ دللت الطربوش الحمر وهو بديل عن الكاب العسكرى‪،‬‬ ‫والعباءة السوداء بديل عن عباءة القاضى‪ ،‬واللون البيض رمز لثورة يوليو التى علمونا فى مدارسنا أنها الثورة‬ ‫البيضاء‪ ،‬وكيف استخدم الكاتب تلك الرموز لفضح السلطة‪ ،‬وأزمة حمدى سببها سقوط الب مثله مثلما كانت‬ ‫أزم ة اليس ار ه ى س قوط عب د الناص ر‪ ،‬وف ى الح التين ارتكب ت الجريم ة ف ى وض ح النه ار‪ \":‬ف ى تل ك الس نة ال تى‬ ‫أفحمت ه فيه ا م ؤخرة أبي ه ف دمرت حلم ه ال برىء النظي ف ل م يحص ل عل ى ش هادة الثقاف ة ب ل ول م ينج ح ف ى أى‬ ‫مدرسة فقد قدر له ان يكون ابن ابيه ووارث عهره‪\".‬‬ ‫السترجاعات الدينية والت ارثية‪:‬‬ ‫فى موال الصبا فى المشيب نجد ان الحديث عن تاريخ المكان \" ميت سلسيل\" يلتقى فيه التاريخ بالسطورة‬ ‫والحقائق التاريخية‪ ،‬ويعيدنا لجو أسطورى‪،‬ربما امتد من عهد الف ارعنة‪ ،‬والحكايات القرآنية ‪ ،‬وحكايات الولياء تلتقى‬ ‫أيضا بحكايات خالته عن أساطير محلية تؤمن بها القرية\" )ميت سلسيل( تعني مكان الطرب واللهو ‪ ..‬أطلقه‬ ‫المماليك الذين كانوا يرسوحون عن أنفسهم على شاطئ البحيرة)‪ (...‬هم جمي ًعا يتمسكون بانسبهم )لبو خشبة( ولي‬ ‫ال الصالح ‪ ،‬الذي مات وهو يقاتل الصليبيين ‪ -‬الذين هدموا )تانيس( بخشبة ‪ ،‬طول صاري المركب ‪ ،‬فشتت‬ ‫شملهم قبل أن يستشهد ويدفن على شاطئ )ترعة السلطان( التي تحد القرية من الغرب‪.‬‬ ‫ولني عشقت هذه الرض ودفعني عشقي أن أبحث عن خ ارفاتها وتاريخ أهلها الطويل ؛ كانت بلدنا هذه‬ ‫تسمى )منية بني سلسيل( أ أريت ‪ – ..‬سميت باسم أبنائه ما شاء ال ‪ ..‬ولكن كان له ابنان هما المقَدمان لديه‬ ‫دون إخوتهم أجمعين ‪ .‬كان لكل منهما )جنة( ‪ .‬فيها ما ل عينرأت ول خطر على قلب بشر ‪ ..‬كانت الولى اسمها‬ ‫‪) ..‬منية بدر بن سلسيل( والتانية )منية مرجا بن سلسيل( وما ازلت حتى الن اسمها )ميت مرجا سلسيل( ‪ .‬أما‬ ‫)منية بدر( فقد حرقتها لعنة ال ‪ ..‬نعم ‪ ..‬مذكور ذلك في القرآن )جنتان عن يمين وشمال( ‪ ..‬مثل جنة ربنا ‪..‬‬ ‫هكذا شاءت إ اردته ‪ ..‬نعم ‪) ..‬إذ قال لصاحبه وهو يحاوره( ! ‪ ..‬وارجع بنفسك إلى المصحف الشريف تعرف كل‬ ‫شيء‪\".‬‬ ‫والخاله تق أر للطفل سمير ماجاء فى الكتاب على حد قوله‪ ،‬فتخبره بتاريخ آخر هو خليط من تاريخ شفاهى غير‬ ‫مؤكد وحكايات ألف ليلة فتقول‪\" :‬أن ال أ ارد خيًار بأهل هذه القرى التي تواجه )تانيس( بعد إسلمهم ‪ ..‬فأعاد‬ ‫الخصوبة إلى الرض المالحة التي حرقها غضًبا عليها في الماضي ‪ ..‬فعادت أكثر عطاءوأوفر ثماًار مما‬ ‫كانت)‪ (...‬لكن الخليفة بنفسه ‪ ،‬كان ينزل إليها من )بغداد( متخفًيا فيزي التجار‪\".‬‬ ‫السترجاعات ذات المدى القريب‪:‬‬

‫‪96‬‬ ‫ف ى ول ه م يحزن ون يس تدعى الس ترجاع أو الفلش ب اك عن د ن وال وه ى ف ى طريقه ا لزي ارة أخيه ا ف ى‬ ‫السجن تاريخا آخر‪ ،‬فهى لتفهم لمصلحة من تم القبض على سالم وزملئه‪ ،‬وهم الذين وقفوا إلى جانب عبد‬ ‫الناصر فى مواجهة من تربعوا على عرش التحاد القومى ومن قبله هيئة التحرير‪ ،‬ومنهم العمدة والشيخ مقبل‪:‬‬ ‫\" تذكرت كيف رقص هو وصديقه ابن عبد ربه فوق السطوح وه م يس معون عب د الناص ر ي ؤمم القن ال‬ ‫وكيف أسرعا وجمعا طلبة البلد عندما بدأت تهديدات فرنسا وانجلت ار بالعدوان‪ ،‬وكونوا كتيبة قام بتدريبها محمود‬ ‫الفلس طينى المقات ل الق ديم م ع البط ل أحم د عب د العزي ز‪ ،‬وكي ف كون وا لجان ا م ن الطلب ة والس يدات لس تقبال‬ ‫المهاجرين من القنال الذين ألقت بهم القطا ارت‪ ،‬جمعوا الكل والغموس وفتحوا المدارس عنوة وأس كنوهم وتول وا‬ ‫ترتي ب طع امهم وش اربهم وه م يرحب ون وينش دون مخففي ن عنه م لوع ة ف ارق أرض هم‪ ..‬وكي ف تس لل فتح ى م ع‬ ‫مجموعة كبيرة منهم شبان من ميت الحلوج رغم معارضة أهله‪ ،‬وماكان أروع صورة قريته م حي ن تكت ل الن اس‬ ‫و ارءه وزملئه ليغيروا مجلس ادارة الجمعية ويفتحوا النادى وحين صنعوا حالة عجيبة من المش اركة الجماعي ة‬ ‫والتواصل بين كل أهل البلد لتأييد حكومة النابلسى فى الردن وتأييد ثورة الع ارق والوحدة مع سوريا ‪،‬فى الوقت‬ ‫الذى مزق قادة التحاد الق ومى ف ى البل د المخل وعين م ن الجمعي ة أو ارقه ا واس تعدوا لس تقبال النجلي ز وش نق‬ ‫عبد الناصر وعودة الملك‪\".‬‬ ‫ويستمر ال اروى العليم فى سرد تاريخ سالم‪ ،‬ويسرد مشهد القبض عليه‪ \" :‬كانوا قد حاصروا م دخل القري ة‬ ‫وتقدموا كمن يدخلون معركة حربية فى ليلة سوداء ممطرة كه ذه وأش د رعب ا م ن ه ذه الص رخات الملتاع ة ال تى‬ ‫تمل سماء القرية‪\"...‬‬ ‫والب يسترجع بدوره ماضيه القريب \" وهاقد مضت سنة ياسى عبده ولم تر ابنك منذ ودعته على باب‬ ‫السجن وأنت تبكى حظك المنيل فيه منذ مولده سنة كاملة لم تكف نوال عن تنغيص عيشتك التى ك انت سلس ة‬ ‫آمنة ‪،‬هى وأمها تكد ارنك كلما عن لهما ذلك‪ ،‬لنك ل تبذل جهدا كافيا للف ارج عنه وكأنك تستطيع\"‬ ‫أما فى زمن الزنازين‪ :‬فبعد مشهد وصوله الى السجن وتفتيشة يعود بنا الحكى إلى نقطة أسبق‪:‬‬ ‫كنت قد أفل ُت من قبضة العتقال مرتين من قبل ؛ لحس ن الح ظ أو لس وئه لس ت أدري‪ .‬الم رة الول ى ك انت ف ي‬ ‫أوائل فب ارير ‪ .59‬؛)‪ (...‬أما الفلت الثاني من السجن ؛ فقد حدث بالصدفة البحتة بعد هذا بأقل من شهر تقريًبا‪\".‬‬ ‫ويسترجع البطل السجين ماحدث له فى تلك الشهور الستة التى سبقت اعتقاله‪ ،‬ومنها موقف النظام لحظتها من‬ ‫الشيوعيين‪:‬‬ ‫ذات ي وم كن ت ف ي مي دان التحري ر م ع )عي داروس القص ير( ‪ ..‬ك ان ال اردي و يزع ق ف ي هس تيريا مطالًب ا بذب ح‬ ‫الشيوعيين الذين يتربصون بالوطن ‪ ..‬كنا وحدنا ‪ ..‬وسط الميدان والميكروفون ات تزع ق مطالب ة ب دمنا ‪ ..‬وكن ا ف ي‬ ‫طريقنا للحصول على البيان بعد أن أبلغنا )فتحي مجاهد( أنه تم طبع كمية محدودة من ه ‪ ،‬وكن ا نعت بر ذل ك انتص اًار‬ ‫لنا ول أرينا ؛ يمثل نقطة تحول نحو التقييم الصحيح للموق ف ‪ ..‬ونقط ة بداي ة لعم ل ن واجه ب ه حمل ة التحري ض عل ى‬ ‫الغتي ال ال تي وص لت إل ى ذروته ا ‪ ..‬ي وم ق رر )كم ال ال دين حس ين( فق رة رديئ ة الص ياغة عممه ا عل ى تلمي ذ‬ ‫المدارس البتدائية ؛ يحفظونها ويرددونها دون فه م ع ن الش يوعية )باعتباره ا داء ينخ ر ف ي جس م الس لم وينه ى‬ ‫عن الفضيلة والنسانية!( ‪ ،‬ولذلك فدماء الشيوعيين مباحة وذبحهم حلل ‪..‬‬

‫‪97‬‬ ‫ويستمر الحكى عند سمير عبد الباقى عن الشهور الستة التى سبقت اعتقاله حتى يعود مرة أخرى للحديث عن نفس‬ ‫النقطة التى توقف عندها الحكى‪،‬وهى الوقوف أمام الشاويش حسن عطية‪\" :‬وهأنذا ‪ ..‬بعد ستة ش هور بالض بط أق ف‬ ‫كالفأر المسلوخ في ملقف مدخل سجن )المنصورة( ‪..‬‬ ‫\"س تة ش هور مليئ ة بالح داث والحرك ة ركب ت فيه ا كاف ة أن واع المواص لت ‪ ،‬ليلً ونه اًار ‪ ..‬م ن عرب ات نق ل ‪,‬‬ ‫تاكسيات ‪ ..‬قطا ارت ‪ ،‬بل وعربات كاُرو وحمي ر أي ًض ا ‪ ،‬وس رت عل ى أق دامي مئ ات الكيلوم ت ارت ‪ ،‬وس افرت عش ارت‬ ‫الم ارت بين )القاهرةوالمنصورة وبورسعيد ودكرنس( ‪ ،‬ق ابلت رج الً وش يو ًخا ونس اء وطلب ة وفلحي ن‪ ..‬ف ي ق رى ل م‬ ‫أك ن دخلته ا أو ح تى عرف ت بمكانه ا ‪ ..‬م ن )مي ت سلس يل( )إل ى مي ت الحل وج( وم ن )ديمش لت( و)الكرم ا( إل ى‬ ‫)الصالحات( ‪ ،‬و)بني عبيد( ‪ ،‬و)طناح( ‪ ،‬و)مي ت ض افر( ‪ ،‬و)الكف ر الجدي د( ‪ ،‬و)المنزل ة( ‪ ..‬ودخل ت المتح ان‬ ‫ونجحت بامتياز ‪ ،‬وتبادلت المركز الول مع طالب أطرسل فيما بعد في بعثة ليحص ل عل ى ال دكتو اره م ن أمريك ا بينم ا‬ ‫كن ت أن ا ف ي الس جن ‪ ..‬عش ارت الجتماع ات ومئ ات المق ابلت ‪ ..‬خض نا انتخاب ات التح اد الق ومي وطاردن ا ق وات‬ ‫المن بالطوب لمحاولتها التدخل في مجرى التصويت ‪ ..‬ستة ش هور كامل ة نابض ة بالحي اة وروح التح دي والخيان ة‬ ‫أي ًضا ‪ ..‬لجد نفسي بعدها كالفأر المس لوخ مج رًدا م ن ملبس ي م ا ع دا الفانل ة واللب اس ‪ ..‬أرتع ش ف ي ملق ف ري ح‬ ‫مدخل سجن )المنصورة( ‪ ..‬يشفق عل َي الشاويش الجميل ذو العي ون الخض ارء والص در العلي ل ع م )حس ن عطي ة(‬ ‫الشرقاوي الطي ب ‪ ..‬بع د أن س لم لوال دي المه زوم المكس ور خ ارج البواب ة الخش بية الجهم ة الب اردة ذات الص رير ‪,‬‬ ‫ملبسي الخارجية !\"‬ ‫السترجاعات ذات المدى البعيد‪:‬‬ ‫فى ولهم يحزنون يسترجع الب عبده أفندى والد سالم وهو ينزل سللم البيت مهموماً تاريخه الشخصى‬ ‫البعيد قبل مولد ابنه سالم وكيف تزوج بتلك الم أرة البندرية \"علية\" ليعود بالتاريخ لنقطة تسبق لحظة الحكى بأكثر من‬ ‫خمسة وعشرين عاماًاً‪:‬‬ ‫\" تزوجها أيام كانت الدنيا غير الدنيا والناس غير الناس ‪ ..‬البيضة كانت بمليم وأقل ب ل ك انت النكل ة‬ ‫تس مى عش رين بيض ة‪ ،‬وقب ل أن يطل ع للمل ك الش اب المحب وب مخ الب تغري ه أن ينح رف ويس لم نفس ه للبن ت‬ ‫الطليانية بينما اللمان يدقون بعنف أبواب أوربا\"‬ ‫لقد تم تعيي ن الب مدرس ا بأربع ة جنيه ات \" وسط احتفالت القطر كله بجل وس مولن ا الص بى الجمي ل‬ ‫على العرش وتوقيع معاهدة ‪ .\"36‬سنلحظ أن استخدام الزمن لم يقتصر على الحديث عن فترة زمنية لكن اللغة‬ ‫المس تخدمة تس هم بق وة ف ى رس م تاريخي ة المش هد باس تدعاء مف ردات مث ل الملي م‪ ..‬النكل ة‪ ..‬القط ر ‪ \"..‬هن ا يختل ط‬ ‫التاريخ العام بالتاريخ الخاص أيضا‪ ،‬فالعروس \"علية\" ابنة المعلم الخميسى صاحب شادر الخشب وورشة السواقى‬ ‫\" تأتى من البل د المج اور ف ى تخ تروان وأربع ة عش ر جمل وحص ان بع دد الربع ة عش ر مديري ة‪ ،‬ف ى زف ة تمت د‬ ‫على طول الز ارعية)‪ (...‬وتسهر الست أم زتون وفرقتها من المنصورة حتى الصباح فى فرح سى عبده‪\".‬‬ ‫والحقيق ة أن ه ذه التفاص يل وه ذا التاري خ الشخص ى والع ائلى ترتب ط أيض ا بتاري خ ال وطن بص فة عام ة‬ ‫والمنصورة بصفة خاصة‪ ،‬والكاتب هنا يختلف عن المؤرخ فى كونه يكتب المسكوت عنه فى كتب التاريخ‪ ،‬ول‬

‫‪98‬‬ ‫أقصد بذلك قنص ورصد التفاصيل التى ليدركها المؤرخ‪ .‬فالمؤرخ يتحدث عن وقائع‪ ،‬أما الروائى فيحكى انعك اس‬ ‫تلك الوقائع على نفوس البشر ويحتفى بالمنمنمات التى تبدو تافهة فى عين المؤرخ‪.‬‬ ‫\" أخذها سى عبده عقب الزفاف لتشاهد احتفالت التتويج‪ ،‬ورجعت عاشقة ولهانة بالملك الفتى تدعو‬ ‫له‪ ،‬وتتوحم عليه‪ ،‬وتغض ب لم ن يجي ب س يرته بم ا ليلي ق م ن الح ت ارم والتق ديس \" وك انت وقته ا الزوج ة علي ة‬ ‫حامل فى نوال‪ \"...‬وفى مصر عندما أرته أرى العين فى ميدان عابدين‪ ،‬تخيلته يتقدم منها وح دها ويأخ ذ بي دها‬ ‫وسط الزحام‪ ،‬فاغرورقت عيناها بالدموع التى مسحها عبده افندى فى حنان فاضطرت أمام حنيته أن تعترف له‬ ‫بالسر أنها حامل فيصيح فرحا وسط الحشود \"‬ ‫أما الولد الثانى س الم‪/‬سمير فيرتبط مولده بحوادث جليلة‪ ،‬كانت السحب تتجمع لتشكل المشهد الرهيب‬ ‫اللئ ق به ذا الول د المش اغب المش اكس ال ذى عرفه م طري ق الس جون \"المل ك يع زل حكوم ة الوف د عام دا متعم دا‪،‬‬ ‫ويأتى بمحمد محمود ويرفد الشيخ مقبل من العمودي ة وتنقس م البل د‪ ،‬واورب ا تغل ى وبش ائر الح رب ت دق الب واب‬ ‫بقوة‪ .‬هتلر يحرق ال اريخستاغ ويستولى على سدة الحكم فى ألمانيا‪ ،‬ويهدد ص در الرض الكروي ة ال تى ل م تك ن‬ ‫ق د أص بحت قري ة بع د‪ ،‬وتعب ت أم يوس ف ف ى الميلد الول ول ذا فق د ح رص عل ى أن ياخ ذها للمنص ورة م ارت‬ ‫عديدة لتواجه حمل سالم الصعب الذى حدث فى فترة صعبة يهتز لها العالم من الرعب والخوف‪ ،‬ولم يعد للمليم‬ ‫قيمة والقرش عز على الكثيرين حتى على سى عبده رغم الجنيهات الستة التى لم يعد لها ذلك النفوذ القديم\"‬ ‫وهناك تاريخ غير رسمى لحركة اليسار المصرى لم تسجلها الوثائق‪ ،‬ولكن تحفظها ذاكرة أحد سجانيهم إنه تاريخ‬ ‫الشيوعيين المحفور فى ذاكرة الصول مصطفى‪،‬وهو استرجاع بعيد المدى يمتد لعقود‪:‬‬ ‫\"أربعين سنة فى السجون قضى نصفها على القل مع هؤلء الناس ويعرف أكابرهم وزعمائهم وأكل معهم‬ ‫عيش وملح فى سجن الجانبوالطور وأبو زعبل‪ ،‬وكان سجانا على\" شهدى\" فى طره‪ ،‬و ازمل الشاويش حسن‬ ‫عطية فى المحاريق ‪،‬وصادق منهم هناك كتاب ودكاتره وفنانين وعمال لسانهم بربند‪ ،‬واولد باشوات يطالبون بالغاء‬ ‫الباشوية‪\".‬‬ ‫السترجاعات الوسيطة‪:‬‬ ‫وفىزمن الزنازين سنجد نوعا آخر من السترجاع‪ ،‬ليست للشهور الستة التى تسبق دخول سمير السجن‪ ،‬بل أبعد‬ ‫م ن ذل ك قليلً‪ ،‬وم ن ه ذه الس ترجاعات الوس يطة ‪ :‬فبعي دا ع ن ذكري ات العم ل الث ورى يس ترجع البط ل دائم ا قص ص‬ ‫الحب‪ ،‬فيتذكر خطاب من حبيبته سعاد وقع فى يد مدرسه الستاذ النشار فى حصة اللغة العربية‪ ،‬ولم يكن الخطاب‬ ‫الذى نورده سوى مقلب مدبر من زملئه‪:‬‬ ‫)حبيبي سمير ‪ ..‬عارفة ان ك بتحبن ي لك ن م ش ق د م ا بحب ك أن ا ‪ ..‬باس تنى أش وفك ك ل ي وم عل ى ن ار ‪ .‬ألي س‬ ‫هناك طريقة ول فرصة لراك بعيًدا عن النظار – حبيبتك سعاد( ‪..‬‬ ‫وهناك لحظات يهرب فيها البطل من واقع الزنزانة باستعادة ذكريات لطيفة أو كوميدية مثل قصة الحمار‪:‬‬ ‫\"ودهشت لهذا التصرف الحمق من الحمار ‪ .‬عاودت محاولة النزول ‪ ،‬ولكنه لم يستجب بل أخذ يغُذ السير‬ ‫أس رع ‪ ..‬ولم ا ق ررت القف ز م ن ف وق ظه ره )ق َم ص( ‪ ..‬فاش تبكت ق دمي ف ي )الحياص ة( ووقع ت م ن ف وقه‬

‫‪99‬‬ ‫ليسحلني خلفه وهو يزيد من سرعته ‪ ..‬وأخذت أصرخ فيه أسبه ؛ حتى أفلتت قدمي م ن الحب ل وتح ررت من ه ‪.‬‬ ‫وقد صعقت لما جرى ولم أجد له تفس يًار ‪ ..‬ووج دتني أجل س محب ًط ا مغي ًظ ا وه و )يفلس ع( بعي ًدا ‪ .‬ولم ا نظ رت‬ ‫أق در المس افة ال تي قطعه ا الحم ار عائ ًدا وه و س احب جس مي وراءه انفج رت ض احًكا ‪ ..‬وقم ت أع دل ه دومي‬ ‫وانفَض ملبسي مما علق بها من وساخات الطري ق ‪ ..‬ول أك ف ع ن الض حك ح تى دمع ت عين اي ‪ .‬وأن ا أس ير‬ ‫في جد لعوض ما أفقدنيه الحمار ‪..‬‬ ‫ولكن المر كان يتجسد لي مرة بعد أخرى ‪ .‬وكلم ا عج زت ع ن أن أج د تفس يًار معق ولً لتص رف الحم ار ك ان‬ ‫الض حك يح ط عل َي ‪ .‬ولنن ي ل أبص ر أح ًدا عل ى م دى النظ ر ك ان غيظ ي ينطل ق ض حًكا عالًي ا ‪ ،‬س خرية م ن‬ ‫غبائي أو من تصرف الحمار ‪ .‬وفي إحدى نوبات الضحك هذه سمعت من يزعق بي ‪:‬‬ ‫‪ -‬بتضحك على إيه يا افندي يا طم هَأز–‬ ‫التفت ناحية الصوت ف أريترجلً عملقًا )‪ (...‬أخرسني غضبه فكتم ضحكتي ‪ ..‬ولكنه كرر س ؤاله المحت ج‬ ‫مضيفًا إليه نبرة أشد وشتائم أسخم فلم أجد بًدا من الجري كأرنب مبتعًدا عن ه ناجًي ا بنفس ي م ن ه ذا )العفري ت(‬ ‫الذي انشقت عنه حشائش )الحلفا( وانفلتت على ما يبدو أثناء س قوطي م ن عل ى ظه ر الحم ار س اقى الخدل ة‬ ‫م ن البطاني ة المعلق ة ف ي القض بان فك دت أس قط م ن ش باك الزن ازن ة ف ي نف س ال وقت ال ذى س معت في ه ص وتًا‬ ‫يناديني غاضًبا من الحوش ليعيدني من طريق الجازورينا إلىواقع الزن ازنة‪.‬‬ ‫الستباق‪:‬‬ ‫هذه الظاهرة نادرة فى الرواية الواقعية وفى القص التقليدى عموماً وذلك بالرغم من ان الملحم الهومرية تبدأ بنوع‬ ‫من تلخيص الحداث المستقبلية‪ ،‬ولكن هذه التقنية ترتبط بما أسماه تودروف \"عقدة القدر المكتوب\" فهذه التقنية تتنافى‬ ‫مع فكرة التشويق التى تكون العمود الفقرى للنصوص القصصية التى تسير قدما نحو الجابة على السؤال \"ثم ماذا؟\"‬ ‫وأيضا مع مفهوم ال اروى الذى يكشف أحداث الرواية فى نفس الوقت الذى يرويها‪ .129‬و يلعب الستباق دو اًر هاماً في‬ ‫النص الحكائي فهو تقنية زمنية تخل بالنسق الزمني داخل القصة لغ ارض جمالية‪ ،‬لكنه ل يؤثر على الحداث من‬ ‫حيث الماهية والوجودونانما من حيث الصياغة والترتيب)‪.(130‬‬ ‫نواذا كان الستباق أقل حضو اًر من السترجاع في النص الروائي‪ ،‬فإنه يصبح في النص السيرذاتي مكوناً سردياً‬ ‫له تأثيره المهم في العمل الحكائي؛ فالسيرة الذاتية تمنح الكاتب فرصة الشارة إلى الحداث اللحقة لن ال اروى \"يحكي‬ ‫قصة حياته حينما يقترب من النتهاء‪ ،‬ويعلم ما وقع‪ ،‬قبل لحظة بداية القص وبعدها‪ ،‬ويستطيع الشارة إلى الحوادث‬ ‫اللحقة دون إخلل بمنطقية التسلسل الزمني\")‪ .(131‬فالحكي الذاتي المهيمن على النص يلغي المسافة الفاصلة بين‬ ‫ال ارويوالحداث‪ ،‬كما أن المعلومات التي يقدمها الكاتب هى فى حكم المعلومات اليقينية فالحداث التي يسردها‬ ‫ال اروي حدثت بالفعل قبل بدئه فى السرد‪.‬‬ ‫الستباقات قريبة المدى‪:‬‬ ‫بناء الرواية ‪65 :‬‬ ‫‪129‬‬ ‫‪130‬‬ ‫)( اللسنية والنقد الدبي‪.85 :‬‬ ‫‪131‬‬ ‫)( بناء الرواية‪.44 :‬‬

‫‪100‬‬ ‫ففىزمن الزنازين يظل تفكير البطل محصو اًر‪ ،‬أول أيام الحبس فى البحث‪ ،‬عن الشخص الذى وشى به‪ .‬لكنه‬ ‫مثل المسيح يعفو عنه والسبب أن الواشى \"صبى الترزى\" قد تسبب لنفسه فى خمس سنوات من السجنواعترف له‬ ‫قائل \" نفخونى ياسمير\" بل كاد البطل يبكى لحاله‪،‬وهو يرى آثار التعذيبوعلمات اطفاء السجائر فى‬ ‫جسده‪.‬وليستطيع سمير عبد الباقى ان يرمه بحجر ويعلل ذلك قائلً‪:‬‬ ‫\" عرفت كثيرين فيما بعد أكثر لمعاناًاً من عبد الحميدوأكثر وعيا ‪ ،‬لم يدخلوا التجربة التى تجسدت لهم رعبا‬ ‫جاثما لم يحدث أبدا‪ ،‬لكنهم ولغوا فى دماءالل خرين متطوعين أحيانا أو بأجر‪ ،‬ول ي ازلون يجدون الج أرة لتدخين‬ ‫الشيشة فى مقاهى المثقفين \"‬ ‫وكذلك على سبيل تشويق القارىء‪ ،‬لن يقدم لنا دون تمهيد زيارة الم أرة الجميلة زوجة المعلم \"كرم\"‪،‬وهى تحمل له‬ ‫زيارة معتبرة على حد قوله‪ ،‬إذ أن أهمية تلك اللحظة للبطل السجين تجعل الكاتب يفرد لها حديثاً مطولً‪ ،‬وفى سياق‬ ‫آخر‪ ،‬بحكم تأثير تلك الزيارة على نفسه‪ ،‬فيقول على سبيل التمهيد‪\" :‬قضيت في حجز عابدين ثمانية عشر يوًما ‪.‬‬ ‫كان ضمنها عيد ميلدي الثالثوالعشرينواحتفلنا به احتفالً ارئ ًعا ‪ ..‬بالنسبة لليل الحجز في قسم من أكثر‬ ‫القسام شعبيةوازدحا ًما ‪ ..‬وتلقيت فيه أجمل هدية تلقيتها في عيد ميلد ‪ ..‬ولكن ذلك سيحين الحديث عنه في‬ ‫موعده ‪..‬‬ ‫وفى موال الصبا فى المشيب حيث ثارت العت ارضات على مشاركة جوالة الخوان بملبسهم الكاكى فى‬ ‫المولد‪ ،‬ينقل لنا الكاتب نقاشات القرية فيقول‪ :‬الحاج عبد الهادى رد فى حكمة الخلفاء‪ ،‬لم يكن قد حج بعد لكنه‬ ‫سيكمل دينه بالتأكيد ويحج‪ .‬يا )عبد الرؤوف أفندي( وأنا كان في إيدي إيه–‪ ..‬كل البلد عايزة تشارك ومن حق‬ ‫الكل يمشي في الزفة ‪ ..‬ما هم برضه أهلنا ‪ \".‬وبالتأكيد ل تصدر تلك المعلومات إل عن ذات من خارج‬ ‫النص ‪ ،‬إنها ذات الكاتب السيرذاتى‪.‬‬ ‫الستباقات بعيدة المدى‪:‬‬ ‫فى زمن الزنازين يرى فتحى أن حملة عبد الناصر ضد الشيوعيين فى يناير \"نقطة سودة لن تزول مهما‬ ‫غسلنا القماش البيض\" ويحكى حكاية تراثية عن ذيل الحية وقبر ابن الحطاب فكلهما لم ينس ماحدث له من الخر‬ ‫وهذا يعنى استحالة المصالحة‪ \"،‬وأثبتت اليام حكمته الساذجة ‪ ،‬فحتى كتابة هذه السطور لم تطفلح أي محاولة‬ ‫لنسيان )الذيل المقطوع( أو لهدم )قبر البن المقتول( ‪ .‬وفشلت كل محاولت التحالفوالتصالح ؛ بل ولم تسفر أي‬ ‫منها إل عن مزيد من سوء الظن والشك الذي ل يفسح الطريق إل لمزيد من الفرقةوالصراع‪.‬‬ ‫وفى موال الصبا فى المشيب حيث سرقات الطفولة ولعب الولد والعلقة مع الرض والطبيعة‪ ،‬يذكرنا‬ ‫سمير عبد الباقى بمغام ارت مارسيل بانيول فى ذكريات طفولته وتحديدا فى روايتيه \"مجد أبى\" و\"قصر أمى\"‪،‬‬ ‫لول أننا نجد دائماً ملمحاً حزيناً يصبغ لحظات السعادة‪\" :‬أخرج حسن كيساً به عدة أو ارق بفرة وأخذ بحرفنة‬ ‫يلف سجائره بالدخان المصنوع من شواشى كي ازن الذرة الجافة التى كان يتقن لفها وتدخينها بحذق ومهارة‬ ‫نحسده عليها رغم أنها قتلته فيما بعد مبك ار بداء السل‪.‬‬ ‫والحديث عن طفولته ليمنع الحديث عن الظروف السياسية‪ ،‬والتمهيد لكبر حدث فى اعتقاد الكاتب وهو‬ ‫بطولة شباب القرية فى تغيير مجالس إدارة الجمعية الز ارعية‪:‬‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook