1
2 رواية السيرة الذاتية جدلية النا والذات فى ثلثية سمير عبد الباقى ول هم يحزنون زمن الزنازين موال الصبا فى المشيب د .أشرف حسن عبد الرحمن
3 ل تعتبروني ميتا ,,لن الصحف ستعلن رحيلي. سأحاول أن أبدو أكثر تواضعا ,مما أنا عليه الن. وسيكون هذا ضروريا,, إننى أعتمد عليك أنت ,أيها القارىء, أنت الذي ستقرؤني يوما ,ما, ل تتركني وحيدا ,مع الموات, كجندي على الجبهة لم يعد يتسلم رسائل. اخترني من بينهم, اخترني بسبب قلقي الكبير ورغبتي الشديدة. وعندها ,كلمني, أرجوك, فأنا أعتمد على ذلك هنرى ميشو
4 ثلثية البحث عن الذات هذا الكتاب س مير عب د الب اقى ش اعر العامي ة المص رية المس رحى وك اتب أدب الطف ل ،ذل ك المغ رد دوم اً خ ارج السرب ،الصوت الصارخ فى البرية ،والولد الشقى الذى تجاوز السبعين... عرفت سمير عبد الباقى عن طريق مجلته الشعرية الساخرة \"شمروخ\" وعندما قابلت الرجل فى مواقف عديدة أولها صدامه مع المحافظ ووزير الثقافة واعت ارضه علنا فى أحد المؤتم ارت على استيلء الحزب الوطنى على مكتبة المنصورة وجعلها مق ار له .الموقف الثانى كان إبان انتفاضة القصى وهو يصرخ فى الشع ارء الذين كانوا يت ازحمون للقاء القصائد العاطفية قائل إن موقفهم ليليق بل يثير الخجل أمام موقف أطفال المنصورة الذين خرجوا فى مظاه ارت عارمة رغم أنف النظام وصمته المخزى المهين .لقد ارهن سمير عبد الباقى على هؤلء العصافير الذين خرجوا بعد ذلك وصنعوا ثورة يناير .أما فى اتحاد الكتاب فكان الرجل يقف مدافعا فى عناد عن حقوق الكتاب طالبا مناقشة المي ازنية بأدق التفاصيل. وم ع أنن ى لس ت واح دا تلمي ذه إل إنن ى واح د م ن كتيب ة ك بيرة وقائم ة طويل ة م ن مح بيه ،وم ن من ا ل م يعجب بشمروخ ،وفى كل ندوة أو مؤتمر يجمعنا يتضح لى جانب آخر إبداعى أو إنسانى من ذلك الرجل ،ولكن ت أخرت معرف تى ب ه كروائ ى ،وحي ن حص لت م ن الص ديق الش اعر \"س مير المي ر\" عل ى نس خة م ن روايت ه \"زم ن الزنازين\" كنت أكتب وقتها مجموعة من المقالت النقدية بجريدة \"البروجريه ايجيبسيان\" فخصصت مقالً عن تلك الرواية التى أبهرتنى .وفى إحدى الندوات شرفت بمناقشة \"الزنازين\" فأهدانى الرجل مجموعة من أعماله ،كان أهم مالفت نظرى وقته ا كتاب اته للطفل ،فقد أسهم الرجل فى مسيرة الكتابة العربية للطف ل ،وفى مجموعة \"عالم من الخيال الجميل\" استوقفتنى رواياته للطفل وكذلك قصصه القصيرة ذات الحس الفكاهى ال ارقى والطابع المصرى الصيل ،فضلً عن تلك اللغة المتفردة؛ جملة سردية ارئقة ذات حس بصرى عا ٍل .وكنت عازماً بصفتى رئيس لجنة البحوث بأحد مؤتم ارت أدب الطفل أن أكتب عن الرجل ،لكن مامنعنى هو ذلك الزخم الذى يمي ز إنتاجه فقد كتب تسع روايات للطفل ،وخشيت أل أنصف الرجل وأعطيه قدره الذى يستحق . إل أننى عندما ق أرت ارئعته \"ولهم يحزنون\" وكذلك روايته الصغيرة \"هكذا تكلمت الحجار\" اكتشفت أننى أمام روائى مدهش ،لم ينل عمله قدره أو مكانته التى يستحقها ،فبكل أسف غطت شهرة الشاعر على الروائى، وعندما شرعت فى الكتابة عنها ،فؤجئت بعمله \"موال الصبا فى المشيب\" لتكتمل ثلثية السيرة الذاتية لسمير عبد الب اقى .ونظ ار للظ روف ال تى تم زق ص در الوطن ،أش فقت عل ى رواي ة به ذه الهمي ة وبه ذا الحج م م ن التجاه ل النقدى ،فقد ولد العمل فى لحظة تاريخية استثنائية ،وخفت أن تظلم كما ظلمت أختاها ،لنشغال القارىء عن الدب بالسياسة ،والحق أن تعامل سمير عبد الباقى مع فن الرواية ليس مجرد محاولت تأتى على استحياء وسط مسيرته الشعرية ،بل هناك إلحاح ودأب من الكاتب على أن يسجل اسمه فى مسيرة السرد المصرى ،إن سمير عبد الباقى حكاء ماهر ومطبوع ل تمل من حكاياته ،والتفاصيل الحميمة التى يذكرها تزيد من متعة القارئ ،لكن كما أسلفت ،رواية بهذا الحجم فى هذا الظرف السياسى والتاريخى قد يظلمها وقد يحجم عنها القارىء ،فاتخذت ق اررى بالكتابة.
5 بيد أن السبب الحقيقى للكتابة هو أن ثلثيته قد استفزتنى .أنا ل أعتبر نفسى ناقدا أكاديميا محترفا ،بل قاص وروائى ،والحق أقول لكم ،لقد كتبت رواية أسميتها \" ارئحة البيوت\" صدرت منذ سنوات وسنوات وواجهتنى أو صفعتنى نفس السئلة .هل هى سيرتى الذاتية التى لم أفعل سوى اجت ارر أحداثها؟ أم أنها رواية ،لبد لى فيها م ن اح ت ارم قواع د وأص ول الس رد؟ وبه ذا يص بح العم ل ش هادة بخ ط ي دى عل ى ك ذبى واف ت ارئى عل ى تاري خ ع ام وخاص ،ووجدت كتابات سمير عبد الباقى تتبنى ،ل أقول نفس المنهج بل نفس الرؤية .فالرجل ل يبحث عن إثبات بطولت مزعومة بل عما هو أهم وأعمق. كتب ت رواي تى تل ك وأن ا ف ى الثلثي ن ،كن ت أرى عالم اً يتقل ص ويتغي ر م ن ح ولى ح تى فق د الك ثير م ن ملمحه ،كانت الكتابة محاولة لتثبيت تلك اللحظات وتوثيقها ،فكما يقول سمير عبد الباقى ليس لنا أن نثق كثي اًر فى الذاكرة .أذكر أننى بدأت الكتابة معتقدا أن كتابتى هى محاولة لتغيير العالم ،لكننى بعد تقدم العمر اكتفيت بمحاول ة فه م الع الم أثن اء الكتاب ة ،وأخي ار حي ن رزقن ى ال ابن اً ،كتب ت مح اول التص الح م ع ذل ك الع الم ال ذى سأستودعه ولدى .أعرف أننى سأرحل يوماً ما ،ولن أكون موجوداً لزعجه بحكاية قديمة مكررة ،فتركت له تلك الس طور ،ربم ا خ انتنى ال ذاكرة أن ا أيض ا ،لكنن ى كن ت أس جل لحظ ات بعينه ا دون أن أدرى أو أس أل نفس ى لم اذا تحدثت عنها ،هى بالذات وأغفلت أخرى ،وما فائدة الحكى ،فالمولد مزدحم ،ول أحد يسمع ،إل أن الدكتور عبد المنعم الباز أجاب فى مقدمة الرواية على هذا السؤال ،مؤكداً تلك الوظيفة الجديدة /القديمة جداً للحكى وهى: \"البوح ولملمة ما يستحق البق اء م ن جم ال إنس اني ،ي ذبل م ع الزم ن ،والتش بث ،بم ا يج ب أل تنس اه القلوب .وهل الحكاية – فى الحياة الحقيقية وعلى ألسنة الناس العاديين – غير ذلك –\" نعم بنفس هذا المنطق كنت أبتسم وأشفق على سمير عبد الباقى ،وهو يحاول جمع منممات الذاكرة، دون أن يخف ى ذل ك .إنه يري د أن يع رف قبلن ا لماذا صار إل ى ما صار إلي ه .لم يك ن قديس اً ول مارق اً ب ل إنسانا م ا ازل ب داخله ذل ك الطف ل .أع رف مث ل ك ثيرين غي رى أن الس رد لي س معن اه أن تس كب كلم ات عل ى ال ورق ،ب ل اختيار وقصد ومعاناة فى ذلك الختيار .أعرف أن السرد صياغة بالساس ،الجملة ترهققك فتكتبها مرة بعد مرة، ربما لتغير حرفاً واحداً ،واو العطف مثلً ،كما تحدث عن ذلك ألبير كامى فى ارئعت ه\"الطاعون\" .أعرف أكثر من غيرى كي ف ترى نفسك خائفاً وجلً فى مواجهة السطور البيضاء ،كأنك ستخرج لصيد الحوت فى بحر هائج، وم ع ذل ك ليثني ك ش ىء عن ق ارر الكتاب ة ،ومث ل الك ابتن \"إيه اب\" تط ارد حوتك يوم اً بع د يوم ،فيخل ف وع ده ول يظهر ،وقد يظهر فل تستطع صيده ،ذلك غير الكثير من العقبات ،وكأن ال يرفض أن تكتب ،فتعطل ك المش اكل اليومية الروتينية ،وأحيانا تلقى بك تلك الفكار وذلك الموج إلى الساحل ،حيث لشىء ..لشىء فى أرسك سوى رمال بيضاء ممتدة ،وتسأل نفسك ياإلهى أين ذهبت الفكار؟ هذا المشترك بينى وبين سمير عبد الباقى ،والمتعة التى منحنى الرجل إياها وهو يفتح أمامى عالمين عالمه هو وعالمى الخاص ،هذا غير تمكنه من أدواته ،هو الذى فرض على أن أكتب ل عن أعماله للطفال ب ل عن رواياته السيرية. لكنن ى ق ررت أن اس تثنى رواي ة \"هك ذا تكلم ت الحج ار\" مح اولته الول ى ف ى الكتاب ة الروائي ة لس ببين: أولهما أن سمير عبد الباقى عاد إلى ذلك العالم بالتفصيل ،ولكن بعد أن اكتملت أدواته الفنية ،وخاصة علقته بالس جن والح ارس وعلقت ه ب أبيه لك ن دون رم ز أو تلميح ات أو تهويم ات أو إنغلق ات ش عرية ،ب ل كت ب بعفوي ة
6 نوانسانية \"زمن الزنازين\" ذاك اًر الشياء كما – نفترض أنها وقعت -فل أحد يكتب الشياء كما وقعت ،والغري ب أن إنس انية الرجل وحميمي ة ع المه وص دقه ،جعل ت النص أك ثر ش اعرية م ن س ابقه\" ،هك ذا تكلم ت الحج ار\" مفتت ح علقته بالرواية ،ذلك النص الصغير الرمزي الذى يتأرجح بين الشعر والسرد وكأنه مسرحية شعرية أو أوبريت. أصداء السيرة الذاتية تتكرر فى أعمال سمير عبد الباقى دائماً ،فمثل فى \"ك اركيب السندرة\" نجد فى تلك المقالت إلحاحاً على ذكر أسماء بعينها ،تظل ميت سلسيل وكأنها مركز العالم ،وما ازل يبحث عن مديحة ذات العيون البرسيمى والنمش الذى يبرقش وجهها .لكن تلك المقالت لم تكن من وجهة نظرى سوى إرهاصات ظلت تطارد الكاتب ولم يتخلص منها إل عندما أتم \"موال الصبا فى المشيب\" .عالم واحد قلبه ميت سلسيل ،مهما بعد عنه الكاتب يعود إليه ،ل فى ثلثيته بل فى كل كتاباته. لي س ه ذا إذن كتاب اً ع ن س مير عب د الب اقى ،ولكن ه كت اب ع ن الخط اب الروائ ى ،وتحدي داً رواي ة الس يرة الذاتية لسمير عبد الباقى .نحن فى د ارستنا لن تبنى منهج لوسيان جولدمان التى تربط بين الدب والمجتمع ربطاً لصيقاً وتحاول الم ازوجة بين البنية الدبية والجتماعية ،على العكس سنلتزم بالمنهج البنيوى بروح أقرب ماتكون لمنهج جي ارر جينيت المعتمد على الهرمونطيقا التفسيرية دون أن نغفل بالطبع المنهج التاريخى بحكم أن السيرة هى تاريخ شخص ،هو جزء من جماعة ،يدون تاريخها ويشاركهم فيها. أخي اًر ..ل يخف ى عل ى الق ارىء أنن ى لس ت م ن نج وم المؤسس ة ،ولس ت أن ا ال ذى س يكتب ش هادة ميلد لسمير عبد الباقى الروائى ويقدمه للجمهور ،كذلك ل أبغى شهرة بالكتابة عنه ،فالحال الثقافى لن يسمح ل بهذا ول بذاك ،ولكنى أكتب هذا الكتاب شهادة لتاريخ ربما يذكر أننا قد مررنا من هنا ،فمازلت ساد اًر فى إيمانى أن الكلمات أبداً لن تموت .وسمير عبد الباقى يستحق نقاداً لناقداً للحديث عن إبداعه الروائى ،وأتمنى أل تشارك كلماتى فى غبن الرجل ،بل أن يعود القارئ للعمل الصلى ،وأنا واثق أنه سيجد متعة حقيقية وسيعرف تاريخاً مسكوتا عنه من صفحات هذا الوطن. د.أشرف حسن عبد الرحمن
7 الفصل الول رواية السيرة الذاتية: مابين التأريخ والفن إشكالية التصنيف: ربما ينبغى علينا أول لتوضيح الفارق بين السيرة والرواية أن نبحث فى أصولهما المعجمية؛ كلمة سيرة، مشتقة من المسير ،وهو أصل يدل علي فمض جي وجريان ،فال ْس:ير :الذها فب في الرض ،ليلً أو نها اًر .يقال :سار، يسير ،سيَاًر ،وتِسَياًار ،ومسي اًر ،وسيرةً ،وسيرور ،وكل مسير له بداية ونهاية ،والسائر عادة ل يقطع الطريق في منتصفه ،بل يواصله إلى نهايته .أما كلمة رواية ،فهى مشتقة من الفعل)روى( ،ويعني حمل الماء ونقله من مك ان إلى آخر ،والفاعل) اروي ،و اروية(. وتعتم د الس يرة ف ي تفاص يلها عل ى أج ازء م ن س يرة ش خص م ا ،أو ح وادث وقع ت ف ي الماض ي يقص ها ال اروي على الحاضرين ،إما للعبرة أو لذكر مناقب شخص أو جماعة من الناس ،وهي جزء من التاريخ الشفاهى، والحقيقة أن ما نطلق عليه في المصطلح الشعبي) السيرة( ،كسيرة بني هلل ،والزير سالم ،...من منظور عربي ت ارث ي يختل ف ع ن الس يرة الحديث ة ،فه ذا الق ص الش عبي ،يفتق د غالب اً للحبك ة الروائي ة ،ول نج د فيه ا شخص يات متنامية ،ويعتمد فى أحيان كثيرة على ذاكرة ال اروي ،حيث يصفرف المور كما يشاء. والمب دع يعتم د ع ادة عل ى مخ زون ال ذاكرة ،حي ث يؤك د الك ثير م ن النق اد مث ل ش ارل م ورون وم ارى بونابرت على الحضور القوى للطفولة في نتاج المبدعين ،وهذا مايسميه النقد الحديث )السيرة النفسية( وهي سيرة تختل ف ف ي دللته ا ع ن الس يرة الذاتي ة ،فعلقته ا تنحص ر ف ي الماض ي المنقط ع ،ل الماض ي المتص ل ،بي د أن النقط اع ل يعن ي النس يان ،فه و ك امن تح ت اللش عور ،يندم ج ف ي الس يرة الكلي ة ،ويعي د ترتي ب فص ولها عن د الحاجة ،ويحتفظ لها بما تريد على طول الزمن؛ ومهما تقدم النسان في العمر تظل هذه السيرة النفسية ملزمة له ،ويجد شيئاً في داخله يعيده إلى سنواته الولى المحفورة في الذاكرة ،بينما قد ينسى أحداثاً لم يمض عليها وقت طويل ،فلكل واحد منا مواقف لتنسى من طفولته. كل هذه الحداث تحتفظ بها السيرة النفسية ،تظهر في الوقت الذي يثيرها ،وتختفي إذا لم يكن لظهورها حاجة ،هذا هو أساس السيرة الذاتية؛ فل يمكن للتحليل النفسي إقصاء الذات ،سواء كان سيرة ذاتية ،أو إبداعا روائيا ،رغم اختلف شروط ومقومات كل منهما ،وفى ذلك يقول أندريه غرين \" :هل يمكن عدم إقامة أي علقة بين النسان نوابداعه؟ فمن أي قوى يقتات هذا البداع إن لم يكن من تلك التي تعمل عند المبدع\"1. والرواية التقليدية تقترب من السيرة فيما يخص الزمان ،فكل منهما سرد منقول حاضر في ذهن ال اروي منذ زمن قد يطول وقد يقصر ،لكن كتابتها لحظية ،تمتد خلل مشروع الكتابة نفسها ،وهذا ينطبق على كتابة الس يرة م ن حي ث الزم ان ولحظ ات الكتاب ة الس ردية الج اهزة؛ بينم ا تعتم د الرواي ة الحديث ة عل ى الق ص المص احب للكتاب ة)القص الس ابق للح دث( ،وف ي ه ذه الحال ة تس بق الكتاب ة لحظ ات الق ص المتوال د ع ن العب ا ارت والجم ل التماس الفني بين السيرة والرواية سلطان القحطاني ،بحث منشور بالمجلة الثقافية الثنين ، 7جمادى الولى 1429العدد :247 1
8 والمواقف المتداعي ة بالس رد الفن ي؛ فيتحول الزمن من الماضي إلى الحاض ر فالمس تقبل ،حسب توظيف الروائ ي له.2 وفى الرواية نجد عادة شخصيات متنامية متطورة بجانب البطل المتخيل ،إضافة إلى الحداث المتنامي ة والمتقاطع ة ،ويمك ن للروائ ى توظي ف المع ارف النس انية والس اطير الش عبية والح داث التاريخي ة ،داخ ل النس يج الروائي لنصه .أما السيرة ،فيوجد فيها الكاتب ،ل باعتباره روائياًاً ،بل يصبح الكاتب هو ال اروي والبطل ،وهو بطل حقيقي ل متخيل ،والشخصيات غير متنامية ،والحداث جاهزة ،حيث تروى بطريقة السرد التاريخي ،إذن ال اروي هو الكاتب ،في ذات الوقت ،مع وجود البطل ،ولكنه بطل من نوع آخر. ورغم أن )فن السيرة الذاتية( له جمهور عريض ،إل أنه لم يحصل حتى الن على مساحته المشروعة، إم ا بس بب غي اب الحري ة أو قل ة وع ى الكت اب والق ارء ،أو الخ وف م ن قول الحقيق ة ،له ذا يلج أ ك ثير م ن الكت اب لرواي ة س يرته الذاتي ة تح ت قن اع روائ ى فيس قط عل ى البط ل مش اعره ،ويجعل ه يتح رك بحري ة دون أن ين ال ك اتب الرواية أي شعور بالخوف أو الذنب. وعندما يكتب الروائي سيرتَه الذاتية ،فإنه ل يص فور الواقع تماماً ،نواْنما يستعير الواقع لينطلق منه إلى الخيال المنشود .ولهذا يسمى هذا النوع من الدب ب \" التخييل الذاتي\" .إضافة إلى أن الرواية السيرذاتية تختلف ع ن الكتاب ة التاريخي ة ف ي أس لوبها وف ى التقني ات الس ردية ال تي تس تخدمها .3إنه ا الف لن ال ذي فيوف فق م ا بي ن ش غف النسان بالحقائق وحنينه الدائم إلى الخيال. نظرة تاريخية: والجدير بالذكر أن أول من تعامل مع فن السيرة هن النائحات البابليات ،إذ كن يجمعن معلومات عن الميت ويصغنها بأسلوب مؤثر ،يختلط فيه الشعر بالنثر والغناء بالنحيب! بعد ذلك ظهر المنشدون ،وكان المنشد يضع اسم صاحب السيرة الم ارد مديحه في الصياغة الكلية أو اسم صاحب السيرة الم ارد هجوه. وقديما كان العرب يشكون ثقل الشتاء )فليله طويل ،ونهاره ضئيل ،ونوؤه مطر وق جر ،ولذا كان الموقد مهجة الجلسات الليلية ،والرواي غجرة السمر والسهر( ولهذا كان الساهرون يطالبون ال اروي أو الحكاء برواية سيرة بطل مثل الزير سالم أو سيرة عنترة .ثم أصبحت السيرة فناً شبه متكامل بعد انتشار السلم ،وتكفل الرواة برواية فصول من سيرة الرسول الكريم أو أحد الخلفاء ال ارشدين للترغيب ،أو سيرة عاد وثمود للترهيب ،وكان الهدف من السيرة هو تعزيز صورة الدين الجديد وبث مكارم الخلق في النفوس! 4ومن المعروف أن محمد بن اسحاق هو أول من استعمل السيرة فى كتابه تاريخ حياة سيد خلق ال محمد بن عبد ال صلى ال عليه وسلم. السابق 2 3 ديوان العرب التاريخ والرواية :رواية »جيرترود« وتاريخ الدب الربعاء ١٣تشرين الثاني )نوفمبر( ٢٠١١بقلم علي القاسمي 4 :- 2013 أيلول / سبتمبر 05 الخميس الع ارقية الخبار بجريدة منشور الصائغ الله عبد د. . ليف :سَبر ما ِل َس:بِر محاولة في الذاتية السيرة انظر 57
9 والمعروف أن السيرة في أدبنا العربي ،كانت دائما متعلقة بالخر ،أما السيرة الذاتية الشخصية فتعتبر من الفنون الحديث ة التى نقلناها عن الغرب؛ ويذكر أن أول من كتب سيرته هو القديس )أوغسطين( في القرن الخامس الميلدي ،لكنها جاءت أقرب للعت ارفات منها للسيرة الذاتية. ويقرر جورج م اى أن نهاي ة القرن الث امن عش ر هي بداي ة السيرة الذاتي ة ،فنش ر \"اعت ارفات\" جان جاك روسو\" بعد وفاته ،شكل نقطة النطلق نواعلن عن استقلل السيرة الذاتية ككيان أدبى5. هكذا نرى أن السيرة الذاتية لم تصل للعرب إل متأخرة ،وربما يرجع السبب فى ذلك أنها نص يعتمد على الفتضاح وهتك حياة صاحبها ،ومع ذلك يمكن اعتبار بعض السير وثائق تنفع المؤرخين وعلماء النفس والجتماع ،سواء تع جمد الكاتب ذلك أم ل .وتعد كتابة السيرة الذاتية محاولة لللمام بشخص الكاتب في مجمله، في حركة تلخيص تركيبات النا .أما الوسائل المينة للتعرف على السيرة الذاتية فهي التأكد من أن الحديث عن الطفولة يشغل حي اًزاً كبي اًراً من النص إذا كان السرد يؤكد على مكونات الشخصية. وع ادة م ا يك ون ك اتب الس يرة ذاتي ة كاتب ا معروف ا ،يع د منج زه ه ذا اس ترجاعا للماض ي بحل وه وم ره بع د تجاوزه مرحلة الكهولة ودخوله على أعتاب الشيخوخة .وتكون هذه السير أحياناًاً ،كما يقول لمارتين\" ،في فترة معلق ة بي ن زمني ن ،ل نع رف إذا كن ا مازلن ا مس تمرين ف ي الص عود أم س نبدأ ف ي الن زول\" 6.لك ن ه ذا الم ر ليع د شرطاً أساسياً فمثلً نشر الشاعر والروائي النجليزي جورج مور ،أول مجلد لسيرته الذاتية \"اعت ارفات شاب\" ،عام ،1888وكان عمره ل يتجاوز الستة والثلثين ،وفى أدبنا العربى كتب محمد شكري سيرته الذاتية وعمره آنذاك سبعة وثلثون عاما. وتعد ارئعة طه حسين )اليام( أول نص تأسيسى في الدب العربي يمتثل لمقومات السيرة الذاتية كفن روائي .ولقيمة هذا النص تتالت من بعده العمال ال فس َيِر الذاتية ،فكتب عباس محمود العقاد \"أنا\" ،وكتب أحمد أمي ن \"حي اتي\" ،وكت ب س يد قط ب \"طف ل م ن القري ة\" ،وتوفي ق الحكي م \"عص فور م ن الش رق\" و\"س جن العم ر\" ، والطاهر بن جلون \"في الطفولة\" ،لكن قيمة نص طه حسين تكمن فى كونه نموذجاًاً تأسيسياًاً لنم ط الس رد الذاتي بمدلوله الفني في الدب العربي الحديث. ويمكن القول أن السيرة الذاتية هى ق ارءة ثانية لتجربة حياتية ،يصبح فيها الكاتب بحكم العمر ،وبحكم البعد زمانيا ومكانيا عن التجربة أكثر قدرة على فهم الذات .وكما يقول تيبودي إن هدف السيرة الذاتية ،ليس أن يخبرنا الكاتب بما نعرفه -من تاريخ مصر والناس مابعد الحرب العالمية الثانية أو سجون الناصرية كما فى ثلثي ة س مير عب د الب اقى -نوانم ا اس تنباط نوايج اد ومعرف ة الحقيق ة ع ن ال ذات .أم ا ب ول إكلي ن فيق ترح أن الك اتب يحاول ،عن طريق حكاية ماضيه ،إلى تقبل هذا الخير بشكل أفضل أو على القل فهمه .وبهذا فإن الكاتب ل يعي د الماض ي لكن ه يك جمل ه .وذل ك م ن خلل تنظي م وتأوي ل وق ائع حي اته بحي ث يش ارك بفعل ه ه ذا ف ي ص يرورة انظر ماي ،جورج :السيرة الذاتية –تعريب :محمد القاضي-عبد ال صولة-المؤسسة الوطنية للترجمة والتحقيق والد ارسات بيت الحكمة -قرطاج 5 ١٩ 6 الذات والوعي الجتماعي* السيرة الذاتية لمحمد شكري أنموذجا نجاة تميم الحوار المتمدن-العدد- 20 / 10 / 2013 - 4251 : 00:17
10 البداع7 ،ويمكننا الزعم أن هذا قد حدث فى ثلثية سمير عبد الباقى \"ولهم يحزنون\" و \"زمن الزنازين\" و \"موال الصبا فى المشيب\". وقد حاول كل من تعرض للسيرة الذاتية أو تناول علقتها بالرواية ،أن يقترح تعريفاً لها ،والخلصة أن الس يرة الذاتي ة ه ى \"حكي استرجاعي نثري يقوم به ش خص واقع ي ع ن وج وده الخ اص وذل ك عن دما يرك ز عل ى حياته الفردية وعلى تاريخ شخصيته بصفه خاصة \".8وأن يكون هن اك توافق بين هوية الكاتب والس ارد ،وتوافق بين هوية السارد والشخصية الرئيسة. ويرى فيليب لوجون أن السيرة الذاتية تعتمد على المكونات التالية: -1السارد والشخصية وهما يطابقان المؤلف، -٢وأن المؤلف ينقل في حاضره تجربته الحياتية في ماضيه، -٣أن هذا النقل يتم عبر اللغة المكتوبة وهو نقل سردي طبعاً، -٤يتم هذا النقل لهدف ما. فالسيرة الذاتي ة شأنها شأن الرواية ل بد لها من قصة ،والقصة وقعت في ماضي حياة الك اتب ،لكنه يسترجعها ويعيد خلقها ،أما في الرواية فيتخيل الكاتب القصة بوصفها مادةً خاماً ثم يتجاوزها ويتخطاها ،وعادة ما يستجمع الروائي مكونات هذه المادة من تجاربه وخب ارته الحياتية .طبعاً ل يمكننا للحديث عن جنس سردي نقى خالص ،ولبد من إعادة التوكيد على أن السيرة الذاتية قد استعارت منذ نشأتها أساليب وفنيات الكتابة الروائية. هكذا تدخل\"الرواية\" و\"السيرة الذاتية\" في علقة إشكالية ،فكلهما يعتمد على قصة حياة بطل فرد Kقد يدخل في صدام مع محيطه ،وقد يكون ارفضاً لقوانين المجتمع ،وكلهما يعبر عن ذات قلقة ،تعيش في علقة إشكالية مع كل ما يحيط بها. ويكمن الفرق أساسا بين السيرة الذاتية والرواية في الختلف القائم بين وجود الشخصية السير ذاتية، وجود الشخصية الروائية من حيث طبيعة كل منهما ،وهذا ما يدفعنا إلى ق ارءة السيرة الذاتية ،حيث نسلم أول أن الشخصية موجودة ،يشهد بذلك وجود الكاتب نفسه حتى ونان عمد أحد الكتاب إلى عدم تحرى الصدق سواء بقصد أو دون قصد؛ حيث ليمكن التخلص من التطابق القائم بين الكاتب والشخصية ،وهو التطابق الذي أرساه كاتب السيرة الذاتية نفسه ،وتظل المطابقة قائمة دائماً بينه وبين هذه الشخصية.9 وم ن المع روف أن الس يرة الذاتي ة حاض رة دائم اً ف ي الرواي ة،ول يتغي ر إل مق دار النس بة الس ير ذاتي ة فحسب .حتى نوان اختلف البطل عن المؤلف فى السن أو الثقافة أو الجنس ،وأصدق دليل على ذلك هو قول المرجع السابق 7 التعالق بين الرواية والسيرة الذاتية \"قصة عن الحب والظلم\" لعاموس عوز نموذجاً د .إب ارهيم نصر الدين عبد الجواد دبيكي مجلة كلية الداب 8 بجامعة حلوان – ع ) ٢٦يوليو 9 انظر س يرة ج برا الذاتي ة في ) البئر الولى وشارع الميرات ( خليل شكري هياس منشو ارت اتحاد الكتاب العرب دمشق 2001 -
11 فلوبير \" مدام بوفارى هى أنا\" و السيرة الذاتية يمكن أن توصف بالطريقة نفسها فالبداع السير ذاتي يعتمد أيضاً على المزج بين الذاكرة والخيال. لكن تختلف السيرة الذاتية عن الرواية في أنها تتعرض لحياة الكاتب بشكل مباشر ،فى الرواية يستطيع المؤلف أن يخفي شخصيته ،لكنه في السيرة الذاتية يجد نفسه فى مواجهة اختبار صعب كلما تعرض لموضوع حساس في حياته .هل يسكت أم يبوح؟ والخيا ارن أحلهما مر ،فأنت لم تكتب إل لكى تبوح ،ولو بحت ففى ذلك إح ارج نوايلم للبعض ،وقد مر سمير عبد الباقى بنفس المشكلة ،فنجده إما يفضل عدم البوح حرصاً على من يح ب ،أو يس تخدم أس ما ًء مس تعارة وح روف دلل ة ع ن شخص ات معين ة .ل ذلك ،فمص طلح رواي ة الس يرة الذاتي ة يعني الجمع بين شكلين في عمل أدبي واحد .وعلى هذا تكون رواية السيرة الذاتية نوعاً مركباً ،يجمع بين \"الرواية\" المتخيل ة وص يغة \" الس يرة الذاتي ة\" الواقعي ة ،ولكن ه ينتم ى أولًلً وأخي اًراً لجن س الرواي ة ،لن الرواي ة ه ي ال تي تحدد شكله العام. اشكالية التصنيف: حتى وقت قريب كانت \"السيرة الذاتية هي الرواية القائمة على الصوت المنفرد أي التي تستعمل ضمير المتكل م أو الن ا ف ي الس رد\" وذل ك لن إمكاني ة تحق ق التط ابق ف ي الس رد بض مير المتكل م يمك ن أن تت م بص ورة مباشرة. ويرى فيليب لوجون أن السيرة ذاتية ل بد أن تتطابق في المتلفظ السيرذاتي ثلثة أنواع من النا: -1أنا المؤلف الحقيقي :هو الذي يقف و ارء عمله بحكم وصف السيرة الذاتية. -2أنا السارد :هو المنبثق من الحاضر. -3أنا الكائن السيرذاتي :هو الذي يعود إلى الكائن السيري).(10 أما جي ارر جينيت فيرى في كل حكي للسيرة الذاتية مسافة فاصلة بين )أنا الساردة( و)أنا المسرودة( أي أن التطابق التام بين السارد والبطل أمر غير وارد ،حتى في النص السيرذاتي لن السارد يعرف أكثر مما يعلمه البطل )الشخصية المركزية( 11ولكن الصيغة النحوية توهم بتطابق الشخصيتين ،وليختلف ذلك كثي اًر عما ماقال به استاروبنسكي حين أكد أن ضمير المتكلم )أنا( ليس \"متبنى وجودياً من قبل أي شخص ،إنه )أنا( بدون إحالة، إذ أنه ل يحيل إل لصورة مخترعة\").(12 خلصة المر أن قضية التطابق ل يمكن طرحها من جهة اللغة ،وذلك لن \"الضمير النحوي )بحسب قول بنفست( سواء كان متكلماً أم مخاطباً أم غائباً ،ليس له من مفهوم خارج وظيفته الحالية ،وأنه نتيجة لذلك ل يمكنه أن يقوم بوصفه معيا اًر خلفياً للتمييز بين مبنى أدبي وآخر\").(13 )( مرايا نرسيس.146 : 10 )( انظر خطاب الحكاية.262 : 11 )( النقد والدب ،جان ستاروبنسكي ،ترجمة :بدر الدين القاسم.79 : 12 13 )( انظر أنساق الميثاق الوطوبيوغ ارفي :السيرة الذاتية بالمغرب نموذجاً.41 :
12 وم ن هن ا تتض ح أهمي ة اس م المؤل ف ف ي الن ص الس يرذاتي الم ذكور عل ى غلف الكت اب فه و العلم ة الدالة الوحيدة على وجود كائن اجتماعي مهنته الكتابة ومسئول عما كتب .ولينسب جي ارر جينيت الستباقات لل اروى العليم \"فهذا الشعار )الستباقات( ل يمكن أن يكون صاد اًر من البطل ،بل من السارد بالضبط وذلك في أغلب الحيان ككل أشكال الستباق التي تتجاوز دائماً قد ارت البطل المعرفية\").(14 ويذهب جي ارر جينيت إلى أبعد من ذلك حين يجعل الستباقات خاصة بالسارد السيرذاتي دون السارد الروائي )العليم( فيقول\" :وليس من الصائب أن تنسب مثل هذه التدخلت إلى )ال اروي العليم( فهي ل تمثل إل نصيب السارد السيرذاتي ف ي عرض وقائع م ا ازل البطل يجهله ا ...فبين خبر البطل وعلم الرواية العليم يوجد خبر السارد الذي يتصرف به هنا كما يريد ول يحتفظ به لنفسه ،إل عندما يرى سبباً مجدداً لذلك ،ويمكن للناقد أن يعترض على ملءمة متممات الخبر هذه ،ولكن ليس على شرعيتها أو مشابهتها الواقع في حكاية ذات شكل سيرذاتي\").(15 الميثاق السيرذاتي المقياس الثاني الذي يلجأ إليه لوجون في تحديد طبيعة النص السيرذاتي هو الميثاق ،السيرة الذاتية من وجهة نظره هى نوع من الدب المبني على الثقة ،يتطلب من الكاتب في بداية نصه إيجاد نوع من الميثاق الذاتي يتضمن العتذارات ،والتوضيحات ،والمقدمات ،نواعلن النية ،وكلها شعائر إيجاد اتصال مباشر.16 ت أتي أهمي ة الميث اق ف ي كونه نوع اً م ن العق د ي برمه المؤل ف مع الق ارئ حتى يح دد نوع الق ارءة وي وجه القارئ إلى هدف محدد في أثناء الق ارءة ف\"فيما يخص الرواية يندفع للتماهي مع تجربة خيالية ،ولكنه في السيرة مدفوع بفضول معرفة حقيقة ما حصل للخرين\".17 ويؤكد حسن بح اروي أن هذا المقياس ل يقل إج ارئية عن المقياس الول في وضع الحلول للكثير من المش اكل ال تي تع ترض الب احث ف ي تحدي د طبيع ة الن ص الس يرذاتي .ويق دم ثلث ة أن واع ه ي :الميث اق المرجع ي، والميثاق الروائي ،والميثاق السيرذاتي:18 -1الميثاق المرجعي :وفيه يتوخى الكاتب الدقة العلمية والحقيقة التاريخية التي يمكن التحقق من صحتها بالرجوع إلى مصادر أخرى ،أو تلك التي يحيل عليها الكاتب في النص ،حيث يعم ل هذا الميثاق على تحديد حقل الواقع الم ارد تصويره ،كما يحدد كيفية ودرجة التشابه الذي يزعمه النص بالواقع .19تصبح السيرة الذاتية هكذا نوعاًاً من النصوص المرجعية حيث أنها تشترك مع الخطاب العلمي أو التاريخي فى كونها تخبرنا عن واقع خارج الن ص ،وه و واق ع يمك ن التحقق م ن ص حته بوس يلة أو ب أخرى ،وبه ذا يك ون ل دينا نوع ان م ن الميث اق )مرجع ي، سيرذاتي(.20 )( خطاب الحكاية.214 : 14 )( السابق. 15 16 )( أدب السيرة الذاتية في فرنسا :المفاهيم والتصو ارت.39 : 17 )( السيرة الروائية :إشكالية النوع والتهجين السردي ،عبد ال إب ارهيم ،مجلة نزوى ،العدد 14لسنة .18 :1998 18 19 )( انظر أنساق الميثاق الوطوبيوغ ارفي :السيرة الذاتية بالمغرب نموذجاً.46-42 : 20 )( انظر مرايا نرسيس.43 : )) انظر س يرة ج برا الذاتي ة في ) البئر الولى وشارع الميرات ( خليل شكري هياس منشو ارت اتحاد الكتاب العرب دمشق 2001 -
13 وعلى نقيض الصحفى أو المؤرخ يصبح كاتب السيرة الذاتية اروياً لشياء يكون في الغالب هو وحده الذي خبرها .و يركز الكاتب هنا على أصالة ذلك الطار الواقعي العام الذي يرسمه لقارئه دون أن يهتم بالدقة العلمية والموضوعية التي يلتزم بها المؤرخ أو الصحفى ،بحيث يدعوهم مثلً إلى ق ارءة سيرته الذاتية من خلل مجموع نتاجه السردي أو الفكري ،أي في مجال أوسع بكثير من مجالها الحقيقي.21 -2الميث اق الروائ ي :وه ذا الن وع م ن الميث اق \"عم اده نف ي التط ابق بي ن اس م المؤل ف عل ى الغلف واس م الشخص ية في الن ص ،وس نده الق ارر بالط ابع التخيلي للن ص :كأن ي ذكر ف ي عن وان فرع ي أن الكت اب رواي ة\".22 ويتجلى ذلك فى مظهرين للميثاق الروائي هما: أ -الممارس ة المعلن ة لنع دام التط ابق :وذل ك ب أن يحم ل البط ل اس ماً مخالف اً لس م المؤل ف ،مثلم ا جع ل الك اتب \"س الم\" ب ديل ع ن نفس ه \"س مير عب د الب اقى\" ف ى \" وله م يحزن ون\" ،وب ذلك يبع د العم ل ع ن حق ل الس يرة الذاتي ة ،ح تى نوان ك ان هن اك ش به واض ح أو ك بير بي ن المؤل ف البط ل ،لن الس يرة الذاتي ة ل تتض من مس تويات متفاوتة من التش ابه ،فإم ا أن يكون التشابه تام اً لدرجة المطابقة للص ل أو أل يكون .ومج رد الشك في وجوده يؤدي إلى إلغائه تماما .لكن حالتنا مختلفة فلمجال للشك رغم اختلف السم فى أن هذه هى سيرة الكاتب وذلك بسبب الستهلل الذى أسماه فذلكة ،وتك ارر نفس التفاصيل تقريبا فى كتابيه التاليين. ب -التصريح بالتجاه التخيلي للنص كأن يشير في عنوان صغير في أسفل الغلف إلى الطبيعة الروائية للنص) .(23أو أن يشير إلى ذلك في المقدمة .وطبعا كان سمير عبد الباقى حريصا على ذلك بالتأكيد على كلمة رواية فى العمال الثلثة . -3الميثاق السيرذاتي :ويقوم هذا النوع من الميثاق على \"تلك العقدة التي يبرمها المؤلف مع القارئ لغاية التأكي د عل ى التط ابق بي ن المؤل ف والبط ل والرج وع بك ل ش يء إل ى الس م الشخص ي المكت وب عل ى الغلف24\". وذلك لن السيرة الذاتية كما يقول لوجون هي \"طريقة في الق ارءة بقدر ما هي نمط من الكتابة ،نوان تاريخ السيرة الذاتية ليس في النهاية سوى تاريخ ط ارئق الق ارءة التي يتعاقد عليها المؤلفون والق ارء عبر التاريخ\".25 ويمك ن العلن ع ن ه ذا الميث اق بط رق مختلف ة س واء ف ي العن وان أو ف ي اله داء أو ف ي المقدم ة أو ف ي البي ان الختامي )عند أندريه جيد( أو حتى في الحاديث الصحفية التي تتم في وقت النشر )عند سارتر( .26ويتم ذلك بطريقتين: -1المعلن :وذلك عندما يتطابق اسم )السارد -الشخصية المركزية( داخل السرد مع اسم المؤلف الموجود على غلف الكتاب. )( أنساق الميثاق الوطوبيوغ ارفي :السيرة الذاتية بالمغرب نموذجاً.43 : 21 )( سيرة الغائب .سيرة التي :السيرة الذاتية في كتاب اليام لطه حسين.15 : 22 23 )( مرايا نرسيس.15 : 24 25 )( أنساق الميثاق الوطوبيوغ ارفي :السيرة الذاتية بالمغرب نموذجاً.44 : 26 )( مرايا نرسيس.40 : )( انظر أدب السيرة الذاتية في فرنسا :المفاهيم والتصو ارت.29 :
14 -2الضمني :وقد يلجأ فيه المؤلف إلى عناوين ل تترك شكاً في أن الضمير السردى الوارد في الن ص يع ود إلى المؤلف ،كما نجد في سيرة أحمد أمين الذاتية )حياتي( ،وسيرة العقاد )أنا( .وهناك طريقة أخرى حيث يتحدث ال اروى إلى القارئ كما لو كان هو المؤلف نفسه ،حتى نوان لم يذكر اسمه وذلك على نحو يجعل القارئ يقتنع بأن ضمير المتكلم المستعمل فيها إنما يعود على السم الذي يحمله الغلف )اسم المؤلف(.27 ورغم أن الكتاب الول من ثلثية السيرة الذاتية لسمير عبد الباقى \"ولهم يحزنون\" يصنف كرواية من أول عتبة نصية على الغلف ،فإن الكاتب يعلن أسفل العنوان وفي المقدمة أن كتابه \"سيرة ذاتية\" وذلك بعبارة \"على هامش السيرة الذاتية\" .وتكرر ذلك فى العملين التاليين \" زمن الزنازين \" و \"موال الصبا فى المشيب\" أى أنه يفي بأول شرط من شروط الميثاق السير الذاتي؛ وهو التأكيد على ذلك في النص وفي مقدمة الكتاب .لكن هناك اشكالية حقيقية ،فالفتتاحية الولى التى أسماها \"فذلكة\" تفى بذلك الشرط ،فى حين تبدأ الفتتاحية الثانية صفحة .22وهن ا س يتحول الحك ى م ن الض مير الول إل ى الض مير الث الث وسيص بح \"س مير\" \"س الم\" وس يتأكد ذل ك ف ى الكتاب الثانى \"زمن الزنازين\" حين يكرر الكاتب حوادث بعينها أهمها بجانب السجن دوره هو وشباب بلدته فى عزل مجلس إدارة الجمعية الز ارعية الفاسد...الخ لقد اختار الكاتب استرجاع ماضيه ليفجر سخطه على الظروف المزرية اجتماعيا وسياسيا سواء فى \"وله م يحزن ون\" أو ف ى زم ن الزنزي ن أو \"م وال الص با ف ى المش يب\" ال تي ك ان يعيش ها ش ارئح ك بيرة م ن المجتم ع خاصة الفلحين والموظفين وصغار الملك وكيف أودى به ذلك إلى التمرد واختيار الفكر اليسارى طريقا رغم الثمن الفادح الذى دفعه فى سبيل ذلك الختيار .لكن ذلك ليمنع نوستالجيا سمير عبد الباقى نحو زمن الب ارءة الجمي ل خاص ة ف ى المنص ورة ومي ت سلس يل .وق د أثم رت ه ذه التج ارب بخيره ا وش رها ع ن س يرة ذاتي ة سياس ية ثقافية ،تؤكد صيرورته البداعية وتبرز مدى وعيه بمجتمعه والتحولت الحادة التى عاشها. عتبات النص: -العنوان يش كل العن وان عنص اًر أساس ياً ف ي الن ص ،فه و ن ص م واٍز مكث ف .28لق د ت ازي دت أهمي ة العن وان م ع الشكلنيين والبنيويين باعتباره نصاً صغي اًر يؤدي \"وظائف شكلية وجمالية ودللية تعد مدخلً لنص كبير\" .29 وهو أيضا البهو بتعبير لوي بورخيس ،الذي منه ندلف إلى دهاليز نتحاور فيها مع المؤلف الحقيقي و المتخيل ،داخل فضاء تكون إضاءته خافتة30. ولهمية العنوان بوصفه علمة بارزة في تحديد النص أولً ،والكشف عن مجموعة من الدللت المركزية المنبثقة منه ثانياً) (31كان العنوان وما ي ازل من المواقع الحساسة التي يقف عندها المؤلفون كثي اًر ،فعلى الرغم م ن )( سيرة الغائب .سيرة التي :السيرة الذاتية في كتاب اليام لطه حسين.15 : 27 )( انظر السيميوطيقا والعنونة ،جميل حمداوي ،مجلة عالم الفكر ،المجلد ،25العدد 3لسنة .98 :1997 28 )( شعرية عنوان كتاب الساق على الساق فيما هو الفارياق ،محمد الهادي المطوي ،عالم الفكر ،المجلد ،28العدد 1لسنة .455 :1999 29 30 \" السميوطيقا والعنونة\" ،بمجلة عالم الفكر ،الكويت ،المجلد ،25العدد ،3:يناير/مارس 1997م، 31 )( بلغة الخطاب وعلم النص ،صلح فضل.303 :
15 أن المؤل ف ح ر ف ي اختي ار العن وان إل أن ه يخض ع بطريق ة أو ب أخرى إل ى مع ايير معين ة ف ي الختي ار موقعي اً وتركيبياً وجمالياً ودللياً وتجارياً.32 أما موقعياً فيتعلق بكيفية وضع العنوان على الغلف ،وفي الصفحة المخصصة له :وفى الكتاب الول والثانى يكون أول ماتقع عليه العين هو كلمة \"رواية\" ومع ذلك جاءت الكلمة على استحياء كون الشاعر يكتب رواية .أما فى العمل الثالث فقد كتبها بشكل أفقى بالتجاور لول مرة مع \"على هامش السيرة الذاتية\" .ولست أدرى لماذا اختلف الموقع عن سابقيه ،وربما يكون مبرر ذلك هو ت ازيد ثقة الكاتب بنفسه مع كتابه الثالث وعدم انشغاله بالتص نيف ،ولك ن الص ورة الفوتوغ ارفي ة لس مير عب د الب اقى تؤك د هن ا عل ى نرجس ية الش اعر الواض حة ال تى أب ت الستعانة بلوحة تشكيلية. وحسب تقسيم جي ارر جينيت للعنوان إلى ثلثة أقسام نجدها بالتطبيق على العمل كالتالى هي: -1العنوان ) الرئيس( :ولهم يحزنون -زمن الزنازين -موال الصبا فى المشيب -2العنوان الفرعي )الثانوي(:على هامش السيرة الذاتية -3التعيين الجنسي) (33رواية وأما تركيبياً فيتعلق بالجانب اللغوي للعنوان أى اختيار التركيب المناسب فيمكن أن تكون كلمة أو جملة فعلية كانت أم اسمية ،أو قد يأتي مركباً وصفياً أو مركباً إضافياً ،وهذا التكافؤ في التركيب يعني أن إف ادة العن وان تتكئ إلى وظيفته الحالية إلى ما يعنونه في حين أن إفادة التنفيذات اللغوية تتكئ إلى اكتمالها التركيبي).(34 وق د جاءت البني ة العنواني ة متس قة إل ى حد ك بير مع البني ة الدللي ة ،حيث تتكون البني ة العنواني ة عن د سمير عبد الباقى من جملة اسمية دائما .ويقوم العنوان على الختصار والخت ازل والحذف الدللي .ففى \"ولهم يحزن ون\" تن اص قرآن ى غي ر مكتم ل .فعب ارة ل خ وف عليه م ول ه م يحزن ون\" ق د وردت ف ي الق رآن الكري م ثلث عشرة مرة ،منها ست م ارت في سورة البقرة وحدها فنجد فى »َول« أن الواو عاطفة على جواب شرط محذوف ، ول نافية للجنس أما » فه:م« فضمير منفصل مبتدأَ» .ي :حَزنفو َن« فعل وفاعل والجملة خبر .وبما أن جملة \"ل خوف عليهم\" في محل جزم جواب الشرط .فتصبح جملة \"ل هم يحزنون\" معطوفة .وع ادة مايكون هذا الوعد القرآن ى للمؤمنين والصابرين والمصدقين بآيات ال ،وهى كلها صفات ي ارها سمير عبد الباقى قد توفرت فى أهل قريته من الطيبين والبسطاء. أما \"زمن الزنازين\" فالعنوان جملة اسمية تحمل دللة زمكانية حيث الزمن كما تقول النظرية النسبية هو البع د ال اربع للمكان ،ويحيلنا ك ذلك إلى خصوصية التجربة ،وفى \"موال الصبا فى المشيب\" هو مرك ب إضافى يجعل العنوان أكثر تعقيدا فى بنائه اللغوى ،فالجملة من مبتدأ لحقت به إضافة ،والخبر إما تقديره \"حاضر\" فى زمن المشيب أو أنه شبه جملة من جار ومجرور ،والنص يميل أيضا للتعقيد شأنه شأن عنوانه .والموال هو ذلك )( شعرية عنوان كتاب الساق على الساق فيما هو الفارياق.457 : 32 )( السيميوطيقيا والعنونة.106 : 33 34 )( العنوان وسيميوطيقيا التصال الدبي ،محمد فكري الج ازر.39 :
16 الغناء الشعبى الذى يتميز دائما بالشجن ،وطبيعى أن يكون شاعر العامية أكثر من يحتفى بذلك النوع من الفن وأكثر احساسا به ،فهو بذلك يتبنى دور الفنان الشعبى الذى سيصدح بمواله عن زمن الصبا بعد أن ذهب وتولى. لق د أس همت البني ة التركيبي ة كم ا ن رى ف ى إث ارء العن وان دللي ا ،ف العنوان ح اد مرك ز مبتس ر ف ى \"زم ن الزنازين\" يحيل إلى دللة مغلقة ،لكنه فى \" ولهم يحزنون\" يتبنى أفقا دلليا أوسع وأرحب ،فالمسكوت عنه أكثر مما يصرح به الكاتب.أما \"موال الصبا فى المشيب\" فيفتح مساحة أرحب للبوح بكل مايحمله الموال من ظلل ودللت شجنية. أما جمالياً فيتعلق بنوع الخط المستخدم في كتابة العنوان ،وقد يكون للعنوان جماليات إيقاعية أو بيانية مثل السجع والتصوير وغير ذلك) .(35وفى حالتنا كان هناك شبه اص ارر من الكاتب على استخدام اللون الحمر وخط الثلث ،أما فى \"موال الصبا فى المشيب\" فقد استخدم نوعا من الخطوط هو أكثر حداثة من الثلث التقليدى الكلسيكى ،وجاء ذلك متسقا مع الكتابة التى جاءت أكثر حداثية من سابقتها ،واختار سمير عبد الباقى هذه المرة أن يكتب اسمه موقعاً بخط يده وكأنه إق ارر بشهادته الكاملة على زمن مضى أو اعت ارف خطى بما فعل. ويحدد جي ارر جينيت للعنوان أربع وظائف هي: تحديد هوية النص. -1 الوظيفة الوصفية :التى تصف النص بإحدى خصائصه الموضوعية أو الشكلية. -2 -3 الوظيفة الدللية الضمنية أو المصاحبة )اليحائية(. -4 الوظيفة الغ ارئية(. وقد جاءت كلمة \"رواية\" و \"على هامش السيرة الذاتية\" لتزيد من حيرة القارىء الكلسيكى فهو ليعرف هل هو بصدد رواية أم سيرة. العنوان الفرعي: وهو الذي يعين طبيعة النص ،ويحدد نوع الق ارءة بالنسبة للمتلقي ف\"عندما نشرع في ق ارءة رواية مثلً تصبح المكونات التي نتوقعها ،خاضعة لطبيعة مفهومنا عن الرواية ،لكن يصبح المر مختلفاً عندما نشرع في ق ارءة قصيدة أو مقال صحفي\") (36غير أن هذا ل يمنع أن تتوافر في النص بعض الشف ارت الجمالية المبتكرة التي تعطي للنص خصوصيته في الطار العام المرن للنوع الدبي المكتوب فيه).(37 ويتميز العنوان الفرعي بخاصيتين هما: خاصية تبعية :أي وقوعه في الدائرة الدللية للعنوان الرئيس. -1 خاصية توضيحية تخصيصية :بوصفها تتمتع بمحول إعلمي مغاير تكون شارحة للعنوان الرئيس).(38 -2 )( شعرية عنوان كتاب الساق على الساق فيما هو الفارياق.458 : 35 )( بلغة الخطاب وعلم النص.328 : 36 )( مرايا نرسيس.358 : 37 38 )( العنوان وسيميوطيقيا التصال الدبي.56-55 :
17 لقد جاء العنوان الفرعي فى الكتب الثلثة )على هامش السيرة ذاتية( ليؤدي عدة وظائف: -1تحديد النوع الدبي الذي ينتمي إليه الكتاب -2التأكي د عل ى مب دأ النتقائية في السيرة الذاتي ة - ،ف ى الكت ابين الث انى والث الث -فص حيح أن الكاتب ق د اختار الكتابة عن فترة محددة لكنه مع ذلك ليمكنه ذلك مهم ا حاول استقصاء كل تجاربه الحياتية، فجاءت \"زمن الزنازين\" ليحدثنا عما حدث له فى تلك السنوات الثلث بسجن المنصورة .و \"موال الصبا ف ى المش يب\" تأكي داً عل ى أن الك اتب س يعرض لطف ولته بص ورة أك ثر تفص يلً ،ه ذا غي ر ال دياليكتيك المستمر مابين الطفل والشيخ .أما داخل النص فقد استخدم عبارة \" رواية قد تكتمل غداً\" -2اسم المؤلف أول م ا يطالعن ا ف ي ص فحة العن وان ه و كلم ة )رواي ة( والم دهش أن ذاتي ة الش اعر ونرجس يته ل م تظه ر على الغلف .وربما كان لورود السم مابين كلمة \"رواية\" و\"على هامش السيرة الذاتية\" تأويل آخر هو أن الذات المتح دث عنه ا ف ي ه ذا الكت اب إنم ا ه ي ذات م ترددة بي ن الرواي ة والس يرة ،أى م ا بي ن الل ت ازم بحرفي ة الواق ع وانطلق المخيل ة .ف ى حي ن ت رك البن ط الك بير الحم ر وبخ ط الثل ث المتمي ز للعن وان الرئيس ى \" وله م يحزن ون \" وتكرر المر فى \" زمن الزنازين\" ،وقد نستشف من ذلك اختناق الذات وضياعها ،وتوزعها مابين الفن ومابين السياسة زمن الناصرية وسجونها .أما \"فى موال الصبا فى المشيب\" فقد ظهرت صورة الغلف مختلفة فهى صورة فوتوغ ارفية كبيرة للشاعر ولكن مع احتفاظه بكلمة \"رواية\" و \"على هامش السيرة الذاتية\" ،الصورة هنا تأكيد على أنه سيحكى هذه المرة سيرة كاملة غير مجتزئة. ومعروف أن لسم المؤلف في النص السيرذاتي أهمية كبيرة ،إذ يمثل عتبة أولى تمهد للقارئ للولوج فى النص والتعامل معه بشكل معين ،فاسم سمير عبد الباقى على الغلف يثير لدى القارئ الذي يعرفه موقفاً معيناً، فهو شاعر ومناضل يسارى ،كما أن ظهور السم في هذا النوع الدبي يعكس حرص المؤلف على إعطاء بعد حقيقي للوقائع الخاصة بسيرته) .(39لكن ذلك ليمنعه من تطويعها وتهجينها مع الشكل الروائى. ويؤك د جي ارر جيني ت عل ى أن إثب ات اس م المؤل ف يص بح فعلً أك ثر دلل ة عن دما يتعل ق الم ر بالس يرة الذاتية بشكل خاص ،لنه يكون حينئذ جزءاً للعقد المبرم بين المؤلف والقارئ .كما أنه يخلق من جهة أخرى نوعاً م ن الث ارة ل دى المتلق ي ي دفعه إل ى ق ارءة ه ذا الث ر م دفوعاً بالفض ول لمعرف ة حي اة الخ ر ،لن ال ذات ال تى ستتكشف أمامه هنا في السيرة هي ذات المؤلف ،بعيداً عن التمويه أو القناع الذي يلبسه المؤلف عادة في كتاب اته الخرى. والص دق ال ذي نقص ده لي س الص دق المح ض فالحقيق ة دائم ا نس بية .(40) ،ف ى ذل ك يق ول من دلو \"إن الكاتب الكبير يكتب دائما بصدق أكثر مما هو عارف به\" 41فالصدق في السيرة الذاتية نسبي ،خاصة في عالمنا )( السيرة الروائية :إشكالية النوع والتهجين السردي.29 : 39 )( في السيرة.105 : 40 41 أ .أ .مندلو -بكر عباس .الزمن والرواية .تاليف :أ .أ .مندلو .ترجمة :بكر عباس .م ارجعة :إحسان عباس. دار صادر .بيروت .الطبعة الولى1997 .م.
18 العربي ،الذي تأمر ثقافته بالستر ،وقديما قالت العرب ) ما كل ما يعلم يقال( ،كما أن المولى عز وجل قد أمر بالستر إل لمن كشف ستره بنفسه. -3صورة الغلف: ف ى \" زم ن الزن ازين\" ترس م لوح ة الغلف القض بان ب اللون الس ود ،خلفه ا وج وه مطموس ة وكاف ة الل وان والشكال ،بلون أزرق فى معظمه وتوحى أنها خطوط تذوب .أما ظهر الغلف فصورة توحى بالعزلة والتأمل ،بعد أن شحبت ألوان القضبان بفعل الزمن الذى يفصل المبدع عن التجربة ،وقد اختار الكاتب تناصاًاً -هو ذاته ما انتهى به عمله -فيه الكثير من الشاعرية ،ممهو ار بتوقيعه ،جاء على أرض خض ارء فبدا التوقيع كشجرة. وفى رواية \"ولهم يحزنون\" جاءت لوحة الغلف لقرية تكاد تذوب فى أجساد ثلثة متعبة ،ولنعلم هل الثلث ة يندبون حظهم العاثر ،أم يساقون إلى قدرهم ،وأيديهم على رؤوسهم فى اتجاه جسد آخر أسود فى لون الح داد ،وأك ثر ط ولً لم أرة ترت دى الس واد ،وتنعك س له ا ظلل خض ارء وص ف ارء وكأنه ا أش باح ف رج ال ،وك أن الملتحفة بالسواد هى مصر التى تستقبل المتعبين والمعذبين. أم ا غلف \"م وال الص با ف ى المش يب\" فه و ص ورة فوتوغ ارفي ة آني ة تؤك د عل ى الذاتي ة الش ديدة ،ونظ رة عميقة من الكاتب وكأنه يتأمل على شريط سينما رحلته مع الحياة. -4الهداء-: عادة ما يمثل الهداء بوصفه عنص اًر من العناصر الموجهة للنص السيرذاتي عتبة نصية هامة تسهم في إضاءة النص ،لن الهداء فى الرواية أو القصة ليس بالهمية التي نجدها في النص السيرذاتي ،حيث أنه في العمل الروائي يحيل إلى خارج النص ،في حين أنه في العمل السيرذاتي يحيل إلى داخل النص ويعم ل عل ى توضيح بعض جوانبه. وفى كتابه الول \"ول هم يحزنون\" جاء الهداء كالتالى : إليهم ..إليهن.. كلهم رجال ونساء أينما هم حيثما هم كيفما هم من حملونى همهم من أطعمونى خبزهم من ألهمونى حبهم والهداء الول يدل على تلحم الكاتب مع الجماهير ،والحق أنه اختار الحديث عن الجموع ،وكادت تل ك الس يرة أن تك ون س يرة قري ة أك ثر منه ا س يرة للك اتب نفس ه ،كم ا س يحدث ف ى العملي ن الت اليين حي ث س يكون حضور النا أكثر قوة.
19 وف ى \"زم ن الزن ازين\" تطالعن ا ه ذه العب ارة \"ل أدعى امتلك ناص ية الس لف لنن ى أح د ض حاياها دني ا ودين\" هكذا جاء تصدير ل إهداء سمير عبد الباقى للنص .ولغ اربة فى ذلك ،أليست اللغة هى كينونة الوجود كما يقول مارتن هيد فغر ،فكينونة النسان ترتبط ارتباطا وثيقا باللغة فهي \"البيت الذي يسكنه النسان\" .وفي أريه أن النسان يجب أن ينصت إلى اللغة حتى يسمع ما تقوله له ،أما \"حضور تلك الكينونة\" فل \"يتمظهر\" ،بحسب هيد فغر ،إل في اللغة ذاتها .إن ارتباط الكينونة باللغة ،سيؤثر بالتأكيد على اللغة التى اختارها الكاتب والرتباط واضح ومباشر ،فمن خلل لغة رومانسية سلسة مثل تعاقب الليل والنهار ،ذات سيولة وتدفق يشبه تدفق الزمن الكونى يأتى السرد هادئا كالنهر .ومع الشاعر تحديداً تصبح لكل كلمة ثقل دللى وايحاءات وظلل أشد كثافة وتعقيدا من لغة الروائى ،وسوف نلحظ أن اللغة مع عبد الباقى تستدعى كتابة عبر نوعيه حيث تقترب أحياناً من السرد الشفاهى وتعتمد ثيمة التك ارر وأحيانا تكاد تصبح لغة الكاتب لغة شعر صرفة. لكنه فى عمله الخير \" موال الصبا فى المشيب\" يختار تناصاً للشاعر الع ارقى عبد الكريم قاصد حين يصير الم ارهق طفل يجلس الشيخ بينهما ويبكى عائدا إلى صباه لكننى ل أتذكر غير صورة الطفل وقد فاجأه الجنى بضحكاته المجلجلة ومصباحه الذى لم يكن غير لعبة قديمة والهداء يشى بسيولة الزمن وحركته الرتدادية والرتباك الواضح للذاكرة ،فالطبيعى أل يصير الم ارهق طفلً بل العكس ،لكن حضور الشيخ تلك \"النا\" التى تحدثنا على مدار النص موزعة مابين طفولتها وم ارهقتها، يجعل الختلل وعدم الت ارتبية أم اًر مبر اًر .هكذا نرى نوستالجيا الطفولة واضحة ،والكلمات تشى بالرتباك وفوض ى الح واس حي ث يص بح الزم ن واح دة م ن اللع ب ،مثل ه مث ل اللعب ة القديم ة .إن مرحل ة الطفول ة وذكرياته ا م ا ازلت حاضرة بقوة تطارد كاتب السيرة ،لكنه الن يفك الكثير من طلسمها ،ويعترف بزوال السحر عن أشياء طالما ظن أنها عجائبية وغير مفهومة أو مبررة لكنها بكل تأكيد كانت تجعل العالم أجمل. -5فاتحة الكتاب تع د فاتح ة الكت اب أح د العناص ر الموجه ة ف ي فه م الن ص .ويع دها جي ارر جيني ت واح دة م ن العتب ات النصية المحيطة بالنص والمسهمة في فهم النص وتحليل ه) .(42كما أنها تمثل مدخلً من \"المداخل التي تجعل المتلقي يمسك بالخيوط الولية والساسية للعمل المعروض\").(43 فى \"ولهم يحزنون\" يب دأ الك اتب اس تهلله الول \"فذلكة\" بتل ك الفتتاحية التى ق د يعتبره ا البع ض عبئ اَ على العمل ،والرجل يعترف منذ عمله الروائى الول بعيوب كتابته قائلً: )( السيميوطيقيا والعنونة.102 : 42 )( مرايا نرسيس.102 : 43
20 \" نسيت فى غمرة استرسالى أن أذكركم ..أو على الصح أحدثكم عن عيبى الكبير ال ذى ق د ل يك ون العي ب الك بير ف ى كت ابتى ،ف ى ذل ك السترس ال المم ل والخ روج المف اجئ غي ر الم برر ع ن الموض وع الساس ى للح ديث ع ن موض وع فرع ى أو يب دو أن ه فرع ى ..م ع أن ه ق د يك ون موض وعا أساس ياً ورئيس ياً بق در م ايكون الموضوع الساسى والرئيسى فرعياً\" ومع ذلك يمكن فهم أسباب الكاتب بشكل أفضل فى عمليه القادمين ،إذ يخبرن ا أن ه حصل علي منحة للتف رغ حتي يكت ب مسلسلً كومي ديا هو غي ر مقتن ع ب ه ،لكن الحاجة المادي ة هى دافعه الول للكتابة .وكعهده يقول بسخرية لذعة أن مشكلته الساسية \"قتل الذبابة\" التي تعوقه عن الكتابة .هذه الذبابة ل يمكن قتلها إل عن طريق الكتابة ،لكن المر ليقف عند هذا الحد .سنجد أن هذه الذبابة تتخ ذ دللت كثيرة ترمز الي العاقة فتصبح هي التي تتخلق من القاذو ارت ومواطن العفن الموجودة في الوطن حيث الشهداء ف ي فلس طين أي أنه ا تحم ل المع وق الساس ي وه و الس تعمار .ول يج د الم رء أم امه س وي اس تغلل ط اقته ف ي )ه ش ون ش( ال ذباب ،لك ن الس تعمار لي س م ن الس هل )هش ه ونش ه) فهن اك مقاوم ة له ذة المط اردة ال تي تع وق البداع والسؤال :هل سيقتل الكاتب هذه الذبابة عندما يروي سيرته في ) ميت سلسيل(\"44 أما فى \"زمن الزنازين\" فيبدأ الكاتب بالحديث عن موضوعه وسبب اختياره لهذه الفترة من حياته وحياة المة ،والملفت للنظر أنه لم يعنونها أو يعمدها بكلمة مثل \"تمهيد ،مقدمة ،مفتتح ،ونلحظ بصفة عامة غياب العناوين الداخلية فى الكتابين الول والثانى ،فسمير عبد الباقى لم يعنون فصوله ،أو يمنحها أرقاما ،على هذا يمك ن اعتب ار الص فحات الول ى نوع اًاً م ن التق ديم أو الس تهلل .حي ث يع ترف أن \"السجن ه و الس جن ف ى ك ل زمان ومكان\" وأن تجربته لن تضيف جديدا على الدب العربى والجنبى ،لكن هدفه من كتابة تجربته هو التأكيد على \" قدرة النسان على التسامى على بذاءات الزمان وقاذو ارت المكان\". أما افتتاحية \"موال الصبا فى المشيب\" والموسومة ب\" :ولكن أنفسهم يظلمون\" فجاءت كالتالى: قوم ..فز اعترف ..حق نفسك للف ارح الولى ..لهدهد سيدى مجاهد وجميزة السباخ وم ارجيح )أحم د هم ام( لمش نة خل ت )خض رة أم بي ومى( ..اس تغفر الح ازن الول ى ..من ديل )مديح ة( بن ت )أم نم ر( أول بوس ة تح ت )خيم ة الياس مين( طرح ة )خل ت مقبول ة( وعينيه ا القديم ة ال تى ك انت ترت ديها عن دما أرت ك تس رق الف ول الح ارتى\"... أى أننا أمام نص اعت ارفى بامتياز ،يغلب عليه مشاعر الذنب تجاه شخوص بعينه ا ،وافتقاد لحميمية م ارتع الطفولة ،وستلعب القواس دو اًر حاسماً فهى نوع من التأكيد على واقعية تلك الشخوص من ناحية وأهميتها الستثنائية فى حياته ،وستصبح العت ارفات أشد قسوة حين يحدثنا عن نساء ظلمهن ومنهم أخته ،وكيف يصم رحلة كفاحه بالفشل فيعترف بصدق مقول ة أم ه\" خايب بلده خايب بلد الناس\" وسوف نج د م ع اس تم ارر الق ارءة نوعا من التلخيص لتاريخ المة فهو ي دين \"رفعت السعيد\" وكل اليسار المصرى الذى تحول إلى \" حزب معفن وفيل ف ى الهض بة الوس طى وقص ر ف ى مارين ا\" وتنته ى الفتتاحي ة بش عور ف ادح بال ذنب \"ق وم ف ز اس تغفر الك ل واستسمحهم يمكن تلحق نصيب فى حزنهم ويعذروك ويسامحوك على حقهم عليك وذنبك يغفروه\" 44انظر مقال د .منى طلبة )رواية ول هم يحزنون تفضح الفساد( فى\" سمير عبد الباقى طفل السبعين فى عيون الخرين\" مجموعة من الكتاب والباحثين الهيئة العامة لقصور الثقافة 2009
21 نح ن إذن أم ام ك اتب ل يكتف ى بافتتاحي ة واح دة ،فالفتتاحي ة الول ى تقودن ا دائم ا للحظ ة آني ة تش وبها الم اررة فى معظم الحيان .وتكاد تصبح تلخيصاً للعمل قبل أن يشرع فى البداية الحقيقية للسرد. يتضح مما سبق أن الكاتب قد استثمر عتبات نصوصه للتأكيد أولً على أنه سيكتب سيرة ذاتية روائية وأن عتبات النصوص من عنوان رئيس وفرعى ،نواهداء ،وافتتاحية ،قد أسهمت فى خلق ذلك اللتباس المتعمد م ابين الرواي ة المتخيل ة والس يرة الحقيقي ة ،ه ذا م ع اس تثمار ال دللت الفرعي ة كإض اءة خافت ة عل ى نصوص ه، لتفضح عمله بقدر ماتعد القارىء وتغريه مدفوعاً بالفضول لق ارءة العمل ،كما أنه قد استثمر كلمة ظهر الغلف والص ورة ف ى خل ق دللت إض افية تس اعد الق ارىء عل ى الول وج ف ى عمل ه .وف ى الص فحات التالي ة س وف نح اول عرض المتن الحكائى للروايات الثلث حتى يتسنى للقارىء تكوين صورة مجملة عن الروايات محل الد ارسة.
22 فى البدء كانت الحجار عن عنف السلطة وعنف التجربة فى السجن تمارس السلطة أقسى درجات القمع ففي السجن »تكف السلطة أن تتخفى ،يسقط قناعها ،وتظهر كيف أنها طغيان مندفع في أشد التفاصيل تفاهة ،هي ذاتها وبكل وقاحة ،تظهر في الوقت نفسه كم هي نقية ،مبررة تماماً ،طالما أنها تستطيع صياغة نفسها كلية داخل أخلق تؤطر ممارستها ،حينئذ يظهر طغيانها وكأنه سيطرة خالصة للخير على الشر« السجن هو صورة السلطة الكثر هذياناً بتعبير ميشيل فوكو فى كتابه الم ارقبة والمعاقبة. وتجربة السجن هى الدافع الول لكتابة تلك الرواية فى أوج النظام الساداتى ،إن هذيان السلطة يقابله سمير عبد الباقى بل معقولية السرد .ففى الوقت الذى دفع فيه خمس سنوات من حياته فى السجن ،كان المتغي ارت السياسية والمجتمعية عنيفة\" :اهتز البناء اليديولوجي السائد في الستينيات نتيجة لهزيمة الصيف السابع والستين ،ومن ثم تداعي الحلم الناصري ،والذي كان يمثل منطلقا لمشروع قومي اشت اركي الملمح ،وقد تفاقم المر بحدوث هزة قيمية ومجتمعية نجمت عن ق ار ارت النفتاح القتصادي عام 1974م ،ثم انتفاضة الخبز في 18و 19يناير ،1977وصول إلى معاهدة السلم مع العدو الس ارئيلي 1979م\".45 ورغم أن سمير عبد الباقى ينتمى شعرياً لجيل الستينيات إل أنه ينتمى روائيا للسبعينيات ،ومحاولة سمير عبد الباقى مثله مثل كتاب جيل السبعينيات فى الرواية كانت تصبو لخلخلة التقاليد السردية السائدة\" ،ما جعل للمغامرة الجمالية والموضوعاتية دو اًراً مهما في تشكيل الخطاب الروائي\".46 كان سمير عبد الباقى ومازال ضد سلطة عبد الناصر ،لكنه وقتها كان ممزقا فى كتابته هل يعادى عبد الناصر ليصبح بوقا من أبواق النفتاح ،أم يهاجم السادات فيمنح صك غف ارن لعبد الناصر .الوالى أو السلطان فى الحالتين لهما أنصارهما وللسلطة دائما ذ ارعها الطويل وقبضتها الخانقة .وعلى هذا آثر أن يكتب رواية حداثية تتمرد على الشكل القديم وعلى الحبكة التقليدية ،ويوظف طاقاته الشعرية لستحضار رحلته حتى نهاية السبعينيات ،وليس ذلك مستغرباً إذ يقول كمال أبو ديب \" :تبدو الحداثة مسكونة بالسلطة ،بل إنها لتبدو مشبوحة بالسلطة ،بعنفها وتعسفها وبربريتها ،تصبح السلطة بيت الحداثة الذي فيه تنمو، وأفقها الذي تحته تتحرك وتنتفض .\"47نواذا كانت الحداثة تحتفى بتكثيف الدللة ،والتكاء على الرمز والحكاية ،وخلخلة بنية السرد ،وتشتت الصور وتجاورها دو علة سببيةواضحة ،فيمكن القول أيضاً أن هذا النص يكاد يكون نصا مابعد حداثى إذ يلجأ للعودة إلى الماضي نوالى التاريخ ،والتقطيع السردي ،والتغريب ،والعجائبي والسحري ،وتتداخل فيه الجناس الدبية والفنية ، وكلها ظواهر فنية تلتقي مع استراتيجيات ما بعد الحداثة .ذلك التجاه الذى بدأ فى الستينيات لكنه تبلور بشكل خاص فى السبعينيات ومابعدها. ورغم أننا استثنينا من دراستنا تلك الرواية إل إننا مضطرون للشارة اليها لنها هى الصور البكر لثلثية سمير عبد الباقى، اذ تتناول ثلثة محاور :الطفولة ،والسجن ،والحب .وقد عاد الكاتب بعدربع قرن لكتابة الرواية التقليدية ربما لقتناعه بأن الشكل الكلسيكى مازال قاد ار على إثارة الدهشة،رغم احتفاء الكثيرين وقتها بهذا الشكل الجديد من أجل \" :التأسيس لكتابة روائية مغايرة انظر مقدمة د .يسرى عبد ال \"جيل السبعينيات فى الرواية :إشكاليات الواقع وجماليات السرد\" \" .دار\"أو ارق\" للنشر 45 والتوزيع 46 نفسه 47 انظر كمال أبو ديب :الحداثة ،السلطة ،النص ،مجلة فصول /المجلد 16ع 2خريف ،1997
23 لكتابات الحذلقة الروائية التقليدية التى أسنت فى أقبية الممارسات المحفوظية المكرورة ،وليست محاولت الرواية المصرية الجديدة مبارحة السلوب الروائى الذى أسسه نجيب محفوظ ارجعة إلى ضيق الكتاب والق ارء بهذا السلوب فحسب ،ولكنها ناجمة بالدرجة الولى عن ت اركم التغي ارت الحضارية والتاريخية التى يستحيل معها البقاء على أسلوب تناول تلك المتغيرات على حالته التى تبلورت فى الربعينيات والتى استقى محفوظ معظمها من روايات القرن الماضى فى أوروبا\" 48ورغم اختلفنا مع ذلك المنطق الغريب فى التناول .إل أنه صحيح من ناحية محاولة كتاب السبعينيات التمرد على الشكل الكلسيكى للسرد. وقد ارتبك النقاد محاولين فهم ذلك النص الذى ليمكن فهمه كاملً ،إل من خارجه واعتبروها د ارما شعرية فى تشكيل روائى .واحتفوا بالشعر من باب الحتفاء بالشاعر ل بدوره الفاعل فى النص ،فقد اعتبر صبرى حافظ أن القصائد حمت الرواية من القتامة وأن الشعر \" لم يؤد إلى كسر فى اليقاع نوانما الى هدوء أو هبوط فى النغمة بعد الصخب المتمثل فى صدامات ال ارهن\"49 لكننا لو تجاوزنا التصنيف الجنسى واقتنعنا أنها رواية عبر نوعية تجمع بين استراتيجيات سردية تعتمد على الطاقات اليحائية للجملة الشعرية وتتكىء على رحابة صدر القصيدة فى الوصف الذى يجمع بين الشتات ،حيث يصير المكان فى النص شعريا بالساس ،يتخلق بمهارة الذاكرة ،وفى تدفق سريع يتجاوز قدرة العين الروائية على التسجيل والرصد. والنص يتجاوز السائد و المألوف ،ويتوسل بلغة تتعدد مستوياتها الدللية ،يتكىء النص فى مجمله على على الرمز والمجاز ،فقد ظهرت الرواية فى العهد الساداتى ،صحيح أن السلطان الجديد ليشبه الوالى القديم .لكن هناك محظو ارت خفية ومعلنة .مساحة الحرية لم تكن تسمح بالتصريح من ناحية ولم تكن أدوات الروائى قد اكتملت من ناحية أخرى .لهذا نعتقد أن هذه الرواية كانت تدريبا أسلوبيا لكاتب سيفصح عن نفسه فى أعمال تالية .فهذه المغامرة السلوبية التى تتماهى مابين القصيدة والحكاية ومحاولة تجريب ط ارئق أخرى فى السرد تنحو نحو قيم جمالية فى الساس ،لكنها مع ذلك تلمس تخوم الواقع ول تنكره تماما. تحاكى الرواية شكل المتتاليات الموسيقية ،وقد احتفى النقاد -فى إطار البحث عن ط ارئق جديدة فى الكتابة -بتلك الرواية وذلك لكسرها الشكل التقليدى فى السرد ،وقارنوا بينها وبين متتابعة صورة فى معرض لمورجسكى وتكريس الربيع لست ارفنسكى.50 وتوقف النقاد أمام السم فمنهم منرأى فى إشاراته التو ارتية محاولة لفهم كلمة السيد المسيح عن مريم المجدلية \" من كان منكم بل خطيئة فليرمها بحجر\" وأن أحجار الرواية هى أحجار التجربة النسانية لمواجهة عصف الطبيعة والحفاظ على كيان النسان51. البعض الخر مثل صبرى حافظ لفت نظره الحالة لكتاب نيتشه \" هكذا تكلم ز اردشت \" خاصة أن العمل يلح على فكرة الرحلة ،ويقارن الناقد بين البطل وبين ز اردشت الذى هجر وطنه وبحيرته وسار إلى الجبل حيث أقام عشر سنوات متأملً كل هذا من أجل البحث عن الحقيقة .أى أنهارحلة للمعرفة تكاد تشبه رحلة السندباد .الذى لم يخرج من داره نتيجة لفقر أو عوز مادى ولكن لستشراف أفاق جديدة تروى ظمأه للمعرفة وتهدئ من روحه القلقة. انظر \"حول رواية هكذا تكلمت الحجار :قضية السجن بين التناول الواقعى والمعالجة السطورية\" د .صبرى حافظ 48 نفسه 49 50 انظر \"هكذا تكلمت الحجار محاولة نقدية\" محمد هويدى 51 انظر \"هكذا تكلمت أحجار سمير عبد الباقى \" د.محمد حسن عبد ال
24 أسباب رحيل البطل هى تمرده على الزمان والمكان\" ذات صباح قديم سمع قبرة تقول\" لتصدق كل ماتراه عيونك أنت تتصور ان الحاضر باق إلى البد ...العالم أكثر رحابة من قريتك\" وكان البطل الممسوس بشيطان الشعر يعرف سر قوة الكلمات التى تجعله قائدا لقرانه من الطفال ،وم ارودا لجميلت القرية .يقول لوالده \"لم أعد أطيق كل هذا القدر من الدناءة ..لم أخلق لحرث الرض وشق الم اروى\" ان الرحلة تذكرنا بأبطال الحكاية الشعبية حيث يترك البطل حضن السرة ودفء البيت، ويخرج لمواجهة العالم ،ومحاربة الغول والشكيف ،وفى النهايةرغم كل صعوبات الرحلة سيعثر على أشياء عجائبية وكلمات ذات قوة سحرية ،فيقهر الوحش ويحظى يقلب ابنة السلطان ويتربع على العرش ملكا أو أمي ار .لكن الرحلة هنا ليس دافعها نقص مادى أو ضرورة للخروج بقدر ماهىرحلة نحو المعرفة ورحلة تمرد على واقع بغيض ،ليس الدافع هو ك ارهية المكان بل كراهية الظلم الواقع على أهل المكان ،فقد ظل سمير عبد الباقى وفيا لقريته يكتب \" مواويل لميت سلسيل\" ولينسى أبداً \"قبة سيدى مجاهد\" لكنه كان يبحث عن الحقيقة والعدل و يشفق على ظروف مساكين قريته ،حتى نوان أنكروه. فضاء النص ي اروح مابين القرية والسجن ،فى تلك الرواية ذات الصبغة الملحمية التى قسمها لعشر فصول كلها ذات طبيعة زمنية \" .الصباح الذى حل قبل بدء الرحيل\" \" ،المساء الذى حل بعد الرحيل\" وصول إلى \"المساء الذى قاربت فيه الرحلة على النتهاء\" .طابع الحكايا الشعبية \"صفافير البوص الملونه بدمه التى تزفه للموت ،وألف ليلة وليلة :قصص السندباد ،أدب الطفل :حديثه مع القبرة ،الحكايات الت ارثية الوالى والسلطان ،ومفردات الكتاب المقدس الذى تستدعيه علقته بحبيبته المسيحية، كل هذا يمتزج بواقع القرية والسجن .واللغة ت اروح بين مستويين ،الت ارثية \" :اضطرب الناس وذهلوا من هول الهول\" \" السلطان احتفظ بكل المي ارث لنفسه وامر الجند بغزو السواق ،وأطلق أيديهم فى أمر عوان الناس ،فأعملوا فيهم السيف ،وانتشرت الخوازيق فيما بين الرميلة والقصرين\" والعامية مثل \" خمس عيال يأكلون الزلط\" لتكن طيباً إلى هذا الحد يا كاويرك\" \"اطلع بالسجائر\" \"اليمك الساخن\" .بين الت ارث الشفاهى والكتابى من ناحية ،ومفردات الواقع الريفى والسياسى من ناحية أخرى ،يتخلق عالم شبه أسطورى عنرحلة الشاطر سمير عبد الباقى. نصوص كافكا -ألف ليلة وليلة -هكذا تكلم ز اردشت -تلعب دو ار مهما فى تشكيل البنية التحتية لعالم سمير عبد الباقى الذى يحاول فيه عرض رحلته مكثفة ،فكرة الرحلة واللحاح على مفردات الزمن :و السجن الذى يوقف مسيرة الرحلة إلى حين، فقد سجن مرتين ،هما المحورين الرئيسيين لذلك العمل ،وتقوم الجدلية بين السجن والقرية والعالم ،ذلك العالم الذى كان مصرا على تزييف مواقف البطل. ومع ذلك ل يمكن تصوير عمله كرواية كابوسية ،الرواية تتكئ على الخيالى والسطورى بجانب الواقع ،إنها تعلن عن ميلد روائى ،عن ميلد ميلد رواية ،على القل بالشكل التقليدى\" .لقد اعتبر البعض أنه فشل فى \"عمل فنى متماسك \" .وأن الشخصيات غارقة فى التجريد والتعميم .لكن لو قرأنا الثلثية قبل الولوج إليها سنجد أنفسنا أمام رواية قصيدة ،وبعد أن نفسر الكثير من شف ارتها الدللية سوف نرى أن الخطوط الرئيسية للرحلة حاضرة فى نصه القصير\" ،مديحة\" التائهة فى حشد من الصبايا الفقي ارت اللتى ي ارودهن بالكلمات السحرية والفول السودانى والعطر الرخيص .البطل الذى كاد أن يكون نبيا فهو الذى طالما رق قلبه لفقراء قريته ووقف بجانبهم من أجل تغيير مجلس إدارة الجمعية الز ارعية ويعيد لهم خبز ولبن المعونة ،يكفرونه بعد سجنه ويسمعون لقول الوالى فيتهمونه مثلما اتهم الشيوعيون بالكفر وأنه \" كان يعاشر أخته فى الح ارم\" وبكل الكاذيب. والمدينة الغريبة عالية السوار التى وصلها هى السجن ،وديكور هذا العمل ليس سجن المنصورة لكنه سجن المحاريق وسجن الواحات حيث \"الكثبان الرملية والنخلت القزمية\" .يسرح مع البطل النجوم فتتجسد له جوزفين ،المسيحية التى أقامت
25 علقة نصف مكتملة معه \" تنام على صدره فوق السرير الفقير ،ثم هجرته \" مضت خلف حلمها القديم بالثوب البيض والت ارتيل المقدسة .ولن يفهم القارىء دللة كونها مسيحية قى النص إل على سبيل المجاز واستثمار حكاية المجدلية والرموز المسيحية شعرية الدللت مثل الصليب ،وصعود الجبل..إلخ ،وسيعتبر ذلك مقارنة بين الشاعر والمسيح ،لكن النص يتكىء على واقع. فى النص تحمل الشياء دللت مغايرة للواقع أرحب بالتأكيد لكنها ملغزة فلن يفهم القارئ جملة مثل \" وأمى لن تشرب من كفيك الماء\" وأن جبل لبنان إشارة لزواج جوزفين من مارونى ،وأن الرحلة للجبل لم تكن آمنة إذ انتقم منها الرب ،إل مع \"موال الصبا فى المشيب\" تبدو تجربة السجن هنا أشد قسوة ،فالحديث عن التعذيب النفسى والبدنى الذى تعرض له مثل \":لم يعد سمع من مكمنه سوى صوت طحن ضلوع بشرية ،وانسحاق عظام أثرية ،ونشيش شواء لحم حى \" وكذلك عنف الحراس معه \"السياط السودانية المعقودة فى الزيت ،وخير ازنات الجنود\" هذا غير مفردات أخرى غ ارئبية مثل ،و هجوم الحش ارت ،وضحكات أطفال تكشف عن أسنان سودها الدخان الرخيص ،وعيونهم تنزف سائل لزجا كعيون مدمنى المخد ارت ،والحارس الذى يتسلى بأكل فخذ إنسان ،كل هذا لم يتعرض له البطل فى ثلثيته .لكنها فى نصه تزيد من قتامة المناخ العام للعمل. فى هذا النص يستحضر مشهد خلع ملبسه الذى سيبدأ به \"زمن الزنازين\" ،لكن هنا يصبح الب حاضراً وشاهدا على استقبال العساكر \"لضناه\" وتعريته وحلق شعره نواجباره على ارتداء خرقة بالية قذرة .وكما فى \"الزنازين\"سوف يتهم الب ابنه بالجحود وعدم مراعاة مصلحة السرة ،وتدمير سمعة أخواته البنات ،ويعايره الب بتضحياته التى لم يقدرها. والب هنا رمز لكل الفلحين فهو ليس المدرس عبد الباقى أفندى بل فلح\" يعمل فى الحقل\" ويصدق كلم السلطة، فيردد \" الوالى أطيب خلق ال\" ومشهد تذكر الب لبنه بعد سجنه سيرد فى رواية \"ول هم يحزنون\" عند خروجه من داره .يتذكر هنا وهو يصعد سلم البيت \" أن ابنه كان يهوى عد الدرجات\" فيعدها هو الخر اك ارما لذكراه ،فيلقى ب أرسه على صدر زوجته منتحباً كطفل صغير. وسنجد وصفا لول ليلة فى السجن ،واستقبال المساجين الكابوسى له حسبما يفعل المساجين ،وتك ار ار لكلم السجانة ومنطقهم ،وحكاياتهم ،فالبرص\" معذور! مرتبه ضئيل جدا بينما هو يعول أمه المشلولة وجدته الخرساء وخمس عيال يأكلون الزلط وزوج ،وهو لو صرف قرشا من مرتبه على السجائر ستزنى أم عياله من أجل خبز الطفال\". فى الرواية يتابع القارىء تشكل مشاهد شعرية ل روائية ،ففى القصيدة يمكن تقبل التناقضات كصورة شعرية لكنها تفشل فى تشكيل مشهد روائي ،النتقالت المفاجئة والمجا ازت التى تتجاوز قدرة الفن الروائى -إذ حذف الكاتب كاف التشبيه -تصبح غير مقبولة فى هذا السياق ،وفى روايات الل معقول تكون الصور التى تكسر أفق توقع القارىء مفاجئة وغير مبررة ،ويغيب منطق النص الداخلى فى تبرير أو فهم الصور ،لكنها لتأتى بهذا القدر من اللهاث والس ارف والتشتت ..فعندما يتحدث عن جوزفين يقول : فى مساء اليوم الذى قابلته فيه لول مرة حملته كالمريمات إلى بيتها ،وتعمدت أن يشاهد كل الناس فرحتها الولى، وحين ت ازحمت حوله الست ارت السوداء والصف ارء ،ابتسمت له ومضت أمام الموكب تبشر بقيامه وصعوده ،أجلسته فوق سرير عشقها القديم وأشعلت له غليون والدها ،وغسلت قدميه بزيت الورد ،وأحضرت له سمكا وزيتونا وأطعمته بيدها...وعندما تصلب جسدها وبرد جسدها حتى الموت انحنى عليها ورسم علمة الصليب وغنى لها أغنية تدشين البيت المزمور ...وسقط
26 على وجهه يصلى للههم ،لكنهم أنكروه وعلقوا دمها فى رقبته ،وليس إلى جواره سواها رقيقة وذابلة كزهرة تفاح ميتة ، تحاول بكل مابقى لديها من قوة أن تبعد العجلت المسرعة وسنابك الخيل العثمانيين الل مبالية والج ارئد القديمة\" إن سرعة النص اللهثة ،ناهيك عن كثافة الصور واكتناز الدللت تجعلنا نقتنع بل معقولية المكان و ل معقولية الزمان و ل معقولية الشخصيات كسمة للرواية ،ولكن يظل إطارها العام هورحلة السجن والحب بعيداً عن ميت سلسيل .انها إعادة تشكيل الواقع بصورة أكثر هذيانا من مفرداته نفسها حيث أن \"تعريفات اللمعقول اللغوية و الفلسفية تبلغ به محل صفة هيئة أو حدث غامض مستغلق على معناه ،يكتنفه الوهم من كل جهاته فل يترتب عنه غرضه أبدا ،كما ل يستطيع العقل تبريره أو البرهنة عليه ،لنه خارج ثنائية الصدق و الكذب و الفطرة السليمة...إن جانب المتخيل فيه يغترف واقع الشياء و الكائنات و يعيد تشكيل هيئاتها ،و من ثمة يصير باحثا على الحيرة و التردد و الضط ارب\"52 لقد حاول مسير عبد الباقى تكثيف وترميز رحلته فى رواية قصيرة ،لكنها لم ترو غليله أو رغبته فى الحكى،واكتشف أن الرحلة أكثر ثراء من أن تختزل ،فعاود كتابة تلك المئة صفحة فى ألف صفحة كاملة ،وهى تقريبا حجم ثلثيته ...أخيرا نكرر أن النص لن يسلم نفسه للقارئ إل لو قرأ الثلثية ،ولكن يبقى السؤال هل يستطيع بعد وجبته الدسمة فى الثلثية تقبل أحجار سمير عبد الباقى؟ 52عبد الدائم السلمي منطق اللمعقول في الرواية العربية الحديثة..رواية الدارويش نموذجا ص .38
27 المتن الحكائى: سيرة قرية في رواية \"ول هم يحزنون\" فى أول أج ازء ثلثيته الروائي ة/السيرية يقدم لنا سمير عبد الباقى صورة غيرية ،وليست ذاتيه بحكم أن تلك النا جزء ل يتج أز من الوطن فل يمكن الفصل أبدا بين الذات والموضوع ،وتستمر أحداثها لثلثة أيام منذ لحظة موت الشيخ مقبل حتى مشهد جنازته :منذ فجر الربعاء وفاته حتى جمعة الدفن .. تض م الرواي ةثلث ة أح داث هام ة :م وت الش يخ مقب ل أمي ن ع ام الل تح اد الق ومي وه و ش يخ القري ة والمتحكم فيها سياسياًاً،وكان رجلً لً مهابا يخشاه الناس ويعملون له ألف حساب ،والثانى جهود زوجة مقبل فى جعل الجنازة موكبا مهيبا ومحاولة العثور على ورقة زواج الرجل من خادمته الفقيرة المسكينة \"فرج ال\" ،يتوازى ذلك مع مساعى نوال أخت سالم المناضل الشيوعى السجين فى أن تحظي بزيارة له في السجن. وينتهى النص بأن تنجح نوال فى رؤية شقيقها سالم من شباك السجن عن طريق زوجة المعلم \"النص\" أحد المسجونين رغم العوائق التى يضعها القائمون على السجن وأقارب الشيخ مقبل فى طريقها .وفى نفس الوقت تتح ول في ه الجن ازة لفض يحة مدوي ة ،حي ث تخ رج ف رج ال عاري ة تزغ رد وت دق ص ينية الطع ام ك دف ،وه ى تغن ى \"اتمخطرى ياحلوة يازينة\" وتتكفل أشباحها بفرط عقد الجنازة نواهانة رموز النظام بعد اشباعهم رفساً وتنكيل . وف ى ه ذا العم ل يص بح العن وان الفرع ى ش ديد الدلل ة ،فلوله لظنن ا أنن ا أم ام سيرة قري ة لكنن ا حي ن نق أر نكتش ف أن س الم ه و نفس ه س مير عب د الب اقى ،وتق ترب الرواي ة ك ثي اًر م ن الس يرة الذاتي ة بس بب إش ا ارت الك اتب المقصودة ،وهى إشا ارت ستتضح دللتها فى العمليين التاليين .لكن اختلفها عن عمليه التاليين تجلى فى كون الشخصيات جاءت متطورة ،كما أن استخدام ضمير الغائب سمح لذلك ال اروى العليم\" بتعرية الواقع والولوج فى نفسيات أبطاله :نوال والشيخ مقبل وفرج ال والشنقيط ...من ناحية أخرى جاء وصف الشخصيات مختلفاًاً لنها لم تقدم ككتلة واحدة تظهر وتختفى مثل الشهب على الشريط السردى ،ولكن مارس الكاتب نوعاً من التدرج فى الكشف حيث يتوزع رسم الشخصية على امتداد العمل . رحلة نوال هى رحلة قلما نجدها فى أدبناالعربى فالل م المكلومة أو الم أرة العاشقة سواء كانت زوجة أو حبيبة ،هى عادة من تستأثر بدور البطولة فى البحث عن الرجل :الحبيب /الزوج /البن الغائب .لكن نوال هى أول شخصية روائية تخرج للبحث عن أخيها ،وتلك صورة لها ظلل قوية فى الحكايات الشعبية ،عن تلك الم أرة التى ضحت بالبن والزوج إذ يمكنها تعويضهما واختارت حياة أخيها. وعكس إ اردة والد البطل سالم الضعيف المرتبك ،ورغم معارضة السلطة بمستوييها البوليسى ممثلًلً فى مج دى اب ن الش يخ مقب ل ،وع اطف ض ابط نقط ة القري ة ،والجتم اعى ممثلًلً ف ى بس طاء القري ة ال ذين ي رون ف ى زيارتها لخيها جريمة بحكم أن البواق العلمية تصور الشيوعيين على أنهم كفرة زنادقة يمارسون زنى المحارم. يرصد لنا الكاتب رحلة نوال من القرية للمدينة \"المنصورة\" فى أواخر الخمسينيات حيث السجن ومبنى النيابة والماكن الشعبية مثل \"عزبة عقل\" و \"الشيخ حسنين\" ،ويحدثنا عن الوجوه التى تقابلها ،وهى خليط من
28 ح ارس ،وس جانين أجلف ،أو م وظفى نياب ة مرتش ين ومهمش ين م ن ق اع المجتم ع ،ليس وا ملئك ة لك ن لتخل و مواقفهم من شهامة حتى تنجح نوال أخي ار فى مقابلة أخيها السجين. هناك خط مواٍزٍز لهذه الرحلة وهو وفاة الشيخ مقبل حيث ،تفشل كل الترتيبات فى الحصول على جنازة لئقة بالرجل رغم كل تضحيات زوجته وجهود الشنقيط ساعدها اليمن فى تحقيق مهمتها .يعرى الكاتب مجتمع القرية بفساده وشخوصه المقهورين وفق ارئه المساكين وكذلك المستغلين .البطل سالم هو الغائب الحاضر فأعماله وماعلمه نوال وشباب القرية ومطالبته بحقوقهم تجعله صوتا روائياًاً هاماًاً رغم أن ظهوره فى الرواية كان قليلًلً نسبياً. ومهما كانت أسباب الكاتب او ادعاؤه الكتابة متحر ار من كل شكل أو قيد روائى ،إل أننا نعتقد المقدمة التى أسماها فذلكة قد أضرت بالعمل وجاءت خارج السياق .الرواية تبدأ فعليا مع وفاة الشيخ مقبل ،صحيح أن المقدمة تكاد تكون مدخلًلً ودافعا للكتابة لكنها تصدر عن ذات أخرى ،ذات عجوز مثقفة تدور حول نفسها بحثاًاً عن حجة للكتابة .تلك الفذلكة كان يمكن أن تقف حائل بين المتلقى والنص ،لكن حين يشتبك القارىء مع النص فإنها -لحسن الحظ -تت ارجع فلتصمدول ترسخ فى الذاكرة .إن ميكانيزمات الذاكرة تطردها لتفسح المجال أمام كتابة جميلة ارئقة هى سيرة القرية ،والقارىء من الذكاء ليعرف أن سالم هو قناع روائى لسمير عبد الباقى. نحن إذن أمام ثلث سير: سيرة الكاتب العجوز \"فذلكة\" سيرة شباب سمير عبد الباقى المقطوعة فى الصفحة الولى. سيرة سالم بطل العمل والخيرة هى السيرة التى تستحق الق ارءة .ربما يعيدنا ذلك لفكرة أن رغبة الكاتب رغم محاولته تحرى الصدق ،قد ت ارجع عن ذكر السماء الحقيقية حتى ليسبب اح ارجا لشخوص لعلها ما ازلت على قيد الحياة ،وربما رحلت عنها ف آثر أل يهت ك س ترها .كم ا أن ه ق د ص رح لن ا أن ه ليكت ب مخطط ات روائي ة مس بقة ،والح ق أن كتاب ة مخط ط أو تصور ما لرواية ،ليس هو التكنيك أو الروتين الذى يتبعه كل الكتاب ،ومع ذلك نرى أن حذف اسم سمير عبد الباقى -مجرد السم -منالصفحة الل ولى لم يكن ليكلف شيئاًاً .
29 زمن الزنازين لسمير عبد الباقى و البحث عن الذات فَرت الدموع -أو كادت -من عيني الشاويش س َجان )حسن عطية( .لمحته يغالبها ،احم ارر عينيه فضحه ،وهو يحاول التظاهر باستعمال القسوة معي ؛ ل َما الضابط )عبد العظيم الريدي( وكيل السجن شخط فيه وف َي وهو ينتزع علبة السجاير )الهليود( اليتيمة من قبضة يدي الميتة عليها .كانت العلبة الخيرة والوحيدة التي نجت من جيش المخبرين وعساكر الترحيلة في نهاية رحلتي من مبنى المباحث ومكاتب النيابة حتى السجن .كان الشاويش الطيب قد تركها لي حتى خرج الضابط من حجرته ،وبل رحمة هرسها -غاضًبا -بجزمته .. عاود الشاويش تفتيشي بدقَة -منفعلً -كمن طضبط متلسب ًسا بالرحمة ،وأنا بين يديه أل ُف كالفرخة الدايخة ،أرتعش من البرد ،عريان إل من الفانلة واللباس البفتة ؛ في ملقف بوابة سجن المنصورة الحتياطي. فعلي ا يش كل ه ذا المقط ع الس تهلل الروائ ي الح دثي \"ب ؤرة الرواي ة/الس يرة\" وتمفص لها الساس ي ؛ لن ه يك اد يلخ ص ك ل الح داث ال تي وقع ت وال تي س تقع داخ ل العم ل ،فالعم ل يتح دث ع ن تجرب ة الس جن لش اب ج امعى يس ارى الفك ار ،تتلقف ه ي د الس لطة الخانق ة الغليظ ة ،ولك ن ه ذا ليمن ع م ن وج ود وج وه انس انية سيس جل مواقفه ا خلل تجربته .المشكلة أن جزءا كبياًر من أزمته هو أن \"الرفيق\" لم يتلق تدريبا كافيا على مواجهة السجن رغم أنه مصير متوقع لمن يمارس عملً معادياً للسلطة فلم يكن يدرى كيف يتعامل معه. وبع د ذل ك يلتج ئ الك اتب إل ى تمطي ط ه ذا الس تهلل وتوس يعه وت بئيره س ردا وتحبيك ا وتش ويقا ع بر مس ار المبنى الحكائي .لقد اختار الكاتب الحديث عن ثلثين شه ار قضاها فى سجن المنصورة .لكن هذه الفترة يقطعها ترحيله الى القاهرة وحبسه أيضا فى قسم عابدين. طبيعى أن تكون الرواية/السيرة رواية مكان بالساس ،لكن المكان فى هذا العمل ليس استاتيكيا أى أن فضاء النص ليس هو مجرد مكان السجن بجد ارنه وزنازينه ،على العكس هناك حركة لتهدأ ،ل تكتفى بالسجن بل هى حركة ارتدادية ،إذ يحدث ديالكتيك مستمر بين الداخل والخارج ،على هذا لتصبح تجربة السجن مجرد وصف للعنابر والسجانة والزن ازنة والتعذيب ،ولكن العمل يقدم شخصية متنامية أبرزها شخصية البطل التى نع رف حياته وكفاحه الوطنى قبل السجن ونرى بعيونه الحياة خارج السجن فى مدينة المنصورة وقرية ميت سلسيل .وهذا نوان ب دا حيل ة فني ة لس بر أغوار الن ا التى تعام ل معه ا عل ى أنه ا شخص ية روائي ة .إل إنه ا تمث ل نوع ا م ن فع ل الهروب والمقاومة والتمرد على الواقع ،فروحه حرة تغادر الداخل المقيت ،الضيق ،المغلق ،نحو الخارج الرحب، الفسيح ،الذى يتنفس بالحرية .يؤرخ سمير عبد الباقى للمنصورة كما فعل من قبل فؤاد حجازى فى ثلثية السيرة الذاتية \" أو ارق ادبية\" \"م الدار للنار\" \"قرون الخروب\" ورفعت السعيد فى \"مجرد ذكريات\" فقد قدم كلهما وثائق هام ة ع ن تاري خ المنصورة بمكتباته ا وسينماتها ومس ارحها وحدائقها وشوارعها القديم ة التى اختف ت من الوجود، لكنها لتزال حاضرة فى كتابات مبدعيها ،وأضاف لها الكاتب جزئية جديدة ومختلفة :سجن المنصورة.
30 ويقدم لنا الكاتب يجانب الرغو التقليدى الخاص بالسجن والمساجين نماذج بشرية لشخصيات عديدة ،و الغريب أن الكاتب يشفق على جلديه ،وكأنه مسيح جديد يصرخ أا كحُبوا أا ،عادا اء طك ،م ،أا ،ح كسطنوا إكلا ى طم،بكغ كض ي طك ،م ،اب اكرطكوا لا كعكني طك ،م ،او اصلُوا لا ،جكل الَكذي ان يط كسيطئو ان إكلا،ي طك ،م .فهو يشفق على السجانة كما يشفق على المساجين غي ر السياسيين، وي رى الجريم ة نوع ا م ن الحتج اج عل ى قس وة وظل م سياس ى ومجتمع ى .يتح دث ع ن ظروفه م النس انية الخانق ة خ ارج الس جن وداخل ه ،ب ل يمك ن الق ول إن ال ق د أحس ن بالمس اجين حي ن دخ ل الش يوعيون المعتقلت ،فالبط ل يحاول تعليم السجانة ل مبادىء الق ارءة والحساب بل بعض المبادىء النسانية ،ويقوده ذلك نحو اكتشاف غريب \"كي ف يصبح الجلد أك ثر خوف اًاً م ن الض حية وكي ف ت ثير الض حية المس جونة المعذب ة رعب ه المتواص ل .وأحيان ا يح اول البط ل مس اعدتهم ف ى اكتش اف الع الم وخلخل ة فكرته م ال ازئف ة عن ه ،واس تعادة وعيه م ال ذى غيبت ه الس لطة. فالشيوعيون وطنيون وليسوا خونة أو كفا اًراً. والكاتب يرصد نماذج انسانية مختلفة تتسم رغم جرمها بنوع من النبل ،فهناك الفلح الشاب الذى يتن ازل له عن الحذاء الوحيد الذى يمتلكه .وهناك شخصيات كانت الجريمة عندها وسيلة ل غاية لرفض القمع والظلم، وشخصيات أخرى مثل المعلم كرم الحشاش الذى يجادله البطل بالتى هى أحسن فيغير من وعيه ،لدرجة أن يقسم أل يأكل وحوله جوعان ويرسل له زوجته بزيارة \"معتبرة\" .هذا غير شخصيات لتخلو من خفة الدم .وتؤكد على التواصل النسانى مع الخر سواء المختلف عنه فى العقيدة مثل الضابط المسيحى \"ميخائيل\" أو فى اليدولوجيا مثل الخ \"كمال\" المعتقلاللخوانى. وهناك ثلث شخصيات متطورة :شخصية الريدى مأمور السجن ،الذى كان لحسن حظ البطل\" تلميًذا بمدرسة جديدة ستحتل مكان مدرسة البطش الف ج المباش ر ال تي ك انت تم ارس الحك م ف ي نف س الف ترة ف ي أب و زعبل و الواحات\" حيث يقدمها الكاتب بحيادية فليس كل مسئول عن سجن أو صاحب سلطة هو مختل وظالم ومريض نفسيا ،يقدم لنا الكاتب رجلً اتبع اسلوباًاً حازماًاً فى ادارة السجن ،أسلوب لم يخل من انسانية وذك اء مستغلًلً روح القانون ،لنه يعرف أن تصرفاته هو الخر مراقبة. الشخص ية الثاني ة وه ى شخص ية د ارمي ة بامتي از شخصية الرس ام عزي ز وه ى شخص ية متطورة ب ل تل ح وحدها كرواية كاملة منفصلة .وكان الكاتب جريئا فى عرضها ،هو المسلم ،فما ارتكبه المسلمون ضد عزيز شىء بشع بكل تأكيد ،وليس فى تصرفاتهم علقة بالسلم .ذلك الفنان الجميل الذى جنت عليه قصة حب ،وهى واح دة م ن أع ذب قص ص الح ب وأعنفه ا ف ى الدب العرب ى ،ول يع انى عزي ز فق ط م ن حب ه المس تحيل والس جن والتع ذيب والض طهاد لكن ه يص بح فريس ة للس جانة والمس اجين ،فيري دون انته اكه جنس يا ،وق د ح دث ذل ك ف دمر نفسيته ،وعندما كاد أن يشفى من تلك الج ارح النفسية عمقتها محاولة اعتداء جديدة ،ويموت عزيز منتح اًر وقد وصمنا جميعا. أما الشخصية الخيرة فهى شخصية \"أبو العينين\" ذلك المحتال الذكى المثقف ،الحكاء الذى ليجاريه أح د ف ى حكاي اته ع ن الخي ر والش ر ،ال ذى يجي د ق اموس المثقفي ن والمنحرفي ن والش عبيين ،ويع رف كي ف يص ادق الحرس والمساجين مستغل مكره وحصافته فى التقرب من الجميع ،ويشارك مع البطل فى محاولة تطوير السجن وتنظيم نشاط إنسانى أو رياضى .أبو العينين هو المؤهل لسبر أغوار شخصية عزيز وكشف السر الذى ج اء ب ه إلى السجن ودمر حياته ،يستطيع أبو العينين أن يكتسب ثقة عزيز فيبوح له بما لم يحدث به أحد ،لكن الول
31 يس تغل ذل ك ف ى محاول ة إقام ة علق ة ش اذة م ع عزي ز مس تغل ض عفه وهشاش ته ،فيك اد يك ون ه و ال ذى ج دل النشوطة التى يتخلص بها عزيز من عاره وفضيحته. أما حديث الكاتب عن أسرته فلم يلجأ فيه لت ارجيديا الموقف ،ورغم خطاب الب المؤثر الذى يتهم فيه البطل بتسببه بقتل أخيه الرضيع وارتكاب الكبائر وتلويث سمعة العائلة ،لم يفرد الكاتب له مساحة كبيرة ولم يسقط فى ش ارك رومانسية شجنية أو شروحات تبريرية ،والموقفالثانى لللب حين رفض ابنه التوقيع على إق ارر بعدم ممارسة السياسة يأتى عرضاًاً ،دون أن يسوق مناظ ارت بين الب المكلوم والبن الذى سيتقمص شخص ية الش هيد أو على القل القديس. وبصفة عامة لم يلجأ الك اتب لستجداء القارىء ،وادع اء بطولت ازئفة ،فلنجد مشاهد تع ذيب عنيفة تشبه من قريب أو بعيد ما تعرض له الرفاق فى السجن الحربى أو أبى زعبل .يعترف أيضا أن استخدامه العنف م رة ض د أح د المس اجين غي ر السياس يين ك ان تص رفاً همجي اً ،يعت ذر عن ه ل عل ى مس توى الن ص فق ط ب ل عل ى مستوى الواقع .هناك إلحاح وتأكيد أن البطولة كانت لخرين ل يذكرهم تاريخ الحركة الوطنية مثل العامل البسيط \"نجاتى عبد المجيد\" وكذلك لشهداء اليسار المصرى مثل الشهيد \"شهدى عطية الشافعى\" .ورغم اغ ارء السرد ورغ م أن القصة قد تم المبالغة فى تأويلها إل أن الكاتب يحاول قدر المكان الت ازم الصدق ،فواقعة اسقاطه كاب أحد ل واءات الداخلي ة ال تى \"طارت على أجنح ة الخي ال الش عبى لتص بح ف ى مي ت سلس يل قص ة ت روى ع ن اب ن عب د الباقى وكيف مرمط باللواء الرض\" رواها كما حدثت دون ادعاء للبطولة. ومع تطور النص وتقدم الشريط السردى للمام ،تتبلور فى الذهن فكرة غريبة ،لكنها حقيقية بكل أسف، كيف يمكن لنسان أن يألف السجن ،فيكاد البطل يبكى عندما يفكر أنه سيغادره .إن فكرة تحطيم ا اردة النسان الح رة واس تم ارءه للحب س ش ىء بش ع بك ل تأكي د .ه ل نعزوه ا لللف ة م ع المك ان الخ انق الق ابض عل ى غ ارر ق ول الشاعر \"وقد يؤلف الشىء الذى ليس بالحسن\"؟ أم أن البطل قد أثر فى المكان وأضفى عليه نوعا من الجمال النسانى فارتبط به ،ناهيك عن ارتباط المصرى بمن يقاسمه الخبز والملح .أم هو الخوف من مواجهة الحرية مرة أخرى ،صحيح أن تجربة السجن تمنحه الصلبة فيحاول تجميل ذلك الواقع بتحسين الطعام ،بالق ارءة ،بممارسة الرياضة بعمل معارض فنية .لكن يتبنى النصتأويلً لً آخر وهو أن السجن كان مجتمعا ضيقا ،لم تستطع اللة العلمية أن تؤثر فيه ،فجاء البطل وكأنه أحد المبشرين بانتصار البروليتاريا القادم ،ووجد فى السجن ضالته واكتسب أتباعا جدد ،فعالم السجن لم يكن به مستفيدون من السلطة بل ضحاياها الذين أمسوا أطوع من غيرهم فى التأثير عليهم. ويمثل جسد الم أرة واحة أخرى للهروب من الجو القابض للسجن حيث يتذكر علقاته النسائية ،والحق أنه ا علق ات بريئ ة ف ى معظمه ا ،ل م تتع د لمسة ي د أو قبل ة ف ى الحل م ،وأحيان اًاً يتح رج م ن ذك ر التفاصيل مثلم ا حدث فى تناوله للعلقة مع ابنة خالته .وعلى عكس مذك ارت وكتابات السجون نجد أن الرواية/السيرة تفسح مكانا للم أرة وللعلق ات الرومانس ية خ ارج الس جن ،وقلم ا نج د ذل ك ف ى العم ال ال تى تح دثت ع ن تجرب ة الس جن .ولن العالم كوميديا لمن يفكرون ومأساة لمن يشعرون .لم يكن السجن حدثاَاَ مأسوياًاً دائماً . اللفت للنظر أنه الكاتب لم يحدثنا كيف أثرت فترة السجن على نتاجه الشعرى ،فلم يخبرنا ببيت واحد من الشعر كتبه فى السجن ،وكيف قاوم السجن بالفن وهو أحد آليات المقاومة .لم يق أر قصيدة واحدة من شعره أو
32 من شعر غيره على الزملء .لكنه رغم ذلك كان حريصاً على تسجيل عدد من الحكايات الشعبية التى سمعها م ن المساجين. والفص ول متف اوته ف ى طوله ا النس بى ،ولكنه ا أحيان ا تغ رق ف ى التفاص يل لدرج ة اع ت ارف الك اتب نفس ه بذلك على لسان أحد الكوادر الحزبية ،فيقول وكأنه لسان حال القارىء \"أعفنا من حبل التفاصيل\" .هناك أج ازء يمك ن اختص ارها إذ م الت للط ابع المق الى مث ل ح ديثه ع ن الش اعر والق انونى الفرنس ى لبويس يه La Boétie ومقاله عن العبودية المختارة Discours de la servitude volontaireلقدزعموا أن لبويسيه قد كتب هذا المقال فى سن الثامنة عشر ،والصحيح أنه كان فى الثانية والعشرين من عمره إبان د ارسته فى الجامعة ،وهو سن قري ب من سن الكاتب فى مرحلة السجن ،وصحيح أن معدة الكاتب الفكرية قد شكلها بك ل تأكي د كتابات كثيرة ومتنوعة ،إل أنه حين ق أر القرآن والل نجيل وكتابات سيد قطب ،لم يحدثنا عن الدياليكتيك الذى حدث بينه وبين النص وص ،أس وة بم ا ح دث م ع نصلبويسيه ،فأفك ار الخي ر والع دل ه ى أس اس الكتاب ات المقدس ة ،ك ان يمك ن لتفاعله مع تلك الق ارءات اث ارء النص ،وحينها يصبح الحديث عن العدل الجتماعى ذا مرجعية دينية تمنح قض يته مصداقية أكثر لدى قطاع عريض من الق ارء. وهن اك تركي ز عل ى المش ترك النس انى ،يتجل ى ذل ك ف ى علقت ه بشخص ية كم ال الخ وانى ال ذى يمث ل النقيض اليمينى حيث كان الحوار فى معظمه عن نقاط التفاق ل الختلف ،واعت ارف الكاتب رغم ذلك بوجود بمناطق محظورة كانا يحجمان عنها. المكان الخانق مكان السجن والعزلة يجعله يفر إلى مكان آخر باستخدام تقنية الحلم ،أو استدعاء أحلم اليقظة والفلش باك فيخرج إلى البحر ،وغيطان قريته .والزمان فى حالة سيولة حيث يقوم الفلش باك والتداعى الحر والمونولوج الداخلى معظم الوقت باستدعاء زمن آخر مستعاد هو زمن الحرية ،زمن الحب ،زمن الب ارءة ،ول تحدث الستباقات إل ناد اًراً فى محاولة لتقريب السيرة من الرواية )التقليدية على القل( .وينهى الكاتب نصه بوعد بالعودة للحديث عن سجون أخرى مثل )الواحات( و)عَزب الفيوم( و)مزرعة طرة( و)الستئناف( لكن ذلك لم يحدث.
33 جدلية النا والذات فى موال الصبا فى المشيب ف ى روايت ه الس يرة الخي رة موال الصبا ف ى المش يب يع ود س مير عب د الب اقى ل ذكريات طف ولته ،والعن وان الفرعى رواية قد تكتمل غدا ليوحى بانتظار جزء آخر بقدر مايوحى بإحساس الكاتب باقت ارب الجل \" .موال الصبا فى المشيب\" هى ثالثة الثافى ،بها يكتمل الثالوث وبها أيضا يمكن فهم عمليه السابقين والربط بينهما. وعكس ال ارويتين السابقتين يظهر سمير عبد الباقى بصورته على الغلف ،فى إشارة أن هذا العمل أق رب للس يرة التقليدي ة حي ث يس رد علين ا س يرة حي اته م ن المنب ع ح تى المص ب ،م ن لحظ ة الميلد ح تى اللحظ ة ال ارهنة ،أقصد لحظة التلقى .أى أنه أقرب نصوصه للسيرة الذاتية الصريحة التى تتمرد كثي ار على الشكل التقلي دى وتروى حياة الكاتب بنفس السمات السلوبية . ولكن يتوق ف النص أكثر م ن مرة متوسلً بأسلوب التداعى الحر أو المونولوج الداخلى ويظل هن اك نفس اللحاح على تفسير علقات بعينه ا .وفى رحلة البحث عن الذات تبدو الم ارجعات أكثر وأطول ،كما أن المس احة الزمني ة الممت دة جعل ت الشخص يات غي ر فاعل ة روائي اً ،ولكنه ا ك انت مج رد علم ات ف ى طري ق البط ل وتكتسب أهميتها من سياق عام أكبر .الوقفات المستمرة التى تصور مشكلة الكاتب فى الستم ارر فى الكتابة، بسبب الي أس والواق ع المحب ط ،والحديث عن الذات الخ رى التى تتجل ى فيه ا فك رة \"الك ا و \"الب ا\" ل دى المص ريين القدامى ،جاءت كلها لتؤكد على الطابع التأملى لتلك السيرة. الفصل الول \"ولكن أنفسهم\" يظلمون\" هو بمثابة اعتذار من الك اتب لشخصيات يعرفه ا من الطفولة، ورغم اعت ارفه بارتكاب سرقات طفولية صغيرة إل إنه ل يثقل قلبه سوى تلك الفكار السياسية التى بشر وأقنع به ا البسطاء وأولهم أخته ،ومع اقت ارب الجل ،وتغير الواقع الذى جعل من ثوار المس أسما ًء ًء فى كشوف العملء، وبعد أن باع الكثيرون مبادئهم للحصول على نصيب من الكعكة أو منحة تفرغ ،يصبح نشره تلك الفكار أشد الخيان ات ال تى ارتكبه ا ض دهم ،ل ول أنن ا لنص دقهولنعد ذل ك اعت ارف ا بق در م اهو ن وع م ن الس خرية المري رة ال تى تميزت بها كتابات سمير عبد الباقى. يتناول سمير عبد الباقى الكثير من م ارحل طفولته حيث يحدثنا عن قرية \"ميت سلسيل\" ،المكان الذى شهد م ارتع طفولته وعن اصدقاء الطفولة وع الم المدرسة .النص يرص د أيض ا تلك التحولت التى شهدها ريف مصر ماقبل ثورة يوليو ،وص ارعات سياسية مثل أفول أو صعود حزب الوفد وقضايا النتخابات وتاريخ الخوان المسلمين وممارساتهم فى الريف. يحدثنا أيضا عن الق ارءات التى أثرت فى وجدانه ولعل أهمها كتاب \"المعذبون فى الرض \" الذى أثر على مستقبله وجعله ينحاز للفق ارء والفلحين والعمال والمهمشين وكون وعيه اليسارى بكفاح الطبقة العاملة. يتناول سمير عبد الباقى أيضا علقته المركبة بأبيه ذلك المدرس البسيط الذى بذل جهد النبياء هو وأم ه ف ى تعلي م أولده والحف اظ عل ى مكان ة اجتماعي ة مناس بة رغ م ارتب ه المتواض ع ،وص حيح أن الب ه و رم ز للبطريركية لكن سمير عبد الباقى فى م ارجعاته الخيره يكتشف كيف أحبه ذلك الرجل ،فرغم أنه لم يقبله يوماً
34 ولم يقل له كلمة حب واحده ،لكنه كان دائماً مهموماً بالسرة ،وما جهوده من أجل تطوير وتعديل البيت إل خير دليل على سعيه المتواصل فى الحياة ،ذلك الب الذى فقد اثنين من أبنائه ،كان طبيعياً أن يفرض سياجاً قوياً من الحماية البوية على ولده لدرجة أنه كان يوقع اسمه بالقلم الكوبيا على فخذه ليعلم هل نزل مياه الترعة أم ل، وكل هذا خوفا عليه من الغرق أول والصابة بالبلهارسيا ثانيا ،وتتجلى المشاعر الحقيقية للب عندما ظن أن ابنه قد أصيب بمرض الكلب فيسافر به إلى السكندرية لعرضه على طبيب وهو فى أشد حالت القلق. أما الحديث عن أمه فقد ارح يستكمل ماكتبه عنها فى \" ول هم يحزنون\"\" .علية\" تلك الست التى تزوجت فلح اً فأض اءت لي اليه الفقي رة بالجم ال ،وبأش عار \"أب و بثين ة\" ،وعش ارت الحكاي ات ،وكي ف ب ذلت جه داً ف ى تربي ة البن اء نوادارة ش ئون المن زل لتجعله م م ن وجه اء القري ة ،ولين ى الك اتب يح دثنا ع ن خناقاته ا م ع الج دة بحك م أن الحماة كانت تريد لبنها واحدة من بنات العائلة ،لكن ذلك المبرر ليخفى العداء التقليدى . ويحدثنا عن قصة حب مع زميلته فى المدرسة التى اختطفها الموت ،وعلقاته بالنساء مثل حكايات زهزهان الفاتنة التى يمارس عليها أخوها أشد أنواع القمع الذكورى ويجلدها لمجرد خروجها من الدار ،أو نرجس تلك النثى الجميلة الفائرة التى ألقاها حظها العاثر فى طريق رجل عنين ،وأسرة شرسة ،تريدها خادمة ل سيدة للدار ،وكيف أشرفت على السقوط لكنها تستطيع كبح جماح نفسها فى اللحظات الخيرة .وكيف لتعدم الم أرة الحيلة أبداً فى الدفاع عن نفسها وشرفها .والثنى فى النص -رغم حديثه المبهم عن علقات جنسية أقامها- ليست مجرد لعبة جنسية ،بل كائن شديد الرقة والحساسية والذكاء ،وبحكم تكوينه الريفى لم يفضح واحدة على سطور روايت ه .حتى ام أرة القطار التى م ارس معه ا بعض اللمسات الجنس ية المس روقة ولم تح رك ساكناً ،يب دو سكوتها مغلف اً بش فقة أمومي ة ،أك ثر م ن كونه استم ار ًء أو استمتاعاً ب الموقف ،فه ى ل م ترغ ب ف ى فض ح الم اره ق الصغير. وينتق ل بن ا الح ديث للقط ا ارت والس ينما وكي ف ش كل ك ل منهم ا ع الم جدي داً ،يحمل ه بعي دا ع ن \"مي ت سلسيل\" ،الولى نحو المدينة حيث التعليم والثقافة والمدن الجديدة والبحر ،والثانية نحو مدن البهجة والخيال . ويروى لنا قصة حب مستحيلة بينه هو المسلم وجوزفين المسيحية وكيف أنه لم يقم معها أية علقة جنسية ،ورغم ذلك لم تقبله بريفيته ،وكيف خانه الرفاق اليساريون وكيف خانت هى أفكارها وتزوجت من غيره. ولع سمير عبد الباقى بالبيوت أسلمه للحديث م ار اًر وتك ار اًر عن بيت السرة ،وكأنه أحد شع ارء الطلل وذلك الولع والتقديس ماكان له أن يستمر بسبب تغير الظروف القتصادية والمجتمعية. أهم ماجاء فى عمله الخير هو الدياليكتيك المستمر بين النا والذات .تلك الذات التى شكلت وعيه وتمردت ،وتلك النا المروضة التى استمرت فى الحياة أو لنقل فى الموت ،إل أن تلك الذات التى تلوث صفاء نفس ه ،ه ى ذاته ا وق ود الكتاب ة ،وتظ ل ف ى ت وجيه التهام ات ل ه ولليس اريين ال ذين ب اعوا القض ية ورفع وا اري ات النكسار. وحي اة س مير عب د الب اقى كله ا يفس رها -كم ا تفس ر ه ى -التح ولت ال تى أح دثتها ث ورة يولي و ،وق ار ارت الستينيات ومعتقلتها ،وأيام النفتاح الساداتى ثم النبطاح المباركى ،فيتحول النص فى نصفه الثانى لمحاولت يائسة فى الهروب من الموت الكلينيكى ،وم اروغة الموت بالبحث عما يستحق الكتابة والتسجيل.
35 هذا غير رحلته مع المرض سواء مرض زوجته أو مرضه هو حين تهاجمه الشيخوخة وقذا ارت الواقع التى تجثم على صدره وصدر الوطن ،وتمنع كل فنان من انتاج فن حقيقى ،حتى يصل إلى لحظة ثورة يناير مفس اًر صعود نجم التيار الدينى بأن اليسار قد ترك الساحة مبك اًر فلم تجد الجماهير من يحمل ال ارية ،فى الوقت الذى كان السلميين فيه متأهبين لتلك اللحظة. \"م ايهم الرحل ة ولي س الوص ول\" هك ذا يكت ب لن ا س مير عب د الب اقى رحلت ه مس قطا منه ا خم س س نوات العتقال ،بحكم أنه قد خصص لها روايته السيرية السابقة \"زمن الزنازين\". الفصل الثانى مفهوم المكان في السيرة الذاتية: \"إن ق ارءة رواية هى رحلة فى عالم يختلف عن العالم الذى يعيش فيه القارئ فمنذ اللحظة الولى التى يفتح فيها القارئ الكتاب ينتقل إلى عالم خيالى من صنع كلمات الروائى ،ويقع هذا العالم فى مناطق مغايرة للواقع المكانى المباشر الذى يتواجد فيه القارئ\". ميشيل بوتور المكان هو المكان اللفظي »المتخيل« أي المكان الذي صنعته اللغة انصياعاً لغ ارض التخيل الروائ ي. فالنص الروائي يخلق عن طريق الكلمات مكاناً خيالياً له مقوماته الخاصة وأبعاده المميزة .وترى سي از القاسم أن المكان في الرواية قائم في خيال المتلقي وليس في العالم الخارجي ،وهو مكان تستثيره اللغة من خلل قدرتها عل ى اليح اء ،ول ذلك فم ن الض رورى أن نف رق بي ن المك ان الخ ارجي /الحقيق ى والمك ان ف ي الع الم الروائ ي .له ذا فإن مدينة المنصورة مثل في ثلثية سمير عبد الباقى ليست هى منصورة \"فؤاد حجازى\" أو \"رفعت السعيد\" لن ما يجعل المكان مختلفا هو المنظور ،وهو مصطلح مستمد من الفنون التشكيلية وخاصة فن الرسم ،إذ يتحدد شكل أى جسم تقع عليه العين والصورة التى تتلقاه بها على الوضع الذى ينظر منه ال ارئى إليه .53من الذي ينظ ر إل ى المشهد ؟ ت رى هل هو ال اروي أم الشخصية الروائي ة؟ وف ي الح التين كم ا يق رر جيني ت نج د أن الذي يصف المشهد هو دائما شخصية روائية حتى نوان كان هو السارد .وهذا بدوره يقودنا إلى بؤرة الوعي الذي يدرك ويعي المش هد ..وهن ا نج د أنفس نا أم ام إش كال تقن ي حقيق ي ه و ذل ك الخل ط بي ن الص وت والص يغة ..ه ل الص وت ه و صوت المؤلف »السارد«؟ أم هو صوت الشخصية الروائية؟ وناذا عدنا إلى »تزفيتان تودوروف« ،نجده يحل الشكال بالحالة إلى أقوال باختين في كتابه »شعرية دوستويفسكي« إذ يفرق باختين بين الصوت والصيغة قائلً :ويكون للحياة معنى وتصبح بالتالي مقوماً ممكناً في البناء الجمالي فقط إذا نظر إليها من الخارج »المنظور« ككل .إذ ينبغي ان تكون محاطة بالكامل بأفق شخص آخر .وبالنسبة للشخصية التخيلية »الروائية« هذا الشخص هو المؤلف بالطبع وهذا ما يسميه باختين التخارج. إن الخل ق الجم الي ه و نم وذج مكتم ل لنم ط م ن العلق ة النس انية :ذاك ال ذي يحي ط في ه أح د الشخص ين الخ ر بشكل كامل وهو بذلك يكمله ويحييه .إنها علقة غير متناسقة من خارجية وفوقية. 53سيزا قاسم
36 ولهذا يخلص باختين إلى أن المؤلف ليس له امتياز على بطله فحقوقهما متساوية ،ويضيف قائلً :إن آ ارء دوستويفس كي »المفك ر« عن دما ت دخل رواي اته المتع ددة الص وات تنخ رط ف ي ح وار ك بير م ع آ ارء وأص وات الشخصيات الخرى .ولهذا يصبح منظور المكان السردي الروائي ملوناً بهذا الحوار وهذا الجدل ،ومن ثم يختلف تقني اً المك ان الواح د ف ي الرواي ة حس ب الشخص ية ال تي تتكل م ع ن نف س المك ان .كم ا يظ ل الن اظر »الس ارد« أو الشخصية الروائية التي تصور المشهد عبر صوتها ليست هي المؤلف الحقيقي ،ولكنها المؤلف المفترض. ولي س معن ى ه ذا أن الشخص ية تس كن ذاته ا م ن دون م ارع اة للواق ع الخ ارجي ،ولكنه ا تنظ ر إل ى ه ذا الواقع وفق ثقافتها ومكوناتها ،بل أيضا وفق حالتها النفسية ،ومن هنا تأتي موضوعية رؤيتها ونسبيتها في ذات الوقت .إذن تحاول كل رواية تطبيع المك ان بناء على الرؤية الخاصة ب النص .وكم ا يقول البح اروي إن المك ان الروائي ليس مجرد ديكور بل هو الفضاء الذي يضم شبكة علقات شديدة التعقيد من وجهات نظر شخصيات المكان »الرواية« وللمادة الحكائية ،فهو مكون روائي أساسي .ولهذا ،نجد أن الوصف الروائي ي ارعي إيقاع كل هذه العناصر. وللمكان بكل تأكيد حضور فاعل في حياة كل منا ،فهو الذي يثير فينا \"إحساساً ما بالمواطنة نواحساساً آخ ر ب الزمن وبالمحلي ة .وعلق ة النس ان بالمك ان علق ة جدلي ة تتش كل م ن خلل عملي ة الت أثر والت أثير ،لن النس ان \"ل يحت اج فق ط إل ى مس احة فيزيقي ة جغ ارفي ة يعي ش فيه ا ،ولكن ه يص بو إل ى رقع ة يض رب فيه ا بج ذوره وتتأصل فيها هويته ،ومن ثم يأخذ البحث عن الكيان والهوية شكل الفعل على المكان لتحويله إلى مرآة ترى فيها )النا( صورته ،فاختيار المكان وتهيئته يمثلن جزءاً في بناء الشخصية البشرية :فالذات البشرية ل تكتمل داخل ح دود ذاته ا ،ولكنه ا تنبس ط خ ارج ه ذه الح دود لتص بغ ك جل م ا حوله ا بص بغتها ،وتس قط عل ى المك ان قيمته ا الحضارية\").(54 الخصائص المشتركة للمكان وصفاته55 : - 1التواصل :بمعنى أنه يمكن تجزئة المكان إلى أقسام . - 2التعدد البعدي ) :الطول والعرض والرتفاع (. – 3التصال :بمعنى أنه ل توجد منطقة أو مكان منعزل في العالم . - 4التجاه :ويختل ف ب اختلف الفئ ة ال تي تتعام ل م ع المك ان مث ل :الفلس فة والمهندس ين والنس ان العادي والروائي. مفهوم المكان في القصة 56: -1المكان القصصي :وهو المكان اللفظى الذي تصنعه اللغة لخدمة التخيل القصصي . - 2الفضاء :وهو مجموعة المكنة في القصة نواطارها المتحرك . )( مشكلة المكان الفني ،يوري لوتمان ،ترجمة وتقديمة :سي ار قاسم ،مجلة ألف ،العدد -6لسنة .83 :1986 54 س ديفيز \"المفهوم الحديث للمكان والزمان هيئة الكتاب ص 12 55 56 سمر روحي الفيصل \"بناء الرواية العربية السورية\" اتحاد الكتاب العرب
37 - 3الفض اء الجغ ارف ي :وه و مك ان ينتج ه الحك ي وه و مح دود جغ ارفي ا ،قاب ل للد ارك ،يتح رك في ه البطال . - 4الفضاء الدللي :وهو الصورة التي تخلقها لغة الحكي . - 5الفضاء النصي :وهو الفضاء المكاني الذي تشغله الكتابة على الورق. عل ى ه ذا يش كل المك ان ف ي الن ص الس يرذاتي أح د الرك ان الرئيس ية ال تي تق وم عليه ا العملي ة الس ردية حدثاً ،وشخصيةً ،وزمناً فهو الشاشة المشهدية العاكسة والمجسدة لحركته وفاعليته) .(57ولكن هذه المركزية التي يتمت ع به ا المك ان ل تعن ي تف وقه أو تمي زه عل ى بقي ة المكون ات الس ردية الخ رى ،نوانم ا تنج م ف ي الس اس ع ن الوظيفة التأطيري ة والديكورية التي يؤديها المكان) .(58فالحساس بالمكان ل يختلف عن الحساس بالزمن \"ذلك بمقتضى الت اربط والتشارط العضوي بين الفضائين من جهة ،وبمقتضى وحدة الرؤية المؤسسة لها من جهة ثانية، وبمقتضى المضمون القصصي للمرحلة من جهة ثالثة\").(59 ول يختل ف الم ر ك ثي اًر ف ي علق ة المك ان بالشخص ية أي النس ان وت أتى أهمي ة ه ذه العلق ة م ن ك ون المكان يشكل الطار الحركي لفعال الشخصيات ،فضلً عن وظيفته في تفسير صفات الشخصيات وطبائعها عندما تعكس مواقفها وسلوكها ،ويوضح معالمها الداخلية والخارجية) ،(60فالبيت مثلً امتداد للنسان فإذا وصفت البيت فقد وصفت النسان).(61 وكما سبق وأكدنا ل تقل أهمية وجهة النظر بالنسبة للمكان عن المكونات السردية الخرى ،فل يمكن للمكان أن يظهر إلج من خلل وجهة نظر الشخصية التي تعيش فيه ،وهذا المنظور هو الذي يحدد أبعاد المكان ويرسم طوبوغ ارفيته ويجعله يحقق دللته الخاصة وتماسكه اليديولوجي).(62 ويمكن القول إن المنظور الذي يتخذه ال اروي في تحديد أبعاد المكان ورسم طوبوغ ارفيته هو من أكثر الط رق ملءم ة ف ي الس يرة الذاتي ة ،وذل ك لن \"الرؤي ة م ن أك ثر المكون ات الس ردية توس طاً ف ي الذاتي ة والط ابع الشخصي\") .(63ولن السيرة الذاتية تعتمد على وجهة نظر ال اروي الذى يتولى السرد أى وجهة نظر المؤلف نفسه. ول يرتبط المكان في النص الحكائي بوجهة النظر والحداث والشخصيات والزمن فحسب نوانما يرتبط أيض اً \"بطائف ة م ن القض ايا الس لوبية والس يكولوجية والتيماطيقي ة ال تي نوان ك انت ل تتض من ص فات مكاني ة ف ي الص ل فإنه ا ستكس بها ف ي الدب ،كم ا ف ي الحي اة اليومي ة\") (64فالمك ان ال ذي يتل جون بالحال ة الفكري ة أو النفس ية للشخصيات المحيطة به هو مكان له\" دللة تفوق دوره المألوف كديكور أو كوس ٍط يؤطجر الحداث إنه يتحول في )( مقاربة الواقع في القصة المغربية القصيرة ،نجيب العوفي.149 : 57 )( مرايا نرسيس.153 : 58 )( السابق.154 : 59 60 )( الشخصية في أدب جبرا إب ارهيم جبرا الروائي.96 : 61 )( نظرية الدب،رينيه ويلك واوستن وارين ،ترجمة :محيي الدين صبحي.532 : 62 63 )( بنية الشكل الروائي54 : 64 )( مرايا نرسيس.101 : )( بنية الشكل الروائي33 :
38 هذه الحالة إلى محاوٍر حقيقي ويقتحم عالم السرد مح جر اًر نفسه ..من أغلل الوصف\") .(65وهو ل ينفصل أيضاً عن دللته الحضارية فالمكان \"يتشكل من خلل العالم القصصي ويحمل معه جميع الدللت الملزمة له ،والتي تك ون ع ادة مرتبط ة بعص ر م ن العص ور ،حي ث تس ود ثقاف ة معين ة ورؤي ة خاص ة للع الم وه و م ا تس ميه جولي ا كريستفيا )اديولوجيم العصر(\").(66 والسيرة الذاتية هى حصيلة الجمع بين نوعين من الكتابة :التدوين التاريخي والحكاية الفنية) (67لهذا نجد أن المك ان ال واقعي ال ذي نبح ث عن ه ف ي ك ل س يرة الذاتي ة يتش كل م ن المك ان المعي ش ف ي الواق ع بوص فه واقع ة حقيقي ة ،والمك ان بوص فه تجرب ة فني ة .أي أن المك ان حص يلة م زج الوق ائع التاريخي ة بالفني ة .المك ان ف ي الن ص السيرذاتي ليس مكاناً جغ ارفياً صرفاً ،ولكنه مكان واقعي بالمفهوم الفني للكلمة ،مثل أي مكان واقعي في الدب لن \"الم ادة ال تي يف ترض أن تك ون حقيق ة وأص لية ل يمك ن أن تحتف ظ ب ذلك ،فم ا أن تص بح موض وعا للس رد إل ويع اد إنتاجه ا طبق اً لش روط تختل ف ع ن ش روط تكونه ا قب ل أن تن درج ف ي سياق التش كيل الفن ي ،وعلي ه ل يمك ن الح ديث أب داً ع ن مطابق ة حرفي ة مباش رة بي ن الوق ائع التاريخي ة المتص لة بس يرة المؤل ف التاريخي ة والوق ائع الفني ة المتصلة بسيرة الشخصية الرئيسية في النص\").(68 واستحضار هذه الوقائع في النص السيرذاتي واستدعائها من الذاكرة ليس أم اًر سهلً ،وسيعترف سمير عب د الب اقى ب ذلك م ارت وم ارت ،ناقم ا أحيان ا عل ى ذاكرت ه العج وز ،أو معترف اً باس تحالة ت ذكر الش ياء كم ا ه ى، فنجده يقول مثلً فى \"زمن الزنازين\": \"طب ًعا ل يمكن أن تتم مطاردة الذكريات بهذه الدقة السردية المتكاملة الد ارمية ..خاصة وهي مطاردة من قبل نزيل زن ازنة انف اردية منذ ) (50عا ًما أو يزيد ..لم تكن الحداث تتوالى بكل هذه الدقة والكتمال لوال دخلنا في مناطق الفتعال .ويظن أنها حيل من حيل الكتابة وتنويعات من فنون السرد التي ل أجيدها .وتلك الذاكرة مهما كانت فلبد أن أصابها الوهن الن ولذا فمثل هذه الحدوتة قد تتجسد كما هي ولكن حسب سيناريو مختلف ونحن سوف نقابل أحداثًا وشخصيات أخرى كثيرة ..فعذًار نطلبه مقد ًما لختلط التواريخ وفقدان التتابع المنطقي وسيكون هناك بعض التداخل ولكن أبًدا لن نفقد خط الصدق الذي سيكون مقد ًسا كخط الحزب \".. وفى \"موال الصبا فى المشيب\" سيكون أكثر إلحاحا فى الشكوى: \" أنا أقلب صفحات ذاكرتى التى صارت كمخطوط قديم تأثرت أو ارقه حتى بليت والتصقت وكادت تته أر من ط ول الهم ال ومخ الب الزم ن..لتعطينى نفس ها بس هولة وأجته د ف ى تفس ير مايت اح ل ى م ن ش ذ ارت وعب ا ارت تك ون أحيانا ذات مدلول أو تكون ملغزة أو غامضة ،وقد تقتص ر عل ى بض ع ح روف أو نث ائر م ن م زق ص ور ح الت ألوانها\" ويعترف الك اتب أيض اً أن الذاكرة تتسلط عليه فى لحظة الكتابة وتفرض أو تلح على موضوع بعين ه، فمبدأ النتقائية يخضع لهواء ذاكرة عجوز وسياقات اجتماعية وسياسية ونفسية: )( بنية النص السردي.71 : 65 )( مرايا نرسيس.54 : 66 67 )( النقد والحداثة.116 : 68 )( السيرة الروائية :إشكالية النوع والتهجين السردي.17 :
39 \" لقد ظللت لثلثة أيام أحاول الهرب من حكاي ة المن درة ال تى ل م يع د له ا وج ود ف ى بيتن ا رغ م ك ل م ا كان لها م ن حض ور ط وال س نوات طفول تى وص باى ح تى ع ودتى م ن الس جن لج د ال بيت ال ذى عش ته وألفت ه صار بيتا آخر أدهشنى ضيقه وتقزمه مع أنه بنى على نفس مساحة البيت القديم\" لكنه يفاجئنا بل فوجىء مثلنا بعد ذلك أن المكان \" المندرة\" الذى أجهد الذاكرة فى استدعاء تفاصيله لم يكن كما وصفه ،فالفن بصفة عامة ليستطيع أن يستنسخ الواقع كما هو: \" اكتشفت بعد تفحص صفحة ظهرت فجأة من بين ركام أو ارق الذاكرة الصف ارء أنها ل م تك ن ك ذلك ف ى س نوات الحرب ومابعدها\" ومع ذلك فالسارد في النص السيرذاتي يذعن كليا في أثناء عملية السرد لذاكرته ،وهذه الذاكرة كما أرينا \"ليست آلة صماء تسجل الحداث والفكار دون تمويه أو تشويه ،أو دون زيادة ول نقصان ،نوانما هي جزء من نسيج النسان الحي ..يتطور ويخضع أعظم الخضوع لعامل الزمان .فهي أولً ل تحتفظ بكل الثار والفكار ،ول تسجل ك جل ما تضطرب به حياة النسان من تجارب وأحداث .نوانما هي تميز وتختار ،تأخذ وتدع\").(69 إن البحث عن التطابق المفترض بين الوقائع كما هي ،وبين أسلوب عرضها في النص السير الذاتي أمر مستحيل وذلك بسبب آلية عمل الذاكرة وما قد يعتريها من ضعف أو نسيان من جهة ،وعدم تمكن الكاتب السيرذاتي من التخلص من إلحاح الحاضر عند كتابة السيرة من جهة أخرى .إذ ل يستطيع أبداً \" أن يتخلص من الحاضر الذي يكتب فيه ،ليلتحم بالماضي الذي يرويه\") (70لن الذاكرة في أثناء عملية التذ جكر يحدث فيها انقسام تلق ائي لل ذات إل ى )ال ذي ك ان( و)ال ذي يك ون( م ع اعتب ار )ال ذي يك ون( ل ه الفض لية عل ى )ال ذي ك ان() (71ف \"السترجاع الواعي المسلط على أو المسقط على الماضي العتقادي يستجيب لضغط الوعي المتشكل آنياً .ول يسمح للماضي وما يمثله وعيه في زمنه بأن يأخذ مساحة كافية في الكتابة\").(72 وق د تق ود ال ذاكرة بالمك ان إل ى التقريري ة لنه ا تعتم د العي ن أو الس مع أو الد ارك لدرج ة قي اس ت أثير المكان ،إلج أن هذه التقريرية لها أهميتها في بعض الحيان لنها \"تعيننا على إد ارج عدد أكبر من الماكن دون الهتمام بتفاصيلها ،لن الحديث المراد توضيحه هو ما يجب النتباه إليه آنياً\").(73 وللمكان في وعي سمير عبد الباقى منزلةً خاصة تتضح أهميته في رواياته السيرية الثلث . فضاءات سمير عبد الباقى يتنقل الك اتب فى نصوصه الثلث بي ن فض اء القرية والمدين ة سواء ك انت المنصورة أو الس كندرية أو القاهرة .ونلحظ أن فضاء القرية هو الفضاء المهيمن على ثلثية الكاتب ،فالمدينة لم تلعب دو اًر كبي اًر ف ى تشكيل وج دان ص احب الس يرة ،لكن ه م ع ذل ك ليعاديه ا ول ي اره ا \"مدين ة بل قل ب\" مثلم ا ك ان ي اره ا أحم د عب د المعط ى )( الموت والعبقرية ،عبد الرحمن بدوي107 : 69 )( السيرة الذاتية ،جورج ماي ،تعريب :محمد القاضي وعبد ال صولة94 : 70 )( فن الذات كتابة السيرة الذاتية في عصر النرجسية ،وليم جنس ،ترجمة :ياسر شعبان ،مجلة البحرين الثقافية ،العدد 71 19لسنة .90 :1999 72 73 )( الذات ممحوة بالكتابة عن السيرة الذاتية نوعاً أدبياً.115 : )( الرواية والمكان.1/87 :
40 حج ازى ،المدين ة ستش هد د ارس ته الثانوي ة والجامعي ة ولك ن ليتع رض الن ص ك ثي ار لتفاص يل المك ان ف ى دمي اط والق اهرة ،أم ا الس كندرية فق د هوس ه فيه ا فض ائين :فض اء البح ر وفض اء الس ينما ،ولكنن ا سنض طر ف ى د ارس تنا التفكيكية أن نبدأ بفضاء القرية ،حيث أن مرحلة الطفولة الريفية تشغل أكثر من ثلثى حجم كتابه الثالث \" موال الصبا فى المشيب\" ولنبدأ بنص \"ول هم يحزنون\" مسرح الحداث الرئيس هو قرية ميت سلسيل ،وتختلف هنا رؤية الكاتب ،فالقرية التى رآها جنة فى طفولته ،حيث الب ارح والخضرة وم ارتع الهناءة تختلف بع د أن تشكل وعيه وصار أكثر إد اركا ويسارية ،و قاد ار على رؤية الجانب الخر من الصورة حيث الفقر والمرض والجهل وغياب العدالة الجتماعية : ويتبدى فقر المكان من خلل ساكنيه فما يهم الن ليس تقديم طبوغ ارفيته أو ملمحه بل التركيز على ساكنيه، وقد قدم الكاتب مكانه دون تمهيد ،بل ألقانا فى أتونه مباشرة بعد أن انطلقت فى ذلك الفجر ثلث طلقات فشنك من بندقيتة \"حماده المصرى\" من فوق مئذنة الجامع الكبير ،ثم كبر وأذن معلنا وفاة كبير القرية \"الشيخ مقبل\": \" النسوان صحت على النداء الفاجع ...وهن ينفض ن ع ن ص دورهن الص بيان القابض ين بأس نان ك العلق عل ى حلماتهن الناشفة ويزحن الرجال القافزين فوقهن كخيل الموالد\") \"(...كاشفات عن الضفائر المحلولة الملبكة أو المعق ودة المترب ة أو ع ن ش عر مه وش أك رت مجع د أو س ائح خش ن ه ائش مكتك ت منق وع ف ى الع رق وال ت ارب محمل بنفايات الحقل والوقيد\" الس رد هن ا يت أثر بالمك ان فق د ج اءت الص ور والخيل ة م ن البيئ ة ،ول م يكت ف الك اتب باس تخدام بع ض المف ردات الريفية القليمية ،بل ارح ينقل نظرته العارفة بخصوصية ذلك المك ان ،العليمة بطبائع وسلوكيات وط ارئق حياة سكانه \" انتش ر الخ بر انتش ار ال دبان ف ى موس م البل ح ،ح ط عل ى ال دور ،زن كالنح ل الص ايع عل ى أس وار ال دواوير والز اري ب .تس لل كالس حالى م ن ش قوق النواف ذ والطيق ان ازحف ا تح ت أعق اب البيب ان المخلع ة .ه اجم الن ائمين على ضهور الف ارن وفى بطون المداود .أقلق منام المرتاحين على الس ارير والمقرفصين عل ى الكن ب البل دى او عل ى المص اطب وص ناديق الن وارج ،ح وم كال دبابير الص ف ارء يلس وع البه ائم ويض ايق الحمي ر ك الق ارد ال رزل ، ومثل الفاش القاتل أفزع الدجاج ونكد على الحيوانات فى الحواش المستسلمة لليل شتوى قارس مظلم لم يظهر له قمر\" فضاء البيت: البيت وهو مكان اللفة والحماية والسكينة .وقد س جمي بالمسكن لتضمنه معنى السكينة والمان ،والبيت كما يقول باشلر \" هو ركننا في العالَم ،إنه (...) ،كوننا الول ،كون حقيقي بكل ما في الكلمة من معنى(...). ونظ ًرا لن ذكرياتن ا ع ن ال بيوت ال تي س كناها نعيش ها م رة أخ رى كحل م يقظ ة ف إن ه ذه ال بيوت تعي ش معن ا طيل ة حياتنا.
41 إن البيت هو واحد من أهم العوامل التي تدمج أفكار وذكريات وأحلم النسانية .ومبدأ هذا الدمج وأساسه هما أحلم اليقظة .في حياة النسان ين فحي البيت عوامل المفاجأة ويخلق استم اررية ،ولهذا فبدون البيت يصبح النسان كائًنا مفتتًا .إنه – البيت – من يحفظه عبر عواصف السماء وأهوال الرض. ال بيت جس د وروح ،وه و ع الَم النس ان الول .قب ل أن \"فيق َذف النس ان ف ي الع الَم\" ،كم ا ي ْدعي بع ض الفلس فة الميت افيزيقيين ،ف إنه يج د مك انه ف ي مه د ال بيت .وأْي ة ميتافيزيق ا دقيق ة ل تس تطيع إهم ال ه ذه الحقيق ة البس يطة لنه ا قيم ة هام ة ،نع ود إليه ا دائ ًم ا ف ي أحلم يقظتن ا .الوج ود أص بح الن قيم ة .الحي اة تب دأ فس يحة، محمية ،دافئة في صدر البيت74. وعلقة البطل بالبيت لن ارها بعيون سمير عبد الباقى فقط ،ولكنها تبدأ قبل مولده ،تتجلى فى علقة الم \"علي ة\" ب البيت ،فه ى ال تى تص ور أه ل أبي ه أنه ا مج رد فت اة غريب ة مرفه ة ،أخ ذت عل ى عاتقه ا إدارة ش ئون ال بيت ،وغ رس قيم ة النتم اء ل ذلك ال بيت ،واض فاء ن وع م ن القداس ة والحميمي ة ف ى آن واح د عل ى المك ان .وم ن الطبيعى أن ينتقل ذلك الشعور للبناء حيث يشكل البيت بؤرة اهتمامهم ،وقد جاء ذلك فى \"و له م يحزنون\" لكنه تكرر بتفصيل أكثر فى \"موال الصبا فى المشيب\" \"أصبحت ل تكف لحظة عن عمل شيء يحتاج البيت له ..فهي تكنس وتغسل وتطبخ ..وترف و وترق ع وتطب ق وتنظ م وتنق ي الغل ة وتس فح ال رز وترت ق القط وع والتمزق ات وم ا أكثره ا ف ي ثي اب م ن ل يكف ون ع ن الحرك ة . وتروق الماء ..لكنها لم تخرج لتجلبه فهي ست البيت يأتي إليها دائما من يساعدها ..إذا م ا أحت اج الم ر . كانت تعت بر ال بيت مملكته ا ،ل ذلك نش أنا أن ا لواخ وتي الص بيان قب ل البن ات نق دس ال بيت .ون دفع م ن أرواحن ا وأنفسنا وأمزجتنا بل وحتى طموحاتنا ونزواتنا في سبيل تدعيم أسس البيوت التي صنعناها بإ ارداتنا الح رة ..أو بإ اردتنا المهتزة المضطرة – تحت ضغط ظروف أو عواطف أو تطو ارت جبرية في مسا ارت حياتنا القدرية . أم ا بي ت الج د وه و الص ل ،فق د خص ص ل ه فص لً ك املً بعن وان \"ال ذي ب ارك نا ح ول ه\" ...ونلح ظ بداي ة م ن العن وان ،إض فاء ن وع م ن الجلل والقدس ية عل ى ذل ك \"ال بيت الع تيق\" إن الوص ف يرك ز عل ى ص فات الع ارق ة والش موخ والعل و والزده ار ،رغ م أن ه يك اد يك ون فوتوغ ارفي ا ،فالص فات المس تخدمة ت وحى بالض آلة ف ى م واجهته والحس اس بالحماي ة ف ى ذل ك الكي ان الجلي ل الض خم ،وش أن ك ل مق دس هن اك ش عور ب الغموض ال ذى يكتنف ه ،وس نلحظ أيض ا ارتب اط المك ان أو ح رص الك اتب ف ى وص فه عل ى اس تخدام مف ردة الحدي د \"ذو الب أس الشديد\" حسب التعبير الق آرنى ،ومع ذلك فالخصوبة والخير والسكينة سيعبر عنها حقل سيمائى يتشكل من الطيور والخضرة ،ولنق أر وصف الكاتب مع ملحظة أن الخطوط من عندياتنا: \"ك ان )بي ت ج دي( ف ي زم انه ك بيًار ممت ًدا ف ي الش ارع ،واس ًعا ،ل ه ب اب ض خم ل تص ل عين اي إل ى مداه ،باب من ضلفتين هائلتين منقوشتين بزخارف من أغص ان النب ات والزه ار الخش بية .لك ل ض لفة ش َارعة طويل ة م ن الحدي د العري ض المش كل ف ي دوائ ر وأق واس متداخل ة ..وتعل و الب اب ف وق عارض ة م ن الخش ب ، نصف دائ رة حديدي ة هائل ة ت ؤطر شم ًس ا م ن الش عة تق ف عليه ا أزه ار وعص افير م ن الحدي د ،ل م تك ن تفت ح س وى ض لفة واح دة ول تفت ح الخ رى معه ا إل عن دما ت دخل الحمي ر محمل ة بالزك ائب المتخم ة ب الحبوب ف ي الموس م أو محمل ة بالبرس يم ف ي الش تاء ،لوال ى يس ار ه ذا الب اب العملق ش باكان ش ديدا الط ول لهم ا إط ار 74انظر جاستون باشلر جماليات المكان
42 خارجي من الحدي د المزخ رف الط ارف والزواي ا يحي ط بع دة أس ياخ س ميكة م ن الحدي د ل م تك ن تس مح لرؤوس نا بالخروج من بينها \" ) (...كانت جد ارن البيت عريضة ..يستطيع الجلوس على حجر الشباك ثلثة أو أربعة من ا نط ل عل ى الش ارع من بين القضبان متعلقين في السياخ الحديدية بقبضاتنا الصغيرة .. خلف الباب الضخم لبيت جدي كان دهلي ز طوي ل واس ع وعري ض س قفه ع ال ج ًدا ..تعش ش في ه بع ض طي ور عصافير الجنة في أعشاش طينية تبنيها باهتمام ودأب شديدين ،ولم أكن أصدق أنه يمكن الوص ول إل ى ذل ك السقف العالي الذي يبدو غارقًا طول الوقت في ظلم غامض حتى في عز النهار . على يمين الداخل ك انت المن درة ذات الش باكين حي ث ك انت ثلث مص اطب ك بيرة وعريض ة تمت د أس فل الج د ارن مفروش ة بالحص ر أو الكع،ب ي الص وفية اليدوي ة ذات الملم س الخش ن .ك انت ثقيل ة ل أذك ر أنن ي كن ت أس تطيع تحريكها أو حملها \" .. بعد ذلك ننتقل لوصف البيت من الداخل ،والبيت ليخلو من الس ارر \"كان هناك ح اجز يفص ل بي ن آخ ر المن درة وداخ ل ال بيت يتك ون م ن نص ف ج دار وب اب بل ملم ح ، وخلفه يق ع )الكني ف( ال ذي ك ان مج رد )حفي رة( ف ي الرض الس وداء الرطب ة ..كن ت أخ اف الق ت ارب من ه ..ل بسبب ارئحته النفاذة فقط ،ولكن لظلمته الغامضة \" وعن د الح ديث ع ن ال بيت س نجد الك ثير م ن الش ياء ال تى تص بح ذات طاق ات س حرية س واء ك انت م ن الحي اء أو الجم ادات ،ولما ك ان وصف الشياء يؤدي دو اًر مزدوج اً في الن ص فه و يشير إل ى حقيقة واقعة في العالم الخارجي فضلً عن أنه يحمل دللة خاصة في النص) .(75فالوصف هنا يأتى بعيون الطفل بما له من قدرة غريبة على التخيل ،وكما يقول فلوبير \"و ارء كل شىء تافه قصة هائلة\" نرى الشياء كيف ي ارها الطفل تحوى أس ار اًر وطلسم تجعل ألفة المكان ممزوجة بالرهبة ،ومن ذلك البقرة وهى مجرد بقرة عادية ولكن الرهبة التى تحيط بالمكان تجعل ال اروى الطفل يبالغ فى تصو ارته أو هكذا يتخيل جدته\"أم العز\" : في بعض الحيان كانت هناك بقرة .تظهر أحياًنا في قاعة الفرن ،كنت أعتق د اعتق اًدا جازًم ا أنه ا واح دة م ن المداحات الغجر اللتي لم تك ن تطيقه ن ج دتي ،س حرتها وحبس تها لنه ا ل م تم ض ف ي ح ال س بيلها ،وظل ت تصدع أرس جدتي بطبله ا المزع ج وص وتها القبي ح .ول م تج د أح ًدا م ن العي ال لترس له إليه ا برغي ف أو بعص ا ليطردها ،فاستدرجتها إلى داخل البيت وعاقبتها وحَولتها إلى بق رة ..كن ت أرى حزًن ا إنس انًيا غريًب ا ف ي عي ون البقرة ..كانت تسمعني عن دما أتس لل إليه ا أس ألها ،وك انت تح اول الجاب ة ،ولك ن عجزه ا ع ن الش كوى ك ان يفجر في عينيها دمو ًعا ..وكان ص ارخ ج دتي وص ياحها عل َي كلم ا دخل ت عن د البق رة يؤك د ل ي خوفه ا م ن أن أكشف سرها أو أبط ل س حرها ..وك ان الم ر دائ ًم ا ينته ي بعلق ة ،ل لنن ي أغض بت ج دتي ولك ن لن أب ي ل م يكن يريدني أن أعبر حدود المنطقة المحرمة الخاصة بها أصلً .خوفًا من أن تحولني إلى كلب ! () 75بناء الرواية100 :
43 ولنع د إل ى الش ياء فشخص ية الج دة الم رة المتس لطة وم ازجه ا الح اد ونظره ا الكلي ل علوة عل ى أنه ا حارسة للك ارر يجعل الشياء المحيطة بها وفضاء الجدة غ ارئبيا. ك ان عن دي إيم ان ارس خ مؤك د أن ل ديها كن ًزا يف وق كن ز )المل ك الش مردل( تخفي ه ف ي أرض الحج رة أو ف ي )الخورستانة( التي في الحائط الغامض ،مغلقة بمفتاح له ثلث سنات من حديد صلب نادر ،يشل م ن يمس كه ،غير صاحبته ،يبرق معلقًا في حب ل كت ان غ امق ح ول رقبته ا .ح ذرت العي ال م ن النظ ر إلي ه لن ه مرص ود وقد يصيبنا بالعمى ،إذا وقعت عيوننا عليه ونحن نعبرها متسللين إلى المنطقة المحرمة . لكن ه ش أن ك ل مك ان مرص ود ،يخف ى كن وزه وأس ارره ،والكن وز نوع ان ك ان أكثره ا م ارودة واغ واء للبط ل الصغير هو وأق ارنه من أبناء عمومته تلك الخي ارت ،وسوف نرى الوصف الى يصور حركته هو وبقية الطفال مثل طابور نمل ،أما تعداد أنواع تلك المأكولت والخي ارت فحدثعنه ول حرج. \"كنا في أوقات معينة نصعد في صمت على السلم إلى نص ف الس طح الممت د أم ام )الش كمة( البحري ة في ال دور الث اني .ونزح ف تحته ا ف ي ط ابور كالنم ل أو دود القط ن ،ح تى ل ي ارن ا أح د م ن س كان المقاع د ، عابرين إلى حيث الخ ازنة العامرة بطواجن ال ارئب وشوالي الحليب وأشولة السمس م ..ك ان عي ال عم تي يعرف ون م تى يك ون الغ زو مجزًي ا لنف وز بالغنيم ة ) (...وأم ام اس تم ارر غ زو )الخ ازن ة( ح تى بع د معرف ة الس بب س دت الطاقة تما ًما ..وحين اكتشفوا اخت ارق حاجز الطين الذي لم يكد يجف نقل وا ك ل م ا ف ي الخ ازن ة م ن خزي ن إل ى الحاصل المحروس )بالرصد السحري المتربع( على العنجريب طول الوقت مستنًدا على جدار بابه المحرم\". ويصبح النص الحكائى بديل عن ف ارغ الواقع ،فيستكمل السارد فى نوع من الستباق الحكايات الناقصة أو غير المفهومة للطفل ،ومن ذلك وصفه لشياء الجدة وممارساتها اليومية واستعمالها تلك الشياء لض فاء مزي د من الغ ارئبية على المكان: حتى كان يوم أريتها ترج سائلً ما في شيء ص لب غري ب ،ش به مج وف ،يلم ع ب اطنه كرخ ام عتب ة الجامع العاجية ويتعرج ظاهره القائم عروقًا بنية غريبة تتخللها شروخ من بياض يكاد يضيء ..قالوا أنه ق رن )الحنتيت( الذي عرفت فيما بعد أنهم يقصدون )الخرتيت( وبعد أن رج ت الق رن بالس ائل ال ذي وض عته في ه م ع عش ب ناش ف مطح ون ..ق أرت علي ه أو ارًدا أو آي ات عل ى أرس بن ت عم تي المحش ور بي ن ركبتيه ا .وعم تي تفتح فم البنت غصًبا لستقباله فزعة تحاول التخلص باكية من كلب ة ركبتيه ا دون ج دوى ..البن ت ش فيت م ن المغص القاتل -بعد أن ن امت ط ويلً غارق ة ف ي عرقه ا ،ص حت وقف زت عل ى ق دميها ك القردة .وعرف ت م ن أحاديثهم أن )قرن الحنتيت( هذا أحضره جدي من أرض الحجاز هو )ودهن إحليل تمس اح( و)كب د عق اب ح ي( وأن ساحًرا من السودان لقنه كيفية استعمال السحر في شفاء الم ارض ،وهو علَم جدتي السحر بدوره . ويضاف لس ارر الجدة ارتباط المكان فى ذاكرة الطفل بالحكايات الشعبية التى شكلت وجدانه وساعدت على شحذ خياله ،فيصبح وعيه بالمكان مختلفاً لدرجة أن المكان سيتغير لدرجة أنه قد يلغى إحساس الطفل فى لحظات الرهبة بالتفاصيل وتزدحم الشياء لدرجة أن تصبح الصورة ضبابية كنت متأكًدا بعدها أن لدى جدتي أشياء أخرى خفية كنت أسمعها ت تردد عل ى ألس نة الكب ار ع ن )نم ل يتيم ...وعقارب عقيمة وهداهد ص امتة ..ودم أطف ال يت امى( ث م اختل ط ك ل ه ذا بم ا ق أرت ه ف ي حكاي ة )ج ودر(
44 والسحرة المغاربة الذين جاءوا إلى مصر يسعون و ارءه لكشف كنز )الشمردل( وبغلة الحظ والمسحور والجح ش الذي يأخذ شكل المارد وتمثل لي كل ذلك متجسًدا في الظلم الذي يكلل الغرفة التي ل نوافذ لها ،ضباًبا يحج ب السقف والركان عن نظر من يجرؤ على التطلع صدفة أو على البحلقة عمًدا في ف ارغها الرطب اللزج .. وبعد وفاة الجد سيصبح البيت خالصا لعائلة عبد الباقى ،ورغم أن الب لم يحصل على نصيب مساو لخوته فى التركة ،لكنه كان نصيبا عادل من وجهة نظر الب ،فقد تعلم فى حين حرم اخوته من التعليم ،على هذا يصبح عبد الباقى الوريث هو الحق بسكنى المكان ،وأجدر البناء بمي ارث البيت ،فالبيت رمز قوى للسرة ولعزتها ومكانتها الجتماعية فلم يحصل عليه أو لم يسع للحصول عليه إل أخطرهم شأنا ،والرض بكل ماتشكله فى الوجدان الريفى ،تت ارجع أهميتها أمام استم اررية وجود عبد الباقى فى ذلك المكان ،ورغم أن الطفل الصغير س مير س يفرح ب الب ارح والحري ة وزي ادة مس احة مغ ام ارته وح دودها ،إل أن أهمي ة ال بيت تف رض نفس ها وتتجل ى ف ى كلمات الطفل: \"خلص البيت بع د دف ن ج دتي ل )عب د الب اقي( طب ًع ا .ووزع ت بقاي ا الترك ة ال تي ك ان يمك ن أن يك ون مصيرها كمصير )قرن الحنتيت( وكل م ا ظن وا أن ه ك ان يمل )الخورس تانة( وس ويت ملكي ة ال بيت فل م يك ن أح د يود مشاركة أبي فيه .وهكذا أص بح ع الم مغ ام ارتي الص غيرة الهائل ة ،ممت ًدا عل ى مس احة يمت د ب ارحه ا – كم ا أوح ت ل ي حص ص وكت ب الجغ ارفي ا ع بر ح دود -ق ا ارت الع الم -ال تي يق ع غي ط )الس باخ( منه ا موق ع القل ب بالضبط ،مثلما تتوسط مصر خارط ة أحلم ي ال تي ب دت ل ي تتس ع وتتخط ى خط وط الط ول والع رض ..وتمت د إل ى حي ث ب دأت تأس رني م دن أتع رف عليه ا مث ل )ت انيس وبغ داد والهن د( .وتخل ب روح ي جب ال )الوليم ب( و)ال واق ال واق( والتل ول ،وف ي القل ب م ن ه ذا الع الم ك ان ال بيت ال ذي أص بح من ذ ذل ك التاري خ مملك ة أب ي ومملكتن ا ،تب دأ وتنته ي إلي ه الي ام ،والح داث تول د وتحتض ر في ه لحي ن تتحق ق أو تجه ض الحلم .والوه ام أي ًضا \".. نواعادة تشكيل البيت تذكرنا برواية \"سجن العمر\" لتوفيق الحكيم ،فقد قام الب بمجهودات حثيثة متتالية لجعله عصرياً بعض الشىء ،وسوف نلحظ هنا الميل للتعقيد ،حتى تجلى ذلك فى بنية الجملة نفسها وتدخلت الس ارد ف ى الحك ى تش به ت دخلت الب وحرص ه عل ى ت برير التجدي دات ،لك ن ه ذا ليمن ع تن امى الحك ى ودف ع الشريط السردى للمام ،رغم المقارنات المستمرة بما كان عليه البيت فى الزمن الماضى ،سنكتشف أن التعديلت ربما كانت نفعية بعض الشىء ،لكنها مقدمة للحديث عن عالم سيتشكل ويتبدل ،وسوف يحس ال اروى بعد ذلك بفداحة التغيي ارت : بع د الربعي ن مباش رة ش َمر أب ي ع ن س اعديه ليعي د تش كيل بي ت الج د ال ذي ص ار بيت ه .انهم ك ف ي تجديده وصياغته حسب الحاجات التي كانت تتغير بإيقاع متسارع مع تغير ظروف الحياة ومطالب المعيشة .. ك ان ق د أق ام الس لم )الخ اص( ف ي حج رة ال دجاج المكش وفة عل ى غي ر رض ا أم ه .فع زل نص ف ال دار الداخلي الذي كانت تسكنه عن مدخل البيت .وكان قبل موتها قد استكمل بناء الدور لثاني فبل ط الس طح أم ام المقع دين .وأح اطه بس ور م ن الط وب الحم ر والجب س .وك ان بدع ة ف ي حينه ا ..ث م ع اد وأض اف إل ى المقعدين القبليين المطلين على الحارة -وكانت بينهما ت ارسينة من زجاج وخشب -غرف تين بحري تين ببلكون ة
45 )ش كمة( أخ رى بع رض الص الة ال تي توس طها ب اب م ن أرب ع ض لف زجاجي ة بمفص لت ج اهزة حي ن يفت ح ف ي الصيف تصبح الشقة مصيفًا يرد الروح .. وسوف نرى اللحاح فى الحديث عن السلم بدللته الواضحة فالسلم رمز للمابين .إنه نقطة وسطية م ابين العل ى الس امى ،والنفت اح عل ى الع الم والن ور والشمس واش ارة للمستقبل ورم ز للص عود الجتم اعى لس رة برجوازي ة ريفي ة أه م مقتنياته ا \"الس ت علي ة\" أى الزوج ة الجدي دة الجميل ة المثقف ة الم دبرة ،وبي ن الس فل ال دنىء الخبيث حيث الكنيف والس ارر والظلم نواشارة للماضى العجوز المرتبط بالموت ل بالحياة: وبعد أن اكتمل الدور الثاني مّد السلم نصف الخشبي صاعًدا إلى السطح الجديد ،ثم أعي دت ص ياغته ليصبح كله سل ًما حجرًيا م ن درج ات م ؤطرة بالخش ب ومبلط ة ب البلط المل ون .وتح ول الكش ك الب وص ،ال ذي ك ان ف ي الماض ي مخزًن ا لخزي ن الس ت )أم س مير( ومكاًن ا لزي ار تنقي ة الم اء ومنا ًم ا لم بيت الخادم ة الس م ارء )التي جاء بها لتخدم الس ت وليغي ظ م ن احتج وا عل ى زواج ه منه ا( ،ص ار مطب ًخ ا واس ًعا يش رح القل ب بناف ذة بحرية .جرى بياضه كاملً بالجير من الداخل والخارج ،لكن بعضهم همس في أذنيه مشكًكا ف ي ق درة الج د ارن التي بن ى به ا ال بيت الق ديم عل ى التحم ل ،ص حيح أنه ا متين ة ومبين ة بذم ة أه ل زم ان ،لك ن الحي اة الجدي دة واس تعمال الم اء بإس ارف كم ا تع ودت )الس ت( ،وم د مج اري م ن الحم ام ف ي ال دور الث اني إل ى أس فل ،س وف يشكل خطًرا عل ى الج د ارن الخلفي ة ال تي بني ت به ا قاع ة )الس ارر( والف رن والحاص ل -كله ا ب الطوب اللب ن أو على القل بالطين المعرض للتآكل\". ويض طر الب إذن ،مقتنع ا أن ه ليمك ن لل بيت أن يص مد دون إج ارء تع ديل عل ى المك ان فيع ود ل ترميم الدور الول ،انه رمز لتقاليد قديمة ليمكن أن تفقد سطوتها أو هويتها مع القادمة الجديدة \"الزوجة الشابة\" وقد ظل الدور الول ممثلً للجدة والثانى ممثلً للزوجة وكأن ذلك إشارة لتوزع الب مابين أمه وزوجته وارتباكه بين سلطة الم أرتين ،ومحاولت تطوير البيت ليست على المستوى الرمزى سوى نوع من محاولة الوفاق بين عالم قديم وعالم جديد. \"ش َمر أبي عن ساعديه وقرر إعادة تدعيم جد ارن الدور الول لتتحمل حداثة الدور الثاني ،وق د ك ان ،وحسب أوامره للعمال ،الذين كانوا يعملون حسب إرشادته وتحت إش ارفه ،تم تكحيل كل الج د ارن م ن الرض للسقف بعد كشف كل الحجار .ورغم أري بع ض البن ائين ب أن )القص رمل( والطي ن س يطردان الس منت .إل أن ه أش رف عل ى مل المس افات ال تي عمق ت لقص ى درج ة بي ن الط وب وبعض ه -بالس منت ث م أع اد تمحي ر ك ل الجد ارن من الداخل والخارج )بمعلمة( ،ثم أعاد تبييضها بالجير الملون\". وبعد ذلك سوف نلمس الفارق بين البيت الول كمرتع للهناءة والطفولة وبين البيت الجديد .الحديث عن قدسية البيت هى على مستوى المجاز ل الواقع ،فقد انحاز ابن عبد الباقى لفكرة البيت المجازية ،والعلقة الس رية التى ينسجها المكان ،فرغم مشاعر الحزن يعترف بأن تعديلت والده كانت فى مصلحة السرة: \"ولك م حزن ت عن دما اختف ى الب اب الض خم ذو الت اج الحدي دي .وال ذي كن ا نزين ه ف ي ش م النس يم بأغص ان الصفص اف الخض ارء وجري د النخ ل والريح ان ،واس تبدل بالش باكين العملقي ن ش باكين أق ل حج ًم ا ، وبلطت الرض كلها -صارت المساحة على يمي ن ال داخل من درة واس عة تص لح لس تقبال الض يوف وص ار به ا
46 كنب بلدي بدلً من المصاطب وامتدت الصالة أمامه ا ،واس عة برح ة مض يئة عل ى عك س م ا ك انت أي ام الج دة، ي دعم س قفها قطوع ان يقس مانها قبي ل الكني ف ،ويحجب ان داخ ل ال دار ع ن أعي ن ال داخل ،لتنته ي بب اب م ن ضلفتين حديثتين ،يفتح على الحوش ال ذي ك ان نص ف مكش وف ،بع د أن أزيل ت العريش ة ال تي ك انت تغطي ه ليتدفق النور والهواء البحري حًار إلى عمق البيت . لكن فى النهاية يظل موقف الكاتب ملتبساً فل نعرف تحديدا -على القل حتى هذا الحد من الق ارءة- هل وق ف الك اتب مع أم ض د التجدي دات ،رغ م أنه ا لتخلو م ن فوائ د؟ ولع ل أه م م ايلفت نظرن ا هو التأك د عل ى مفهوم الحماية والدفء والخصوصية وذلك شىء ل يمكنه إنكاره . \"وبع د إ ازل ة الس لم الخش بي ،أص بح أم ام حج رة الف رن ح وش ك اف لتربي ة ال دجاج وال ارن ب ..وص ار للحاصل شباك بحري وأصبح بع د تجدي ده غرف ة ،بينم ا ص ار الكني ف )الكرس ي( محلً للدب أو )حم ام( .كم ا كانت )الست( تحب أن تطلق عليه ،واختفت إلى البد )جني ة( الكني ف المرعب ة ) (...وبع د اختفائه ا إل ى الب د أصبح البيت صال ًحا لستقبال غيري وغير أختي آمال \". رفع اليري ال القديم إلى سطح الدور الث اني فص ار اس تقبال ال اردي و أص فى وأوض ح ..وس ّور الس طح كل ه ب الطوب الحم ر والجب س .وص ارت هن اك إمكاني ة لص نع أكش اك ص غيرة لتربي ة الكت اكيت وللتمت ع بش مس الش تاء حي ن تش رق ..وبلي الي الص يف تح ت نج وم ص افية بعي ًدا ع ن أعي ن المتطفلي ن م ن ف وق س طح بي ت )الصياغ( وبيت )أبو سيد( القريبين. اكتمل البيت ..صار الدور الول مكاًنا يتيح الفرص ة لس تقبال الض يوف ،وأص دقائي دون ج رح س تر البيت ..بل صار على غير ما كنا نتوق ع أك ثر إغ ارء لم ي وأب ي لقض اء أي ام ولي الي الش تاء في ه ،لم ن يطل ب دفًئا توفره الجد ارن السميكة ،المبنية على الطريقة القديمة. والك اتب يع رف أن هن اك ثمن اً ،أو نوع اً م ن القرب ان يق دم ل روح ال بيت الجدي د ،وم ا ازل ه ذا حاض ارفى الفكر الشعبى الريفى ،رغم أنه ل يحدث عن طيب خاطر ،ولكن يقبله الريفى بنوع من التسليم والرضوخ للقدر، فالق اربين والضاحى ما ازلت فى لشعور الفكر النسانى بصفة عامة والريفى بصفة خاصة ،ولم يستطع الكاتب التخلى عن تلك الفكرة التى تسرى تحت جلده الريفى ،فقد جرى الفينيقيون على شرعة التضحية بالطفل البكر ،وقد كشفت الحفريات الثرية عظاماً للطفال تحت أساسات المنازل ،كما كشفت حفائر )كفر الجرة( الكنعانية عن صندوق يضم عظام أطفال تحت أساس عمود من سور كضحية تأسيس ،76إن موت الطفلين سامى وصفاء نوع من التعميد لينكره الكاتب: \"كان البيت قبل هذه التغي ارت وبعدها قد استقبل أخي )سامي( ال ذي س قط م ن ال دور الث الث ف ي بي ت خالي بالمنصورة وودعنا بعده أختي )صفاء( التي اختطفها الم وت فج أة بحم ى ل م تمهله ا .لق د ع َم دته الي ام بما يكفي من أح ازن\". وبعد سنوات السجن الخمس ،نرى البيت بعين أخرى ،عين البن العائد بعد تجربة السجن القاسية ،لكن الحديث عن تغي ارت البيت يأتى فى سياق تغي ارت أكبر تحدث فى القرية بصفة عامة وفى المجتمعات الريفية 76انظر)عبد الحميد ازيد :الشرق الخالد ص (302
47 عموماً ،لترسم نوعا حادا من القبح ،يقع فيه دائما أنصاف المتعلمين وأنصاف البنائين ،فالبيوت القديمة البدائية لها حميميتها وسحرها الذى اندثر تحت ركام السمنت ،واستخدام الكاتب مفردة \"الرمادى\" و \"الظلل\" خير تع بير عن ذلك ،فل الريف ظل كما هو بحالته البدائية التى كانت تفى بأغ ارض واحتياجات الفرد ،ولم يتطور بشكل عصرى مدروس: كان الرمادي ثقيلً ممتًدا حتى أنفي ،حاملً ارئحة ت ارب التلول المالح الذي ل م يع د يل وح لعين ي ،ثم ة ظلل أك ثر كثاف ة تحي ط ب ي ،وترس م م ا يش به بقاي ا قري ة مص رية تح اول الخ روج م ن أس ر الط وب اللب ن والسقوف المحملة بالقش الرطب وجد ارن الخ ازين البوص المطلية ب الطين الم دهوك والحظ ائر القديم ة الحميم ة حيث يتشارك فيها البشر والماشية والدواجن . قري ة تح اول النفلت إل ى ع الم البن اء ب الطوب الحم ر والس منت وال بيوت العالي ة والمج اري الطافح ة وأك وام الزبالة الحديثة المفعمة بزناخة ارئحة البلستيك المحروق .. حولي كانت مساحات مربعة ومستديرة وكتل ضخمة ح ادة الخط وط غامض ة تتجس د ص ادمة ص امتة تتن اثر ف ي تح د لتش كل إط اًار ثقيلً م ن س واد ،خلله ا وبينه ا تل وح بق ع مض يئة ترس ل مجه دة أش عة ص ف ارء باهت ة م ن مص ابيح ج از أو فتائ ل س واريخ مرتعش ة تح دد بص عوبة ح دود أك وام الق ش والحط ب ف وق الس طح وح ول الجدران. والح ق أن الوص ف يك اد ي ذكرنا ببك اء ش ع ارء الجاهلي ة ووق وفهم عل ى الطلل فل مك ا َن ف ي الحي اِة، ، أجم فل وأبهى من المكان الذي ولد فيه وترعرع ،وتفيأَ ظللَه وارتوى من مائِِه ،فالمكا فن هو تذ لكر ل َم ارتِع ال فصبا، و َضحكا ِت الطلففولِة ،وهو جزء من ِكيانه ،فمهما ابتعد عنه ،وشطت به الدافر ،فل بد أن تبقى أطل فل قريته في ثنايا فم َخجيلتِه. لكن علينا أن نحسن الظن بالكاتب فى الفقرة التالية ،فقد أقحم الكاتب مفردات ،ل أستريح لها شخصياً، لنها ترتبط بشعائر دينية ،وتكاد تكون نوعاً من عدم استساغة أو تدنيس للمقدس ،إل إننا قد نلتمس له العذر ونقول ربم ا قص د الك اتب بتل ك الس تعا ارت الش ارة لنتش ار تي ار التأس لم كمج رد طق وس دون الل ت ازم بس لوكيات ال دين القويم ،فلحظ ة آذان الفج ر نك اد نحس ها ثقيل ة كئيب ة عل ى نف س ال اروى .إن ال زج به ا ف ى ه ذا الس ياق غي ر موفق من الكاتب ،وتظهر كنتوء فى النص ،فالمفردات جميعها االتى استخدمها الكاتب ذات دللت سلبية دون م برر حقيق ى ،فل و ألم ح الك اتب أن ص وت الميكروف ون المرتف ع ق د ص ار ب ديلً ع ن ص وت الم ؤذن بانس انيته الخاشعة هو السبب فى نفوره للتمسنا له العذر. لكننى أؤكد أننى ل أحاسب نوايا الكاتب ،ول أقيم محكمة تفتيش ،وأرجح ذلك لعدم توفيق الكاتب ،ل أكثر ول أقل .فقد تناول \"رفعت السعيد\" فى مذك ارته المعنونة \"مجرد ذكريات\" موقفا مشابها ،وهو صوت المؤذن فى الميكروفون عند صلة الفجر ولم يكن قد اعتاد ذلك لكنه تناوله وهو غير روائى بصورة أكثر تحفظاً وتبري اًر وأرجع ذلك لنفوره من الصوت المعدنى:
48 \"ثم ة همهم ات ديني ة غامض ة غط ت عل ى ص يحات ال ديوك الخي رة تختل ط ف ي الم دى الكال ح بص وت مياه مندفعة من صنابير مجهولة على أرض صلبة ،وبأصوات استنشاق ومضمضة وتك بي ارت وتعوي ذات متبتل ة تمتزج بآهات لذة غامضة تشد أذني إلى أكثر المناطق سواًدا\". وفى هذا السياق النفسى يحق للبطل العائد من السجن بعد خمس سنوات كاملة بحثاً عن عالم قديم مس تقر أن يش عر بع دم ال ارح ة أو عل ى الق ل بالرتب اك ،وعلين ا أل ننس ى أن الب ه و رم ز لعب د الناص ر حي ث تختلط فى أعماق البطل صورة مافعله عبد الناصر بالوطن بما فعله الب بالبيت وفى هذا السياق يمكننا الق ارءة بشكل مختلف فمشاهد اللم والمعاناة لتنفصل عن اد اركه للبيت الجديد : \"أحسست بحيرة من ل يس تطيع التأك د أن الم ر اختل ف إل ى ه ذه الدرج ة وك أن الخم س س نوات ال تي غبتها في السجن كانت أربعين تحاول محو تفاصيل كثيرة متداخلة غائمة تتضح قليلً حين تشق الصدر ارئح ة دخان قمائن الطوب المحروق .تلتهب باحت ارق أعود القطن الجافة المحملة بعذارى دودة القطن وع رق البن ات والولد ودماء أصابعهم التي نهشتها إبر )الوشبر( الحادة الثلثية الط ارف للوز القطن الجاف . استندت إلى سور الشرفة الضيقة المطلية بالجير والملح المل ون وال تي حل ت مح ل الت ارس ينة القديم ة ف ي بيتن ا الخمس يني ال تي ك انت تط ل عل ى الخلفي ة البحري ة لبيتن ا ،فه الني م دى م ا ص نع أب ي وم ا ج رى ب ه الزمان على بيتنا خلل تلك السنوات الخم س ال تي غبته ا ف ي الس جن لع ود بع دها ل بيت جدي د دفن ت في ه م ع القديم كل الذكريات التي غمرت في السجن قلبي وعقلي تقاوم النسيان والموت \". وقد رصدنا استعادة الكاتب م ار اًر وتك ار اًر لتغي ارت البيت ،والحق أنها قد تصيب القارىء بالملل ،لول أن الوص ف ب أتى ك ل م رة وق د حم ل ب دللت قوي ة مغ ايرة تجعلن ا نغف ر ذل ك للك اتب ،فالح ديث ع ن المن درة يجرن ا لطقوس مصرية ريفية بتفاصيلها التى لتخلو من متعة ،الحديث عن المندرة هذه المرة ،يجرنا لحديث آخر \"اختفت )المندرة( التي ك انت تش كل واجه ة ال بيت بش باكيها الع اليين ال ذين يجاورهم ا الب اب الت اريخي المنح وت ال ارس خ ذي الت اج الحدي دي ال ذي يص نع حدي دة نص ف ش مس تش كل مروح ة أس طورية م ن نج وم وأقواس وعصافير وتهاويل ودوائر تمكننا أن نزرعه بأغصان الصفصاف وجريد النخل الخضر ،وأحياًنا بزه ور عب اد ش مس احتف الً بق دوم ش م النس يم .وك ان ب تركيبه وعل وه الف ذ والفن ي يس اعدنا عل ى حم ايته م ن غ ا ارت أطفال الحواري الخرى ،حيث يشتد الص ارع م ن )أربع اء أي وب( ح تى )س بت الن ور( بي ن الح واري عل ى إش عال الني ارن أمام أبواب البيوت .بعد تزيين قممها بالخضرة لتدور معارك ص بيانية لحماي ة م ا يخص نا والغ ارة عل ى ما يخص الحواري الخرى ،ف ي تن افس ل يول د حق ًدا ولك ن يص نع بهج ة إذا انتص رنا وبعزقن ا ني ارنه م وأس قطنا زينة أبوابهم ،ويخلف حسرة إن نجحوا في بعزقة لواطفاء ني ارننا وزينتنا . ف إذا م ا أت ي )س بت الن ور( وف ات ،كف ت ح رب الني ارن المرح ة ه ذه ال تي يتف اخر ويتب اهى م ن ظل ت ني ارنه م مش تعلة إل ى النهاي ة أو م ن بقي ت بس اتين خض رتهم حي ة ف وق هام ات أب وابهم ..ت دور ف رق م ن المنتص رين والمغل وبين م ًع ا لتفق د نتائ ج الح رب المرح ة والتعلي ق الس اخر .والك ل يحض ر البص ل الخض ر لص باح )ش م النسيم( سنلقي به مبكًرا إلى البحر )الترعة أو البحر الصغير( ونحن نغطس معه ليزيح الماء البكر خمول ع ام مضى عن أجسادنا ..كما أحرقت الني ارن السابقة الب ارغيت في بيوتنا لعام قادم \"..
49 والتغيي ارت بعد عودة البطل من السجن تبدو أكثر قسوة من ذى قبل ،ربما لنضج البطل ،وربما لنه يفتقد ذلك الركن ال ارسخ من شخصيته ،فالبطل يصب جام غضبه على تغيي ارت البيت ،لكن السبب الحقيقى هو تغي ارت القرية نفسها والمجتمع: \"ل م يع د ذل ك الب اب الجمي ل موج وًدا ..وترقرق ت ف ي عين ي دم وع حقيقي ة عن دما س ألتني س اخًار ع ن إص ارر أبي الدائم على إعادة صياغته : -إيه الل عمله أبوك في بيتكم يا وله وانت غايب ! \" عل ى أن تغيي ارت ال بيت يمك ن تفس يرها بش ىء آخ ر غي ر انع دام الح س الجم الى للب ،وادخ اله تل ك التع ديلت القبيحة -من وجهة نظر ال اروى -على أنها محاولة الب ،ف البيت رمز لوجود السرة ،التحاي ل على الزمن والواقع لستم ارر وجود تلك السرة رغم نوائب الدهر كان خيال أبي في أمور البيت حاضًار نش ًطا ..عدل وغير فيه منذ ك ان بيتًا عادًي ا ج د ارنه م ن الط وب الَن ّي - جد ارنه سميكة يتكون من نفس تلك )المندرة( ذات الشباكين وأمامها الحوش الممتد حتى الحائط البح ري لغرف ة الفرن وغرفة الدواجن وال ارنب . والح ديث ع ن البيت يجرن ا للسباب الحقيقي ة للتغيي ر فالزوج ة/الم ه ى الس بب ف ى ذل ك ،فالمك ان تهي أ لستقبال الم ،والم بدورها أثرت فى شكل البيت: \"وعندما تزوج أبي بن ى لنفس ه ش قة كامل ة ب الطوب الحم ر والجب س مكون ة ف ي البداي ة م ن حجرتي ن وصالة ،ولها تلك البلكون ة البحري ة لتس تقبل بن ت المعل م )يوس ف النج ار( أقص د يوس ف الخميس ي البندري ة ، وهيأ لها مع السطوح الممتد أمام الشقة سكًنا يليق بها ويحقق شروط أبيها للرضا به كابن فلحين رغم تعليمه وأفنديته !\" ورغم أن سمير عبد الباقى يسارى الهوى والعقيدة ،لكن تأكيده على جهود ومحاولت الب تحقيق نوع من التمايز الجتماعى ليصبح جزءا من البرجوازية الريفية ،واص ارره على ذلك ،قد يجعلنا نتحول إلى إدانة الكاتب نفسه ل إدانة الب ،فالكاتب يحتفى بذلك التمايز الطبقى الذى طالما استنكره اليسار المصرى: \"وما أن ولد له الطفل الول بعد البن ت البكري ة ح تى ش مر ع ن س اعديه .وك م ك ان يعش ق أن يعم ل بيديه قبل مخه حتى مع من يستجلبهم للبناء من المتخصصين واس تطاع أن ي دحض حججه م ويقنعه م بإع ادة ص ياغة ال دور الول )ال بيت الق ديم( بتكيح ل ج د ارنه إل ى أبع د م دى بالس منت وتمحي ره م ن ال داخل والخ ارج ليتحم ل البن اء ف وقه وليمكن ه م ن اس تقبال نظ م المي اه الحديث ة ..ح تى أن ه أع اد ص ياغة الكني ف المرع ب )الكرس ي( ..وص ارت المن درة كالعروس ة بع د أن طدهن ت محارته ا ب الزيت .وك ان ه ذا جدي ًدا عل ى )مي ت سلسيل( ..وزين السقف بوردة ضخمة من الجبس المصبوب تتدلى من وس طه تما ًم ا -وس ط المن درة -تل ك اللمب ة ذات الش ريط الس طواني والزجاج ة الطويل ة ذات الك رش ..ال تي تهب ط بسلس لة حديدي ة دقيق ة لتعم ر بالجاز وتطغسل زجاجتها ثم ترفع مرة أخرى مضيئة مبهرة تجعل من لي ل المن درة نه اًار س اط ًعا يس تقبل )باب ا عب د
50 الباقي( فيها أصدقاءه من المدرسين والموظفين والعيان في مك ان لئ ق ل يوج د مثل ه إل ف ي قلي ل م ن بي وت القرية كلها .. نواذا اعتبرن ا الب رم از للبطريركية التى ك انت تهيم ن بصورة خانقة عل ى المجتم ع ،فمش اعره نحو تلك البطريركية التى كان يعتلى قمتها النظام الناصرى نوان كانت ل تخلو من حب ،إل أننا نجده يقف مناوئاً لسلطة الب وق ار ارته ،فالب مثل ناصر تورط فى ق ار ارت لم تكن فى صالح المنزل .كانت ق ار ارت منفردة قد تصيب وقد تخطىء ،وكما أشرنا من قبل فصورة الب هنا لتنفصل عن صورة عبد الناصر ،لو اعتبرنا أن البيت رم اًز أكثر رحابة وانفتاحا من مجرد مكان السكن ،إنه الوطن نفسه \"ولم يكف أبي عن التغيي ر والتع ديل ف ي ال بيت .ك انت الفك ار تف اجئه فيعي د التع ديل والتغيي ر .ولم ا انتزع جزء من المندرة ليخلي مساحة للسلم النازل إلى المدخل الشرقي الخ اص ب الدوار العلي ا ببن اء ج دار ق ال أنه سيساهم في تحمل ما سيجد فوقه من حمول .لم تعد تلك اللمبة القمرية تتوس ط المن درة ،ب ل أزيح ت إل ى الطرف الشرقي ولكن أحًدا لم يلحظ ذلك ولم يؤثر هذا على مركزها كأهم مك ان ف ي ال بيت ال ذي ص ار إل ى أدوار ثلثة مع اليام\". ولنق أر بس وء ظ ن م افعله الب ،يك اد يك ون موق ف الك اتب من ه ه و نف س موق ف الش يوعيين م ن عب د الناصر وق ار ارته ،كان عبد الناصر يحقق الحلم اليسارى ،ومع ذلك كانت هناك مشاكل فى تطبيق الحلم ،وق ار ارته الش ت اركية مث ل الت أميم ال تى سيعارض ها س مير عب د الب اقى ف ى \"زم ن الزن ازين\" ستس لم الش ركات والمص انع لم ن يكرهون الجماهير ،وسيكون للقطاع العام \" مستقبل أسود\" ويكاد يكون موقف سمير عبد الباقى من سلطة الب عبد الباقى/عبد الناصر واحد \"لكن أبي شمر عن ساعديه بعد أن تح ول الح وش إل ى من درة .أق ام الج دار بع د الب اب الك بير ليغل ق الحوش ويبلط أرضه والمساحة التي أمامه .ليبدأ للمندرة تاريخ آخر ،كنت فيه الفتى الول ..وكان ل ه ت أثير كبير على مجريات حياتى بعد الحرب ) (...مما جعل للمن درة ه ذا الوج ود ال ذى خل ف غي ابه ل ى ألم ا ك بي ار ... فهى لم تكن مجرد مكان بل كانت حياة كاملة ممتدة مليئة بالحلم والرؤى والحداث والمشاعر ...لدرجة اننى بعد عودتى كرهت ه ذا ال بيت ال ذى أريت ه ق د تق زم ...م ع ان ه أقي م عل ى نف س المس احة ولك ن ف رق ك بير بي ن مك ان -أي مك ان -وبي ن مك ان ازخ ر بك ل ه ذه المش اعر والح داث ال تي ل يمك ن أن أك ف ع ن التفكي ر فيه ا واستعادتها\". والحديث بتلك النوستالجيا عن البيت يعتمد فى الساس على فنية الكاتب وب ارعته ،الحديث عن أهمية ومركزي ة ال بيت ي ت ارجع أم ام الواق ع ،فبع د ك ل ذل ك الح ديث \" الفن ى\" كم ا يق ول الك اتب ،نج د عل ى مس توى الواق ع اختلفا فى الموقف 180درجة كاملة ،فلنق أر اعت ارف الكاتب بعد ذلك \"فزعت حي ن ض بطت نفس ى متلبس ا )بالك ذب الفن ى( إذ غمرن ى للحظ ة ش عور س عيد م ن ال ارح ة حي ن ه اتفنى أخ ى الص غر)دكتور هش ام( يخ برنى أن هن اك مش ترى تق دم لش ارء بيتن ا )بي ت ج دى( بي ت التاري خ والسيرة ،بسعر معقول !!\"
Search
Read the Text Version
- 1
- 2
- 3
- 4
- 5
- 6
- 7
- 8
- 9
- 10
- 11
- 12
- 13
- 14
- 15
- 16
- 17
- 18
- 19
- 20
- 21
- 22
- 23
- 24
- 25
- 26
- 27
- 28
- 29
- 30
- 31
- 32
- 33
- 34
- 35
- 36
- 37
- 38
- 39
- 40
- 41
- 42
- 43
- 44
- 45
- 46
- 47
- 48
- 49
- 50
- 51
- 52
- 53
- 54
- 55
- 56
- 57
- 58
- 59
- 60
- 61
- 62
- 63
- 64
- 65
- 66
- 67
- 68
- 69
- 70
- 71
- 72
- 73
- 74
- 75
- 76
- 77
- 78
- 79
- 80
- 81
- 82
- 83
- 84
- 85
- 86
- 87
- 88
- 89
- 90
- 91
- 92
- 93
- 94
- 95
- 96
- 97
- 98
- 99
- 100
- 101
- 102
- 103
- 104
- 105
- 106
- 107
- 108
- 109
- 110
- 111
- 112
- 113
- 114
- 115
- 116
- 117
- 118
- 119
- 120
- 121
- 122
- 123
- 124
- 125
- 126
- 127
- 128
- 129
- 130
- 131
- 132
- 133
- 134
- 135
- 136
- 137
- 138
- 139
- 140
- 141
- 142
- 143
- 144
- 145
- 146
- 147
- 148
- 149
- 150
- 151
- 152
- 153
- 154
- 155
- 156
- 157
- 158
- 159
- 160
- 161
- 162
- 163
- 164
- 165
- 166
- 167
- 168
- 169
- 170
- 171
- 172
- 173
- 174
- 175