Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore منهج أهل الإيمان للعصمة من فتن آخر الزمان - الدكتور خالد الياسين

منهج أهل الإيمان للعصمة من فتن آخر الزمان - الدكتور خالد الياسين

Published by ialamareen, 2021-08-25 09:12:17

Description: منهج أهل الإيمان للعصمة من فتن آخر الزمان - الدكتور خالد الياسين

Search

Read the Text Version

‫عـن أبـي هريـرة ‪ ‬أن النبـي ﷺ قـال‪« :‬ويـل للعـرب مـن شـر قـد اقتـرب‪،‬‬ ‫أفلـح مـن كـ َّف يـ َده»(‪.)1‬‬ ‫عـن أبـي هريـرة ‪ ‬عـن النبـي ﷺ قـال‪« :‬أسـعد النـاس فـي الفتـن كل خفـي‬ ‫نقـي‪ ،‬إن ظهـر لـم يعـرف‪ ،‬وإن غـاب لـم يفتقـد‪ ،‬وأشـقى النـاس فيهـا كل خطيـب‬ ‫مصقـع‪ ،‬أو راكـب موضـع‪ ،‬لا يخلـص مـن شـرها إلا مـن أخلـص الدعـاء كدعـاء‬ ‫الغـرق فـي البحـر»(‪.)2‬‬ ‫(‪ )1‬أخرجه أبو داود في كتاب الفتن‪ ،‬باب ذكر الفتن ودلائلها‪ ،156/4:‬رقم (‪ ،)4251‬والحاكم في‬ ‫المستدرك‪ ،486/4:‬رقم (‪ )8357‬وقال الحاكم‪\" :‬هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه\"‪،‬‬ ‫ووافقه الذهبي‪ .‬قال ابن وهب‪ :‬قال مالك‪ :‬كان أبو هريرة ‪ ‬يلقى الرجل فيقول له‪ :‬مت إن استطعت‪،‬‬ ‫فيقول‪ :‬لم؟ فيقول‪ :‬مت وأنت تعرف على ما تموت خير من أن تموت وأنت لا تعرف على ما تموت عليه‪.‬‬ ‫انظر‪ :‬التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة‪ ،‬للقرطبي‪ :‬ص‪.1141‬‬ ‫(‪ )2‬أخرجه نعيم بن حماد في الفتن‪ ،255/1:‬رقم (‪ ،)720‬وهو ضعيف كما قال المتقي الهندي في كنز‬ ‫العمال‪ ،144/11:‬رقم (‪ ،)30964‬يقول فضيلة الدكتور بديع السيد اللحام حفظه الله‪ :‬هذا الحديث‬ ‫يتضمن جزء ًا من التوجيه النبوي لأفراد أمته عند وقوع الفتن‪ ،‬و َم ِن السعيد في الفتنة إذا وقعت ومن‬ ‫الشقي؟ فالسعيد في أيام الفتن الذي يشتغل بشأن نفسه ويترك ما عليه عامة الناس‪ ،‬وهو ما عبَّ عنه‬ ‫الحديث بـ‪« :‬الخفي النقي الذي إن ظهر لم ُيعرف وإن غاب لم ُيسأل عنه»‪ ،‬وهذا معنى قوله ﷺ في‬ ‫الحديث الآخر‪« :‬أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك ودع عنك أمر العامة»‪ ،‬هذا خير الناس‪ .‬وأما شر‬ ‫الناس فهو الذي يخوض في الفتن بنفسه أو لسانه ‪ ،‬فعبر عن الخوض في الفتن بالنفس بقوله‪( :‬الراكب‬ ‫ال ُمو ِضع) أي‪ :‬المسرع‪ ،‬ومعنى (الخطيب المصقع) فهو الخطيب البليغ الماهر في خطبته‪ ،‬الذي ُي ِّرض الناس‬ ‫على المشاركة في الفتن ويدعوهم إلى الخوض فيها‪ ،‬والمصقع من الصقع وهو رفع الصوت ومتابعته ‪.‬وأما‬ ‫قوله ﷺ‪« :‬لا يخلص من شرها إلا من أخلص الدعاء كدعاء الغرق في البحر»؛ فكأن المراد أن يدعو‬ ‫مخلص ًا‬ ‫[الآية‪/‬الأنبياء]‪،‬‬ ‫‪﴾٨٧‬‬ ‫ٱل َّظٰلِ ِمي َن‬ ‫ِم َن‬ ‫ُكن ُت‬ ‫ّ‬ ‫ُس ۡب َحٰ َن َك‬ ‫أَن َت‬ ‫َّ ٓ‬ ‫إِ َلٰ َه‬ ‫﴿ َّلٓ‬ ‫‪:‬‬ ‫يونس‬ ‫سيدنا‬ ‫بدعاء‬ ‫إِ ِن‬ ‫إِل‬ ‫بدعائه إخلاص المضطر الذي يعلم أن لا ينجيه مما هو فيه إلا رب العالمين‪.‬‬ ‫‪99‬‬

‫الحرص على تجنب الفتن‪:‬‬ ‫إن التحذيـر مـن الشـر مـن أعظـم أبـواب الخيـر‪ ،‬قـال حذيفـة بـن اليمـان ‪:‬‬ ‫«كان النـاس يسـألون رسـول الله ﷺ عـن الخيـر‪ ،‬وكنـت أسـأله عـن الشـر‪ ،‬مخافة‬ ‫أن يدركني»(‪.)1‬‬ ‫عرف ُت الش َّر لا للش ِّر لك ْن لتوقِّيه‬ ‫ومن لا يعرف الش َّر من الخير يق ْع فيه‬ ‫فـكان حذيفـة ‪ ‬لا يقنـع أن يشـارك إخوتـه من الصحابة ‪ ‬سـؤالَهم رسـو َل‬ ‫الله ﷺ عـن مكمـات الخيـر الـذي هـم فيـه‪ ،‬ومـا أن يشـاركهم فرحهـم بالخيـر‬ ‫حتـى تلـذع ابتسـامةَ قلبِـه تخوفـا ٌت مـن احتمـالات َشـ ِّر مبهـم يـراه ُمقبِـ ًا‪ ،‬يجهـل‬ ‫صفتـه وعلامتـه‪ ،‬فيظـل قلقـاً وجـاً‪ ،‬حتـى ينعتـه لـه رسـول الله ﷺ ويذكـر لـه‬ ‫بـواد َره ومقدماتـه‪ ،‬التـي سـتنبهه يومـاً مـا إلـى الاحتيـاط‪ ،‬ورفـع صوتـه بـأذان‬ ‫التحذيـر‪.‬‬ ‫كان ‪ ‬يريـد علمـاً يك ِّمـل علـم الخيـر‪ ،‬فصـار يحـرص علـى أن يخلو برسـول‬ ‫الله ﷺ يسـأله‪ ،‬فأتقـن علـم الشـر بهـذا الحـرص‪ ،‬وأحـاط ُخبـراً بمـا سـيكون مـن‬ ‫فتـن وسـوء ونفـاق‪ ،‬حتـى احتـاج إلـى علمـه كبـا ُر الصحابـة ‪ ،‬وط ِفـق مثـ ُل‬ ‫عمـ َر ‪ ‬يسـألُه ويستشـي ُره‪.‬‬ ‫(‪ )1‬أخرجه البخاري في كتاب الفتن‪ ،‬باب كيف الأمر إذا لم تكن جماعة‪ ،51/9:‬رقم (‪ ،)7084‬ومسلم‬ ‫في كتاب الإمارة‪ ،‬باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن‪ ،1475/3:‬رقم (‪.)1847‬‬ ‫‪100‬‬

‫مواقف العلماء أيام الفتن‪:‬‬ ‫العلمــاء والعقــاء والمصلحــون هــم الحصــن الحصيــن للإنســان أيــام‬ ‫الفتـن‪ ،‬وهـم الكهـف المنيـع الـذي يـأوي إليـه كل مـن أراد العصمـة مـن الفتـن‬ ‫وضرامهــا‪ ،‬وذلــك لمــا حباهــم الله تعالــى مــن نــور العلــم الشــريف‪ ،‬والعقــل‬ ‫الرشـيد‪ ،‬والحكمـة البالغـة‪ ،‬حيـث ينظـرون فـي العواقـب والمـآلات‪ ،‬ويقـدرون‬ ‫المصالــح والمفاســد‪ ،‬فيقدمــون درء المفاســد علــى جلــب المصالــح‪.‬‬ ‫مــن هنــا كانــت مواقــف العلمــاء والعقــاء وأقوالهــم وأفعالهــم كالجبــال‬ ‫الراسـيات التـي تثبـت الأمـة أن تميـد بهـا عواصـف الفتـن والمحـن‪ ،‬وكالمرسـاة‬ ‫لســفينة الأمــة التــي رســت علــى شــاطئ الأمــن والأمــان‪ ،‬إذا مــا هبــت عليهــا‬ ‫ريـاح الهـرج والمـرج‪.‬‬ ‫* ال ِحلْم والرفق لا العجلة والطيش‪:‬‬ ‫مـن أعظـم الصفـات التـي تميـز العالـم العاقـل مـن الجاهـل الأحمـق صفـةُ‬ ‫الحلـم والأنـاة‪ ،‬فـا يعجـل ولا يطيـش‪ ،‬ولا يتسـرع ولا يتهـور‪ ،‬بـل يصبـر ويتأنى‪،‬‬ ‫لذلـك جـاء فـي الحديـث عـن أنـس بـن مالـك ‪ ‬قـال‪ :‬قـال رسـول الله ﷺ‪:‬‬ ‫«التَّأنـي مـن الله‪َ ،‬وال َع َجلـةُ مـن ال َّشـيطان‪ ،‬ومـا أحـ ٌد أكثـر معاذيـر مـن الله‪ ،‬ومـا‬ ‫مـن شـي ٍء أحـ ُّب إِلـى الله مـن الحمـد»(‪.)1‬‬ ‫وال َع َجلـة‪ :‬فعـل الشـيء قبـل وقتـه اللائـق بـه‪ ،‬وكانـت العـرب تَ ْكنـي العجلـة‬ ‫أ َمّ الندامـات(‪.)2‬‬ ‫(‪ )1‬أخرجه الحارث في مسنده‪ ،828/2:‬رقم (‪ ،)868‬وأبو يعلى الموصلي في مسنده‪ ،247/7:‬رقم (‪،)4256‬‬ ‫والخرائطي في مكارم الأخلاق‪ :‬ص‪ ،228‬رقم (‪ ،)686‬والبيهقي في السنن الكبرى‪ ،178/10:‬رقم‬ ‫(‪ ،)20270‬وفي شعب الإيمان له‪ ،211/6:‬رقم (‪ ،)4058‬قال الهيثمي في مجمع الزوائد‪:19/8:‬‬ ‫\"رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح\"‪ ،‬وللحديث شاهد من حديث سهل بن سعد ‪ ،‬أخرجه‬ ‫الترمذي‪ ،367/4:‬رقم (‪ )2012‬قال رسول الله ﷺ‪« :‬الأناة من الله والعجلة من الشيطان»‪ ،‬قال‬ ‫الترمذي‪\" :‬هذا حديث غريب\"‪.‬‬ ‫(‪ )2‬انظر روضة العقلاء‪ ،‬لابن حبان‪ :‬ص ‪.288‬‬ ‫‪101‬‬

‫وقـال حبيـب بـن حجـر القيسـي رحمـه الله‪« :‬كان يقـال‪ :‬مـا أحسـن الإيمـان‬ ‫يزينـه العلـم‪ ،‬ومـا أحسـن العلـم يزينـه العمـل‪ ،‬ومـا أحسـن العمـل يزينـه الرفـق‪،‬‬ ‫ومـا أضيـف شـيء إلـى شـيء أزيـن مـن حلـم إلـى علـم»(‪.)1‬‬ ‫وقــال أكثــم بــن صيفــي رحمــه الله‪ِ « :‬دعامــة العقــل ال ِحلــم‪ ،‬و ِج َمــاع الأمــر‬ ‫الصبــر‪ ،‬وخيــر الأمــور العفــو»(‪.)2‬‬ ‫وقـال سـيدنا علـ ٌّي بـن أبـي طالـب ‪« :‬إن أو َل مـا َعـ َّو َض الحليـ َم ِمـن ِحلمـه‬ ‫أن النـا َس كلَّهـم أعوانُـه على الجاهـل»(‪.)3‬‬ ‫وكتـب عمـرو بـن العـاص إلـى معاويـة ‪ ‬فـي الأنـاة‪ ،‬فكتـب إليـه معاوية‬ ‫‪« :‬أمـا بعـد‪ ..‬فـإن التفهـم فـي الخيـر زيـادة ورشـد‪ ،‬وإن الرشـيد مـن رشـد‬ ‫عـن العجلـة‪ ،‬وإن الخائـب مـن خـاب عـن الأنـاة‪ ،‬وإن المتثبـت مصيـب‪ ،‬أو‬ ‫كاد أن يكـون مصيبـاً‪ ،‬وإن ال َع ِجـ َل مخطـئٌ‪ ،‬أو كاد أن يكـون مخطئـاً‪ ،‬وإنـه مـن‬ ‫لا ينفعـه الرفـق يضـره الخـرق ومـن لا تنفعـه التجـارب لا يـدرك المعالـي‪،‬‬ ‫ولـن يبلـغ الرجـل مبلـغ الـرأي حتـى يغلـب حلمـه جهلـه وشـهوته‪ ،‬ولا يبلـغ‬ ‫ذلـك إلا بقـوة الحلـم»(‪.)4‬‬ ‫(‪ )1‬أخرجه الحارث في مسنده‪ ،828/2:‬رقم (‪ ،)868‬وأبو يعلى الموصلي في مسنده‪ ،247/7:‬رقم‬ ‫(‪ ،)4256‬أخرجه عبد الله بن المبارك في الزهد والرقائق‪ ،470/1:‬وابن أبي شيبة في مصنفه‪،238/5:‬‬ ‫رقم (‪ )25624‬عن سليمان بن موسى‪ ،‬والدارمي عن عطاء بن أبي رباح في باب صيانة العلم‪،470/1:‬‬ ‫رقم (‪ ،)596‬وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله‪ ،504/1:‬رقم (‪ )805‬عن معاذ بن جبل ‪‬‬ ‫قال‪ :‬قال رسول الله ﷺ‪« :‬ما أنزل الله شيئا أقل من اليقين‪ ،‬ولا قسم بين الناس شيئا أقل من الحلم‪،‬‬ ‫وما أووي شيء إلى شيء أزين من حلم إلى علم»‪.‬‬ ‫(‪ )2‬أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب الحلم‪ :‬ص‪ ،29‬رقم (‪.)16‬‬ ‫(‪ )3‬أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب الحلم‪ :‬ص‪ ،27‬رقم (‪.)12‬‬ ‫(‪ )4‬أخرجه معمر بن راشد في جامعه باب الاستخارة‪ ،165/11:‬رقم (‪ ،)20214‬وابن أبي الدنيا في‬ ‫كتاب الحلم‪ :‬ص‪ ،27‬رقم (‪.)13‬‬ ‫‪102‬‬

‫وسـأل معاويـة ‪ ‬عمـ َرو بـ َن الأهتـم‪ :‬أ ُّي الرجـال أشـجع؟ قـال‪« :‬مـن َردَّ جهلَه‬ ‫ب ِحلْ ِمـه\"‪ ،‬قـال‪ :‬فـأي الرجـال أسـخى؟ قـال‪\" :‬مـن بـذل دنيـاه لصالح دينـه»(‪.)1‬‬ ‫وقـال ُم َطـ ِّرف بـن عبـد الله بـن الشـخير ‪« :‬أتـى علـى النـا ِس زمـا ٌن خي ُرهـم فـي‬ ‫دينهـم المتسـارع‪ ،‬وسـيأتي علـى النـاس زمـان خيرهـم فـي دينهـم المتأنِّـي»‪ .‬وف َّسـره‬ ‫علـي بـن َعثَّـام رحمـه الله بقولـه‪« :‬كانـوا مـع رسـول الله ﷺ وأصحابـه إذا أُمـروا بالشـيء‬ ‫تسـارعوا إليـه‪ ،‬وأمَّـا اليـو َم فينبغـي للمؤمـن أن يتبيـن‪ ،‬فـا يُقـدم إلا علـى مـا يعـرف»(‪.)2‬‬ ‫وقــال عبــد الله بــن مســعود ‪« :‬إنهــا ســتكون َهنَــا ٌت‪ ،‬وأمــو ٌر مشــتبهات‪،‬‬ ‫فعليـك بالتـؤدة‪ ،‬فتكـون تابعـاً فـي الخيـ ِر‪ ،‬خيـ ٌر مـن أن تكـون رأسـاً فـي الشـر»(‪.)3‬‬ ‫وعـن حذيفـة بـن اليمـان ‪ ‬قـال‪« :‬إياكـم والفتـ َن لا يشـخص إليهـا أحـد؛ فـو‬ ‫الله‪ ،‬مـا شـخص فيهـا أحـد‪ ،‬إلا نسـفته‪ ،‬كمـا ينسـف السـي ُل ال ّد َمـن؛ إنهـا مُ َشـبَّ َهةً‬ ‫مقبلـةً‪ ،‬حتـى يقـو َل الجاهـ ُل‪ :‬هـذه تُ َشـبَّه؛ وتبيَّـ ُن مدبـرةً؛ فـإذا رأيتموهـا‪ :‬فاجثمـوا‬ ‫فـي بيوتكـم‪ ،‬وك ِّسـروا سـيوفكم‪ ،‬وقطعـوا أوتاركـم»(‪.)4‬‬ ‫قـال أبـو حاتـم مح َّمـد بـن حبـان البسـتي رحمـه الله‪« :‬إن العاجـل لا يَـكاد يُل َحق؛‬ ‫كمـا أن الرافـق لا يـكاد يُ ْسـبَق‪ ،‬والسـاكت لا يـكاد ينـدم‪ ،‬ومـن نطـق لا يـكاد يسـلم‪،‬‬ ‫وإن ال َع ِجـل يقـول قبـل أن يعلـم‪ ،‬ويجيـب قبـل أن يفهـم‪ ،‬ويَح َمـ ُد قبـل أن يُ َجـ ِّر َب‪،‬‬ ‫ويَــ ِذمُّ بعــد مــا يَح َمــد‪ ،‬ويعــزم قبــل أن يفكــر‪ ،‬ويمضــي قبــل أن يعــزم‪ ،‬وال َع ِجــ ُل‬ ‫تصحبـ ُه الندامـة‪ ،‬وتعتزلـه السـامة‪ ،‬وكانـت العـرب تَ ْكنـي العجلَـ َة أمَّ الندامـات»(‪.)5‬‬ ‫(‪ )1‬أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب الحلم‪ :‬ص‪ ،33‬رقم (‪.)22‬‬ ‫(‪ )2‬أخرجه البيهقي في شعب الإيمان‪ ،309/3:‬رقم (‪.)1739‬‬ ‫(‪ )3‬أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه‪ ،456/7:‬رقم (‪ ،)37188‬والبيهقي في شعب الإيمان‪ ،15/13:‬رقم‬ ‫(‪ ،)9886‬والهَنَا ُت‪ :‬جمع ( َهنَة)‪ ،‬تأنيث ( َه ٍن)‪ ،‬وهو كناية عن كل اسم جنس‪ ،‬والمراد‪ :‬شرو ٌر‪ ،‬وفساد‪،‬‬ ‫وشدائد‪ ،‬وأمور عظام‪ ،‬وانظر‪ :‬النهاية‪ ،‬لابن الجزري‪.279/5:‬‬ ‫(‪ )4‬أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء‪ .273/1:‬وال ِّد َمن‪ :‬جمع ( ِدمنة)‪ ،‬وهي ما ُتد ِّمنُه الإبل والغنم بأبوالها‬ ‫وأبعارها‪ :‬أي ُتل ِّبده في مرابضها‪ ،‬فربما نبت فيها النبات الحسن النضير‪ ،‬وفي الحديث‪« :‬فينبتون نبا َت‬ ‫ال ِّدمن في السيل»‪ ،‬يريد ال َب ْع َر لسرعة ما ينبت فيه‪ ،‬انظر‪ :‬النهاية في غريب الحديث‪ ،‬لابن الأثير‪.134/2:‬‬ ‫(‪ )5‬انظر‪ :‬روضة العقلاء‪ ،‬لابن حبان‪ :‬ص‪.216‬‬ ‫‪103‬‬

‫وفي المثل‪\" :‬إذا لم تستعجل؛ تَ ِص ْل\"‪.‬‬ ‫َع ِج َل الْ َفتَى فِي َما يَ ُض ُّرهْ‬ ‫لا تَ ْع َجلَ َّن فَ ُربَّ َما ‬ ‫ ‬ ‫أَمْراً َع َواقِبُهُ تَ ُس ُّرهْ(‪)1‬‬ ‫َولَ ُربَّ َما َك ِرهَ الْ َفتَى ‬ ‫ ‬ ‫وقال ال ُقطامي‪:‬‬ ‫َوقَ ْد يَ ُكو ُن مَ َع الْمستَ ْع ِج ِل ال َّزلَ ُل‬ ‫قَ ْد يُ ْد ِر ُك المتَأَنِّي بَ ْع َض َحا َجتِ ِ ه‬ ‫مع التأني وكان الرأ ُي لو َع ِجلُوا(‪)2‬‬ ‫وربما فا َت بع ُض القو ِم أم َره ُم ‬ ‫وقـال عمـرو بـن العـاص لابنـه عبـ ِد الله ‪« :‬ال َخـ َر ُق معـاداةُ إما ِمـك‪ ،‬ومنـاوأةُ‬ ‫َمـن يَ ْقـ ِد ُر علـى ضـررك»(‪.)3‬‬ ‫وعـن عامـر الشـعبي رحمـه الله قـال‪ :‬أغلـ َظ رجـ ٌل لمعاويـةَ ‪ ،‬فقـال‪\" :‬أنهـاك‬ ‫عـن السـلطان‪ ،‬فـإ َّن َغضبَـه غضـ ُب الصبـي‪ ،‬وأ ْخـ َذهُ أخـ ُذ الأسـد\"(‪.)4‬‬ ‫(‪ )1‬انظر‪ :‬بصائر ذوي التمييز‪ ،‬للفيروز آبادي‪.24/4:‬‬ ‫(‪ )2‬انظر‪ :‬العقد الفريد‪ ،‬لابن عبد ربه‪.52/3:‬‬ ‫(‪ )3‬انظر‪ :‬إحياء علوم الدين‪ ،‬للإمام الغزالي‪.188/3:‬‬ ‫(‪ )4‬انظر‪ :‬سير أعلام النبلاء‪ ،‬للإمام الذهبي‪.153/3:‬‬ ‫‪104‬‬

‫* السعي إلى إطفاء نار الفتنة‪:‬‬ ‫ومـن مواقـف العلمـاء والعقـاء أنهـم إذا رأوا اسـتعار الفتـن‪ ،‬فإنهـم يسـعون‬ ‫إلــى إطفائهــا‪ ،‬ويعملــون علــى إخمادهــا بأقوالهــم وأفعالهــم وأحوالهــم‪،‬‬ ‫موضحيــن للنــاس أخطارهــا‪ ،‬وســوء عاقبتهــا ونتائجهــا‪ ،‬وســبل الوقايــة منهــا‬ ‫والبعــد عــن مواطنهــا‪.‬‬ ‫فعــن عبــد الله بــن عمــر ‪ ‬قــال‪ :‬دخلــت علــى حفصــة ‪ ‬ـ ونوســاتها‬ ‫تنطـف ـ قلـت‪ :‬قـد كان مـن أمـر النـاس مـا تريـن‪ ،‬فلـم يجعـل لـي مـن الأمـر‬ ‫شـيء‪ ،‬فقالـت‪ :‬اِلْ َحـ ْق‪ ،‬فإنهـم ينتظرونـك‪ ،‬وأخشـى أن يكـون فـي احتباسـك‬ ‫عنهـم فرقـة‪ ،‬فلـم تدعـه حتـى ذهـب‪ ،‬فلمـا تفـرق النـاس‪ ،‬خطـب معاويـة ‪‬‬ ‫قـال‪« :‬مـن كان يريـد أن يتكلـم فـي هـذا الأمـر فليطلـع لنـا قرنـه‪ ،‬فلنحـن أحـق‬ ‫بـه منـه ومـن أبيـه\"‪ ،‬قـال‪ :‬حبيـب بـن مسـلمة فهـا أجبتـه؟ قـال عبـد الله ‪:‬‬ ‫فحللــت حبوتــي‪ ،‬وهممــت أن أقــول‪ :‬أحــق بهــذا الأمــر منــك‪ ،‬مــن قاتَلَــك‬ ‫وأبَـاك علـى الاسـام‪ ،‬فخشـي ُت أن أقـول كلمـة تفـرق بيـن الجمـع‪ ،‬وتسـفك‬ ‫الـدم‪ ،‬ويحمـل عنـي غيـر ذلـك‪ ،‬فذكـرت مـا أعـد الله فـي الجنـان‪ .‬قـال حبيـب‪:‬‬ ‫ُحفظ ـت وعصم ـت(‪.)1‬‬ ‫(‪ )1‬أخرجه البخاري في كتاب المغازي‪ ،‬باب غزوة الخندق‪ ،110/5:‬رقم (‪َ ( .)4108‬ن ْو َسا ُ َتا َتنْ ُط ُف)‪:‬‬ ‫أي‪ :‬ذوائب شعرها تقطر‪ ،‬كأنها قد اغتسلت‪ .‬انظر‪ :‬فتح الباري‪ ،‬لابن حجر‪.403/7:‬‬ ‫‪105‬‬

‫* اغتنام المناسبات للتحذير من الفتن‪:‬‬ ‫ينبغـي علـى أهـل العلـم أن يغتنمـوا المناسـبات العامـة والخاصـة للتحذيـر‬ ‫مـن الفتـن وخطرهـا علـى الفـرد والمجتمـع‪ ،‬وبيـان آثارهـا السـلبية والتدميريـة‬ ‫التـي تطـال الحـرث والنسـل‪ ،‬ليكـون النـاس علـى بصيـرة مـن أمرهـم‪ ،‬وليتخـذوا‬ ‫سـبل الوقايـة مـن الفتـن إذا مـا ظهـرت أماراتهـا‪ ،‬وذلـك بذكـر الأحاديـث التـي‬ ‫تخبـر عـن الفتـن آخـر الزمـان‪ ،‬والنظـر فـي التاريـخ لأخـذ العبـر والعظـات ممـن‬ ‫لفحتهـم نيـران الفتـن والمحـن‪.‬‬ ‫فعــن َســ ُم َرة بــ ِن ُجنــ ُد ٍب ‪ ‬أنــه ذكــر فــي خطبتــه حديثــاً عــن رســول الله ﷺ‪،‬‬ ‫فقـال‪ :‬بينـا أنـا وغـام مـن الأنصـار نرمـي فـي غرضيـن لنـا علـى عهـد رسـول الله ﷺ‪،‬‬ ‫حتــى إذا كانــت الشــمس قيــد رمحيــن أو ثلاثــة فــي عيــن الناظــر اســودت حتــى‬ ‫آضــت(‪ )1‬كأنهــا تَنُّومــة(‪ ،)2‬قــال‪ :‬فقــال أحدنــا لصاحبــه‪ :‬انطلــق بنــا إلــى المســجد‪،‬‬ ‫فـو الله لَيُح ِدثَـ َّن شـأن هـذه الشـمس لرسـول الله ﷺ فـي أمتـه حدثـاً‪ .‬قـال‪ :‬فدفعنـا‬ ‫إلـى المسـجد فـإذا هـو بـارز‪ .‬قـال‪ :‬ووافقنـا رسـول الله ﷺ حيـن خـرج إلـى النـاس‬ ‫فاسـتقدم‪ ،‬فقـام بنـا كأطـول مـا قـام بنـا فـي صـاة قـط‪ ،‬لا نسـمع لـه صوتـاً‪ ،‬ثـم ركـع‬ ‫كأطـول مـا ركـع بنـا فـي صـاة قـط‪ ،‬لا نسـمع لـه صوتـاً‪ ،‬ثـم فعـل فـي الركعـة الثانيـة‬ ‫مثـل ذلـك‪ ،‬فوافـق تجلـي الشـمس جلوسـه فـي الركعـة الثانيـة‪ .‬قـال زهيـر‪ :‬حسـبته‬ ‫قـال‪ :‬فسـلم فحمـد الله وأثنـى عليـه‪ ،‬وشـهد أنـه عبـد الله ورسـوله‪ ،‬ثـم قـال‪« :‬أيهـا‬ ‫النـاس أنشـدكم بـالله إن كنتـم تعلمـون أنـي قصـرت عـن شـيء مـن تبليـغ رسـالات‬ ‫ربــي ‪ ‬لمــا أخبرتمونــي ذاك‪ ،‬فبلغــت رســالات ربــي كمــا ينبغــي لهــا أن تبلــغ‪،‬‬ ‫وإن كنتـم تعلمـون أنـي بلغـت رسـالات ربـي لمـا أخبرتمونـي ذاك»‪ .‬قـال‪ :‬فقـام‬ ‫رجـال فقالـوا نشـهد أنـك قـد بلغـت رسـالات ربـك‪ ،‬ونصحـت لأمتـك‪ ،‬وقضيـت‬ ‫(‪ )1‬آ َضت‪ :‬رجعت وصارت‪ .‬انظر‪ :‬النهاية‪ ،‬لابن الأثير‪.53/1:‬‬ ‫(‪َ )2‬تنُّو َم ٌة‪ :‬نوع من نبات الأرض فيها‪ ،‬وفي ثمرها سواد قليل‪ .‬انظر‪ :‬النهاية‪ ،‬لابن الأثير‪.199/1:‬‬ ‫‪106‬‬

‫الـذي عليـك‪ ،‬ثـم سـكتوا‪ ،‬ثـم قـال‪« :‬أمـا بعـد فـإن رجـالاً يزعمـون أن كسـوف هـذه‬ ‫الشـمس‪ ،‬وكسـوف هـذا القمـر‪ ،‬وزوال هـذه النجـوم عـن مطالعهـا لمـوت رجـال‬ ‫عظمــاء مــن أهــل الأرض‪ ،‬وإنهــم قــد كذبــوا‪ ،‬ولكنهــا آيــات مــن آيــات الله تبــارك‬ ‫وتعالـى يعتبـر بهـا عبـاده‪ ،‬فينظـر مـن يحـدث لـه منهـم توبـة‪ ،‬وايـم الله لقـد رأيـت‬ ‫منـذ قمـت أصلـي مـا أنتـم لاقـون فـي أمـر دنياكـم وآخرتكـم‪ ،‬وإنـه والله لا تقـوم‬ ‫السـاعة حتـى يخـرج ثلاثـون كذابـاً‪ ،‬آخرهـم الأعـور الدجـال ممسـوح العين اليسـرى‬ ‫كأنهـا عيـن أبـي يحيـى ـ لشـيخ حينئـذ مـن الأنصـار بينـه وبيـن حجـرة عائشـة ‪ ‬ـ‬ ‫وإنهـا متـى مـا يخـرج فإنـه سـوف يزعـم أنـه الله‪ ،‬فمـن آمـن بـه وصدقـه واتبعـه لـم‬ ‫ينفعـه صالـح مـن عملـه سـلف‪ ،‬ومـن كفـر بـه وكذبـه لـم يعاقـب بشـيء مـن عملـه‬ ‫ـ وقـال حسـن الأشـيب‪ :‬بسـيئ مـن عملـه سـلف ـ وإنـه سـيظهر علـى الأرض كلهـا‬ ‫إلا الحـرم وبيـت المقـدس‪ ،‬وإنـه يحصـر المؤمنيـن فـي بيـت المقـدس فيزلزلـون‬ ‫زلـزالاً شـديداً‪ ،‬ثـم يهلكـه الله تبـارك وتعالـى وجنـوده‪ ،‬حتـى إن جـذم الحائـط‪ ،‬أو‬ ‫قـال‪ :‬أصـل الحائـط‪ ،‬وأصـل الشـجرة لينـادي‪ :‬يـا مؤمـن ـ أو قـال‪ :‬يـا مسـلم ـ هـذا‬ ‫يهـودي‪ ،‬أو قـال‪ :‬هـذا كافـر تعـال فاقتلـه‪ ،‬قـال‪ :‬ولـن يكـون ذلـك كذلـك حتـى تـروا‬ ‫أمـوراً يتفاقـم شـأنها فـي أنفسـكم‪ ،‬وتسـاءلون بينكـم هـل كان نبيكـم ذكـر لكـم منهـا‬ ‫ذكـراً‪ ،‬وحتـى تـزول جبـال علـى مراتبهـا‪ ،‬ثـم علـى أثـر ذلـك القبـض»(‪.)1‬‬ ‫(‪ )1‬أخرجه الإمام أحمد في مسند سمرة بن جندب ‪ ،346/33:‬رقم (‪ ،)20178‬وابن حبان في كتاب‬ ‫الصلاة‪ ،‬باب صلاة الكسوف‪ ،101/7:‬رقم (‪ ،)2856‬والحاكم في المستدرك‪ ،‬كتاب الكسوف‪،478/1:‬‬ ‫رقم (‪ ، )1230‬وقال الحاكم‪\" :‬هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه\"‪ ،‬ووافقه الذهبي‪.‬‬ ‫ونورد هنا ما ذكره الشيخ عبد العزيز عيون السود رحمه الله في خطبته ـ بعد سرده هذا الحديث ـ حيث قال‪:‬‬ ‫فالحرب بين المسلمين واليهود واقعة حتم ًا وموضع محاربتهم هو نهر الأردن‪ :‬فعند ابن منده في الصحابة‬ ‫والطبراني والبزار بسند حسن من حديث نهيك بن صريم السكوني ـ وهو كما ذكر ابن عبد الصمد ممن‬ ‫نزل حمص من الصحابة ـ قال‪ :‬قال رسول الله ﷺ‪« :‬لتقاتلن المشركين حتى يقاتل بقيتكم الدجال على‬ ‫نهر الأردن أنتم شرقيه وهم غربيه»‪ ،‬قال‪ :‬ولا أدري أين الأردن يومئذ من الأرض‪ ،‬وقد ذكره في مطابقة‬ ‫الاختراعات‪ :‬ص‪.90‬‬ ‫‪107‬‬

‫* الثبات على الحق‪ ،‬والعزيمة في الرشد‪:‬‬ ‫هاتـان الخصلتـان همـا جمـاع الفـاح‪ ،‬ومـا أُتـي العبـ ُد إلا مـن تضييعهمـا أو‬ ‫تضييـع أحدهمـا‪ ،‬فمـا أُتـي أحـد إلا مـن بـاب التشـكيك والريـب بمـا هـو حـق‬ ‫أبلـج‪ ،‬أو مـن بـاب التهـاون والضعـف فـي الطريـق المسـتقيم والنهـج القويـم‪،‬‬ ‫فـإذا حصـل الثبـات أولاً‪ ،‬والعزيمـة ثانيـاً‪ ،‬أفلـح المـرء كل الفـاح‪.‬‬ ‫مـن هنـا كان لزامـاً علـى العالـم أن يكـون ثابتـاً علـى الحـق بعزيمـة قويـة؛ لأن‬ ‫مـن ورائـه أفـراد الأمـة جميعـاً‪ ،‬فـإن ثبـت علـى الحـق نجـا‪ ،‬وأنجـى معـه الأمـة‪،‬‬ ‫وإلا فإنـه يتهـاوى وينهـار‪ ،‬ويكـون سـبباً فـي انهيـار الأمـة‪.‬‬ ‫فعـن رجـل مـن بنـي حنظلـة‪ ،‬قـال‪ :‬صحبـت شـداد بـن أوس ‪ ‬فـي سـفر‪،‬‬ ‫فقـال‪ :‬ألا أعلمـك مـا كان رسـول الله ﷺ يعلمنـا أن نقـول‪« :‬اللهـم إنـي أسـألك‬ ‫الثبـات فـي الأمـر‪ ،‬وأسـألك عزيمـة الرشـد‪ ،‬وأسـألك شـكر نعمتـك‪ ،‬وحسـن‬ ‫عبادتـك‪ ،‬وأسـألك لسـانا صادقـا‪ ،‬وقلبـا سـليما‪ ،‬وأعـوذ بـك مـن شـر مـا تعلـم‪،‬‬ ‫وأسـألك مـن خيـر مـا تعلـم‪ ،‬وأسـتغفرك ممـا تعلم إنـك أنت عـام الغيـوب»(‪.)1‬‬ ‫والواقعـة الآتيـة تج ِّسـد لـك سـلو َك الحليـم الواثـق الـذي يصـدر عـن علـم‬ ‫وبصيـرة‪ ،‬وحـزم وعـزم‪:‬‬ ‫عـن أسـير بـن جابـ ٍر رحمـه الله قـال‪ :‬هاجـت ريـ ٌح حمـراء(‪ )2‬بالكوفـة‪ ،‬فجـاء‬ ‫رجـل ليـس لـه هجيـري(‪ )3‬إ ّل‪ :‬يـا عبـد الله بـن مسـعود جـاءت السـاعة‪ ،‬قـال‪:‬‬ ‫فقعـد وكان متكئـاً‪ ،‬فقـال‪ :‬إن السـاعة لا تقـوم حتـى لا يقسـم ميـراث‪ ،‬ولا يفـرح‬ ‫(‪ )1‬أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات‪ ،‬باب سؤال الثبات في الأمر‪ ،476/5:‬رقم (‪ ،)3407‬والنسائي في‬ ‫كتاب السهو‪ ،‬باب نوع آخر من الدعاء‪ ،54/3:‬رقم (‪ ،)1304‬والإمام أحمد في مسنده‪ ،125/4:‬وابن‬ ‫أبي شيبة في مصنفه‪ ،46/6:‬رقم (‪.)29358‬‬ ‫(‪ )2‬ريح شديدة تحمل معها الغبار والرمال‪.‬‬ ‫(‪ )3‬الهجيري بمعنى ال ِه ِّجير‪ ،‬وهو‪ :‬الدأب والعادة والديدن‪ .‬انظر‪ :‬شرح النووي على صحيح مسلم‪،2742/5:‬‬ ‫والنهاية‪ ،‬لابن الأثير‪.246/5:‬‬ ‫‪108‬‬

‫بغنيمــة‪ ،‬ثــم قــال‪ :‬بيــده هكــذا ـ ونحاهــا نحــو الشــام ـ فقــال‪ :‬عــدو يجمعــون‬ ‫لأهـل الإسـام‪ ،‬ويجمـع لهـم أهـل الإسـام‪ ،‬قلـت‪ :‬الـروم تعنـي؟ قـال‪ :‬نعـم‪،‬‬ ‫وتكـون عنـد ذاكـم القتـال ردة شـديدة‪ ،‬فيشـترط المسـلمون شـرطة(‪ )1‬للمـوت‪ ،‬لا‬ ‫ترجـع إلا غالبـة‪ ،‬فيقتتلـون حتـى يحجـز بينهـم الليـل‪ ،‬فيفيء هـؤلاء وهـؤلاء‪ ،‬ك ٌل‬ ‫غيـر غالـب‪ ،‬وتفنـى الشـرطة‪ ،‬ثـم يشـترط المسـلمون شـرطة للمـوت‪ ،‬لا ترجـع‬ ‫إلا غالبـة‪ ،‬فيقتتلـون حتـى يحجـز بينهـم الليـل‪ ،‬فيفـيء هـؤلاء وهـؤلاء كل غيـر‬ ‫غالـب‪ ،‬وتفنـى الشـرطة‪ ،‬ثـم يشـترط المسـلمون شـرطة للمـوت‪ ،‬لا ترجـع إلا‬ ‫غالبـة‪ ،‬فيقتتلـون حتـى يمسـوا‪ ،‬فيفـيء هـؤلاء وهـؤلاء‪ ،‬كل غيـر غالـب‪ ،‬وتفنـى‬ ‫الشــرطة‪ ،‬فــإذا كان يــوم الرابــع نهــد إليهــم(‪ )2‬بقيــة أهــل الإســام‪ ،‬فيجعــل الله‬ ‫الدبـرة(‪ )3‬عليهـم‪ ،‬فيُقتلـون مقتلـة ـ إمـا قـال‪ :‬لا يـرى مثلهـا‪ ،‬وإمـا قـال‪ :‬لـم يـر‬ ‫مثلهـا ـ حتـى إن الطائـر ليمـر بجنباتهـم‪ ،‬فمـا يخلفهـم حتـى يخـر ميتـاً‪ ،‬فيتعـاد‬ ‫بنـو الأب كانـوا مائـة‪ ،‬فـا يجدونـه بقـي منهـم إلا الرجـل الواحـد‪ ،‬فبـأي غنيمـة‬ ‫يفـرح؟ أو أي ميـراث يقاسـم؟ فبينمـا هـم كذلـك‪ ،‬إذ سـمعوا ببـأس هـو أكبـر‬ ‫مـن ذلـك‪ ،‬فجاءهـم الصريـخ إن الدجـال قـد خلفهـم فـي ذراريهـم‪ ،‬فيرفضـون‬ ‫مـا فـي أيديهـم‪ ،‬ويقبلـون فيبعثـون عشـرة فـوارس طليعـة‪ ،‬قـال رسـول الله ﷺ‪:‬‬ ‫«إنـي لأعـرف أسـماءهم‪ ،‬وأسـماء آبائهـم‪ ،‬وألـوان خيولهـم‪ ،‬هـم خيـر فـوارس‬ ‫علـى ظهـر الأرض يومئـذ‪ ،‬أو مـن خيـر فـوارس علـى ظهـر الأرض يومئـذ»(‪.)4‬‬ ‫(‪ُ )1‬شطة للموت‪ :‬الشرطة أول طائفة من الجيش تشهد الوقعة‪ .‬انظر‪ :‬النهاية‪ ،‬لابن الأثير‪.460/2:‬‬ ‫(‪ )2‬نهد إليهم‪ :‬نهض إليهم‪ ،‬ونهد القوم لعدوهم إذا صمدوا له وشرعوا في قتاله‪ .‬انظر‪ :‬النهاية‪ ،‬لابن‬ ‫الأثير‪.134/5:‬‬ ‫(‪ )3‬الدبر‪ :‬الدولة والظفر والنصرة وتفتح الباء وتسكن‪ .‬ويقال على من ال ّد َبرة أيض ًا‪ ،‬أي‪ :‬الهزيمة‪ .‬انظر‪:‬‬ ‫النهاية‪ ،‬لابن الأثير‪.98/2:‬‬ ‫(‪ )4‬أخرجه مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة‪ ،‬باب إقبال الروم في كثرة القتل عند خروج‬ ‫الدجال‪ ،2742/5:‬رقم (‪.)2899‬‬ ‫‪109‬‬

‫* التحذير من القتال أيام الفتن‪:‬‬ ‫إن مـن واجـب العلمـاء أيـام الفتـن وقبلهـا التحذيـر مـن الاقتتـال بيـن أفـراد‬ ‫الأمــة‪ ،‬والتأكيــد علــى عصمــة الدمــاء التــي حــ َّرم الله ســفكها‪ ،‬وبيــان المخاطــر‬ ‫والعواقــب الوخيمــة إذا التقــى المســلمان بســيفيهما‪ ،‬ومــا ينتــج عنــه مــن إراقــة‬ ‫الدمـاء وهتـك الأعـراض‪ ،‬وإلحـاق الدمـار الواسـع فـي الممتلـكات‪ ،‬فضـاً عـن‬ ‫فقـدان الأمـن وانتشـار الذعـر والقضـاء علـى الروابـط الاجتماعيـة والأخويـة ممـا‬ ‫يحيـل المجتمـع إلـى حلبـة صـراع بيـن وحـوش بشـرية كل منهـم ينهـش فـي أخيـه‬ ‫لينصـر رأيـه وهـواه ومصلحتـه‪.‬‬ ‫مـن هنـا فقـد كان أفاضـ ُل علمـاء المسـلمين وأكاب ُرهـم ينهـون عـن القتـال فـي الفتنة‪،‬‬ ‫كمــا كان عبــ ُد الله بــن عمــر وســعي ُد بــن المســيب وعلــ ُّي بــن الحســين ‪ ‬وغيرهــم‬ ‫ينهـون عـام الحـرة عـن الخـروج علـى يزيـد بـن معاويـة‪ ،‬وكمـا كان الحسـن البصـري‬ ‫ومجاهـد وغيرهمـا ينهـون عـن الخـروج فـي فتنـة ابـن الأشـعث‪ ،‬ولهـذا اسـتقر أمـر‬ ‫أهـل السـنة والجماعـة علـى تـرك القتـال فـي الفتنـة‪ ،‬للأحاديـث الصحيحـة الثابتـة عـن‬ ‫النبـي ﷺ‪ ،‬وصـاروا يذكـرون هـذا فـي عقائدهـم‪ ،‬ويأمـرون بالصبـر علـى جـور الحـ َّكام‬ ‫وتـرك قتالهـم‪ ،‬وإن كان قـد قاتـل فـي الفتنـة خلـق كثيـر مـن أهـل العلـم والديـن‪.‬‬ ‫وهـذا موقـف سـادة علمـاء الأمـة أيـام حكـم بنـي أميـة وبنـي العبـاس‪ ،‬وكان‬ ‫فـي بعضهـم فسـوق وظلـم وجـور‪ ،‬ومنهـم الحجـاج بـن يوسـف الثقفـي‪.‬‬ ‫فقــد كتــب عبــد الله بــن عمــر ‪ ‬لعبــد الملــك بــن مــروان بعــد أن اجتمــع‬ ‫عليـه النـاس‪« :‬إنـي أقـر بالسـمع والطاعـة لعبـد الله عبـد الملـك بـن مـروان‪ ،‬أميـر‬ ‫المؤمنيـن علـى سـنة الله ﷺ وسـنة رسـوله ﷺ مـا اسـتطعت‪ ،‬وإ َّن بنـ َّي قـد أقـروا‬ ‫بمث ـل ذل ـك»(‪.)1‬‬ ‫(‪ )1‬أخرجه البخاري في كتاب الأحكام‪ ،‬باب كيف يبايع الإمام الناس‪ ،2634/6:‬رقم (‪.)6777‬‬ ‫‪110‬‬

‫قـال أبـو سـليمان الخطابـي رحمـه الله‪« :‬وكان ابـن عمـر ‪ ‬مـن أشـد الصحابـة‬ ‫حـذراً مـن الوقـوع فـي الفتـن‪ ،‬وأكثرهـم تحذيـراً للنـاس مـن الدخـول فيهـا‪ ،‬وبقـي‬ ‫إلـى أيـام فتنـة ابـ ِن الزبيـر ‪ ،‬فلـم يقاتـل معـه ولـم يدافـع عنـه‪ ،‬إلا إنـه كان يشـهد‬ ‫الصــاة معــه فــإذا فاتتــه صلاهــا مــع الحجــاج‪ ،‬وكان يقــول‪ :‬إذا دعونــا إلــى الله‬ ‫أجبناهـم‪ ،‬وإذا دعونـا إلـى الشـيطان تركناهـم»(‪.)1‬‬ ‫قــال الإمــا ُم أحمــد رحمــه الله‪« :‬ولا يحــل قتــال الســلطان ولا الخــروج عليــه‬ ‫لأحـد مـن النـاس‪ ،‬فمـن فعـل ذلـك فهـو مبتـدع علـى غيـر السـنة والطريـق»(‪.)2‬‬ ‫وبنحـو كلام الإمـام أحمـد هـذا‪ ،‬نـ َّص كثيـر مـن العلمـاء علـى ذلـك‪ ،‬منهـم‪:‬‬ ‫أبـو زرعـة‪ ،‬وابـن أبـي حاتـم الرازيـان‪ ،‬وعلـي بـن المدينـي‪ ،‬والطحـاوي‪ ،‬وأبـو‬ ‫عثمــان الصابونــي‪ ،‬وغيرهــم‪.‬‬ ‫* كبح جماح العاطفة بالعقل الرشيد‪:‬‬ ‫خلــق الله تعالــى الإنســان وجبلــه علــى نــوازع شــر فيــه‪ ،‬متمثلــة فــي النفــس‬ ‫الأمـارة بالسـوء والهـوى والعواطـف الجامحـة‪ ،‬فـإن تـرك لهـا الحب َل علـى الغارب‬ ‫جمحـت بـه نحـو المهالـك‪ ،‬وإن لجمهـا بالشـرع الشـريف والعقـل الرشـيد نجـا‬ ‫بهـا مـن المخاطـر‪.‬‬ ‫قــال حميــد بــن هــال‪ :‬أتــى مُطــر َف بــ َن عبــ ِد الله بــن الشــخير ‪ ‬الحروريــ ُة‬ ‫يدعونـه إلـى رأيهـم‪ ،‬فقـال‪« :‬يـا هـؤلاء‪ ،‬إنـه لـو كان لـي نفسـان بايعتكـم بإحداهمـا‪،‬‬ ‫وأمسـكت الأخـرى‪ ،‬فـإن كان الـذي تقولـون هـد ًى أتبعتُهـا الأخـرى‪ ،‬وإن كان ضلالةً‬ ‫هلكـت نفـ ٌس‪ ،‬وبقيـ ْت لـي نفـ ٌس‪ ،‬ولكـن هـي نفـ ٌس واحـدةٌ‪ ،‬فـا أغـرر بهـا»(‪.)3‬‬ ‫(‪ )1‬انظر‪ :‬العزلة‪ ،‬للخطابي‪ :‬ص‪.15‬‬ ‫(‪ )2‬انظر‪ :‬شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة‪ ،‬لللالكائي‪ :‬ص‪.158‬‬ ‫(‪ )3‬أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى‪.143/7:‬‬ ‫‪111‬‬

‫وقــال أيضــاً ‪« :‬إن الفتنــة ليســت تأتــي تهــدي النــاس‪ ،‬ولكــن إنمــا تأتــي‬ ‫تقـارع المؤمـ َن عـن دينـه؛ ولَئـن يقـول الله‪\" :‬لـم لا قتلـ َت فلانًـا؟\" أحـ ُّب إلـ َّي مـن‬ ‫أن يقـول‪\" :‬لـم قتل ـ َت فلانًـا؟»(‪.)1‬‬ ‫وكان منصـو ٌر بـ ُن المعتمـر يأتـي ُزبيـد بـن الحـارث رحمـه الله‪ ،‬فـكان يذ ُكـر لـه‬ ‫أهـل البيـت‪ ،‬ويَ ْع ِصـ ُر عينيـه‪ ،‬يريـده علـى الخـروج أيـام زيـد بـن علـي رحمـه الله‪،‬‬ ‫فقـال زبيـ ٌد‪« :‬مـا أنـا بخـارج إلا مـع نبـ ٍّي‪ ،‬ومـا أنـا بواجـده»(‪.)2‬‬ ‫قـال عمـرو بـن العـاص ‪ ‬لابنـه عبـد الله ‪ ‬ـ وهـو ممـن اعتـزل الفتنـة يـوم‬ ‫صفيـن ـ‪ :‬يـا بنـي‪ ..‬انظـر أيـن تـرى عليّـاً ‪‬؟ قـال‪ :‬أراه فـي تلـك الكتيبـة القتمـاء‬ ‫ذات الرمـاح‪ ،‬عليـه ِعمامـة بيضـاء‪ ،‬قـال‪« :‬لله دَ ُّر ابـن عمـر وابـن مالـك‪ ،‬لئـن كان‬ ‫تخلفهــم عــن هــذا الأمــر خيــراً؛ كان خيــراً مبــروراً‪ ،‬ولَئــن كان ذنبــاً؛ كان ذنبــاً‬ ‫مغف ـوراً»(‪.)3‬‬ ‫وكان علـي بـن أبـي طالـب ‪ ‬يقـول‪« :‬يَـا َح َسـ ُن‪ ..‬مـا ظـن أبـوك أن الأمـر‬ ‫يبلـغ هـذا‪ ،‬لله د ُّر مقـا ٍم قامـه سـع ُد بـن مالـك وعبـ ُد الله بـن عمـر ‪ :‬إن كان بِـ ّراً‬ ‫إن أجـره لعظيـم‪ ،‬وإن كان إثمـاً إن خطـره ليس ـير»(‪.)4‬‬ ‫وقـال أبـو العاليـة رحمـه الله‪« :‬لمـا كان قتـال علـ ٍّي ومعاويـة ‪ ‬كنـت رجلاً شـابّاً‪،‬‬ ‫فتهيـأ ُت‪ ،‬ولبسـ ُت سـاحي‪ ،‬ثـم أتيـت القـوم‪ ،‬فـإذا ص َّفـان لا يُـرى طرفاهمـا‪ ،‬قـال‪:‬‬ ‫فتلـوت هـذه الآيـة‪َ ﴿ :‬و َمـن َي ۡق ُتـ ۡل ُم ۡؤ ِم ٗنـا ُّم َت َع ِّمـ ٗدا َف َجـ َزآ ُؤ ُهۥ َج َه َّنـ ُم َخٰـ ِ ٗدا فِي َهـا َو َغ ِضـ َب‬ ‫ٱلَّ ُل َعلَ ۡيـهِ َولَ َع َنـ ُهۥ َوأَ َعـ َّد َ ُلۥ َع َذابًـا َع ِظي ٗمـا ‪[ ﴾٩٣‬النسـاء]‪ .‬قـال‪ :‬فرجعـت وتركتهـم»(‪.)5‬‬ ‫(‪ )1‬أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء‪.204/2:‬‬ ‫(‪ )2‬انظر‪ :‬سير أعلام النبلاء للذهبي‪.297/5:‬‬ ‫(‪ )3‬انظر‪ :‬العزلة للخطابي‪ :‬ص‪.75 ،74‬‬ ‫(‪ )4‬انظر‪ :‬المنتقى من منهاج الاعتدال للذهبي‪ :‬ص‪.522‬‬ ‫(‪ )5‬أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء‪.219/2:‬‬ ‫‪112‬‬

‫وعـن ثابـت البنانـي رحمـه الله عـن ُم َطـ ِّرف بـن عبـد الله بـن الشـخير ‪ ‬قـال‪:‬‬ ‫«لئـن يسـألني ربـي يـوم القيامـة فيقـول‪ :‬يـا ُم َطـ ِّرف ألا فعلـ َت! أحـب إلـي مـن أن‬ ‫يقـول لـم فعلـت؟»(‪.)1‬‬ ‫وقــال مُ َطــ ِّرف بــن عبــد الله بــن الشــخير ‪« :‬لئــن آخــذ بالثقــة فــي القعــود‬ ‫أحــب إلــ َّي مــن أن ألتمــس فضــل الجهــاد بالتغريــر»(‪.)2‬‬ ‫ومـا وقـع بيـن الصحابـة ‪ ‬مـن الاقتتـال‪\" :‬فـا يجـوز أن يُنسـب إلـى أحـد‬ ‫منهـم خطـأ مقطـوع بـه؛ إذ كانـوا كلهـم اجتهـدوا فيمـا فعلـوه‪ ،‬وأرادوا الله ‪ ،‬وهـم‬ ‫كلهـم لنـا أئمـة‪ ،‬وقـد أُ ِمرنـا بالكـ ِّف َع َّمـا شـجر بينهـم‪ ،‬وأ َّل نذكرهـم إ َّل بأحسـن‬ ‫الذكـر؛ لحرمـة الصحبـة‪ ،‬ولنهـي النبـي ﷺ عـن َسـبّهم‪ ،‬وأ َّن الله غفـر لهـم‪ ،‬وأخبـر‬ ‫بالرضـا عنهـم\"(‪.)3‬‬ ‫* تبصير العامة عواقب الخوض في الفتن‪:‬‬ ‫مـن العلمـاء مـن آثـر النجـاة بنفسـه مـن ضـرام الفتـن‪ ،‬فلـزم بيتـه واعتكـف فـي‬ ‫مصـاه‪ ،‬مبتعـداً عـن مواطـن الفتـن وأهلهـا‪ ،‬عمـاً بكثيـر مـن النصـوص الـواردة‬ ‫عـن النبـي ﷺ التـي تحـث علـى ذلـك‪.‬‬ ‫قـال ثابـت البُنانـي رحمـه الله‪« :‬إن مُ َطـ ِّرف بـن عبـد الله بـن الشـخير ‪ ‬قـال‪:‬‬ ‫«لبثـت فـي فتنـة ابـن الزبيـر تسـعاً أو سـبعاً‪ ،‬مـا أُخبـرت فيهـا بخبـر‪ ،‬ولا اسـتخبرت‬ ‫فيهـا عـن خبـر»(‪.)4‬‬ ‫غيـر أن بعـض العلمـاء اختـار أن لا يـدع السـواد الأعظـم مـن المسـلمين فريسـة‬ ‫فـي براثـن الفتـن‪ ،‬تنهـش بهـم وهـم فـي غفلـة عنهـا‪ ،‬فآثـر أن يشـمر عـن سـاعد‬ ‫(‪ )1‬أخرجه البيهقي في كتاب الزهد الكبير‪ ،316/2:‬رقم (‪ ،)847‬وابن عساكر في تاريخ مدينة‬ ‫دمشق‪.315/58:‬‬ ‫(‪ )2‬مصنف ابن أبي شيبة‪.178/7:‬‬ ‫(‪ )3‬انظر‪ :‬افسير القرطبي‪ ،321،321/16:‬وشرح النووي على صحيح مسلم‪.11/18:‬‬ ‫(‪ )4‬أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى‪.142/7:‬‬ ‫‪113‬‬

‫الجــد فــي التحذيــر مــن الفتــن‪ ،‬وبيــان مخاطرهــا وعواقبهــا‪ ،‬ومــا تنطــوي عليــه‬ ‫مـن إراقـة للدمـاء وخـراب للبنـاء وتشـريد وتقتيـل وغيـر ذلـك‪ ،‬عسـى بذلـك أن‬ ‫يسـاهم فـي إطفـاء نيـران الفتـن‪ ،‬وإنقـاذ الأرواح البريئـة مـن ضرامهـا‪ ،‬وإ ْن أصابـه‬ ‫شـيء مـن لهيبهـا‪ ،‬وتعـرض للتهمـة والأذى مـن أهلهـا‪.‬‬ ‫قـال قتـادة رحمـه الله‪« :‬كان ُم َطـ ِّرف بـن عبـد الله بـن الشـخير ‪ ‬إذا كانـت الفتنة‬ ‫نهــى عنهــا وهــرب‪ ،‬وكان الحســن البصــري رحمــه الله ينهــى عنهــا ولا يبــرح»‪،‬‬ ‫فقـال ُم َطـ ِّرف‪« :‬مـا أُشـبِّهُ الحسـن إلا برجـل يحـذر النـاس السـيل ويقـوم بسـننه»‪.‬‬ ‫يشـير مُ َطـ ِّرف إلـى موقـف الحسـن البصـري رحمـه الله مـن فتنـة ابـن الأشـعث‬ ‫حيـث نهاهـم عـن الخـروج علـى الحجـاج‪ ،‬وجادلهـم فـي ذلـك‪ ،‬وأمـا مُ َطـ ِّرف‬ ‫رحمـه الله فيـرى ـ أنـه عنـد الفتـن الأسـلم ـ البعـد عـن جميـع الأطـراف؛ لأن الـكل‬ ‫معجـب برأيـه‪ ،‬متمسـك بقولـه(‪.)1‬‬ ‫وقـال سـليمان بـن علـي ال َّربعـي رحمـه الله‪« :‬لمـا كانـت فتنـة ابـن الأشـعث‬ ‫ـ إذ قاتـل الح ّجـاج بـن يوسـف ـ انطلـق عقبـة بـ ُن عبـد الغافـر(‪ )2‬وأبـو الجـوزاء(‪)3‬‬ ‫وعبـد الله بـن غالـب(‪ )4‬فـي نفـر مـن نظرائهـم فدخلـوا علـى الحسـن‪ ،‬فقالـوا‪ :‬يـا أبا‬ ‫سـعيد مـا تقـول فـي قتـال هـذا الطاغيـة الـذي سـفك الـ ّدم الحـرام‪ ،‬وأخـذ المـال‬ ‫(‪ )1‬انظر‪ :‬الطبقات الكبرى‪ ،‬لابن سعد‪ ،142/7:‬وحلية الأولياء‪ ،‬لأبي نعيم‪ ،204/2:‬وتاريخ دمشق‪ ،‬لابن‬ ‫عساكر‪ ،314/58:‬وسير أعلام النبلاء‪ ،‬للذهبي‪ ،192/4:‬والسنن هنا‪ :‬الطريق‪.‬‬ ‫(‪ )2‬قال البزار‪\" :‬كان من أجلة أهل البصرة\"‪ ،‬وقال ثابت‪ :‬ما كان أحد من الناس أحب إلي من أن ألقى الله‬ ‫في مسلاخه إلا عقبة بن عبد الغافر فلما وقعت الفتنة أتيناه فقال‪ :‬ما أعرفكم‪ .‬المعرفة والتاريخ‪،58/2:‬‬ ‫وتهذيب التهذيب‪ ،‬لابن حجر‪.218/7:‬‬ ‫(‪ )3‬هو‪ :‬أوس بن عبد الله الربعي البصري من كبار العلماء العباد‪ .‬انظر‪ :‬سير أعلام النبلاء‪ ،‬للذهبي‪.371/4:‬‬ ‫(‪ )4‬عبد الله بن غالب ال ُح ّداني‪ ،‬قال ابن حبان‪\" :‬كان من عباد أهل البصرة‪ .‬انظر التاريخ الأوسط‪،‬‬ ‫للبخاري‪ ،180/1:‬والثقات‪ ،‬لابن حبان‪ ،20/5:‬وتقريب التهذيب‪ ،‬لابن حجر‪ :‬رقم (‪.)3526‬‬ ‫‪114‬‬

‫الحـرام ‪ ،‬وتـرك الصـاة وفعـل‪ ..‬وفعـل؟ قـال‪ :‬وذكـروا مـن أفعـال الحجـاج‪ ،‬فقال‬ ‫الحسـن‪ :‬أرى أن لا تقاتلـوه! فإنهـا إن تكـن عقوبـة مـن الله‪ ،‬فمـا أنتـم بـرادي عقوبـة‬ ‫الله بأسـيافكم‪ ،‬وإن يكـن بـاء فاصبـروا حتـى يحكـم الله وهـو خيـر الحاكميـن‪،‬‬ ‫فخرجـوا مـن عنـده‪ ،‬وهـم يقولـون‪ :‬نطيـع هـذا العلـج؟! ـ قـال‪ :‬وهـم قـوم عـرب‬ ‫ـ قـال‪ :‬وخرجـوا مـع ابـن الأشـعث قـال‪ :‬فقتلـوا جميعـاً‪ .‬قـال ُمـ ّرة بـن ذُبـاب أبـو‬ ‫المعـذل‪ :‬أتيـت علـى عقبـ َة بـ ِن عبـد الغافـر ـ وهـو صريـع فـي الخنـدق ـ فقـال‪ :‬يـا‬ ‫أبـا المعـذل لا دنيـا ولا آخـرة»(‪.)1‬‬ ‫قــال أبــو التيــاح‪ :‬شــهدت الحســ َن البصــر َّي وأخــاه ســعي َد بــ َن أبــي الحســن‬ ‫حيـن أقبـل ابـ ُن الأشـع ِث‪ ،‬وكان الحسـن ينهـى عـن الخـروج إلـى الحجـاج‪ ،‬ويأمـر‬ ‫بالكـف‪ ،‬وسـعيد بـن أبـي الحسـن يحضـض‪ ،‬ثـم قـال سـعيد فيمـا يقـول‪ :‬فمـا‬ ‫ظنـك بأهـل الشـام إذا لقيناهـم غـداً؟ فقلنـا‪ :‬والله مـا خلعنـا أميـر المؤمنيـن‪ ،‬ولا‬ ‫نريـد خلعـه‪ ،‬ولكنـا نقمنـا عليـه اسـتعماله الحجـاج‪ ،‬فاعزلـه عنـا‪.‬‬ ‫فلمـا فـرغ سـعيد مـن كلامـه تكلَّـم الحسـن‪ ،‬فحمـد الله ‪ ‬وأثنـى عليه‪ ،‬ثـم قال‪:‬‬ ‫يـا أيهـا النـاس إنـه والله مـا سـلط الله الحجـاج عليكـم إلا عقوبـة‪ ،‬فـا تعارضـوا‬ ‫عقوبـة الله بالسـيف‪ ،‬ولكـن عليكـم بالسـكينة والتضـرع‪ ،‬فـإن الله ‪ ‬يقـول‪َ ﴿ :‬و َل َقـ ۡد‬ ‫أَ َخ ۡذ َنٰ ُهــم بِٱ ۡل َعــ َذا ِب َف َمــا ٱ ۡســ َت َكنُواْ لِ َر ّبِ ِهــ ۡم َو َمــا َي َت َ َّض ُعــو َن ‪[ ﴾٧٦‬المؤمنـون]‪ ،‬وأمـا مـا‬ ‫ذكـرت مـن ظنـي بأهـل الشـام فـإ َّن ظنـي بهـم أن لـو جـاءوا فألقمهـم الحجـاج‬ ‫دنيـاه‪ ،‬ولـم يُحلهـم علـى أمـر إلا ركبـوه هـذا ظنـي بهـم(‪.)2‬‬ ‫(‪ )1‬أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى‪ ،163/7:‬وابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق‪.177/12:‬‬ ‫(‪ )2‬أخرجه ابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق‪.177/12:‬‬ ‫‪115‬‬

‫وقـال سـل ُم بـن أبـي الذيـال رحمـه الله‪ :‬سـأل رجـل الحسـن البصـري رحمـه‬ ‫الله‪ ،‬وهــو يســمع وأنــاس مــن أهــل الشــام‪ ،‬فقــال‪ :‬يــا أبــا ســعيد مــا تقــول فــي‬ ‫الفتـن؟ مثـل يزيـد بـن المهلـب وابـن الأشـعث؟ فقـال‪« :‬لا تكـن مـع هـؤلاء‪ ،‬ولا‬ ‫مـع هـؤلاء‪ ،‬فقـال رجـل مـن أهـل الشـام‪ :‬ولا مـع أميـر المؤمنيـن‪ ..‬يـا أبـا سـعيد؟‬ ‫فغضـب‪ ،‬ثـم قـال بيـده فخطـر بهـا‪ ،‬ثـم قـال‪ :‬ولا مـع أميـر المؤمنيـن يـا أبـا سـعيد‪،‬‬ ‫نعـم‪ ..‬ولا مـع أميـر المؤمنيـن»(‪.)1‬‬ ‫ولله د ُّر الحسـن البصـري رحمـه الله‪ ،‬مـا أعقلـه وأعلمـه وأبصـره‪ ،‬حيـن أتـاه رهـط‬ ‫يريــدون الخــروج فــي زمــن الأموييــن‪ :‬فأمرهــم أن يلزمــوا بيوتهــم‪ ،‬ويغلقــوا عليهــم‬ ‫أبوابهـم‪ ،‬ثـم قـال‪« :‬والله لـو أن النـاس إذا ابتلـوا مـن قبـل سـلطانهم صبـروا‪ ،‬مـا لبثـوا أن‬ ‫يرفـع الله عـز وجـل ذلـك عنهـم‪ ،‬وذلـك أنهـم يفزعـون إلـى السـيف فيوكلـون إليـه‪ ،‬والله‬ ‫مـا جـاؤوا بيـوم خيـر قـط‪ .‬ثـم تـا‪َ ﴿ :‬و َت َّمـ ۡت َكِ َمـ ُت َر ّبِـ َك ٱ ۡ ُل ۡسـ َ ٰى َ َ ٰع بَـ ِ ٓي إِ ۡسـ َرٰٓ ِءي َل بِ َما‬ ‫َصـ َ ُر ۖواْ َو َد َّم ۡرنَـا َمـا َك َن يَ ۡص َنـ ُع فِ ۡر َعـ ۡو ُن َوقَ ۡو ُمـ ُهۥ َو َمـا َكنُـواْ َي ۡع ِر ُشـو َن ‪[ ﴾١٣٧‬الآية‪/‬الأعـراف]»(‪.)2‬‬ ‫قـال حنبـل بـن الإمـام أحمـد بـن حنبـل رحمـه الله فـي ولايـة الواثـق‪ :‬اجتمـع‬ ‫فقهـاء بغــداد إلـى أبـي عبـد الله ـ يعنـي والـده أحمـد بـن حنبـل ـ أبـو بكـر بـن‬ ‫عبيـد‪ ،‬وإبراهيـم بـن علـي المطبخـي‪ ،‬وفضـل بـن عاصـم‪ ،‬فجـاءوا إلـى أبـي عبـد‬ ‫الله‪ ،‬فاسـتأذنت لهـم‪ ،‬فقالـوا‪ :‬يـا أبـا عبـد الله‪ ،‬هـذا الأمـر قـد تفاقـم وفشـا ـ يعنـون‬ ‫إظهـاره لخلـق القـرآن وغيـر ذلـك ـ فقـال لهـم أبـو عبـد الله‪ :‬فمـا تريـدون؟ قالـوا‪:‬‬ ‫أن نشـاورك فـي أنـا لسـنا نرضـى بإمرتـه ولا سـلطانه‪ ،‬فناظرهـم أبـو عبد الله سـاعة‪،‬‬ ‫وقـال لهـم‪« :‬عليكـم بالنكـرة بقلوبكـم‪ ،‬ولا تخلعـوا يـداً مـن طاعـة‪ ،‬ولا تشـقوا‬ ‫عصـا المسـلمين‪ ،‬ولا تسـفكوا دماءكـم ودمـاء المسـلمين معكـم‪ ،‬انظـروا فـي عاقبة‬ ‫أمركـم‪ ،‬واصبـروا حتـى يسـتريح بـ ٌر‪ ،‬أو يسـتراح مـن فاجـر»(‪.)3‬‬ ‫(‪ )1‬أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى‪.164/7:‬‬ ‫(‪ )2‬أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى‪.164/7:‬‬ ‫(‪ )3‬أخرجه أبو بكر بن الخلال في كتاب السنة‪ ،133/1:‬رقم (‪.)90‬‬ ‫‪116‬‬

‫قـال أبـو الحـارث رحمـه الله‪« :‬سـألت أبـا عبـد الله ـ يعنـي أحمـد بـن حنبـل ـ فـي‬ ‫أمـر كان حـدث ببغـداد‪ ،‬وهـ َّم قـو ٌم بالخـروج‪ ،‬فقلـت‪ :‬يـا أبـا عبـد الله‪ ،‬مـا تقـول‬ ‫فـي الخـروج مـع هـؤلاء القـوم‪ ،‬فأنكـر ذلـك عليهـم‪ ،‬وجعـل يقـول‪ :‬سـبحان الله‪..‬‬ ‫الدمـاء‪ ..‬الدمـاء‪ ..‬لا أرى ذلـك‪ ،‬ولا آمـر بـه‪ ،‬الصبـر علـى مـا نحـن فيـه خيـر مـن‬ ‫الفتنـة‪ ،‬يسـفك فيهـا الدمـاء‪ ،‬ويسـتباح فيهـا الأمـوال‪ ،‬وينتهـك فيهـا المحـارم‪ ،‬أمـا‬ ‫علمـت مـا كان النـاس فيـه ـ يعنـي أيـام الفتنـة ـ؟! قلـت‪ :‬والنـاس اليـوم‪ ،‬أليـس هـم‬ ‫فـي فتنـة يـا أبـا عبـد الله؟ قـال‪ :‬وإن كان‪ ..‬فإنمـا هـي فتنـة خاصـة‪ ،‬فـإذا وقع السـيف‬ ‫عمـت الفتنـة‪ ،‬وانقطعـت السـبل‪ ،‬الصبـر علـى هـذا‪ ،‬ويسـلم لـك دينـك خيـر لـك‪.‬‬ ‫ورأيتـه ينكـر الخـروج علـى الأئمـة‪ ،‬وقـال‪ :‬الدمـاء‪ ،‬لا أرى ذلـك‪ ،‬ولا آمـر بـه»(‪.)1‬‬ ‫* ندم بعض العلماء على مشاركتهم في الفتن‪:‬‬ ‫قــد تــزل قــدم العالــم فتنزلــق فــي مســتنقع الفتــن‪ ،‬مــن خــال مشــاركته فيهــا‬ ‫بلسـانه وربمـا بيـده‪ ،‬ولا سـيما إذا أصغـى لهتـاف الجماهيـر الـذي يؤجـج العواطف‬ ‫ويغلـق العقـول‪ ،‬إلا أنـه بعـد أن ينجلـي غبـار الفتـن‪ ،‬وتظهـر الأمـور علـى حقائقهـا‪،‬‬ ‫سـرعان مـا يتبصـر العالـم فـي مواقفـه‪ ،‬ويصحـو مـن سـكرته‪ ،‬ويسـتيقظ مـن غفلتـه‪،‬‬ ‫فيلـزم بـاب النـدم والحسـرة‪ ،‬ويغسـل هفوتـه بدمـوع التوبـة والإنابـة‪.‬‬ ‫قـال أيـوب السـختياني رحمـه الله‪ :‬قـال لـي الحسـن البصـري رحمـه الله‪« :‬ألا‬ ‫تعجـب مـن سـعيد بـن جبيـر رحمـه الله دخـل علـ َّي‪ ،‬فسـألني عـن قتـال الح ّجـاج‪،‬‬ ‫ومعـه بعـض الرؤسـاء ـ يعنـي‪ :‬أصحـاب ابـن الأشـعث ـ ؟!»(‪.)2‬‬ ‫وإ َّن مـن نجـا وسـلم ـ ممـن شـارك فـي الفتنـة ـ نـدم وتأسـف‪ ،‬وود أن لـم يكـن‬ ‫شـارك فيهـا‪ ،‬قـال حمـاد بـن زيـد رحمـه الله‪ :‬ذكـر أيـوب السـختياني رحمـه الله‬ ‫(‪ )1‬أخرجه أبو بكر بن الخلال في كتاب السنة‪ ،122/1:‬رقم (‪.)89‬‬ ‫(‪ )2‬أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه‪ ،488/7:‬رقم (‪ ،)37452‬والإمام أحمد بن حنبل في العلل ومعرفة‬ ‫الرجال‪ ،390/2:‬رقم (‪.)2739‬‬ ‫‪117‬‬

‫ال ُقـ ّراء الذيـن خرجـوا مـع بـن الأشـعث فقـال‪ :‬لا أعلـم أحـداً منهـم قتـل إلا قـد‬ ‫رغـب عـن مصرعـه‪ ،‬ولا نجـا أحـد منهـم إلا حمـد الله الـذي سـلمه‪ ،‬ونـدم علـى‬ ‫مـا كان منـه\"(‪.)1‬‬ ‫وقـال محمـد بـن طلحـة رحمـه الله‪ :‬رآنـي ُزبيـد بـن الحـارث اليامـي مـع العـاء‬ ‫بـن عبـد الكريـم ونحـن نضحـك‪ ،‬فقـال‪ :‬لـو شـهدت الجماجـم مـا ضحكـت‪،‬‬ ‫ولـودد ُت أن يـدي ـ أو قـال‪ :‬يمينـي ـ قطعـت مـن العضـد‪ ،‬وأنـي لـم أكـن شـهدت‪،‬‬ ‫وقـد كان هـذا درسـاً لزبيـد اسـتفاد منـه فـي حياتـه‪.‬‬ ‫قـال مالـك بـن دينـار رحمـه الله‪« :‬لقيـت معبـد الجهنـي رحمـه الله بمكـة ـ بعـد‬ ‫ابــن الأشــعث ـ وهــو جريــح‪ ،‬وقــد قاتــل الحجــاج فــي المواطــن كلهــا‪ ،‬فقــال‪:‬‬ ‫لقيـت الفقهـاء والنـاس‪ ،‬لـم أر مثـل الحسـن‪ ،‬يـا ليتنـا أطعنـاه‪ ،‬كأنـه نـادم علـى‬ ‫قتـال الحجـاج»(‪.)2‬‬ ‫وكان بعضهـم إذا ذكـر مشـاركته ـ ولـو كانـت المشـاركة بالـكلام دون القتـال ـ‬ ‫بكـى بـكاءً شـديداً ندمـاً علـى مـا وقـع منـه؛ قـال أبـو قلابـة رحمـه الله‪« :‬لمـا أنجلـت‬ ‫فتنـة ابـن الأشـعث كنـا فـي مجلـس ومعنـا مسـلم بـن يسـار رحمـه الله‪ ،‬فقـال مسـلم‪:‬‬ ‫الحمـد لله الـذي أنجانـي مـن هـذه الفتنـة‪ ،‬فـو الله مـا رميـ ُت فيهـا بسـهم‪ ،‬ولا طعنـت‬ ‫فيهـا برمـح‪ ،‬ولا ضربـت فيهـا بسـيف‪ ،‬قـال أبـو قلابـة‪ :‬فقلـت لـه‪ :‬فمـا ظنـك يـا‬ ‫مسـلم بجاهـل نظـر إليـك فقـال‪ :‬والله مـا قـام مسـلم بـن يسـار سـيد ال ُقـ ّراء هـذا‬ ‫المقـام إلا وهـو يـراه عليـه حقـاً‪ ،‬فقاتـل حتـى قتـل‪ ،‬قـال‪ :‬فبكـى‪ ،‬والـذي نفسـي‬ ‫بيـده حتـى تمنيـت أنـي لـم أكـن قلـت شـيئاً»(‪.)3‬‬ ‫(‪ )1‬أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى‪.187/7:‬‬ ‫(‪ )2‬أخرجه البخاري في التاريخ الكبير‪ ،399/7:‬وابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق‪.325/59:‬‬ ‫(‪ )3‬أخرجه نعيم بن حماد في الفتن‪ ،145/1:‬رقم (‪ ،)361‬والبخاري في التاريخ الكبير‪ ،302/2:‬رقم‬ ‫(‪ ،)2544‬وابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق‪.146/58:‬‬ ‫‪118‬‬

‫وبعضهــم نقــص قــدره بســبب دخولــه هــذه الفتنــة‪ ،‬قــال عبــد الله بــن عــون‬ ‫رحمـه الله‪« :‬كان مسـلم بـن يسـار لا يُف َّضـل عليـه أحـ ٌد فـي ذلـك الزمـان حتـى‬ ‫والله لا أعـود أبـداً‪ ،‬قـال أبـو قلابـة‪:‬‬ ‫ٱَفلٱ ُّ ۡسغـفِ َفـ َۡهرآ َ ُءلَـ ِما َّن َوـٱآۖۡرإِ َ ۡۡحن َنـِاَۖه َوإأَِ َّنـل َفِتۡتنَ ُتَخــ ۡ َ ُرك‬ ‫َف َعـ َل‬ ‫إتُفعِنضــ ُّشللـتابِلءَهـاـلالهكَم‪،‬اـلففتنـتعَلَاشــةأآب‪ُ ،‬ـءفوَول َتقق ۡيهلــابهِدـأةبي‪:‬ـ َموـ﴿قَأنلُت تاۡهَبلَِـشةـُكآَنفُءـۖقاأَـنباِـ َملَـ‪:‬تا‬ ‫َو ِ ُّل َنـا‬ ‫ٱ ۡل َغٰفِ ِريـ َن ‪[ ﴾١٥٥‬الآية‪/‬الأعـراف]‪ ،‬فأرسـل مسـلم عينيـه»(‪.)1‬‬ ‫وقـال ابـن عـون رحمـه الله‪« :‬كان مسـلم بـن يسـار رحمـه الله عنـد النـاس أرفـع‬ ‫مـن الحسـن البصـري رحمـه الله‪ ،‬فلمـا وقعـت الفتنـة خـ َّف مسـل ٌم فيهـا‪ ،‬وأبطـأ‬ ‫عنهـا الحسـن‪ ،‬فأمـا مسـل ٌم فإنـه ـ أي‪ :‬اتضـع ـ‪ ،‬وأمـا الحسـ ُن فإنـه ارتفـع»(‪.)2‬‬ ‫وقـال عامـر الشـعبي رحمـه الله ـ لمـا أدخـل علـى الح ّجـاج‪ ،‬وكان قـد شـارك‬ ‫فـي الفتنـة ـ‪« :‬قـد اكتحلنـا بعـدك السـهر‪ ،‬وتحلسـنا الخـوف‪ ،‬وخبطتنـا فتنـةٌ لـم‬ ‫نكـن فيهـا بـررةً أتقيـاء‪ ،‬ولا فجـرةً أقويـاء»(‪.)3‬‬ ‫* التحذير من القتال عصبية أو تحت راية عمية‪:‬‬ ‫مـن واجـب العلمـاء أيـام الفتـن تحذيـر النـاس مـن الانضـواء تحـت الرايـات‬ ‫المزعومـة التـي ترفـع شـعارات براقـة كل منهـا ي َّدعـي أنـه علـى الحـق‪ ،‬يقاتلـون‬ ‫بعضهـم البعـض‪ ،‬ويسـتحلون دمـاء بعضهـم‪ ،‬تحركهـم العصبيـة الجاهليـة‪ ،‬وتلعب‬ ‫بهـم الأهـواء الجامحـة‪ ،‬ويخطـط لهـم أعـداءُ الأمـة الحاقـدون‪ ،‬مـن وراء الحجـب‬ ‫والســتور الدينيــة المزيفــة‪ ،‬ممــا يجعــل هــذه الرايــات والألويــة رايــات ُع ِّميــة لا‬ ‫يعلـم أحـد حقيقـة مـن يحملهـا ولا مـن يوجههـا‪ ،‬ولا مـن يقاتلـون تحتهـا‪ ،‬ولا‬ ‫الهـدف الحقيقـي مـن عقدهـا‪ ،‬وهـذا مـا حذرنـا منـه رسـول الله ﷺ عنـد نشـوب‬ ‫الفتـن كمـا جـاء فـي كثيـر مـن أحاديثـه وهديـه ﷺ‪.‬‬ ‫(‪ )1‬أخرجه أبو يوسف الفسوي في المعرفة والتاريخ‪ ،85/2:‬ومعنى‪( :‬فأرس َل مسل ٌم عينيه) أي‪ :‬بكى‪.‬‬ ‫(‪ )2‬أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه‪ ،187/6:‬وابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق‪.146/58:‬‬ ‫(‪ )3‬انظر‪ :‬تاريخ خليفة بن خياط‪ :‬ص‪ ،288‬والمعرفة والتاريخ‪ ، 344/2:‬وسير أعلام النبلاء‪.306/4:‬‬ ‫‪119‬‬

‫فعــن جنــدب بــن عبــد الله ‪ ‬قــال‪ :‬قــال النبــي ﷺ‪« :‬مــن قتــل تحــت رايــة‬ ‫عميــة يدعــو عصبيــة‪ ،‬أو ينصــر عصبيــة‪ ،‬فقتلتــه جاهليــة»(‪.)1‬‬ ‫عـن واثلـة بـن الأسـقع ‪ ‬قـال‪ :‬قلـت‪ :‬يـا رسـول الله‪ ،‬مـا العصبيـة؟ قـال‪« :‬أن‬ ‫تعيـن قومـك علـى الظلـم»(‪.)2‬‬ ‫عـن سـراقة بـن مالـك بـن جعشـم ‪ :‬أن رسـول الله ﷺ خطبنا فقـال‪« :‬خيركم‬ ‫المدافـع عـن عشـيرته‪ ،‬مـا لم يأثـم»(‪.)3‬‬ ‫عـن عبـد الله بـن مسـعود ‪ ‬قـال‪« :‬مـن نصـر قومـه علـى غيـر الحـق‪ ،‬فهـو‬ ‫كالبعيــر الــذي ردي‪ ،‬فهــو ينــزع بذنبــه»(‪.)4‬‬ ‫* التحذير من ترويع المؤمنين‪:‬‬ ‫وقـد حذرنـا رسـول الله ﷺ مـن ترويـع المؤمنيـن فـي كثيـر مـن أحاديثـه؛ لأنـه‬ ‫يــؤدي إلــى الخــاف والنــزاع‪ ،‬المفضــي إلــى الشــحناء والبغضــاء‪ ،‬التــي تقــدح‬ ‫شــرارة الفتـن بيـن أفــراد الأمــة‪ ،‬فحرصـاً منـه ﷺ علـى ســامة الصــدور ونقـاء‬ ‫النفـوس حـ َّرم علـى أفـراد الأمـة ترويـع بعضهـم البعـض‪.‬‬ ‫عــن أبــي هريــرة ‪ ‬قــال‪ :‬قــال رســول الله ﷺ‪« :‬لا يُ ِشــ ْر أحدكــم إلــى أخيــه‬ ‫بالسـاح‪ ،‬فإنـه لا يـدري لعـل الشـيطا َن ينـزع فـي يـده‪ ،‬فيقـع في حفـرة من النـار»(‪.)5‬‬ ‫وفي رواية‪« :‬من أشار إلى أخيه بحديدة‪ ،‬فإ َّن الملائكةَ تلعنه»(‪.)6‬‬ ‫(‪ )1‬أخرجه مسلم في كتاب الإمارة‪ ،‬باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن‪ ،1949/4:‬رقم (‪.)1850‬‬ ‫والراية العمية‪ :‬هي الأمر الأعمى لا يستبين وجهه‪ .‬شرح صحيح مسلم للنووي‪.238/12:‬‬ ‫(‪ )2‬أخرجه أبو داود في كتا ب الأدب‪ ،‬باب في العصبية‪ ،331/4:‬رقم (‪ ،)5121‬والإمام أحمد في مسند واثلة بن الأسقع‬ ‫‪ ،197/28:‬رقم (‪ ،)16989‬والطبراني في الكبير‪ ،98/22:‬والبيهقي في الكبرى‪ ،395/10:‬رقم (‪.)21076‬‬ ‫(‪ )3‬أخرجه أبو داود في كتاب الأدب‪ ،‬باب في العصبية‪ ،331/4:‬رقم (‪ ،)5120‬وقال‪\" :‬أيوب بن سويد ضعيف\"‪،‬‬ ‫والطبراني في المعجم الصغير‪ ،197/2:‬رقم (‪ ،)1020‬والبيهقي في شعب الإيمان‪ ،348/10:‬رقم (‪.)7605‬‬ ‫(‪ )4‬أخرجه أبو داود في كتاب الأدب‪ ،‬باب في العصبية‪ ،331/4:‬رقم (‪ .)5117‬وإسناده صحيح‪.‬‬ ‫(‪ )5‬أخرجه البخاري في كتاب الفتن‪ ،‬باب قول النبي ﷺ‪« :‬من حمل علينا السلاح فليس منا»‪ ،2592/6 :‬رقم‬ ‫(‪ ، )6661‬ومسلم في كتاب البر والصلة‪ ،‬باب النهي عن الإشارة بالسلاح إلى مسلم‪ ،2547/5 :‬رقم (‪.)2617‬‬ ‫(‪ )6‬أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة‪ ،‬باب النهي عن الإشارة بالسلاح إلى مسلم‪ ،2546/5 :‬رقم (‪.)2616‬‬ ‫‪120‬‬

‫سبل النجاة من الفتن‪:‬‬ ‫لقـد رسـم الإسـام لنـا منهجـاً سـديداً‪ ،‬وسـبيلاً واضحـة للنجـاة مـن الفتـن‪،‬‬ ‫والعصمـة مـن ضرامهـا‪ ،‬ومـن هـذا المنهـج القويـم مـا يلـي‪:‬‬ ‫* التعوذ بالله تعالى من الفتن‪:‬‬ ‫أمـر النبـي ﷺ أصحابـه ‪ ‬بالتعـوذ بـالله مـن الفتـن‪ ،‬فقـالﷺ‪« :‬تعـوذوا بـالله‬ ‫مـن الفتـن‪ ،‬مـا ظهـر منهـا ومـا بطـن»(‪ .)1‬وصـح عنـه ﷺ التعـوذُ بـالله مـن كثيـر‬ ‫مـن الفتـن؛ قـال ﷺ‪« :‬أعـوذ بـك مـن فتنـة الدنيـا»(‪.)2‬‬ ‫عـن عائشـة ‪ ،‬أن رسـول الله ﷺ كان يدعـو فـي الصـاة‪« :‬اللهـم إنـي أعـوذ‬ ‫بـك مـن عـذاب القبـر‪ ،‬وأعـوذ بـك مـن فتنـة المسـيح الدجـال‪ ،‬وأعـوذ بـك مـن‬ ‫فتنـة المحيـا‪ ،‬وفتنـة الممـات‪ ،‬اللهـم إنـي أعـوذ بـك مـن المأثـم والمغـرم»‪ ،‬فقـال‬ ‫لـه قائـل‪ :‬مـا أكثـر مـا تسـتعيذ مـن المغـرم‪ ،‬فقـال‪( :‬إن الرجـل إذا غـرم‪ ،‬حـ ّدث‬ ‫فكـذب‪ ،‬ووعـد فأخلـف»(‪.)3‬‬ ‫قـال ابـن دقيـق العيـد رحمـه الله‪ :‬فتنـة المحيـا‪ :‬مـا يعـرض للإنسـان مـدة حياتـه‬ ‫مــن الافتتــان بالدنيــا والشــهوات والجهــالات‪ ،‬وأعظمهــا ـ والعيــاذ بــالله ـ أمــر‬ ‫الخاتمـة عنـد المـوت‪.‬‬ ‫(‪ )1‬أخرجه مسلم في كتاب صفة الجنة‪ ،‬باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه‪ ،2200/4:‬رقم (‪.)2867‬‬ ‫(‪ )2‬أخرجه البخاري في الدعوات‪ ،‬باب الاستعاذة من أرذل العمر‪ ،178/11:‬والترمذي في الدعوات‪،‬‬ ‫باب في دعاء النبي ﷺ وتعوذه في دبر كل صلاة‪ ،562/5:‬رقم (‪ ،)3567‬والنسائي في الاستعاذة‪ ،‬باب‬ ‫الاستعاذة من فتنة الدنيا‪.266/8:‬‬ ‫(‪ )3‬أخرجه البخاري في كتاب الأذان‪ ،‬باب الدعاء قبل السلام‪ ،286/1:‬رقم (‪ ، )832‬ومسلم في كتاب‬ ‫المساجد ومواضع الصلاة‪ ،‬باب ما يستعاذ منه في الصلاة‪ ،718/2:‬رقم (‪ .)589‬والمأثم‪ :‬الأمر الذي‬ ‫يأث ُم به الإنسان‪ ،‬أو هو الإثم نفسه وضع ًا للمصدر موضع الاسم‪ .‬والمغرم‪ :‬هو مصدر ُو ِضع موضع‬ ‫الاسم ويريد به مغرم الذنوب والمعاصي‪ .‬وقيل‪ :‬المغرم كالغرم وهو ال َّدين‪ ،‬ويريد به ما اس ُتدين فيما يكرهه‬ ‫الله‪ ،‬أو فيما يجوز ثم عجز عن أدائه‪ ،‬فأما َدين احتاج إليه وهو قادر على أدائه فلا يستعاذ منه‪ .‬انظر‪ :‬النهاية‪،‬‬ ‫لابن الأثير‪.363/3 ،24/1 :‬‬ ‫‪121‬‬

‫و«فتنــة الممــات»‪ :‬يجــوز أن يــراد بهــا الفتنــة عنــد المــوت‪ ،‬أضيفــت إليــه‬ ‫لقربهـا منـه‪ ،‬ويكـون المـراد علـى هـذا بــ‪« :‬فتنـة المحيـا» مـا قبـل ذلـك‪ .‬ويجـوز‬ ‫أن يـراد بهـا فتنـة القبـر‪ ،‬وقـد صـح أنهـم يفتنـون فـي قبورهـم‪.‬‬ ‫وقيـل‪ :‬أراد بــ‪« :‬فتنـة المحيـا» الابتـاء مـع زوال الصبـر‪ ،‬وبـ‪« :‬فتنـة الممات»‬ ‫السـؤال فـي القبـر مـع الحيـرة(‪.)1‬‬ ‫عـن أسـماء بنـت أبـي بكـر ‪ ،‬قالـت‪ :‬قـال النبـي ﷺ‪« :‬إنـي علـى الحـوض‬ ‫حتـى أنظـر مـن يـرد علـ َّي منكـم‪ ،‬وسـيؤخذ نـاس دونـي‪ ،‬فأقـول‪ :‬يـا رب منـي‬ ‫ومـن أمتـي‪ ،‬فيقـال‪ :‬هـل شـعرت مـا عملـوا بعـدك‪ ،‬والله مـا برحـوا يرجعـون علـى‬ ‫أعقابهـم»‪ ،‬فـكان ابـ ُن أبـي مُليكـة رحمـه الله يقـول‪« :‬اللهـ َّم‪ ..‬إنـا نعـوذ بـك أن‬ ‫نرجـ َع علـى أعقابنـا‪ ،‬أو نُ ْفتَـ َن عـن ديننـا»(‪.)2‬‬ ‫ولمـا رأى النبـي ﷺ عمـار بـن ياسـر ‪ ‬وهـو يحمـل لَبِنتيـن لبنتيـن أثنـاء بنـاء‬ ‫المســجد؛ أخــذ ينفــض التــراب عنــه‪ ،‬ويقــول‪« :‬ويــح عمــار تقتلــه الفئــة الباغيــة‪،‬‬ ‫يدعوهـم إلـى الجنـة‪ ،‬ويدعونـه إلـى النـار»‪ .‬قـال عمـار ‪« :‬أعوذ بـالله من الفتـن»(‪.)3‬‬ ‫قـال الحافـظ ابـن حجـر رحمـه الله‪« :‬فيـ ِه دليـ ٌل َعلَـى اسـتحبا ِب الاسـتعاذة مـن‬ ‫الفتـن‪ ،‬ولـو علـم المـرءُ أنـه متمسـ ٌك فيهـا بالحـق؛ لأنهـا قـد تفضـي إلـى وقـوع‬ ‫مـا لا يـرى وقوعـه‪ ،‬قـال ابـ ُن بطـال‪ :‬وفيـه ردٌّ للحديـث الشـائع‪\" :‬لا تسـتعيذوا بـالله‬ ‫مـن الفتـن؛ فـإن فيهـا حصـادَ المنافقيـن\"‪ .‬قلـ ُت‪ :‬وقـد ُسـئل ابـن وهـب قديمـاً عنـه‬ ‫فقـال‪ :‬إنـه باطـ ٌل»(‪.)4‬‬ ‫َظ َل ُمواْ‬ ‫ٱ َّ ِلي َن‬ ‫َّ‬ ‫فِ ۡت َن ٗة‬ ‫﴿ َوٱ َّت ُقواْ‬ ‫(‪ )1‬انظر‪ :‬عون المعبود‪ ،463/2:‬وفتح الباري‪. 319/2:‬‬ ‫ل‬ ‫تُ ِصي َ َّب‬ ‫تعالى‪:‬‬ ‫الله‬ ‫قول‬ ‫في‬ ‫جاء‬ ‫ما‬ ‫باب‬ ‫الفتن‪،‬‬ ‫كتاب‬ ‫في‬ ‫البخاري‬ ‫أخرجه‬ ‫(‪)2‬‬ ‫ِمن ُك ۡم َخآ َّص ٗة﴾‪ ،46/9:‬رقم (‪ ، )7048‬ومسلم في كتاب الفضائل‪ ،‬باب إثبات حوض نبينا ﷺ‬ ‫وصفاته‪ ،1794/4:‬رقم (‪.)2293‬‬ ‫(‪ )3‬أخرجه البخاري في كتاب الصلاة‪ ،‬باب التعاون في بناء المساجد‪ ،97/1:‬رقم (‪.)447‬‬ ‫(‪ )4‬انظر‪ :‬فتح الباري‪ ،‬لابن حجر‪.543/1:‬‬ ‫‪122‬‬

‫* لُزومُ جماعة المسلمين‪:‬‬ ‫مـن لطـف الله ‪ ‬بهـذه الأمـة المرحومـة أنـه لا يجمعهـا علـى ضلالـة أبـداً‪،‬‬ ‫بـل الحـق فيهـا دائـم مـا دامـت الأمـة‪ ،‬فقـد ضمـن ‪ ‬بقـاءَ طائفـ ٍة مـن الأمـة ثابتـ ٍة‬ ‫علـى الحـق مستمسـكة بـه حتـى يأتيهـا أمـر الله‪ ،‬وهـي علـى ذلـك‪.‬‬ ‫عـن يسـير بـن عمـرو رحمـه الله قـال‪ :‬قلنـا لأبـي مسـعود ‪ ‬اعهـد إلينـا فـإن‬ ‫النـاس قـد وقعـوا فـي الفتـن‪ ،‬ولا نـدري هـل نلقـاك أم لا‪ ،‬قـال‪« :‬اتقـوا الله واصبروا‬ ‫حتـى يسـتريح بَـ ٌّر‪ ،‬أو يُسـترا َح مـن فاجـر‪ ،‬وعليكـم بالجماعـة‪ ،‬فـإ َّن الله لا يجمـع‬ ‫أمـة مح َّمـد ﷺ علـى ضلالـة»(‪.)1‬‬ ‫وعـن ابـن عمـر ‪ ‬قـال رسـول الله ﷺ‪« :‬إن الله لا يجمـع أمتـي ـ أو قـال‪ :‬أمـة‬ ‫محمـد ﷺ ـ علـى ضلالـة‪ ،‬ويـد الله علـى الجماعـة‪ ،‬ومـن شـ َّذ شـ َّذ إلـى النـار»(‪.)2‬‬ ‫وعـن ابـن عمـر ‪ ‬قـال‪ :‬خطبنـا عمـر ‪ ‬بالجابيـة فقـال‪ ...« :‬عليكـم بالجماعـة‬ ‫وإياكـم والفرقـة فـإن الشـيطان مـع الواحـد وهـو مـن الاثنيـن أبعـد‪ ،‬مـن أراد بحبوحة‬ ‫الجنـة فليلـزم الجماعـة‪ ،‬مـن سـرته حسـنته وسـاءته سـيئته فذلك المؤمـن»(‪.)3‬‬ ‫(‪ )1‬أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه‪ ،457/7:‬رقم (‪ ،)37192‬والطبراني في المعجم الكبير‪ ،240/17:‬رقم‬ ‫(‪ ،)666‬والحاكم في المستدرك‪ ،552/4:‬رقم (‪ )8545‬وقال الحاكم‪\" :‬هذا حديث صحيح على شرط‬ ‫مسلم ولم يخرجاه\"‪ ،‬ووافقه الذهبي‪ ،‬والبيهقي في شعب الإيمان‪ ،22/10:‬رقم (‪ ،)7111‬وقال الحافظ‬ ‫ابن حجر في التلخيص الحبير ‪\" :301/3‬إسناده صحيح ومثله لا يقال من قبل الرأي\"‪.‬‬ ‫(‪ )2‬أخرجه الترمذي في الفتن‪ ،‬باب ما جاء في لزوم الجماعة‪ ،466/4:‬رقم (‪ ، )2167‬والحاكم في‬ ‫المستدرك‪ ،201/1:‬رقم (‪ ،)397‬والبغوي في شرح السنة‪ ،‬باب البدع والأهواء‪ ،215/1:‬قال ابن الأثير‬ ‫في جامع الأصول‪( :196/9:‬يد الله على الجماعة) أراد بيد الله‪ :‬سكينته و َأ ْمنَه ورحمته‪ ،‬أي‪ :‬إن الجماعة‬ ‫بعيدة من الأذى والخوف واضطراب الحال‪ ،‬ومثله قوله «يد الله على ال ُفسطاط» يعني‪ :‬المصر‪ ،‬فإن الأذى‬ ‫مع الفرقة‪ ،‬والفساد مع الاختلاف‪ ،‬والخوف مع الانفراد‪( .‬شذ) الشذوذ‪ :‬الانفراد والتو ُّحد‪.‬‬ ‫(‪ )3‬أخرجه الترمذي في الفتن‪ ،‬باب ما جاء في لزوم الجماعة‪ ،466/4:‬رقم (‪ ، )2165‬وقال‪\" :‬حسن صحيح‬ ‫غريب من هذا الوجه\"‪ ،‬والنسائي في السنن الكبرى‪ ،284/8:‬رقم (‪ )9177‬عن جابر بن سمرة ‪‬‬ ‫قال‪ :‬خطبنا عمر ‪ ‬بالجابية فقال‪ :‬قام فينا رسول الله ﷺ مقامي فيكم اليوم فقال‪ ... :‬وساق الحديث‪،‬‬ ‫ومثله عند أبي يعلى الموصلي في مسنده‪ ،131/1:‬رقم (‪ )141‬وعند ابن حبان في صحيحه‪،122/15:‬‬ ‫رقم (‪ ،)6728‬وعند الطبراني في المعجم الأوسط‪ ،204/3:‬رقم (‪.)2929‬‬ ‫‪123‬‬

‫وقـال عبـد الله بـن مسـعود ‪ ‬فـي خطبتـه‪« :‬يـا أيهـا النـاس‪ ..‬عليكـم بالطاعـة‬ ‫والجماعـة‪ ،‬فإنهـا حبـل الله الـذي أمـر بـه‪ ،‬ومـا تكرهـون فـي الجماعـة خيـر ممـا‬ ‫تحبـون فـي ال ُف ْرقَـة»(‪.)1‬‬ ‫وعـن حذيفـة ‪ ‬أن رسـو َل الله ﷺ قـال لـه بعدمـا سـأله فـي حديـث طويـل‪:‬‬ ‫«تلـزم جماعـة المسـلمين وإمامهـم»‪ ،‬قـال‪ :‬فـإن لـم يكـن لهـم جماعـة ولا إمـام؟‬ ‫قـال‪« :‬فاعتـزل تلـك ال ِفـ َرق ُكلَّهـا‪ ،‬ولـو أن تَ َعـ َّض علـى أصل شـجر ٍة حتـى يدركك‬ ‫المـو ُت وأنـت على ذلـك»(‪.)2‬‬ ‫وعــن النعمــان بــن بشــير ‪ ‬قــال رســول الله ﷺ‪ ...« :‬والجماعــة رحمــة‪،‬‬ ‫وال ُف ْرقَــة عــذاب»(‪.)3‬‬ ‫وقـال ُم َطـ ِّرف‪ :‬قلـت لعمـران بـن حصيـن ‪\" :‬أنـا أفقـر إلـى الجماعـة مـن‬ ‫عجــوز أرملــة؛ لأنهــا إذا كانــت جماعــة عرفــ ُت قبلتــي ووجهــي‪ ،‬وإذا كانــت‬ ‫الفرقـة التبـس علـ َّي أمـري\" قـال لـه‪\" :‬إن الله َعـ َّز و َجـ َّل سـيكفيك مـن ذلـك مـا‬ ‫تُح ـا ِذر\"(‪.)4‬‬ ‫(‪ )1‬أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه‪ ،474/7:‬رقم (‪ ،)37337‬والآجري في الشريعة‪ ،298/1:‬رقم (‪،)17‬‬ ‫والطبراني في المعجم الكبير‪ ،198/9:‬رقم (‪ ،)8971‬والحاكم في المستدرك‪ ،598/4:‬رقم (‪،)8663‬‬ ‫وأبو نعيم في حلية الأولياء‪ ،249/9:‬وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ‪\" :222/5‬رواه الطبراني‪ ،‬في حديث‬ ‫طويل‪ ،‬وفيه ثابت بن قطبة ولم أعرفه‪ ،‬وبقية رجاله ثقات\"‪.‬‬ ‫(‪ )2‬أخرجه البخاري في الفتن‪ ،‬باب كيف الأمر إذا لم تكن جماعة؟‪ ،51/9:‬رقم (‪ ،)7084‬ومسلم في الإمارة‪،‬‬ ‫باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن وفي كل حال‪ ،1475/3:‬رقم (‪.)1847‬‬ ‫(‪ )3‬أخرجه ال ِإمام أحمد في مسنده‪ ،375 ،278/4:‬وابن أبي عاصم في ال ُّسنَّة‪ ،435/2:‬رقم (‪،)895‬‬ ‫والطبراني في المعجم الكبير‪ ،85/21:‬رقم (‪ ،)84‬والشهاب القضاعي في مسنده‪ ،43/1:‬رقم (‪،)15‬‬ ‫والبيهقي في شعب الإيمان‪ ،377/11:‬رقم (‪ ،)8698‬وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ‪\" :182/8‬رواه‬ ‫عبد الله‪ ،‬وأبو عبد الرحمن راويه عن الشعبي لم أعرفه‪ ،‬وبقية رجاله ثقات\"‪.‬‬ ‫(‪ )4‬أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء‪.208/2:‬‬ ‫‪124‬‬

‫ومـن أهـم المظاهر التي تشـد المسـلمين شـ َّداً إلى حبـل الله وصراطه المسـتقيم‬ ‫المواظبـة علـى حضـور صـاة الجماعـة حتـى فـي أحلـك أوقـات الفتـن‪ ،‬باعتبـار‬ ‫ذلـك مـن مظاهـر التعـاون علـى البـ ِّر والتقـوى‪ ،‬وهـي ـ إن لـم تسـتأص ْل الفتنـةَ‬ ‫ـ فإنهـا تُ َح ِّجـم أضرارهـا‪ ،‬وتذكـر المسـلمين بأخـوة الإيمـان‪ ،‬ووحـدة العقيـدة‪،‬‬ ‫واسـتصحاب أصـل الائتـاف والتلاحـم‪.‬‬ ‫عـن عبيـد الله بـن عـدي بـن خيـار أنـه دخـل علـى عثمـان بـ ِن عفـان ‪ ‬وهـو‬ ‫محصـور‪ ،‬فقـال‪ :‬إنـك إمـام عامـة‪ ،‬ونـزل بـك مـا نـرى‪ ،‬ويصلـي لنـا إمـام فتنـة‪،‬‬ ‫ونتحـرج‪ ،‬فقـال‪« :‬الصـاة أحسـن مـا يعمـل النـاس‪ ،‬فـإذا أحسـن النـاس فأح ِسـ ْن‬ ‫معهـم‪ ،‬وإذا أسـاءوا فاجتنـب إسـاءتهم»(‪.)1‬‬ ‫قـال الحافـظ ابـن حجـر رحمـه الله‪« :‬وفـي هـذا الأثـر الحـ ُّض علـى شـهود‬ ‫الجماعـة‪ ،‬ولا سـيما فـي زمـن الفتنـة؛ لئـا يـزداد تفـرق الكلمـة‪ ،‬وفيـه‪ :‬أن الصلاة‬ ‫خلـف مـن تُكـره الصـاةُ خل َفـه أولـى مـن تعطيـل الجماعـة»(‪.)2‬‬ ‫وعـن القاسـم بـن عبـد الرحمـن‪ :‬أنهـم قالـوا لابـن عمـر ‪ ‬فـي الفتنـة الأولى‪:‬‬ ‫ألا تخـرج فتقاتـل؟ فقـال‪« :‬قـد قاتلـ ُت والأنصـا ُب بيـن الركـن والبـاب‪ ،‬حتـى نفاها‬ ‫الله ‪ ‬مـن أرض العـرب؛ فأنـا أكـره أن أقاتـل مـن يقـول‪ :‬لا إلـه إلا الله»‪ ،‬قالـوا‪:‬‬ ‫والله مــا رأيــك ذلــك‪ ،‬ولكنــك أردت أن يُ ْفنِــ َي أصحــا ُب رســو ِل الله ‪ ‬بع ُضهــم‬ ‫بعضـاً حتـى إذا لـم يبـ َق غيـ ُرك‪ ،‬قيـل‪ :‬بايِعـوا لعبـد الله بـن عمـر بإمـارة المؤمنيـن\"‪،‬‬ ‫(‪ )1‬أخرجه البخاري في صلاة الجماعة‪ ،‬باب إمامة المفتون والمبتدع‪ ،141/1:‬رقم (‪ .)695‬قوله‪( :‬إنك إمام‬ ‫عامة)؛ أي‪ :‬جماعة‪ ،‬وفي رواية يونس (وأنت الإمام)؛ أي‪ :‬الأعظم‪ ،‬وقوله (فإذا أحسن الناس فأحسن)‪:‬‬ ‫ظاهره أنه رخص له في الصلاة معهم كأنه يقول لا يضرك كونه مفتونا بل إذا أحسن فوافقه على إحسانه‬ ‫واترك ما افتتن به‪ .‬انظر‪ :‬فتح الباري‪.189/2:‬‬ ‫(‪ )2‬انظر‪ :‬فتح الباري‪ ،‬لابن حجر‪.190/2:‬‬ ‫‪125‬‬

‫قـال‪« :‬واللهَ مـا ذلـك فِـ َّي‪ ،‬ولكـن إذا قلتـم‪َ :‬حـ َّي علـى الصـاة‪ ،‬أجبتكـم‪َ ،‬حـ َّي على‬ ‫الفـاح‪ ،‬أجبتكـم‪ ،‬وإذا افترقتـم لـم أجامعكـم‪ ،‬وإذا اجتمعتـم لـم أفارقكـم»(‪.)1‬‬ ‫وعـن ابـن جريـج رحمـه الله قـال‪ :‬قلـت لعطـاء رحمـه الله‪ :‬أرأيـت إمامـاً يؤخـر‬ ‫الصــاة حتــى يصليهــا مفرطــاً فيهــا؟ قــال‪« :‬أصلــي مــع الجماعــة أحــب إلــي»‪،‬‬ ‫قلـت‪ :‬فمـا لـك ألا تنتهـي إلـى قـول ابـن مسـعود ‪ ‬فـي ذلـك؟ قـال‪« :‬الجماعـة‬ ‫أحــب إلــي إذا لــم تفــت» ‪ ،‬قلــت‪ :‬وإن اصفــرت الشــمس للغــروب ولحقــت‬ ‫بـرؤوس الجبـال؟ قـال‪« :‬نعـم‪ ،‬مـا لـم تغـب»(‪.)1‬‬ ‫وعـن أبـي الأشـعث رحمـه الله قـال‪ :‬ظهـرت الخـوارج علينـا‪ ،‬فسـأل ُت يحيـي ب َن‬ ‫أبـي كثيـر رحمـه الله‪ ،‬فقلـت‪ :‬يـا أبـا نصـر‪ ،‬كيـف تـرى فـي الصـاة خلـف هـؤلاء؟‬ ‫قـال‪« :‬القـرآ ُن إمامُـك‪َ ،‬صـ ِّل معهـم مـا َصلَّ ْوهـا»(‪.)2‬‬ ‫وعــن الحســن البصــري رحمــه الله قــال‪« :‬لا تضــر المؤمــ َن صلاتُــه خلــف‬ ‫المنافــق‪ ،‬ولا تنفــع المنافــ َق صلاتُــه خلــف المؤمــن»(‪.)3‬‬ ‫ * * *‬ ‫ ‬ ‫(‪ )1‬أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء‪.294/1:‬‬ ‫(‪ )2‬أخرجه عبد الرزاق في مصنفه‪ ،384/2:‬رقم (‪ ،)3792‬وانظر‪ :‬ال ُمح ّل‪ ،‬لابن حزم الظاهري‪.129/3:‬‬ ‫(‪ )3‬أخرجه عبد الرزاق في مصنفه ‪ ،386/2‬رقم (‪ ،)3802‬وانظر‪ :‬ال ُمح ّل‪ ،‬لابن حزم الظاهري‪.129/3:‬‬ ‫(‪ )4‬انظر‪ :‬ال ُمح ّل‪ ،‬لابن حزم الظاهري‪.130/3:‬‬ ‫‪126‬‬

‫* الإكثار من العمل الصالح‪:‬‬ ‫ينشـغل كثيـ ٌر مـن النـاس أيـام الفتـن والنـوازل بتتبـع الأخبـار‪ ،‬ويولعـون بذلك‪،‬‬ ‫و ِمــن ثَــ َّم يغلــب علــى أحاديــث المجالــس‪\" :‬ســمعت‪ ،..‬ورأيــت‪ ،..‬وأتوقــع‪،..‬‬ ‫ولــو كان كــذا كان أولــى‪ ،..‬ولــو قُــ ّدم هــذا أو أُ ِّخــر ذاك لــكان أحــرى‪ ،\"..‬ممــا‬ ‫يصـرف هممهـم عـن مهمـات الأمـور والنوافـل المسـتحبة‪ ،‬وربمـا ف َّرطـوا فـي‬ ‫الواجبـات‪ ،‬أو أخرجـوا الصـاة عـن وقتهـا؛ بسـبب السـمر فـي الجـدل والقيـل‬ ‫والقـال‪ ،‬إلـى جانـب الإخـال بواجبـات المعـاش‪ ،‬والتقاعـس عـن أداء حقـوق‬ ‫الأهــل والأولاد‪.‬‬ ‫كل ذلــك بســبب الانشــغال بالقيــل والقــال‪ ،‬والإغــراق فــي تصفــح الجرائــد‬ ‫والمجـات‪ ،‬ومتابعـة القنـوات والمحطـات‪ ،‬بـل الشـغف بذلـك إلـى حـد إدمانهـا‬ ‫والوقـوع فـي أسـرها‪.‬‬ ‫وهـذا كلـه انحـراف عـن الهـدي النبـوي فـي التعامـل مـع الفتنـة‪ ،‬فـإن مـن‬ ‫هديــه ﷺ مــا يأتــي‪:‬‬ ‫عـن أبـي هريـرة ‪ ‬قـال‪ :‬قـال رسـول الله ﷺ‪« :‬بـادروا بالأعمـال فتنـاً كقطـع‬ ‫الليــل المظلــم‪ ،‬يصبــح الرجــل مؤمنــاً ويمســي كافــراً‪ ،‬ويمســي مومنــاً ويصبــح‬ ‫كافـراً‪ ،‬يبيـع دينـه بعـرض مـن الدنيـا»(‪.)1‬‬ ‫وكان الحسـن البصـر ّي رحمـه الله يقـول‪« :‬يصبـح الرجـل ُم َح ِّرمـاً لـدم أخيـه‬ ‫و ِعرضـه ومالـه‪ ،‬ويمسـي مسـتحلّ لـه‪ ،‬ويُمسـي مُ َح ِّرمـاً لـدم أخيـه وعرضـه وماله‪،‬‬ ‫ويصبـح مسـتحلّ لـه»(‪.)2‬‬ ‫(‪ )1‬أخرجه مسلم في كتاب الإيمان‪ ،‬باب الحث على المبادرة بالأعمال قبل تظاهر الفتن‪ ،110/1:‬رقم (‪،)118‬‬ ‫والترمذي في كتاب الفتن‪ ،‬باب ما جاء ستكون فتن كقطع الليل المظلم‪ ،487/4:‬رقم (‪ ،)2196‬والإمام‬ ‫أحمد في مسنده‪.304/2:‬‬ ‫(‪ )2‬أخرجه الترمذي في كتاب الفتن‪ ،‬باب ما جاء ستكون فتن كقطع الليل المظلم‪ ،488/4:‬رقم (‪.)2198‬‬ ‫‪127‬‬

‫وعـن أبـي هريـرة ‪ ‬أن رسـول الله ﷺ قـال‪« :‬بـادروا بالأعمـال سـتاً‪ :‬الدجال‪،‬‬ ‫والدخـان‪ ،‬ودابـة الأرض‪ ،‬وطلـوع الشـمس مـن مغربهـا‪ ،‬وأمـر العامـة‪ ،‬وخويصـة‬ ‫أحدكم»(‪.)1‬‬ ‫وعـن أم سـلمة ‪ ‬قالـت‪ :‬اسـتيقظ رسـول الله ﷺ ليلـ ًة فَ ِزعـاً يقول‪« :‬سـبحان الله‪..‬‬ ‫مـاذا أنـزل الله مـن الخزائـن؟ ومـاذا أنـزل مـن الفتـن؟ مـن يوقـظ صواحـب الحجـرات‬ ‫ـ يريـد أزواجـه ـ لكـي يصليـن؟ ر َّب كاسـي ٍة فـي الدنيـا عاريـة فـي الآخـرة»(‪.)2‬‬ ‫فالعمــل الصالــح ـ ولا ســيما وقــت الفتــن والمحــن ـ وســيلة للثبــات علــى‬ ‫الحـق‪ ،‬قـال الله ‪َ ﴿ :‬ولَـ ۡو َأ َّن ُهـ ۡم َف َع ُلـواْ َمـا يُو َع ُظـو َن بِـهِۦ لَـ َا َن َخـ ۡ ٗرا لَّ ُهـ ۡم َوأَ َشـ َّد‬ ‫تَ ۡثبِي ٗتــا ‪[ ﴾٦٦‬الآية‪/‬النســاء]‪ .‬ولا ســيما الدعــاء والتضــرع والتوبــة والإنابــة‪.‬‬ ‫فالنفــس ـ وقــت الفتــن ـ إن لــم يبــادر المؤمــن بإشــغالها بالحــق‪ ،‬شــغلته‬ ‫بالباطـل‪ ،‬لذلـك قـال الشـافعي ‪« :‬صحبـ ُت الصوفيـة‪ ،‬فلـم أسـتفد منهـم سـوى‬ ‫حرفيـن‪ :‬أحدهمـا قولهـم‪ :‬الوقـت سـيف فـإ ْن قطعتـه وإلاّ قطعـك‪ ،‬ونفسـك إن لـم‬ ‫تشـغلها بالحـق وإلا شـغلتك بالباطـل»(‪.)3‬‬ ‫فصاحـب الأعمـال الصالحـة لا يخزيـه الله أبـداً‪ :‬ففـي حديـث (بـدء الوحـي)‬ ‫قالــت الســيدة خديجــة ‪ ‬للنبــي ﷺ‪«\" :‬كلا والله‪ ..‬لا يخزيــك الله أبــداً‪ ،‬إنــك‬ ‫لتصــل الرحــم‪ ،‬وتَ ْقــ ِري الضيــ َف‪ ،‬وتَ ْح ِمــ ُل الــ َك َّل‪ ،‬وتُ ْك ِســ ُب المعــدو َم‪ ،‬وتُعيــن‬ ‫عل ـى نوائ ـب الح ـق»(‪.)4‬‬ ‫(‪ )1‬أخرجه مسلم في الفتن‪ ،‬باب في بقية من أحاديث الدجال‪ ،2267/4:‬رقم (‪.)2947‬‬ ‫(‪ )2‬أخرجه البخاري في الفتن‪ ،‬باب لا يأتي زمان إلا الذي بعده شر منه‪ ،49/9:‬رقم (‪ .)7069‬قوله‪« :‬ماذا‬ ‫أنزل من ‪»...‬؛ أي‪ :‬أنه أوحي إليه ﷺ في نومه ذاك بما سيقع بعده من الفتن‪ ،‬فع َّب عنه بالإنزال‪ ،‬وفي قوله‪:‬‬ ‫«من يوقظ صواحب‪ »...‬الندب إلى الدعاء والتضرع عند نزول الفتنة‪ ،‬ولا سيما في الليل لرجاء وقت‬ ‫الإجابة‪ ،‬ل ُت ْك َشف أو َي ْسلم الداعي ومن دعا له‪ .‬انظر‪ :‬فتح الباري‪ ،‬لابن حجر العسقلاني‪.22/13:‬‬ ‫(‪ )3‬انظر‪ :‬مدارج السالكين‪ ،129/3:‬ومناقب الشافعي‪ ،‬للبيهقي‪.208/2:‬‬ ‫(‪ )4‬أخرجه البخاري في بدء الوحي‪ ،‬باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ‪ ،7/1:‬رقم (‪ ،)3‬ومسلم في‬ ‫كتاب الإيمان‪ ،‬باب بدء الوحي برسول الله ﷺ‪ ،139/1:‬رقم (‪ ،)160‬من حديث أم المؤمنين عائشة ‪.‬‬ ‫‪128‬‬

‫و ُروي عن النبي ﷺ أنه قال‪« :‬صنائع المعروف تقي مصارع السوء»(‪.)1‬‬ ‫دلـت النصـوص الصريحـة الصحيحـة علـى فضـل العبـادة عنـد الفتـن‪ ،‬ومـن‬ ‫هـذه النصـوص حديـث مَع ِقـل بـن يسـار ‪ ‬أن رسـول الله ﷺ قـال‪« :‬العبـادة فـي‬ ‫الهـرج كهجـرة إلـ َّي»(‪.)2‬‬ ‫قـال الإمـام النـووي رحمـه الله‪« :‬المـراد بــ‪( :‬الهـرج) هنـا الفتنـة واختـاط أمور‬ ‫النـاس‪ ،‬وسـبب كثـرة فضـ ِل العبـادة فيـه أ ّن النـاس يغفلـون عنهـا‪ ،‬ويشـتغلون عنهـا‬ ‫ولا يتفـرغ لهـا إلا أفـراد»(‪.)3‬‬ ‫قــال الإمــام المنــاوي رحمــه الله‪(« :‬العبــادة فــي الهــرج) أي‪ :‬وقــت الفتــن‬ ‫واختـاط الأمـور‪( ،‬كهجـرة إلـ َّي) فـي كثـرة الثـواب‪ ،‬أو يقـال‪ :‬المهاجـر فـي الأول‬ ‫كان قليـاً‪ ،‬لعـدم تمكـن أكثـر النـاس مـن ذلـك‪ ،‬فهكـذا العابـد فـي الهـرج قليـل»‪.‬‬ ‫قـال ابـن العربـي رحمـه الله‪« :‬وجـه تمثيلـه بالهجـرة أن الزمـن الأول كان النـاس‬ ‫يفــرون فيــه مــن دار الكفــر وأهلــه إلــى دار الإيمــان وأهلــه‪ ،‬فــإذا وقعــت الفتــن‬ ‫تعيَّـ َن علـى المـرء أن يفـر بدينـه مـن الفتنـة إلـى العبـادة‪ ،‬ويهجـر أولئـك القـوم‬ ‫وتلـك الحالـة وهـو أحـد أقسـام الهجـرة»(‪.)4‬‬ ‫(‪ )1‬أخرجه ابن زنجويه في كتابه الأموال‪ ،760/2:‬رقم ‪1311‬عن زيد بن أسلم عن أبيه مرفوع ًا‪ ،‬والطبراني‬ ‫في المعجم الكبير‪ ،261/8:‬رقم (‪ )8014‬عن أبي أمامة مرفوع ًا‪ ،‬وفي الأوسط له‪ ،289/1:‬رقم (‪)943‬‬ ‫عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده مرفوع ًا‪ ،‬وأيض ًا في الأوسط له‪ ،163/6:‬رقم (‪ )6086‬عن أم سلمة‬ ‫مرفوع ًا‪ ،‬والشهاب القضاعي في مسنده‪ ،94/1:‬رقم (‪ )102‬عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده‪ ،‬وقال‬ ‫الهيثمي في مجمع الزوائد ‪\" :115/3‬رواه الطبراني في الكبير‪ ،‬وإسناده حسن\"‪.‬‬ ‫(‪ )2‬أخرجه مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة‪ ،‬باب فضل العبادة في الهرج‪ ،2781/5:‬رقم (‪.)2948‬‬ ‫(‪ )3‬انظر‪ :‬شرح النووي على صحيح مسلم‪.88/18:‬‬ ‫(‪ )4‬انظر‪ :‬فيض القدير‪ ،‬للمناوي‪.373/4:‬‬ ‫‪129‬‬

‫قـال الأُبِّـ ُّي المالكـي رحمـه الله‪« :‬ال َهـ ْر ُج‪ :‬الفتنـة والاختـاط‪ ،‬ووجـه التشـبيه‪:‬‬ ‫أن المهاجـر فَـ َّر بدينـه ممـن يصـده عنـه إلـى الاعتصـام برسـول الله ﷺ‪ ،‬وكذلـك‬ ‫هـذا المنقطـع للعبـادة فـي الفتنـة فَـ َّر عـن النـاس بدينـه إلـى الاعتصـام بعبـادة ربـه‬ ‫عـز وجـل‪ ،‬فهـو مهاجـر إلـى الله سـبحانه وتعالـى»(‪.)1‬‬ ‫ونحـن فـي هـذا الزمـان نـرى انشـغال النـاس عنـد الفتـن بقيـل وقـال‪ ،‬وكثـرة‬ ‫السـؤال‪ ،‬ومتابعـة وسـائل الإعـام‪ ،‬بـل بعـ ُض مـن كان مهجـوراً مـن القنـوات‬ ‫الفضائيـة أدخلـت إلـى البيـت بدعـوى متابعـة آخـر الأخبار ومسـتجدات السـاحة‪.‬‬ ‫عـن أبـي هريـرة ‪ :‬قـال‪ :‬قـال رسـول الله ﷺ‪« :‬إنكـم فـي زمـان مـن تـرك‬ ‫فيـه ُعشـ َر مـا أمـر بـه هلـك‪ ،‬ثـم يأتـي زمـان مـن عمـل فيـه ب ُعشـر مـا أمـر بـه نجـا‪،‬‬ ‫وإن مـن ورائكـم أيـام الصبـر‪ ،‬الصبـر فيهـن كالقبـض علـى الجمـر‪ ،‬وإ َّن العبـادة‬ ‫َو َقٰ َتـ َل ۚأُ ْو َ ٰٓلئِ َك‬ ‫ْ ِم ِمنــ ۢنُكـَب ۡمعــَّم ُـد ۡنَو أََقٰن َت َفلُـــَقۚواْ ِم َو ُن ّٗ َقك ۡب َـو َِعلــٱ ۡلَد َفٱۡتـلَّ ُِلح‬ ‫فـي الهـرج كهجـرة إلـ َّي»(‪.)2‬‬ ‫ٱ ۡ ُل ۡســ َ ٰىۚ َوٱلَّ ُل‬ ‫أَ ۡع َظوــقـُمد َدقَرـاَجـلـ ٗاةلل ِّمهــ َن‪‬ٱ‪ِ َّ :‬لي﴿ َــل َين َ أَۡسنـَف َت ُقوِــويا‬ ‫بِ َمـا َت ۡع َملُـو َن َخبِـر‪[ ﴾١٠ ٞ‬الآية‪/‬الحديـد]؛ لأن الذيـن أنفقـوا مـن قبـل الفتـح وقاتلـوا‬ ‫فعلـوا ذلـك فـي وقـت خـوف وقلـة‪ ،‬بخـاف مـن فعـل ذلـك بعـد الفتـح‪ ،‬فإنهـم‬ ‫ـ وإن كانـوا موعوديـن بالحسـنى ـ إلا أنهـم أنفقـوا وقاتلـوا بعـد عـزة ال ِإسـام‬ ‫وقـوة أهلـه‪.‬‬ ‫(‪ )1‬انظر‪ :‬إكمال إكمال المعلم‪.283/7:‬‬ ‫(‪ )2‬أخرجه الترمذي في كتاب الفتن‪ ،530/4:‬رقم (‪ ، )2267‬وقال الترمذي‪« :‬هذا حديث غريب لا نعرفه‬ ‫إلا من حديث نعيم بن حماد‪ ،‬عن سفيان بن عيينة»‪ ،‬والإمام الداني في السنن الواردة في الفتن‪،541/3:‬‬ ‫رقم (‪.)229‬‬ ‫‪130‬‬

‫* الإكثار من الصلاة يدفع الفتن‪:‬‬ ‫وقـال الله ‪َ ﴿ :‬وٱ ۡسـ َت ِعي ُنواْ بِٱل َّصـ ۡ ِر َوٱل َّصلَـ ٰوةِ﴾ [الآية‪/‬البقرة‪]45:‬؛ وذلـك لأن الصلاة‬ ‫مـن أكبـر العـون علـى الثبـات فـي الأمـر‪ ،‬وقـال ‪ ‬مخاطبـاً نبيـه محمـداً ﷺ‪:‬‬ ‫َر ّبِـ َك َو ُكـن ِّمـ َن‬ ‫َف َسـ ّبِ ۡح ِ َب ۡمـ ِد‬ ‫يَبِأۡ َمتِـَياــ َي َُقكوٱلُ ۡـ َلو ِق َـنـ ‪ُ٧‬ن‪٩‬‬ ‫َأنَّـ َك يَ ِضيـ ُق َصـ ۡد ُر َك‬ ‫﴿ َولَ َقـ ۡد َن ۡعلَـ ُم‬ ‫فأمـره أ ْن يفـزع‬ ‫‪[ ﴾٩٩‬الحجـر]‪.‬‬ ‫َوٱ ۡع ُبــ ۡد َر َّبــ َك َحــ َّ ٰى‬ ‫ٱل َّ ٰســ ِج ِدي َن ‪٩٨‬‬ ‫إلـى الصـاة والذكـر إذا ضـاق صـدره بمـا يقولـه أعـداء الديـن‪ ،‬فـإن فـي ذلـك‬ ‫شـرحاً للصـدر‪ ،‬وتفريجـاً للكربـة‪ ،‬وهكـذا كان هديـه ﷺ؛ فقـد كان إذا حزبـه أمـر‬ ‫فـزع إلـى الصـاة‪ ،‬كمـا قـال حذيفـة ‪« :‬رجعـت إلـى النبـي ﷺ ليلـة الأحـزاب‬ ‫وهـو مشـتمل فـي شـملة يصلـي‪ ،‬وكان رسـول الله ﷺ إذا َح َزبـه أَ ْمـ ٌر َصلـى»(‪.)1‬‬ ‫وعـن أميـر المؤمنيـن علـ ٍّي ‪ ‬قـال‪« :‬لقـد رأيتنـا ليلـة بـدر‪ ،‬ومـا فينـا إنسـان إلا‬ ‫نائـم‪ ،‬إلا رسـول الله ﷺ فإنـه كان يصلـي إلـى شـجرة‪ ،‬ويدعـو حتـى أصبـح»(‪.)2‬‬ ‫وكان النبــي ﷺ إذا أصابتــه خصاصــة نــادى بأهلــه‪« :‬يــا أهــاه‪ ..‬صلــوا‪..‬‬ ‫صلـوا‪ .»..‬قـال ثابـت‪« :‬وكان الأنبيـاء إذا نـزل بهـم أمـر فزعـوا إلـى الصـاة»(‪.)3‬‬ ‫وعــن أبــي الــدرداء ‪ ‬قــال‪« :‬كان النبــي ﷺ إذا كان ليلــة ريــح شــديدة‪ ،‬كان‬ ‫مفزعـه إلـى المسـجد حتـى تسـكن الريـح‪ ،‬وإذا حـدث فـي السـماء حـدث مـن‬ ‫خسـوف شـمس أو قمـر كان مفزعـه إلـى الصـاة حتـى ينجلـي»(‪.)4‬‬ ‫(‪ )1‬أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة‪ ،‬باب وقت قيام النبي ﷺ من الليل‪ ،35/2:‬رقم (‪، )1319‬‬ ‫وال ِإمام أحمد ‪ ،388/5‬وابن جرير الطبري في تفسيره‪ ،12/1:‬ومحمد بن نصر المروزي في تعظيم قدر‬ ‫الصلاة‪ ،231/1:‬رقم (‪ )212‬واللفظ له‪ ،‬والبيهقي في شعب الإيمان‪ ،516/4:‬رقم (‪.)2912‬‬ ‫(‪ )2‬أخرجه الإمام أحمد في مسنده‪ ،125/1:‬والنسائي في السنن الكبرى‪ ،406/1:‬رقم (‪.)825‬‬ ‫(‪ )3‬أخرجه البيهقي في شعب الإيمان‪ ،518/4:‬رقم (‪.)2915‬‬ ‫(‪ )4‬أخرجه أبو الشيخ الأصبهاني في كتابه العظمة‪ ،1331/4:‬وابن أبي الدنيا في المطر والرعد والبرق‪:‬‬ ‫ص‪ ،136‬رقم (‪ ،)132‬وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ‪ ،211/2‬رقم (‪\" :)3275‬رواه الطبراني في الكبير‬ ‫من رواية زياد بن صخر عن أبي الدرداء ولم أجد من ترجمه‪ ،‬وبقية رجاله ثقات والله أعلم\"‪.‬‬ ‫‪131‬‬

‫وعـن يحيـى بـن سـعيد قـال‪ :‬سـمعت عبـد الله بـ َن عامـر بـ ِن ربيعـة يصلـي مـن‬ ‫الليـل حيـن نشـب النـاس فـي الفتنـة‪ ،‬ثـم نـام‪ ،‬فـأُ ِر َي فـي المنـام‪ ،‬فقيـل لـه‪« :‬قـم‬ ‫فسـل الله أ ْن يعيـذك مـن الفتنـة التـي أعـاذ منهـا صالـ َح عبـاد ِه»‪ ،‬فقـام يصلـي‪ ،‬ثـم‬ ‫اشـتكى‪ ،‬فمـا خـرج إلا جنـازة(‪.)1‬‬ ‫وهكـذا كان شـأن الصحابـة الأبـرار ‪ ،‬فقـد ُر ِو َي عـن النضـر بـن عبـد الله‬ ‫القيسـي رحمـه الله أنـه قـال‪ :‬كانـت ُظلْ َمـةٌ علـى عهـد أنـس فأتيتـه‪ ،‬فقلـت‪ :‬يـا أبـا‬ ‫حمـزة‪ ،‬هـل كان هـذا يصيبكـم علـى عهـد رسـول الله ﷺ؟ فقـال‪« :‬معـاذ الله‪ ..‬إن‬ ‫كانـت الريـح لتشـتد فنبـادر إلـى المسـجد مخافـة أن تكـون القيامـة»(‪.)2‬‬ ‫هكــذا كان شــأن الصحابــة ‪ ‬والتابعيــن لهــم بإحســان فــي كل جيــل مــع‬ ‫الصــاة‪ ،‬شــأن الجنــدي مــع ســيفه‪ ،‬وشــأن الغنــي مــع ثروتــه‪ ،‬وشــأن الطفــل‬ ‫الصغيـر مـع بكائـه وصراخـه‪ ،‬واسـتعطافه لـأم الحنـون‪ ،‬بـل كانـوا أكثـر إدلالاً‬ ‫وثقـة بصلاتهـم‪ ،‬وأقـوى اعتمـاداً عليهـا مـن كل ذلـك‪ ،‬وأصبـح ذلـك طبيعـة لهـم‬ ‫لا تفارقهـم‪ ،‬فـإذا أفزعـوا أو أثيـروا‪ ،‬وإذا دهمهـم عـدو‪ ،‬أو تأخـر عليهـم فتـح‪ ،‬أو‬ ‫التبـس عليهـم أمـر‪ ،‬التجـؤوا إلـى الصـاة‪ ،‬وفزعـوا إليهـا‪.‬‬ ‫وفــي أعقــاب معركــة اليرمــوك‪ ،‬وقــف ملــك الــروم يســائل فلــول جيشــه‬ ‫المهـزوم‪ :‬ويلكـم‪ ،‬أخبرونـي عـن هـؤلاء الذيـن يقاتلونكـم‪ ،‬أليسـوا بشـراً مثلكـم؟!‬ ‫قالـوا‪ :‬بلـى أيهـا الملـك‪ ،‬قـال‪ :‬فأنتـم أكثـر أم هـم؟! قالـوا‪ :‬بـل نحـن أكثـر منهـم‬ ‫(‪ )1‬أخرجه نعيم بن حماد في الفتن‪ ،170/1:‬وابن شبة في تاريخ المدينة‪ ،1116/3:‬وأبو نعيم في حلية‬ ‫الأولياء‪ ،178/1:‬وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ‪\" :301/9‬رواه الطبراني‪ ،‬ورجاله رجال الصحيح\"‪.‬‬ ‫(‪ )2‬أخرجه أبو داود في الصلاة‪ ،‬باب الصلاة عند الظلمة ونحوها‪ ،311/1:‬رقم (‪ ، )1196‬والحاكم في‬ ‫المستدرك في كتاب الكسوف‪ ،483/1:‬رقم (‪ ،)1241‬وقال الحاكم‪\" :‬هذا حديث صحيح الإسناد‪ ،‬ولم‬ ‫يخرجاه\"‪ ،‬والبيهقي في السنن الكبرى‪ ،477/3:‬رقم (‪ ،)6378‬وفي شعب الإيمان‪ ،312/2:‬رقم (‪.)965‬‬ ‫‪132‬‬

‫فـي كل موطـن‪ ،‬قـال‪ :‬فمـا بالكـم إذن تنهزمـون؟! فأجابـه شـيخ مـن عظمائهـم‪:‬‬ ‫إنهــم يهزموننــا؛ لأنهــم يقومــون الليــل‪ ،‬ويصومــون النهــار‪ ،‬ويوفــون بالعهــد‪،‬‬ ‫ويتناصفــون بينهــم(‪.)1‬‬ ‫* الإكثار من الدعاء والتضرع ‪:‬‬ ‫الضراعــة إلــى الله تعالــى مــن أســباب كشــف الغمــة وتفريــج الكربــة؛ قــال‬ ‫َق ۡبلِـ َك فَأَ َخ ۡذ َنٰ ُهـم بِٱ ۡ َلأۡ َسـآءِ َوٱلـ َّ َّرآءِ لَ َع َّل ُهـ ۡم‬ ‫اَيل َتله َ َّض ُ‪‬ع‪:‬ـو َ﴿ن َولَ‪َ ٢‬ق‪٤‬ـفَ ۡدلَـأَ ۡۡور َ َسلٓـإِ ۡل ۡذ َنآ َإِجآَ ٰٓلَء أُُه َمــم ٖبَمأۡ ِّمُســ َننا‬ ‫تَ َ َّض ُعـواْ َو َلٰ ِكـن قَ َسـ ۡت ُقلُو ُب ُهـ ۡم َو َز َّيـ َن لَ ُهـ ُم‬ ‫أَ ۡر َسـ ۡل َنا ِف َق ۡر َيـ ٖة‬ ‫نَّ ِ ٍّب‬ ‫ِّمـن‬ ‫[الأع ـراف‪.]94:‬‬ ‫ٱل َّشـ ۡي َطٰ ُن َمـا َكنُـواْ َي ۡع َملُـو َن ‪[ ﴾٤٣‬الأنعـام]‪ ،‬وقـال ‪َ ﴿ :‬و َمـآ‬ ‫إِ َّلٓ أَ َخ ۡذنَــآ أَ ۡهلَ َهــا بِٱ ۡ َلأۡ َســآ ِء َوٱلــ َّ َّرآءِ لَ َع َّل ُهــ ۡم يَ َّ َّض ُعــو َن ‪﴾٩٤‬‬ ‫وعـن أنـس ‪ ‬أن رسـول الله ﷺ مـر بقـوم مبتلَيْـ َن‪ ،‬فقـال‪« :‬أمـا كان هـؤلاء‬ ‫يســألون العافيــة؟!»(‪.)2‬‬ ‫وعنــد الفتــن تطيــش العقــول‪ ،‬وتحتــار النفــوس‪ ،‬فــا تــدري مــاذا تعمــل؟‬ ‫وفـي هـذا الموقـف يغفـل كثيـر مـن النـاس عـن سـاح عظيـم كان ُعـ َّدةً للأنبيـاء‬ ‫والصالحيــن علــى مــر الزمــان‪ ،‬ألا وهــو الدعــاء‪ ،‬قــال ‪ ‬عــن نبيــه نــوح ‪:‬‬ ‫بِ َمــآءٖ‬ ‫ٱل َّســ َمآءِ‬ ‫َأبۡــ َوٰ َب‬ ‫َف َف َت ۡح َنــآ‬ ‫فَٱن َتــ ِ ۡر‬ ‫َم ۡغ ُلــو ‪ٞ‬ب‬ ‫َّ‬ ‫﴿فَــ َد َع‬ ‫‪﴾١١‬‬ ‫ُّم ۡن َه ِمــرٖ‬ ‫‪١٠‬‬ ‫أ ِن‬ ‫َر َّبــ ُه ٓۥ‬ ‫[القمـر]‪ ،‬وقـال ‪ ‬عـن نبيـه يونـس ذي النـون ‪َ ﴿ :‬و َذا ٱلنُّـو ِن إِذ َّذ َهـ َب ُم َغٰ ِض ٗبـا‬ ‫إِ ِّن‬ ‫أَنــ َت‬ ‫إِ َّلٓ‬ ‫إِ َلٰــ َه‬ ‫َّلٓ‬ ‫َ‬ ‫ٱل ُّظ ُل َمٰــ ِت‬ ‫َف َنــا َد ٰى‬ ‫َعلَ ۡيــهِ‬ ‫َّن ۡقــ ِد َر‬ ‫َّلــن‬ ‫َ‬ ‫َف َظــ َّن‬ ‫ُســ ۡب َحٰ َن َك‬ ‫أن‬ ‫ِف‬ ‫أن‬ ‫ُكنــ ُت ِمــ َن ٱل َّظٰلِ ِمــ َن ‪[ ﴾٨٧‬الأنبيــاء]‪.‬‬ ‫(‪ )1‬انظر‪ :‬البداية والنهاية‪ ،‬لابن كثير‪.15/7:‬‬ ‫(‪ )2‬أخرجه البزار في مسنده‪ ،190/13:‬رقم (‪ ،)6643‬وقال الهيثمي في مجمع الزوائد‪\" :147/10‬رواه‬ ‫البزار‪ ،‬ورجاله ثقات\"‪.‬‬ ‫‪133‬‬

‫وقــال تعالــى‪َ ﴿ :‬و َقــا َل َر ُّب ُكــ ُم ٱ ۡد ُعــو ِ ٓن أَ ۡســ َت ِج ۡب َل ُكــ ۡۚم إِ َّن ٱ َّ ِليــ َن ي َ ۡســ َت ۡك ِ ُبو َن‬ ‫َعــ ۡن ِع َبــا َد ِت َســ َي ۡد ُخ ُلو َن َج َه َّنــ َم َدا ِخرِيــ َن ‪[ ﴾٦٠‬غافــر]‪ ،‬وقــال ﷺ‪« :‬الدعــاء هــو‬ ‫العبــادة»(‪.)1‬‬ ‫وقـال أبـو هريـرة ‪« :‬إ َّن أبخـل النـاس مـن بخـل بالسـام‪ ،‬وأعجـز النـاس‬ ‫مـن عجـز عـن الدعـاء»(‪.)2‬‬ ‫ومـن شـأن الفتـن أن تشـتبهَ فيهـا الأمـور‪ ،‬ويُغمـ َض وجـه الحـق‪ ،‬ويلتبـ َس علـى‬ ‫الجمهـور‪ ،‬إلا مـن عصـم الله ورحـم‪ ،‬فمـن أعظـم أسـباب النجـاة الاعتصـام بـالله‬ ‫تعالــى والاســتغاثةُ بــه‪ ،‬ودعــاؤه‪ ،‬فإنــه ‪ ‬القائــل فــي الحديــث القدســي‪« :‬يــا‬ ‫عبـادي كلكـم ضـا ٌل إلا مـن هديتـه‪ ،‬فاسـتهدوني أهدكـم‪ ...‬الحديـث»(‪.)3‬‬ ‫وعــن أبــي ســلمة بــن عبــد الرحمــن بــن عــوف قــال‪ :‬ســألت عائشــة أم‬ ‫المؤمنيـن ‪ :‬بـأي شـيء كان نبـي الله ﷺ يفتتـح صلاتـه إذا قـام مـن الليـل؟‬ ‫قالـت‪ :‬كان إذا قـام مـن الليـل افتتـح صلاتـه‪« :‬اللهـم رب جبرائيـل وميكائيـل‬ ‫وإسـرافيل‪ ،‬فاطـر السـماوات والأرض‪ ،‬عالـم الغيـب والشـهادة‪ ،‬أنـت تحكـم‬ ‫(‪ )1‬أخرجه أبو داود في الصلاة‪ ،‬باب الدعاء‪ ،76/2:‬رقم (‪ ، )1479‬والترمذي في التفسير‪ ،‬باب ومن سورة‬ ‫المؤمن‪ ،374/5:‬رقم (‪ ،)3244‬وقال الترمذي‪\" :‬هذا حديث حسن صحيح\"‪ ،‬وابن ماجه في الدعاء‪ ،‬باب‬ ‫فضل الدعاء‪ ،1258/2:‬رقم (‪ ،)3828‬والإمام أحمد في مسنده‪ ،361/14:‬رقم (‪ ،)8749‬وابن المبارك‬ ‫في الزهد والرقائق‪ ،459/1:‬رقم (‪ ،)1298‬وأبو داود الطيالسي في مسنده‪ ،147/2:‬رقم (‪ ،)838‬وابن‬ ‫أبي شيبة في مصنفه‪ ،21/6:‬رقم (‪.)29167‬‬ ‫(‪ )2‬أخرجه أبو يعلى الموصلي في مسنده‪ ،527/12:‬رقم (‪ ،)6649‬وابن حبان في صحيحه‪،349/10:‬‬ ‫رقم (‪ ،)4498‬والبيهقي في شعب الإيمان‪ ،194/11:‬رقم (‪ ،)8394‬وأبو يعلى الموصلي في المقصد‬ ‫العلي‪ ،342/4:‬رقم (‪ ،)1677‬والضبي في الدعاء‪ :‬ص‪ ،220‬رقم (‪ ،)54‬وعبد الغني المقدسي في‬ ‫الدعاء‪ :‬ص ‪ 53‬ـ ‪ ،55‬رقم (‪ ،)20‬موقوف ًا على أبي هريرة ‪ ‬بإسناد صحيح‪ ،‬وأبو الشيخ الأصبهاني في‬ ‫أمثال الحديث‪ :‬ص ‪ ،289‬رقم (‪ )247‬مرفوع ًا‪.‬‬ ‫(‪ )3‬أخرجه مسلم في البر والصلة‪ ،‬باب تحريم الظلم‪ ،1994/4:‬رقم (‪ ،)2577‬والترمذي في صفة القيامة‬ ‫والرقائق والورع‪ ،656/4:‬رقم (‪.)2497‬‬ ‫‪134‬‬

‫بيـن عبـادك فيمـا كانـوا فيـه يختلفـون‪ ،‬اهدنـي لمـا اختُلـف فيـه مـن الحـق بإذنـك‪،‬‬ ‫إنـك تهـدي مـن تشـاء إلـى صـراط مسـتقيم»(‪.)1‬‬ ‫فالهدايـة إلـى الحـق والاسـتبصار بـه وقـت الفتـن منحـة ربانيـة‪ ،‬وهبـة إلهيـة‪،‬‬ ‫َوٱلَّ ُل‬ ‫بِإِ ۡذنِـهِۗۦ‬ ‫ٱ ۡ َلـ ِّق‬ ‫لِ َمـا ٱ ۡخ َت َل ُفـواْ‬ ‫‪َ ﴿:‬ف َهـ َدى ٱلَّ ُل ٱ َّ ِليـ َن َءا َم ُنـواْ‬ ‫َي ۡه ِدي‬ ‫ِمـ َن‬ ‫فِيـهِ‬ ‫[الآية‪/‬البقـرة]‪.‬‬ ‫ي َ َشـآ ُء إِ َ ٰل ِصـ َرٰ ٖط ُّم ۡسـ َتقِي ٍم ‪﴾٢١٣‬‬ ‫قـال‬ ‫َمـن‬ ‫وكان إبراهيـ ُم التيمـي رحمـه الله يقـول‪« :‬اللهـم اعصمنـي بدينـك وسـنة نبيـك‬ ‫مـن الاختـاف فـي الحـق‪ ،‬ومـن اتبـاع الهـوى‪ ،‬ومـن سـبل الضـال‪ ،‬ومن شـبهات‬ ‫الأمـور‪ ،‬ومـن الزيـغ والخصومـات»‪.‬‬ ‫وقال أبو هريرة ‪« :‬تكون فتنة لا ينجي منها إلا دعاءٌ كدعاء الغريق»(‪.)2‬‬ ‫وقـال حذيفـة بـن اليمـان ‪« :‬ليأتيـن علـى النـاس زمـان‪ ،‬لا ينجـو فيـه إلا مـن‬ ‫دعـا كدعـاء الغريـق»(‪.)3‬‬ ‫وعـن عـون بـن عبـد الله بـن عتبـة قـال‪« :‬بينـا رجـل بمصـر فـي بسـتان ـ زمـن‬ ‫فتنـة آل الزبيـر ـ جالسـاً‪ ،‬كئيبـاً‪ ،‬حزينـاً‪ ،‬يبكـي‪ ،‬ينكـث الأرض بشـيء معـه؛ فرفـع‬ ‫رأسـه‪ ،‬فـإذا صاحـب مسـحاة‪ ،‬قـد ُمثِّـل لـه‪ ،‬فقـال‪ :‬مـا لـي أراك مهمومـاً حزينـاً؟‬ ‫فكأنـه ازدراه‪ ،‬فقـال‪ :‬لا شـيء؛ فقـال‪ :‬أبِالدنيـا؟ فـإن الدنيـا َعـ َر ٌض حاضـر‪ ،‬يـأكل‬ ‫منهــا البــر والفاجــر‪ ،‬أم بالآخــرة؟ فــإن الآخــرة أجــل صــادق‪ ،‬يُف َصــل فيــه بيــن‬ ‫الحـق والباطـل؛ قـال‪ :‬حتـى ذكـر أن لهـا مفاصـ َل كمفاصـل اللحـم‪ ،‬مـن أخطـأ‬ ‫(‪ )1‬أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها‪ ،‬باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه‪ ،534/1:‬رقم‬ ‫(‪ ،)770‬والترمذي في الدعوات‪ ،‬باب ما جاء في الدعاء عند افتتاح الصلاة بالليل‪ ،484/5:‬رقم‬ ‫(‪ ،)3420‬وأبو داود في الصلاة‪ ،‬باب ما يستفتح به الصلاة من الدعاء‪ ،204/1:‬رقم (‪ ،)767‬والنسائي‬ ‫في صلاة الليل‪ ،‬باب بأي شيء تستفتح صلاة الليل‪212/3:‬و‪ ،213‬رقم (‪ ،)1625‬وابن ماجه في‬ ‫الدعاء‪ ،‬باب ما جاء في الدعاء إذا قام الرجل‪ ،431/1:‬رقم (‪.)1357‬‬ ‫(‪ )2‬أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه‪ ،531/7:‬رقم (‪.)37749‬‬ ‫(‪ )3‬أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء‪.274/1:‬‬ ‫‪135‬‬

‫منهـا شـيئاً أخطـأ الحـق‪ ،‬قـال‪ :‬فكأنـه أعجبـه بذلـك مـن كلامـه؛ قـال‪ :‬اهتمامـي‬ ‫بمـا فيـه المسـلمون؛ فقـال‪ :‬إن الله سـينجيك بشـفقتك علـى المسـلمين‪ ،‬وسـل‪،..‬‬ ‫َمـن ذا الـذي سـأل اللهَ فلـم يعطـه‪ ،‬أو دعـا الله فلـم يجبـه‪ ،‬أو تـوكل عليـه فلـم يكفه‪،‬‬ ‫أو وثـق بـه فلـم ينجـه؟ قـال‪ :‬فعلقـت الدعـاء‪ ،‬فقلـت‪ :‬اللهـم سـلمني‪ ،‬وسـلم مني؛‬ ‫قـال‪ :‬فتجلـت الفتنـة ولـم تصـب منـه شـيئا»ً(‪.)1‬‬ ‫* لزوم العلماء الربانيين‪:‬‬ ‫فـا بـد مـن الرجـوع إلـى أهـل العلـم والالتـزام بمـا تتفـق عليـه كلمتهـم فـي‬ ‫الأمـور العامـة‪ ،‬والشـائكة والملتبسـة؛ لأن الله ‪ ‬أمـر بالـرد إليهـم بعـد الـرد إلـى‬ ‫الرسـول ﷺ‪ ،‬ولأن مثلهـم مثـل النجـوم فـي السـماء‪ ،‬يهتـدى بهـا فـي ظلمـات البـر‬ ‫والبحـر‪ ،‬فـإذا طمسـت النجـوم أوشـك أن تضـ َّل الهـداة ‪.‬‬ ‫قال الله ‪﴿ :‬فَ ۡ َ‍سٔلُ ٓواْ أَ ۡه َل ٱل ِّذ ۡكرِ إِن ُكن ُت ۡم َل َت ۡعلَ ُمو َن ‪[ ﴾٧‬الآية‪/‬الأنبياء]‪.‬‬ ‫ٱلَع َّرَل ُۡيسوــق ُوكـاِـلـ ِۡلمإَو ََو ٰٓلَر‪ۡ ‬أ‪َ ُ:‬حْو ُت ِ﴿ـلِـإَُهٱو ۡۥَذالَ َ ۡمل َـَّجتـآَبرِ َءۡع ُتُِمهـۡنـــ ُهُۡممــٱأَلۡمۡم َّلَـشـ َـع ‪ٞ‬ـرلِۡي ََّمِمــطٰــ َُهَننٱإِٱََّّ ۡ ِلللَي ۡمـقَــلِـَين ِنـيـَأَٗۡسوِاــٱ َت‪ۡ ۢ٣‬ن‪َ٨‬لبِــُ﴾طۡو[واِنَلنفُهسۥأَــ َذااِمء ۡن]ُع ُه‪.‬ــــواْۡمۗبِ َوــلَـهِـۖۦۡو َ َوللَـفَـ ۡوۡض َرــ ُّد ُلو ُهٱإِلََّللِ‬ ‫فـإن ذهـاب العلـم مقتـرن بـرواج الفتـن‪ ،‬وإ َّن الالتحـامَ بالعلمـاء عصمـ ٌة للأمـة من‬ ‫الضـال‪ ،‬والعلمـاء الربانيـون فـي كل وقـت ـ ولا سـيما زمـن الفتـن ـ سـفين ُة النجـاة‪،‬‬ ‫مَـ ْن تخلَّـف عنهـا كان مـن المغرقيـن فـي بحـار الهـرج والمـرج والفتـن المظلمـة‪.‬‬ ‫عـن ابـن مسـعود وأبـي موسـى ‪ ‬قـالا‪ :‬قـال رسـول الله ﷺ‪« :‬إن بيـن يـدي‬ ‫الســاعة لأيامــاً ينــزل فيهــا الجهــل‪ ،‬ويُرفــع فيهــا العلــم‪ ،‬ويكثــر فيهــا ال َهــ ْر ُج؛‬ ‫والهــرج القتــل»(‪.)2‬‬ ‫(‪ )1‬أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء‪ .244/4:‬المِ ْسحاة‪ :‬أداة ال َقشر والحرف‪ .‬ال َع َرض‪ :‬متاع الدنيا و ُحطامها‪.‬‬ ‫(‪ )2‬أخرجه البخاري في الفتن‪ ،‬باب ظهور الفتن‪ ،48/9 :‬رقم (‪ ،)7062‬ومسلم في العلم‪ ،‬باب رفع العلم‬ ‫وقبضه وظهور الجهل والفتن‪ ،2056/4:‬رقم (‪.)2672‬‬ ‫‪136‬‬

‫وعــن أنــ ِس ‪ ‬قــال رســول اللهﷺ‪« :‬مــن أشــراط الســاعة أ ْن يقــ َّل العلــ ُم‪،‬‬ ‫ويظهــ َر الجهــل»(‪.)1‬‬ ‫وسـبب قلـة العلـم مـوت َح َملَتِـ ِه‪ ،‬وانشـغال النـاس بالدنيـا وإعراضهـم عـن‬ ‫العلـم ومدارسـته وحضـور مجالسـه‪ ،‬فعـن عبـد الله بـن عمـ ٍرو ‪ ‬قـال رسـول‬ ‫الله ﷺ‪« :‬إ َّن اللهَ لا يقبـض العلـ َم انتزاعـاً ينتزعـه مـن النـاس‪ ،‬ولكـن يقبـض العلـم‬ ‫بقبـض العلمـاء‪ ،‬حتـى إذا لـم يتـرك عالمـاً اتخـذ النـاس رؤوسـاً ُج َّهـالاً‪ ،‬ف ُسـئِلوا‬ ‫فأفتَـوا بغيـر علـم‪ ،‬ف َضلُّـوا‪ ،‬وأ َضلُّـوا»(‪.)2‬‬ ‫وعــن ابــن عبــاس ‪ ‬قــال‪« :‬أتــدرون مــا َذهــاب العلــم؟» قلنــا‪ :‬لا‪ ،‬قــال‪:‬‬ ‫«ذهــاب العلمــاء»(‪.)3‬‬ ‫وعنــه ‪ ‬قــال‪« :‬لا يــزال عالــم يمــوت‪ ،‬وأثــر للحــق يَــ ْد ُرس‪ ،‬حتــى يكثــر‬ ‫أهـل الجهـل‪ ،‬وقـد ذهـب أهـ ُل العلـم‪ ،‬فيعملـون بالجهـل‪ ،‬ويدينـون بغيـر الحـق‪،‬‬ ‫ويضلـون عـن سـواء السـبيل»(‪.)4‬‬ ‫وعـن هـال بـن خبـاب رحمـه الله قـال‪ :‬سـالت سـعيد بـن جبيـر رحمـه الله‪،‬‬ ‫قلـت‪ :‬يـا أبـا عبـد الله‪ ..‬مـا علامـة هـاك النـاس؟ قـال‪\" :‬إذا هلـك علماؤهـم\"(‪.)5‬‬ ‫وعـن زيـاد بـن لبيـد ‪ ‬قـال‪ :‬ذكـر النبـي ﷺ شـيئاً‪ ،‬فقـال‪« :‬ذاك أوا ُن َذهـاب‬ ‫العلـم»‪ ،‬قلـت‪ :‬يـا رسـول الله‪ ،‬وكيـف يذهـب العلـم‪ ،‬ونحـن نقـرأ القـرآن‪ ،‬ونُقرئـه‬ ‫(‪ )1‬أخرجه البخاري في كتاب العلم‪ ،‬باب رفع العلم وظهور الجهل‪ ،178/1:‬رقم (‪.)81‬‬ ‫(‪ )2‬أخرجه البخاري في العلم‪ ،‬باب كيف يقبض العلم‪ ،175 ،174/1:‬رقم (‪ ،)100‬ومسلم في العلم‪ ،‬باب‬ ‫رفع العلم وقبضه وظهور الجهل‪ ،2058/4:‬رقم (‪.)2673‬‬ ‫(‪ )3‬أخرجه زهير بن حرب في كتابه العلم‪ :‬ص‪ ،16‬رقم (‪.)53‬‬ ‫(‪ )4‬أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله‪ ،603/1:‬رقم (‪.)1039‬‬ ‫(‪ )5‬أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه‪ ،458/7:‬رقم (‪ )37206‬والدارمي في سننه باب في ذهاب العلم‪،309/1:‬‬ ‫رقم (‪ ،)247‬وأبو نعيم في حلية الأولياء‪ ،276/4:‬والبيهقي في شعب الإيمان‪ ،193/3:‬رقم (‪.)1542‬‬ ‫‪137‬‬

‫أبناءنـا‪ُ ،‬ويقرئـه أبناؤنـا أبناءهـم إلـى يـوم القيامـة؟ قـال ﷺ‪« :‬ثكلتـك أمـك يـا‬ ‫زيــاد‪ ..‬إ ْن كنــ ُت لأراك مــن أفقــه رجــل بالمدينــة‪ ،‬أَ َوليــس اليهــود والنصــارى‬ ‫يقـرؤون التـوراة والإنجيـل لا يعملـون بشـيء ممـا فيهمـا؟»(‪.)1‬‬ ‫وعـن أبـي أمامـة ‪ ‬مرفوعـاً‪« :‬خـذوا العلـم قبـل أن يذهـب»‪ ،‬قالـوا‪ :‬وكيـف‬ ‫يذهـب العلـم يـا نبـي الله‪ ،‬وفينـا كتـاب الله؟ قـال‪ :‬فغضـب‪ .‬ثـم قـال‪« :‬ثكلتكـم‬ ‫أمهاتكـم‪ ،‬أَ َولـم تكـن التـوراة والإنجيـل فـي بنـي إسـرائيل فلـم يغنيـا عنهم شـيئاً؟!‬ ‫إن َذهـاب العلـم‪ :‬أ ْن يذهـب َح َملَتُـه»(‪.)2‬‬ ‫قـال ال ِإمـام أبـو بكـر الآ ُجـري رحمـه الله‪« :‬فمـا ظنكـم ـ رحمكـم الله ـ بطريـق‬ ‫فيـه آفـات كثيـرة‪ ،‬ويحتـاج النـاس إلـى سـلوكه فـي ليلـة ظلمـاء‪ ،‬فـإن لـم يكـن‬ ‫فيهـا ضيـاء وإلا تحيَّـروا‪ ،‬فقيَّـض الله لهـم فيـه مصابيـح تضـيء لهـم‪ ،‬فسـلكوه‬ ‫علـى السـامة والعافيـة‪ ،‬ثـم جـاءت طبقـات مـن النـاس‪ ،‬لا بـد لهـم من السـلوك‬ ‫فيـه فسـلكوا‪ ،‬فبينمـا هـم كذلـك إذ طفئـت المصابيـح‪ ،‬فب َقـوا فـي الظلمـة‪ ،‬فمـا‬ ‫ظنكـم بهـم؟‬ ‫هكـذا العلمـاء فـي النـاس‪ ،‬لا يعلـم كثيـر مـن النـاس كيـف أداءُ الفرائـض‪،‬‬ ‫ولا كيـف اجتنـا ُب المحـارم‪ ،‬ولا كيـف يُ ْعبـد الله فـي جميـع مـا يَعبـده بـه خل ُقـه‬ ‫إلا ببقــاء العلمــاء‪ ،‬فــإذا مــات العلمــاء تحيَّــر النــاس‪ ،‬ودَ َرس العلــ ُم بموتهــم‪،‬‬ ‫وظهـر الجهـل»(‪.)3‬‬ ‫(‪ )1‬أخرجه ابن ماجه في سننه‪ ،1344/2:‬رقم (‪ ،)4048‬والإمام أحمد في مسنده‪ ،17/29:‬رقم (‪،)17473‬‬ ‫وابن أبي شيبة في مصنفه‪ ،145/6:‬رقم (‪ ،)30199‬وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني‪ ،54/4:‬رقم‬ ‫(‪ ،)1999‬والطبراني في المعجم الكبير‪ ،265/5:‬رقم (‪.)5291‬‬ ‫(‪ )2‬أخرجه الدارمي في كتاب العلم‪ ،‬باب في ذهاب العلم‪ ،308/1:‬رقم (‪ ،)246‬والروياني في مسنده‪،275/2:‬‬ ‫رقم (‪.)1190‬‬ ‫(‪ )3‬انظر‪ :‬أخلاق العلماء‪ ،‬للآجري‪ :‬ص‪.96‬‬ ‫‪138‬‬

‫إ َّن مهمة المبصرين هي التبصير‪ ،‬ولا سيما في أوقات الفتن؛ حيث يكون العلماء‬ ‫وحدهم هم المستشرفين لنتائجها في لحظات إقبالها على َح ّد قول الحماسي‪:‬‬ ‫وتُقبل أشباهاً عليك صدو ُرها‬ ‫تبين أعقا ُب الأمور إذ ا مضت ‬ ‫وقول الآخر يمدح ذا البصيرة النافذة‪:‬‬ ‫كأ َّن له في اليوم عيناً على غ ِد‬ ‫بصي ٌر بأعقاب الأمو ر برأيه ‬ ‫ولهـذا قـال الحسـن البصـر ّي رحمـه الله‪« :‬الفتنـة إذا أقبلـت عرفهـا كل عالـم‪،‬‬ ‫۠‬ ‫َأنَــا‬ ‫َ َ ٰع‬ ‫َ‬ ‫أَ ۡد ُعــ ٓواْ‬ ‫وإذا أدبـرت عرفهـا كل جاهـل»(‪.)1‬‬ ‫إِل‬ ‫ٱ َّت َب َعــ ِي﴾‬ ‫َو َمــ ِن‬ ‫بَ ِصــ َر ٍة‬ ‫ٱلَّلِۚ‬ ‫َســبِي ِ ٓل‬ ‫َهٰــ ِذهِۦ‬ ‫ُقــ ۡل‬ ‫﴿‬ ‫‪:‬‬ ‫قــال‬ ‫[الآية‪/‬يوســف‪.]108 :‬‬ ‫فأهل العلم هم أهل البصيرة الذين ن َّور الله قلوبهم فميزوا الحق من الباطل‪:‬‬ ‫عـن أبـي سـعيد الخـدري ‪ ‬قـال‪ :‬ح َّدثنـا رسـول الله ﷺ حديثـاً طويـاً عـن‬ ‫الدجــال‪ ،‬فــكان فيمــا يحدثنــا أنــه قــال‪« :‬يأتــي الدجــال ـ وهــو محــ َّرم عليــه أن‬ ‫يدخــل نقــاب المدينــة ـ فينــزل بعــض الســباخ التــي تلــي المدينــة‪ ،‬فيخــرج إليــه‬ ‫يومئـ ٍذ رجـل هـو خيـر النـاس ـ أو مـن خيـار النـاس ـ فيقـول‪ :‬أشـهد أنـك الدجـال‬ ‫الـذي حدثنـا رسـول الله ﷺ حديثـه‪ ،‬فيقـول الدجـال‪ :‬أرأيتـم إن قتلـت هـذا ثـم‬ ‫أحييتـه‪ ،‬هـل تشـكون فـي الأمـر؟ فيقولـون‪ :‬لا‪ ،‬فيقتلـه‪ ،‬ثـم يحييـه‪ ،‬فيقـول‪ :‬والله مـا‬ ‫كنـت فيـك أشـ َّد بصيـرةً منـي اليـوم‪ ،‬فيريـد الدجـال أن يقتلـه‪ ،‬فلا يُسـلَّط عليـه»(‪.)2‬‬ ‫إن مجالسـة العلمـاء‪ ،‬والصـدور عـن توجيههـم‪ ،‬مـن أهـ ِّم سـبل النجـاة مـن‬ ‫الفتـن‪ ،‬والعصمـة مـن الزيـغ والضـال‪ .‬فقـد أعـ َّز الله دينـه بال ِّص ِّديـق الأكبـر ‪‬‬ ‫يـوم الـردة‪ ،‬وبأحمـد بـن حنبـل رحمـه الله يـوم المحنـة‪.‬‬ ‫(‪ )1‬أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء‪ ،24/9:‬وابن سعد في الطبقات الكبرى‪.122/7:‬‬ ‫(‪ )2‬أخرجه البخاري في الفتن‪ ،‬باب لا يدخل الدجال المدينة‪ ،60/9:‬رقم (‪ ،)7132‬ومسلم في الفتن‪ ،‬باب‬ ‫صفة الدجال وتحريم المدينة عليه‪ ،2256/4:‬رقم (‪.)2938‬‬ ‫‪139‬‬

‫* إمساك اللسان أيام الفتن‪:‬‬ ‫قـد لا يأبـه كثيـر مـن النـاس بمـا يقولـون أو يتكلمـون‪ ،‬وقـد تشـعل الكلمـة‬ ‫فتنـة عميـاء تُغـرق النـاس فـي بحـار مـن الدمـاء البريئـة‪ ،‬فيكـون وقعهـا فـي الفتـن‬ ‫أشـد مـن وقـع السـيف‪ ،‬لذلـك حذرنـا رسـول الله ﷺ مـن إطـاق اللسـان بـكلام‬ ‫قـد يفتـح أبوابـاً مـن الفتـن لا يمكـن إغلاقهـا‪ ،‬كمـا جـاء فـي الحديـث عـن عبـد‬ ‫الله بـن عمـرو بـن العـاص ‪ ‬قـال‪ :‬قـال رسـول الله ﷺ‪« :‬إنهـا سـتكون فتنـة‪،‬‬ ‫تسـتنظف العـرب‪ ،‬قتلاهـا فـي النـار‪ ،‬اللسـان فيهـا أشـد مـن وقـع السـيف»(‪.)1‬‬ ‫فـإن للـكلام فـي زمـان الفتـن شـهوة وضـراوة‪ ،‬لا يقاومهـا إلا من أمسـك لسـانه‪،‬‬ ‫وخـاف إثـارة الفتـن مـن قولـه‪ ،‬وجاهـد نفسـه‪ ،‬كمـا قـال ‪َ ﴿ :‬وٱ َّ ِليـ َن َجٰ َهـ ُدواْ فِي َنـا‬ ‫َلَ ۡه ِد َي َّن ُهـ ۡم ُسـ ُبلَ َناۚ ِإَو َّن ٱلَّ َل لَ َمـ َع ٱلۡ ُم ۡح ِسـنِي َن ‪[ ﴾٦٩‬العنكبـوت‪ ،]69:‬وقـال ‪َ ﴿ :‬و َمـا يُلَ َّقىٰ َهآ‬ ‫َع ِظيـ ٖم‬ ‫َحـ ٍّظ‬ ‫ُذو‬ ‫َّ‬ ‫ٓ‬ ‫يُ َل َّقىٰ َهـا‬ ‫ْ‬ ‫ٱ َّ ِليـ َن‬ ‫َّ‬ ‫[فصلـت‪.]35:‬‬ ‫‪﴾٣٥‬‬ ‫إِل‬ ‫َو َمـا‬ ‫َصـ َ ُروا‬ ‫إِل‬ ‫ومـن عجيـب مـا مـر مـن سـيرة ُم َطـ ِّرف بـن عبـد الله بـن الشـخير ‪ ‬قولـه‪« :‬لبثت‬ ‫فـي فتنـة ابـن الزبيـر ‪ ‬تسـعاً أو سـبعاً مـا أُخبـرت فيهـا بخبـر‪ ،‬ولا اسـتخبرت فيهـا‬ ‫عـن خبـر»(‪ ،)2‬إنـه منهـج صـارم فـي ضبـط النفـس اتباعـاً لسـنة أبي القاسـم ﷺ‪.‬‬ ‫وممـا ينبغـي التفطـن لـه أ َّن الانشـغال بتتبـع أخبـار المسـلمين وأحوالهـم بالدعاء‬ ‫لهـم ومسـاعدتهم ليـس مـن الفضـول المرغـوب عنـه‪ ،‬بـل هـو مـن المأمـور بـه لمن‬ ‫قـدر عليـه‪ ،‬وهـذا يختلـف باختـاف الأشـخاص وأحوالهـم ومكانتهـم وقدراتهم‪.‬‬ ‫(‪ )1‬أخرجه وأبو داود في كتاب الفتن‪ ،‬باب في كف اللسان‪ ،165/4:‬رقم (‪ ،)4267‬والترمذي في كتاب‬ ‫الفتن‪ ،473/4:‬رقم (‪ ،)2178‬وقال الترمذي‪( :‬هذا حديث غريب)‪ ،‬وابن ماجه في كتاب الفتن‪ ،‬باب كف‬ ‫اللسان في الفتنة‪ ،1312/2:‬رقم (‪ ، )3967‬وأحمد في مسنده‪ ،562/11:‬رقم (‪ .)6980‬وقال العلامة‬ ‫الشيخ عبد العزيز عيون السود رحمه الله في خطبته‪ :‬أي فتنة تستأصل العرب هلاك ًا‪( ،‬قتلاها في النار) لقتالهم‬ ‫على الدنيا واتباعهم الشيطان‪( ،‬اللسان فيها أشد من وقع السيف) أي‪ :‬سيكون أشد أثر ًا من السيف إطالة‬ ‫اللسان فيها‪ ،‬والسلق بالألسنة الذربة كما هو الواقع في تسليط أبواق الإذاعات بعضهم على بعض‪.‬‬ ‫(‪ )2‬أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى‪.142/7:‬‬ ‫‪140‬‬

‫ومـع التـزام هـذه الأسـس الصارمـة المنضبطـة‪ ،‬لا تُغ َفـل النصـو ُص المتكاثـرةُ‬ ‫مــن الكتــاب والســنة التــي تأمــر بالمعــروف وتنهــى عــن المنكــر‪ ،‬وتنصــح‬ ‫للمســلمين‪ ،‬وتدعوهــم إلــى الله بالحكمــة والموعظــة الحســنة‪..‬‬ ‫عـن أبـي هريـرة ‪ ‬أن رسـول الله ﷺ قـال‪« :‬سـتكون فتنـة صماء بكمـاء عمياء‪،‬‬ ‫مـن أشـرف لهـا استشـرفت له‪ ،‬وإشـراف اللسـان فيهـا كوقوع السـيف»(‪.)1‬‬ ‫● التثبت من الأخبار‪:‬‬ ‫إن التثبــت مــن الأخبــار قبــل تصديقهــا‪ ،‬فضــ ًا عــن إذاعتهــا‪ ،‬منهــج قرآنــي‬ ‫أصيـل‪ ،‬يُسـترا ُح بـه مـن القـال والقيـل‪ ،‬ويوفـر مـن طاقـة الأمـة المهـدرة فـي الفتـن‬ ‫مـا يفيـد فـي البنـاء‪.‬‬ ‫لٱََق َّ ۡۡو ِلس َميۢـقـــاََانت ِلَءَُبما َاۡهَؤٰلمللَُِنمه ٗـنـ ٖٓةـواْا َفإ‪ِ‬تَ ُت‪َ:‬ذۡبا َتۡصُغ﴿َبِـَ َُضٰٓويح ۡبَأـَ ُتنُّيوـاَْه َۡمعـاَـ َِ َٱٰرفعَّ َ ِل ََميسضـــاٱبَِني َفۡ َلَِلَعءَيا ۡلٱـَمُت ٰلوُنَّـةِـلِۡمٱٓواَْلفَ ُّنَٰدتإِ ۡنبَِد ََّنيي ِمُنــاـَجوآاَفَْن َءِع َون َـ‪٦‬لُكَدـَت﴾ٱُۡمق[لوَّا َفللُالِـح ِوسَماْجـَـغلُِارَۢقامنِــبِتۡنَُمن] َب‪َ ،‬أـ َۡكلإٖوثـِ َقفَــَت ٰٓىابََر َّيإةِۚ‪ٞ‬لُنَ ۡلـ َك ٓواَْذٰ‪ُ ‬لِكأَ‪:‬ــن ُمَ﴿تُكٱَل ِٰٓيُصكََّأسينُّيُـبُت َهَـلـٰـوَااممْ‬ ‫ِّمـن َق ۡبـ ُل َف َمـ َّن ٱلَّ ُل َع َل ۡي ُكـ ۡم َف َتبَ َّي ُنـ ۚٓواْ إِ َّن ٱلَّ َل َك َن بِ َمـا َت ۡع َم ُلـو َن َخبِـ ٗرا ‪[ ﴾٩٤‬النسـاء]‪.‬‬ ‫وسـبب نـزول هـذه الآيـة مـا روي عـن ابـن عبـاس ‪« :‬أن رجـاً مـن بنـي‬ ‫سـليم مـ َّر علـى نفـ ٍر مـن أصحـاب رسـول الله ﷺ ومعـه غنـم لـه‪ ،‬فسـلَّم عليهـم‪،‬‬ ‫فقالـوا‪\" :‬مـا سـلَّم عليكـم إلاَّ ليتعـوذ منكـم\"‪ ،‬فقامـوا إليـه وقتلـوه‪ ،‬وأخـذوا غنمـه‪،‬‬ ‫فأتـوا بهـا رسـول الله ﷺ‪ ،‬فأنـزل الله هـذه الآيـة»(‪.)2‬‬ ‫(‪ )1‬أخرجه أبو داود في كتاب الفتن‪ ،‬باب في كف اللسان‪ ،102/4:‬رقم (‪ ، )4264‬وابن حبان في‬ ‫صحيحه‪ ،98/15:‬والطبراني في المعجم الأوسط‪ ،308/8:‬رقم (‪.)8717‬‬ ‫(‪ )2‬أخرجه البخاري في تفسير سورة النساء‪ ،‬باب ﴿ َو َل َت ُقولُواْ لِ َم ۡن َأ ۡل َ ٰٓق إِ َ ۡل ُك ُم ٱل َّس َلٰ َم لَ ۡس َت ُم ۡؤ ِم ٗنا﴾‪،194/8 :‬‬ ‫رقم (‪ ،)4591‬ومسلم في التفسير‪ ،2319/4 :‬رقم (‪ ،)3025‬والترمذي في التفسير‪ ،‬باب ومن سورة‬ ‫النساء‪ ،240/5:‬رقم (‪.)3030‬‬ ‫‪141‬‬

‫والفتـن إنمـا تظهـر بالإشـاعات والأباطيـل‪ ،‬وتنتشـر بالقـال والقيـل‪ ،‬مـع خفـة‬ ‫عقـ ٍل فـي نَ َقلَتِهـا‪ ،‬و ِرقَّـ ِة ديـن تمنعهـم مـن امتثـال أمـر الله تعالـى بالتثبـت وتـرك‬ ‫الاســتعجال‪.‬‬ ‫ولتجــد َّن أشــ َّد النــاس ِحــ َّدة فــي الطبــع‪ ،‬وإعجابــاً بالنفــس‪ ،‬وتعصبــاً للــرأي؛‬ ‫هـم أولئـك الذيـن لا يتثبتـون ولا يتبيَّنـون‪ ،‬فيغلـب عليهـم ال َّصلَـف وال ِكبْـر‪ ،‬وعـدمُ‬ ‫مراعـاة النـاس‪ ،‬والجميـع عندهـم َجهلـ ٌة لا يعلمـون‪ ،‬وهـم العارفـون العالمـون‪.‬‬ ‫إ َّن حمـ َل المسـلمين علـى العدالـة هـو الأصـل الـذي لا ينبغـي العـدول عنـه‬ ‫إلاَّ بمثلـه مـن اليقيـن‪ ،‬أمـا بمجـرد قَـ ْو ٍل قيـل‪ ،‬لا يُـدرى مـن أي رأس خـرج‪ ،‬ولا‬ ‫علـى أي أرض درج؛ فجريمـة مفضيـة إلـى الندامـة فـي الدنيـا قبـل الآخـرة لا بـ َّد‬ ‫أن يُسـأل صاحبهـا عنهـا‪.‬‬ ‫وإ َّن مـن أعظـم مـا تُدفـع بـه الفتـن‪ :‬التثبـت والتبيُّـن فـي الأخبـار‪ ،‬لا سـيما إذا‬ ‫كان الخبـر متعل ًقـا بعمـوم الأمـة‪ ،‬أو بـرأس مـن رؤوسـها‪ ،‬وليعلـم أ َّن مجـرد الثقـة‬ ‫فـي الناقـل لا تكفـي بمفردهـا؛ وذلـك لمـا يعتـري النفـو َس مـن الهـوى والشـهوة‬ ‫ونَ ْفـ ِث الشـيطان‪.‬‬ ‫ثـم لـو فـرض صحـة الخبـر يقينـاً‪ ،‬فإنـه يبقـى بعـد ذلـك النظـر فـي مصلحـة‬ ‫نشـره مـن عدمهـا‪ ،‬فإنـه ليـس كل مـا يعلـم يقـال‪ ،‬وإن مـن الأخبـار مـا لا يُلقـى إلاَّ‬ ‫إلـى الخاصـة الذيـن يُصلحـون فـي الأرض ولا يفسـدون‪.‬‬ ‫وليعلـم ـ أيضـاً ـ أ َّن هتـ َك الأسـتار‪ ،‬ليـس مـن الإصـاح فـي شـيء؛ إذ إن الله‬ ‫تعالـى أمـر بالسـتر والنصـح‪ ،‬وأَ ْمـ ُره سـبحانه هـو الصـاح والإصـاح بعينـه‪ ،‬فمـا‬ ‫خالفـه فليـس مـن الإصـاح فـي شـيء كمـا قلنـا‪.‬‬ ‫إ َّن المنهـ َج الحـق‪ :‬هـو التناصـح‪ ،‬والأمـر بالمعـروف والنهـي عـن المنكـر‪ ،‬مـع‬ ‫شــفقة علــى المنصــوح وحــزن عليــه‪ ،‬يقتضــي تمــام الســعي فــي إصلاحــه‪ ،‬وإن‬ ‫كان جبـاراً عنيـداً‪ ،‬وقـد جعـل النبـي ﷺ المقتـول بسـبب كلمـة الحـق مـن أعظـم‬ ‫‪142‬‬

‫الشـهداء عنـد الله‪ ،‬لكنـه لـم يجعـل لهاتـك الأسـتار إلاَّ الفضيحـة فـي الدنيـا؛ إذ‬ ‫يوشـك الله تعالـى أن يفضحـه ولـو فـي جـوف داره‪ ،‬أعاذنـا الله وإخواننـا المسـلمين‬ ‫مـن سـوء الحـال والمـآل‪.‬‬ ‫ر ُوي عـن عمـر بـن عبـد العزيـز ‪ ‬أنـه دخـل عليـه رجـل فذكـر لـه عـن رجـ ٍل‬ ‫شـيئاً‪ ،‬فقـال لـه عمـر‪« :‬إن شـئت نظرنـا فـي أمـرك‪ :‬فـإن كنـ َت كاذبـاً‪ ،‬فأنـت مـن‬ ‫أهـل هـذه الآيـة‪﴿ :‬إِن َجآ َء ُكـ ۡم فَا ِسـ ُ ۢق بِنَ َبـإٖ﴾ [الآية‪/‬الحجـرات‪ ،]6 :‬وإن كنـت صادقـاً‪،‬‬ ‫فأنـت مـن أهـل هـذه الآيـة‪َ ﴿ :‬ه َّمـازٖ َّم َّشـآءِۢ بِ َن ِميـ ٖم ‪[ ﴾١١‬القلـم]‪ ،‬وإن شـئت عفونـا‬ ‫عنـك؟\"‪ ،‬فقـال‪\" :‬العفـو يـا أميـر المؤمنيـن‪ ،‬لا أعـود إليـه أبـداً»(‪.)1‬‬ ‫ورفـع إنسـا ٌن ُرقعـةً إلـى الصاحـب بـن عبّـاد رحمـه الله يحثُّـه فيهـا علـى أخـذ مال‬ ‫يتيـم‪ ،‬وكان مـالاً كثيـراً‪ ،‬فكتـ َب علـى ظهرهـا‪« :‬النميمـةُ قبيحـةٌ وإن كانـت صحيحـةً‪،‬‬ ‫والميّـ ُت رحمـه الله‪ ،‬واليتيـ ُم جبـ َره الله‪ ،‬والمـا ُل ثَ َّمـ َرهُ الله‪ ،‬والسـاعي لعنـه الله»(‪.)2‬‬ ‫فـإ َّن اتقـاء ال َغوايـة فـي الروايـة‪ ،‬والتحـر َي والتثبـت مـن الأخبـار التـي تتداولهـا‬ ‫الألســن وقــت الفتــن والحــروب أَ ْو َكــد مــن غيــره مــن الأوقــات؛ لأنهــا ســاح‬ ‫إِف َتَّلـاٱلوكَّقرـُقسدــوقدـِليَا ِإ َُلوضاَـلٰٓلُّلرهأُأ ْوك ِثل‪‬ـ‪:‬ٱر ۡ َلم﴿ِۡمإمَـوـ ِرَذااتِم ۡنَج ُاهٓضـَءـ ُۡمرهـالَ ۡلمَعألِأَ َۡممســـ ُهل‪ٞ‬ر ٱ ِّمَّحـِلةي‪َ.‬نـ ٱَنۡ يلََ ۡمۡســ ِ َتنۢنأَبِوِ ُطٱو ۡنَ َل ُهـۥۡو ِِم ۡنف ُهأَـَذاۡم ُع﴾ـو[اْالبآِيـةهِۖ‪/‬اۦلن َولسَــا ۡءو‪3َ :‬ر ُّد‪]8‬و ُه‪.‬‬ ‫قـال الحافـظ ابـن كثيـر رحمـه الله فـي تفسـيرها‪« :‬إنـكار علـى مـن يبـادر إلـى الأمور‬ ‫قبـل تحققهـا‪ ،‬فيخبـر بهـا ويفشـيها‪ ،‬وقـد لا يكـون لهـا صحـة»(‪.)3‬‬ ‫فعـن أبـي هريـرة ‪ ‬عـن النبـ ِّي ﷺ قـال‪« :‬كفـى بالمـرء كذبـاً أن يحـ ِّدث بـكل‬ ‫ما ســمع»(‪.)4‬‬ ‫(‪ )1‬انظر‪ :‬الأذكار‪ ،‬للإمام النووي‪ :‬ص‪ ،348‬تحقيق‪ :‬الأرناؤوط‪.‬‬ ‫(‪ )2‬انظر‪ :‬الأذكار‪ ،‬للإمام النووي‪ :‬ص‪.348‬‬ ‫(‪ )3‬انظر‪ :‬تفسير القرآن العظيم‪ ،‬لابن كثير‪.365/2:‬‬ ‫(‪ )4‬أخرجه مسلم في المقدمة‪ ،‬باب النهي عن الحديث بكل ما سمع‪ ،10/1:‬رقم (‪.)5‬‬ ‫‪143‬‬

‫وعـن المغيـرة بـن شـعبة ‪ :‬أن رسـو َل الله ﷺ نهـى عـن قيـل وقـال‪ .)1(...‬أي‪:‬‬ ‫الـذي يُكثـر مـن الحديـث عمـا يقـول النـاس‪ ،‬مـن غيـر تثبـت ولا تدبـر ولا تبيـن‪.‬‬ ‫وقال ﷺ‪َ « :‬م ْن ح َّدث عني بحدي ٍث يُرى أنه كذب؛ فهو أحد الكا ِذبِين»(‪.)2‬‬ ‫وعـن عمـر بـن الخطـاب ‪ ‬حيـن بلغـه أن رسـول الله ﷺ طلَّـق نسـاءه‪ ،‬فجـاء مـن‬ ‫منزلـه حتـى دخـل المسـجد‪ ،‬فوجـد النـاس يقولـون ذلـك‪ ،‬فلـم يصبـر حتـى اسـتأذن‬ ‫علـى النبـ ِّي ﷺ‪ ،‬فاسـتفهمه‪ :‬أطلَّقـ َت نسـاءك؟ فقـال‪« :‬لا»‪ ،‬فقلـت‪ :‬الله أكبـر‪ ...‬وذكـر‬ ‫الحديـث‪ .‬وفـي روايـة‪ :‬فقلـت‪ :‬أطلقتهـ َّن؟ فقـال‪« :‬لا»‪ ،‬فقمـت علـى بـاب المسـجد‬ ‫َجآ َء ُه ۡم‬ ‫أٱَف َّۡنم ِالـيد ‪ٞ‬رـيـَِّنمـي َتَۡنسبأٱـ َۡتعۢلَنلۡمبـِـُطىِنونَأَ ُهوصِۥٱوت ِم ۡـ ۡنَل ُـهي ۡـو‪ۡ :‬مِلـف﴾أَم[َذايُالآَُطعيلِّةــو‪/‬ااْلقنبِـسرـهِاۖءسۦ‪:‬ـ َ‪3‬وولَ‪8‬ـل] ۡو‪،‬ال َفلرهُّدكون ُهـ إِﷺ َتنلأٱنسلــَّراا ُءساَهـ(سو‪3‬ـ)ِتل‪،‬نِبإَوونَط ٰٓلزلذأُلـ ْـو ِتلكاٱاۡللآَليأۡمـمـةـ ِر‪:‬ر‪ِ .‬م﴿ۡنِإُهَوـ َذ ۡام‬ ‫َل َعلِ َمـ ُه‬ ‫● ليس كل ما يُعلم يُقال‪:‬‬ ‫مــن مئنــة فقــه العالــم وفهمــه أن يكــون كلا ُمــه أقــ َّل مــن علمــه‪ ،‬فهــو يتخيــر‬ ‫لحديثـه مـن العلـوم مـا يناسـب الحاضريـن أو مـن يسـتمع إليـه‪ ،‬ولا يغـدق عليهـم‬ ‫كل مـا فـي مخـزون عقلـه مـن العلـوم‪ ،‬فإنـه بذلـك قـد يَ ُضـر بعـض مسـتمعيه‪،‬‬ ‫بسـبب مـا يثيـر فـي نفوسـهم مـن التشـكيك والريـب حيـال بعـض الـكلام الـذي‬ ‫لـم يفهمـوه‪ ،‬لعـدم أهليتهـم بعـ ُد إلـى ذلـك‪ ،‬قـال سـيدنا علـ ٌّي بـن أبـي طالـب ‪:‬‬ ‫« َح ِّدثـوا النـا َس بمـا يعرفـون‪ ،‬أتحبـون أن يُ َكـ َّذ َب اللهُ ورسـول ُه؟!»(‪.)4‬‬ ‫(‪ )1‬أخرجه البخاري في الرقاق‪ ،‬باب ما يكره من قيل وقال‪ ،100/8:‬رقم (‪ ، )6473‬ومسلم في الأقضية‪،‬‬ ‫باب النهي عن كثرة المسائل من غير حاجة‪ ،1341/3:‬رقم (‪.)593‬‬ ‫(‪ )2‬أخرجه مسلم في المقدمة‪ ،‬عن سمرة بن جندب ‪.9/1:‬‬ ‫(‪ )3‬أخرجه البخاري في المظالم‪ ،‬باب الغرفة والعلية‪ ،135/3:‬رقم (‪ ،)2469‬والترمذي في التفسير‪ ،‬باب‬ ‫ومن سورة التحريم‪ ،420/5:‬رقم (‪ ،)3318‬والنسائي في الإيلاء‪ ،167 ،166/6:‬رقم (‪.)3455‬‬ ‫(‪ )4‬أخرجه البخاري في كتاب العلم‪ ،‬باب من خص قوم ًا دون قوم في العلم‪ ،37/1:‬رقم (‪ ،)127‬ذكره‬ ‫البخاري تعليق ًا في أول الباب ثم عقبه بالإسناد‪.‬‬ ‫‪144‬‬

‫وعـن عبيـد الله بـن عبـد الله بـن عتبـة رحمـه الله أ َّن عبـد الله بـ َن مسـعود ‪ ‬قال‪:‬‬ ‫«مـا أنـت بمحـ ِّد ٍث قومـاً حديثـاً لا تبل ُغـه عقولُهـم‪ ،‬إ َّل كان لبعضهـم فتنـة»(‪.)1‬‬ ‫قـال حمـاد بـ ُن زيـد رحمـه الله‪ُ :‬سـئِل أيـو ُب ال َّسـ ْختِياني عـن مسـأل ٍة فسـكت‪،‬‬ ‫فقــا َل الرجــ ُل‪ :‬يــا أبــا بكــر لــم تفهــم‪ ،‬أعيــ ُد عليــ َك؟ قــال‪ :‬فقــال أيــوب‪« :‬قــد‬ ‫فهمــ ُت‪ ،‬ولكنــي أفكــ ُر كيــف أجيبــك»(‪.)2‬‬ ‫و َعـن النَّ ْضـ ِر بـ ِن ُشـ َمي ٍل قـال‪ُ :‬سـئل الخليـ ُل عـن مسـأل ٍة فأبطـأَ بالجـوا ِب في َهـا‪،‬‬ ‫قـال‪ :‬فقلـ ُت‪ :‬مـا فـي هـذه المسـأل ِة ك ُّل هـذا النَّظـر‪ ،‬قـال‪« :‬ف َرغـ ُت ِمـن المسـأل ِة‬ ‫وجوابهـا‪ ،‬ولكنِّـي أُريـ ُد أ ْن أُجيبَـك جوابـاً يكـو ُن أسـر َع إلـى فهمـ َك»‪ ،‬قـال أبـو‬ ‫قُ َدامَـ َة‪ :‬فح َّدثـ ُت بـه أبـا ُعبَيْـ ٍد فَ ُسـ َّر بـه(‪.)3‬‬ ‫(‪ )1‬أخرجه مسلم في المقدمة‪ ،‬باب النهي عن الحديث بكل ما سمع‪.11/1:‬‬ ‫(‪ )2‬أخرجه البيهقي في المدخل إلى السنن الكبرى‪ :‬ص‪ ،440‬رقم (‪.)827‬‬ ‫(‪ )3‬انظر‪ :‬الآداب الشرعية‪.156/3:‬‬ ‫‪145‬‬

‫● وجوب حفظ اللسان عن الباطل‪:‬‬ ‫يجـب علـى كل ُمكلَّـف أن يكـ َّف لسـانه ويحفظـه عـن كل باطـل‪ ،‬فـي جميـع‬ ‫الأوقـات والأحـوال‪ ،‬بيـد أنـه يتأكـد ذلـك الحفـظ إبَّـان الفتنـة‪ ،‬وحلـول المحنـة؛‬ ‫ففيهـا تكثـر الأقاويـل‪ ،‬وتـزداد شـهوة الإشـاعات والمبالغـات والأباطيـل‪ ،‬وعندهـا‬ ‫تكـون الآذان مسـتعدة لاسـتقبال كل مـا يُقـال‪ ،‬وفـي هـذا تكمـن الخطـورة‪ ،‬فـر َّب‬ ‫كلمـة أشـ ُّد مـن وقـع السـيف أيـام الفتنـة‪ .‬لذلـك يجـب علـى المسـلمين قاطبـة أن‬ ‫يك ُّفـوا ألسـنتهم عـن كل كلمـة تزيـد مـن َو َهـج الفتنـة‪.‬‬ ‫منبهوـلاًيُاعللمـؤممأنينـ النل‪:‬س﴿ـاَوقُنـملـ ّلِنعِ َبأـاخ ِدطـير َي ُمقـوالُـوخاْلٱـ َّلـق ِاليله ِفَهـ أَي ۡح َجسـس ُـنۚمإِ اَّنلٱإلن َّشســاۡي َنطٰ‪َ ،‬نلـيَـذا َزيق ُغـ بَو ۡي َنل ُهـ ۡۚم‪‬‬ ‫[الإسـراء]‪ ،‬وقـال ‪َّ ﴿ :‬مـا يَ ۡل ِفـ ُظ ِمـن قَ ۡو ٍل‬ ‫ُّمبِي ٗنـا‬ ‫ٱَل َل َّيۡشــهِۡي َ َرطٰقِ َينـ َكٌب َن لَِع ۡتِ ِيلنـ َ ‪ٞ‬دٰسـ‪ِ ٨‬ن‪﴾َ ١‬عـ[ ُدق ّٗ]وا‪،‬‬ ‫إِ َّن‬ ‫﴿إِ َّن َر َّبـ َك َلِٱلۡ ِم ۡر َصـا ِد ‪[ ﴾١٤‬الفجـر]‪ ،‬وقـال‬ ‫‪﴾٥٣‬‬ ‫وقـال‬ ‫َّ‬ ‫‪:‬‬ ‫إِل‬ ‫َت ۡف َع ُلــو َن ‪﴾ ١٢‬‬ ‫َأكِنَّ َرـاا ٗم َــلان َ ۡس َـكٰ َتمِبُِعــ ِ َ َّنس ُه‪١‬ـ‪ۡ١‬م َي َوۡع ََل ۡن ُمَوـىٰـ ُهوـ َنۚم‬ ‫‪ِ﴿ :‬إَو َّن َع َل ۡي ُكــ ۡم لَ َحٰ ِف ِظــ َن ‪١٠‬‬ ‫َو ُر ُسـ ُل َنا َ َليۡ ِهـ ۡم‬ ‫َمــا‬ ‫[الانفطـار]‪ ،‬وقولـه ‪﴿ :‬أَ ۡم َ ۡي َسـ ُبو َن‬ ‫بَـ َ ٰى‬ ‫يَ ۡك ُت ُبـو َن ‪[ ﴾٨٠‬الزخـرف]‪.‬‬ ‫قـال صاحـب الـداء والـدواء‪« :‬ومـن العجـب أن الإنسـان يهـون عليـه التحفـظ‬ ‫والاحتـراز مـن أكل الحـرام‪ ،‬والظلـم‪ ،‬والزنـى‪ ،‬والسـرقة‪ ،‬و ُشـرب الخمـر‪ ،‬ومـن‬ ‫النظــر المحــرم وغيــر ذلــك‪ ،‬ويصعــب عليــه التحفــظ مــن حركــة لســانه‪ ،‬حتــى‬ ‫تَـرى الرجـل يُشـار إليـه بالديـن والزهـد والعبـادة‪ ،‬وهـو يتكلـم بالكلمـات مـن‬ ‫سـخط الله‪ ،‬لا يُلقـي لهـا بـا ًل ينـزل بالكلمـة الواحـدة منهـا أبعـد ممـا بيـن المشـرق‬ ‫والمغـرب‪ ،‬وكـم تـرى مـن رجـل متـو ِّرع عـن الفواحـش والظلـم ولسـانه يفـري(‪)1‬‬ ‫فـي أعـراض الأحيـاء والأمـوات‪ ،‬ولا يُبالـي مـا يقـول!» (‪.)2‬‬ ‫(‪ )1‬يقال‪َ :‬ف َرى الجل َد‪ :‬م َّزقه‪.‬‬ ‫(‪ )2‬انظر‪ :‬الداء والدواء‪ :‬ص‪.188 ،187‬‬ ‫‪146‬‬

‫وليُعلـم أن أيسـر حـركات الجـوارح حركـة اللسـان‪ ،‬وهـي أضرهـا علـى العبـد‪.‬‬ ‫ومـا أكثـر الأحاديـث والآثـار الـواردة فـي التحذيـر مـن آفـات هـذه الآلـة الخطيـرة‪،‬‬ ‫فـي كل الأوقـات عمومـاً‪ ،‬وفـي زمـن الفتـن والمحـن خصوصـاً‪.‬‬ ‫فممـا ورد فـي التحذيـر مـن آفـات اللسـان عمومـاً‪ :‬سـؤال معـا ٍذ ‪ ‬النبـ َّي ﷺ‬ ‫عـن العمـ ِل الـذي يدخلـه الجنـة ويباعـده من النـار‪ ،‬فأخبـره برأسـه وعمـوده و ِذروة‬ ‫سـنامه‪ ،‬ثـم قـال‪« :‬ألا أخبـرك ب ِمـاك ذلـك كلـه؟» قلـت‪ :‬بلـى يـا رسـول الله‪،‬‬ ‫فأخـذ بلسـان نفسـه‪ ،‬ثـم قـال‪ُ « :‬كـ َّف عليـك هـذا»‪ ،‬فقـال‪ :‬وإنَّـا ل ُمؤاخـذون بمـا‬ ‫نتكلـم بـه؟ فقـال‪« :‬ثكلتـك أُمـك يـا معـاذ‪ ،‬وهـل يَ ُكـ ُّب النـا َس علـى وجوههـم ـ‬ ‫أو مناخيرهـم ـ إ َّل حصائـ ُد ألسـنتهم»(‪.)1‬‬ ‫وقـال الحافـظ ابـن رجـب الحنبلـي رحمـه الله‪« :‬هـذا يـدل علـى أن ك َّف اللسـان‬ ‫وضبطـه وحبسـه هـو أصـل الخيـر كلـه‪ ،‬وأن َمـ َن مَلَـك لسـانه‪ ،‬فقـد ملـك أمـره‪،‬‬ ‫وأحكمـه وضبطـه»(‪.)2‬‬ ‫وقـد ُسـئل النبـي ﷺ عـن أكثـر مـا يُدخـل النـا َس النـا َر؟ فقـال‪« :‬الأجوفـان‪:‬‬ ‫الفـم والفـرج»(‪.)3‬‬ ‫وقال رسول الله ﷺ‪« :‬المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده»(‪.)4‬‬ ‫وفي رواية عند الإمام أحمد‪« :‬المسلم من سلم الناس من لسانه ويده»‪.‬‬ ‫(‪ )1‬أخرجه الترمذي في كتاب الإيمان‪ ،‬باب ما جاء في حرمة الصلاة‪ ،12/5:‬رقم (‪ ،)2616‬وقال الترمذي‪:‬‬ ‫\"حديث حسن صحيح\"‪ ،‬وابن ماجه في كتاب الفتن‪ ،‬باب كف اللسان في الفتنة‪ ،1314/2:‬رقم‬ ‫(‪ ،)7973‬والإمام أحمد في مسنده‪ِ .231/5:‬ملاك الشيء‪ِ :‬قوامه‪ ،‬ونظامه‪ ،‬وما ُيعتمد عليه فيه‪.‬‬ ‫(‪ )2‬انظر‪ :‬جامع العلوم والحكم‪ ،‬لابن رجب الحنبلي‪.146/2:‬‬ ‫(‪ )3‬أخرجه الترمذي في كتاب البر‪ ،‬باب ما جاء في حسن الخلق‪ ،363/4:‬رقم (‪ ، )2004‬وقال الترمذي‪:‬‬ ‫\"هذا حديث صحيح غريب\"‪ ،‬وابن ماجه في كتاب الزهد‪ ،‬باب ذكر الذنوب‪ ،1418/2:‬رقم (‪،)4246‬‬ ‫والإمام أحمد في مسنده‪.242/2:‬‬ ‫(‪ )4‬أخرجه البخاري في كتاب الإيمان‪ ،‬باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده‪ ،11/1:‬رقم (‪.)10‬‬ ‫ومسلم في كتاب الإيمان‪ ،‬باب بيان تفاضل الإسلام‪ ،65/1:‬رقم (‪.)41‬‬ ‫‪147‬‬

‫وعـن علقمـة بـن وقـاص رحمـه الله أنـه‪َ :‬مـ َّر بـه رجـل لـه شـرف‪ ،‬فقـال لـه‬ ‫علقمـة‪ :‬إن لـك رحمـاً‪ ،‬وإن لـك ح ّقـاً‪ ،‬وإنـي رأيتـك تدخـل علـى هـؤلاء الأمـراء‪،‬‬ ‫وتتكلــم عندهــم بمــا شــاء الله أن تتكلــم بــه‪ ،‬وإنــي ســمعت بــال بــن الحــارث‬ ‫ال ُم َزنـ ِّي ‪ ‬ـ صاحـ َب رسـول الله ﷺ ـ يقـول‪ :‬قـال رسـول الله ﷺ‪« :‬إن أح َد ُكـم‬ ‫ليتكلَّـ ُم بالكلمـة مـن رضـوان الله‪ ،‬مـا ي ُظـ ُّن أن تبلُـ َغ مـا بلغـت‪ ،‬فيكتـ ُب الله ‪ ‬لـ ُه‬ ‫بهـا رضوانـه إلـى يـوم القيامـة‪ ،‬وإن أحدكـم ليتكلـم بالكلمـة مـن سـخط الله‪ ،‬مـا‬ ‫يَ ُظـ ُّن أن تبلُـ َغ مـا بَلَ َغـ ْت‪ ،‬فيكتـب الله ‪ ‬عليـه بهـا ُسـ ْخ َطةُ إلـى يـوم يلقـاهُ»‪ .‬قـال‬ ‫علقمـة‪ :‬فانظـر‪ ،‬ويحـك! مـاذا تقـول‪ ،‬ومـاذا تكلَّـ ُم بـه‪ ،‬فَـ ُر َّب كلا ٍم‪ ،‬قـد منعنـي أن‬ ‫أتكلـم بـه‪ ،‬مـا سـمعت مـن بـال بـن الحـارث(‪.)1‬‬ ‫وعـن أبـي هريـرة ‪ ،‬عـن النبـ َّي ﷺ قـال‪« :‬إن العبـد ليتكلـم بالكلمـة مـن‬ ‫رضـوان الله‪ ،‬لا يلقـي لهـا بـالا‪ ،‬يرفعـه الله بهـا درجـات‪ ،‬وإن العبـد ليتكلـم بالكلمـة‬ ‫مـن سـخط الله‪ ،‬لا يلقـي لهـا بـالا‪ ،‬يهـوي بهـا فـي جهنـم»(‪.)2‬‬ ‫وفـي لفـظ‪« :‬إن العبـد ليتكلـم بالكلمـة مـا يتبيـن مـا فيهـا يهـوي بهـا فـي النـار‬ ‫أبعـ َد مـا بيـن المشـرق والمغـرب»(‪.)3‬‬ ‫َءا﴿ َم َُنوفـي َنوجٰباْ ِهغَـقٰـــتِ ُُلديـواوْاْع ِٱل َّفــِلٱيلـَّى َلِانليَ َحملُـوؤـنَمَّقــ ُك ِجنـ َهأمــّنِماـيِد َهِنۦجٱا ۡل﴾ه ُـك[ـاَّفلدآـانيرِف‪/‬اَولسۡـحَلـــهِججـ‪:‬ف ُـد‪8‬ـو‪7‬اْ]ي‪،‬فِيحوقفــُكـــا ۡمظل ل ِغ ۡلس‪َ ‬ـظـ‪:‬اـنٗة ۚ﴿ه ََ‪،‬وٱٰٓيقَأۡعـُّيـَل َاه ُمــلـآوااْلٱأَلَّه َِّلنيٱــلَّ‪ََ ‬ل‪:‬ن‬ ‫َمـ َع ٱلۡ ُم َّتقِـ َن ‪[ ﴾١٢٣‬التوبـة]‪ ،‬فمـن ُسـنَّة الجهـاد البُـداءَة بالعـدو الأقـرب فالأقـرب‪،‬‬ ‫(‪ )1‬أخرجه الترمذي في كتاب الزهد‪ ،‬باب في قلة الكلام‪ ،559/4:‬رقم (‪ ، )2319‬وقال الترمذي‪\" :‬هذا‬ ‫حديث حسن صحيح\"‪ ،‬وابن ماجه في كتاب الفتن‪ ،‬باب كف اللسان في الفتنة‪1312/2:‬رقم (‪،)3969‬‬ ‫وال ِإمام أحمد في مسنده‪.46 ،45/1:‬‬ ‫(‪ )2‬أخرجه البخاري في الرقاق‪ ،‬باب حفظ اللسان‪ ،101/8:‬رقم (‪ ، ،)6478‬ومسلم في الزهد‪ ،‬باب التكلم‬ ‫بالكلمة يهوي بها في النار‪ ،2290/4:‬رقم (‪.)2988‬‬ ‫(‪ )3‬أخرجه مسلم في الزهد‪ ،‬باب التكلم بالكلمة يهوي بها في النار‪ ،2290/4:‬رقم (‪.)2988‬‬ ‫‪148‬‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook