منهج أهل الإيمان للعصمة من فتن آخر الزمان
منهج أهل الإيمان للعصمة من فتن آخر الزمان تأليف د .خالد سليمان الياسين
الإهداء أتقدم بهذا الكتاب.. إلى من وضعه والده منذ صغره في الطريق الموصلة إلى الله ،فسلك فيها مسرعاً. إلى من ج َّد واجتهد في العلم والتعليم حتى صار فيه إماماً وحجة وقدوة صالحة. إلى من أحيا ليله في محراب العبودية ،ونهاره على منابر العلم في المساجد والجامعات. إلى من أوقف حياته داعياً إلى الله بقوله وفعله وأحواله وكتاباته ومحاوراته ولقاءاته. إلى من آثر الآخرة في نصحه للعامة والعلماء والحكام من غير أن يخاف في الله لومة لائم. إلى من جمع الله في كلامه بين إقناع العقل وطمأنينة القلب وسمو الروح وإمتاع العاطفة. إلى من ختم الله له بخاتمة الحسنى: في بيت الله ..وبين يدي كتاب الله ..وهو يفسر آيات الله ..وحوله أحباب الله ..وكان صائماً لله ..بين المغرب والعشاء. إلى أستاذنا الجليل ..الفقيه القدوة ..الأصولي البارع ..المفسر الرائع ..الأشعري المتكلم ..المفكر المبدع ..المحاور المقنع ..النحوي المتفنن ..الصوفي المتحقق غزالي عصره ..الإمام الحجة ..العلامة الشهيد.. سيدي الشيخ الأستاذ الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي رحمـه الله تعالـى وأجـزل مثوبتـه ونفعنـا الله بعلومـه ومعارفـه وبركاتـه ،وجمعنـا الله معـه فـي مسـتقر رحمتـه مـع النبييـن والصديقيـن والشـهداء والصالحيـن والعلمـاء العامليـن والأوليـاء المقربيـن. تلميذكم الصغير ومحبكم خالد بن سليمان الياسين 7
السيرة الذاتية للمؤلف التعريف: خالد بن سليمان بن عباس الياسين ،مواليد سوريا ـ حمص ـ 1969/10/5م. الأعمال المكلف بها: ـ عضــو هيئــة تدريســية فــي جامعــة بــاد الشــام للعلــوم الشــرعية /مجمــع الفتــح الإســامي بدمشــق ،مــن 2006م إلــى الآن. ـ رئيـس قسـم التفسـير والحديـث فـي كليـة أصـول الدين/جامعـة بـاد الشـام للعلـوم الشـرعية ،مـن 2011م إلـى الآن. ـ رئيـس قسـم القـراءات القرآنيـة وعلومهـا فـي كليـة أصـول الدين/جامعـة بـاد الشـام للعلـوم الشـرعية .مـن 2012م إلـى 2017م. ـ عضـو لجنـة التفسـير وعلـوم القـرآن فـي مشـروع تطويـر مناهـج التعليـم الشـرعي فـي وزارة الأوقـاف .مـن 2014م إلـى الآن. ـ عضـو لجنـة التجويـد والاسـتحفاظ فـي مشـروع تطويـر مناهـج التعليـم الشـرعي فـي وزارة الأوقـاف .مـن 2014م إلـى الآن. ـ عضـو لجنـة الشـمائل النبويـة والأخـاق فـي مشـروع تطويـر مناهـج التعليـم الشـرعي فـي وزارة الأوقـاف .مـن 2014م إلـى الآن. ـ عضـو لجنـة التقويـم البنائـي فـي مشـروع تطويـر مناهـج التعليـم الشـرعي فـي وزارة الأوقـاف .مـن 2014م إلـى الآن. ـ مدير ثانوية أبي بكر الصديق الشرعية في حمص من 2007م إلى 2011م. ـ مديـر معهـد تحفيـظ القـرآن الكريـم فـي جامـع أبـي بكـر الصديـق فـي حمـص مـن 1996م إلـى 2011م. ـ إمام وخطيب جامع أبي بكر الصديق في حمص من 1996م إلى 2012م. ـ عضو لجنة فحص الأئمة والخطباء في مديرية أوقاف حمص من 1998م إلى 2011م. الشهادات العلمية الحاصل عليها ومصدرها: ـ الإجازة في الشريعة عام 1991م من كلية الشريعة ،جامعة دمشق. ـ دبلــوم الدراســات العليــا عــام 1996م مــن كليــة أصــول الديــن ـ جامعــة أم درمــان الإســامية ـ الســودان. 8
ـ ماجســتير فــي التفســير وعلــوم القــرآن الكريــم عــام 2000م ،مــن جامعــة أم درمــان الإســامية ـ الســودان. ـ دكتــوراه فــي التفســير وعلــوم القــرآن الكريــم عــام 2006م ،مــن جامعــة أم درمــان الإســامية ـ الســودان. الإجازات العامة من العلماء والشيوخ: قـرأ علـى أكابـر علمـاء بـاد الشـام الكثيـر مـن الكتـب فـي التفسـير وعلـوم القـرآن الكريـم ،والحديـث النبـوي وعلـوم المصطلـح ،والفقـه الإسـامي وأصولـه ،والسـيرة النبويـة والشـمائل والأخـاق ،واللغـة العربيـة وعلومهـا. وقد أكرمه الله تعالى بإجازات مكتوبة بالأسانيد المتصلة من بعض شيوخه منها: ـ إجـازة حفـظ القـرآن الكريـم وإقرائـه مـن القـارئ الجامـع للقـراءات العشـر الشـيخ إحسـان السـيد حسـن حفظـه الله. ـ إجـازة عامـة مـن محـدث الديـار الشـامية العلامـة الأسـتاذ الدكتـور الشـيخ نـور الديـن محمـد عتـر الحسـني حفظـه الله. ـ إجـازة عامـة مـن أسـتاذ التفسـير والحديـث فـي كليـة الشـريعة العلامـة الأسـتاذ الدكتور مصطفـى البغـا حفظه الله. ـ إجـازة عامـة مـن عضـو المجامـع الفقهيـة العلامـة الفقيـه الأصولـي المفسـر الأسـتاذ الدكتـور وهبـة الزحيلـي رحمـه الله. ـ إجــازة عامــة مــن عضــو مجمــع اللغــة العربيــة بدمشــق العلامــة النحــوي الأســتاذ الدكتــور مــازن المبــارك حفظــه الله. ـ إجــازة عامــة مــن شــيخ دار الحديــث الأشــرفية بدمشــق الشــيخ حســين بــن حســن صعبيــة الدمشــقي حفظــه الله. ـ إجـازة عامـة مـن مـدرس جامـع السـلطان محمـد الفاتـح العلامـة الشـيخ محمـد أميـن سـراج التركـي حفظـه الله. ـ إجـازة عامـة مـن محـدث بـاد الحجـاز العلامـة الأسـتاذ الدكتـور الشـيخ محمـد بـن علـوي المالكـي المكـي رحمـه الله. ـ إجــازة عامــة مــن شــيخ حمــص وخطيــب جامــع خالــد بــن الوليــد العلامــة الشــيخ محمــد ســعيد الكحيــل رحمــه الله. 9
الكتب والمؤلفات: 1ـ الحوار والاستدلال في القرآن الكريم [رسالة الدكتوراه]. 2ـ تحقيق سورة المائدة من تفسير اللباب من علوم الكتاب [رسالة ماجستير]. 3ـ المصباح المنير في قواعد التفسير [مجلدان]. 4ـ الصحبة وأثرها في حياة الإنسان . 5ـ منهاج الدعاء في ضوء الكتاب والسنة [شروطه ـ آدابه ـ مكروهاته ـ أوقاته]. 6ـ تفسير سورة الحجرات [دراسة تحليلية واستخلاص الأخلاق والآداب]. 7ـ الرضا والرضوان بقضاء الله في الأكوان. 8ـ التشريعات الوقائية في الإسلام لضمان صحة الإنسان. 9ـ الإفساد في الأرض في المنظور القرآني. 10ـ الآثار التربوية لأسلوب السؤال في القرآن الكريم. 11ـ منهج أهل الإيمان للعصمة من فتن آخر الزمان. 12ـ نقض أوهام الطاعنين في القرآن الكريم [ردود على الشبهات]. 13ـ دفع أوهام التعارض بين الكتاب والسنة. 14ـ تحقيق تفسير الإمام البيضاوي مقابل على أصول خطية معتمدة [قيد الإنجاز]. 15ـ تحقيق تفسير الإمام النسفي مقابل على أصول خطية معتمدة [قيد الإنجاز]. الأبحاث المحكمة: 1ـ قَ َسـ ُم اللهِ بمخلوقاتـه فـي القـرآن الكريـم ،مجلـة الإحيـاء بكليـة العلـوم الإنسـانية ـ جامعـة الحـاج لخضـر ـ باتنـة ـ الجزائـر. 2ـ بيـان المحجـة فـي فضائـل وأحـكام عشـر ذي الحجـة ،مجلـة الإحيـاء بكليـة العلـوم الإنسـانية ـ جامعـة الحـاج لخضـر ـ باتنـة ـ الجزائـر. 3ـ التعظيـم فـي منـاداة النبـي الكريـم ﷺ فـي ضـوء أقـوال المفسـرين ،مجلـة التـراث العربـي فـي اتحـاد الكتـاب العـرب ـ دمشـق 4ـ دراســة ( إِ َذ ْن ) مـن أدوات المعانـي فـي ضـوء أقـوال النحوييـن والمفسـرين ،مجلـة مجمـع اللغـة العربيـة ـ دمشـق. 10
المقدمة الحمـد لله رب العالميـن ،والصـاة والسـام علـى سـيدنا محمـد وعلـى آلـه وأصحابـه أجمعيـن ،وعلـى مـن تبعهـم بإحسـان إلـى يـوم الديـن. أما بعد: فــإ َّن الفتــن أحــداث تطيــش معهــا العقــول ،وتمــوت فيهــا القلــوب ،إ ّل مــن عصمـه الله ،وتجعـل الحليـم حيـران ،وينـدر فيهـا وجـود العاقل الحكيـم ،الذي ينظـر إلـى الأزمـات بالعقـل الرشـيد ،ويتأمـل فـي نتائجهـا علـى الفـرد والمجتمـع، والعبـاد والبـاد؛ لأن أكثـر مـا يحـرك النـاس وقـت الفتـن مشـاعر الغضـب ،وغليان العواطـف ،والرغبـة بالثـأر ،وانتشـار الشـائعات كالنـار فـي الهشـيم. والفتـن ليسـت مقصـورةً علـى زمـن دون زمـن ،أو مـكان دون مـكان ،بـل هـي مسـتمرة باقيـة إلـى أن يـرث الله الأرض ومـن عليهـا ،وتتعاظـم كلمـا مـرت الأيـام، ل ِح َكـ ٍم لا يعلمهـا إلا الله . وقـد قـال العلامـة شـيخ قـراء حمـص ،والمحـدث الفقيـه ،أميـن الفتـوى فـي حمـص فضيلـة سـيدي الشـيخ عبـد العزيـز عيـون السـود رحمـه الله فـي خطبتـه الغــراء« :وإ َّن بيــن يــدي الســاعة فتنــاً كثيــرة ،ومحنــاً أثيــرة ،حقــاً علــى كل مــن أطلعـه الله علـى شـيء مـن ذلـك ،أن يسـرد الأحاديـث والأخبـار علـى النـاس مـرة بعـد أخـرى ،ليكـون أهـل كل قـرن علـى حـذر منهـا ،متهيئيـن لهـا بالأعمـال الصالحـة الباقيـة ،غيـر منهمكيـن فـي الشـهوات واللـذات الفانيـة». إلـى أن قـال رحمـه الله« :وعسـى بذكـر شـي ٍء منهـا أن تليـ َن القلـوب وتنتبـهَ مـن ِسـنَ ِة الغفلـة ،وتغتنـ َم المهلـة قبـل الوهلـة». 11
والفتـن إذا وقعـت وانتشـرت َص ُعـب علـى العقـاء دفـع السـفهاء ..مـن هنـا كان الأخــ ُذ علــى أيــدي العابثيــن والســفهاء فــي أولِّهــا منجــاةً للجميــع ،فعــن النعمــان بــن بشــير قــال :قــال رســول الله ﷺ« :مثــل القائــم علــى حــدود الله والواقـع فيهـا ،كمثـل قـوم اسـتهموا علـى سـفينة ،فأصـاب بعضهـم أعلاهـا، وبعضهـم أسـفلها ،فـكان الذيـن فـي أسـفلها إذا اسـتقوا مـن المـاء مـروا علـى مـن فوقهـم فقالـوا :لـو أنـا خرقنـا فـي نصيبنـا خرقـاً ولـم نـؤذ مـن فوقنـا ،فـإن يتركوهم ومـا أرادوا هلكـوا جميعـاً ،وإن أخـذوا علـى أيديهـم نجـوا ونجـوا جميعـاً»(.)1 ولمـا نشـبت الفتـن فـي بعـض بلادنـا العربيـة المجـاورة سـألت شـيخنا الفاضل الإمـام العلامـة أسـتاذنا الدكتـور نـور الديـن عتـر حفظـه الله ونفعنـا بـه وبعلومـه ـ آميـن ـ مـاذا يجـب علينـا فـي خضـم هـذه الأحـداث؟ فقـال« :اقـرؤوا أحاديـث الفتـن ،واعملـوا بوصايـا النبـي ﷺ فيهـا ،وجنبـوا أنفسـكم الوقـوع فـي الفتـن»(.)2 ( )1أخرجه البخاري في كتاب الشركة ،باب هل يقرع في القسمة والاستهام فيه ،882/2:رقم(.)2361 ( )2ع َّلق أحد العلماء على هذا الكلام قائل ًا :هذا كلام العلماء الربانيين العارفين بما يجري من حولهم ،والذين يعيشون داخل بلادهم ،بعيدين عن المؤثرات الخارجية ،والضغوطات الجماهيرية ،وهو موقف ُجل علماء الداخل وعقلاء الأمة ...الذين بدأ كثير من الشباب بتفهم موقفهم من الأحداث الجارية ،بعد أن رأوا الآثار السلبية لما أقدموا عليه بوحي من أعدائهم ،وتزيين شياطين الإنس والجن لهم ،وقد سبق َعنِ ُّت ۡم َحرِي ٌص َعلَ ۡي ُكم َجآ َء ُك ۡم َر ُسو ٞل ِّم ۡن أَن ُف ِس ُك ۡم َع ِزي ٌز َع َل ۡيهِ َما فيه ﴿ :لَ َق ۡد السنوات الخداعات: أن َح ّذرنا من الوقوع بالفتن ،وحدثنا عن [ ﴾١٢٨التوبة]، لرسولنا ﷺ ،الذي قال بِٱلۡ ُم ۡؤ ِمنِي َن َر ُءو ٞف َّر ِحي ٞم التي يكذب فيها الصادق ،ويصدق فيها الكاذب ،و ُي َّون فيها الأمين ،و ُيؤ َّمن فيها الخائن ،وسينطق فيها الرويبضة ،وهو :التافه ينطق بأمر العامة ...كما حدثنا أنه سيأتي زمان نرى فيه :حدثاء الأسنان ،و ُسفهاء الأحلام ،الذين يقولون بقول خير البرية ،ويمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ...ومع هذا نرى اليوم كثير ًا من المسلمين كبار ًا وصغار ًا ،يغفلون عن هذه الوصايا النبوية ،وينساقون وراء العواطف الجامحة ،والحركات الغوغائية ،التي خلفت ولا تزال الهلاك والدمار .أسأل الله عز وجل أن يوقظنا من غفلتنا ،وأن يلطف بالبلاد والعباد ،وأن يعيدنا إلى رشدنا ،لنتمسك بكتاب ربنا ،وسنة نبينا ،وأن يعصمنا من الفتن ،ما ظهر منها وما بطن ،وأن يجعل العاقبة خير ًا ...إنه سميع مجيب. 12
وأمرنـي أن أجمـع أحاديـث الفتـن مـن مصادرهـا ،وأن أحـدث بهـا النـاس فيمـا أسـتطيع؛ لأ َّن التحصـن بالشـرع الشـريف ،والانضبـاط بالعقـل الرشـيد ،والاتـزان الفكـري ،ومعالجـة الأمـور بالحكمـة والرويـة مـن أعظـم الأسـباب التـي تعصـم الإنسـان مـن الفتـن. فـإن التمسـك بالتوجيهـات والوصايـا النبويـة ،والحـرص علـى وحـدة الأمـة وسـامة صدورهـا ،وأمـن مجتمعاتهـا ،والبعـد عـن اسـتباحة حـدود الله بالتأويـل والشــبهة؛ ممــا يســد أبــواب الفتــن ،ويقــي الأجيــال مــن مخاطرهــا ،ويضمــن عصمــة المؤمــن مــن أن تلفحــه نيرانهــا فــي آخــر الزمــان. كمـا أن فتـح أبـواب الفتـن ،والاقتتـال الداخلـي ،وتوجيـه السـاح نحـو صـدور المســلمين ،لا يخــدم إلا أعــداء الأمــة ،وفــي التاريــخ القديــم والحديــث عبــ ٌر ومواعـ ُظ للعقـاء ...فأيـن مـن يـدرك ذلـك ؟! فمــا أحوجنــا فــي هــذا الزمــان ،المملــوء بالفتــن والأكــدار ،إلــى أن نســلك سـبيل أهـل الإيمـان ـ المبنـي علـى هـدي القـرآن الكريـم والسـنة النبويـة الشـريفة، وهـدي الصحابـة الكـرام ـ للوقايـة مـن الفتـن التـي تنشـب وتتوالـى فـي آخـر الزمـان ،وتسـتعر نارهـا ويشـب ضرامهـا وينتشـر أوارهـا ،عميـاء صمـاء مطبقـة، كقطـع الليـل المظلـم ،أو كالأمـواج المتلاطمـة. لذلـك لابـد مـن الاسـتعداد للفتـن قبـل حدوثهـا ،بالتسـلح بالعلـم والبصيـرة، مـع العمـل والاجتهـاد ،والاسـتعداد ليـوم المعـاد ،عسـى أن ننتبـه مـن ِسـنَ ِة الغفلـة، ونغتنـم المهلـة قبـل المباغتـة وال َو ْهلَـة. فـإ ّن هـذه الفتـن المعاصـرة التـي نعايشـها اشـتبه فيهـا الحـق بالباطـل علـى كثيـ ٍر مــن النــاس ،فــكان حقــاً علــى كل مســلم أن يتأنّــى ولا يتع ّجــل ،ويستشــي َر أهــل العلـم ،الذيـن شـهدت لهـم الدنيـا بسـعة علومهـم ،وإخلاصهـم ،ورجاحـة رأيهـم، وبُعـ ِد نظرهـم. 13
ومـن هنـا جـاء هـذا الكتـاب [منهـج أهـل الإيمـان للعصمة مـن فـن آخـر الزمان] تذكـرةً لمـن كان لـه قلـب ،أو ألقـى السـمع وهـو شـهيد ،واللهَ أسـأ ُل أن يُخلـص نيتـي ،وي ْح ِسـ َن َط ِويَّتـي ،فإنمـا الأعمـا ُل بالنيـات ،وإن الحسـنا ِت يُذهبـن السـيئا ِت، وإنمـا لـكل امـرئ مـا نـوى. وإنـي أتقـدم بهـذا الكتـاب إلـى كل مؤمـن عاقـل ،يريـد أن يلقـى الله بالرضـا، حريــ ٍص علــى دمــاء المســلمين ،ووحــدة الصــف والجماعــة ،يريــد أن يفــ ِّوت الفرصــة علــى أعــداء الأمــة والمتربصيــن بهــا. راجيـاً الله تعالـى أن يخمـد نيـران الفتـن مـا ظهـر منهـا ومـا بطـن فـي جميـع بـاد الإسـام. أخوكم المحب خـالـد بن ســليمان الياســيـن 14
تعريف الفتنة: الفتنـة فـي اللغـة :الابتـاء والامتحـان والاختبـار ،وأصلهـا مأخـوذ مـن قولـك: فتنـت الفضـة والذهـب ،إذا أذبتهمـا بالنـار لتَ ِميـ َز الـرديء مـن الجيـد( .)1والفاتـن: المضـل عـن الحـق( .)2ثـم صـارت تطلـق الفتنـة علـى كل مكـروه ،أو كل مـا يـؤول إليـه مـن أمـر مـن المكـروه والسـوء والشـر والفسـاد. والفتنة أيضاً :إعجاب المر ِء بالشيء ،فَتَنَه ي ْفتِنه فَتْناً وفتوناً ،وأفتَنه. وقد ورد معنى الفتنة في القرآن الكريم على عشرة وجوه: )1الشرك :قال الله َ ﴿ :وٱ ۡلفِ ۡت َن ُة أَ ۡك َ ُب ِم َن ٱ ۡل َق ۡت ِل﴾ [الآية/البقرة.]217: )2الكفـر :قـال الله ﴿ :لَ َقـ ِد ٱ ۡب َت َغـ ُواْ ٱ ۡلفِ ۡت َنـ َة﴾ [الآية/التوبـة ،]48:وقـال الله : ﴿ َف َي َّتبِ ُعـو َن َمـا ت َ َ ٰشـ َب َه ِم ۡنـ ُه ٱبۡتِ َغـآ َء ٱ ۡل ِف ۡت َنـ ِة﴾ [الآيـة/آل عمـران ،]7:وقـال الله : ﴿ َو َلٰ ِك َّن ُكـ ۡم َف َتن ُتـ ۡم أَن ُف َسـ ُك ۡم﴾ [الآية/الحديـد]14:؛ أي :كفرتـم. َ أَ ۡمـ ِرهِۦٓ فِ ۡت َنـ ٌة﴾ تُ ِصي َب ُهـ ۡم أن ـ ۡن َع ُ َيالِ ُفـو َن ٱ َّ ِليـ َن ﴿ َف ۡل َي ۡحـ َذرِ : الله قـال الإثـم: )3 ۚ َت ۡفتِـ ِّ ٓي َو َل ّ ٱئۡـ َذن َي ُقـو ُل [الآية/النـور]63:؛ أي :إثـم ،وقـال الله َ ﴿ :و ِم ۡن ُهـم َّمـن ِل ََ َسـ َق ُطواْ﴾ ٱ ۡلفِ ۡت َنـ ِة أل الإثـم. فـي أي: [التوبـة]49:؛ ِف )4العــذاب :قــال الله ِ ﴿ :مــ ۢن َب ۡعــ ِد َمــا فُتِ ُنــواْ﴾ [الآية/النحــل]110:؛ أيُ :ع ِّذبــوا. وقــال الله ﴿ :إِ َّن ٱ َّ ِليــ َن َف َت ُنــواْ ٱلۡ ُم ۡؤ ِمنِــ َن﴾ [الآية/البــروج]10:؛ أي :ع َّذبوهــم، وقــال ُ ﴿ :ذو ُقــواْ فِ ۡتنَ َت ُكــ ۡم﴾ [الآية/الذاريــات .]14:أي :عذابكــم. ( )1انظر مقاييس اللغة ،لابن فارس.472 /4: ( )2لسان العرب ،لابن منظور الإفريقي ،173/4:دار صادر ،بيروت ،ط ،1:والمصباح المنير في غريب الشرح الكبير ،للرافعي ،462/2:المكتبة العلمية ،بيروت ،ومختار الصحاح ،للرازي :ص ،488مكتبة لبنان ناشرون ،بيروت ،ط1415:ﻫ ،تحقيق :محمود خاطر. 15
[الآية/العنكبوت]؛ ﴾٢ ُي ۡف َت ُنـو َن َ َو ُهـ ۡم َءا َم َّنا ْ َي ُقولُـ ٓوا ﴿أَن : الله قـال وال ِم ْحنَـة: البـاء )5 ل أي :يُبتَلُـون ،وقـال الله َ ﴿ :و َل َقـ ۡد َف َت َّنـا ٱ َّ ِليـ َن ِمـن َق ۡبلِ ِهـ ۡم﴾ [الآية/العنكبـوت]3:؛ أي: امتحنَّا ُهـ ْم ،وقـال اللهَ ﴿ :و َف َت َّنٰـ َك ُف ُتو ٗنـا﴾ [الآية/طـه]40:؛ أي :بلونـاك ،وقـال الله َ ۞﴿ :و َل َقـ ۡد َف َت َّنـا َق ۡبلَ ُهـ ۡم قَـ ۡو َم فِ ۡر َعـ ۡو َن﴾ [الآية/الدخـان]17:؛ أي :ابتليناهـم. َك َفــ ُر ٓواْ﴾ ٱ َّ ِليــ َن َ َي ۡفتِ َن ُكــ ُم أن ِخ ۡف ُتــ ۡم ﴿إِ ۡن : الله قــال والهــاك: القتــل )6 [الآية/النســاء]101:؛ أي :يقتلكــم ،وقــال الله ٰ َ َ ﴿ :ع َخــ ۡو ٖف ِّمــن فِ ۡر َعــ ۡو َن َي ۡفتِ َن ُهــ ۡم﴾ َ َو َم َ ِليْ ِهــ ۡم يقتلهــم. أي: ]؛ [يونــس83: أن )7الصـ ّد عـن الصـراط المسـتقيم :قـال الله ِ﴿ :إَون َك ُدواْ َلَ ۡفتِ ُنونَ َك﴾ [الآية/الإسـراء،]73: أَي: َي ۡفتِ ُنــو َك﴾ َ ﴿ َوٱ ۡح َذ ۡر ُهــ ۡم وقيــل: يصــ ّدو َك، [الآية/المائــدة]49:؛ أن : الله وقــال يوقعـوك فـي بليّـة وشـ ّدة فـي صرفهـم إِيّـاك ع ّمـا أُوحـى إِليـك. )8الحيـرة وال َّضـال :قـال الله َ ﴿ :مــآ أَن ُتــ ۡم َع َل ۡيــهِ بِ َفٰتِنِــ َن [ ﴾١٦٢الصافـات]؛ أي: بضالِّيـن ،وقـال الله َ ﴿ :و َمـن يُـ ِردِ ٱلَّ ُل فِ ۡتنَ َتـ ُهۥ﴾ [الآية/المائـدة]41:؛ أي :ضلالتـه . قَالُواْ﴾ َ َّ ٓ لَ ۡم [الآية/الأنعـام]23:؛ أن إِل فِ ۡتنَ ُت ُهـ ۡم تَ ُكـن ﴿ ُثـ َّم : الله قـال وال ِعلّـة: ال ُعـذر )9 أَي :عذرهم. )10الجنـون والغفلـة :قـال الله ﴿ :بِأَي ّيِ ُكـ ُم ٱلۡ َم ۡف ُتـو ُن [ ﴾٦القلـم]؛ أي :المجنون، والتقديـر :أيكـم المفتـون ،والبـاء زائـدة للتوكيد. فالفتنــة التــي يضيفهــا الله ســبحانه إلــى نفســه ،أو يضيفهــا رســولُه إليــه؛ َفكٱق ۡغوِفل:ــ ۡره﴿َإِلَ ۡـناَِ :وٱَهۡ﴿ر َإَِو ََّۡحكلَن َذٰـلفِِاۖـۡتـ َنَوأَُتَنكــ َفَ ََكتت َّنتُــ َخاِضـ َبۡـ ُُّۡعرلٱَ ۡبلضِ ََُههغٰـــِفامِر َيمبِــَب َۡعننــ٥ت َ١َٖ ٥شضـ﴾آ﴾ُ[ءال[ َاآويل َتآةيۡه/ةاـل/اأِدلعأـنيرعاـ َامفمـ]3،:نف5ت َت] َل،شــوآقكُءۖـبأَنومـلعنَمتىوَوآ ِسُّلخَـنرـا،ى وهـي بمعنـى الامتحـان والاختبـار ،والابتـاء مـن الله لعبـاده بالخيـر والشـر، بالنعـم والمصائـب ،فهـذه لـون ،وفتنـة المشـركين لـون ،وفتنـة المؤمـن فـي مالــه وولــده وجــاره لــون آخــر ،والفتنــة التــي يوقعهــا بيــن أهــل ال ِإســام؛ 16
كالفتنـة التـي أوقعهـا بيـن أصحـاب علـي ومعاويـة وبيـن أهـل الجمـل ،وبيـن المسـلمين ،حتـى يتقاتلـوا ويتهاجـروا لـون آخـر ،وهـي الفتنـة التـي قـال فيهـا النبـي ﷺ« :سـتكون فتنـة ،القاعـد فيهـا خيـر مـن القائـم ،والقائـم فيهـا خيـر مـن الماشـي ،والماشـي فيهـا خيـر مـن السـاعي»( ،)1وأحاديـ ُث الفتنـة التـي أمـر رسـول الله ﷺ فيهـا باعتـزال الطائفتيـن ،هـي هـذه الفتنـة. قـال الحافـظ ابـن حجـر العسـقلاني رحمـه اللهُ « :ويعـرف المـراد حيثمـا َو َر َد بالســياق والقرائــن»(.)2 والفتنـة والبـاء يسـتعملان فيمـا يدفـع إليـه الإنسـان ،مـن شـدة ورخـاء ،وهمـا فـي الشـ ّدة أظهـر معنـى ،وأكثـر اسـتعمالاً .وقـال الله َ ﴿َ :و َل يَـ َر ۡو َن َأ َّن ُهـ ۡم ُي ۡف َت ُنـو َن ٱ ۡ َل ۡو ِف ِّمـ َن ﴿ َو َلَ ۡب ُل َونَّ ُكـم ب ِـ َ ۡيءٖ َِوٱف ُُۡل ِّـكو َِعع ٖم َو َن ۡ﴾قـ[ا ٖلآيصة ِّ/مالَتنوٱبـۡة َلۡ :م6ـَ2وٰ]ِ 1ل [الآية/البقـرة.]155: إِ َوٱ ۡشـلَان ُرفةـ إِِلـس َىوٱلقثَّو َملِــ َهرٰ ِت﴾: قـال ال ِإمـام الطبـري رحمـه الله« :والصـواب أن يُقـال :إن الفتنـ َة أصلهـا الابتلاء، وإنــكار المنكــر واجــب علــى كل َمــ ْن قــدر عليــه ،فمــن أعــان المحــق أصــاب، و َمـ ْن أعـان المخطـئ أخطـأ ،وإن أُشـكل الأمـ ُر فهـي الحالـة التـي ورد النهـي عـن القتـال فيهـا»(.)3 والفتنـة مـن الأفعـال التـي تكـون مـن الله ومـن العبـد؛ كالبليـة والمصيبـة، والقتـل ،والعـذاب ،ونحـوه ،فـإذا كان مـن الله ،فهـو علـى وجـه الحكمـة ،وإذا كان مـن الإنسـان فيكـون ضـد ذلـك. ( )1أخرجه أبو داود في كتاب الفتن ،باب النهي عن السعي في الفتنة ،161/4:رقم ( ، )4259والترمذي في كتاب الفتن ،باب تكون فتنة القاعد فيها خير من القائم ،486/4:رقم ( ،)2194وقال الترمذي( :هذا حديث حسن). ( )2فتح الباري ،لابن حجر العسقلاني.176/11: ( )3نقله عنه الحافظ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري.35/13: 17
هل ما يحدث في بلادنا فتنة وعذاب أم ربيع عربي؟ ل َّمـا شـبت نـار الفتنـة فـي بلادنـا العربيـة ولا سـيما فـي بلدنـا الحبيـب سـوريا ،قمنـا بالتحذيـر مـن المسـاهمة فـي تأجيجهـا ،وبيّنـا خطـورة النفـخ فـي كيرها ،والخـوض في ضرامهـا ،ووجهنـا العامـة والخاصـة إلـى البعـد عـن أسـبابها والعمـل علـى إخمادهـا، وتـرك الأعمـال والأقـوال التـي تزيـد فـي سـعيرها مـن الخـروج فـي المظاهـرات ورفـع الشـعارات والانطـواء تحـت الرايـات المشـبوهة كيـا يكـون شـباب الأمـة وقـود هـذه الفتـن التـي أضرمهـا أعـداء الله تعالـى تحـت شـعار (الربيـع العربـي). ومــن نظــر بعيــن الإنصــاف والواقعيــة ،وتدبــر الأمــور مــن منظــار المصالــح والمفاســد رأى أن المظاهــرات مــا لبثــت أن تحولــت إلــى فتنــة عميــاء ثــم إلــى هـرج ومـرج وقتـل وسـفك للدمـاء وفسـاد عريـض فـي الحـرث والنسـل وتمزيـق المجتمــع وهيمنــة الخــوف والذعــر بــدل الســلم والأمــن ،وغيرهــا مــن الآثــار المروعــة والنتائــج الفظيعــة. فالعاقـل يـدرك أننـا فـي أتـون عـذاب وفتنـة ،وليـس فـي أحضـان ربيـع كمـا يصـوره لنـا أعداؤنـا. ومـن أهـم أهـداف هـذه الفتنـة تشـويه صـورة الجهـاد الإسـامي الـذي هـو ذروة سـنام الإسـام ،وتحويلـه مـن جهـاد مقـدس فـي وجـه أعـداء الأمـة لتحريـر البـاد إلـى التناحـر والهـرج والمـرج بيـن أفـراد الأمـة! ومن مظاهر هذه الفتنة: ● انفـات النـاس مـن الضوابـط الشـرعية والعقليـة واتبـاع الهـوى ،والانصيـاع وراء ردود الفعــل والعواطــف دون النظــر فــي المــآلات والعواقــب ،بعيــداً عـن الموازنـة بيـن المصالـح والمفاسـد فـي أقوالهـم وأفعالهـم. ● لجـوء الكثيـر ممـن أضـرم نـار الفتنـة إلـى أعـداء الأمـة والاسـتعانة بهـم فـي تحقيـق أهدافهـم ،والركـون إلـى وعودهـم الكاذبـة ،بـل وع ُّدوهـم أصدقـاء للشـعب وهـم ألـ ُّد أعدائـه. 18
● هجرة الكثير من أبناء الوطن من النخب العلمية والثقافية والفكرية والكوادر الاقتصادية والصناعية ،مما ساهم في ضعف البلد في هذه المجالات. ● انتشـار أسـاليب اللعـن والطعـن ،والتشـكيك والتخويـن ،والاتهـام الباطـل، والافتــراءات المغرضــة لرمــوز هــذه الأمــة وقادتهــا ومفكريهــا وعلمائهــا، ممـا قطـع الصلـة بينهـم وبيـن عامـة النـاس ،وهـذا مـا أراده أعداؤنـا. إلى غير ذلك من المفاسد التي نجمت عن هذه الفتنة الفتنة المهلكة. بعد هذا أسأل :هل ما يجري في بلادنا (ربي ٌع) أم (عذاب)؟! الله سـمى ذلـك ( عذابـاً ) ،وأعـداء الله سـموا ذلـك ( ربيعـاً ) ،فأعرضنـا عـن كلام الله ،وصدقنـا أعـداءه؛ فحـ َّل البـاء ،ولا حـول ولا قـوة إلا بـالله.. ِمـنقـ َا ۡتـل اِلتلهأَ ۡر ُجلُِ :ك﴿ـُق ۡمـ ۡأَلۡو يَُه ۡلـبِ َو َسٱـۡل َقـُكا ِۡدم ُر ِش َـ ََي ٰٓٗععاأَ َون ُي َي ِذ ۡبي َعـ َـق ََبث ۡع َعَضَل ۡي ُك ُـكمـ ۡبَمـأۡ َع َ َذاس ٗب َبـ ۡعاـ ِّمٍـ ۗضنٱن َف ُ ۡظوقـِ ۡر ُكَك ۡـيـۡم َأَ ۡوف نُـ َ ِّر ُف ٱٓأۡل َيٰـ ِت لَ َع َّل ُهـ ۡم َي ۡف َق ُهـو َن [ ﴾٦٥الأنعـام]. قـال الإمـام القرطبـي رحمـه الله فـي تفسـير هـذه الآيـة الكريمـة « :أي القـادر علـى إنجائكـم مـن الكـرب ،قـادر علـى تعذيبكـم. ومعنـى ﴿ ِّمـن َف ۡوقِ ُكـ ۡم﴾ :الرجـم بالحجـارة والطوفـان والصيحـة والريـح؛ كمـا فعـل بعـاد وثمـود وقـوم شـعيب وقـوم لـوط وقـوم نـوح. ﴿أَ ۡو ِمن َ ۡت ِت أَ ۡر ُجلِ ُك ۡم﴾ :الخسف والرجفة؛ كما فعل بقارون وأصحاب مدين. وقيـلِّ ﴿ :مــن َف ۡوقِ ُكــ ۡم﴾ يعنـي :الأمـراء الظلمـة﴿ ،أَ ۡو ِمــن َ ۡتــ ِت أَ ۡر ُجلِ ُكــ ۡم﴾ يعنـي :السـفلة وعبيـد السـوء. ﴿أَ ۡو يَ ۡلبِ َس ُك ۡم ِش َي ٗعا﴾ بضم الياء ،أي :يجللكم العذاب ويعمكم به. وقيـل :معنـى ﴿يَ ۡلبِ َسـ ُك ۡم ِشـ َي ٗعا﴾ يقـوي عدوكـم حتـى يخالطكـم وإذا خالطكم فقـد لبسـكم ،و﴿ ِشـ َي ٗعا﴾ معنـاه فرقـاً .وقيـل :يجعلكـم فرقـاً يقاتـل بعضكـم بعضاً؛ وذلـك بتخليـط أمرهم. 19
وهو معنى قوله َ ﴿ :و ُي ِذي َق َب ۡع َض ُكم بَأۡ َس َب ۡع ٍض﴾ أي :بالحرب والقتل في الفتنة. والآية عامة في المسلمين والكفار ،وقيل :هي في الكفار خاصة. وقال الحسن :هي في أهل الصلاة. قلـت ـ أي القرطبـي ـ :وهـو الصحيـح؛ فإنـه المشـاهد فـي الوجـود ،فقـد لبسـنا العـدو فـي ديارنـا واسـتولى علـى أنفسـنا وأموالنـا ،مـع الفتنـة المسـتولية علينـا بقتـل بعضنـا بعضـاً واسـتباحة بعضنـا أمـوال بعـض»(.)1 مصدر الفتن من المشرق: بيَّــن النبــي ﷺ أن أكثــر الفتــن يكــون مصدرهــا مــن جهــة الشــرق ،كمــا فــي الأحاديــث الآتيــة: عــن أبــي هريــرة قــال :قــال رســول الله ﷺ« :رأس الكفــر نحــو الشــرق، والفخـر والخيـاء فـي أهـل الخيـل والإبـل :الف ّداديـن( )2أهـل الوبـر ،والسـكينة فـي أهـل الغنـم»(.)3 وفـي روايـة أنـه قـال ﷺ« :الإيمـان يمـان ،والكفـر قبـل المشـرق ،والسـكينة فـي أهـل الغنـم ،والفخـر والريـاء فـي الفداديـن :أهـل الخيـل والوبـر»(.)4 ( )1الجامع لأحكام القرآن ،للقرطبي ،9/7:تحقيق :هشام البخاري ،دار عالم الكتب ،الرياض ،ط1423 :ﻫ. ( )2الفدادون بالتشديد :الذين تعلو أصواتهم في حروثهم ومواشيهم ،وأحدهم :فداد .يقال :فد الرجل يفد فديد ًا إذا اشتد صوته .وقيل :هم المكثرون من الإبل .وقيل :هم الج ّملون والب ّقارون والح ّمرون والرعيان. وقيل :إنما هو [الفدادين] مخفف ًا واحدها :فدان مشدد وهي البقر التي يحرث بها ،وأهلها أهل جفاء وغلظة. انظر :النهاية ،لابن الأثير.419/3: ( )3أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق ,باب خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ،1002/2:رقم (،)3125 ومسلم في كتاب الإيمان ،باب تفاضل أهل الإيمان فيه ورجحان أهل اليمن فيه ،71/1:رقم (.)52 ( )4أخرجه مسلم في كتاب الإيمان ،باب تفاضل أهل الإيمان فيه ورجحان أهل اليمن فيه ،71/1:رقم (.)52 20
عـن عبـد الله بـن عمـر قـال :سـمعت رسـول الله ﷺ يقـول وهو علـى المنبر: «ألا إن الفتنـة هـا هنـا ـ يشـير إلـى المشـرق ـ مـن حيث يطلـع قرن الشـيطان»(.)1 وفـي روايـة بزيـادة فـي أولـه :أن النبـي ﷺ قـال« :اللهـم بـارك لنـا فـي شـامنا وفـي يمننـا» قالـوا :وفـي نجدنـا؟ قـال« :اللهـم بـارك لنـا فـي شـامنا وفـي يمننـا» قالـوا :وفـي نجدنـا؟ قـال« :هنـاك الـزلازل والفتـن وبهـا يطلـع قـرن الشـيطان»(.)2 وعـن سـالم بـن عبـد الله بـن عمـر بـن الخطـاب أنـه قـال :يـا أهـل العـراق مـا أسـألكم عـن الصغيـرة ،وأركبكـم للكبيـرة ،سـمعت أبـي عبـد الله بـن عمـر يقـول :سـمعت رسـول الله ﷺ يقـول« :إن الفتنـة تجـئ مـن ههنـا ـ وأومـأ بيـده نحـو المشـرق ـ مـن حيـث يطلـع قرنـا الشـيطان» ،وأنتـم يضـرب بعضكـم رقـاب بعـض(.)3 الشيطان يثير الفتن: الشـيطان حريـص علـى إثـارة الفتـن والبلايـا ،وإيقـاع المؤمنيـن فـي المعاصـي والخطايـا ،وإضـرام نـار الفتـن بيـن المسـلمين بعضهـم مـع بعـض ،ليحرقهـم بهـا جميعــاً ،يحــرش بيــن الإخــوة والأهــل والجيــران والأحبــاب ،لتحــ َّل الشــحناء والبغضــاء والتنافــر والتدابــر فيمــا بينهــم ،فيفــرق جمعهــم ،ويوغــر صدورهــم، ويـزرع الأحقـاد فـي قلوبهـم ،فعلـى المسـلم أن يكـون علـى حـذر مـن الشـيطان وأسـاليبه ،فقـد بيَّـن لنـا رسـول الله ﷺ بعـض أسـاليب الشـيطان فـي إثـارة الفتـن لنكـون علـى حـذر منهـا. ( )1أخرجه البخاري في كتاب المناقب ،باب نسبة اليمن إلى إسماعيل ،1293/2:رقم ( ،3320ومسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة ،2747/5:رقم ( .)2905وقرن الشيطان :أي :حزبه وأهل وقته وزمانه وأعوانه .وقيل :يحتمل أن يريد بالقرن قوة الشيطان وما يستعين به على الإضلال .انظر :تحفة الأحوذي، للمباركفوري.315/10: ( )2أخرجه البخاري في كتاب الاستسقاء ،باب ما قيل في الزلازل والآيات ،351/1:رقم (.)990 ( )3أخرجه مسلم في كتاب الفتن ،باب الفتنة من المشرق ،2747/5:رقم (.)2905 21
فعـن جابـر بـن عبـد الله قـال :سـمعت رسـول الله ﷺ يقـول« :إن إبليـس يضـع عرشـه علـى المـاء ،ثـم يبعـث سـراياه ،فأدناهـم منـه منزلـة أعظمهـم فتنـة، يجـئ أحدهـم فيقـول :فعلـت كـذا وكـذا ،فيقـول :مـا صنعـت شـيئاً ،قـال :ثـم يجـئ أحدهـم فيقـول :مـا تركتـه حتـى فرقـت بينـه وبيـن امرأتـه ،قـال :فيدنيـه منـه، ويقـول :نعـم ..أنـت»(.)1 قـال سـيدنا علـي بـن أبـي طالـب «:أيهـا النـاس ..إن أول وقـوع الفتـن أهـواء تتبـع ،وأحـكام تبتـدع ،يخالـف فيهـا حكـم الله ،ويعظـم عليهـا رجـال رجـالاً ،ولـو أن الحـق أُخلـص ف ُعمـل بـه لـم يَخـ َف علـى ذي حجـاً( ،)2ولكنـه يؤخـذ ضغـث مـن هـذا وضغـث مـن هـذا( )3فيخلـط ،فيعمـل بـه ،فعنـد ذلـك يسـتولي الشـيطان علـى أوليائـه ،وينجـوا الذيـن سـبقت لهـم منـا الحسـنى»(.)4 عــن محمــد بــن ســيرين رحمــه الله قــال :قــال جنــدب « :جئــت يــوم ال َج َرعــة( ،)5فــإذا رجــل جالــس ،فقلــت :ليهراقــن اليــوم ههنــا دمــاء .فقــال ذاك الرجــل :كلا والله .قلــت :بلــى والله .قــال :كلا والله .قلــت :بلــى والله .قــال :كلا والله إنــه لحديــث رســول الله ﷺ حدثنيــه .قلــت :بئــس الجليــس لــي أنــت منــذ اليـوم تسـمعني أخالفـك وقـد سـمعته مـن رسـول الله ﷺ فـا تنهانـي؟ ثـم قلـت: مــا هــذا الغضــب؟ فأقبلــت عليــه أســأله فــإذا الرجــل حذيفــة .)6(» ( )1أخرجه مسلم في كتاب صفات المنافقين وأحكامهم ،باب تحريش الشيطان ،2692/5:...رقم (.)2813 ( )2على ذي حج ًا :أي على صاحب عقل. ( )3ضغث من هذا وضغث من هذا :أي كلام ملفق الطرفين من هذا ومن هذا؛ والضغث قبضة حشيش مختلطة الرطب باليابس ،والمراد به :البدع والشبهات المخالفة للكتاب والسنة والإجماع. ( )4دستور معالم الحكم ومأثور مكارم الشيم (من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه)، للقاضي أبي عبد الله محمد بن سلامة القضاعي ،ص ،239المكتبة الأزهرية. ( )5قال النووي :الجَ َرعة :موضع بقرب الكوفة على طريق الحيرة ،ويوم الجرعة :يوم خرج فيه أهل الكوفة يتلقون والي ًا ولاه عليهم عثمان فردوه ،وسألوا عثمان أن يولى عليهم أبا موسى الأشعري فو َّله .انظر :صحيح مسلم بشرح النووي.2747/5: ( )6أخرجه مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة ،باب في الفتنة التي تموج كموج البحر ،2747/5:رقم (.)2905 22
أنواع الفتن: والفتـن ليسـت نوعـاً واحـداً ،بـل هـي أنـواع متعـددة ،منهـا مـا يكـون علـى الأفـراد ،ومنهـا مـا يكـون علـى الأسـرة ،ومنهـا مـا يكـون علـى المجتمـع ،ومنهـا مـا يكـون علـى الأمـة كلهـا. وتختلــف أشــكال الفتــن وألوانهــا وشــدتها وتأثيرهــا وخصائصهــا ونتائجهــا باختــاف الأفــراد والمجتمعــات والأجــواء والظــروف الاقتصاديــة والبيئيــة والاجتماعيــة والدينيــة وغيرهــا ،لذلــك لا يمكــن تحديــد صــور وأشــكال معينــة للفتــن التــي تتربــص للإنســان والمجتمــع والأمــة. * فتنة الإنسان في دينه: أعظـم فتنـة قـد يتعـرض لهـا المؤمـن هـي فتنتـه فـي دينـه ،حيـث يختبـر المؤمن ويمتحـن فـي دينـه هـل يثبـت عليـه ويتمسـك بـه ويضحـي بـكل شـيء دونـه ،أم يسـرع بالانسـاخ والتنصـل منـه. عـن أبـي هريـرة أن رسـول الله ﷺ قـال« :بـادروا بالأعمـال فتنـاً ،كقطـع الليـل المظلـم ،يصبـح الرجـل مؤمنـاً ،ويمسـي كافـراً ،أو يمسـي مؤمنـاً ،ويصبـح كافـرا ً,يبيـع دينـه بعـرض مـن الدنيـا»(.)1 وعـن عمـران بـن حصيـن قـال رسـول الله ﷺ« :مَـ ْن َسـ ِمع بال َّدجـال فَلْيَنْـأَ عنـه ،فـو اللهِ إن الرجـ َل ليأتيـه وهـو يحسـب أنـه مومـن ،فيتَّبعـه ،ممـا يُبْ َعـ ُث بـه مـن الشـبهات ،أو :لِ َمـا يُب َعـث بـه مـن الشـبهات»(.)2 ( )1أخرجه مسلم في كتاب الإيما ,ن باب الحث على المبادرة بالأعمال قبل تظاهر الفتن 2, 70/1:رقم (.)118 ( )2أخرجه أبو داود في كتاب الملاحم ،باب خروج الدجال ،116/4:رقم ( ،)4319والإمام أحمد،431/4: رقم ( ،)19875والطبراني في المعجم الكبير ،220/18:رقم ( ،)550والحاكم في المستدرك،531/4: وصححه على شرط مسلم ،وسكت عنه الذهبي. 23
* فتنة الإنسان في أهله: الأهـل والأولاد مـن نعـم الله علـى عبـده ،وربمـا تعـرض العبـد للاختبـار مـن الله فيمـا أنعـم عليـه ،فيجعـل فتنتـه فـي أهلـه وأولاده ،قـال تعالـى﴿ :إِ َّن َمـآ أَ ۡم َوٰلُ ُكـ ۡم َوأَ ۡو َلٰ ُد ُكـ ۡم فِ ۡت َنـةَ ۚ ٞوٱلَّ ُل ِعنـ َد ُه ٓۥ أَ ۡجـ ٌر َع ِظيـ ٞم [ ﴾١٥التغابـن]. وعــن عبــد الله بــن عمــرو أن رســول الله ﷺ قــال« :ســتكون فتنــة يفــارق الرجـل فيهـا أخـاه وأبـاه ،تطيـر الفتنـة فـي قلـوب رجـال منهـم إلـى يـوم القيامـة، حتـى يعيـر الرجـل بهـا كمـا تعيـر الزانيـة بزناهـا». وعنـه أن رسـول الله ﷺ قـال« :أتتكـم القريعـاء( .»)1قلنـا :ومـا هـي يـا رسـول الله؟ قـال« :فتنـة يكـون فيهـا مثـل البيضـة»(.)2 *فتنة الإنسان في ماله: المـال فـي ظاهـره نعمـة ،وفـي حقيقتـه فتنـة ،يختبـر الله بـه عبـاده ،وكثيـر مـن النـاس يطغيـه المـال ويميـل بـه نحـو الهاويـة إذا لـم يحسـن سـلوك السـبل لتحصيلـه ،وانحـرف عـن جـادة الحـق فـي إنفاقـه ،قـال تعالـى ﴿ :إِ َّن َمـآ أَ ۡم َوٰ ُل ُكـ ۡم َوأَ ۡو َلٰ ُد ُكــ ۡم فِ ۡت َنــةَ ۚ ٞوٱلَّ ُل ِعنــ َدهُ ٓۥ أَ ۡجــ ٌر َع ِظيــ ٞم [ ﴾ ١٥التغابـن]. وعـن عمـران بـن حصيـن أن رسـول الله ﷺ قـال« :سـيكون بعـدي أربـع فتـن :الأولـى يُسـتح ُّل فيهـا الـدم ،والثانيـة :يسـتحل فيهـا الـدم والمـال ،والثالثـة: يسـتحل فيهـا الـدم والمـال والفـرج»(.)3 ( )1القريعاء :أرض لعنها الله إذا ز ِرع فيها نبت في حافتيها ولم ينبت في متنها شيء .انظر :النهاية ،لابن الأثير.69/4: ( )2قال الهيثمي\" :أخرجهما الطبراني ،وفيهما :محمد بن سفيان الحضرمي ولم أعرفه ،وابن لهيعة لين\" .مجمع الزوائد ،598/7:دار الفكر ،بيروت ،ط1414 :ﻫ .وبياض الأرض :ما لا عمارة فيه .انظر :لسان العرب ،مادة بيض.122/7: ( )3قال الهيثمي\" :أخرجه الطبراني في الأوسط والكبير ولم يذكر غير ثلاث ،وفيه حفص بن غيلان وثقه أبو زرعة وغيره ،وضعفه الجمهور ،وابن لهيعة ل ّي\" .مجمع الزوائد.599/7: 24
وعـن علـي قـالَ « :سـتَ ُكو ُن فِتْنَـةٌ يُ َح َّصـ ُل النَّـا ُس ِمنْ َهـا َك َمـا يُ َح َّصـ ُل ال َّذ َهـ ُب فِـي الْ َم ْعـ ِد ِن»(.)1 التحذير من الفتن: تظاهــرت نصــوص الكتــاب علــى التحذيــر مــن الفتــن ،والأمــر بتجنبهــا َّ فِ ۡت َنـ ٗة ﴿ َوٱ َّت ُقـواْ تُ ِصيـ َ َّن ل : قولـه ذلـك فمـن فيهـا، الخـوض وعـدم واعتزالهـا، ٱ َّ ِليــ َن َظ َل ُمــواْ ِمن ُكــ ۡم َخآ َّصــ ٗة﴾ [الآية/الأنفــال.]25: وأَ ْولَـى الشـر ُع الشـري ُف الفتـ َن قـدراً عظيمـاً مـن الاهتمـام ،فحفلـت كتب السـنة المطهـرة بالنصـوص التـي تحـ ّذر منهـا ،وقـ َّل أن يخلـو ِسـ ْف ٌر منهـا مـن كتـا ِب أو بـا ِب الفتـن. قـال الإمـام البخـاري رحمـه الله فـي صحيحـه« :كتـاب الفتـن ،بـاب مـا جـاء َخآ َّصــ ٗة﴾ َظلَ ُمــواْ ٱ َّ ِليــ َن َّ فِ ۡت َنــ ٗة ﴿ َوٱ َّت ُقــواْ ِمن ُكــ ۡم تُ ِصيــ َ َّن ل تعالــى: الله قــول فــي [الآية/الأنفــال .]25:ومــا كان النبــي ﷺ يُ َحــ ِّذ ُر مــن الفتــن»(.)2 فعـن أسـامة بـن زيـد قـال :أشـرف النبـ ُّي ﷺ علـى أُ ُطـ ٍم مـن آطـام المدينـة، ثـم قـال« :هـل تـرون مـا أري؟ إنـي أرى مواقـع الفتـن خـا َل بيوتكـم كمواقـع ال َق ْطـر»(.)3 ( )1أخرجه الحاكم في المستدرك ،596/4:رقم ( ،)8658وقال\" :صحيح الإسناد ولم يخرجاه\" ،ووافقه الذهبي. ( )2فتح الباري شرح صحيح البخاري :لابن حجر العسقلاني.3/13: ( )3أخرجه البخاري كتاب فضائل المدينة ،باب آطام المدينة ،22/3 :رقم ( ، )1878ومسلم في الفتن وأشراط الساعة ،باب نزول الفتن كمواقع القطر 2211/4:رقم ( .)2885و(أطم) الحصون التي تبنى بالحجارة، وقيل :هو كل بيت مربع مسطح .و(مواقع الفتن) مواضع حصولها وسقوطها .و(خلال بيوتكم) بينها ونواحيها ،جمع (خلل) :وهو الفرجة بين الشيئين .و(كمواقع القطر) مثل سقوط المطر الكثير الذي يعم الأنحاء والأماكن. 25
قـال الإمـام النـووي رحمـه الله« :والتشـبيه بمواقـع ال َق ْطـر فـي الكثـرة والعمـوم، أي :أنهـا كثيـرة ،وتعـم النـاس ،لا تختـص بهـا طائفـة ،وهـذا إشـارة إلـى الحـروب الجاريـة بينهـم؟ كوقعـة الجمـل ،وصفيـن ،وال َحـ َّرة ،ومقتـل عثمـان ،ومقتـل الحسـين ،وغيـر ذلـك ،وفيـه معجـزة ظاهـرة لـه ﷺ»(.)1 **تحذير النبي ﷺ أمته أن يرجعوا بعده كفاراً: لقـد حـ َّذر رسـول الله ﷺ أمتـه أن يرجعـوا بعـده كفـاراً ،كل منهـم يكفـر الآخـر، بسـبب مخالفتـه لـه فـي الـرأي والمنهـج ،ممـا يدفعـه لمقاتلتـه معلنـاً أن ذلـك هـو الجهـاد المشـروع فـي سـبيل الله تعالـى. فعــن عبــد الله بــن مســعود قــال :قــال رســول الله ﷺ« :ســباب المســلم فســوق ،وقتالــه كفــر»(.)2 وعـن عبـد الله بـ ِن عمـر أن رسـول الله ﷺ قـال« :لا ترجعـوا بعـدي كفـار ,اً يضـرب بع ُضكـم رقـاب بعـض»( .)3وزاد النسـائي فـي روايـة أخـرى« :ولا يؤخـذ الرجـل بجنايـة أبيـه ،ولا جنايـة أخيـه»(.)4 عـن ُكـر ِز بـن علقمـة الخزاعـي قـال :قـال رجـل :يا رسـول الله ،هل للإسـام مـن منتهـى؟ قـال ﷺ« :نعـم ،أيُّمـا أهـل بيـت مـن العـرب أو العجـم أراد الله بهـم خيـراً أدخـل عليهـم الإسـام ،ثـم تقـع الفتـن كأنهـا الظلـل» .قـال :كلا والله ،إن شـاء الله .قـال ﷺ« :بلـى ،والـذي نفسـي بيـده ،ثـم تعـودون فيهـا أسـاود صبـاً، ( )1شرح النووي على صحيح مسلم.8 ،7/18: ( )2أخرجه البخاري في كتاب الإيمان ،باب خوف المسلم أن يحبط عمله ،19/1:رقم ( ، )48ومسلم في كتاب الإيمان ،باب قول النبي ﷺ« :سباب المسلم ،214/1:»...رقم (.)64 ( )3أخرجه البخاري في كتاب المغازي ،باب حجة الوداع ،1598/4:رقم ( ، )4141ومسلم في كتاب الإيمان، باب بيان معنى قول النبي ﷺ« :لا ترجعوا بعدي ،216/1:»...رقم (.)66 ( )4أخرجه النسائي في سننه ،كتاب تحريم الدم ،باب تحريم القتل ،144/7:رقم ( ،)4137سنن النسائي بشرح السيوطي وحاشية السندي ،دار المعرفة بيروت ،ط1420 :5ﻫ 26
يضـرب بعضكـم رقـاب بعـض»( .)1وفـي روايـة« :فأفضـل النـاس مؤمـن معتـزل فـي ِشـع ٍب مـن الشـعاب يتقـي ربـه ـ تبـارك وتعالـى ـ ويـ َدع النـاس مـن شـره». عـن عامـر بـن سـعد عـن أبيـه أن رسـول الله ﷺ أقبـل ذات يـوم مـن العاليـة، حتـى إذا مـ َّر بمسـجد بنـي معاويـة ،دخـل فركـع فيـه ركعتيـن ،وصلينـا معـه ودعـا ربـه طويـاً ،ثـم انصـرف إلينـا ،فقـال ﷺ« :سـألت ربـي ثلاثـاً ،فأعطانـي ثنتيـن، ومنعنـي واحـدة ،سـألت ربـي ألا يهلـك أمتـي بال َّسـنَ ِة فأعطانيهـا ،وسـألته ألا يهلك أمتـي بالغـرق فأعطانيهـا ،وسـألته ألا يجعـل بأسـهم بينهـم فمنعنيهـا»(.)2 وعـن جابـر بـن عتيـك أنـه قـال :جاءنـا عبـد الله بـن عمـر فـي بنـي معاوية قريــة مــن قــرى الأنصــار ،فقــال لــي :هــل تــدري أيــن صلــى رســول الله ﷺ مــن مسـجدكم هـذا؟ فقلـت :نعـم ،فأشـرت لـه إلـى ناحيـة منـه ،فقـال :هـل تـدري مـا الثـاث التـي دعـا بهـن فيـه؟ فقلـت :نعـم ،قـال :فأخبرنـي بهـم ،فقلـت :دعـا بـألا يظهـر عليهـم عـدواً مـن غيرهـم ،ولا يهلكهـم بالسـنين فأعطيهمـا ،ودعـا بـألا يجعـل بأسـهم بينهـم فمنعنيهـا ،قـال :صدقـت ،فـا يـزال الهـرج إلـى يـوم القيامـة (.)3 َع َذاقٗبــاالِّماـلن ِّطيفَبِ ۡوـقِي ُكرـحۡممأَـۡوه ِمالـلهنۡ «َ :تهــ ِوت أَم ۡرن ُجقلِول ُـكهـ ۡم أَۡو:يَ ۡل﴿بِقُ َـس ۡـل ُهُكـ ۡمَو ٱ ِشۡلـَق َيـ ٗاعادِ َُرو ُي َ ِذَيٰٓعـأََقن َب َي ۡعۡب ََعضـ َ ُثكـ َعم َلبَۡيـأۡ َُك ۡمس َب ۡعـ ٍض﴾ [الآية/الأنعـام ،]65:أي :يجعـل كل فرقـة منكـم متابعـة لإمـام ،وينشـب القتـال بينكـم ،وتختلطـوا وتشـتبكوا فـي ملاحـم القتـال ،يضـرب بعضكـم رقـاب بعـض، ويذيـق بعضكـم بـأس بعـض .المعنـى :يخلطكـم فرقـاً مختلفيـن علـى أهواء شـتى»(.)4 ( )1قال الهيثمي :أخرجه أحمد والبزار والطبراني بأسانيد ،وأحدها رجاله رجال الصحيح .مجمع الزوائد.595/7: قال الإمام ابن رجب الحنبلي في فتح الباري :الأساود :جمع (أ ْس َود) :وهو أخبث الحيات وأعظمها .والصب: جمع (صبوب) ،على أن أصله( :صبب) كـ(رسول ورسل) ،ثم خفف كـ(رسل)؛ وذلك أن (الأ ْس َود) إذا أراد أن ينهش ارتفع ثم انصب على الملدوغ. ( )2أخرجه مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة ،باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض ،2216/4:رقم (.)2890 ( )3أخرجه الإمام أحمد في مسند جابر بن عتيك ،157/9:والمعنى هنا على تقدير محذوف؛ أي( :قال ﷺ :فمنعنيها). ( )4تحفة الأحوذي ،للمباركفوري.398/6: 27
**التحذير من خطباء الفتنة: وينبغـي الحـذر أشـد الحـذر مـن خطبـاء ومتكلميـن ينفخـون فـي كيـر الفتـن ليأججــوا نارهــا ـ عــن قصــد أو عــن غيــر قصــد ـ فيكونــون عونــاً للشــيطان فــي الوصـول إلـى مأربـه. فعـن حذيفـة بـن اليمـان قـال « :إن الفتنـة ُوكلـت بثـاث :بالحاد الخريـر الذي لا يرتفـع لـه شـيء إلا قمعـه بالسـيف ،وبالخطيـب الـذي يدعـو إليهـا ،وبالسـيد .فأمـا هـذان :فتبطحهمـا لوجودهمـا ،وأمـا السـيد :فتبحثـه حتـى تَبلـ َو ما عنـده»(.)1 وفـي روايـة (بالشـريف) بـدل (بالسـيد) وفيهـا( :فأمـا الحـاد الخريـر :فتصرعـه، وأمـا هـذان فتبحثهمـا حتـى تَبلـ َو مـا عندهمـا). فهــذا الحديــث موقــو ٌف علــى الصحابــي حذيفــة بــن اليمــان أميــن ســر رسـول الله ﷺ ،وليـس مرفوعـاً إلـى الرسـول ﷺ ،ويغلـب علـى الظـن أن يكـون لـه حكـم المرفـوع إلـى النبـي ﷺ؛ لأن مـا جـاء فيـه مجـردُ أخبـار لا تُقـال بالـرأي والاجتهـاد ،وقـد صحـح سـنده بعـض العلمـاء. ومعنـاه :أن الفتنـة إذا وقعـت تؤثـر تأثيـراً سـلبياً شـديداً فـي ثلاثـة أصنـاف مـن النـاس ،أكثـر ممـا تؤثـر فـي غيرهـم ،وهـم: ● الرجـل الذكـي ال َف ِطـ ُن حـاد المـزاج ،الـذي يتأثـر سـريعاً بـكل شـيء يمـر ( )1أخرجه ابن أبي شيبة في ُمصنفه ،18-17/15:والإمام أحمد في الزهد ،136/2:وغيرهما .وال ِخري ُر :هو ال َفطِ ُن البصير بكل شيء ،و ُت َو ّك ُل الفتنة به إن كان حاد ًا غير حليم ،ولا أناة عنده ،يريد الخير بمجرد وقوفه ومعرفته له ،دون اتباع منهج الله في التغيير ،ودون النظر إلى مآلات الأفعال ،وعواقب الأمور .وتشمل كذلك المعجبين به وبقراراته وأطروحاته ،فيشاركون فيها بشرفهم وسيادتهم ،وبألسنتهم وخطبهم، ومقالاتهم ،ومؤلفاتهم ،ونشراتهم وصحفهم ،وهيئاتهم ،فتختبرهم الفتن ُة ،و َتبل َو ما عندهم .فالخطيب والداعي لها أقرب منها من الشريف المعجب الذي َ َبرته الزخارف ،وغرته الشعارات ،ولعله إن تأمل، وتحلم ،ونظر ،وفكر ،ود ّبر ،وق ّدرَ ،ي ُل ُص منها إن تداركته رحمة مولاه ،وخرج عن داعي هواه. 28
عليــه،ويتفاعــلمعــهدونتَب ّصــربالنتائــجوالعواقــب،فينســاقمــعالأحــداث. ● المتكلمـون الذيـن يُلهبـون عواطـف النـاس ،ويحركونهـا فـي مسـار الفتنـة، تبعـاً لـرأي وموقـف ذلـك (النحريـر) ،وهـم فـي الاصطـاح :غيـر العلمـاء الذيـن يُع ّقلـون النـاس ويُب ّصرونهـم بالعواقـب والمـآلات. ● الزعمــاء والوجهــاء مــن النــاس ،الذيــن يتبعهــم النــاس لمجــرد شــهرتهم وموقعهـم الاجتماعـي أو السياسـي بينهـم ،وليـس بسـبب علمهـم وخبرتهـم بالأمــور وعواقبهــا. فتصـرع الفتنـة الصنفيـن الأوليـن ،وتبطحهمـا علـى وجوههمـا ،وتختبـر وتبتلـي الصنـف الثالـث ،الـذي قـد يتبصـر فـي الأمـر وينجـو مـن شـر الفتنـة. فمـن تفهـم معنـى الحديـث تمامـاً ،ولاحـظ واقـع الفتـن التـي تـدور اليـوم هنـا أو هنـاك ،وعـرف رجالهـا وخطباءهـا وأبطالهـا ،ظهـر لـه موقـع هـؤلاء الأصنـاف الثلاثـة مـن تلـك الفتـن ،و َع ِلـم أنـه لا نجـاة مـن شـر الفتـن الظاهـرة والباطنـة إلا بالعلــم الراســخ ،والاتبــاع الكامــل لمنهــج الله ورســوله ﷺ فــي التعامــل معهــا، حيــ ُث يُ ْعصــ ُم المــرءُ بذلــك مــن أن يكــون ( إِمّ َعــةً ) يقــول :أنــا مــع النــاس إن أحسـنوا أحسـنت ،وإن أسـاؤوا أسـأت ،أو يكـون ( عاطفيـاً ) ،تجنَـح بـه عواطفـه عـن مسـار التب ّصـر والتع ّقـل ،فيتبـع كل داع إلـى الفتنـة ُمحـ ِّرض عليهـا ،سـواء كان هـذا المحـ ِّرض خطيبـاً مف ِّوهـاً ،أو زعيمـاً مسـ َّوداً. **إخبار النبي ﷺ عن فتن آخر الزمان: أخبـر النبـي ﷺ عـن الفتـن التـي سـتقع آخـر الزمـان ،والتـي شـاء الله تعالـى أن يختبــر ويبتلــي بهــا عبــاده ،فعــن أبــي زيــ ٍد الأنصــاري قــال« :صلــى بنــا رســول الله ﷺ الفجــر ،وصعــد المنبــر فخطبنــا حتــى حضــرت الظهــر ،فنــزل فصلـى ،ثـم صعـد المنبـر فخطبنـا حتـى حضـرت العصـر ،ثـم نـزل فصلـى ،ثـم 29
صعـد المنبـر فخطبنـا حتـى غربـت الشـمس ،فأخبرنـا بمـا كان وبمـا هـو كائـن، فأعلمنــا أحفظنــا»(.)1 وعـن عمـر بـن الخطـاب قـال« :قـام فينـا النبـي ﷺ مقامـاً ،فأخبرنـا عـن بـدء الخلـق حتـى دخـل أهـل الجنـة منازلهـم ،وأهـل النـار منازلهـم ،حفـظ ذلـك مـن حفظـه ،ونسـيه مـن نسـيه»(.)2 وعـن حذيفـة بـن اليمـان قـال« :قـام فينـا رسـول الله ﷺ مقامـاً ،مـا تـرك شـيئاً يكـون فـي مقامـه ذلـك إلـى قيـام السـاعة إلا حـدث بـه ،حفظـه مـن حفظـه ونسـيه مـن نسـيه ،قـد علمـه أصحابـي هـؤلاء ،وإنـه ليكـون منـه الشـيء قـد نسـيته، فـأراه فأذكـره ،كمـا يذكـر الرجـل وجـه الرجـل إذا غـاب عنـه ،ثـم إذا رآه عرفـه»(.)3 وعـن أبـي سـعيد الخـدري قـال :صلـى بنـا رسـول الله ﷺ صـاة العصـر ذات يـوم بنهـار ،ثـم قـام يخطبنـا إلـى أن غابـت الشـمس ،فلـم يـدع شـيئاً ممـا يكــون إلــى يــوم القيامــة إلا حدثنــاه ،حفــظ ذلــك مــن حفــظ ونســي ذلــك مــن نســي ،وكان فيمــا قــال ﷺ« :يــا أيهــا النــاس إن الدنيــا خضــرة حلــوة ،وإن الله مسـتخلفكم فيهـا فناظـر كيـف تعملـون ،فاتقـوا الدنيـا واتقـوا النسـاء» ،إلـى أن قـال :ـ وقـد دنـت الشـمس أن تغـرب ـ «وإن مـا بقـي مـن الدنيـا فيمـا مضـى منهـا، مثـل مـا بقـي مـن يومكـم هـذا فيمـا مضـى منـه»(.)4 ( )1أخرجه مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة ،باب إخبار النبي ﷺ فيما يكون إلى قيام الساعة،2738/5: ٱ ۡ َل ۡل َق﴾: رقم (.)2892 ،1066/3 ْ َي ۡب َد ُؤا َّ ﴿ َو ُه َو الله: قول في جاء ما باب الخلق، بدء كتاب في البخاري أخرجه ()2 ٱ ِلي رقم (.)3020 ( )3أخرجه البخاري في القدر ،باب ﴿ َو َك َن أَ ۡم ُر ٱلَّلِ قَ َد ٗرا َّم ۡق ُدو ًرا﴾ ،123/8:رقم ( ،)6604ومسلم في الفتن ،باب إخبار الني ﷺ فيما يكون إلى قيام الساعة ،2217/4:رقم ( ،)2891وأبو داود في الفتن، باب ذكر الفتن ودلائلها 151/4:رقم (.)4240 ( )4أخرجه الترمذي في كتاب الفتن ،باب ما أخبر النبي ﷺ أصحابه بما هو كائن إلى يوم القيامة ،53/4:رقم ( ،)2191وقال\" :حسن صحيح\" ،والإمام أحمد في مسند أبي سعيد الخدري ،132/18:رقم (،)11587 وأخرج مسلم بعضه في كتاب الرقاق ،باب أكثر أهل الجنة الفقراء وأكثر ،2623/5:...رقم (.)2742 30
قـال حذيفـة بـن اليمـان « :والله إنـي لأعلـم النـاس بـكل فتنـة هـي كائنـة فيما بينـي وبيـن السـاعة ،ومـا بـي إلا أن يكـون رسـول الله ﷺ أسـر إلـي فـي ذلـك شـيئاً لـم يحدثـه غيـري»(.)1 وعـن حذيفـة بـن اليمـان قـال« :والله مـا أدري أنسـي أصحابـي أم تناسـوا؟ والله مـا تـرك رسـول الله ﷺ مـن قائـد فتنـة إلـى أن تنقضـي الدنيـا ،يبلـغ مـن معـه ثلاثمئـة فصاعـداً إلا قـد سـماه لنـا باسـمه واسـم أبيـه واسـم قبيلتـه»(.)2 ● إخبار النبي ﷺ عن فتنة الخوارج: ومـن أعظـم الفتـن التـي فتكـت فـي جسـد الأمـة الإسـامية ،ومـا زالـت تفتـك بهـا ،مـا أخبـر عنـه رسـول الله ﷺ مـن خـروج قـوم ظاهرهـم الإسـام ،يمزقـون الأمـة شـر ممـزق ،وصفهـم لنـا رسـول الله ﷺ بصفـات: منهـا مـا جـاء فـي الحديـث عـن زيـد بـن وهـب الجهنـي « :أنـه كان فـي الجيـش الـذي كان مـع علـي وسـار إلـى الخـوارج ،فقال علـي :أيهـا الناس إنـي سـمعت رسـول الله ﷺ يقـول« :يخـرج قـوم مـن أمتـي يقـرأون القـرآن ليـس قراءتكـم إلـى قراءتهـم بشـيء ،ولا صلاتكـم إلـى صلاتهـم بشـيء ،ولا صيامكـم إلـى صيامهـم بشـيء ،يقـرؤون القـرآن يحسـبون أنـه لهـم ،وهـو عليهـم ،لا تجـاوز صلاتهـم تراقيهـم ،يمرقـون مـن الإسـام كمـا يمـرق السـهم مـن الرميـة» ،لـو يعلـم الجيـش الــذي يصيبونهـم مـا قضـي لهـم علـى لسـان نبيهـم ﷺ لاتكلـوا عــن العمــل ،وآيــة ذلــك أن فيهــم رجــاً لــه عضــد وليــس لــه ذراع ،علــى رأس عضـده مثـل حلمـة الثـدي ،عليـه شـعرات بيـض ،فتذهبـون إلـى معاويـة وأهـل ( )1أخرجه مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة ،باب إخبار النبي ﷺ فيما يكون إلى قيام الساعة،2737/5: رقم (.)2891 ( )2أخرجه أبو داود في كتاب الفتن ،باب ذكر الفتن ،151/4:رقم (.)4245 31
الشـام ،وتتركـون هـؤلاء يخلفونكـم فـي ذراريكـم وأموالكـم ،والله إنـي لأرجـو أن يكونـوا هـؤلاء القـوم ،فإنهـم قـد سـفكوا الـدم الحـرام ،وأغـاروا فـي سـرح النـاس ،فسـيروا علـى اسـم الله. قـال سـلمة بـن كهيـل فنزلنـي زيـد بـن وهـب منـزلاً حتـى قـال :مررنـا علـى قنطـرة ،فلمـا التقينـا ـ وعلـى الخـوارج يومئـذ عبـدالله بـن وهـب الراسـبي ـ فقـال لهـم :ألقـوا الرمـاح ،وسـلوا سـيوفكم مـن جفونهـا ،فإنـي أخـاف أن يناشـدوكم، كمـا ناشـدوكم يـوم حـروراء( ،)1فرجعـوا فوحشـوا برماحهـم( ،)2وسـلوا السـيوف، وشـجرهم النـاس برماحهـم(.)3 قـال :وقتـل بعضهـم علـى بعـض ،ومـا أصيـب مـن النـاس يومئـذ إلا رجـان، فقـال علـي :التمسـوا فيهـم ال ُمخـ َدج( ،)4فالتمسـوه فلـم يجـدوه ،فقـام علي بنفسـه حتـى أتـى ناسـاً قـد قتـل بعضهـم علـى بعـض ،قـال :أخروهـم ،فوجـدوه ممــا يلــي الأرض ،فكبــر ،ثــم قــال :صــدق الله وبلــغ رســوله ،قــال :فقــام إليــه عبيـدة السـلماني فقـال :يـا أميـر المؤمنيـن ألله الـذي لا إلـه إلا هـو ،لسـمعت هـذا الحديـث مـن رسـول الله ﷺ؟ فقـال :إي والله الـذي لا إلـه إلا هـو ،حتـى اسـتحلفه ثلاثـاً وهـو يحلـف لـه»(.)5 وفـي روايـة عـن أبـي الوضـيء ،قال علـي :اطلبـوا ال ُمخـ َدج ...فاسـتخرجوه مـن تحـت القتلـى فـي طيـن ،قـال أبـو الوضـيء :فكأنـي أنظـر إليـه ،حبشـي عليـه ( )1حروراء :موضع قريب من الكوفة ،كان أول مجتمع الخوارج وتحكيمهم فيها ،وهم أحد الذين قاتلهم علي ،ويسمون الحرورية .انظر :النهاية ،لابن الأثير.366/1: ( )2فوحشوا برماحهم :رموها .انظر :النهاية ،لابن الأثير.160/5: ( )3شجرهم الناس برماحهم :طعنوهم بها حتى اشتبكت فيهم .انظر :النهاية لابن الأثير.446/2: ( )4المخدج :ناقص الخلق .انظر :النهاية ،لابن الأثير.13/2: ( )5أخرجه مسلم في كتاب الزكاة ،باب التحريض على قتل الخوارج ،1103/2:رقم (.)1066 32
قُريطـق( ،)1لـه إحـدى يديـن مثـل ثـدي المـرأة ،عليهـا شـعيرات مثـل شـعيرات التـي تكـون علـى ذنـب اليربـوع(.)2 قـال أبـو مريـم :إن كان ذلـك ال ُمخـ َدج لمعنـا يومئـذ فـي المسـجد ،نجالسـه بالليــل والنهــار ،وكان فقيــراً ،ورأيتــه مــع المســاكين يشــهد طعــام علــي مــع النـاس ،وقـد كسـوته برنسـاً لـي. قــال أبــو مريــم :وكان ال ُمخــ َدج يســمى نافعــاً ذا الثديــة ،وكان فــي يــده مثــل ثـدي المـرأة ،علـى رأسـه حلمـة مثـل حلمـة الثـدي ،عليـه شـعيرات مثـل ِسـبالة الســنور(.)3 وعـن عبيـد الله بـن أبـي رافـع مولـى رسـول الله ﷺ :أن الحروريـة لمـا خرجت، وهـو مـع علـي بـن أبـي طالـب قالـوا :لا حكـم إلا لله ،قـال علـي :كلمـة حـق أريـد بهـا باطـل ،إن رسـول الله ﷺ وصـف ناسـاً ،إنـي لأعـرف صفتهـم فـي هـؤلاء ،يقولـون الحـق بألسـنتهم ،لا يجـوز هـذا منهـم ـ وأشـار إلـى حلقـه ـ مـن أبغـض خلـق الله إليـه ،منهـم أسـود إحـدى يديـه ِطبْـ ُي شـاة( ،)4أو حلمـة ثـدي، فلمـا قتلهـم علـي بـن أبـي طالـب قـال :انظـروا ،فنظـروا ،فلـم يجـدوا شـيئاً، فقـال :ارجعـوا فـو الله مـا كذبـت ،ولا كذبـت ،مرتيـن أو ثلاثـاً ،ثـم وجـدوه فـي خربـة ،فأتـوا بـه ،حتـى وضعـوه بيـن يديـه ،قـال عبيـد الله رحمـه الله :وأنـا حاضـر ( )1قريطق :تصغير ُقر َطق ،وهو :القباء ،لبس معروف ،مع َّربُ :ك ْر َته ،وإ ْبدال القاف من الهاء في الأسماء المعربة كثير .انظر :النهاية ،لابن الأثير.42/4 : ( )2أخرجه أبو داود في كتاب السنة ،باب في قتال الخوارج ،390/4:رقم (.)4771 ( )3أخرجه أبو داود في كتاب السنة ،باب في قتال الخوارج ،391/4:رقم ( ،)4772و ِسبالة السنور :من ال َّس َبلة بالتحريك :الشارب والجمع ال ِّسبال ،وهي الشعرات التي تحت اللحى الأسفل ،والسبلة عند العرب :مقدم اللحية ،وما أ ْس َبل منها على الصدر .انظر :النهاية ،لابن الأثير.339/2: ( )4ال ِّط ْب ُيَ :ح َلمات الضرع التي فيها اللبن من الخُ ِّف وال ِّظلف والحافر والسباع .انظر :لسان العرب ،مادة (طبي).3/15: 33
ذلـك مـن أمرهـم ،وقـول علـي فيهـم(.)1 وعـن سـويد بـن غفلـة رحمـه الله قـال :قـال علـي :إذا حدثتكـم عـن رسـول الله ﷺ حديثــاً ،فــو الله لأن أخــر مــن الســماء أحــب إلــي مــن أكــذب عليــه .وفــي روايــة :مــن أن أقــول عليــه مــا لــم يقــل ،وإذا حدثتكــم فيمــا بينــي وبينَكــم ،فــإن الحـرب خدعـة ،وإنـي سـمعت النبـي ﷺ يقـول« :سـيخرج قـوم فـي آخـر الزمـان، حدثـاء الأسـنان ،سـفهاء الأحـام ،يقولـون مـن قـول خيـر البرية ،يقـرؤون القـرآن ،لا يجـاوز إيمانهـم حناجرهـم ،يمرقـون مـن الديـن كمـا يمرق السـهم مـن الرميـة ،فأينما لقيتموهـم فاقتلوهـم ،فـإن فـي قتلهـم أجـراً لمـن قتلهـم عنـد الله يـوم القيامـة»(.)2 وعـن أبـي سـلمة وعطـاء بـن يسـار رحمهمـا الله ،أنهمـا أتيـا أبـا سـعيد الخـدري فســألاه عــن الحروريــة ،هــل ســمعت رســول الله ﷺ يذكرهــا؟ قــال :لا أدري مــن الحروريــة؟ ولكنــي ســمعت رســول الله ﷺ يقــول« :يخــرج فــي هــذه الأمــة قــوم، تحقـرون صلاتكـم مـع صلاتهـم ،يقـرؤون القـرآن ،لا يجـاوز حلوقهـم ـ أو حناجرهـم ـ يمرقـون مـن الديـن مـروق السـهم مـن الرميـة ،فينظـر الرامـي إلـى سـهمه ،إلى نصلـه(،)3 إلـى ِرصافـه( ،)4فيتمـارى فـي ال ُف َوقـة( :)5هـل علـق بهمـا مـن الـدم شـيء؟»(.)6 وفـي روايـة :أن أبـا سـعيد الخـدري قـال :بينمـا نحـن عنـد رسـول الله ﷺ وهـو يقسـم قَسـماً ،أتـاه ذو ال ُخ َويَ ِصـرة ـ وهـو رجـل مـن بنـي تميـم ـ فقـال :يـا ( )1أخرجه مسلم في كتاب الزكاة ،باب التحريض على قتل الخوارج ،1103/2:رقم (.)1066 ( )2أخرجه البخاري في كتاب المناقب ،باب علامات النبوة في الإسلام ،1321/3:رقم ( ، )3415ومسلم في كتاب الزكاة ،باب التحريض على قتل الخوارج ،1101/2:رقم (.)1066 ( )3النصل هو :حديدة السهم .انظر :شرح النووي على مسلم.1098/2 : ( )4ال ِّرصاف :واحده َر َصفة بالتحريك ،وهو من ال َّر ْصف :الشد والضم .و َر َصف السهم إذا شده بال ِّرصاف، وهو :عقب يلوى على مدخل النصل فيه .انظر :النهاية ،لابن الأثير.227/2 : ( )5الفوقة :هو الحز الذي يجعل فيه الوتر .انظر :شرح النووي على صحيح مسلم.1098/2: ( )6أخرجه البخاري في كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم ،باب قتل الخوارج والملحدين بعد إقامة الحجة عليهم ،2540/6:رقم ( ،)6532ومسلم في كتاب الزكاة ،باب ذكر الخوارج وصفاتهم ،1098/2 :رقم (.)1064 34
رسـول الله ،اعـدل ،فقـال رسـول الله ﷺ« :ويلـك ،ومـن يعـدل إذا لـم أعـدل؟» ـ وفـي روايـة :قـد خبـت وخسـرت إن لـم أعـدل ـ فقـال عمـر بـن الخطـاب : ائـذن لـي فيـه فأضـرب عنقـه ،فقـال رسـول الله ﷺ« :دعـه ،فـإن لـه أصحابـاً يحقـر أح ُدكـم صلاتَـه مـع صلاتِهـم ،وصيامَـه مـع صيا ِمهـم». زاد فــي روايــة« :يقــرؤون القــرآن لا يجــاوز تراقيهــم ،يمرقــون مــن الإســام كمـا يمـرق السـهم الرميـة ،ينظـر أحدهـم إلـى نصلـه فـا يوجـد فيـه شـيء ،ثـم ينظـر إلـى ِرصافـه فـا يوجـد فيـه شـيء ،ثـم ينظـر إلـى نَ ِضيِّـه( )1لا يوجـد فيـه شـيء ،ثـم ينظـر إلـى قُـ َذذه( )2فـا يوجـد فيـه شـيء ،سـبق الفـرث والـدم ،آيتهـم: رجـل أسـود ،إحـدى عضديـه ،مثـل البضعـة تَـ َدردَر ،يخرجـون علـى حيـن فرقـة مـن النـاس». قـال أبـو سـعيد :فأشـهد أنـي سـمعت هـذا مـن رسـول الله ﷺ ،وأشـهد أن عليـاً قاتلهـم وأنـا معـه ،فأمـر بذلـك الرجـل ،فالتمـس فوجـد ،فأتـي بـه حتـى نظـرت إليـه ،علـى نعـت رسـول الله ﷺ الـذي نعـت(.)3 وفــي روايــة أخــرى :قــال أبــو ســعيد الخــدري :بعــث علــي وهــو باليمـن إلـى النبـي ﷺ بذهيبـة فـي تربتهـا ،فقسـمها بيـن أربعـة :الأقـرع بـن حابـس الحنظلـي ،ثـم أحـد بنـي مجاشـع ،وبيـن ُعيَينـة بـن بـدر الفـزاري ،وبيـن َعلقمـة بن ُعلاثـة العامـري ،ثـم أحـد بنـي كلاب ،وبيـن زيـد الخيـل الطائـي ،ثـم أحـد بنـي نبهـان ،فتغضبـت قريـش والأنصـار ،فقالـوا :يعطيـه صناديـد أهـل نجـد ويدعنـا؟ قـال رسـول الله ﷺ« :إنمـا أتألفهـم» ،فأقبـل رجـل غائـر العينيـن ،ناتـئ الجبيـن، ( )1النَ ِ ُّض :هو القدح؛ أي :عود السهم .انظر :شرح مسلم ،للنووي.1098/2: ( )2ال ُق َذ ُذ :هو ريش السهم .انظر :شرح النووي على صحيح مسلم.1098/2: ( )3أخرجه البخاري في كتاب المناقب ،باب علامات النبوة في الإسلام ،1321/3:رقم ( ، )3414ومسلم في كتاب الزكاة ،باب ذكر الخوارج وصفاتهم ،1099/2:رقم (.)1064 35
كـث اللحيـة ،مشـرف الوجنتيـن ،محلـوق الـرأس ،فقـال :يـا محمـد ،اتـق الله ،فقال ﷺ« :فمــن يطيــع الله إذا عصيتــه؟ أفيأمنــي علــى أهــل الأرض ولا تأمنونــي؟»، فسـأل رجـل مـن القـوم قتلـه ـ أُراه خالـد بـن الوليـد ـ فمنعـه ﷺ ،فلمـا ولـى، قـال ﷺ« :إن مـن ِضئضـيء( )1هـذا ،قومـاً يقـرؤون القـرآن ،لا يجـاوز حناجرهـم، يمرقـون مـن الإسـام ،مـروق السـهم مـن الرميـة ،يقتلـون أهـل الإسـام ،ويدعون أهـل الأوثـان ،لئـن أدركتهـم لأقتلنهـم قتـل عـاد»(.)2 وفـي روايـة :فقـال خالـد بـن الوليـد :يـا رسـول الله :ألا أضـرب عنقـه؟ فقـال ﷺ« :لا ،لعلـه أن يكـون يصلـي» ،قـال خالـد :وكـم مـن مصـل، يقــول بلســانه مــا ليــس فــي قلبــه ،فقــال رســول الله ﷺ« :إنــي لــم أومــر أن أنقـب عـن قلـوب النـاس ،ولا أشـق بطونهـم» ،قـال :ثـم نظـر إليـه وهـو مُ َق ٍّف، فقـال ﷺ« :إنـه يخـرج مـن ِضئْ ِضـي هـؤلاء قـوم يتلـون كتـاب الله رطبـاً ،لا يجـاوز حناجرهـم ،يمرقـون مـن الديـن ،كمـا يمـرق السـهم مـن الرميـة ،لئـن أدركتهـم لأقتلنهـم قتـل ثمـود»(.)3 وعــن أبــي ســعيد الخــدري وأنــس بــن مالــك أن رســول الله ﷺ قــال: «ســيكون فــي أمتــي اختــاف وفرقــة ،قــوم يحســنون القيــل ويســيئون الفعــل، يقـرؤون القـرآن ،لا يجـاوز تراقيهـم ،يمرقـون مـن الديـن مروق السـهم مـن الرمية، لا يرجعـون حتـى يرتـد علـى فوقـه( ،)4هـم شـر الخلـق والخليقـة ،طوبـى لمـن ( )1ال ِضئضيء :أصل الشيء .انظر :شرح النووي على مسلم.1098/2: ()2أخرجهالبخاريفيكتابالأنبياء،باب قولالله َ ﴿وأَ َّما َعد ٞفَأُ ۡهلِ ُكواْبِ ِري ٖح َ ۡص َ ٍص َعتِ َيةٖ [﴾٦الحاقة]،1219/3: رقم ( ، )3166ومسلم في كتاب الزكاة ،باب ذكر الخوارج وصفاتهم ،1097/2:رقم (.)1064 ( )3أخرجه البخاري في كتاب المغازي ،باب بعث علي بن أبي طالب وخالد بن الوليد إلى اليمن قبل حجة الوداع ،1581/4:رقم ( ،)4094ومسلم في كتاب الزكاة ،باب ذكر الخوارج وصفاتهم ،1097/2:رقم (.)1064 ( )4على فوقه :الفوق هو موضع الوتر من السهم ،وهذا تعليق بالمحال ،فإن ارتداد السهم على الفوق محال، فرجوعهم إلى الدين أيض ًا محال .انظر :عون المعبود ،للعظيم آبادي.78/13: 36
قتلهـم وقتلـوه ،يدعـون إلـى كتـاب الله ،وليسـوا منـه فـي شـيء ،مـن قاتلهـم كان أولـى بـالله منهـم» ،قالـوا :يـا رسـول الله ،مـا سـيماهم؟ قـال ﷺ« :التحليـق»(.)1 وعـن عبـد الله بـن مسـعود قـال :قـال رسـول الله ﷺ« :يخـرج فـي آخـر الزمــان قــوم :أحــداث الأســنان ،ســفهاء الأحــام ،يقــرؤون القــرآن لا يجــاوز تراقيهـم ،يقولـون مـن قـول خيـر البريـة ،يمرقـون مـن الديـن كمـا يمـرق السـهم مــن الرميــة»(.)2 وعـن جابـر بـن عبـد الله قـال :أتـى رجـل بال ِجعرانـة ـ منصرفـاً مـن حنيـن ـ وفـي ثـوب بـال فضـة ،ورسـول الله ﷺ يقبـض منهـا ويعطـي النـاس ،فقـال: يـا محمـد ..اعـدل ،فقـال ﷺ« :ويلـك ..ومـن يعـدل إذا لـم أكـن أعـد ,ل لقـد خبـت وخسـرت إن لـم أكـن أعـدل» ،فقـال عمـر بـن الخطـاب :دعنـي يـا رسـول الله أقتـل هـذا المنافـق ،فقـال ﷺ« :معـاذ الله ،أن يتحـدث النـاس أنـي أقتـل أصحابـي ،إن هـذا وأصحابـه يقـرؤون القـرآن ،لا يجـاوز حناجرهـم ،يمرقـون منـه كمـا يمـرق السـهم مـن الرميـة»(.)3 عــن شــريك بــن شــهاب قــال :كنــت أتمنــى أن ألقــى رجــاً مــن أصحــاب النبـي ﷺ ،أسـأله عـن الخـوارج ،فلقيـت أبـا بـرزة فـي يـوم عيـد ،فـي نفـر مـن أصحابـه ،فقلـت لـه :هـل سـمعت رسـول الله ﷺ يذكـر الخـوارج؟ قـال: نعـم ،سـمعت رسـول الله ﷺ بأذنـي ،ورأيتـه بعينـي ،أتـي رسـول الله ﷺ بمـال فقسـمه ،فأعطـى مـن عـن يمينـه ،ومـن عـن شـماله ،ولـم يعـط مـن وراءه شـيئاً، فقـام رجـل مـن ورائـه ،فقـال :يـا محمـد ..مـا عدلـت فـي القسـمة ـ رجـل أسـود ( )1أخرجه أبو داود في كتاب السنة ،باب قتال الخوارج ،387/4:رقم (.)4767 ( )2أخرجه الترمذي في كتاب الفتن ،باب صفة المارقة ،481/4:،رقم ( )2188وقال\" :هذا حديث حسن صحيح\". ( )3أخرجه البخاري في كتاب الخمس ،باب ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين ،1143/2:رقم ( ،)2969ومسلم في كتاب الزكاة ،باب ذكر الخوارج وصفاتهم ،1095/2:رقم ( ،)1063واللفظ لمسلم. 37
مطمـوم الشـعر( ،)1عليـه ثوبـان أبيضـان ـ فغضـب رسـول الله ﷺ غضبـاً شـديداً، وقـال« :والله لا تجـدون بعـدي رجـاً هـو أعـدل منـي» ،ثـم قـال ﷺ« :يخـرج فــي آخــر الزمــان قــوم ـ كأن هــذا منهــم ـ يقــرؤون القــرآن لا يجــاوز تراقيهــم، يمرقــون مــن الإســام كمــا يمــرق الســهم مــن الرميــة ،ســيماهم التحليــق ،لا يزالـون يخرجـون ,حتـى يخـرج آخرهـم مـع المسـيح الدجـال ،فـإذا لقيتموهـم فاقتلوهـم ،هـم شـر الخلـق والخليقـة»(.)2 وروى الإمـام أبـو بكـر محمـد بـن الحسـين الآجـري ،قيـل للحسـن البصـري رحمـه الله :يـا أبـا سـعيد ،خـرج خارجـي بالخريبـة ،فقـال« :المسـكين رأى منكـراً فأنكـره ،فوقـع فيمـا هـو أنكـر منـه». قــال محمــد بــن الحســين الآجــري :فــا ينبغــي لمــن رأى اجتهــاد خارجــي قـد خـرج علـى إمـام عـدلاً كان الإمـام أو جائـراً ،فخـرج وجمـع جماعـة وسـل ســيفه ،واســتحل قتــال المســلمين ،فــا ينبغــي لــه أن يغتــر بقراءتــه للقــرآن ،ولا بطـول قيامـه فـي الصـاة ،ولا بـدوام صيامـه ،ولا بحسـن ألفاظـه فـي العلـم إذا كان مذهبـه مذهـب الخـوارج ،وقـد روي عـن رسـول الله ﷺ ـ فيمـا قلتـه ـ أخبـار لا يدفعهـا كثيـر مـن علمـاء المسـلمين ،بـل لعلـه لا يختلـف فـي العلـم بهـا جميـع أئمـة المسـلمين(.)3 ( )1ط َّم شعره :أي جزه واستأصله .انظر :النهاية ،لابن الأثير.139/3: ( )2أخرجه النسائي في كتاب تحريم الدم ،باب من شهر سيفه ثم وضعه في الناس ،136/7:رقم (.)4114 ( )3الشريعة ،للآجري.345/1: 38
● تداعي الأمم على المسلمين: عـن ثوبـان قـال :قـال رسـول الله ﷺ« :يوشـك الأمـم أن تداعـى عليكـم كمـا تداعـى الأكلـة إلـى قصعتهـا» ،فقـال قائـل :ومـن قلـة نحـن يومئـذ؟ قـال ﷺ: «بـل أنتـم يومئـذ كثيـر ،ولكنكـم غثـاء كغثـاء السـيل ،ولينزعـن الله مـن صـدور عدوكـم المهابـة منكـم ،وليقذفـن الله فـي قلوبكـم الوهـن» ،فقـال قائـل :يـا رسـول الله ومـا الوهـن؟ قـال ﷺ« :حـب الدنيـا ،وكراهيـة المـوت»(.)1 ● فتنة بني قنطوراء في العراق: عــن أبــي بكــرة أن رســول الله ﷺ قــال« :ينــزل نــاس مــن أمتــي بغائــط يسـمونه البصـرة ،عنـد نهـر يقـال لـه :دجلـة ،يكـون عليـه جسـر ،يكثـر أهلهـا، وتكـون مـن أمصـار المهاجريـن ـ أو مـن أمصـار المسـلمين ـ فـإذا كان فـي آخـر الزمـان ،جـاء بنـو قنطـوراء :عـراض الوجـوه ،صغـار الأعيـن ،حتـى ينزلـوا علـى شــط النهــر ،فيتفــرق أهلهــا ثــاث فــرق :فرقــة يأخــذون أذنــاب البقــر والبريــة وهلكــوا ،وفرقــة يأخــذون لأنفســهم وكفــروا ،وفرقــة يجعلــون ذراريهــم خلــف ظهورهــم ويقاتلونهــم ،وهــم الشــهداء»(.)2 ● فتن (الأحلاس ،السراء ،الدهيماء): عـن عبـد الله بـن عمـر قـال :كنـا عنـد رسـول الله ﷺ قعـوداً ،فذكـر الفتـن، فأكثـر ذكرهـا حتـى ذكـر فتنـة الأحـاس( ،)3فقـال قائـل :يـا رسـول الله ،ومـا فتنـة ( )1أخرجه أبو داود في كتاب الملاحم ،باب في تداعي الأمم على الإسلام ،184/4:رقم (.)4299 ( )2أخرجه أبو داود في كتاب الملاحم ،باب في ذكر البصرة ،189/4:رقم ( ، )4380وابن حبان في صحيحه كتاب التاريخ ،باب إخباره عما يكون في أمته من الفتن والحوادث 148/15:رقم (.)6748 ( )3الأحلاس :جمع حلس ،وهو الكساء الذي يلي ظهر البعير تحت القتب ،شبهت به الفتنة لملازمتها الناس حين تنزل بهم ،كما يلازم الحلس ظهر البعير ،ويحتمل أنها شبهت بالأحلاس لسواد لونها وظلمتها .انظر: النهاية ،لابن الأثير ،423/1:وعون المعبود ،للعظيم آبادي.208/11: 39
الأحـاس؟ قـال« :هـي فتنـة هـرب( )1وحـرب( ،)2ثـم فتنـة السـراء( ،)3دخلهـا()4 ـ أو دخنهـا ـ مـن تحـت قدمـي رجـل مـن أهـل بيتـي ،يزعـم أنـه منـي ،وليـس منـي ،إنمـا وليـي المتقـون ،ثـم يصطلـح النـاس علـى رجـل َكـ َو ِرك علـى ِضلَـ ٍع(،)5 ثـم فتنـة الدهيمـاء( )6لا تـدع أحـداً مـن هـذه الأمـة إلا لطمتـه لطمـة ،فـإذا قيـل: انقطعــت تمــادت ،يصبــح الرجــل فيهــا مؤمنــاً ويمســي كافــراً( ،)7حتــى يصيــر النـاس إلـى فسـطاطين ،فسـطاط إيمـان لا نفـاق فيـه ،وفسـطاط نفـاق لا إيمـان فيـه ،إذا كان ذاكـم فانتظـروا الدجـال مـن اليـوم أو غـد»(.)8 ( )1الهرب :قال الشيخ عبد العزيز رحمه الله هو :فرار الناس بعضهم من بعضهم لما بينهم من التنافر والتجسس .وانظر :عون المعبود.208/11: ( )2الحرب :ذهاب المال والأهل بالسلب والنهب .انظر :النهاية ،لابن الأثير ،358/1:وعون المعبود، للعظيم آبادي ،208/11:وقال الشيخ عبد العزيز :هي نهبهم لأموال الناس ،وأخذهم لها بغير استحقاق ،وتركهم لا شيء لهم. ( )3السراء :النعمة التي تسر الناس ،فهذه الفتنة من وفرة المال والرفاهية وحصول الحسد والطمع بما في أيدي الآخرين من أفراد أو دول .والنعماء :التي تسر الناس من الصحة والرخاء ،والعافية من البلاء والوباء ،وأضيفت إلى السراء؛ لأن السبب في وقوعها ارتكاب المعاصي بسبب كثرة التنعم ،أو لأنها تسر العدو ،انظر :عون المعبود ،للعظيم آبادي .208/11:وقال الشيخ عبد العزيز رحمه الله في خطبته :سببها الوقوع في المعاصي بكثرة التنعم والترفه، فتدخل الباطن وتزلزله ،لكثرة الشرور والمفاسد ،وتعم الناس كلهم ،خاصتهم وعامتهم ،فتكون مسرة للعدو. ( )4الدخل :الغش والفساد. ( )5كناية عن عدم استقامته ،يصطلحون على أمر واه لا نظام له ولا استقامة؛ لأن الورك لا يستقيم على ال ِّضلع ولا يتركب عليه ،لاختلاف ما بينهما وبعده .انظر :النهاية .176/5:وقال الشيخ عبد العزيز رحمه الله في خطبنه :أي على رجل غير أهل للولاية لقلة علمه ،وخفة رأيه وحلمه ،لا نظام له ولا استقامة ،ولا يستقل بالملك فلا يثبت الأمر ،ولا يستقيم له. ( )6الدهيماء :تصغير دهماء ،وهذا التصغير لزيادة التعظيم والتهويل ،والدهماء :الداهية التي تدهم الناس بشرها .انظر :النهاية ،لابن الأثير.146/5: ( )7قال الشيخ عبد العزيز عيون السود رحمه الله في خطبته :يصبح الرجل فيها مؤمن ًا لتحريمه دم أخيه وماله وعرضه ،ويمسي كافر ًا لتحلله ذلك. ( )8أخرجه أبو داود في كتاب الفتن ،باب ذكر الفتن ودلائلها ،152/4:رقم ( ، )4244والإمام أحمد في مسند عبد الله بن عمر ،309/10:رقم ( ، )6168والحاكم في المستدرك في كتاب الفتن والملاحم،513/4: رقم ( ،)8441وقال الحاكم\" :صحيح الإسناد ولم يخرجاه\" ،ووافقه الذهبي. 40
● فتنة عمياء مظلمة تعم العرب والعجم: عـن أبـي هريـرة قـال« :الفتنـة الرابعـة عميـاء مظلمـة ،تمـور مـور البحـر، لا يبقــى بيــت مــن العــرب والعجــم إلا ملأتــه ذلاً وخوفــاً ،تطيــف بالشــام، وتعشـى بالعـراق ،وتخبـط بالجزيـرة بيدهـا ورجلهـا ،تعـرك الأمـة فيهـا عـرك الأديـم ،ويشـتد فيهـا البـاء ،حتـى ينكـر فيهـا المعـروف ،ويعـرف فيهـا المنكـر، لا يســتطيع أحــد يقــول :مــه ..مــه ،ولا يرقعونهــا مــن ناحيــة إلا تفتقــت مــن ناحيـة ،يصبـح الرجـل فيهـا مؤمنـاً ،ويمسـي كافـراً ،ولا ينجـو منهـا إلا مـن دعـا كدعـاء الغـرق فـي البحـر ،تـدوم اثنـي عشـر عامـاً ،تنجلـي حيـن تنجلـي ،وقـد انحســر الفــرات عــن جبــل مــن ذهــب ،فيقتلــون عليهــا ،حتــى تقتــل مــن كل تسـعة سـبعة»(.)1 ● الفتنة التي في الشام: عـن سـعيد بـن المسـيب رحمـه الله قـال« :تكـون فتنـة بالشـام ،كان أولهـا لعـب الصبيـان ،تطفـو مـن جانـب ،وتسـكن مـن جانـب ،فـا تتناهـى حتـى ينـادي منـاد مـن السـماء :إن الأميـر فـان» .قـال :فيقبـل سـعيد بـن المسـيب رحمـه الله يديـه، حتـى إنهمـا لينتفضـان ،ثـم يقـول« :ذاكـم الأميـر حقـاً ،ذاكـم الأميـر حقـاً»(.)2 ( )1ورد الحديث موقوف ًا ،في كتاب الفتن لنعيم بن حماد ،238/1:رقم (.)676 ( )2أخرجه نعيم بن حماد في الفتن ،237/1:رقم ( .)673وروى الطبراني في المعجم الأوسط،338/5 : رقم ( )4663من حديث طلحة بن عبيد الله عن النبي ﷺ قال« :ستكون فتنة لا يهدأ منها جانب إلا جاش منها جانب ،حتى ينادي مناد من السماء :أميركم فلان» .قال الهيثمي في مجمع الزوائد:316/ 7: \"أخرجه الطبراني في الأوسط ،وفيه مثنى بن الصباح ،وهو متروك ،ووثقه ابن معين وضعفه أيض ًا\". والمراد بـ(الأمير) المهدي. 41
من خصائص الفتن: إن للفتـن طبائـ َع وخصائـ َص يُعيـن الاسـتبصار بهـا علـى تَ َوقِّيهـا والنجـا ِة منهـا، ومـا أكثـر الفتـن التـي وقعـت بسـبب غيـاب المنهـج الإيمانـي الصحيـح ،وجهـل أكثـر المسـلمين بوصايـا النبـي ﷺ للعصمـة مـن الفتـن ،وعـدم اطلاعهـم علـى خصائصهـا ،والتـي منهـا: **تتزين للناس في مباديها ،حتى تُ ْغ ِريهم فيقعون فيها: قـال الإمـام البخـاري فـي صحيحـه :بـاب الفتنـة التـي تمـوج كمـوج البحـر. وقــال ابــن ُعيَينَــة عــن خلــف بــن َح ْو َشــ ٍب :كانــوا يســتَحبّون أن يتمثّلــوا بهــذه الأبيــات عنــد الفتــن( ،)1قــال امــر ُؤ ال َقيــ ِس: تسعى بزينتها لكل جهول الحـر ُب أ َّول مـا تكـون فَتِيَّ ةً َولَّ ْت َع ُجو ًزا َغيْ َر َذا ِت َح ِلي ِل َحتَّى إِ َذا ا ْشتَ َعلَ ْت َو َش َّب ِض َرا ُم َها َم ْك ُرو َهـ ًة لِل َّشـ ِّم َوالتَّ ْقبِيـ ِل َش ْم َطاءَ يُنْ َك ُر لَ ْونُ َها َوتَ َغيَّ َر ْت وكان خلف رحمه الله يقول« :ينبغي للناس أن يتعلموا هذه الأبيات في الفتنة»(.)2 وقــال ال ِإمــام ابــن حــزم رحمــه الله« :نُــ َّوا ُر الفتنــ ِة لا يَ ْع ِقــ ُد»()3؛ أي :أن للفتنــة مظهــراً خادعــاً فــي مبدئــه ،حتــى يستحســن النــا ُس صورتَهــا ،ويعقــدوا الآمــال عليهـا ،ولكـن ُسـرعان مـا تمـوت وتتلاشـى ،مثـل الزهـرة التـي تمـوت قبـل أن تتفتــح ،وتُعطــ َي ثمرتهــا. ( )1والمراد بالتمثل بهذه الأبيات استحضار ما شاهدوه وسمعوه من حال الفتنة ،فإنهم يتذكرون بإنشادها ذلك فيصدهم عن الدخول فيها حتى لا يغتروا بظاهر أمرها أولاً . ( )2السنن المأثورة للشافعي :ص ،344رقم ( ،)423وصحيح البخاري 68/9:ط .دار الشعب. ( )3الأخلاق والسير ،لابن حزم :ص .84والنُّ َّوار :الزهر؛ ويقالَ :ع َقد الزه ُر :إذا تضا َّم ْت أجزاؤه فصار ثمر ًا .ووقد عاصر ابن حزم فتنة البربر في الأندلس ،ورأى كيف كانت الآمال المعقودة على كل ثائر تنتهي بمآ ٍس وأحزان وضحايا ودمار. 42
* *الفتن تُذهب عقول الرجال: إن للفتـن تأثيـراً سـلبياً فـي العقـول ،لا تقـل عـن تأثيـر الخمـر فيهـا ،بحيـث يفقـد كثيـر مـن النـاس توازنـه الفكـري ،فعـن حذيفـة بـن اليمـان « :مـا الخمـر صرفـاً بأذهـب لعقـول الرجـال مـن الفتـن»(.)1 وجـاء عنـه أيضـاً« :تكـون فتنـة تعـرج فيهـا عقـول الرجـال حتـى مـا تـكاد تـرى رجـاً عاقـاً »(.)2 وعـن أبـي موسـى الأشـعري قـال :حدثنـا رسـول الله ﷺ قـال« :إن بيـن يـدي السـاعة لهرجـاً» ،قـال :قلـت :يـا رسـول الله ،مـا الهـرج؟ قـال« :القتـل»، فقــال بعــض المســلمين :يــا رســول الله ،إنــا نقتــل الآن فــي العــام الواحــد مــن المشــركين كــذا وكــذا ،فقــال رســول الله ﷺ« :ليــس بقتــل المشــركين ،ولكــن يقتـل بعضكـم بعضـاً ،حتـى يقتـل الرجـل جـاره ،وابـن عمـه ،وذا قرابتـه» ،فقـال بعـض القـوم :يـا رسـول الله ،ومعنـا عقولنـا ذلـك اليـوم! فقـال رسـول الله ﷺ: «لا ،تنـزع عقـول أكثـر ذلـك الزمـان». وفــي روايــة« :وتنــزع عقــول رجــال ،يحســبون الغــي رشــداً ،ويخلــف لــه هبـاء( )3مـن النـاس لا عقـول لهـم ،يحسـب أكثرهـم أنـه علـى شـيء ،وليسـوا علــى شــيء». ( )1أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه ،134/20:رقم ( ،)38500وأبو نعيم في الحلية ،274/1وال ِّصف: غير الممزوج بغيره. ( )2أخرجه نعيم بن حماد في الفتن ،62/1 :رقم ( ،)107وصححه المتقي الهندي في كنز العمال،179/11: رقم (.)31126 ( )3هباء :أي قليلو العقل ،أراذل ،وهو في الأصل :الغبار ال ُمنب ُّث. 43
قـال أبـو موسـى « :والـذي نفسـي بيـده ،مـا أجـد لـي ولكـم منهـا مخرجـاً ،فيما عهـد إلينـا نبينـا ﷺ إلا أن نخـرج كمـا دخلنـا فيهـا ،لـم نصـب فيهـا دمـاً ولا مـالاً»(.)1 قـال الإمـام الحافـظ ابـن حجـر العسـقلاني رحمـه الله فـي فتـح البـاري شـرح صحيــح البخــاري فــي كتــاب الفتــن؛ بــاب الفتنــة التــي تمــوج كمــوج البحــر: قولـه (بـاب الفتنـة التـي تمـوج كمـوج البحـر) :كأنـه يشـير إلـى مـا أخرجـه بـن أبـي شـيبة مـن طريـق عاصـم بـن ضمـرة عـن علـي قـال\" :وضـع الله فـي هـذه الأمــة خمــس فتــن\" فذكــر الأربعــة ،ثــم فتنــة تمــوج كمــوج البحــر ،وهــي التــي يصبـح النـاس فيهـا كالبهائـم أي لا عقـول لهـم ،ويؤيـده حديـث أبـي موسـى : «تذهـب عقـول أكثـر ذلـك الزمـان». * الفتن مشتبهة في أول أمرها: مــن طبائــع الفتــن ـ كمــا ذكــر ســيدنا حذيفــة بــن اليمــان ـ \" أنهــا تكــون مشـتبهة فـي أول أمرهـا \" بمعنـى أن الحـق يختلـط فيهـا بالباطـل ،بحيـث يشـتبه الأمـر فيهـا علـى كثيـر مـن النـاس ،ولكـن بعـد انتهائهـا وخمـود نارهـا ،تتجلـى فيهـا الحقائـق ،ويشـرق فيهـا الصـواب ،فيحمـد اللهَ العقـاءُ الذيـن عصمهـم الله مـن الوقـوع فـي مسـتنقع الفتـن. عــن حذيفــة بــن اليمــان قــال رســول الله ﷺ« :تكــون فتنــة تعــر ُج فيهــا عقــو ُل الرجــال ،حتــى مــا تــكاد تــرى رجــ ًا عاقــ ًا»(.)2 ( )1أخرجه ابن ماجه في كتاب الفتن ،باب التثبت في الفتنة ،1309/2:رقم ( ،)3959والإمام أحمد في مسنده ،409/32:والبخاري في التاريخ الكبير ،12/2:وابن المبارك في مسنده :رقم ( ،)260وأبو الشيخ في طبقات المحدثين بأصبهان رقم ( ،)17وأبو نعيم في تاريخ أصبهان.226/1: ( )2أخرجه نعيم في الفتن ،62/1:رقم ( ،)107وصححه المتقي الهندي في كنز العمال ،179/11:رقم (.)31126 44
وأخـرج بـن أبـي شـيبة مـن وجـه آخـر عـن حذيفـة قـال« :لا تضـرك الفتنـة مـا عرفـت دينـك ،إنمـا الفتنـة إذا اشـتبه عليـك الحـق والباطـل»(.)1 وعـن أبـي موسـى الأشـعري أن رسـول الله ﷺ قـال« :إن بيـن يـدي السـاعة ال َهـ ْر َج\" قالـوا :ومـا الهـر ُج؟ قـال\" :القتـل ،إنـه ليـس بقتلكـم المشـركين ،ولكـن قتــ ُل بع ِضكــم بع ًضــا ،حتــى يقتــل الرجــل جــاره ،ويقتــل أخــاه ،ويقتــ َل ع َّمــه، ويقتـ َل ابـ َن عمـه\" قالـوا :ومعنـا عقولُنـا يومئـ ٍذ؟ قـال\" :إنـه لَتُنـ َزع عقـو ُل أهـ ِل ذلـك الزمـان ،ويَ ْخلُـ ُف لـه هبـاءٌ مـن النـاس ،يحسـب كثرهـم أنهـم علـى شـيء ،وليسـوا علــى شــيء\" ،قــال أبــو موســى\" :والــذي نفســي بيــده مــا أجــد لــي ولكــم منهــا مخر ًجـا إن أدركتنـي وإياكـم إلا أن نخـرج منهـا كمـا دخلنـا فيهـا ،ولـم نصـب منهـا دمـاً ولا مـالاً»(.)2 قــال الحســن البصــري رحمــه الله« :إن الفتنــة إذا أقبلــت عرفهــا العالــم ،وإذا أدبــرت عرفهــا ك ُّل جاهــل»(.)3 * الفتن واقعة لا محالة: والفتـن واقعـة فـي أمـة محمـ ٍد ﷺ قضـاءً مقـدراً ،ولا بـد مـن أن يقـع مـا أخبـر بــه رســول الله ﷺ كمــا أخبــر ،و ِمــن ثَــ َّم فــا بــد مــن التبصــر بهــا ،والاســتعداد لهـا ،والحـذر منهـا ،بـل يجـب مضاعفـة الحـذر منهـا فـي عصرنـا؛ واتبـاع المنهـج النبـوي للخـروج منهـا بسـام وأمـان ،لأننـا ِصرنـا أقـر َب إلـى أشـراط السـاعة ممـا كان عليـه المسـلمون منـذ أربعـة عشـر قرنـاً. ( )1فتح الباري ،لابن حجر.49/13: ( )2سبق تخريجه :ص.43 ( )3الطبقات الكبرى ،لابن سعد ،166/7:دار صادر ،بيروت. 45
وقـد اقتضـت سـنة الله وقـوع الفتـن وجريـان المحـن ،تمحيصـاً للإيمـان ،وابتلاءً اللللهمؤمن:يـ﴿نأََ ،حلي ِسمـيــ َزباٱلللهنَّـاـلا ُخبسيأَـنثُي ۡم َتـ ُكـنـ آوالْ أَطينـ َي ُقبو،لُــويُٓواْعـَءار َم َّنفــاال َوم ُهطــي ۡـم َعلم ُيـ ۡفنَت ُناـلـعوا َنصـ٢ي َو،لَ َقوـقــ ۡدد َفق َتـَّناــال ٱ ۡل َكٰ ِذبِـ َن َو َ َل ۡعلَ َمـ َّن ْ َص َدقُـوا ـ َن َّ ٱلَّ ُل َفلَ َي ۡعلَ َمـ َّن ـ ۡمۖ َق ۡبلِ ِه ـ َن َّ [العنكبـوت]. ﴾٣ ٱ ِلي ِمـن ٱ ِلي وعـن معاويـة قـال :سـمعت رسـول الله ﷺ يقـول« :لـم يبـ َق مـن الدنيـا إلا بـاءٌ وفتنـة»(.)1 وعـن أبـي موسـى قـال رسـول اللهﷺ« :أمتـي أمـة مرحومـة ،ليـس عليهـا عـذاب فـي الآخـرة( ،)2عذابهـا فـي الدنيـا( :)3الفتـن ،والـزلازل ،والقتـل»(.)4 وفـي بعـض طرقـه :أن أبـا بـردة قـال :بينمـا أنـا واقـف فـي إمـارة زيـاد ،إذ ضربـت بإحـدى يـدي علـى الأخـرى تعجبـاً ،فقـال رجـل مـن الأنصـار ـ قـد كانـت لوالـده صحبـة مـع رسـول الله ﷺ ـ :ممـا تعجـب يـا أبـا بـردة؟ قلـت :أعجـب مـن قـوم دينهـم واحـد ،ونبيهـم واحـد ،ودعوتهـم واحـدة ،وحجهـم واحـد ،وغزوهـم واحــد ،يســتحل بع ُضهــم قتــل بعــض ،قــال :فــا تعجــب ،فإنــي ســمعت والــدي أخبرنـي أنه سـمع رسـول الله ﷺ يقـول« :أمتـي أمة مرحومـة )5(»...فذكـر الحديث. وقـال الحافـظ ابـن حجـر رحمـه الله :وأخـرج أبـو يعلـى أيضـاً بسـند صحيـح مــن روايــة أبــي مالــك الأشــجعي ،عــن أبــي حــازم ،عــن أبــي هريــرة قــال: ( )1أخرجه ابن ماجه في كتاب الفتن ،باب الصبر على البلاء ،1339/2:رقم ( ،)4035وأحمد في مسنده،94/4: والقضاعي في مسند الشهاب :رقم ( ،)1175والرامهرمزي في الأمثال :رقم ( ،)59وابن أبي عاصم في الزهد :رقم ( ،)146وقال البوصيري في مصباح الزجاجة\" :190/4:هذا إسناد صحيح رجاله ثقات\". ( )2قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في بذل الماعون في فضل الطاعون ص \" :127وهو محمول على معظم الأمة المحمدية؛ لثبوت أحاديث الشفاعة :أن قو ًما ُيعذبون ثم يخرجون من النار ،ويدخلون الجنة\". ( )3وجاء في التاريخ الكبير للبخاري :38/1:حديث« :إن أمتي أمة مرحومةُ ،جعل عذابها بأيديها في الدنيا». ( )4أخرجه أبو داود في كتاب الفتن ،باب ما يرجى في القتل ،105/4:رقم ( ،)4278والإمام أحمد في مسنده ،418 ،410/4:والحاكم في المستدرك ،444/4:وقال الحاكم\" :صحيح الإسناد\" ،ووافقه الذهبي، وح َّسنه الحافظ ابن حجر في بذل الماعون ص ،127وانظر :عون المعبود 358/11:ـ .360 ( )5أخرجه الحاكم في المستدرك ،354 ،353/4:وقال\" :صحيح الإسناد\" ،ووافقه الذهبي. 46
«إن هـذه الأمـة أمـة مرحومـة ،لا عـذاب عليهـا إلا مـا عذبـت بـه أنفسـها ،قلـت: وكيـف تعـذب أنفسـها؟ قـال :أمـا كان يـوم النهـر عـذاب؟! أمـا كان يـوم الجمـل عـذاب؟! أمـا كان يـوم صفيـن عـذاب؟!»(.)1 * الفتن متفاوتة في الشدة : ليسـت الفتـن علـى مسـتوى واحـد فـي الشـدة ،بـل هـي متفاوتـة :فبعضهـا أشـد مـن بعـض ،وبعضهـا تمـر بلطـف حتـى لا يـكاد المـرء يشـعر بهـا إلا كوخـز الإبـرة ،وبعضهـا تخبـط الأمـة خبطـاً فتقلـب أسـفلها علـى عاليهـا ،وبعضهـا يمـر بسـرعة البـرق ،وبعضهـا يمكـث الليالـي والأيـام ،بـل الشـهور والأعـوام ،فتهلـك الحـرث والنسـل ،ويعم الفسـاد فـي البـر والبحـر ،وهـذا مـا بينـه رسـول الله ﷺ فـي كثيـر مـن أحاديثـه ،منهـا: مـا جـاء عـن أبـي إدريـس الخولانـي رحمـه الله قـال :قـال حذيفـة :والله إنـي لأعلـم النـاس بـكل فتنـة هـي كائنـة فيمـا بينـي وبيـن السـاعة .ومـا بـي إلا أن يكـون رسـول الله ﷺ أسـ َّر إلـي فـي ذلـك شـيئاً لـم يحدثـه غيـري ،ولكـن رسـول الله ﷺ قـال ـ وهـو يحـدث مجلسـاً أنـا فيـه ـ عـن الفتـن فقـال رسـول الله ﷺ وهـو يعـد الفتـن« :منهـن ثـاث لا يكـدن يـذرن شـيئاً ،ومنهـن فتـن كريـاح الصيـف( ،)2منهـا صغـار ومنهـا كبـار» .قـال حذيفـة « :فذهـب أولئـك الرهـط كلهـم غيـري»(.)3 * الفتن تعرض على القلوب: وأخطــر الفتــن تلــك التــي تهجــم علــى القلــوب ،فتــزرع فيــه الشــك والريبــة حتــى يخــرج الإيمــان منــه ليحــل محلــه الكفــر ـ والعيــاذ بــالله ـ أو تؤثــر فــي القلـوب فتمرضهـا حتـى لا تسـتطيع تمييـز المنكـر مـن المعـروف ،ولا المعـروف مـن المنكـر ،فتـراه ينكـر المعـروف ويدعـو إلـى المنكـر ،كمـا جـاء الحديـث عـن ( )1أخرجه أبو يعلى في مسنده ،67/11:رقم( ،)6204وانظر :بذل الماعون في فضل الطاعون ،لابن حجر :ص.127 ( )2كرياح الصيف :أي فيها بعض الشدة ،وإنما خص الصيف؛ لأن رياح الشتاء أقوى .كشف المشكل من حديث الصحيحين ،لابن الجوزي ،399/1:دار الوطن ،الرياض ،ط1418 :ﻫ ،تحقيق :د .علي حسين البواب. ( )3أخرجه مسلم في كتاب الفتن ،باب إخبار النبي ﷺ فيما يكون إلى قيام الساعة ،2737/5:رقم (.)2891 47
رسـول الله ﷺ ،ففـي الصحيحيـن منحديـث حذيفـة بـن اليمـان قـال :سـمعت رسـول الله ﷺ يقـول« :تعـرض الفتـن علـى القلـوب كالحصيـر عـوداً عـوداً ،فـأي قلـب أشـربها نكـت فيـه نكتـة سـوداء ،وأي قلـب أنكرهـا نكـت فيـه نكتـة بيضـاء، حتــى تصيــر علــى قلبيــن :علــى أبيــض مثــل الصفــا فــا تضــره فتنــة مــا دامــت الســماوات والأرض ،والآخــر أســود ِمربــاداً كالكــوز مُ َج ِّخيــاً ( )1لا يعــرف معروفــاً، ولا ينكــر منكــراً ،إلا مــا أشــرب مــن هــواه»(.)2 وقـد بيَّـن حذيفـة مـا يقيـس بـه الإنسـان تأثـره بالفتنـة ،فقـال « :تعـرض الفتـن علـى القلـوب ،فـأي قلـب كرههـا نكتت فيـه نكتـة بيضـاء ،وأي قلب أشـربها نكتـت فيـه نكتـة سـوداء؛ فمـن أحـ َّب أن يعلـ َم أصابتـه الفتنـ ُة أم لا؟ فلينظـر هـل يـرى شـيئاً حـالاً كان يـراه حرامـاً ،أو يـرى شـيئاً حرامـاً كان يـراه حـالاً»(.)3 وعـن عبـد الله بـن مسـعود قـال« :أخـاف عليكـم فتنًـا كأنهـا الدخـان ،يموت فيهـا قلـ ُب الرجـل ،كما يمـوت بدنـه»(.)4 ( )1قال أبو خالد ـ أحد رواة الحديث ـ :فقلت يا أبا مالك :ما أسو ُد ِمرباد ًا؟ قال :شدة البياض في سواد ،قلت: فما الكوز ُمَ ِّخي ًا؟ قال :منكوس ًا. ( )2أخرجه مسلم في كتاب الإيمان ،باب بيان أن الإسلام بدأ غريب ًا وسيعود غريب ًا ،128/1:رقم ( ، )144قال ابن الأثير في جامع الأصول« :22/10:كالحصير َعود ًا َعود ًا» قال الحميدي :في بعض الروايات «عرض الحصير» والمعنى فيهما :أنها تحيط بالقلوب كالمحصور المحبوس ،يقال :حصره القوم :إذا أحاطوا به ،وض َّيقوا عليه ،قال :وقال الليث :حصير الجَنْبِ :ع ْرق يمتد معترض ًا على الجَنْب إلى ناحية البطنَ ،ش َّبه إحاط َتها بالقلب بإحاطة هذا ال ِعرق بالبطن ،وقوله ﷺ « َع ْود ًا َع ْود ًا»؛ أي :م َّرة بعد مرة ،تقول :عاد يعو ُد عو َدة و َع ْود ًا. ( ُأ ْ ِش َبا) ُأ ْ ِشب القلب هذا الأمر :إذا دخل فيه و َقبِ َل ُه و َس ِك َن إليه ،كأنه قد َ ِشبهُ ( .ن ِك َت فيه نكتة سوداء) أي أثر فيه أثر أسود ،وهو دليل السخط ولذلك قال في حالة الرضى :نكت فيه نكتة بيضاء ،حتى تصير القلوب على قلبين ،أي على قسمين« .مربا َّد ًا» الم ْربا ُّد وال ُم ْر َب ُّد :الذي في لونه ُر ْبدة ،وهي بين السواد وال ُغبرة( .كالكوز مجخي ًا) ال ُم َج ِّخي :المائل عن الاستقامة والاعتدال هاهنا ،و َج َّخى الرجل في جلوسه :إذا جلس مستوفز ًا، و َج َّخى في صلاته :إذا جا َف عضديه عن جوفه ورفع جوفه عن الأرض و َخوى. ( )3أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه ،474/7:وأبو نعيم في الحلية ،273/1:والحاكم في المستدرك،514/4: وقال الحاكم\" :صحيح الإسناد على شرط الشيخين\" ،ووافقه الذهبي. ( )4أخرجه نعيم بن حماد في الفتن ،65/1:رقم (.)117 48
Search
Read the Text Version
- 1
- 2
- 3
- 4
- 5
- 6
- 7
- 8
- 9
- 10
- 11
- 12
- 13
- 14
- 15
- 16
- 17
- 18
- 19
- 20
- 21
- 22
- 23
- 24
- 25
- 26
- 27
- 28
- 29
- 30
- 31
- 32
- 33
- 34
- 35
- 36
- 37
- 38
- 39
- 40
- 41
- 42
- 43
- 44
- 45
- 46
- 47
- 48
- 49
- 50
- 51
- 52
- 53
- 54
- 55
- 56
- 57
- 58
- 59
- 60
- 61
- 62
- 63
- 64
- 65
- 66
- 67
- 68
- 69
- 70
- 71
- 72
- 73
- 74
- 75
- 76
- 77
- 78
- 79
- 80
- 81
- 82
- 83
- 84
- 85
- 86
- 87
- 88
- 89
- 90
- 91
- 92
- 93
- 94
- 95
- 96
- 97
- 98
- 99
- 100
- 101
- 102
- 103
- 104
- 105
- 106
- 107
- 108
- 109
- 110
- 111
- 112
- 113
- 114
- 115
- 116
- 117
- 118
- 119
- 120
- 121
- 122
- 123
- 124
- 125
- 126
- 127
- 128
- 129
- 130
- 131
- 132
- 133
- 134
- 135
- 136
- 137
- 138
- 139
- 140
- 141
- 142
- 143
- 144
- 145
- 146
- 147
- 148
- 149
- 150
- 151
- 152
- 153
- 154
- 155
- 156
- 157
- 158
- 159
- 160
- 161
- 162
- 163
- 164
- 165
- 166
- 167
- 168
- 169
- 170
- 171
- 172
- 173
- 174
- 175
- 176
- 177
- 178
- 179
- 180
- 181
- 182
- 183
- 184
- 185
- 186
- 187
- 188
- 189
- 190
- 191
- 192
- 193
- 194
- 195
- 196
- 197
- 198
- 199
- 200
- 201
- 202
- 203
- 204
- 205
- 206
- 207
- 208
- 209
- 210