* الفتن من علامات الساعة: جعـل الله تعالـى بيـن يـدي السـاعة أمـارات وعلامـات دالة علـى قـرب وقوعها، ليكـون المؤمـن علـى حـذر منهـا ،ويقظـة تامة فـي أقوالـه وأفعالـه ،واسـتعداد كامل فـي أعمالـه وطاعاته. ومـن هـذه الأمـارات تزايـد الفتـن وغزارتهـا كلمـا ابتعدنـا عـن عصـر النبـوة والرعيـل الأول ،لتكـون إرهاصـات بيـن يـدي السـاعة ،ومقدمـة لقـرب وقوعهـا، وهـذا مـا بينـه رسـول الله ﷺ فـي بعـض أحاديثـه: فعـن عـوف بـن مالـك الأشـجعي قـال« :أتيـت النبـي ﷺ فسـلمت عليـه، فقـال :عـوف ،فقلـت :نعـم ،فقـال :ادخـل .قـال :قلـت :كلـي أو بعضـي( ،)1قـال: بـل كلـك ،قـال :يـا عـوف ،اعـدد سـتاً بيـن يـدي السـاعة :أولهـن موتـي ،قـال: فاســتبكيت ،حتــى جعــل رســول الله ﷺ يســكتني ،قــال قلــت :إحــدى ،والثانيــة فتـح بيـت المقـدس ،قلـت :اثنيـن ،والثالثـة ُم ْوتـان( )2يكـون فـي أمتـي ،يأخذهـم مثــل قعــاص الغنــم( ،)3قــال :ثلاثــاً ،والرابعــة فتنــة تكــون فــي أمتــي وعظمهــا، قـل :أربعـاً ،والخامسـة يفيـض المـال فيكـم حتـى إن الرجـل ليعطـى المائـة دينـار فيتســخطها ،قــل :خمســاً ،والسادســة هدنــة تكــون بينكــم وبيــن بنــي الأصفــر()4 فيسـيرون إليكـم علـى ثمانيـن غايـة ،قلـت :ومـا الغايـة؟ قـال :الرايـة تحـت كل ( )1لضيق المكان فيما يبدو ،حيث ذكر في رواية البخاري أنه ﷺ كان في قبة من أدم. (ُ )2م ْوتان :على وزن بطلان ،المو ُت الكثير الوقوع ،وباء أو موت يقع في الماشية .فتح الباري ،لابن حجر ،278/6:ولسان العرب ،لابن منظور ،مادة (موت).90/2: ( )3قعاص الغنم :داء يأخذ الدواب فيسيل من أنوفها شيء فتموت فجأة .فتح الباري ،لابن حجر العسقلاني.278/6: ( )4بنو الأصفر :هم الروم .كما في فتح الباري.278/6: 49
رايـة اثنـا عشـر ألفـاً ،فسـطاط( )1المسـلمين يومئـذ فـي أرض يقـال لهـا الغوطـة فـي مدينـة يقـال لهـا دمشـق»(.)2 * كثرة القتل في الفتن آخر الزمان: إن أسـوء مـا فـي الفتـن هـو كثـرة القتـل وإراقـة الدمـاء البريئـة ،التـي تسـيل مـن رحـى الحـروب والملاحـم ،والاقتتـال الداخلـي بيـن أبنـاء الأمـة الواحـدة ،حيـث يسـقط فـي أثنـاء ذلـك الأطفـال والنسـاء والشـيوخ والأبريـاء ضحايـا نيـران هـذه الفتـن التـي تفتـك بالبـاد والعبـاد والحجـر والمـدر والنبـات والحيـوان. وهذا ما أخبر عنه رسول الله ﷺ في عد ٍد من أحاديثه الشريفة ،منها: مـا جـاء عـن عبـد الله بـن مسـعود أن رسـول الله ﷺ قـال« :يكـون فـي هـذه الأمـة أربـع فتـن ،فـي آخرهـا الفنـاء»(.)3 عــن ســعيد بــن زيــد :قــال :كنــا عنــد رســول الله ﷺ ،فذكــر فتنــة ع ّظــم أمرهـا ،فقلنـا :يـا رسـول الله :لئـن أدركتنـا هـذه لنهلكـن ،فقـال رسـول الله ﷺ: «كلا إن بحســبكم القتــل»(.)4 عـن أبـي هريـرة قـال :قـال رسـول الله ﷺ« :والـذي نفسـي بيـده ،لا تذهـب ( )1الفسطاط :المدينة التي فيها مجتمع الناس .النهاية ،لابن الأثير.445/3: ( )2أخرجه البخاري في كتاب الجزية والموادعة ،باب ما يحذر من الغدر ،1159/3:رقم ( ، )3005والإمام أحمد في مسند عوف ابن مالك الأشجعي ،411/39:رقم ( ،)23985وفي رواية البخاري عن الفتنة« :ثم فتنة لا تبقي بيت ًا من العرب إلا دخلته» ،وفي رواية الإمام أحمد 195/11 :رقم ()6623 عن عبد الله بن عمر أن الرابعة« :وهدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر ،فيجمعون لكم تسعة أشهر، كقدر حمل المرأة ،ثم يكونون أولى بالعدل منكم». ( )3أخرجه أبو داود في كتاب الفتن ،باب ذكر الفتن ودلائلها ،152/4:رقم ( ،)4243وفيه راو مجهول. ( )4أخرجه أبو داود في الفتن ،باب ما يرجى في القتل ،169/4:رقم ( .)4279قال سعيد بن زيد : «فرأيت إخواني ُقتِلوا». 50
الدنيـا حتـى يأتـي علـى النـاس يـوم ،لا يـدري القاتـل فيـم قتـل ،ولا المقتـول فيـم قتـل» .فقيـل :كيـف يكـون ذلـك؟ قـال« :الهـرج ،القاتـل والمقتول فـي النـار»(.)1 * أكثر ضحايا الفتن الأبرياء والصالحون: وإذا أمعنــا النظــر فيمــا تخلفــه الفتــن مــن ضحايــا بشــرية ،فإنَّــا نجــد أكثــر ضحاياهـا مـن الأطفـال والنسـاء والشـيوخ الأبريـاء ،الذيـن يقضـون تحـت سـنابك خيـول مشـعلي الفتـن والنافخيـن فـي كيرهـا ،وفـي كثيـر مـن الأحيـان تـدور رحـى المـوت والهـاك والتشـرد والدمـار علـى الصالحيـن والمصلحيـن مـن العلمـاء والدعــاة ،ســعياً مــن أهــل الباطــل فــي إخمــاد صــوت الحــق ،كيــا تُكشــف مخططاتهـم الراميـة إلـى تدميـر البـاد والقضـاء علـى العبـاد. عن سعيد بن المسيب رحمه الله قال :وقعت الفتنة الأولى ـ يعني مقتل عثمان ـ فلم تُبق من أصحاب بدر أحداً ،ثم وقعت الفتنة الثانية ـ يعني الحرة()2ـ فلم تبق من أصحاب الحديبية أحداً ،ثم وقعت الثالثة ،فلم ترتفع وللناس َطبَاخ (.)3 عـن حذيفـة قـال :كنـا مـع رسـول الله ﷺ فقـال« :أحصـوا لـي كـم يلفـظ الإسـام» .قـال :فقلنـا :يـا رسـول الله! أتخـاف علينـا ،ونحـن مـا بيـن السـتمئة إلى السـبعمئة؟ قـال ﷺ« :إنكـم لا تـدرون ،لعلكـم أن تبتلـوا» ،قـال :فابتلينـا ،حتـى جعـل الرجـل منـا لا يصلـي إلا سـراً(.)4 ( )1أخرجه مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة ،باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر 2749/5:...رقم (.)2908 ( )2فتنة الحرة( :الحَ َّرة) بالفتح والتشديد ،هي أرض ذات حجارة سود ،والمراد :حرة المدينة المنورة ،وقعت فيها حرب بين جيش الشام وبين الخارجين على يزيد بن معاوية من أهل المدينةُ ،أصيب فيها من قريش والأنصار أكثر من ثلاثمئة رجل ،كما في تاريخ خليفة بن خياط :ص.250 ( )3أخرجه البخاري في كتاب المغازي ،باب شهود الملائكة بدر ًا ،1475/4:رقم ( ،)3800قال ابن حجر العسقلاني: «قال ابن عبد الحكم هو يوم خروج أبي حمزة الخارجي ،قلت :كان ذلك في خلافة مروان بن محمد بن مروان بن الحكم سنة ثلاثين ومائة» .و\"طباخ :قوة ،قال الخليل :أصل (الطباخ) السمن والقوة ،ويستعمل في العقل والخير\". انظر :فتح الباري .325/7:والمراد والله أعلم أنها لم ُتب ِق من الصحابة أحد ًا ُير َج ُع إليه. ( )4أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير ،باب كتابة الإمام للناس ،1114/3:رقم ( ،)2895ومسلم في كتاب الإيمان ،باب الاستسرار بالإيمان للخائف 300/1:رقم ( .)149قال الإمام النووي« :وأما قوله ابتلينا فجعل الرجل لا يصلي إلا سر ًا فلعله كان في بعض الفتن التى جرت بعد النبي ﷺ فكان بعضهم يخفي نفسه ويصلي سر ًا مخافة من الظهور والمشاركة في الدخول في الفتنة والحروب والله أعلم» .شرح صحيح مسلم.180 ،179/2: 51
علامات ظهور الفتن: * استشهاد سيدنا عمر كسر لباب الفتن: بيَّـن لنـا رسـول الله ﷺ أن الفتـن مصفـدة خلـف أبـواب موصـدة فـي غياهـب القـدر الـذي لا يعلمـه إلا الله تعالـى ،فمـن فتـح أحـد هـذه الأبـواب اندلقـت عليـه مـا وراءهـا مـن الفتـن كالسـيل الجـارف ينحـط مـن صبـب ،وشـاء الله تعالـى أن يجعـل سـيدنا عمـر بـن الخطـاب كال َغلَـ ِق لبـاب فتـن عظيمـة ،مـا إن يُكسـر هذا البـاب حتـى تندلـق الفتـن علـى الأمـة كالسـيل الجـارف. فعـن حذيفـة بـن اليمـان قـال« :كنـا جلوسـا عنـد عمـر فقـال :أيكـم يحفـظ قـول رسـول الله ﷺ فـي الفتنـة؟ قلـت :أنـا كمـا قالـه .قـال إنـك عليـه ـ أو عليهـا ـ لجـريء ،قلـت :فتنـة الرجـل فـي أهلـه ومالـه وولـده وجـاره ،تك ِّفرهـا الصـاة والصـوم والصدقـة والأمـر والنهـي ،قـال :ليـس هـذا أريـد ،ولكـن الفتنـة التـي تمـوج كمـا يمـوج البحـر ،قـال :ليـس عليـك منهـا بـأس يـا أميـر المؤمنيـن، إن بينــك وبينهــا بابــاً مغلقــاً ،قــال :أيكســر أم يفتــح؟ قلــت :يكســر ،قــال :إذاً لا يغلــق أبــداً ،قلنــا :أكان عمــر يعلــم البــاب؟ قــال :نعــم ،كمــا أن دون الغــد الليلـة ،إنـي حدثتـه بحديـث ليـس بالأغاليـط ،فهبنـا أن نسـأل حذيفـة ،فأمرنـا مسـروقاً فسـأله ،فقـال :البـاب عمـر .)1(» عـن أبـي ذر الغفـاري أنـه لقـي عمـر بـن الخطـاب ،فأخـذ بيـده فغمزهـا، وكان عمــر رجــاً شــديداً ،فقــال أبــو ذر :أرســل يــدي يــا قفــل الفتنــة ،فقــال عمــر :ومــا قفــل الفتنــة؟ قــال أبــو ذر :جئــت رســول الله ﷺ ذات يــوم، ورسـول الله ﷺ جالـس ،وقـد اجتمـع عليـه النـاس ،فجلسـت فـي آخرهـم ،فقـال رسـول الله ﷺ« :لا تصيبكـم فتنـة مـا دام هـذا فيكـم» ،وأشـار بيـده إلى عمـر .)2( ( )1أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة ،باب الصلاة كفارة ،196/1:رقم ( ،)502ومسلم في كتاب الإيمان ،باب رفع الأمانة والإيمان من القلوب ،296/1:رقم (.)144 ( )2قال الإمام الهيثمي في مجمع الزوائد\" :74/9 :أخرجه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح غير السري بن يحيى ،وهو ثقة ثبت ولكن الحسن البصري لم يسمع من أبي ذر فيما أظن\". 52
عــن قدامــة بــن مظعــون أن عمــر بــن الخطــاب أدرك عثمــان بــن مظعـون ،وهـو علـى راحلتـه ،وعثمـان علـى راحلتـه ،علـى ثنيـة الأثابـة مـن العـرج ،فقطعـت راحلتـه راحلـة عثمـان ،وقـد مضـت راحلـة رسـول الله ﷺ أمـام الركـب ،فقـال عثمـان بـن مظعـون :أوجعتنـي يـا َغلَـق الفتنـة ،فلمـا استســهلت الرواحــل ،دنــا منــه عمــر بــن الخطــاب ،فقــال :يغفــر الله لــك أبـا السـائب ،مـا هـذا الاسـم الـذي سـميتنيه؟ فقـال :لا والله مـا أنـا سـميتكه، سـ َّماكه رسـول الله ﷺ ،هـذا هـو أمـام الركـب يقـدم القـوم ،مـررت يومـاً ونحـن جلـوس مـع رسـول الله ﷺ ،فقـال« :هـذا غلـق الفتنـة ـ وأشـار بيـده ـ لا يـزال بينكـم وبيـن الفتنـة بـاب شـديد الغلـق ،مـا عـاش هـذا بيـن ظهرانيكـم»(.)1 وعـن خالـد بـن الوليـد قـال :كتـب إلـ َّي أميـر المؤمنيـن حيـن ألقـى الشـامُ بَوانِيَـ ُه بَثْنِيَّـةً( )2و َع َسـ ًا ،فأمرنـي أن أسـير إلـى الهنـد ،والهنـد فـي أنفسـنا يومئـ ٍذ البصـرة ،قـال :وأنـا لذلـك كاره ،قـال :فقـام رجـل فقـال لـي :يـا أبـا سـليمان، اتـق الله ،فـإن الفتـن قـد ظهـرت ،قـال :فقـال« :وابـن الخطـاب حـي؟! إنمـا تكـون بعـده ،والنـاس بـذي بِ ِليَّـان( ،)3أو بـذي بليـان بمـكان كـذا وكـذا ،فينظـر الرجـل فيتفكـر :هـل يجـد مكانًـا لـم ينـزل بـه مثـ ُل مـا نـزل بمكانـه الـذي هـو فيـه مـن الفتنـة والشـر؟ فـا يجـده» ،قـال« :وتلـك الأيـام التـي ذكـر رسـول الله ﷺ« :بيـن يـدي السـاعة ال َهـ ْرج» ،فنعـوذ بـالله أن تدركنـا وإياكـم تلـك الأيـام»(.)4 ( )1قال الهيثمي في مجمع الزوائد\" :73/9 :أخرجه الطبراني والبزار وفيه جماعة لم أعرفهم ويحيى بن المتوكل ضعيف\". ( )2بوانيه :خيره وما فيه من ال َّسعة والنعمة .والبثنية :الزبدة .أي :صارت كأنها زبدة وعسل؛ لأنها صارت ُتبى أموا ُلا من غير تعب. ( )3المراد :إذا كانوا طوائف وفِرق ًا من غير إمام ،وكل من بعد عنك حتى لا تعرف موضعه فهو بذي بِِ ِّل، وهو منَ :ب ِّل في الأرض إذا ذهب ،وأراد ضياع أمور الناس بعده. ( )4أخرجه الإمام أحمد في مسنده ،90/4:والطبراني في المعجم الكبير ،116/4:رقم (.)3841 53
* اختلاف الناس بعد موت خليفة: عـن أم سـلمة قالـت :قـال رسـول الله ﷺ« :يكـون اختـاف عنـد مـوت خليفــة ،فيخــرج رجــل مــن أهــل المدينــة هاربــاً إلــى مكــة ،فيأتيــه نــاس مــن أهـل مكـة فيخرجونـه وهـو كاره ،فيبايعونـه بيـن الركـن والمقـام ،ويبعـث إليـه بعــ ٌث مــن أهــل الشــام فيخســف بهــم بالبيــداء بيــن مكــة والمدينــة ،فــإذا رأى النــاس ذلــك أتــاه أبــدال( )1الشــام ،وعصائــب أهــل العــراق( ،)2فيبايعونــه بيــن الركـن والمقـام ،ثـم ينشـأ رجـل مـن قريـش أخوالـه كلـب ،فيبعـث إليهـم بعثـاً، فيظهـرون عليهـم ،وذلـك بعـث كلـب ـ والخيبـة لمـن لـم يشـهد غنيمـة كلـب ـ فيَقسـ ُم المـا َل ،ويعمـ ُل فـي النـاس بسـنة نبيهـم ﷺ ،ويلقـي الإسـام بجرانـه فـي الأرض ،فيلبـث سـبع سـنين ،ثـم يتوفـى ويصلـي عليـه المسـلمون»(.)3 * ترك واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: ومـن خصائـص الفتـن أنهـا تنتشـر فـي جسـد الأمـة كانتشـار المـرض الخبيـث فـي البـدن ،فـا يقـوى البـدن عندئـ ٍذ علـى مقاومتـه ودفـع ضـرره ،فالفتـن إذا انتشـر ضرامهـا وعـ َّم ضررهـا ،فـا يقـوى أهـل العلـم والصـاح والتقـوى علـى القيـام بواجـب الأمـر بالمعـروف والنهـي عـن المنكـر ،بسـبب تغييـر المفاهيـم، واعوجـاج العقـول وضيـق الآفـاق واتبـاع الشـهوات والأهـواء. ( )1الأبدال :هم الأولياء وال ُع َّباد ،الواحد (بِ ْدل) كـ( ِ ْحل وأحمال) ،و( َب َدل) كـ(جمل)ُ ،سموا بذلك لأنهم كلما مات واحد منهم ُأ ْب ِدل بآخر .انظر :النهاية في غريب الحديث ،لابن الأثير.107/1: ( )2العصائب :جمع (عصابة) ،وهم الجماعة من الناس ـ من العشرة إلى الأربعين ـ ولا واحد لها من لفظها، والمراد :أن التجمع للحروب يكون بالعراق .وقيل :أراد جماعة من الزهاد سماهم بـ(العصائب) .انظر: النهاية ،لابن الأثير.243/3: ( )3أخرجه أبو داود في كتاب المهدي ،باب 175/4 :رقم ( ،)4288واللفظ له ،والإمام أحمد 286/44رقم ( ،)26689في مسند أم سلمة ،وابن حبان 158/15رقم ( )6757في كتاب التاريخ ،باب إخباره ﷺ عما يكون في أمته من الفتن والحوادث .قال ابن الأثير في جامع الأصول ( :28/10ال ِج َران) :باطن العنق، والجمعُ :ج ُرن ،والمعنى :أنه قد ق َّر قراره واستقام ،كما أن البعير إذا برك واستراح َم َّد ِج َرا َن ُه على الأرض. 54
فعــن أبــي أمامــة الشــعباني رحمــه الله قــال :ســألت أبــا ثعلبــة ال ُخ َشــني ـواْ َّ َ ٰٓي َأ ُّي َه َءا َم ُن ـ َن ٱ ِلي ـا ﴿ الآيـة: ـذه ه فـي ـول تق كيـف ـة، ثعلب أبـا يـا ـت: قل ـال: ق أَن ُف َس ـال: ق [الآية/المائـدة]105:؟ ـ ۡم﴾ ٱ ۡه َت َد ۡي ُت إِ َذا ـ َّل َض ـن َّم ـم يَ ُ ُّض ُك َ ـ ُك ۡمۖ ـ ۡم َع َل ۡي ُك ل أمـا والله لقـد سـألت عنهـا خبيـراً ،سـألت عنهـا رسـول الله ﷺ فقـال« :ائت ِمـروا بالمعــروف ،وانتهــوا عــن المنكــر حتــى إذا رأيتــم شــحاً مطاعــاً ،وهــو ًى متبعــاً، ودنيـا مُؤثَـرة ،وإعجـا َب كل ذي رأي برأيـه ،فعليـك بنفسـك ،ودع عنـك العـوام، فـإن مـن ورائكـم أيـام الصبـر ،الصبـر فيهـن مثـل القبـض علـى الجمـر ،للعامـل فيهـن مثـل أجـر خمسـين رجـاً يعملـون مثـل عملكـم»(.)1 وزاد أبـو داود فـي حديثـه :قيـل :يـا رسـول الله ،أجـر خمسـين رجـاً منـا ،أو منهـم؟ قـال« :بـل أجـر خمسـين رجـاً منكـم». وعــن حذيفــة بــن اليمــان قــال :قلــت للنبــي ﷺ :يــا رســول الله متــى يُتـ َرك الأمـ ُر بالمعـروف والنهـي عـن المنكـر ،وهمـا سـيدا أعمـال أهـل البـر؟ قـال ﷺ« :إذا أصابكـم مـا أصـاب بنـي إسـرائيل» .قلـت :يـا رسـول الله ،ومـا أصـاب بنـي إسـرائيل؟ قـال ﷺ« :إذا داهـن ِخيا ُركـم فُ َّجاركـم ،وصـار الفقـه فـي شـراركم ،وصـار الملـك فـي صغا ِركـم ،فعنـد ذلـك تلبسـكم فتنـة ،تكـ ُّرون ويُ َكـ ُّر عليك ـم»(.)2 ( )1أخرجه أبو داود في كتاب الملاحم ،باب الأمر والنهي ،215/4:رقم ( ، )2343والترمذي في كتاب التفسير ،باب سورة المائدة ،257/5:رقم ( ،)3058وقال الترمذي\" :هذا حديث حسن غريب\" ،وابن ماجة في كتاب الفتن ،1330/2 :رقم ( ،)4014والحاكم في المستدرك ،كتاب الرقاق ،358/4:رقم ( ، ،)7912وقال الحاكم\" :هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه\" ،ووافقه الذهبي. ( )2قال الهيثمي في مجمع الزوائد\" :560/7:أخرجه الطبراني في الأوسط ،وفيه عمار بن سيف وثقه العجلي وغيره ،وضعفه جماعة ،وبقية رجاله ثقات ،وفي بعضهم خلاف\". 55
* تقارب الزمان: ومــن خصائــص الفتــن أن يتقــارب الزمــان فيهــا ،بســبب فقــدان البركــة فــي الوقــت ،فســرعان مــا ينقضــي اليــوم بــا فائــدة ،والأســبوع والشــهر بــا عمــل، وتمضــي الســنون تتــرى مــن غيــر تحقيــق مــا يأملــه الإنســان. فعــن أبــي هريــرة قــال :قــال رســول الله ﷺ« :يتقــارب الزمــان ،ويلقــى الشـح ،وتظهـر الفتـن ،ويكثـر الهـرج» ،قالـوا :يـا رسـول الله أيُّمـا هـو؟ قـال ﷺ: «القتـل القتـل»(.)1 وعنـه أيضـاً قـال :قـال رسـول الله ﷺ« :لا تقـوم السـاعة حتـى يتقـارب الزمــان ،فتكــون الســنة كالشــهر ،ويكــون الشــهر كالجمعــة ،وتكــون الجمعــة كاليــوم ،ويكــون اليــوم كالســاعة ،وتكــون الســاعة كاحتــراق الســعفة»(.)2 * ضياع العهود والأمانات: ومـن خصائـص الفتـن أيضـاً ضيـاع العهـود والأمانـات فيهـا ،حتـى يعـ َّز عليـك أن تجـد فـي القـوم رجـاً أمينـاً ،يحفـظ العهـود والمواثيـق ،وذلـك بسـبب تنكـر النــاس للشــرع الشــريف ،وهجرهــم للكتــاب والســنة ،وانهماكهــم فــي ملــذات الدنيــا الفانيــة ،واللهــث وراء الشــهوات والأهــواء ،فتــراه يضحــي بدينــه وأمانتــه وعهـوده فـي سـبيل الحصـول علـى َعـ َرض مـن الدنيـا قليـل ،وهـذا مـا بينـه رسـول الله ﷺ فـي كثيـر مـن أحاديثـه. ( )1أخرجه البخاري في كتاب الفتن ،باب ظهور الفتن ،2590/6:رقم (.)6652 ( )2أخرجه أحمد في مسند أبي هريرة ،550/16:رقم ( ، )10943وابن حبان في كتاب التاريخ ،باب إخباره ﷺ عما يكون في أمته من الفتن والحوادث ،256/15:رقم ( ،)6842والترمذي عن أنس بلفظ مقارب في كتاب الزهد ،باب تقارب الزمان وقصر الأمل ،567/4:رقم ( ، )2332وقال الترمذي: \"هذا حديث غريب من هذا الوجه\" .والسعفة :جريد النخل اليابس. 56
فعـن عبـد الله بـن عمـر قـال« :شـبَّك النبـي ﷺ أصابعـه ،وقـال :كيـف أنــت يــا عبــد الله بــن عمــرو إذا بقيــت فــي حثالــة( )1قــد م ِر َجــت ( )2عهودهــم وأمانتهـم ،واختلفـوا وصـاروا هكـذا ،قـال :فكيـف أصنـع يـا رسـول الله؟ قـال: تأخـذ مـا تعـرف ،وتـدع مـا تنكـر ،وتقبـل علـى خاصتـك ،وتـدع عوامهـم» (.)3 وعـن عبـد الله بـن عمـرو أن رسـول الله ﷺ قـال« :كيـف بكـم وبزمـا ٍن يوشــك أن يأتــي ،يُ َغربَــ ُل النــا ُس فيــه غربلــ ًة( ،)4وتبقــى ُحثالــ ٌة مــن النــاس قــد م ِر َجـت عهو ُدهـم وأماناتُهـم ،فاختلفـوا ،وكانـوا هكـذا؟ ـ وشـبَّك بيـن أصابعـه ـ قالـوا :كيـف بنـا يـا رسـو َل الله! إذا كان ذلـك؟ قـال« :تأخـذون بمـا تعرفـون، وتَ َدعـون مـا تُنكـرون ،وتُ ْقبِلـون علـى خا َّصتكـم ،وتـذرون أمـ َر عوا ِّمكـم»(.)5 وفـي روايـ ٍة قـال ابـن عمـرو :بينمـا نحـن حـول رسـول الله ﷺ إذ ذكـروا الفتنـة ـ أو ذكـرت عنـده ـ قـال ﷺ« :إذا رأيـت النـاس قـد مرجـت عهودهـم، وخفـت أماناتهـم ،وكانـوا هكـذا ـ وشـبك بيـن أصابعـه()6ـ» قـال :فقمـت إليـه، فقلــت لــه :كيــف أفعــل عنــد ذلــك جعلنــي الله فــداك؟ قــال« :الــزم بيتــك، ( )1الحثالة :ال َّر ِديء من كل شيء ،والمراد هنا :أ َرا ِذ َلم .انظر :النهاية ،لابن الأثير.339/1: ( )2مرجت :اختلطت .انظر :النهاية ،لابن الأثير.314/4: ( )3قال الحميدي في الجمع بين الصحيحين 278/2 :رقم (\" :)1435وليس هذا الحديث في أكثر نسخ البخاري، وإنما حكى أبو مسعود :أنه رآه في كتاب ابن رميح الفربري ،وحماد بن شاكر ،عن البخاري\" ،كما أخرجه البخاري في صحيحه تعليق ًا ،في كتاب أبواب المساجد ،باب تشبيك الأصابع في المسجد ،182/1:رقم ( .)466والإمام أحمد في مسند عبد الله بن عمرو ،54/11:رقم ( ، )6508وابن حبان في صحيحه باب ما جاء في الفتن ،281/13:رقم (.)5951 ( )4تغربل الناس في غربلة :أي يذهب خيارهم ويبقى أراذلهم .والمغربل :المنتقى كأنه نقي بالغربال .انظر :النهاية لابن الأثير .352/3 ( )5أخرجه أبو داود في كتاب الملاحم ،باب الأمر والنهي ،216/4:رقم ( ،)4344وابن ماجه في كتاب الفتن، باب التثبت في الفتن ،1307/2:رقم ( ،)3957والحاكم في المستدرك في كتاب قتال أهل البغي ،171/2:رقم ( ،)2671وقال الحاكم\" :هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ،ولم يخرجاه بهذه السياقة\" ،ووافقه الذهبي. ( )6قال الشيخ عبد العزيز عيون السود رحمه الله في خطبته :أي يموج بعضهم في بعض ،ويلتبس أمر دينهم ،فلا يعرف الأمين من الخائن ،ولا البر من الفاجر. 57
واملـك( )1عليـك لسـانك ،وخـذ مـا تعـرف ،ودع مـا تنكـر ،وعليـك بأمـر خاصـة نفسـك ،ودع عنـك أمـر العامـة»(.)2 * تفرق الأمة إلى ِملل ونِ َحل: ومـن خصائـص الفتـن أيضـاً أنهـا تمـزق الأمـة إلـى جماعـات وفـرق متناحـرة ،كل منهـم يـرى الحـق معـه والباطـل مـع غيـره ،ممـا يزيـد فـي ضـرام الفتـن وتأجيـج لهيبهـا. فعـن عـوف بـن مالـك الأشـجعي قـال :قـال رسـول الله ﷺ« :كيـف أنـت يـا عـوف إذا افترقـت هـذه الأمـة علـى ثـاث وسـبعين فرقـة واحـدة فـي الجنـة، وسـائرهن فـي النـار؟» .قلـت :ومتـى ذلـك يـا رسـول الله؟ قـال ﷺ« :إذا كثـرت ال ُشـ َرط ،وملكـت الإمـاء ،وقعـدت الحمـان علـى المنابـر ،واتخـذ القـرآن مزاميـر، وزخرفـت المسـاجد ،ورفعـت المنابـر ،واتخذ الفـيء دولاً ،والـزكاة مغرمـاً ،والأمانة مغنمـاً ،وتفقـه فـي الديـن لغيـر الله ،وأطـاع الرجـل امرأتـه ،وعـ َّق أمـه ،وأقصـى أبـاه، ولعـن آخـر هـذه الأمـة أولَهـا ،وسـاد القبيلـة فاسـقهم ،وكان زعيـم القـوم أرذلَهـم، وأُكـر َم الرجـل اتقـاء شـره ،فيومئـ ٍذ يكـون ذلـك ،ويفـزع النـاس إلـى الشـام ،وإلـى مدينـ ٍة منهـا يقـال لهـا :دمشـق ،مـن خيـر مـدن الشـام ،فتحصنهـم مـن عدوهـم». قلـت :وهـل تفتـح الشـام؟ قـال ﷺ« :نعـم وشـيكاً ،ثـم تقـع الفتـن بعـد فتحها، ثـم تجـيء فتنـة غبـراء مظلمـة ،ثـم يتبـع الفتـن بعضهـا بعضـاً ،حتـى يخـرج رجـل مـن أهـل بيتـي ،يُقـال لـه :المهـدي فـإن أدركتـه فاتبعـه ،وكـن مـن المهدييـن»(.)3 ( )1أملك :أمسك ،أي :لا ُت ِره إلا بما يكون لك لا عليك .النهاية ،لابن الأثير.358/4: ( )2قال الشيخ عبد العزيز رحمه الله :أي :كثر الأشرار وضعف الأخيار ،فالزم نفسك ،واحفظ دينك ،واترك الناس ولا تتبعهم ،وهذا منطبق على زماننا .وذكر الشيخ عبد العزيز رحمه الله :أنه أخرجه أبو داود بسند حسن في كتاب الملاحم ،باب الأمر والنهي ،217/4:رقم ( ،)4345والإمام أحمد في مسند عبد الله بن عمرو 566/11:رقم ( ،)6987والحاكم في المستدرك في كتاب الأدب ،315/4:رقم (،)7758 وقال\" :هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه\" ،ووافقه الذهبي. ( )3قال الإمام الهيثمي في مجمع الزوائد\" :626/7 :روى ابن ماجه طرف ًا من أوله ،وأخرجه الطبراني ،وفيه عبد الحميد بن إبراهيم ،وثقه ابن حبان ،وهو ضعيف وفيه جماعة لم أعرفهم\". 58
أسباب الوقوع في الفتن: للفتـن أسـباب ومقدمـات ،فمـا مـن فتنـة شـبَّت في الأمـة إلا ولهـا أسـباب بعيدة أو قريبـة سـبقت حدوثهـا ،إلـى أن تصـل إلـى حـد قـدح الزنـاد وتولـد شـرارة النار، ومـن ثـ َّم تنتشـر فـي دهمـاء الأمـة وسـفهائها ،فيعظـم ضرامهـا ويتعاظـم لهيبهـا، حتـى يعجـز العقـاء والعلمـاء والصلحـاء عـن إخمادهـا ،ومـن هـذه الأسـباب: * ال َعجلَة وعدم التأني: قديمـاً قـال الحكمـاء\" :فـي العجلـة الندامـة وفـي التأنـي السـامة\"؛ لأن العجلـة غالبــاً تنجــم عــن ردة فعــل تتحكــم بهــا العواطــف والانفعــالات التــي تحجــب حقائــق الأمــور ،وســرعان مــا تخمــد هــذه العواطــف والمشــاعر وتتبــدد لتظهــر مـن ورائهـا الحقائـق سـاطعة ،فعندئـ ٍذ يقـع صاحبهـا فـي الحسـرة والنـدم واللـوم لنفسـه بعـد فـوات الأوان. لذلـك لا بـد مـن التأنـي والتـؤدة وعـدم الاسـتعجال حتـى تهـدأ ثـورة النفـس وتخمـد مشـاعرها التـي كانـت تحجـب نـور العقـل والفهـم والبصيـرة ،فـإذا انجلى حجــاب الغفلــة والانفعــالات تحــرر العقــل ،وأوقــد مصبــاح الفكــر ،وأشــرقت شــمس المعرفــة ،وتفتحــت أســارير البصيــرة ،لينظــر المــرء فــي حياتــه ومآلــه، ويعلـم مـا يضـره ومـا ينفعـه. قـال قتـادةُ بـ ُن دعامـة رحمـه الله« :قـد رأينـا والله أقوامـاً يُسـرعون إلـى الفتـن، وينزعـون فيهـا ،وأمسـك أقـوامٌ عـن ذلـك هيبـ ًة لله ،ومخافـة منـه ،فلمـا انكشـفت، إذا الذيــن أمســكوا أطيــب نفســاً ،وأثلــج صــدوراً ،وأخــف ظهــوراً مــن الذيــن أسـرعوا إليهـا ،وينزعـون فيهـا ،وصـارت أعمـال أولئـك حـزازا ٍت علـى قلوبهـم كلمـا ذكروهـاَ ،وايـ ُم الل ِه ..لـو أن النـاس يعرفـون مـن الفتنـة إذا أقبلـت كمـا يعرفون منهـا إذا أدبـرت ،لعقـل فيهـا جيـل مـن النـاس كثيـر»(.)1 ( )1حلية الأولياء ،لأبي نعيم.337/2: 59
وقـال مح َّمـد بـن طلحـة رحمـه الله :رآنـي ُزبيـد مـع العـاء بـن عبـد الكريـم، ونحـن نضحـك ،فقـال« :لـو شـهد َت الجماجـم( )1مـا ض ِحكـ َت ،ولـودد ُت أ َّن يدي ـ أو قـال :يمينـي ـ قُ ِطعـت مـن الع ُضـد وأنـي لـم أكـن شـهد ُت»(.)2 وعـن إسـماعيل بـن أبـي خالـد رحمـه الله قـال مـرة« :شـهدت فتـح القادسـية، فـي ثلاثـة آلاف مـن قومـي؛ فمـا منهـم مـن أحـد :إلا خـف فـي الفتنـة غيـري ،ومـا منهـم أحـد :إلا غبطنـي»(.)3 وقـال الشـعبي رحمـه الله ـ لمـا أُدخـل علـى الحجـاج ،وكان قـد شـارك فـي فتنـة ابـن الأشـعث ـ« :قـد اكتحلنـا بعـدك السـه َر ،وتَ َحلَّ ْسـنا الخـو َف ،وخبطتنـا فتنـة لـم نكـن فيهـا بـررة أتقيـاء ،ولا فجـرة أقويـاء»(.)4 ولمــا أُتــي بفيــروز بــن الحصيــن رحمــه الله إلــى الحجــاج ،قــال لــه« :أبــا عثمـان ..مـا أخرجـك مـع هـؤلاء؟ فقـال :أيهـا الأميـر ..فتنـة َع َّمـت ،فأمـر بـه الحجــاج ،ف ُض ِربــت عنقــه»(.)5 وقـال حمـاد بـن زيـد رحمـه الله :ذكـر أيـو ُب السـختياني رحمـه الله القـراء الذيــن خرجــوا مــع ابــن الأشــعث ،فقــال« :لا أعلــم أحــداً منهــم قُتِــل إلا قــد ُر ِغـب عـن مصرعـه ،ولا نجـا أحـ ٌد منهـم إلا َح ِمـد الله الـذي سـلَّمه ،ونـ ِدم علـى مـا كان منـه»(.)6 ( )1انظر :خبر فتنة ابن الأشعث ،ووقعة (دير الجماجم) في البداية والنهاية ،لابن كثير35/9 :ـ،43-40 ،37 و ،355-347/12وسير أعلام النبلاء ،للذهبي.43/2: ( )2انظر :سؤالات أبي عبيد الآجري :رقم ( ،)96والمعرفة والتاريخ ،للفسوي ،109/3:وتاريخ مدينة دمشق ،لابن عساكر.473/19: ( )3حلية الأولياء.163/4: ( )4سير أعلام النبلاء.306/4: ( )5وفيات الأعيان ،لابن خلكان.38/2: ( )6الطبقات الكبرى ،لابن سعد ،187/7:والمعرفة والتاريخ ،للفسوي.52/2: 60
وقــال مالــ ُك بــ ُن دينــار رحمــه الله :لقيــ ُت معبــداً الجهنــي بمكــة بعــد ابــن الأشـعث وهـو جريـح ،وقـد قاتـل الحجـاج فـي المواطـن كلهـا ،فقـال« :لقيـ ُت الفقهـاءَ والنـا َس ،لـم أ َر مثـل الحسـن ـ أي البصـري ـ يـا ليتنـا أطعنـاه» ،كأنـه نـادم علـى قت ـال الحج ـاج(.)1 وعـن أبـي قِلابـة رحمـه الله قـال :لمـا انجلـت فتنـة ابـن الأشـعث ،كنـا فـي مجلس، ومعنـا مسـلم بـن يسـار ،فقـال مسـلم« :الحمـد لله الـذي أنجانـي مـن هـذه الفتنـة ،فـو الله مـا رميـ ُت فيهـا بسـهم ،ولا طعنـ ُت فيهـا برمـ ٍح ،ولا ضربـ ُت فيهـا بسـيف»(.)2 قـال أبـو قلابـة :فقلـت لـه« :فمـا ظنـك يـا مسـلم بجاهـ ٍل نظـر إليـك ،فقـال: والله مـا قـام مسـلم بـن يسـار ـ سـي ُد القـراء ـ هـذا المقـامَ إلا وهـو يـراه عليـه ح ّقـاً، فقاتـل حتـى قُتِـل؟» ،قـال« :فبكـى والـذي نفسـي بيـده ،حتـى تمنيـت أنـي لـم أكـن قلـ ُت شـيئًا»(.)3 وعـن عبـد الله بـن عـون رحمـه الله قـال « :كان مسـلم بـن يسـار لا يُ َف َّضـ ُل عليـه أحـ ٌد فـي ذلـك الزمـان حتـى فعـل تلـك ال َف ْعلَـة ،فلقيـه أبـو قِلابـة فقـال :والله لا فِ ۡتنَ ُتــ َك َّ ﴿إِ ۡن إِل ِ َه قلابــة: أبــو فتــا الله، شــاء إن قلابــة: أبــو فقــال أبــداً، أعــود تُ ِضـ ُّل بِ َهـا َمـن ت َ َشـآ ُء َو َت ۡهـ ِدي َمـن ت َ َشـآ ُءۖ أَنـ َت َو ِ ُّل َنـا فَٱ ۡغفِـ ۡر َلَـا َوٱ ۡر َ ۡح َنـاۖ َوأَنـ َت َخـ ۡ ُر ٱ ۡل َغٰفِ ِريـ َن [ ﴾١٥٥الآية/الأعـراف] ،فأرسـ َل مسـل ٌم عينيـه»(.)4 ( )1تاريخ مدينة دمشق ،لابن عساكر.325/59: ( )2مع أنه ُو ِج َد بين الص َّفين ،قال أيوب السختياني رحمه الله :قيل لابن الأشعث\" :إن أرد َت أن ُيقتلوا حولك كما ُقتِلوا يوم الجمل حول جمل عائشة ،فأخرج معك مسل َم ب َن يسار ،فأخرجه ُمكره ًا\". انظر :المعرفة والتاريخ.86/2: ( )3أخرجه البخاري في التاريخ الكبير ،302/2:رقم ( ،)2544ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق.146/58: ( )4انظر :المعرفة والتاريخ ،للفسوي.51/2: 61
* إطلاق اللسان في أعراض الناس: لا ينحصـر شـؤم إطـاق اللسـان فـي الفتـن فـي ولائـم السـوء التـي يسـودها الجــدل والمــراء والغيبــة والنميمــة ،لكنــه يتعداهــا إلــى آثــار خطيــرة فــي واقــع الأمــة ،فالشــر مبــدؤه شــرارة\" ،ومعظــم النــار ِمــن ُمســتص َغر الشــرر\". فعــن أبــي هريــرة عــن النبــي ﷺ قــال« :إن العبــد ليتكلــم بالكلمــة مــن رضـوان الله ،لا يلقـي لهـا بـالاً ،يرفعـه الله بهـا درجـات ،وإ َّن العبـد ليتكلـم بالكلمـة مـن سـخط الله ،لا يلقـي لهـا بـالاً ،يهـوي بهـا فـي جهنـم»(.)1 وكثيــر مــن الفتــن تُبْــ َذر بذرتهــا فــي مجالــس الغيبــة والوقيعــة ،ولا يتوقــع أصحابهــا أن تبلــغ مــا بلغــت ،ثــم تُلَ َّقــ ُح بالنجــوى ،وتُنْتَــ ُج بالشــكوى ،وإذا بهــا تشــتعل وتضطــرم رويــداً رويــداً حتــى يســتعصي إطفاؤهــا حتــى علــى الذيــن أوقـدوا شـرارتها ،فهـؤلاء المغتابـون أكلـة لحـوم البشـر ،هـم مـن الذيـن وصفهـم رســول الله ﷺ ،فقــال« :إن مــن النــاس مفاتيــ َح للخيــر مغاليــ َق للشــر ،وإن مــن النـاس مفاتيـ َح للشـر ،مغاليـ َق للخيـر ،فطوبـى لمـن جعـل اللهُ مفاتيـ َح الخيـ ِر علـى يديــه ،وويــل لمــن جعــل اللهُ مفاتيــ َح الشــر علــى يديــه»(.)2 وامض عنـه بسـلا ِم وصدق الشاعر إذ يقول: خي ٌر لك من داء الكلا ِم َخ ِّل جنبيك ل را ِم ِل مغـاليـ ُق ال ِحمـامِ ُم ْت بدا ِء الصم ِت ُربَّما استُ ْفتِ َح بال قو آجـا َل فِئـا ٍم وفئـا ِم ُر َّب قو ٍل سا َق أل َجـ َم فـاهُ بِـ ِلجـا ِم إنما السال ُم َم ْن ( )1أخرجه البخاري في كتاب الرقاق ،باب حفظ اللسان ،308/11:رقم ( ،)6478 ،6477ومسلم في كتاب الزهد والرقائق ،باب التكلم بالكلمة يهوي بها في النار ،2290/4:رقم ( ،)50 ،49واللفظ للبخاري. ( )2أخرجه ابن ماجه باب من كان مفتاح ًا للخير ،86/1:رقم ( ،)237وأبو داود الطيالسي في مسنده :رقم (،)2082 وابن المبارك في الزهد ( ،)967وابن أبي عاصم في السنة :رقم ( ،)297والبيهقي في شعب الإيمان :رقم (.)697 62
وهــذه شــواهد تاريخيــة تــدل علــى أن اللســان أشــد خطــراً مــن الســنان فــي الوقــوع فــي الفتــن: ● قـال عبـد الله بـن َعكيـم الجهنـي ـ تابعـي جليـل ـ في خطبـة لـه« :لا أُعين على دم خليفـة أبـداً بعـد عثمـان» ،فقـال رجـل متعجبـاً« :يـا أبـا معبـد ،أَ َو أَعنـ َت علـى دمـه؟» ،فقـال أبـو معبـد« :إنـي لأرى ذكـر مسـاوئ الرجـل عونـاً علـى دمــه»( .)1فهــؤلاء الســاعون بالوشــاية والنميمــة ،أ ْح َصــوا اجتهــادات أميــر المؤمنيــن عثمــان بــن عفــان وص َّوروهــا بحســب مــا تتخيــل عقولهــم الضعيفـة ،وقلوبهـم المريضـة ،فاتخـذوا ذلـك ُسـلَّماً إلـى الفتنـة(.)2 ● قــال عبــد الواحــد بــن زيــد للحســن البصــر ّي ـ وكلاهمــا مــن التابعيــن ـ: «يـا أبـا سـعيد ،أخبرنـي عـن رجـل لـم يشـهد فتنـة ابـن المهلـب بـن أبـي صفــرة( )3إ َّل أنــه عــاون بلســانه ،ورضــي بقلبــه» ،فقــال الحســن« :يــا ابــن أخـي كـم يـد عقـرت الناقـة؟» ،قلـت« :يـد واحـدة» ،قـال« :أليـس قـد هلـك القـوم جميعـاً برضاهـم وتماليهـم؟»(.)4 ● عـن رشـيد الخبَّـاز قـال :خرجـت مـع مـولاي إلـى مكـة ،فجاورنـا ،فلمـا كان ذات يـوم ،جـاء إنسـان فقـال لسـفيان« :يـا أبـا عبـد الله ،قَـ ِدم اليـوم حسـ ٌن وعلـ ٌي ابنـا صالـح» ،قـال« :وأيـن همـا؟» قـال« :فـي الطـواف» ،قـال« :إذا َمـ َّرا ،فأرنيهمـا» ،فمـ َّر أحدهمـا ،فقلـت« :هـذا علـ ٌّي» ،ومـ َّر الآخـر ،فقلـت: «هـذا َح َسـ ٌن» ،فقـال« :أمـا الأول فصا ِحـب آ ِخـرة ،وأمـا الآ َخـ ُر فصاحـب ( )1الطبقات الكبرى لابن سعد.80/3: ( )2وقد جمعها ال ِإمام ابن العربي ،وفنَّدها في كتابه العواصم من القواصم :ص .76حين علم حذيفة بمقتل عثمان بن عفان قال« :الله َّم العن َق َت َل َت ُه و ُش َّتا َمه ،الله َّم إ َّنا كنا نعاتبه ويعاتبنا ،فاتخذوا ذلك ُس َّلم ًا إلى الفتنة ،الله َّم لا ُت ِْتهم إ َّل بالسيوف» .انظر :الكامل في التاريخ ،لابن الأثير.51/3: ( )3وكان قد خرج على الدولة ال ِإسلامية معتمد ًا على وجاهة أبيه ،وكان أبوه رحمه الله تعالى مبيد ًا للخوارج. ( )4انظر :الزهد ،للإمام أحمد :ص.289 63
ســيف ،لا يمــأ جوفَــه شــيء» ،قــال :فيقــوم إليــه رجــل ممــن كان معنــا، فأخبــر عليّــاً ،ثــم مضــى مــولاي إلــى علــي يســلم عليــه ،وجــاء ســفيان يُسـلم عليـه ،فقـال لـه علـي« :يـا أبـا عبـد الله ،مـا حملـك علـى أن ذكـر َت أخـي أمـ ِس بمـا ذكرتـه؟ مـا يُؤمنـك أن تبلـغ هـذه الكلمـة ابـن أبـي جعفـر، فيبعـث إليـه ،فيقتلـه؟» قـال :فنظـرت إلـى سـفيان ،وهـو يقـول« :أسـتغفر الله» وجادتـا عينـاه(.)1 ● عــن عبــد الرحمــن بــن يزيــد بــن جابــر ،قــال :كنــا مــع رجــاء بــن َحيْــ َوة فتذاكرنــا شــكر النعــم ،فقــال« :مــا أحــ ٌد يقــوم بشــكر نِعمــة»؛ و َخلْ َفنــا رجـ ٌل علـى رأسـه ِكسـاء ،فقـال« :ولا أميـ ُر المؤمنيـن؟» ،فقلنـا« :ومـا ِذ ْكـ ُر أميــر المؤمنيــن هنــا؟! وانمــا هــو رجــ ٌل ِمــن النــاس» ،قــال :فغفلنــا عنــه، فالتفـ َت َرجـاءٌ فلـم يـره ،فقـال« :أُتيتـم مـن صاحـب الكسـاء ،فـإن ُدعيتـم، فاسـتُ ْح ِلفتم ،فاحلفـوا»؛ قـال :فمـا علمنـا إ َّل ب َح َر ِسـي قـد أقبـل عليـه ،قـال: « ِهيـه ..يـا رجـاء ،يُذ َكـر أميـر المؤمنيـن ،فـا تحتـج لـه؟!» ،قـال :فقلـت: «ومـا ذاك يـا أميـر المؤمنيـن؟» ،قـال« :ذكرتـم شـكر النعـم ،فقلتـم :مـا أحـد يقـوم بشـكر نعمـة ،قيـل لكـم :ولا أميـر المؤمنيـن؟ ،فقلـ َت :أميـر المؤمنيـن رجـل مـن النـاس!» ،فقلـت« :لـم يكـن ذلـك»؛ قـال« :آلله؟» ،قلـت« :آلله»، قـال :فأمـر بذلـك الرجـل السـاعي ،ف ُضـرب سـبعين سـوطاً ،فخرجـت وهـو متلــ ِّوث بدمــه ،فقــال« :هــذا وأنــت رجــاءُ بــ ُن َحيْــوة؟» ،قلــت« :ســبعين سـوطاً فـي ظهـرك خيـر مـن دم مؤمـن» ،قـال ابـن جابـر :فـكان رجـاء بـن حيـوة بعـد ذلـك إذا جلـس فـي مجلـس يقـول ،ويتل َّفـت« :احـذروا صاحـب الكس ـاء»(.)2 ( )1انظر :سير أعلام النبلاء ،للذهبي.366/7: ( )2انظر :سير أعلام النبلاء ،للذهبي.561/4: 64
قال الشاعر: وليس يموت من عثرة ال ِّرج ِل يموت الفتى من عثر ٍة بلسانه وعثرته برجله تبرا على مه ِل فعثرته بلسانه تُ ْذه ب رأسه وقال آخر: وجر ُح الدهر ما َج َر َح اللسا ُن و ُجرح السيف تُ ْد ِملُه فيبرا ولا يلتامُ ما َج َرح اللسا ُن()1 جراحا ُت ال ِّطعان لها التئامٌ وقال آخر: وجر ُح القو ِل طو َل الده ِر دامي()2 الســيـف يأســوه ال ُمـ داوي وقـد اتُّهـ َم القاضـي عيـاض رحمـه الله بأنـه يهـودي؛ لأنـه كان يلـزم بيتـه للتأليف نهار الســبت. وكان الشـيخ عـاء الديـن العطـار ـ تلميـذ الإمـام النـووي رحمهمـا الله ـ يمشـي متأبطـاً وثيقـة مـن أحـد القضـاة بصحـة إيمانـه ،وبراءتـه مـن كل مـا يكفـره ،مخافـ َة أن يصادفـه أفَّـاك فـي مجلـس(.)3 ( )1المحاسن والمساوئ ،للبيهقي :ص.381 ( )2المصدر السابق ،الموضع نفسه. ( )3انظر :ترتيب المدارك وتقريب المسالك ،للقاضي عياض اليحصبي.154/7: 65
* انتشار الفساد واختلاف القيم آخر الزمان: ومــن أبــرز أســباب الفتــن انتشــار الفســاد فــي البــر والبحــر ،والقضــاء علــى الحـرث والنسـل ،وزرع الأحقـاد والضغائـن ،وإثـارة الخـاف بيـن أفـراد الأمـة، والتجـرد مـن الأخـاق والقيـم الدينيـة والإنسـانية ،فيعيـش النـاس في هـرج ومرج، وتسـود الفوضـى ،وتقـرع طبـول الحـرب ،وتسـل آلات القتـل والدمـار ،فتغطـي علـى أصـوات العقـاء والعلمـاء ،ويُتَّهـم هـؤلاء مـن قبـل السـفهاء والدهمـاء بمـا هـم منـه بـرآء ،وقـد بيَّـن رسـول الله ﷺ ذلـك كلـه فـي كثيـر مـن أحاديثـه: مـن ذلـك مـا جـاء عـن أنـس بـن مالـك قـال :قـال رسـول الله ﷺ« :إن أمــام الدجــال ســنين خداعــة ،يُكــ َّذب فيهــا الصــادق ،ويُصــ َّدق فيهــا الــكاذب ويُخـ َّون فيهـا الأميـن ،ويُؤت َمـن فيهـا الخائـن ،ويتكلـم فيهـا الرويبضـة» ،قيـل :ومـا الرويبضـة؟ قـال« :الفويسـق يتكلـم فـي أمـر العامـة»(.)1 عــن أبــي هريــرة قــال :قــال رســول الله ﷺ« :إذا كان أمراؤكــم خياركــم، وأغنياؤكـم سـمحاءكم ،وأموركـم شـورى بينكـم ،فظهـر الأرض خيـر لكـم مـن بطنهـا ،وإذا كان أمراؤكـم شـراركم ،وأغنياؤكـم بخلاؤكـم ،وأموركـم إلى نسـائكم، فبطـن الأرض خيـر لكـم مـن ظهرهـا»(.)2 ( )1أخرجه أحمد في مسند أنس بن مالك 23/21:رقم ( .)13297قال ابن كثير في النهاية في الفتن والملاحم ص\" :51إسناده جيد\". ( )2أخرجه الترمذي في كتاب الفتن ،529/4:رقم ( ، )2266وقال الترمذي\" :هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث صالح المزي ،وله غرائب لا يتابع عليها ،وهو رجل صالح\" .وقد ذكر الشيخ عبد العزيز عيون السود رحمه الله في خطبته بعد ذلك :وإن مثل من يعين قومه على غير الحق ،كمثل بعير تر َّدى في بئر، فهو ينزع منها بذنبه .ومعناه ـ كما قال المنذري ـ إنه وقع في الإثم وهلك ،كالبعير إذا تردى في البئر ،فهو ينزع بذنبه ،ولا يقدر على الخلاص. 66
عـن علـي بـن أبـي طالـب أن رسـول الله ﷺ قـال« :كيـف بكـم إذ فسـق فتيانكـم ،وطغـى نسـاؤكم؟ قالـوا :يـا رسـول الله ،وإن ذلـك لكائـن؟ قـال :نعـم، وأشـد ،كيـف بكـم إذا لـم تأمـروا بالمعـروف ولـم تنهـوا عـن المنكـر؟ قالـوا :يـا رسـول الله ،وإن ذلـك لكائـن؟ قـال :نعـم ،وأشـد ،كيـف بكـم إذا أمرتـم بالمنكـر، ونهيتـم عـن المعـروف؟ قالـوا :يـا رسـول الله وإن ذلـك لكائـن؟ قـال :نعم ،وأشـد، كيـف بكـم إذا رأيتـم المعـروف منكـراً والمنكـر معروفـاً»(.)1 عــن أبــي هريــرة قــال :ســمعت رســول الله ﷺ يقــول« :ســيصيب أمتــي داء الأمـم» ،قالـوا :يـا رسـول الله ،ومـا داء الأمـم؟ قـال ﷺ« :الأشـر ،والبطـر، والتدابـر ،والتنافـس ،والتباغـض ،والبخـل ،حتـى يكـون البغـي ،ثـم الهـرج»(.)2 * ظهور الترف في المسلمين آخر الزمان: ومـن أبـرز أسـباب ظهـور الفتـن طغيـان التـرف والتبذيـر ،واللهـث وراء الدنيـا الفانيـة لجمعهـا والاسـتحواذ عليهـا ،ممـا يـؤدي إلـى تعـارض المصالـح والأهواء بيـن أهلهـا ،فتنشـب الصراعـات والخلافـات بينهـم ،فيقعـون فـي الهـرج والمـرج و ا لفتن . ( )1ذكره الغزالي في إحياء علوم الدين ،267/2:قال الحافظ العراقي\" :أخرجه ابن أبي الدنيا بإسناد ضعيف دون قوله« :كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف» ،وأخرجه أبو يعلى من حديث أبي هريرة مقتصر ًا على الأسئلة الثلاثة الأول وأجوبتها دون الأخيرين\" ،وأخرج بعضه الطبراني في المعجم الأوسط ،129/3:رقم (.)9325 ( )2قال الهيثمي في مجمع الزوائد\" :600/7 :أخرجه الطبراني في الأوسط ،وفيه أبو سعيد الغفاري لم يرو عنه غير حميد بن هانئ ،وبقية رجاله وثقوا\". 67
مـن هنـا جـاء فـي الحديـث عـن عبـد الله بـن عمـر قـال :قـال رسـول الله ﷺ« :إذا مشـت أمتـي المطيطـاء ،وخدمهـا أبنـاء الملـوك :أبنـاء فـارس والـروم، سـلط شـرارها علـى خيارهـا»(.)1 قـال سـعيد بـن المسـيب رحمـه الله« :ثـارت الفتنـة الأولـى ،فلـم يبـق ممـن شـهد بـدراً أحـد ،ثـم كانـت الثانيـة ،فلـم يبـق ممـن شـهد الحديبيـة أحـد ،قـال: وأظـن لـو كانـت الثالثـة لـم ترتفـع وفـي النـاس طبـاخ» ،أراد بالفتنـة الأولـى :مقتل عثمـان ،وبالثانيـة :الحـرة(.)2 عـن عبـد الله بـن عمـرو بـن العـاص قـال :قـال رسـول الله ﷺ« :إذا فتحـت عليكـم فـارس والـروم ،أي قـوم أنتـم؟» ،قـال عبـد الرحمـن بـن عـوف :نقـول كمـا أمرنـا الله .قـال رسـول الله ﷺ« :أَ ْو غيـر ذلـك :تتنافسـون ،ثـم تتحاسـدون ،ثم تتدابـرون ،ثـم تتباغضـون ـ أو :نحـو ذلـك ـ ثـم تنطلقـون فـي مسـاكين المهاجريـن فتجعلـون بعضهـم علـى رقاب بعـض»(.)3 * كثرة أهل الضلال في آخر الزمان: إذا تنكســت عقــول الرجــال ،وانقلبــت موازيــن الأخــاق ،وانحســر العلــم وأهلــه ،وظهــر الجهــل وســاد أهــل الضــال ،الذيــن ينشــرون الفســاد حيثمــا حلـوا وأينمـا نزلـوا ،عندئـ ٍذ تسـتعر الفتـن ويـزداد ضرامهـا ،ويقـع الخـاف بيـن أبنـاء الأمـة ،حتـى يتحـول إلـى قتـال وسـفك للدمـاء ،وهتـك للأعـراض ،ونهـب للأمـوال ،ودمـار للبـاد ،وتشـريد للعبـاد ،وغيـر ذلـك مـن العواقـب الوخيمـة؛ ( )1أخرجه الترمذي في كتاب الفتن ،526/4:رقم ( ، )2261وقال الترمذي\" :هذا حديث غريب\" ،وحسنه مشية المتك ِّبين يدين ،وهي إفِيَ ٰٓلهاأَ ۡهتبلِهِخۦت َير َت َمو َّطم ٰٓدى والمطيطاء :مشية السيوطي في الجامع الصغير.59/1: .]33انظر :تحفة [ ﴾٣٣القيامة: الله ُ ﴿ :ث َّم َذ َه َب المفتخرين؛ لأنه إذا تمطى مد يديه ،قال الأحوذي ،للمباركفوي .540/6:وشرح السنة ،للبغوي.395/14: ( )2ذكره البغوي في شرح السنة.395/14: ( )3أخرجه مسلم في كتاب الزهد والرقائق ،باب ،2787/5:رقم (.)2962 68
لذلـك حذرنـا رسـول الله ﷺ فـي كل مناسـبة مـن أهـل الضـال الذيـن ينفخـون بكيــر الفتــن ويحرشــون بيــن المســلمين. فعـن أبـي ذر الغفـاري قـال :كنـت مخاصـر( )1النبـي ﷺ يومـاً إلـى منزلـه، فسـمعته يقـول ﷺ« :غيـر الدجـال أخـوف علـى أمتـي من الدجـال» ،فلما خشـيت أن يدخـل ،قلـت :يـا رسـول الله ،أي شـيء أخـوف علـى أمتـك مـن الدجـال؟ قـال: «الأئمــة المضلين»(.)2 وعـن معـاذ بـن جبـل قـال :قـال رسـول الله ﷺ« :لا تقـوم السـاعة ،حتـى يبعـث الله أمـراء كذبـة ،ووزراء فجـرة ،وأمنـاء خونـة ،وقـراء فسـقة ،سـمتهم سـمة الرهبــان ،وليــس لهــم رغبــة ـ أو قــال :رعيــة ،أو قــال :رعــة ـ فيلبســهم الله فتنــة غبـراء مظلمـة ،يتهوكـون فيهـا تهـوك اليهـود فـي الظلـم»(.)3 عـن أبـي أمامـة الباهلـي أن رسـول الله ﷺ قـال« :يكـون فـي هـذه الأمـة في آخـر الزمـان ـ أو قـال :يخـرج رجـال مـن هـذا الأمـة فـي آخر الزمـان ـ رجـال معهم سـياط كأنهـا أذنـاب البقـر ،يغـدون فـي سـخط الله ،ويروحـون في غضبـه»(.)4 عـن عبـد الرحمـن بـن عبـد رب الكعبـة رحمـه الله قـال :دخلـت المسـجد ،فـإذا عبـ ُد الله بـ ُن عمـرو بـن العـاص ،جالـس فـي ظـل الكعبـة ،والنـاس مجتمعـون عليـه ،فأتيتهـم ،فجلسـت إليـه ،فقـال :كنـا مـع رسـول الله ﷺ فـي سـفر ،فنزلنـا ( )1المخاصرة :أن يأخذ الرجل بيد رجل آخر يتماشيان ويد كل واحد منهما عند خصر صاحبه. ( )2أخرجه الإمام أحمد في مسند أبي ذر الغفاري ،223/35:رقم ( ،)21297وقال المناوي في فيض القدير\" :407/4:سنده جيد\". ( )3أخرجه البزار في مسنده ،79/7:قال الهيثمي في مجمع الزوائد\" :420/5:أخرجه البزار وقال :وفيه حبيب بن عمران الكلاعي لم أعرفه ،وبقية رجاله رجال الصحيح\". ( )4أخرجه الإمام أحمد في مسنده ،467/36:والحاكم في المستدرك ،436/4:وابن الأعرابي في المعجم :رقم ( ،)2149والطبراني في الكبير :رقم ( ،)8000وفي الأوسط :رقم ( ،)5247وأبو عمرو الداني في الفتن: رقم (.)434 69
منـزلاً ،فمنـا مـن يصلـح خبـاءه( ،)1ومنـا مـن ينتضـل( ،)2ومنـا مـن هـو في جشـره(،)3 إذ نـادى مناديـه( :الصـاة جامعـةً) ،فاجتمعنـا ،فقـام رسـول الله ﷺ فخطبنـا ،فقـال: «إنـه لـم يكـن نبـي قبلـي إلا كان ح ّقـاً عليـه أن يـدل أمتـه علـى مـا يعلمـه خيـراً لهـم ،وينذرهـم مـا يعلمـه شـ ّراً لهـم ،وإن أمتكـم هـذهُ ،ج ِعلَـ ْت عافيتُهـا فـي أولهـا، وإن آ ِخرهـم يصيبهـم بـاء ،وأمـو ٌر تنكرونهـا ،ثـم تجـيء فتـن يُ َرقِّـ ُق بع ُضهـا بعضـاً، فيقـول المؤمـن :هـذه ُمه ِل َكتـي ،ثـم تنكشـف ،ثـم تجـيء فتنـة ،فيقـول المؤمـن: هــذه مهلكتــي ،ثــم تنكشــف ،فمــن َســ َّره أن يُ َز ْحــ َز َح عــن النــار ويُ ْد َخــ َل الجنــة، فَلْتُ ْد ِركـ ُه موتتُـه وهـو يؤمـن بـالل ِه واليـوم الآخـر ،وليـأ ِت إلـى النـاس الـذي يحـب أن يأتــوا إليــه ،ومــن بايــع إمامــاً فأعطــاه َص ْف َقــةَ يمينــه ،وثمــرةَ قلبــه ،فليُط ْعــه مــا اسـتطاع ،فـإن جـاء آخـ ُر ينازعـه ،فاضربـوا عنـق الآخـر»(.)4 قـال :فأدخلـت رأسـي مـن بيـن النـاس ،فقلـت :أنشـدك الله! أنـت سـمعت هـذا من رسـول الله ﷺ؟ قـال :فأشـار بيـده إلـى أذنيـه ،فقـال :سـم َعتْه أذنـاي ،ووعـاه قلبي. ونقتفـقـلـل أنتفلـسهــ:ناه،ـوذاالالبهـ ُنعيقِّمـــوكلم:عا﴿وَي ٰٓيـ َأةُُّي َهــا يٱ َّأ ِلميرـنــاَنأ َءنا َمن ُنـأــكواْل َألمتَوأۡالنـُكا ُلبـيـننٓواْـاأَ ۡبماَولٰلَباطُكـــلم، أَن ُف َسـ ُك ۡۚم َت ۡق ُتلُـ ٓواْ َو َل ِّمن ُكـ ۡۚم تَ َع ـن تِ َجٰـ َر ًة تَ ُكـو َن َ َّ ٓ بِٱ ۡل َبٰ ِط بَ ۡي َن ُكـم ـ َرا ٖض أن إِل ـ ِل إِ َّن ٱلَّ َل َك َن بِ ُكـ ۡم َر ِحي ٗمـا [ ﴾٢٩النسـاء] ،قـال :فسـكت سـاعة ،ثـم قـال :أطعـه فـي طاعـة الله ،واعصـه فـي معصيـة الله. ( )1ال ِخباء :أحد بيوت العرب من وبر أو صوف ،ولا يكون من شعر ،ويكون على عمودين أو ثلاثة ،والجمع (أخبية) .انظر :النهاية ،لابن الأثير.9/2: ( )2ينتضل :يرمي بالسهام .انظر :النهاية ،لابن الأثير.72/5: ( )3جشره ،من الجشر :قوم يخرجون بدوابهم إلى المرعى ويبيتون مكانهم .انظر :النهاية ،لابن الأثير.273/2 : ( )4أخرجه مسلم في كتاب الإمارة ،باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء ،2787/5:رقم ( ،)1844وأبو داود في الفتن ،باب ذكر الفتن ودلائلها:رقم ( ،)4248والنسائي في البيعة ،باب ذكر من بايع الإمام وأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه ،153/ 7:رقم (.)4191 70
وعــن ثوبــان :أن رســول الله ﷺ قــال« :إنمــا أخــاف علــى أمتــي الأئمــة المضليـن ،وإذا وضـع السـيف فـي أمتـي ،لـم يرفـع عنهـا إلـى يـوم القيامـة ،ولا تقـوم السـاعة حتـى تلحـ َق قبائـ ُل مـن أمتـي بالمشـركين ،وحتـى تعبـد قبائـل مـن أمتـي الأوثـان ،وإنـه سـيكون فـي أمتـي كذابـون ثلاثـون ،كلهـم يزعـم أنـه نبـي، وأنــا خاتــم النبييــن لا نبــي بعــدي ،ولا تــزال طائفــة مــن أمتــي علــى الحــق ،لا يضرهـم مـن خالفهـم حتـى يأتـي أمـر الله»(.)1 * التقليد الأعمى للأمم الفاسقة: تمـارس بعـض قـوى الشـر فـي العالـم غـزواً فكريـاً علـى الأمـم الضعيفة ،باسـم الحفـاظ علـى حقـوق الإنسـان ،والسـعي إلـى تحريـره وتأميـن رغـد العيـش لـه، فتتحكـم فـي ثقافـة الأمـم الضعيفـة ومقدراتهـا ومنهجهـا وفكرهـا وحضارتهـا ،مما ينبـه الكثيـر مـن أبنـاء هـذه الأمـم إلـى رفـض هـذه الهيمنـة والتبعيـة ،فيقفـون فـي وجـه التقليـد الأعمـى للقـوى الكبـرى ،ويصـ ُّر آخـرون علـى السـير علـى خطـى تلـك القـوى الفاسـقة وتقليدهـا فـي كل أمورهـا ليصلـوا ـ بزعمهـم ـ إلـى الحضـارة والتطـور ،والمدنيـة ،فينشـب الخـاف الـذي يـؤدي إلـى النـزاع والاقتتال ،فتشـتعل الفتـن ويشـب ضرامهـا بيـن الأخـوة وأبنـاء الأمـة ،وهـذا مـا يخطـط لـه الأعـداء بمكرهـم وخداعهـم ،لذلـك حذرنـا رسـول الله ﷺ مـن التقليـد الأعمـى للأمـم الفاسـقة؛ ومـن ذلـك: مـا جـاء عـن عبـد الله بـن عمـرو بـن العـاص قـال :قـال رسـول الله ﷺ: «ليأتيـن علـى أمتـي مـا أتـى علـى بنـي إسـرائيل ،حـذو النعـل بالنعـل( ،)2حتـى ( )1أخرجه أبو داود في كتاب الفتن ،باب ذكر الفتن ودلائلها ،157/4:رقم ( ، )4254وابن حبان في كتاب المناقب ،باب فضل الأمة 220/16:رقم ( ،)7238والحاكم في المستدرك ،كتاب الفتن والملاحم ،496/4:رقم ( ،)8390وقال الحاكم\" :هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ،ولم يخرجاه بهذه السياقة\" ،ووافقه الذهبي. ( )2حذو النعل بالنعل :أي تعملون مثل أعمالهم كما تقطع إحدى النعلين على قدر النعل الأخرى ،والحذو: التقدير والقطع .انظر :النهاية ،لابن الأثير.357/1: 71
إن كان منهـم مـن أتـى أمَّـه علانيـة ،لـكان فـي أمتـي مـن يصنـع ذلـك ،وإن بنـي إسـرائيل تفرقـت علـى اثنتيـن وسـبعين ملـة ،وتفتـرق أمتـي علـى ثـاث وسـبعين ملـة ،كلهـم فـي النـار إلا ملـة واحـدة» ،قالـوا :ومـن هـي يـا رسـول الله؟ قـال ﷺ: «مـا أنـا عليـه وأصحابـي»(.)1 عـن أبـي واقـد الليثـي أن رسـول الله ﷺ لمـا خـرج إلـى حنيـن مـ َّر بشـجرة للمشـركين ،يقـال لهـا :ذات أنـواط ،يعلقـون عليهـا أسـلحتهم ،فقالـوا :يـا رسـول الله، اجعـل لنـا ذات أنـواط ،كمـا لهـم ذات أنـواط ،فقـال النبـي ﷺ« :سـبحان الله ،هـذا كمـا قـال قـوم موسـى ﴿ :ٱ ۡج َعـل َّلَـآ إِ َلٰ ٗهـا َك َمـا لَ ُهـ ۡم َءالِ َهـة[ ﴾ٞالآية/الأعـراف،]138: والـذي نفسـي بيـده ،لتركبـن سـنة مـن كان قبلكـم»(.)2 وزاد رزيـن« :حـذو النعـل بالنعـل ،والقـذة بالقـذة ،حتـى إن كان فيهـم مـن أتـى أمـه يكـون فيكـم ،فـا أدري أتعبـدون العجـل أم لا ؟». عــن أبــي ســعيد الخــدري أن رســول الله ﷺ قــال« :لتتبعــن ســنن الذيــن مــن قبلكــم ،شــبراً بشــبر ،وذراعــاً بــذراع ،حتــى لــو دخلــوا فــي جحــر ضــب لاتبعتموهـم» ،قلنـا :يـا رسـول الله ،اليهـود والنصـارى؟ قـال ﷺ« :فمـن؟»(.)3 عــن أبــي هريــرة أن رســول الله ﷺ قــال« :لا تقــوم الســاعة ،حتــى تأخــذ أمتـي بأخـذ القـرون قبلهـا ،شـبراً بشـبر ،وذراعـاً بـذراع» ،فقيـل :يـا رسـول الله، كفــارس والــروم؟ فقــال ﷺ« :ومــن النــاس إلا أولئــك؟»(.)4 ( )1أخرجه الترمذي في كتاب الإيمان ،باب افتراق الأمة ،26/5:رقم ( ، )2641وقال الترمذي\" :هذا حديث مفسر غريب\" .ورمز السيوطي لضعفه في الجامع الصغير.461/2: ( )2أخرجه الترمذي في كتاب الفتن ،باب لتركبن سنن من كان قبلكم ،475/4:رقم ( ،)2180وقال الترمذي\" :هذا حديث حسن صحيح\". ( )3أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء ،باب ما ذكر عن بني إسرائيل ،1274/3:رقم ( ، )3269ومسلم في كتاب العلم ،باب في الألد الخصم ،2581/5:رقم ( ،)2669واللفظ لمسلم. ( )4أخرجه البخاري في الاعتصام بالكتاب والسنة ،باب قول النبي ﷺ« :لتتبعن سنن من كان قبلكم» ،2669/6:رقم (.)6888 72
عــن عائشــة قالــت :ســمعت رســول الله ﷺ يقــول« :لا يذهــب الليــل والنهــار ،حتــى تعبــد الــات والعــزى» ،فقلــت :يــا رســول الله ،إن كنــت لأظــن ٱ ۡ َلـ ِّق ِ ُل ۡظ ِهـ َر ُهۥ َ َع بِٱلۡ ُهـ َد ٰى أَ ۡر َسـ َل َر ُسـو َ ُلۥ ﴿ ُهـ َو ٱ َّ ِل ٓي ٱل ِّديـ ِن قـال ﷺ« :إنـه س َودِيـ ِن أن ذلـك [ ﴾٩الصـف]، ٱلۡ ُم ۡ ِش ُكــو َن أنـزل الله: حيـن ـيكون تام ـاً، َولَــ ۡو َكــ ِرهَ ُكِّــهِۦ مـن ذلـك مـا شـاء الله ،ثـم يبعـث الله ريحـاً طيبـة ،فتوفـى كل مـن فـي قلبـه مثقـال حبـة خـردل مـن إيمـان ،فيبقـى مـن لا خيـر فيـه ،فيرجعـون إلـى ديـن آبائهـم»(.)1 * قراءة القرآن وترك العمل به آخر الزمان: إ َّن البعـد عـن المنهـج القرآنـي والتوجيـه النبـوي يجعـل الإنسـان عرضـة للفتـن وآثارهــا الســيئة ،فكثيــر مــن المســلمين لا يتدبــرون القــرآن ولا يســعون لفهمــه، فضـاً عـن العمـل بـه وتطبيـق أحكامـه. وبعضهـم يقفـون عنـد ظواهـر نصـوص القـرآن الكريـم ومـا تشـابه منـه ،وهم لا يعلمـون مـن قواعـد تفسـير النصـوص شـيئاً ،فيحملـون الآيـات علـى غيـر وجههـا، ويفسـرونها علـى غيـر مرادهـا ،علـى غيـر هـدى ولا علـم ولا بصيـرة ،فيكذبـون علـى الله فـي تأويـل كلامـه. لذلــك حذرنــا رســول الله ﷺ منهــم ،لأنهــم دعــاةُ باطــل ،حتــى وإن كانــوا يقـرؤون القـرآن ويحفظونـه ،إلا أنـه لا يجـاو ُز تراقيهـم ،فقـد تركـوا العمـل بـه. فعـن يزيـ َد بـ ِن عميـرة رحمـه الله ،وكان مـن أصحـاب معـاذ بـن جبـل أنـه قـال :كان لا يجلـس مجلسـاً للذكـر ،حيـن يجلـس إلا قـال :الله حكـم قسـط ،هلـك المرتابــون ،فقــال معــاذ بــن جبــل يومــاً« :إن مــن ورائكــم فتنــاً يكثــر فيهــا المـال ،ويفتـح فيهـا القـرآن ،حتـى يأخـذه المؤمـن والمنافـق ،والرجـل والمـرأة، والصغيـر والكبيـر ،والعبـد والحـر ،فيوشـك قائـل أن يقـول :مـا للنـاس لا يتبعوني، ( )1أخرجه مسلم في كتاب العلم ،باب في الألد الخصم ،2748/5:رقم (.)2907 73
وقـد قـرأت القـرآن؟ مـا هـم بمتبعـ َّي حتـى أبتـدع لهـم غيـره ،فإياكـم ومـا ابتـدع، فـإن مـا ابتـدع ضلالـة ،وأحذركـم زيغـة الحكيـم ،فـإن الشـيطان قـد يقـول كلمـة الضلالـة علـى لسـان الحكيـم ،وقـد يقـول المنافـق كلمـة الحق ،قـال :قلـت لمعاذ: مــا يدرينــي ـ رحمــك الله ـ أن الحكيــم قــد يقــول كلمــة الضلالــة ،وأن المنافــق قـد يقـول كلمـة الحـق؟ قـال :بلـى اجتنـب مـن كلام الحكيـم المشـتهرات ،التـي يقـال لهـا :مـا هـذه؟ ولا يثنينـك ذلـك عنـه ،فإنـه لعلـه أن يراجـع ،وتلـق الحـق إذا سـمعته ،فـإن علـى الحـق نـوراً»(.)1 * تن ّكر الناس لشرع الله آخر الزمان: عندمـا يغيـب نـور العلـم ،ويحـل ظـام الجهـل ،يبتعـد النـا ُس عـن شـرع الله تعالـى ،ويرتعـون فـي مسـتنقع المعاصـي والآثـام ،بـل يألفـون فعلهـا ،ممـا يدفعهـم إلـى الإنـكار علـى مـن يلتـزم بالشـرع الشـريف ،ويحـرص علـى العلـم الصحيـح، بـل ويمرقـون مـن الديـن كمـا يمـرق السـهم مـن الرميـة. هـذا منـاخ ملائـم لتوالـد الفتـن ،وتفاقـم أمورهـا ،وهـو مرتـع مناسـب للتناحـر والتخاصـم بيـن الفرقـاء ،وسـبيل سـهل لإراقـة الدمـاء وفسـاد ذات البيـن ،وهـذا مـا بيَّنـه رسـول الله ﷺ فـي كثيـر مـن أحاديثـه الشـريفة. ومنهــا مــا جــاء عــن أبــي إدريــس الخولانــي رحمــه الله :إنــه ســمع حذيفــة بــن اليمــان قــال :كان النــاس يســألون رســول الله ﷺ عــن الخيــر ،وكنــت أسـأله عـن الشـر ،مخافـة أن يدركنـي ،فقلـت يـا رسـول الله :إنـا كنـا فـي جاهليـة وشـر ،فجاءنـا الله بهـذا الخيـر ،فهـل بعـد هـذا الخيـر شـر؟ قـال ﷺ« :نعـم»، فقلـت :هـل بعـد ذلـك الشـر مـن خيـر؟ قـال« :نعـم ،وفيـه دَ َخـ ٌن» ،قلـت :ومـا دخنـه؟ قـال ﷺ« :قـوم يسـتنون بغيـر سـنتي ،ويهـدون بغيـر هديـي ،تعـرف منهـم وتنكـر» ،فقلـت :هـل بعـد ذلـك الخيـر مـن شـر؟ قـال ﷺ« :نعـم دعـاة علـى أبـواب جهنـم ،مـن أجابهـم إليهـا قذفـوه فيهـا» ،فقلـت يـا رسـول الله :صفهـم لنـا، ( )1أخرجه أبو داود في كتاب السنة ،باب في لزوم السنة ،331/4:رقم (.)4613 74
قـال ﷺ« :نعـم قـوم مـن جلدتنـا ويتكلمـون بألسـنتنا» ،قلـت يـا رسـول الله :فمـا تـرى إن أدركنـي ذلـك؟ قـال ﷺ« :تلـزم جماعـة المسـلمين وإمامهـم» ،فقلـت: فـإن لـم تكـن لهـم جماعـة ولا إمـام؟ قـال ﷺ« :فاعتـزل تلـك الفـرق كلهـا ،ولـو أن تعـ َّض علـى أصـل شـجرة حتـى يـدركك المـوت وأنـت علـى ذلـك»(.)1 وفــي روايــة لمســلم ،قــال ﷺ« :يكــون بعــدي أئمــةٌ ،لا يهتــدون بهــدا ،ولا يســتنون بســنتي ،وســيقوم فيهــم رجــال ،قلوبهــم قلــوب الشــياطين فــي جثمــان إنــس» ،قــال :قلــت :كيــف أصنــع يــا رســول الله إن أدركــت ذلــك؟ قــال ﷺ: «تسـمع وتطيـع للأميـر ،وإن ضـرب ظهـرك ،وأخـذ مالـك ،فاسـمع وأطـع»(.)2 وفـي روايـة أبـي داود ،قـال ُسـبيع بـن خالـد :أتيـت الكوفـة فـي زمـن فتحـت تســتر( ،)3أجلــب منهــا بغــالاً ،فدخلــت المســجد ،فــإذا صــدع مــن الرجــال ،وإذا رجــل جالــس ،تعــرف إذا رأيتــه أنــه مــن رجــال أهــل الحجــاز ،قــال :قلــت مــن هــذا؟ فتجهمنــي القــوم ،وقالــوا :أمــا تعــرف هــذا؟ هــذا حذيفــة بــن اليمــان صاحــب رســول الله ﷺ ،فقــال حذيفــة :إن النــاس كانــوا يســألون رســول الله ﷺ عـن الخيـر ،وكنـت أسـأله عـن الشـر ،فأحدقـه القـوم بأبصارهـم ،فقـال :إنـي أرى الـذي تنكـرون ،إنـي قلـت :يـا رسـول الله ،أرأيـت هـذا الخيـر الـذي أعطانـا الله ،أيكـون بعـده شـر ،كمـا كان قبلـه؟ قـال ﷺ« :نعـم» ،قلـت :فمـا العصمـة مـن ذلـك؟ قـال ﷺ« :السـيف» ،قلـت :يـا رسـول الله ،ثـم مـاذا يكـون؟ قـال ﷺ« :إن كان لله خليفـة فـي الأرض ،فضـرب ظهـرك ،وأخـذ مالـك فأطعـه ،وإلا فمـت وأنـت عـاض بجـذل شـجرة» ،قلـت :ثـم مـاذا؟ قـال ﷺ« :ثـم يخـرج الدجـال معـه نهـر ونـار ،فمـن وقـع فـي نـاره ،وجـب أجـره وحـط وزره ،ومـن وقـع فـي نهـره ،وجـب ( )1أخرجه البخاري في المناقب ،باب علامات النبوة في الإسلام ،1319/3 :رقم ( ،)3411ومسلم في كتاب الإمارة ،باب وجوب ملازمة جماعة ،1947/4:رقم (.)1887 ( )2أخرجه مسلم في كتاب الإمارة ،باب الأمر بلزوم الجماعة عن ظهور الفتن ،1476/3:رقم (.)1847 ( )3تستر :وتسمى حالي ًا (ششتر) وهي من مدن الأهواز في العراق. 75
وزره وحـط أجـره» ،قـال :قلـت :ثـم مـاذا؟ قـال ﷺ« :ثـم هـي قيـام السـاعة»(.)1 وفــي روايــة أخــرى لــه :عــن نصــ ِر بــ ِن عاصــ ٍم الليثــي رحمــه الله قــال :أتينــا اليَشـ ُكري رحمـه الله فـي رهـط مـن بنـي ليـث ،فقـال :مـن القـوم؟ قلنـا :بنـو ليـ ,ث أتينـاك نسـألك عـن حديـث حذيفـة ،فذكـر الحديـث .قـال :قلـت :يـا رسـول الله هـل بعـد هـذا الخيـر شـر؟ قـال ﷺ« :فتنـة وشـر» ،قـال :قلـت :يـا رسـول الله ،هـل بعـد هـذا الشـر خيـر؟ قـال ﷺ« :يـا حذيفـة تعلَّـم كتـاب الله ،واتبـع مـا فيـه» ـ ثـاث مـرار ـ ،قـال :قلـت :يـا رسـول الله ،هـل بعـد هـذا الشـر خيـر؟ قـال ﷺ« :هدنــة علــى دخــن( ،)2وجماعــة علــى أقــذاء فيهــا( )3ـ أو فيهــم ـ » ،قلــت: يـا رسـول الله الهدنـة علـى الدخـن مـا هـي؟ قـال« :لا تر ِجـع قلـوب أقـوام علـى الـذي كانـت عليـه» ،قـال :قلـت :يـا رسـول الله ،أبعـد هـذا الخيـر شـر؟ قـال ﷺ: «فتنـة عميـاء صمـاء ،عليهـا دعـاة علـى أبـواب النـار ،فـإن تمـت يـا حذيفـة ،وأنـت عـاض علـى جـذل ،خيـر لـك مـن أن تتبـع أحـداً منهـم»(.)4 قـال الإمـام الحافـظ ابـن حجـر العسـقلاني رحمـه الله فـي فتـح البـاري« :قولـه «فــي جاهليــة وشــر» :يشــير إلــى مــا كان مــن قبــل الإســام مــن الكفــر وقتــل بعضهـم بعضـاً ونهـب بعضهـم بعضـاً وإتيـان الفواحـش .والذي يظهـر أن المـرا َد بـ: «الدعـاة علـى أبـواب جهنـم» :مـن قـام فـي طلـب الملـك مـن الخـوارج وغيرهـم، ( )1أخرجه أبو داود في كتاب الفتن ،باب ذكر الفتن ودلائلها ،153/4:رقم (.)4246 ( )2على دخن :أي على فساد واختلاف ,تشبيها بدخان الحطب الرطب ,لما بينهم من الفساد الباطن تحت الصلاح الظاهر .انظر :النهاية ،لابن الأثير.109/2: ( )3الأقذاء :جمع قذى والقذى جمع قذاة ،وهو ما يقع في العين والماء والشراب من تراب أو تبن أو ...أراد اجتماعهم يكون على فساد في قلوبهم .انظر :النهاية لابن الأثير.30/4: ( )4أخرجه أبو داود في كتاب الفتن ،باب ذكر الفتن ،155/4:رقم (.)4248 76
وإلـى ذلـك الإشـارة بقولـه« :الـزم جماعـة المسـلمين وإمامهـم» يعنـي :ولـو جـار، ويوضـح ذلـك روايـة أبـي الأسـود« :ولـو ضـرب ظهـرك وأخـذ مالـك» ،وكان مثـل ذلـك كثيـراً فِـي إمـارة الحجـاج ونحـوه .وقولـه« :وأنـت علـى ذلـك»؛ أي: العـض ،وهـو كنايـة عـن لـزوم جماعـة المسـلمين وطاعـة سـاطينهم ولـو عصـوا. قـال البيضـاوي :المعنـى إذا لـم يكـن فـي الأرض خليفـة فعليـك بالعزلـة والصبـر علــى تحمــل شــدة الزمــان .وقــال ابــن ب ّطــال :فيــه حجــة لجماعــة الفقهــاء فــي وجـوب لـزوم جماعـة المسـلمين وتـرك الخـروج علـى أئمـة الجـور؛ لأنـه وصـف الطائفـة الأخيـرة بأنهـم «دعـاة علـى أبـواب جهنـم» ،ولـم يقـل فيهـم« :تعـرف وتنكـر» كمـا قـال فـي الأوليـن ،وهـم لا يكونـون كذلـك إلا وهـم علـى غيـر حـق، وأمـر مـع ذلـك بلـزوم الجماعـة»(.)1 والجماعــة التــي أمــر الشــارع بلزومهــا جماعــ ُة أئمــة العلمــاء؛ لأن الله جعلهـم حجـة علـى خلقـه ،وإليهـم تفـزع العامـة فـي أمـر دينهـا ،وهـم المعنيـون بقولــه ﷺ« :إن الله لا يجمــع أمتــي علــى ضلالــة»(.)2 وقال آخرون :هم جماعة الصحابة الذين قاموا بالدين ،وثبّتوا أوتاده. وقــال آخــرون :هــم جماعــة أهــل الإســام ،مــا كانــوا مجتمعيــن علــى أمـ ٍر واجـب علـى أهـل ال ِملَـل اتبا َعـه ،فـإذا كان فيهـم مخالـف منهـم فليسـوا مجتمعيــن. ( )1فتح الباري شرح صحيح البخاري ،لابن حجر 35/13:ـ ( 38بتصرف يسير). ( )2أخرجه الترمذي في الفتن ،باب ما جاء في لزوم الجماعة ،466/4:رقم ( ،)2167والحاكم في المستدرك ،201/1:رقم (.)397 77
سبل الوقاية من الفتن: لا بـد مـن بيـان سـبل الوقايـة مـن الفتـن ،وكيفيـة التعامـل مـع هـذه الفتـن التـي تمـوج موجـاً فـي هـذا العصـر ،والتـي ربمـا يبتلـى الشـخص فـي الخـوض فيهـا، وتتلبسـه إلـى أخمـص قدميـه ،وهـو يظـن أنـه نـاج منهـا ،وهـو فـي الحقيقـة مـن السـاعين فيهـا ،النافخيـن فـي كيرهـا!!. فالوقايـة خيـر مـن العـاج ،والدفـع أسـهل مـن الرفـع ،والتخليـة مقدمـة علـى التحليـة ،قـال أميـر المؤمنيـن عمـر \" :يوشـك أن يَ ْهـ ِد َم ال ِإسـا َم َح َجـراً َح َجـراً مَـ ْن جهـل عـادا ِت الجاهليـة\". وإن مــن أهــم ســبل الوقايــة مــن الفتــن التــي حذرنــا منهــا رســول الله ﷺ مــا يأتــي: * التمسك بالكتاب والسنة: فالتمسـك بكتـاب الله ،وسـنة رسـوله ﷺ ،والالتـزام الكامـل بمنهـج الله وهديـه ،خيـر عاصـم مـن الضـال ،وهمـا المنجيـان مـن شـر الفتـن مـا ظهـر منهـا ومـا بطـن ،كمـا تـدل علـى ذلـك النصـوص الشـرعية الصريحـة. قـا َل رسـول الله ﷺ« :تركـ ُت فيكـم مـا لـن تضلُّـوا بعـدهُ إِ ِن اعتصمتـم بـ ِه ،كتا ُب الل ِه ،وأنتـم تُسـأَلو َن َعنِّـي ،فمـا أنتم قائلـون؟»(.)1 قـال عبـد الرحمـن بـن أبـزى :قلـت لأبـي بـن كعـب لمـا وقـع النـاس فـي أمـر عثمـان :أبـا المنـذر مـا المخـرج؟ قـال« :كتـاب الله مـا اسـتبان لـك فاعمـل بـه ،ومـا اشـتبه عليـك فكلـه إلـى عالمـه»(.)2 ( )1أخرجه مسلم في كتاب الحج ،باب حجة النبي ﷺ ،886/2:رقم (.)1218 ( )2أخرجه البخاري في التاريخ الأوسط ،64/1:والحاكم في المستدرك ،343/3:رقم ( ،)5321وصححه الذهبي. 78
وقـال أبـو مسـعود لحذيفـة « :إن الفتنـة وقعـت ،فحدثنـي مـا سـمعته\" قـال: \"أَ َولـم يأتكـم اليقيـن؟ كتـا ُب الله عـ َّز وجـ َّل»(.)1 ويتفـاوت النـاس فـي مـدى اسـتبصارهم بحقيقـة الفتنـة ،واسـتجلاء عواقبهـا، تَبَعـاً لمـا أوتـوه مـن التقـوى ،والعلـم بكتـاب الله ،فالقلـب كالعيـن فـي إبصارهـا، فتجـد عينـاً لا تبصـر البعيـد ،وأخـرى لا تبصـر بمجـرد وجـود ضبـاب طفيـف ،أو غبـار خفيـف ،فضـاً عـن أن تكـون فـي ظـام ،فإبصـار القلـب تابـع لقـوة الفقـه، ونـور الإيمـان ،ومقدارهمـا(.)2 وقــد َشــبَّه النبــي ﷺ الفتنــة بقطــع الليــل المظلــم ،أي :الــذي لا قمــر فيــه ولا ضيــاء ،فالســاري فيــه علــى شــفا هلكــة إن لــم يكــن معــه نــور يبصــر بــه مواقــع قدميــه ،وهــو فــي حــال الفتــن نــور العلــم الــذي يكشــف أهلَهــا ،ويبيــن حالهــا. ببُِ ۡـر﴿ٱفََٱهٰلَّ َّوـلِقِل ٞـينَوـدَّرِمَنُـسسـَءـناو ََّممَِّرلُِن ّبِىۦـوا َاوْلُٱكللبِهـنُّـ ۡـمهِوۦَورِأَ َنوٱك ََّزَتع ۡاِلـلَب َّزــٓيآُهرأَإِاون َهُل َۡلزعَۡولَزنَيـُـكـاۚـَز َۡومٱُنرـنُلَّوـُهُولورَبوِٗاًرٱ َا؛مَّتـَبفُّام ُعقبِ َتــياۡٗعوناْ َـملٱا ُللـ٤نُّ٧وـ١وَ:ن َر﴾ ٱَ[خ﴿َّابَلِ ِلنـٰٓيسَأٓـيُّرٞياأُءَهن]ــ،ا٨زِٱ َو﴾للقنَّ[ــاَمالاتَع ُغلـابسُـه ٓۥقَن]أـُْۡ،:ود َ ٰٓول﴿ئقَِجــآَا َٔفَءَاكل ِم ُُنُكهـــوُمماْ: ٱلۡ ُم ۡفلِ ُحـو َن [ ﴾١٥٧الآية/الأعـراف]. َف َمـكۡنم َأـباۡـسَـ َرَّم َفىلِاَنل ۡفله ِسـهِۖۦكت َوا َبمــه ۡن(ب َعـصاِئ َـير َف) َع؛لَف ۡيقَهـاـاۚل َو َمـآَ :أنَ﴿ـ َقا۠ـ َۡدعلَ ۡيَجآ َء ُكـ ُكمـ ِم َببَفِيَصـآ ٖئِظـ ُرِ١٠٤مـ﴾ن[ا َّرل ّبأِنعـ ُاكمـ] ۡمۖ، وقـال َ ﴿ :هٰـ َذا بَ َ ٰٓصئِـ ُر لِل َّنـا ِس َو ُهـ ٗدى َو َر ۡ َحـةّ ٞلِ َقـ ۡو ٖم يُوقِ ُنـو َن [ ﴾٢٠الجاثيـة]. ( )1أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء.274/1: ( )2انظر :العوائق :ص .29 79
* مجاهدة النفس والهوى: فـا بـد مـن مجاهـدة الشـح المطـاع والهـوى المتّبـع والإعجـاب بالـرأي ،حيـث وصـف رسـول الله ﷺ هـذه الأمـراض الثلاثـة بالمهلـكات ،فكثيـراً مـا تـرك النـاس الرجـوع إلـى نصـوص الشـرع الشـريف فـي المواقـف الصعبـة ،واتبعـوا مـا تمليـه عليهـم أهواؤهـم المنحرفـة ،ويتمسـكون بآرائهـم الضالـة التـي أعجبـوا بهـا ،والتـي تحقـق لهـم المصالـح الدنيويـة الفانيـة ،ولـو علـى حسـاب دينهـم وآخرتهـم الباقيـة، ولــو أنهــم عملــوا علــى مجاهــدة النفــس ومخالفــة الهــوى وتمســكوا بالكتــاب والســنة واتبعــوا هــدي العلمــاء العامليــن لنَ َجــوا مــن مخاطــر الفتــن وحصنــوا أنفسـهم مـن ضرامهـا ،قـال الله تعالـىَ ﴿ :وٱ َّ ِليـ َن َجٰ َهـ ُدواْ فِي َنـا َلَ ۡه ِد َي َّن ُهـ ۡم ُسـ ُبلَ َناۚ ِإَو َّن ٱلَّ َل لَ َمــ َع ٱلۡ ُم ۡح ِســنِي َن [ ﴾٦٩العنكبـوت]. * الزهد في الدنيا والسعي إلى الآخرة: إذا كان مـن أعظـم أسـباب الفتـن التنافـس علـى متـاع الدنيـا الفانيـة ،والسـعي للحصـول عليهـا بـكل الوسـائل المتاحـة ،فـإن أعظـم سـبيل للوقايـة مـن الفتـن هـو الزهـد فـي الدنيـا ،وتـرك حطامهـا ،والبعـد عـن التنافـس فيهـا ،والسـعي إلـى الآخرة الباقيـة ،وهـذا منهـج السـلف الصالـح ،الحريصيـن علـى البعـد عـن الفتن وأسـبابها، فعـن عامـر بـن سـعد أن أبـاه سـعداً كان فـي غنـ ٍم لـه ،فجـاء ابنُـه عمـر ،فلمـا رآه قـال« :أعـوذ بـالله مـن شـ ِّر هـذا الراكـب» ،فلمـا انتهـى إليـه ،قـال :يـا أبـه! أرضيـ َت أن تكـون أعرابيًّـا فـي غنمـك ،والنـاس يتنازعـون فـي ال ُملـك بالمدينـة؟ فضـرب صــد َر عمــر ،وقــال :اســكت ،فإنــي ســمعت رســول الله ﷺ يقــول« :إن الله عــز وجـل يحـب العبـد التقـ َّي الغنـ َّي الخفـ َّي»(.)1 ( )1أخرجه مسلم في كتاب الزهد والرقائق ،2789/5 :رقم ( ،)2965وال ِإمام أحمد في مسنده ،168/1 رقم (.)1441 80
عـن عمـر بـن سـعد بـن أبـي وقـاص عـن أبيـه ،أنـه جـاءه ابنـه عامـر ،فقـال: أي بُنَــ َّي ..أفــي الفتنــة تأمرنــي أن أكــون رأســاً؟ لا والله ،حتــى أُ ْعطــى ســي ًفا ،إ ْن ضربــ ُت بــه مســلماً ،نبــا عنــه ،وإن ضربــت كافــراً قتلــه ،ســمعت رســول الله ﷺ يقــول« :إن الله يحــب الغنــي الخفــي المتقــي»(.)1 وعــن مح َّمــد بــن ســيرين قــال :نُبِّئْــ ُت أن ســعداً قــال« :مــا أزعــم أنــي بقميصـي هـذا أحـ ُّق منـي بالخلافـة ،جاهـد ُت وأنـا أَ ْعـ َر ُف بالجهـاد ،ولا أب َخـ ُع نفسـي إن كان رجـ ًا خيـراً منـي ،لا أقاتـل حتـى يأتونـي بسـي ٍف لـه عينـان ولسـا ٌن، فيقـول :هـذا مؤمـن ،وهـذا كافـر»(.)2 وعـن الحسـن البصـري قـال :لمـا كان مـن أمـر النـاس مـا كان مـن أمـر الفتنـة، أتـوا عبـد الله بـن عمـر ،فقالـوا :أنـت سـيد النـاس ،وابـن سـيدهم ،والنـاس بـك راضـون :اخـرج نبايعـك ،فقـال« :لا والله ،لا يُ ْهـ َراق فـ َّي محجمـة مـن دم ،ولا فـي سـببي ،مـا كان فـ َّي الـروح» ،قـال :ثـم أُتِـ َي ،ف ُخـ ِّو َف ،فقيـل لـه :لتخرجـ َّن أو لتقتلـ َّن علـى فراشـك ،فقـال مثـل قولـه الأول؛ قـال الحسـن :فـو الله ،مـا اسـتقلوا منـه شـيئاً ،حتـى لحـق بـالله تعالـى(.)3 وعـن ابـ ِن سـيرين رحمـه الله ،قـال :قيـل لسـعد بـن أبـي وقـاص :ألا تقاتـل، فإنـك مـن أهـل الشـورى ،وأنـت أحـق بهـذا الأمـر مـن غيـرك؟ فقـال« :لا أقاتـل حتـى تأتونـي بسـي ٍف لـه عينـان ولسـان وشـفتان ،يعـرف المؤمـن مـن الكافـر ،إن ضربــ ُت بــه مســلماً نبــا عنــه( ،)4وإن ضربــ ُت بــه كافــراً قتلــه ،فقــد جاهــد ُت وأنــا أ ْعــ ِر ُف الجهــاد» ،و َضــ َرب لهــم مثَــاً ،فقــا َل« :مثلُنــا و َمثلكــم كمثــ ِل قــوم كانــوا ( )1أخرجه الإمام أحمد في المسند ،177/1:وأبو نعيم في الحلية.94/1: ( )2أخرجه ابن سعد ،101/3:وأبو نعيم في الحلية ،94/1:والطبراني في الكبير ،رقم ( ،)322وقال الهيثمي في مجمع الزوائد\" :299/7:أخرجه الطبراني ،ورجاله رجال الصحيح\" .و(بخع نف َسه) :قتلها غيظ ًا أو غ ّ ًم. ( )3أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء.293/1: ( )4نبا عنه :أعرض عنه ،و َن َفر ،ولم ُي ِص ْبه. 81
َعلـى َم َح َّجـ ٍة بيضـاء ،فبينـا هـم كذلـك يسـيرون هاجـ ْت ريـ ٌح َع َّجاجـة( )1فَ َضلُّـوا الطريـ َق ،والتبـس عليهـم ،فقـال بعضهـم( :الطريـق ذات اليميـن) ،فأخـذوا فيهـا، فتاهــوا ،وضلــوا ،وقــال آخــرون( :الطريــق ذات الشــمال) ،فأخــذوا فيهــا فتاهــوا وضلـوا ،وقـال آخـرون :كنـا فـي الطريـق حيـ ُث هاجـت الريـح فنُنِيـخ فأناخـوا(،)2 فأصبحـوا ،فذهـب الريـح ،وتبيَّـن الطريـق ،فهـؤلاء هـم الجماعـة» ،قالـوا :نلـزم مـا فارقنـا عليـه رسـول الله ﷺ حتـى نلقـاه ،ولا ندخـل فـي شـيء مـن الفتـن(.)3 عـن محمـد بـ ِن مَ ْسـلَمة قـال :قـال رسـول الله ﷺ« :يـا محمـد ..إذا رأيـت النــاس يقتتلــون علــى الدنيــا ،فاعمــد بســيفك علــى أعظــم صخــرة فــي الحــرة، فاضربـه بهـا حتـى ينكسـر ،ثـم اجلـس فـي بيتـك ،حتـى تأتيـك يـد خاطئـة ،أو منيـة قاضيـة»( .)4ففعلـت مـا أمرنـي بـه رسـول الله ﷺ. * الاشتغال بالعلم ومدارسته: فبالعلـم يظهـر الحـق مـن الباطـل ،ويعـرف الخيـر مـن الشـر ،وبالجهـل تختلـط الأمـور ،ويلتبـس الحـق بالباطـل .فـا بـد مـن تنويـر العقـول بالعلـم والمعرفـة، وبــذل الأوقــات فــي الاشــتغال بــه ومدارســته ،وســلوك ســبيل الدعــوة إلــى الله، اٱألَّم ِلقـيارئـاًـ َبنالل َظم َلعُ مـ:ـرووا﴿ْ َفبِلَفَع َّم،ــ َاوذانن َه ُِۢيبســاًَوابِْٔعيـَمــناالس ُذمبِّكِن َمـكـُرـاوراْ َ،كبِنُـوـهِذولۦٓاْـأََينۡفكَج ۡيُسدَنفــاُعقـٱواًَّ َلِنليغ٥ـ١َ ٦نضـ َ﴾ي ۡن[ َباهلاـأل ۡوعلهـ َنر،اوَعف]ـجِ .لنبـٱلاً ُّلسرـ ٓوضِءـاَوأهََ ،خف ۡذهنَــاو ( )1ع َّجت الريح :اشتد هبوبها ،وأثارت ال َعجاج؛ أي :ال ُغبار. ( )2أناخ بالمكان :أقام به ،وأناخ الجم َل :أبر َكه ،والمقصود أنهم ثبتوا في أماكنهم ،ولم يبرحوا. ( )3أخرجه معمر بن راشد في الجامع ،357/11:رقم ( ،)20736ونعيم بن حماد في الفتن :ص ،167وابن سعد في الطبقات الكبرى ،143/3:والطبراني في المعجم الكبير ،144/1:رقم ( ،)322والخطابي في العزلة :ص ،72وأبو نعيم في حلية الأولياء ،310 ،309/1:وابن الأعرابي في المعجم ،286/1:رقم ( ،)527والحاكم في المستدرك ،491/4:وقال الحاكم\" :حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه\"، ووافقه الذهبي ،وقال الهيثمي في مجمع الزوائد\" :299/7:أخرجه الطبراني ورجاله رجال الصحيح\". ( )4أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط ،73/2:رقم ( ،)1289وقال الهيثمي في مجمع الزوائد:587/7 : \"أخرجه الطبراني في الأوسط ورجاله ثقات\". 82
* اعتزال مجالس الناس أيام الفتن: إذا تفاقـم الخـاف بيـن النـاس ،وهاجـوا وماجـوا فـي ميـدان الفتـن ،وأريقـت الدمـاء ،وتطاولـت الألسـن بالقيـل والقـال ،وانتشـرت الشـائعات مـن غيـر تثبـت مــن الأخبــار ،وخــاض النــاس فــي الأعــراض والحرمــات ،عندئــ ٍذ ترتــع الفتنــة وتنمــو فــي هــذا المســتنقع النتــن ،ولا ســبيل للوقايــة منهــا إلا اعتــزال مجالــس العامـة والبعـد عـن السـفهاء والدهمـاء ،كيـا تنتقـل عـدوى الفتـن إليهـم ،وذلـك يسـهم فـي تجفيـف مصـادر الفتـن ويقلـل مـن أسـبابها ،وهـذه مـن أولـى الخطوات الواجبـة للوقايـة مـن تفاقـم الفتـن. فعـن أبـي هريـرة :أن رسـول الله ﷺ قـال« :يُهلـك النـا َس هـذا الحـ ُّي مـن قريـش ،قالـوا :فمـا تأمرنـا ،قـال :لـو أن النـاس اعتزلوهـم؟»(.)1 عـن سـعيد بـن زيـد الأشـهلي أنـه أهـدى إلـى النبـي ﷺ سـيفاً مـن نجـران، أو أُهـ ِد َي إلـى النبـي ﷺ سـيف مـن نجـران ،فلمـا قـدم عليـه أعطـاه محمـد بـن مســلمة فقــال« :جاهــد بهــذا فــي ســبيل الله ،فــإذا اختلفــت أعنــاق النــاس، فاضــرب بــه الحجــر ،ثــم ادخــل بيتــك فكــن حلســاً ملقــى ،حتــى تقتلــك يــد خاطئــة ،أو تأتيــك منيــة قاضيــة»(.)2 وعـن أبـي بُـردة ،قـال :دخلـت علـى مح َّمـد بـن مسـلمة فقـال :إِ َّن َر ُسـو َل الله ﷺ قـا َل« :إنهـا سـتكون فِتْنَـ ٌة وفُ ْرقَـ ٌة واختـا ٌف ،فـإذا كا َن كذلـك؛ فأ ِت بسـيفك ( )1أخرجه البخاري في كتاب المناقب ،باب علامات النبوة في الإسلام ،1319/3 :رقم (، )3409 ومسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة ،باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل،2753/5 : رقم (.)2917 ( )2أخرجه الطبراني في المعجم الكبير ،32/6:رقم ( )5424والأوسط ،30/3:رقم ( ،)2375والحاكم في المستدرك ،127/3:رقم ( ،)4605وقال الهيثمي في مجمع الزوائد\" :587/7:أخرجه الطبراني في الكبير والأوسط ،ورجال الكبير ثقات\". 83
أُ ُحـداً فاضربـه َحتَّـى ينقطـ َع ،ثُـ َّم اجلـس فـي بيتـك َحتـى تأتيَـ َك يـ ٌد خاطئـ ٌة أو منيَّـة قاضيـةٌ» .فقـد َوقَ َعـ ْت وفعلـ ُت مـا قـا َل رسـو ُل الل ِه ﷺ (.)1 عـن ابـن مسـعود قـال« :إذا وقـع النـاس فـي الفتنـة فقالـوا :اخـرج ،لـك بالنـاس أسـوة ،فقـل :لا أسـوة لـي بالشـر»(.)2 عــن عمــرو بــن وابصــة الأســدي عــن أبيــه قــال :إنــي بالكوفــة فــي داري إذ سـمعت علـى بـاب الـدار السـام عليكـم ،أألـج؟ قلـت :عليكـم السـام ،فلـج، فلمـا دخـل فـإذا هـو عبـد الله بـن مسـعود ،قلـت :يـا أبـا عبـد الرحمـن ،أيـة سـاعة زيـارة هـذه؟ ـ وذلـك فـي نحـر الظهيـرة ـ قـال :طـال علـ َّي النهـار ،فذكـرت مـن أتحـدث إليـه ،قـال :فجعـل يحدثنـي عـن رسـول الله ﷺ وأحدثـه ،قـال :ثـم أنشــأ يحدثنــي ،قــال :ســمعت رســول الله ﷺ يقــول« :تكــون فتنــة ،النائــم فيهــا خيـر مـن المضطجـع ،والمضطجـع فيهـا خيـر مـن القاعـد ،والقاعـد فيهـا خيـر مـن القائـم ،والقائـم فيهـا خيـر مـن الماشـي ،والماشـي خيـر مـن الراكـب ،والراكـب خيـر مـن المجـري ،قتلاهـا كلهـا فـي النـار». قـال :قلـت :يـا رسـول الله ،ومتـى ذلـك؟ قـال« :ذلـك أيـام الهـرج» ،قلـت: ومتــى أيــام الهــرج؟ قــال« :حيــن لا يأمــن الرجــل جليســه» ،قــال :قلــت :فمــا تأمرنــي إن أدركــت ذلــك؟ قــال« :اكفــف نفســك ويــدك وادخــل دارك» ،قــال: قلـت :يـا رسـول الله أرأيـت إن دخـل رجـل علـ َّي داري؟ قـال« :فادخـل بيتـك»، قـال :قلـت :أفرأيـت إن دخـل علـي بيتـي؟ قـال« :فادخـل مسـجدك واصنـع هكـذا ـ وقبـض بيمينـه علـى الكـوع ـ وقـل ربـي الله ،حتـى تمـوت علـى ذلـك»(.)3 ( )1أخرجه ابن ماجه في كتاب الفتن ،باب التثبت في الفتنة ،1310/2:رقم ( ، )3962وابن أبي شيبة في مصنفه ،457/7:رقم ( ،)37198والطبراني في المعجم الكبير ،232/19 :رقم (.)517 ( )2أخرجه الطبراني في المعجم الكبير ،128/9:رقم ( .)8641قال الهيثمي في مجمع الزوائد:298/7: \"أخرجه الطبراني ،وفيه خديج بن معاوية :وثقة أحمد وغيره ،وض َّعفه جماعة\". ( )3أخرجه أحمد في مسند عبد الله بن مسعود ،316/7:رقم (.)4286 84
وفــي روايــة وابصــة بــن معبــد الأســدي :أن عبــد الله بــن مســعود قــال: سـمعت رسـول الله ﷺ يقـول فـي الفتنـة« :قتلاهـا كلهـم فـي النـار» ،قلـت :متـى ذاك يــا ابــن مســعود؟ قــال :تلــك أيــام الهــرج ،حيــث لا يأمــن الرجــل جليســه، قلـت :فمـا تأمرنـي إن أدركنـي ذلـك الزمـان؟ قـال :تكـف لسـانك ويـدك ،وتكـون حلسـاً مـن أحـاس بيتـك ،قـال :فلمـا قتـل عثمـان طـار قلبـي مطـاره ،فركبـت حتـى أتيـت دمشـق ،فلقيـت خريـم بـن فاتـك ،فحدثتـه ،فحلـف بـالله الـذي لا إلـه إلا هـو ،لسـمعته مـن رسـول الله ﷺ ،كمـا حدثنيـه ابـن مسـعود .)1( قـال أبـو سـليمان الخطابـي رحمـه الله :وممـن اعتـزل تلـك الفتنـة فلـم يكـن مع واحـد مـن الفريقيـن حتـى انجلـت محمـد بـن مسـلمة الأنصـاري ،وعبـد الله بـن عمـر بـن الخطـاب فـي عـدة كثيـرة مـن الصحابـة .)2( وعـن أيـوب السـختياني رحمـه الله ،قـال :اجتمـع سـعد بـن أبـي وقـاص ،وابـن مسـعود ،وابـن عمـر ،وعمـار بـن ياسـر فذكـروا الفتنـة ،فقـال سـعد« :أمـا أنـا، فأجلـس فـي بيتـي ،ولا أدخـل فيهـا»(.)3 وقـد اعتـزل الإمـام مالـك بـن أنـس رحمـه الله النـاس أيـام فتنـة محمـد بـن عبـد الله بـن حسـن الـذي خـرج علـى أبـي جعفـر المنصـور؛ وذكـر ذلـك الإمـام ابـن كثيـر رحمـه الله فقـال :ومـن وقـت خـروج محمـد بـن عبـد الله بـن حسـن لـزم مالـك رحمـه الله بيتـه ،فلـم يكـن يأتـي أحـداً لا لعـزاء ولا لهنـاء ،ولا يخـرج لجمعـة ولا لجماعـة ،ويقـول« :مـا كل مـا يعلـم يقـال ،وليـس كل أحـد يقـدر علـى الاعتـذار»(.)4 ( )1أخرجه أبو داود في كتاب الفتن ،باب في النهي عن السعي في الفتنة ،99/4:رقم ( ،)4258وفي سنده القاسم بن غزوان ،لم يوثقه غير ابن حبان ،وباقي رجاله ثقات .قال ابن الأثير في جامع الأصول:13/10: \"(الهرج) :الاختلاف والفتن ،وقد جاء في بعض الحديث أنه القتل ،والقتل فإنما سببه الفتن والاختلاف. (طار قلبي مطاره)؛ أي :مال إلى جهة يهواها وتعلق بها\". ( )2العزلة ،للخطابي :ص.13 ( )3أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء.94/1: ( )4البداية والنهاية ،لابن كثير.174/10: 85
● استحباب العزلة أيام الفتن :وأكثر ما تتأكد العزلة في الفتن لأحد صنفين: oأحدهما :من خشي على دينه أن يُفتن فيه ،ويحول عنه. oالثانـي :مـن كان ذا بـأس وشـدة ،يُ ْخ َشـى علـى النـاس منـه ومـن بأسـه ،ومثلـه صاحـب الـرأي والمشـورة والدهـاء ،الـذي يُخشـى علـى النـاس مـن رأيـه. وعـن ابـن مسـعود أنـه قـال لمـا ُذ ِكـرت عنـده الفتـن ،و ُسـئل :أي أهـل ذلـك الزمان شـر؟ قـال« :كل خطيـب ِم ْسـ َق ٍع( ،)1وكل راكـب مُو ِضـع»()2؛ وذلـك لأن الأول محـ ِّرض علـى الفتنـة بلسـانه ،والآخـر بسـنانه ،فاجتمـع الشـران :شـر القـول ،وشـر العمـل. ● فائدة العزلة زمن الفتن: للعزلـة زمـن الفتـن فوائـ ُد جمـة تعـود علـى الفـرد والمجتمـع ،وتسـاعد فـي إخمــاد نــار الفتــن عمــاً بالقاعــدة التــي تقــول( :الدفــع أولــى مــن الرفــع)؛ لأن العزلــة وانشــغال كل بنفســه يخفــف مــن ضــرام الفتــن ،إلــى أن يمكــن الســيطرة عليهــا وإخمادهــا ومعالجتهــا ،ومــن هــذه الفوائــد: oصيان ُة الدي ِن عن المساس ،والنف ِس عن التلف ،وال ِعر ِض عن الضيم والانتهاك، والما ِل عن الضياع ،وق َّل من شارك في فتنة ،وسلمت له هذه كلها. ( )1الخطيب المِ ْس َق ِع والمِ ْص َقع :البليغ ،أو :من لا ُي ْر َت ُج عليه في كلامه ،ولا يتتعتع. ( )2أخرجه البغوي في شرح ال ّسنَّة في كتاب الفتن ،16/15:رقم ( ،)4223والحاكم في المستدرك،574/4: رقم ( )8612في حديث طويل أوله ذكر الدجال ،إلى أن قال\" :أنا لغير الدجال أخوف علي وعليكم\" ،قال: فقلنا :ما هو يا أبا سريحة؟ قال« :فتن كأنها قطع الليل المظلم» ،قال :فقلنا :أي الناس فيها شر؟ قال« :كل خطيب مصقع ،وكل راكب موضع» قال :فقلنا :أي الناس فيها خير؟ قال« :كل غني خفي» ،قال :فقلت: ما أنا بالغني ولا بالخفي ،قال« :فكن كابن اللبون لا ظهر فيركب ،ولا ضرع فيحلب» قال الحاكم\" :هذا حديث صحيح الإسناد ،ولم يخرجاه\" ،ووافقه الذهبي ،وله شاهد أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه،449/7: رقم ( )37125عن حذيفة قال« :أتتكم الفتن مثل قطع الليل المظلم ،يهلك فيها كل شجاع بطل ،وكل راكب موضع وكل خطيب مصقع» ،والراكب ال ُمو ِضع في الفتنة :ال ُم ْس ُع فيها. 86
oسـامة الصـدر علـى المسـلمين ،ولذلـك أمـر سـعد أهلـه ألا يُخبـروه بشـيء مـن أخبـار النـاس لمـا وقعـت الفتنـة حتـى يجتمعـوا علـى إمـام. oإطفـاء الفتنـة وإخمـاد نارهـا؛ لأن النـاس كلمـا اعتزلـوا الفتـن؛ قـ َّل أهلهـا، فَ َقـ َّل شـرها ،وكلمـا تشـ َّرفوا لهـا وقامـوا وقعـدوا فيهـاَ ،كثُـر أهلهـا ،فـزاد شـرها ،وعظـم خطبهـا. والعزلـة لا تشـرع مطلقـاً ،ومـا ورد مـن النصـوص فـي مـدح العزلـة مطلقـاً، يُ ْح َمـل علـى أنـه خـاص بأفـراد معينيـن تضـر المخالطـة بدينهـم ودنياهـم ،أو أنـه خـاص بزمـان الفتـن . ● أنواع العزلة: والعزلــة فــي الفتــن علــى وجهيــن بحســب الحاجــة والمصلحــة ،وبحســب القــدرة والاســتطاعة: oالعزلة التامة في مكان بعيد عن الناس. oالعزلـة النسـبية أو الجزئيـة؛ بحيـث يعتـزل الفتـن وأهلهـا ،ولا يشـارك فيهـا، وإن كان مقيمـاً بيـن ظهرانـي النـاس. * اجتنا ُب الفتن وال ِفرا ُر منها: فقـد حـ َّث الشـرع الشـريف علـى اجتنـا ِب الفتـن ،وكـ ِّف اليـد عنهـا ،وال ِفـرا ِر منهــا ،عندمــا تختلــف أقــوال العلمــاء فــي تشــخيصها والحكــ ِم عليهــا ،احتياطــاً لأمـر الديـن ،ودرءاً للمفاسـد المترتبـة علـى اختـاف أقـوال العلمـاء فيهـا ،والتـي مــن أخفهــا :انقســامُ مواقــف النــاس منهــا ،وتناز ُعهــم حولهــا ،ذلــك لأن هــذا الاختــاف نفســه يُعــد مظهــراً مــن مظاهــر الفتنــة ،ولا يصــح أن يعامــل معاملــة الاختـاف العلمـي فـي المسـائل الأخـرى ،التـي يُتوسـع فـي الأخـذ بـأي قـول مـن أقوالهـم. 87
وعـن أبـي هريـرة عـن النبـ ِّي ﷺ قـال« :ويـ ٌل للعـرب مـن شـ ٍّر قـد اقتـر َب، أفلـ َح مَـ ْن َكـ َّف يَـ َده»(.)1 عـن أبـي سـعيد الخـدري :أن رسـول الله ﷺ قـال« :يوشـك أن يكـون خيـر مـال الرجـل غنـ ٌم ،يتبـع بهـا شـعف الجبـال ومواقـع القطـر ،يفـر بدينه مـن الفتـن»(.)2 قـال ابـن بطـال رحمـه الله تعالـى« :هـذا الحديـث يـدل علـى إباحـة الانفـراد والاعتـزال عنـد ظهـور الفتـن ،طلبـاً لإحـراز السـامة فـي الديـن ،خشـية أن تحـل عقوبـة فتعـم الـكل ،وهـذا كلـه مـن كمـال الديـن ... وقـال أبـو الزنـاد رحمـه الله تعالـى\" :خـص الغنـم مـن بيـن سـائر الأشـياء حضـاً علـى التواضـع وتنبيهـاً علـى إيثـار الخمـول وتـرك الاسـتعلاء والظهـور.)3( ».. قـال الإمـا ُم ابـ ُن رجـ َب الحنبلـي رحمـه الله تعالـى« :وقولـه ﷺ« :يفـر بدينـه من الفتـن» يعنـي :يهـرب خشـيةً علـى دينـه مـن الوقـوع فـي الفتـن؛ فـإ َّن مـن خالـط الفتـن ،وأهـل القتـال علـى الملـك لـم يسـلم دينـه مـن الإثـم إمـا بقتـل معصـوم، أو أخـذ مـال معصـوم ،أو المسـاعدة علـى ذلـك بقـول ونحـوه ،وكذلـك لـو غلـب علـى النـاس مـن يدعوهـم إلـى الدخـول فـي كفـر أو معصيـة حسـن الفـرار منـه»(.)4 وعـن عثمـان ال َّشـ َّحام قـال :انطلقـت أنـا وفرقـد السـبخي ،إلـى مسـلم بـن أبـي بكـرة وهـو فـي أرضـه ،فدخلنـا عليـه فقلنـا :هـل سـمعت أبـاك يحـدث ( )1أخرجه أبو داود في كتاب الفتن ،باب ذكر الفتن ودلائلها ،97/4:رقم ( ،)4249والإمام أحمد في مسنده.441/2: ( )2أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق ،باب خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ،1201/3:رقم ( .)3124و(شعف الجبال) :رؤوس الجبال .انظر :فتح الباري لابن حجر.614/6: ( )3شرح صحيح البخاري ،لابن بطال.71/1: ( )4فتح الباري شرح صحيح البخاري ،لابن رجب.108/1: 88
فــي الفتــن حديثــا؟ قــال :نعــم ،ســمعت أبــا بكــرة يحــدث ،قــال :قــال رسـول الله ﷺ« :إنهـا سـتكون فتـن ،ألا ..ثـم تكـون فتنـة ،القاعـد فيهـا خيـر مـن الماشـي فيهـا ،والماشـي فيهـا خيـر مـن السـاعي إليهـا ،ألا ..فـإذا نزلـت أو وقعـت ،فمـن كان لـه إبـل فليلحـق بإبلـه ،ومـن كانـت لـه غنـم فليلحـق بغنمـه، ومـن كانـت لـه أرض فليلحـق بأرضـه» ،قـال فقـال رجـل :يـا رسـول الله أرأيـت مـن لـم يكـن لـه إبـل ولا غنـم ولا أرض؟ قـال ﷺ« :يعمـد إلـى سـيفه فيـدق علــى حــده بحجــر ،ثــم لينــج إ ْن اســتطاع النجــاء ،اللهــم هــل بلغــت؟ اللهــم هـل بلغـت؟ اللهـم هـل بلغـت؟» قـال :فقـال رجـل :يـا رسـول الله أرأيـت إن أكرهـت حتـى ينطلـق بـي إلـى أحـد الصفيـن ،أو إحـدى الفئتيـن ،فضربنـي رجل بسـيفه ،أو يجـيء سـهم فيقتلنـي؟ قـال ﷺ« :يبـوء بإثمـه وإثمـك ،ويكـون مـن أصحـاب النـار»(.)1 وعـن أبـي هريـرة أن رسـو َل الله ﷺ قـال« :سـتكون فتـ ٌن ،القاعـ ُد فيهـا خيـ ٌر مـن القائـم ،والقائـم فيهـا خيـ ٌر مـن الماشـي ،والماشـي فيهـا خيـر مـن السـاعي، َمـن تشـ َّر َف لهـا تستشـ ِرفْه ،فمـن َو َجـ َد ملجـأً أو مَعـاذاً فلي ُعـ ْذ بـه»(.)2 وعــن أبــي ذر ،قــال :قــال رســول الله ﷺ« :كيــف أنــ َت يــا أبــا ذ ٍّر.. وموتـاً يصيـ ُب النـا َس حتـى يُ َقـ َّوم البيـ ُت بالوصيـف؟» ،قلـت :مـا َخـا َر الله لـي ( )1أخرجه مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة ،باب نزول الفتن كمواقع القطر ،2753/5:رقم (.)2887 ( )2أخرجه البخاري في كتاب الفتن ،باب تكون فتنة القاعد فيها خير من القائم ،2594/6:رقم (،)6670 ومسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة ،باب نزول الفتن كمواقع القطر ،2732/5:رقم ( .)2886قال ابن حجر في فتح الباري\" :31/13:قولهَ ( :من تش َّرف لها) أي :تط َّلع لها؛ بأن يتصدى ويتعرض لها ولا يعرض عنها ...قوله (تستشرفه) أي :تهلكه بأن يشرف منها على الهلاك ،يريد من انتصب لها انتصبت له، ومن أعرض عنها أعرضت عنه ..وفيه :التحذي ُر من الفتنة ،والحث على اجتناب الدخول فيها ،وأ َّن شرها يكون بحسب التعلق بها\". 89
ورسـوله ﷺ ـ أو قـال :الله ورسـوله أعلـم ـ قـال ﷺ« :تصبَّـر» ،قـال« :كيـف أنـت وجوعـاً يصيـب النـاس ،حتـى تأتـي مسـجدك فـا تسـتطيع أن ترجـع إلـى فراشـك ،ولا تسـتطيع أن تقـوم مـن فراشـك إلـى مسـجدك؟» ،قـال ،قلـت :الله ورسـوله أعلـم ـ أو :مـا خـار الله لـي ورسـوله ـ قـال ﷺَ « :عليـ َك بال ِع َّفـة» ،ثـم قـال« :كيـف أنـت وقَتْـاً يصيـ ُب النـا َس حتـى تُ ْغـ َرق حجـارةُ ال َّزيـت بالـ َّدم؟»، قلــت :مــا خــار الله لــي ورســوله .قــال ﷺ« :الْ َحــ ْق بمــن أنــت منــه» ،قــال: قلـت :يـا رسـول الله ،أفـا آخـذ بسـيفي فأضـرب بـه مـن فعـل ذلـك؟ قـال ﷺ: «شـارك َت القـومَ إذن ،ولكـن ادخـل بيتـك» ،قلـت :يـا رسـول الله ،فـإن ُد ِخـل بيتــي؟ قــال ﷺ« :إن خشــي َت أن يَبْ َهــ َرك شــعا ُع الســي ِف فألــ ِق َطــ َر َف ِردائــك علـى وجهـك ،فيبـوء بإث ِمـ ِه وإث ِمـك ،فيكـون مـن أصحـاب النـار»(.)1 وعـن أبـي ذر الغفـاري قـال :قـال رسـول الله ﷺ« :كيـف أنتـم وأئمـة مـن بعـدي يسـتأثرون بهـذا الفـيء؟» ،قلـت :إذاً ،والـذي بعثـك بالحـق ..أضـع سـيفي علـى عاتقـي ،ثـم أضـرب بـه حتـى ألقـاك أو ألحقـك ،قـال« :أولا أدلـك علـى خيـر مـن ذلـك؟ تصبـر حتـى تلقانـي»(.)2 ( )1أخرجه أبو داود في كتاب الفتن ،باب في النهي عن السعي في الفتنة ،101/4:رقم ( ،)4261وابن ماجه في كتاب الفتن ،باب التثبت في الفتنة ،1308/2:رقم ( ،)3958ومعمر بن راشد في الجامع 352/11في الفتن ،والبزار في مسنده ،377/9وابن حبان في صحيحه ،293/13والحاكم في المستدرك ،169/2:رقم ( )2666وقال الحاكم\" :هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ،ولم يخرجاه\" ،ووافقه الذهبي ،والبغوي في شرح السنة في كتاب الفتن ،12/15:وقال ابن الأثير في جامع الأصول(\" :8/10:البيت) أراد بالبيت هاهنا :القبر( .الوصيف) العبد :والوصيفة :الأمة ،والمعنى أن الفتن تكثر ،فتكثر القتلى ،حتى إنه ليشترى موضع قبر ُيدفن فيه الميت بعبد ،من ضيق المكان عنهم ،مبالغة في كثرة وقوع الفتن ،أو أنه لاشتغال بعضهم ببعض وبما حدث من الفتن لا يوجد من يحفر قبر ميت ويدفنه ،إلا أن ُيعط َي و ِصيف ًا أو قيمتهَ ( .ي ْب َهرك) ضوء باهر :يغلب عينك ويغشى بصرها( .يبوء) باء بالإثم يبوء :إذا رجع به حامل ًا له\" .أحجار الزيت :هو موضع بالمدينة .انظر :النهاية ،لابن الأثير.343/1: ( )2أخرجه أبو داود في كتاب السنة ،باب قتل الخوارج ،385/4:رقم ( ،)4761والإمام أحمد في مسند أبي ذر الغفاري ،443/5:رقم (.)21559 90
* لزوم البيوت أيام الفتن: كان شـيخنا الفاضـل الأسـتاذ محمـد وفـا المنصـور رحمـه الله أيـام الثمانينـات يقـول لنـا ناصحـاً\" :هـذا زمـان السـكوت ولـزوم البيـوت\"؛ لأنـه كان يـدرك مخاطر إطـاق اللسـان أيـام الفتـن ،كمـا يعلـم آثـار الاختـاط بالنـاس والخـوض معهـم فــي القيــل والقــال ،ويــدرك بيقيــن عاقبــة الظهــور الــذي يقســم الظهــور ،وهــذا منهـج السـلف الصالـح مـن الصحابـة والعلمـاء والعقـاء. فقـد ُروي أن رجـ ًا قـال لحذيفـة :إذا اقتتـل المسـلمون فمـا تأمرنـي؟ قـال: «انظـر أقصـى بيـ ٍت فـي دا ِر َك ف ِلـ ْج فيـه ،فـإن دُ ِخـل عليـك ،فقـل :هـا بُـوء بذنبـي وذنبـك»(.)1 وقـال بشـي ُر بـن عقبـة :قلـت ليزيـ َد بـ ِن عبـد الله بـ ِن الشـخير رحمـه الله :مـا كان مُ َطـ ِّرف( )2يصنـع إذا هـاج فـي النـاس هيـج؟ قـال« :يلـزم قعـر بيتـه ،ولا يقـرب لهم جمعـة ولا جماعـة حتـى تنجلـي لهـم عمـا انجلـت»(.)3 وعـن محمـد بـن سـيرين رحمـه الله قـال :قـال لـي َعبيـدة السـلماني رحمـه الله ـ وأنـا بالكوفـة ،وذلـك قبـل فتنـة ابـن الزبيـر ـ« :افـرغ مـن ضيعتـك ،ثـم انحـدر إلـى مصـرك فإنـه سـيحدث فـي الأرض حـدث»! قـال :قلـت :فبـم تأمرنـي؟ قـال: «تلـزم بيتـك» ،قـال :فلمـا قدمـت البصـرة ،وقعـت فتنـة ابـن الزبيـر .)4( ( )1أخرجه الداني في السنن الواردة في الفتن باب ما يفعل من لزم بيته في الفتنة ،345/1:رقم (.)106 ( )2عاصر ُم َط ِّرف بن عبد الله بن ال ِّش ِّخير فتن ًا عظيمة ،عصمه الله تعالى منها ،قال العجلي في معرفة الثقات 282/2:عنه\" :تابعي ثقة ،من خيار التابعين ،رجل صالح ،وكان أبوه من أصحاب النبي ﷺ ،ولم َينْ ُج من فتنة ابن الأشعث بالبصرة إ َّل رجلان :مطرف بن عبد الله ،ومحمد بن سيرين ،ولم ينج منها بالكوفة إ َّل رجلان :خيثمة بن عبد الرحمن الجعفي ،وإبراهيم النخعي\". ( )3ذكره ابن سعد في الطبقات الكبرى ،142/7:والذهبي في سير أعلام النبلاء.191/4: ( )4أخرجه معمر بن راشد في الجامع في باب الفتن ،366/11:رقم (.)20757 91
* الأخذ على أيدي السفهاء: الفتنـة إذا ُجففـت مناب ُعهـا ،و ُسـدت ذرائعهـا ،و ُح ِسـمت مـادةُ أوائلهـا ،وأُ ِخـ َذ علـي أيـدي سـفهائهاَ ،سـ ِلمت الأمـةُ مـن غوائلهـا ،و ُكفـي النـا ُس شـ َّرها. فعـن النعمـان بـن بشـير عـن النبـي ﷺ قـال« :مثـل القائـم علـى حـدود الله والواقـع فيهـا ،كمثـل قـو ٍم اسـتهموا علـى سـفين ٍة [فـي البحـر] فأصـاب بع ُضهـم أعلاهـا ،وبع ُضهـم أسـفلَها ،فـكان الذيـن فـي أسـفلها يصعـدون فيسـتقون المـاء، فيصبـون علـى الذيـن فـي أعلاهـا ،فقـال الذيـن فـي أعلاهـا :لا ندعكـم تصعـدون فتوذوننـا .فقالـوا :لـو أنـا خرقنـا فـي نصيبنـا خرقًـا [فاسـتقينا منـه] ولـم نمـ َّر علـى أصحابنـا فنؤذيهـم[ ،فأخـذ فأسـاً ،فجعـل يَنْ ُقـ ُر أسـف َل السـفينة ،فأتـوه فقالـوا :مـا لـك؟ قـال :تأذيتـم بـي ،ولا بُـ َّد لـي مـن المـاء] ،فـإن تركوهـم ومـا أرادوا؛ هلكـوا جميعـاً ،وإن أخـذوا علـى أيديهـم؛ نجـوا ،وأنجـوا جميعـاً»(.)1 وكان النعمــان بــن بشــير إذا ســرد هــذا الحديــث يقــول قبلــه« :يــا أيهــا النـاس ،خـذوا علـى أيـدي سـفهائكم» ،فـإذا سـرده عـاد فقـال« :خـذوا علـى أيـدي س ـفهائكم قب ـل أن تهلك ـوا»(.)2 ولقـد صـدق الصـادق المصـدوق ﷺ وصـدق النعمـان ،فكـم مـن جاهـل يســلك ســبيل صاحــب الفــأس هــذا ،فــي ســفينة الأمــن والأمــان والســامة والإســام. ( )1أخرجه البخاري في كتاب الشركة ،باب هل يقرع في القسمة والاستهام ،139/3:رقم (،)2493 والترمذي في كتاب الفتن ،باب ما جاء في تغيير المنكر ،470/4:..رقم ( ،)2173والأمام أحمد،268/4: ،269رقم (.)69 ( )2أخرجه ابن المبارك في الزهد والرقائق ،475/1:رقم ( ،)1349والطبراني في المعجم الكبير،53/21: رقم ( )37وفي مكارم الأخلاق له :ص ،340رقم ( )81والبيهقي في شعب الإيمان ،65/10:رقم ( ،)7170والبغوي في شرح السنة ،343/14:رقم (. )4152 92
فتــرى مــن يحمــل معــاول التكفيــر والخــروج مــن الديــن ،ويضــرب بفــأس الطائفيــة والقوميــة والمذهبيــة؛ ليهــدمَ بنــاء المجتمــع الإســامي المتماســك، ويشــ ّك َك فــي نوايــا أفــراده ،ويثبّــ َط همــم المخلصيــن فــي تطــوره ،ويفــ ِّر َق بيــن الإخــوة المؤمنيــن المتعاضديــن المتحابيــن ،ويمــزق الصفــوف المرصوصــة؛ ليسـهل علـى الأعـداء اختراقهـا ،كل ذلـك بدعـاوى الأمـر بالمعـروف والنهـي عـن المنكـر ،وإقامـة دولـة الإسـام ،وتحكيـم شـرع الله ،ونيـل الحريـة المسـلوبة ،وغير ذلـك مـن الدعـاوى البراقـة ،ولـم يعلـم أنـه لا حريـة فـي عمـ ٍل يُفسـد السـفينة مـا دامـت تسـير فـي بحرهـا ،سـائرة إلـى غايتهـا ،فأصغـر خـرق فـي سـفينة تمخـر عبـاب البحـر ،يعنـي أوسـع قبـر فـي قـاع ذاك البحـر المظلـم(.)1 * الصبر على البلاء زمن الفتن: مـا وقعـت فتـن إلا مـن قلـة الصبـر ،وكـم فـي الدنيـا مـن مصائـب ومحـن، وظلـم وجـور ،وانتهـاك للحرمـات ،وأكل للحقـوق ،فلـو أراد كل مظلـوم أن ينتصـر سـريعاً علـى ظالمـه ،ويأخـذ حقـه ممـن أخـذه منه بـا نظـر فـي النتائـج والمألات، وبـا تفكـر فـي العواقـب ،فـإن المجتمـع يتحـول عندئـ ٍذ إلـى مجتمـع غابـة لا يهدأ فيـه الصـراع ،ولا يقتصـر عندئـ ٍذ علـى الظالـم والمظلـوم ،بـل يتعـداه إلـى الأبريـاء مـن الأطفـال والنسـاء والشـيوخ ،حيـث تـراق الدمـاء البريئـة ،وتنتهـك الحرمـات، وينتشـر الفسـاد فـي البـر والبحـر بمـا كسـبت أيـدي النـاس. لذلـك كلـه و َّجهنـا ديننـا الحنيـف إلـى الصبـر علـى البـاء ،وتحمـل الجـور والظلـم ،وأن يحتسـب المظلـوم ظلامتـه عنـد الله تعالـى مسـتنصراً بـه علـى ظالمـه، كيـا نسـاهم فـي فتـح أبـواب الفتـن وتأجيـج ضرامهـا. ( )1انظر :العوائق :ص ،212 - 210ووحى القلم ،للرافعي :ص.713 93
ِٱَّإَوَلٱول َّۡنَّت ََلــصقٰنۡاـٓشُِفــِبإِاـــَي ُۡلعـلِــُرـاسَلهوِنل َهَوَ٣نٱرٰ٥ل١٤ثَِّجَ ٥مَُ١عو:ـَـــَولَرَوٰلَ﴿َتَ ِۡنبَُۗقت ُلٰٓي٦وََأوَل٥وُ ُّنَّبي١ـَــَهـأُوـْاّوُِْـك َالـِٰٓلِرـَٱمئِٱَّمـــلـِلب ِي ََّـنــكصـٰ ُيََِ َۡنعِبق ۡيََلتي َءۡـيــاءٖـ ِهََمُنـِّلمُـنـ٥ـۡمـِـ٥فَ١وناَْٱصَٱٱَّسلَ ِلۡــۡسـيـَلـَبـِـوــٰيـ َتَۡنوِ ِٞعلتإيِِٱ ُنّفَذِمالَّٓوـاـَْوأَلِٱبِنأََٱۡلۡصُٰلمَّرَبــَّّبِـۡتـص ِهَُوهـوٰــــِـُۡعۡمۢتمۚرِ َوَبَوََُّمنوـٱَرۡـلق ِۡۡـصَّلَـحيصـَبأـَٖلَـةــۡٞصحـۖةَٞيَٰوو ّأِـُمةِۚقَـْـاوإآِـلَُ َّءـٰٓٞلَـننئِٓوَٱواـٱْـ َۡلٰلإَِّلََنََّلكۡمــ ِـكاَمـُهــَِــوـٰـَّ َُِمنلعلِ ٱلۡ ُم ۡه َتــ ُدو َن﴾ [البقــرة]. َف ِريــ ٞق ِّمــ ۡن ﴿إِنَّــ ُهۥ َك َن فــالله يجــزي المؤمــن علــى صبــره ،كمــا قــال : فَٱ َّ َت ۡذ ُت ُمو ُه ۡم ٱل َّرٰ ِحِـ َن ١٠٩ ِع َبـا ِدي َي ُقولُـو َن َر َّب َنـآ َءا َم َّنـا َفٱ ۡغ ِفـ ۡر َلَـا َوٱ ۡر َ ۡح َنـا َوأَنـ َت َخـ ۡ ُر أَن َسـ ۡو ُك ۡم بِ َمـا ٱ ۡ َلـ ۡو َم َج َز ۡي ُت ُهـ ُم ّ ١١٠ تَ ۡض َح ُكـو َن ِّم ۡن ُهـ ۡم َو ُكن ُتـم ۡ َحـ َّ ٰٓى ِسـ ۡخ ِر ًّيا إِ ِن ذِكـ ِري َأ َّن ُهـ ۡم َصـ َ ُر ٓواْ ُهـ ُم ٱ ۡل َفآئِـ ُزو َن [ ﴾١١١المؤمنـون]. فأخبــر أنــه جزاهــم علــى صبرهــم ،كمــا قــال َ ﴿ :و َج َع ۡل َنــا َب ۡع َض ُكــ ۡم ِ َل ۡعـ ٖض فِ ۡت َنـ ًة َأتَ ۡصـ ِ ُرو َن﴾ [الآية/الفرقـان]20:؛ أي :أتصبـرون علـى البـاء ،فقـد عرفتـم مـا وجـد الصابـرون ،فقـرن الله الفتنـة بالصبـر هـا هنـا ،وفـي قولـه ُ ﴿ :ثـ َّم إِ َّن َر َّبـ َك لِ َّ ِليـ َن َها َجـ ُرواْ ِمـ ۢن َب ۡعـ ِد َمـا ُفتِ ُنـواْ ُثـ َّم َجٰ َهـ ُدواْ َو َصـ َ ُر ٓواْ إِ َّن َر َّبـ َك ِمـ ۢن َب ۡع ِد َهـا لَ َغ ُفــورَّ ٞر ِحيــ ٞم [ ﴾١١٠النحـل]. عــن أُســيد بــن ُح َضيــر أن رجــ ًا أتــى النبــ َّي ﷺ فقــال :يــا رســول الله.. اسـتعمل َت فلانًـا ولـم تسـتعملني ،فقـال النبـي ﷺ« :إنكـم سـترون بعـدي أُثْـرة ـ وفـي لفـظ :سـتلقون بعـدي أُثْـرة ـ فاصبـروا حتـى تلقونـي علـى الحـوض»(.)1 ( )1أخرجه البخاري في كتاب فضائل الصحابة ،باب قول النبي ﷺ للأنصار« :اصبروا حتى تلقوني على الحوض» ،33/5:رقم ( ،)3792ومسلم في كتاب الإمارة ،باب الأمر بالصبر عند ظلم الولاة ،1474/3:رقم ( ،)1845و(الأُ ْثرة) :الانفراد بالشيء المشترك دون من يشركه فيه ،وقيل :الشدة. 94
وعـن أبـي سـعيد الخـدري :أن أناسـاً مـن الأنصـار سـألوا رسـول الله ﷺ، فلـم يسـأله أحـد منهـم إلا أعطـاه حتـى نفـد مـا عنـده ،فقـال لهـم حيـن نفـد كل شـيء أنفـق بيديـه ﷺ« :مـا يكـن عنـدي مـن خيـر لا أدخـره عنكـم ،وإنـه مـن يسـتعف يعفـه الله ،ومـن يتصبـر يصبـره الله ،ومـن يسـتغن يغنـه الله ،ولـن تعطـوا عطـاء خيـراً وأوسـع مـن الصبـر»( ،)1وذلـك أن الصبـر لا يعقبـه إلا السـعة واليسـر، قـال َ ﴿ :فـإِ َّن َمـ َع ٱ ۡل ُعـ ۡ ِر ي ُـ ۡ ًرا ٥إِ َّن َمـ َع ٱ ۡل ُعـ ۡ ِر ي ُـ ۡ ٗرا [ ﴾٦الشـرح]؛ ولـذا قـال عمـر « :وجدنـا خيـ َر عيشـنا بالصبـر»(.)2 ومن ليس في العز المنيع له كفو قال الشاعر: أَمَا والذي لا ُخلْ َد إلا لوجهه لقد يُجتَنى من ِغبِّه الثم ُر الحلو لئن كان بدء الصبر ُم ّر اً مذاقُهُ وعـن أنـس بـن مالـك قـال :قـال رسـول الله ﷺ« :يأتـي علـى النـاس زمان، الصابـر فيـه علـى دينـه ،كالقابـض على الجمـر»(.)3 قـال الطيبـي\" :المعنـى :كمـا لا يقـدر القابـض علـى الجمـر أن يصبـر لإحـراق يــده ،كذلــك المتديــن يومئــ ٍذ لا يقــدر علــى ثباتــه علــى دينــه لغلبــة العصــاة والمعاصــي وانتشــار الفســق وضعــف الإيمــان\"(.)4 وقـال القـاري\" :الظاهـر أن معنـى الحديـث :كمـا لا يمكـن القبض علـى الجمرة إلا بصبـر شـديد وتح ُّمـل غلبـة المشـقة كذلـك فـي ذلـك الزمـان ،لا يتصـور حفـ ُظ دينـه ونـور إيمانـه إلاَّ بصبر عظيـم\"(.)5 ( )1أخرجه البخاري في كتاب الزكاة ،باب الاستعفاف في المسألة ،122/3:رقم ( ،)1469ومسلم في كتاب الزكاة ،باب فضل التعفف والصبر ،729/2:رقم (.)1053 ( )2أخرجه البخاري معلق ًا في كتاب الرقائق ،باب الصبر عن محارم الله.99/8: ( )3أخرجه الترمذي في الفتن ،باب ( ،256/4:)73رقم ( ،)2260وهو حديث صحيح بشواهده. ( )4انظر :تحفة الأحوذي.539/6: ( )5انظر :المصدر السابق ،الموضع نفسه. 95
* الصبر على الجور والظلم: قـد يـرى الإنسـان مـن بعـض ولاة الأمـور مـا لا يرضـاه فـا يبـرر هـذا لـه أن يحمـل السـاح عليهـم بدعـوى الأمـر بالمعـروف والنهـي عـن المنكـر؛ ممـا يوقـظ الفتـن النائمـة ويدخـل الأمـة فـي أتـون الصـراع الداخلـي بيـن أفرادهـا، وكذلــك ليــس لــه أن يوغــر صــدور الرعيــة علــى حكامهــا بقــول أو فعــل بــل يجــب عليــه أن يصبــر ويعمــل علــى تهدئــة النــاس إذا ثــارت عواطفهــم، ويذكرهـم بالأحاديـث النبويـة التـي تأمرنـا بالصبـر علـى مـا نـرى مـن الحـكام فـي آخـر الزمـان مـع بـذل النصيحـة لهـم كلمـا سـنحت الفرصـة ،مخلصيـن فـي النصيحـة ،محتسـبين الأجـر والمثوبـة عنـد الله تعالـى ،قاصديـن بذلـك درء الفتــن عــن الأمــة ،وســد منافذهــا ،وإطفــاء ضرامهــا ،وهــذا ومــا وجهنــا إليــه رسـول الله ﷺ فـي كثيـر مـن أحاديثـه الشـريفة. فعـن الزبيـر بـن عـدي رحمـه الله قـال :أتينـا أنـس بـن مالـك فشـكونا إليـه مـا نلقـى مـن الحجـاج ،فقـال« :اصبـروا ،فإنـه لا يأتـي عليكـم زمـان إلا الـذي بعـده شـر منـه ،حتـى تلقـوا ربكـم» .سـمعته مـن نبيكـم ﷺ(.)1 قــال ابــن مفلــح رحمــه الله\" :وإ َّن عامــة الفتــن التــي وقعــت ،مــن أعظــم أسـبابها :قلـ ُة الصبـر ،إذ الفتنـة لهـا سـببان :إمـا ضعـف العلـم ،وإمـا ضعـف الصبـر ،فـإن الجهـل والظلـم أصـل الشـر ،وفاعـل الشـر إنمـا يفعلـه لجهلـه بأنــه شــر ،ولكــون نفســه تريــده ،فبالعلــم يــزول الجهــل ،وبالصبــر يُحبــ ُس الهــوى والشــهوة ،فتــزول الفتنــة\"(.)2 ( )1أخرجه البخاري في كتاب الفتن ،باب لا يأتي زمان إلا الذي بعده ش ٌّر منه ،2591/6:رقم (.)6657 ( )2انظر :الفروع ،لابن مفلح.181/10: 96
يقـول صاحـب إعـام الموقعيـن« :فـإذا كان إنـكار المنكـر يسـتلزم مـا هـو أنكــر منــه ،وأبغــض إلــى الله ورســوله ،فإنــه لا يســوغ إنــكاره ،وإن كان الله يبغضـه ويمقـت أهلـه.)1(» ... ، ومـن تأمـل مـا جـرى علـى الإسـام والمسـلمين مـن الفتـن الكبـار والصغـار، رآهـا مـن إضاعـة هـذا الأصـل ،وذلـك بطلـب إزالـة المنكـر ،وعـدم الصبـر عليـه، فتولـد منـه مـا هـو أكبـر منـه! فقـد كان ﷺ يـرى بمكـة أكبـر المنكـرات ولا يغيرها، بـل لمـا فتـح الله مكـة ،وصـارت دار إسـام ،عـزم علـى تغييـر البيـت ،ورده علـى قواعـد إبراهيـم ،ومنعـه مـن ذلـك مـع قدرتـه عليـه ،خشـية وقـوع مـا هـو أعظـم منـه ،مـن عـدم احتمـال قريـش ذلـك ،لقـرب عهدهـم بالإسـام ،وكونهـم حديثـي عهـد بكفـر ،ولهـذا لـم يـأذن فـي الإنـكار علـى الأمـراء باليـد ،لمـا يترتـب عليـه مـن وقـوع مـا هـو أعظـم منـه فإنـكار المنكـر أربـع درجـات: الأولى :أن يزول ،ويخلفه المعروف ،وفي هذا خير كبير. الثانية :أن يقل ،وإن لم يزل بجملته ،وهذا أمر مشروع فيه خير. الثالثة :أن يخلفه ما هو مثله من المنكر ،ولا يجوز. الرابعــة :أن يخلفــه مــا هــو شــر منــه ،وهــذا محــرم لا يجــوز الإقــدام عليــه، وهــذا مـا نرتـه فـي الفتـن. هكــذا بيّــن العلمــاء ضوابــط وآداب الأمــر بالمعــروف والنهــي عــن المنكــر، فنصحـوا الأمـة ،وأدوا الأمانـة ،وغفـل عنهـا كثير مـن المسـلمين ،فذاقـوا الويلات، وتوالـت عليهـم النكبـات. ( )1انظر :إعلام الموقعين.4/3: 97
السعادة في اجتناب الفتن: تكمـن سـعادة المـرء فـي سـامته ممـا يعكـر صفـو حياتـه الماديـة والمعنويـة، والفتـ ُن تـورث مـن يخـوض مضمارهـا القلـق والهـم والغـم والنـدم والتأنيـب، لذلـك فـإن أعظـم السـعادة أن ينـأى الإنسـان بنفسـه عـن الفتـن ،ويبتعـد عـن أهلهـا ،ليسـلم بدينـه ونفسـه وأهلـه ومالـه. لذلـك جـاء فـي الحديـث عـن المقـداد بـن الأسـود قـال :وايـم الله ،لقـد ســمعت رســول الله ﷺ يقــول« :إ َّن الســعيد لمــن جنــب الفتــن ـ قالهــا ثلاثــاً ـ ولمـن ابتلـى فصبـر ،فواهـاً»(.)1 عـن يزيـد بـن أبـي عبيـد قـال« :لمـا قُتـ َل عثمـا ُن خـرج سـلمة بـن الأكـوع إلـى الربـذة ( ،)2وتـزوج هنـاك امـرأة وولـدت لـه أولاداً فلـم يـزل بهـا حتـى قبـل أن يمـوت بليـال نـزل المدينـة»(.)3 وفـي روايـة« :أن سـلمة دخـل علـى الحجـاج ،فقـال :يـا ابـن الأكـوع ارتــددت علــى عقبيــك ،تع ّربــت()4؟ قــال :لا ،ولكــن رســول الله ﷺ أذن لــي فـي البـدو»(.)5 ( )1أخرجه أبو داود في كتاب الفتن ،باب في النهي عن السعي في الفتنة ،164/4:رقم (، )4265 و(فواه ًا) :من التلهف والتحسر ،أي :واه ًا لمن باشر الفتن ,ة وسعى فيها .انظر :عون المعبود شرح سنن أبي داود.345/11: ( )2الربذة :موضع بالبادية بين مكة والمدينة المنورة. ( )3أخرجه البخاري في كتاب الفتن ،باب التعرب في الفتن ،2597/6:رقم (.)6676 ( )4التع ُّرب :أي السكنى مع الأعراب ،وهو أن ينتقل المهاجر من البلد التي هاجر منها فيسكن البدو فيرجع بعد هجرته أعرابي ًا .انظر :فتح الباري. 41/13 : ( )5أخرجه البخاري في كتاب الفتن ،باب التعرب في الفتن ،2597/6:رقم ( ،)6676ومسلم في كتاب الإمارة ،باب تحريم رجوع المهاجر إلى استيطان وطنه ،1956/4:رقم (.)1862 98
Search
Read the Text Version
- 1
- 2
- 3
- 4
- 5
- 6
- 7
- 8
- 9
- 10
- 11
- 12
- 13
- 14
- 15
- 16
- 17
- 18
- 19
- 20
- 21
- 22
- 23
- 24
- 25
- 26
- 27
- 28
- 29
- 30
- 31
- 32
- 33
- 34
- 35
- 36
- 37
- 38
- 39
- 40
- 41
- 42
- 43
- 44
- 45
- 46
- 47
- 48
- 49
- 50
- 51
- 52
- 53
- 54
- 55
- 56
- 57
- 58
- 59
- 60
- 61
- 62
- 63
- 64
- 65
- 66
- 67
- 68
- 69
- 70
- 71
- 72
- 73
- 74
- 75
- 76
- 77
- 78
- 79
- 80
- 81
- 82
- 83
- 84
- 85
- 86
- 87
- 88
- 89
- 90
- 91
- 92
- 93
- 94
- 95
- 96
- 97
- 98
- 99
- 100
- 101
- 102
- 103
- 104
- 105
- 106
- 107
- 108
- 109
- 110
- 111
- 112
- 113
- 114
- 115
- 116
- 117
- 118
- 119
- 120
- 121
- 122
- 123
- 124
- 125
- 126
- 127
- 128
- 129
- 130
- 131
- 132
- 133
- 134
- 135
- 136
- 137
- 138
- 139
- 140
- 141
- 142
- 143
- 144
- 145
- 146
- 147
- 148
- 149
- 150
- 151
- 152
- 153
- 154
- 155
- 156
- 157
- 158
- 159
- 160
- 161
- 162
- 163
- 164
- 165
- 166
- 167
- 168
- 169
- 170
- 171
- 172
- 173
- 174
- 175
- 176
- 177
- 178
- 179
- 180
- 181
- 182
- 183
- 184
- 185
- 186
- 187
- 188
- 189
- 190
- 191
- 192
- 193
- 194
- 195
- 196
- 197
- 198
- 199
- 200
- 201
- 202
- 203
- 204
- 205
- 206
- 207
- 208
- 209
- 210