Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore منهج أهل الإيمان للعصمة من فتن آخر الزمان - الدكتور خالد الياسين

منهج أهل الإيمان للعصمة من فتن آخر الزمان - الدكتور خالد الياسين

Published by ialamareen, 2021-08-25 09:12:17

Description: منهج أهل الإيمان للعصمة من فتن آخر الزمان - الدكتور خالد الياسين

Search

Read the Text Version

‫* الفتن من علامات الساعة‪:‬‬ ‫جعـل الله تعالـى بيـن يـدي السـاعة أمـارات وعلامـات دالة علـى قـرب وقوعها‪،‬‬ ‫ليكـون المؤمـن علـى حـذر منهـا‪ ،‬ويقظـة تامة فـي أقوالـه وأفعالـه‪ ،‬واسـتعداد كامل‬ ‫فـي أعمالـه وطاعاته‪.‬‬ ‫ومـن هـذه الأمـارات تزايـد الفتـن وغزارتهـا كلمـا ابتعدنـا عـن عصـر النبـوة‬ ‫والرعيـل الأول‪ ،‬لتكـون إرهاصـات بيـن يـدي السـاعة‪ ،‬ومقدمـة لقـرب وقوعهـا‪،‬‬ ‫وهـذا مـا بينـه رسـول الله ﷺ فـي بعـض أحاديثـه‪:‬‬ ‫فعـن عـوف بـن مالـك الأشـجعي ‪ ‬قـال‪« :‬أتيـت النبـي ﷺ فسـلمت عليـه‪،‬‬ ‫فقـال‪ :‬عـوف‪ ،‬فقلـت‪ :‬نعـم‪ ،‬فقـال‪ :‬ادخـل‪ .‬قـال‪ :‬قلـت‪ :‬كلـي أو بعضـي(‪ ،)1‬قـال‪:‬‬ ‫بـل كلـك‪ ،‬قـال‪ :‬يـا عـوف‪ ،‬اعـدد سـتاً بيـن يـدي السـاعة‪ :‬أولهـن موتـي‪ ،‬قـال‪:‬‬ ‫فاســتبكيت‪ ،‬حتــى جعــل رســول الله ﷺ يســكتني‪ ،‬قــال قلــت‪ :‬إحــدى‪ ،‬والثانيــة‬ ‫فتـح بيـت المقـدس‪ ،‬قلـت‪ :‬اثنيـن‪ ،‬والثالثـة ُم ْوتـان(‪ )2‬يكـون فـي أمتـي‪ ،‬يأخذهـم‬ ‫مثــل قعــاص الغنــم(‪ ،)3‬قــال‪ :‬ثلاثــاً‪ ،‬والرابعــة فتنــة تكــون فــي أمتــي وعظمهــا‪،‬‬ ‫قـل‪ :‬أربعـاً‪ ،‬والخامسـة يفيـض المـال فيكـم حتـى إن الرجـل ليعطـى المائـة دينـار‬ ‫فيتســخطها‪ ،‬قــل‪ :‬خمســاً‪ ،‬والسادســة هدنــة تكــون بينكــم وبيــن بنــي الأصفــر(‪)4‬‬ ‫فيسـيرون إليكـم علـى ثمانيـن غايـة‪ ،‬قلـت‪ :‬ومـا الغايـة؟ قـال‪ :‬الرايـة تحـت كل‬ ‫(‪ )1‬لضيق المكان فيما يبدو‪ ،‬حيث ذكر في رواية البخاري أنه ﷺ كان في قبة من أدم‪.‬‬ ‫(‪ُ )2‬م ْوتان‪ :‬على وزن بطلان‪ ،‬المو ُت الكثير الوقوع‪ ،‬وباء أو موت يقع في الماشية‪ .‬فتح الباري‪ ،‬لابن‬ ‫حجر‪ ،278/6:‬ولسان العرب‪ ،‬لابن منظور‪ ،‬مادة (موت)‪.90/2:‬‬ ‫(‪ )3‬قعاص الغنم‪ :‬داء يأخذ الدواب فيسيل من أنوفها شيء فتموت فجأة‪ .‬فتح الباري‪ ،‬لابن حجر‬ ‫العسقلاني‪.278/6:‬‬ ‫(‪ )4‬بنو الأصفر‪ :‬هم الروم‪ .‬كما في فتح الباري‪.278/6:‬‬ ‫‪49‬‬

‫رايـة اثنـا عشـر ألفـاً‪ ،‬فسـطاط(‪ )1‬المسـلمين يومئـذ فـي أرض يقـال لهـا الغوطـة فـي‬ ‫مدينـة يقـال لهـا دمشـق»(‪.)2‬‬ ‫* كثرة القتل في الفتن آخر الزمان‪:‬‬ ‫إن أسـوء مـا فـي الفتـن هـو كثـرة القتـل وإراقـة الدمـاء البريئـة‪ ،‬التـي تسـيل مـن‬ ‫رحـى الحـروب والملاحـم‪ ،‬والاقتتـال الداخلـي بيـن أبنـاء الأمـة الواحـدة‪ ،‬حيـث‬ ‫يسـقط فـي أثنـاء ذلـك الأطفـال والنسـاء والشـيوخ والأبريـاء ضحايـا نيـران هـذه‬ ‫الفتـن التـي تفتـك بالبـاد والعبـاد والحجـر والمـدر والنبـات والحيـوان‪.‬‬ ‫وهذا ما أخبر عنه رسول الله ﷺ في عد ٍد من أحاديثه الشريفة‪ ،‬منها‪:‬‬ ‫مـا جـاء عـن عبـد الله بـن مسـعود ‪ ‬أن رسـول الله ﷺ قـال‪« :‬يكـون فـي هـذه‬ ‫الأمـة أربـع فتـن‪ ،‬فـي آخرهـا الفنـاء»(‪.)3‬‬ ‫عــن ســعيد بــن زيــد ‪ :‬قــال‪ :‬كنــا عنــد رســول الله ﷺ‪ ،‬فذكــر فتنــة ع ّظــم‬ ‫أمرهـا‪ ،‬فقلنـا‪ :‬يـا رسـول الله‪ :‬لئـن أدركتنـا هـذه لنهلكـن‪ ،‬فقـال رسـول الله ﷺ‪:‬‬ ‫«كلا إن بحســبكم القتــل»(‪.)4‬‬ ‫عـن أبـي هريـرة ‪ ‬قـال‪ :‬قـال رسـول الله ﷺ‪« :‬والـذي نفسـي بيـده‪ ،‬لا تذهـب‬ ‫(‪ )1‬الفسطاط‪ :‬المدينة التي فيها مجتمع الناس‪ .‬النهاية‪ ،‬لابن الأثير‪.445/3:‬‬ ‫(‪ )2‬أخرجه البخاري في كتاب الجزية والموادعة‪ ،‬باب ما يحذر من الغدر‪ ،1159/3:‬رقم (‪ ، )3005‬والإمام‬ ‫أحمد في مسند عوف ابن مالك الأشجعي ‪ ،411/39:‬رقم (‪ ،)23985‬وفي رواية البخاري عن‬ ‫الفتنة‪« :‬ثم فتنة لا تبقي بيت ًا من العرب إلا دخلته»‪ ،‬وفي رواية الإمام أحمد‪ 195/11 :‬رقم (‪)6623‬‬ ‫عن عبد الله بن عمر ‪ ‬أن الرابعة‪« :‬وهدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر‪ ،‬فيجمعون لكم تسعة أشهر‪،‬‬ ‫كقدر حمل المرأة‪ ،‬ثم يكونون أولى بالعدل منكم»‪.‬‬ ‫(‪ )3‬أخرجه أبو داود في كتاب الفتن‪ ،‬باب ذكر الفتن ودلائلها‪ ،152/4:‬رقم (‪ ،)4243‬وفيه راو مجهول‪.‬‬ ‫(‪ )4‬أخرجه أبو داود في الفتن‪ ،‬باب ما يرجى في القتل‪ ،169/4:‬رقم (‪ .)4279‬قال سعيد بن زيد ‪:‬‬ ‫«فرأيت إخواني ُقتِلوا»‪.‬‬ ‫‪50‬‬

‫الدنيـا حتـى يأتـي علـى النـاس يـوم‪ ،‬لا يـدري القاتـل فيـم قتـل‪ ،‬ولا المقتـول فيـم‬ ‫قتـل»‪ .‬فقيـل‪ :‬كيـف يكـون ذلـك؟ قـال‪« :‬الهـرج‪ ،‬القاتـل والمقتول فـي النـار»(‪.)1‬‬ ‫* أكثر ضحايا الفتن الأبرياء والصالحون‪:‬‬ ‫وإذا أمعنــا النظــر فيمــا تخلفــه الفتــن مــن ضحايــا بشــرية‪ ،‬فإنَّــا نجــد أكثــر‬ ‫ضحاياهـا مـن الأطفـال والنسـاء والشـيوخ الأبريـاء‪ ،‬الذيـن يقضـون تحـت سـنابك‬ ‫خيـول مشـعلي الفتـن والنافخيـن فـي كيرهـا‪ ،‬وفـي كثيـر مـن الأحيـان تـدور رحـى‬ ‫المـوت والهـاك والتشـرد والدمـار علـى الصالحيـن والمصلحيـن مـن العلمـاء‬ ‫والدعــاة‪ ،‬ســعياً مــن أهــل الباطــل فــي إخمــاد صــوت الحــق‪ ،‬كيــا تُكشــف‬ ‫مخططاتهـم الراميـة إلـى تدميـر البـاد والقضـاء علـى العبـاد‪.‬‬ ‫عن سعيد بن المسيب رحمه الله قال‪ :‬وقعت الفتنة الأولى ـ يعني مقتل عثمان ‪ ‬ـ‬ ‫فلم تُبق من أصحاب بدر أحداً‪ ،‬ثم وقعت الفتنة الثانية ـ يعني الحرة(‪)2‬ـ فلم تبق‬ ‫من أصحاب الحديبية أحداً‪ ،‬ثم وقعت الثالثة‪ ،‬فلم ترتفع وللناس َطبَاخ (‪.)3‬‬ ‫عـن حذيفـة ‪ ‬قـال‪ :‬كنـا مـع رسـول الله ﷺ فقـال‪« :‬أحصـوا لـي كـم يلفـظ‬ ‫الإسـام»‪ .‬قـال‪ :‬فقلنـا‪ :‬يـا رسـول الله! أتخـاف علينـا‪ ،‬ونحـن مـا بيـن السـتمئة إلى‬ ‫السـبعمئة؟ قـال ﷺ‪« :‬إنكـم لا تـدرون‪ ،‬لعلكـم أن تبتلـوا»‪ ،‬قـال‪ :‬فابتلينـا‪ ،‬حتـى‬ ‫جعـل الرجـل منـا لا يصلـي إلا سـراً(‪.)4‬‬ ‫(‪ )1‬أخرجه مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة‪ ،‬باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر‪ 2749/5:...‬رقم (‪.)2908‬‬ ‫(‪ )2‬فتنة الحرة‪( :‬الحَ َّرة) بالفتح والتشديد‪ ،‬هي أرض ذات حجارة سود‪ ،‬والمراد‪ :‬حرة المدينة المنورة‪ ،‬وقعت فيها حرب بين‬ ‫جيش الشام وبين الخارجين على يزيد بن معاوية من أهل المدينة‪ُ ،‬أصيب فيها من قريش والأنصار أكثر من ثلاثمئة‬ ‫رجل‪ ،‬كما في تاريخ خليفة بن خياط‪ :‬ص‪.250‬‬ ‫(‪ )3‬أخرجه البخاري في كتاب المغازي‪ ،‬باب شهود الملائكة بدر ًا‪ ،1475/4:‬رقم (‪ ،)3800‬قال ابن حجر العسقلاني‪:‬‬ ‫«قال ابن عبد الحكم هو يوم خروج أبي حمزة الخارجي‪ ،‬قلت‪ :‬كان ذلك في خلافة مروان بن محمد بن مروان بن‬ ‫الحكم سنة ثلاثين ومائة»‪ .‬و\"طباخ‪ :‬قوة‪ ،‬قال الخليل‪ :‬أصل (الطباخ) السمن والقوة‪ ،‬ويستعمل في العقل والخير\"‪.‬‬ ‫انظر‪ :‬فتح الباري‪ .325/7:‬والمراد والله أعلم أنها لم ُتب ِق من الصحابة أحد ًا ُير َج ُع إليه‪.‬‬ ‫(‪ )4‬أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير‪ ،‬باب كتابة الإمام للناس‪ ،1114/3:‬رقم (‪ ،)2895‬ومسلم في كتاب‬ ‫الإيمان‪ ،‬باب الاستسرار بالإيمان للخائف‪ 300/1:‬رقم (‪ .)149‬قال الإمام النووي‪« :‬وأما قوله ابتلينا فجعل‬ ‫الرجل لا يصلي إلا سر ًا فلعله كان في بعض الفتن التى جرت بعد النبي ﷺ فكان بعضهم يخفي نفسه ويصلي سر ًا‬ ‫مخافة من الظهور والمشاركة في الدخول في الفتنة والحروب والله أعلم»‪ .‬شرح صحيح مسلم‪.180 ،179/2:‬‬ ‫‪51‬‬

‫علامات ظهور الفتن‪:‬‬ ‫* استشهاد سيدنا عمر ‪ ‬كسر لباب الفتن‪:‬‬ ‫بيَّـن لنـا رسـول الله ﷺ أن الفتـن مصفـدة خلـف أبـواب موصـدة فـي غياهـب‬ ‫القـدر الـذي لا يعلمـه إلا الله تعالـى‪ ،‬فمـن فتـح أحـد هـذه الأبـواب اندلقـت عليـه‬ ‫مـا وراءهـا مـن الفتـن كالسـيل الجـارف ينحـط مـن صبـب‪ ،‬وشـاء الله تعالـى أن‬ ‫يجعـل سـيدنا عمـر بـن الخطـاب ‪ ‬كال َغلَـ ِق لبـاب فتـن عظيمـة‪ ،‬مـا إن يُكسـر هذا‬ ‫البـاب حتـى تندلـق الفتـن علـى الأمـة كالسـيل الجـارف‪.‬‬ ‫فعـن حذيفـة بـن اليمـان ‪ ‬قـال‪« :‬كنـا جلوسـا عنـد عمـر ‪ ‬فقـال‪ :‬أيكـم‬ ‫يحفـظ قـول رسـول الله ﷺ فـي الفتنـة؟ قلـت‪ :‬أنـا كمـا قالـه‪ .‬قـال إنـك عليـه ـ‬ ‫أو عليهـا ـ لجـريء‪ ،‬قلـت‪ :‬فتنـة الرجـل فـي أهلـه ومالـه وولـده وجـاره‪ ،‬تك ِّفرهـا‬ ‫الصـاة والصـوم والصدقـة والأمـر والنهـي‪ ،‬قـال‪ :‬ليـس هـذا أريـد‪ ،‬ولكـن الفتنـة‬ ‫التـي تمـوج كمـا يمـوج البحـر‪ ،‬قـال‪ :‬ليـس عليـك منهـا بـأس يـا أميـر المؤمنيـن‪،‬‬ ‫إن بينــك وبينهــا بابــاً مغلقــاً‪ ،‬قــال‪ :‬أيكســر أم يفتــح؟ قلــت‪ :‬يكســر‪ ،‬قــال‪ :‬إذاً لا‬ ‫يغلــق أبــداً‪ ،‬قلنــا‪ :‬أكان عمــر ‪ ‬يعلــم البــاب؟ قــال‪ :‬نعــم‪ ،‬كمــا أن دون الغــد‬ ‫الليلـة‪ ،‬إنـي حدثتـه بحديـث ليـس بالأغاليـط‪ ،‬فهبنـا أن نسـأل حذيفـة ‪ ،‬فأمرنـا‬ ‫مسـروقاً فسـأله‪ ،‬فقـال‪ :‬البـاب عمـر ‪.)1(»‬‬ ‫عـن أبـي ذر الغفـاري ‪ ‬أنـه لقـي عمـر بـن الخطـاب ‪ ،‬فأخـذ بيـده فغمزهـا‪،‬‬ ‫وكان عمــر رجــاً شــديداً‪ ،‬فقــال أبــو ذر ‪ :‬أرســل يــدي يــا قفــل الفتنــة‪ ،‬فقــال‬ ‫عمــر ‪ :‬ومــا قفــل الفتنــة؟ قــال أبــو ذر ‪ :‬جئــت رســول الله ﷺ ذات يــوم‪،‬‬ ‫ورسـول الله ﷺ جالـس‪ ،‬وقـد اجتمـع عليـه النـاس‪ ،‬فجلسـت فـي آخرهـم‪ ،‬فقـال‬ ‫رسـول الله ﷺ‪« :‬لا تصيبكـم فتنـة مـا دام هـذا فيكـم»‪ ،‬وأشـار بيـده إلى عمـر ‪.)2(‬‬ ‫(‪ )1‬أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة‪ ،‬باب الصلاة كفارة‪ ،196/1:‬رقم (‪ ،)502‬ومسلم في كتاب‬ ‫الإيمان‪ ،‬باب رفع الأمانة والإيمان من القلوب‪ ،296/1:‬رقم (‪.)144‬‬ ‫(‪ )2‬قال الإمام الهيثمي في مجمع الزوائد‪\" :74/9 :‬أخرجه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح غير‬ ‫السري بن يحيى‪ ،‬وهو ثقة ثبت ولكن الحسن البصري لم يسمع من أبي ذر فيما أظن\"‪.‬‬ ‫‪52‬‬

‫عــن قدامــة بــن مظعــون ‪ ‬أن عمــر بــن الخطــاب ‪ ‬أدرك عثمــان بــن‬ ‫مظعـون ‪ ،‬وهـو علـى راحلتـه‪ ،‬وعثمـان علـى راحلتـه‪ ،‬علـى ثنيـة الأثابـة مـن‬ ‫العـرج‪ ،‬فقطعـت راحلتـه راحلـة عثمـان ‪ ،‬وقـد مضـت راحلـة رسـول الله ﷺ‬ ‫أمـام الركـب‪ ،‬فقـال عثمـان بـن مظعـون ‪ :‬أوجعتنـي يـا َغلَـق الفتنـة‪ ،‬فلمـا‬ ‫استســهلت الرواحــل‪ ،‬دنــا منــه عمــر بــن الخطــاب ‪ ،‬فقــال‪ :‬يغفــر الله لــك‬ ‫أبـا السـائب‪ ،‬مـا هـذا الاسـم الـذي سـميتنيه؟ فقـال‪ :‬لا والله مـا أنـا سـميتكه‪،‬‬ ‫سـ َّماكه رسـول الله ﷺ‪ ،‬هـذا هـو أمـام الركـب يقـدم القـوم‪ ،‬مـررت يومـاً ونحـن‬ ‫جلـوس مـع رسـول الله ﷺ‪ ،‬فقـال‪« :‬هـذا غلـق الفتنـة ـ وأشـار بيـده ـ لا يـزال‬ ‫بينكـم وبيـن الفتنـة بـاب شـديد الغلـق‪ ،‬مـا عـاش هـذا بيـن ظهرانيكـم»(‪.)1‬‬ ‫وعـن خالـد بـن الوليـد ‪ ‬قـال‪ :‬كتـب إلـ َّي أميـر المؤمنيـن حيـن ألقـى الشـامُ‬ ‫بَوانِيَـ ُه بَثْنِيَّـةً(‪ )2‬و َع َسـ ًا‪ ،‬فأمرنـي أن أسـير إلـى الهنـد‪ ،‬والهنـد فـي أنفسـنا يومئـ ٍذ‬ ‫البصـرة‪ ،‬قـال‪ :‬وأنـا لذلـك كاره‪ ،‬قـال‪ :‬فقـام رجـل فقـال لـي‪ :‬يـا أبـا سـليمان‪،‬‬ ‫اتـق الله‪ ،‬فـإن الفتـن قـد ظهـرت‪ ،‬قـال‪ :‬فقـال‪« :‬وابـن الخطـاب حـي؟! إنمـا تكـون‬ ‫بعـده‪ ،‬والنـاس بـذي بِ ِليَّـان(‪ ،)3‬أو بـذي بليـان بمـكان كـذا وكـذا‪ ،‬فينظـر الرجـل‬ ‫فيتفكـر‪ :‬هـل يجـد مكانًـا لـم ينـزل بـه مثـ ُل مـا نـزل بمكانـه الـذي هـو فيـه مـن‬ ‫الفتنـة والشـر؟ فـا يجـده»‪ ،‬قـال‪« :‬وتلـك الأيـام التـي ذكـر رسـول الله ﷺ‪« :‬بيـن‬ ‫يـدي السـاعة ال َهـ ْرج»‪ ،‬فنعـوذ بـالله أن تدركنـا وإياكـم تلـك الأيـام»(‪.)4‬‬ ‫(‪ )1‬قال الهيثمي في مجمع الزوائد‪\" :73/9 :‬أخرجه الطبراني والبزار وفيه جماعة لم أعرفهم ويحيى بن‬ ‫المتوكل ضعيف\"‪.‬‬ ‫(‪ )2‬بوانيه‪ :‬خيره وما فيه من ال َّسعة والنعمة‪ .‬والبثنية‪ :‬الزبدة‪ .‬أي‪ :‬صارت كأنها زبدة وعسل؛ لأنها‬ ‫صارت ُتبى أموا ُلا من غير تعب‪.‬‬ ‫(‪ )3‬المراد‪ :‬إذا كانوا طوائف وفِرق ًا من غير إمام‪ ،‬وكل من بعد عنك حتى لا تعرف موضعه فهو بذي بِِ ِّل‪،‬‬ ‫وهو من‪َ :‬ب ِّل في الأرض إذا ذهب‪ ،‬وأراد ضياع أمور الناس بعده‪.‬‬ ‫(‪ )4‬أخرجه الإمام أحمد في مسنده‪ ،90/4:‬والطبراني في المعجم الكبير‪ ،116/4:‬رقم (‪.)3841‬‬ ‫‪53‬‬

‫* اختلاف الناس بعد موت خليفة‪:‬‬ ‫عـن أم سـلمة ‪ ‬قالـت‪ :‬قـال رسـول الله ﷺ‪« :‬يكـون اختـاف عنـد مـوت‬ ‫خليفــة‪ ،‬فيخــرج رجــل مــن أهــل المدينــة هاربــاً إلــى مكــة‪ ،‬فيأتيــه نــاس مــن‬ ‫أهـل مكـة فيخرجونـه وهـو كاره‪ ،‬فيبايعونـه بيـن الركـن والمقـام‪ ،‬ويبعـث إليـه‬ ‫بعــ ٌث مــن أهــل الشــام فيخســف بهــم بالبيــداء بيــن مكــة والمدينــة‪ ،‬فــإذا رأى‬ ‫النــاس ذلــك أتــاه أبــدال(‪ )1‬الشــام‪ ،‬وعصائــب أهــل العــراق(‪ ،)2‬فيبايعونــه بيــن‬ ‫الركـن والمقـام‪ ،‬ثـم ينشـأ رجـل مـن قريـش أخوالـه كلـب‪ ،‬فيبعـث إليهـم بعثـاً‪،‬‬ ‫فيظهـرون عليهـم‪ ،‬وذلـك بعـث كلـب ـ والخيبـة لمـن لـم يشـهد غنيمـة كلـب ـ‬ ‫فيَقسـ ُم المـا َل‪ ،‬ويعمـ ُل فـي النـاس بسـنة نبيهـم ﷺ‪ ،‬ويلقـي الإسـام بجرانـه فـي‬ ‫الأرض‪ ،‬فيلبـث سـبع سـنين‪ ،‬ثـم يتوفـى ويصلـي عليـه المسـلمون»(‪.)3‬‬ ‫* ترك واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪:‬‬ ‫ومـن خصائـص الفتـن أنهـا تنتشـر فـي جسـد الأمـة كانتشـار المـرض الخبيـث‬ ‫فـي البـدن‪ ،‬فـا يقـوى البـدن عندئـ ٍذ علـى مقاومتـه ودفـع ضـرره‪ ،‬فالفتـن إذا‬ ‫انتشـر ضرامهـا وعـ َّم ضررهـا‪ ،‬فـا يقـوى أهـل العلـم والصـاح والتقـوى علـى‬ ‫القيـام بواجـب الأمـر بالمعـروف والنهـي عـن المنكـر‪ ،‬بسـبب تغييـر المفاهيـم‪،‬‬ ‫واعوجـاج العقـول وضيـق الآفـاق واتبـاع الشـهوات والأهـواء‪.‬‬ ‫(‪ )1‬الأبدال‪ :‬هم الأولياء وال ُع َّباد‪ ،‬الواحد (بِ ْدل) كـ( ِ ْحل وأحمال)‪ ،‬و( َب َدل) كـ(جمل)‪ُ ،‬سموا بذلك لأنهم كلما‬ ‫مات واحد منهم ُأ ْب ِدل بآخر‪ .‬انظر‪ :‬النهاية في غريب الحديث‪ ،‬لابن الأثير‪.107/1:‬‬ ‫(‪ )2‬العصائب‪ :‬جمع (عصابة)‪ ،‬وهم الجماعة من الناس ـ من العشرة إلى الأربعين ـ ولا واحد لها من لفظها‪،‬‬ ‫والمراد‪ :‬أن التجمع للحروب يكون بالعراق‪ .‬وقيل‪ :‬أراد جماعة من الزهاد سماهم بـ(العصائب)‪ .‬انظر‪:‬‬ ‫النهاية‪ ،‬لابن الأثير‪.243/3:‬‬ ‫(‪ )3‬أخرجه أبو داود في كتاب المهدي‪ ،‬باب‪ 175/4 :‬رقم (‪ ،)4288‬واللفظ له‪ ،‬والإمام أحمد ‪ 286/44‬رقم‬ ‫(‪ ،)26689‬في مسند أم سلمة ‪ ،‬وابن حبان ‪ 158/15‬رقم (‪ )6757‬في كتاب التاريخ‪ ،‬باب إخباره ﷺ‬ ‫عما يكون في أمته من الفتن والحوادث‪ .‬قال ابن الأثير في جامع الأصول ‪( :28/10‬ال ِج َران)‪ :‬باطن العنق‪،‬‬ ‫والجمع‪ُ :‬ج ُرن‪ ،‬والمعنى‪ :‬أنه قد ق َّر قراره واستقام‪ ،‬كما أن البعير إذا برك واستراح َم َّد ِج َرا َن ُه على الأرض‪.‬‬ ‫‪54‬‬

‫فعــن أبــي أمامــة الشــعباني رحمــه الله قــال‪ :‬ســألت أبــا ثعلبــة ال ُخ َشــني ‪‬‬ ‫ـواْ‬ ‫َّ‬ ‫َ ٰٓي َأ ُّي َه‬ ‫َءا َم ُن‬ ‫ـ َن‬ ‫ٱ ِلي‬ ‫ـا‬ ‫﴿‬ ‫الآيـة‪:‬‬ ‫ـذه‬ ‫ه‬ ‫فـي‬ ‫ـول‬ ‫تق‬ ‫كيـف‬ ‫ـة‪،‬‬ ‫ثعلب‬ ‫أبـا‬ ‫يـا‬ ‫ـت‪:‬‬ ‫قل‬ ‫ـال‪:‬‬ ‫ق‬ ‫أَن ُف َس‬ ‫ـال‪:‬‬ ‫ق‬ ‫[الآية‪/‬المائـدة‪]105:‬؟‬ ‫ـ ۡم﴾‬ ‫ٱ ۡه َت َد ۡي ُت‬ ‫إِ َذا‬ ‫ـ َّل‬ ‫َض‬ ‫ـن‬ ‫َّم‬ ‫ـم‬ ‫يَ ُ ُّض ُك‬ ‫َ‬ ‫ـ ُك ۡمۖ‬ ‫ـ ۡم‬ ‫َع َل ۡي ُك‬ ‫ل‬ ‫أمـا والله لقـد سـألت عنهـا خبيـراً‪ ،‬سـألت عنهـا رسـول الله ﷺ فقـال‪« :‬ائت ِمـروا‬ ‫بالمعــروف‪ ،‬وانتهــوا عــن المنكــر حتــى إذا رأيتــم شــحاً مطاعــاً‪ ،‬وهــو ًى متبعــاً‪،‬‬ ‫ودنيـا مُؤثَـرة‪ ،‬وإعجـا َب كل ذي رأي برأيـه‪ ،‬فعليـك بنفسـك‪ ،‬ودع عنـك العـوام‪،‬‬ ‫فـإن مـن ورائكـم أيـام الصبـر‪ ،‬الصبـر فيهـن مثـل القبـض علـى الجمـر‪ ،‬للعامـل‬ ‫فيهـن مثـل أجـر خمسـين رجـاً يعملـون مثـل عملكـم»(‪.)1‬‬ ‫وزاد أبـو داود فـي حديثـه‪ :‬قيـل‪ :‬يـا رسـول الله‪ ،‬أجـر خمسـين رجـاً منـا‪ ،‬أو‬ ‫منهـم؟ قـال‪« :‬بـل أجـر خمسـين رجـاً منكـم»‪.‬‬ ‫وعــن حذيفــة بــن اليمــان ‪ ‬قــال‪ :‬قلــت للنبــي ﷺ‪ :‬يــا رســول الله متــى‬ ‫يُتـ َرك الأمـ ُر بالمعـروف والنهـي عـن المنكـر‪ ،‬وهمـا سـيدا أعمـال أهـل البـر؟‬ ‫قـال ﷺ‪« :‬إذا أصابكـم مـا أصـاب بنـي إسـرائيل»‪ .‬قلـت‪ :‬يـا رسـول الله‪ ،‬ومـا‬ ‫أصـاب بنـي إسـرائيل؟ قـال ﷺ‪« :‬إذا داهـن ِخيا ُركـم فُ َّجاركـم‪ ،‬وصـار الفقـه فـي‬ ‫شـراركم‪ ،‬وصـار الملـك فـي صغا ِركـم‪ ،‬فعنـد ذلـك تلبسـكم فتنـة‪ ،‬تكـ ُّرون ويُ َكـ ُّر‬ ‫عليك ـم»(‪.)2‬‬ ‫(‪ )1‬أخرجه أبو داود في كتاب الملاحم‪ ،‬باب الأمر والنهي‪ ،215/4:‬رقم (‪ ، )2343‬والترمذي في كتاب‬ ‫التفسير‪ ،‬باب سورة المائدة‪ ،257/5:‬رقم (‪ ،)3058‬وقال الترمذي‪\" :‬هذا حديث حسن غريب\"‪ ،‬وابن‬ ‫ماجة في كتاب الفتن‪ ،1330/2 :‬رقم (‪ ،)4014‬والحاكم في المستدرك‪ ،‬كتاب الرقاق‪ ،358/4:‬رقم‬ ‫(‪ ، ،)7912‬وقال الحاكم‪\" :‬هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه\"‪ ،‬ووافقه الذهبي‪.‬‬ ‫(‪ )2‬قال الهيثمي في مجمع الزوائد‪\" :560/7:‬أخرجه الطبراني في الأوسط‪ ،‬وفيه عمار بن سيف وثقه العجلي‬ ‫وغيره‪ ،‬وضعفه جماعة‪ ،‬وبقية رجاله ثقات‪ ،‬وفي بعضهم خلاف\"‪.‬‬ ‫‪55‬‬

‫* تقارب الزمان‪:‬‬ ‫ومــن خصائــص الفتــن أن يتقــارب الزمــان فيهــا‪ ،‬بســبب فقــدان البركــة فــي‬ ‫الوقــت‪ ،‬فســرعان مــا ينقضــي اليــوم بــا فائــدة‪ ،‬والأســبوع والشــهر بــا عمــل‪،‬‬ ‫وتمضــي الســنون تتــرى مــن غيــر تحقيــق مــا يأملــه الإنســان‪.‬‬ ‫فعــن أبــي هريــرة ‪ ‬قــال‪ :‬قــال رســول الله ﷺ‪« :‬يتقــارب الزمــان‪ ،‬ويلقــى‬ ‫الشـح‪ ،‬وتظهـر الفتـن‪ ،‬ويكثـر الهـرج»‪ ،‬قالـوا‪ :‬يـا رسـول الله أيُّمـا هـو؟ قـال ﷺ‪:‬‬ ‫«القتـل القتـل»(‪.)1‬‬ ‫وعنـه ‪ ‬أيضـاً قـال‪ :‬قـال رسـول الله ﷺ‪« :‬لا تقـوم السـاعة حتـى يتقـارب‬ ‫الزمــان‪ ،‬فتكــون الســنة كالشــهر‪ ،‬ويكــون الشــهر كالجمعــة‪ ،‬وتكــون الجمعــة‬ ‫كاليــوم‪ ،‬ويكــون اليــوم كالســاعة‪ ،‬وتكــون الســاعة كاحتــراق الســعفة»(‪.)2‬‬ ‫* ضياع العهود والأمانات‪:‬‬ ‫ومـن خصائـص الفتـن أيضـاً ضيـاع العهـود والأمانـات فيهـا‪ ،‬حتـى يعـ َّز عليـك‬ ‫أن تجـد فـي القـوم رجـاً أمينـاً‪ ،‬يحفـظ العهـود والمواثيـق‪ ،‬وذلـك بسـبب تنكـر‬ ‫النــاس للشــرع الشــريف‪ ،‬وهجرهــم للكتــاب والســنة‪ ،‬وانهماكهــم فــي ملــذات‬ ‫الدنيــا الفانيــة‪ ،‬واللهــث وراء الشــهوات والأهــواء‪ ،‬فتــراه يضحــي بدينــه وأمانتــه‬ ‫وعهـوده فـي سـبيل الحصـول علـى َعـ َرض مـن الدنيـا قليـل‪ ،‬وهـذا مـا بينـه رسـول‬ ‫الله ﷺ فـي كثيـر مـن أحاديثـه‪.‬‬ ‫(‪ )1‬أخرجه البخاري في كتاب الفتن‪ ،‬باب ظهور الفتن‪ ،2590/6:‬رقم (‪.)6652‬‬ ‫(‪ )2‬أخرجه أحمد في مسند أبي هريرة ‪ ،550/16:‬رقم (‪ ، )10943‬وابن حبان في كتاب التاريخ‪ ،‬باب‬ ‫إخباره ﷺ عما يكون في أمته من الفتن والحوادث‪ ،256/15:‬رقم (‪ ،)6842‬والترمذي عن أنس ‪‬‬ ‫بلفظ مقارب في كتاب الزهد‪ ،‬باب تقارب الزمان وقصر الأمل‪ ،567/4:‬رقم (‪ ، )2332‬وقال الترمذي‪:‬‬ ‫\"هذا حديث غريب من هذا الوجه\"‪ .‬والسعفة‪ :‬جريد النخل اليابس‪.‬‬ ‫‪56‬‬

‫فعـن عبـد الله بـن عمـر ‪ ‬قـال‪« :‬شـبَّك النبـي ﷺ أصابعـه‪ ،‬وقـال‪ :‬كيـف‬ ‫أنــت يــا عبــد الله بــن عمــرو إذا بقيــت فــي حثالــة(‪ )1‬قــد م ِر َجــت (‪ )2‬عهودهــم‬ ‫وأمانتهـم‪ ،‬واختلفـوا وصـاروا هكـذا‪ ،‬قـال‪ :‬فكيـف أصنـع يـا رسـول الله؟ قـال‪:‬‬ ‫تأخـذ مـا تعـرف‪ ،‬وتـدع مـا تنكـر‪ ،‬وتقبـل علـى خاصتـك‪ ،‬وتـدع عوامهـم» (‪.)3‬‬ ‫وعـن عبـد الله بـن عمـرو ‪ ‬أن رسـول الله ﷺ قـال‪« :‬كيـف بكـم وبزمـا ٍن‬ ‫يوشــك أن يأتــي‪ ،‬يُ َغربَــ ُل النــا ُس فيــه غربلــ ًة(‪ ،)4‬وتبقــى ُحثالــ ٌة مــن النــاس قــد‬ ‫م ِر َجـت عهو ُدهـم وأماناتُهـم‪ ،‬فاختلفـوا‪ ،‬وكانـوا هكـذا؟ ـ وشـبَّك بيـن أصابعـه‬ ‫ـ قالـوا‪ :‬كيـف بنـا يـا رسـو َل الله! إذا كان ذلـك؟ قـال‪« :‬تأخـذون بمـا تعرفـون‪،‬‬ ‫وتَ َدعـون مـا تُنكـرون‪ ،‬وتُ ْقبِلـون علـى خا َّصتكـم‪ ،‬وتـذرون أمـ َر عوا ِّمكـم»(‪.)5‬‬ ‫وفـي روايـ ٍة قـال ابـن عمـرو ‪ :‬بينمـا نحـن حـول رسـول الله ﷺ إذ ذكـروا‬ ‫الفتنـة ـ أو ذكـرت عنـده ـ قـال ﷺ‪« :‬إذا رأيـت النـاس قـد مرجـت عهودهـم‪،‬‬ ‫وخفـت أماناتهـم‪ ،‬وكانـوا هكـذا ـ وشـبك بيـن أصابعـه(‪)6‬ـ» قـال‪ :‬فقمـت إليـه‪،‬‬ ‫فقلــت لــه‪ :‬كيــف أفعــل عنــد ذلــك جعلنــي الله فــداك؟ قــال‪« :‬الــزم بيتــك‪،‬‬ ‫(‪ )1‬الحثالة‪ :‬ال َّر ِديء من كل شيء‪ ،‬والمراد هنا‪ :‬أ َرا ِذ َلم‪ .‬انظر‪ :‬النهاية‪ ،‬لابن الأثير‪.339/1:‬‬ ‫(‪ )2‬مرجت‪ :‬اختلطت‪ .‬انظر‪ :‬النهاية‪ ،‬لابن الأثير‪.314/4:‬‬ ‫(‪ )3‬قال الحميدي في الجمع بين الصحيحين‪ 278/2 :‬رقم (‪\" :)1435‬وليس هذا الحديث في أكثر نسخ البخاري‪،‬‬ ‫وإنما حكى أبو مسعود‪ :‬أنه رآه في كتاب ابن رميح الفربري‪ ،‬وحماد بن شاكر‪ ،‬عن البخاري\"‪ ،‬كما أخرجه‬ ‫البخاري في صحيحه تعليق ًا‪ ،‬في كتاب أبواب المساجد‪ ،‬باب تشبيك الأصابع في المسجد‪ ،182/1:‬رقم‬ ‫(‪ .)466‬والإمام أحمد في مسند عبد الله بن عمرو ‪ ،54/11:‬رقم (‪ ، )6508‬وابن حبان في صحيحه‬ ‫باب ما جاء في الفتن‪ ،281/13:‬رقم (‪.)5951‬‬ ‫(‪ )4‬تغربل الناس في غربلة‪ :‬أي يذهب خيارهم ويبقى أراذلهم‪ .‬والمغربل‪ :‬المنتقى كأنه نقي بالغربال‪ .‬انظر‪ :‬النهاية‬ ‫لابن الأثير ‪.352/3‬‬ ‫(‪ )5‬أخرجه أبو داود في كتاب الملاحم‪ ،‬باب الأمر والنهي‪ ،216/4:‬رقم (‪ ،)4344‬وابن ماجه في كتاب الفتن‪،‬‬ ‫باب التثبت في الفتن‪ ،1307/2:‬رقم (‪ ،)3957‬والحاكم في المستدرك في كتاب قتال أهل البغي‪ ،171/2:‬رقم‬ ‫(‪ ،)2671‬وقال الحاكم‪\" :‬هذا حديث صحيح على شرط الشيخين‪ ،‬ولم يخرجاه بهذه السياقة\"‪ ،‬ووافقه الذهبي‪.‬‬ ‫(‪ )6‬قال الشيخ عبد العزيز عيون السود رحمه الله في خطبته‪ :‬أي يموج بعضهم في بعض‪ ،‬ويلتبس أمر دينهم‪ ،‬فلا‬ ‫يعرف الأمين من الخائن‪ ،‬ولا البر من الفاجر‪.‬‬ ‫‪57‬‬

‫واملـك(‪ )1‬عليـك لسـانك‪ ،‬وخـذ مـا تعـرف‪ ،‬ودع مـا تنكـر‪ ،‬وعليـك بأمـر خاصـة‬ ‫نفسـك‪ ،‬ودع عنـك أمـر العامـة»(‪.)2‬‬ ‫* تفرق الأمة إلى ِملل ونِ َحل‪:‬‬ ‫ومـن خصائـص الفتـن أيضـاً أنهـا تمـزق الأمـة إلـى جماعـات وفـرق متناحـرة‪ ،‬كل‬ ‫منهـم يـرى الحـق معـه والباطـل مـع غيـره‪ ،‬ممـا يزيـد فـي ضـرام الفتـن وتأجيـج لهيبهـا‪.‬‬ ‫فعـن عـوف بـن مالـك الأشـجعي ‪ ‬قـال‪ :‬قـال رسـول الله ﷺ‪« :‬كيـف أنـت‬ ‫يـا عـوف إذا افترقـت هـذه الأمـة علـى ثـاث وسـبعين فرقـة واحـدة فـي الجنـة‪،‬‬ ‫وسـائرهن فـي النـار؟»‪ .‬قلـت‪ :‬ومتـى ذلـك يـا رسـول الله؟ قـال ﷺ‪« :‬إذا كثـرت‬ ‫ال ُشـ َرط‪ ،‬وملكـت الإمـاء‪ ،‬وقعـدت الحمـان علـى المنابـر‪ ،‬واتخـذ القـرآن مزاميـر‪،‬‬ ‫وزخرفـت المسـاجد‪ ،‬ورفعـت المنابـر‪ ،‬واتخذ الفـيء دولاً‪ ،‬والـزكاة مغرمـاً‪ ،‬والأمانة‬ ‫مغنمـاً‪ ،‬وتفقـه فـي الديـن لغيـر الله‪ ،‬وأطـاع الرجـل امرأتـه‪ ،‬وعـ َّق أمـه‪ ،‬وأقصـى أبـاه‪،‬‬ ‫ولعـن آخـر هـذه الأمـة أولَهـا‪ ،‬وسـاد القبيلـة فاسـقهم‪ ،‬وكان زعيـم القـوم أرذلَهـم‪،‬‬ ‫وأُكـر َم الرجـل اتقـاء شـره‪ ،‬فيومئـ ٍذ يكـون ذلـك‪ ،‬ويفـزع النـاس إلـى الشـام‪ ،‬وإلـى‬ ‫مدينـ ٍة منهـا يقـال لهـا‪ :‬دمشـق‪ ،‬مـن خيـر مـدن الشـام‪ ،‬فتحصنهـم مـن عدوهـم»‪.‬‬ ‫قلـت‪ :‬وهـل تفتـح الشـام؟ قـال ﷺ‪« :‬نعـم وشـيكاً‪ ،‬ثـم تقـع الفتـن بعـد فتحها‪،‬‬ ‫ثـم تجـيء فتنـة غبـراء مظلمـة‪ ،‬ثـم يتبـع الفتـن بعضهـا بعضـاً‪ ،‬حتـى يخـرج رجـل‬ ‫مـن أهـل بيتـي‪ ،‬يُقـال لـه‪ :‬المهـدي فـإن أدركتـه فاتبعـه‪ ،‬وكـن مـن المهدييـن»(‪.)3‬‬ ‫(‪ )1‬أملك‪ :‬أمسك‪ ،‬أي‪ :‬لا ُت ِره إلا بما يكون لك لا عليك‪ .‬النهاية‪ ،‬لابن الأثير‪.358/4:‬‬ ‫(‪ )2‬قال الشيخ عبد العزيز رحمه الله‪ :‬أي‪ :‬كثر الأشرار وضعف الأخيار‪ ،‬فالزم نفسك‪ ،‬واحفظ دينك‪ ،‬واترك‬ ‫الناس ولا تتبعهم‪ ،‬وهذا منطبق على زماننا‪ .‬وذكر الشيخ عبد العزيز رحمه الله‪ :‬أنه أخرجه أبو داود بسند‬ ‫حسن في كتاب الملاحم‪ ،‬باب الأمر والنهي‪ ،217/4:‬رقم (‪ ،)4345‬والإمام أحمد في مسند عبد الله بن‬ ‫عمرو ‪ 566/11:‬رقم (‪ ،)6987‬والحاكم في المستدرك في كتاب الأدب‪ ،315/4:‬رقم (‪،)7758‬‬ ‫وقال‪\" :‬هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه\"‪ ،‬ووافقه الذهبي‪.‬‬ ‫(‪ )3‬قال الإمام الهيثمي في مجمع الزوائد‪\" :626/7 :‬روى ابن ماجه طرف ًا من أوله‪ ،‬وأخرجه الطبراني‪ ،‬وفيه عبد‬ ‫الحميد بن إبراهيم‪ ،‬وثقه ابن حبان‪ ،‬وهو ضعيف وفيه جماعة لم أعرفهم\"‪.‬‬ ‫‪58‬‬

‫أسباب الوقوع في الفتن‪:‬‬ ‫للفتـن أسـباب ومقدمـات‪ ،‬فمـا مـن فتنـة شـبَّت في الأمـة إلا ولهـا أسـباب بعيدة‬ ‫أو قريبـة سـبقت حدوثهـا‪ ،‬إلـى أن تصـل إلـى حـد قـدح الزنـاد وتولـد شـرارة النار‪،‬‬ ‫ومـن ثـ َّم تنتشـر فـي دهمـاء الأمـة وسـفهائها‪ ،‬فيعظـم ضرامهـا ويتعاظـم لهيبهـا‪،‬‬ ‫حتـى يعجـز العقـاء والعلمـاء والصلحـاء عـن إخمادهـا‪ ،‬ومـن هـذه الأسـباب‪:‬‬ ‫* ال َعجلَة وعدم التأني‪:‬‬ ‫قديمـاً قـال الحكمـاء‪\" :‬فـي العجلـة الندامـة وفـي التأنـي السـامة\"؛ لأن العجلـة‬ ‫غالبــاً تنجــم عــن ردة فعــل تتحكــم بهــا العواطــف والانفعــالات التــي تحجــب‬ ‫حقائــق الأمــور‪ ،‬وســرعان مــا تخمــد هــذه العواطــف والمشــاعر وتتبــدد لتظهــر‬ ‫مـن ورائهـا الحقائـق سـاطعة‪ ،‬فعندئـ ٍذ يقـع صاحبهـا فـي الحسـرة والنـدم واللـوم‬ ‫لنفسـه بعـد فـوات الأوان‪.‬‬ ‫لذلـك لا بـد مـن التأنـي والتـؤدة وعـدم الاسـتعجال حتـى تهـدأ ثـورة النفـس‬ ‫وتخمـد مشـاعرها التـي كانـت تحجـب نـور العقـل والفهـم والبصيـرة‪ ،‬فـإذا انجلى‬ ‫حجــاب الغفلــة والانفعــالات تحــرر العقــل‪ ،‬وأوقــد مصبــاح الفكــر‪ ،‬وأشــرقت‬ ‫شــمس المعرفــة‪ ،‬وتفتحــت أســارير البصيــرة‪ ،‬لينظــر المــرء فــي حياتــه ومآلــه‪،‬‬ ‫ويعلـم مـا يضـره ومـا ينفعـه‪.‬‬ ‫قـال قتـادةُ بـ ُن دعامـة رحمـه الله‪« :‬قـد رأينـا والله أقوامـاً يُسـرعون إلـى الفتـن‪،‬‬ ‫وينزعـون فيهـا‪ ،‬وأمسـك أقـوامٌ عـن ذلـك هيبـ ًة لله‪ ،‬ومخافـة منـه‪ ،‬فلمـا انكشـفت‪،‬‬ ‫إذا الذيــن أمســكوا أطيــب نفســاً‪ ،‬وأثلــج صــدوراً‪ ،‬وأخــف ظهــوراً مــن الذيــن‬ ‫أسـرعوا إليهـا‪ ،‬وينزعـون فيهـا‪ ،‬وصـارت أعمـال أولئـك حـزازا ٍت علـى قلوبهـم‬ ‫كلمـا ذكروهـا‪َ ،‬وايـ ُم الل ِه‪ ..‬لـو أن النـاس يعرفـون مـن الفتنـة إذا أقبلـت كمـا يعرفون‬ ‫منهـا إذا أدبـرت‪ ،‬لعقـل فيهـا جيـل مـن النـاس كثيـر»(‪.)1‬‬ ‫(‪ )1‬حلية الأولياء‪ ،‬لأبي نعيم‪.337/2:‬‬ ‫‪59‬‬

‫وقـال مح َّمـد بـن طلحـة رحمـه الله‪ :‬رآنـي ُزبيـد مـع العـاء بـن عبـد الكريـم‪،‬‬ ‫ونحـن نضحـك‪ ،‬فقـال‪« :‬لـو شـهد َت الجماجـم(‪ )1‬مـا ض ِحكـ َت‪ ،‬ولـودد ُت أ َّن يدي‬ ‫ـ أو قـال‪ :‬يمينـي ـ قُ ِطعـت مـن الع ُضـد وأنـي لـم أكـن شـهد ُت»(‪.)2‬‬ ‫وعـن إسـماعيل بـن أبـي خالـد رحمـه الله قـال مـرة‪« :‬شـهدت فتـح القادسـية‪،‬‬ ‫فـي ثلاثـة آلاف مـن قومـي؛ فمـا منهـم مـن أحـد‪ :‬إلا خـف فـي الفتنـة غيـري‪ ،‬ومـا‬ ‫منهـم أحـد‪ :‬إلا غبطنـي»(‪.)3‬‬ ‫وقـال الشـعبي رحمـه الله ـ لمـا أُدخـل علـى الحجـاج‪ ،‬وكان قـد شـارك فـي فتنـة‬ ‫ابـن الأشـعث ـ‪« :‬قـد اكتحلنـا بعـدك السـه َر‪ ،‬وتَ َحلَّ ْسـنا الخـو َف‪ ،‬وخبطتنـا فتنـة لـم‬ ‫نكـن فيهـا بـررة أتقيـاء‪ ،‬ولا فجـرة أقويـاء»(‪.)4‬‬ ‫ولمــا أُتــي بفيــروز بــن الحصيــن رحمــه الله إلــى الحجــاج‪ ،‬قــال لــه‪« :‬أبــا‬ ‫عثمـان‪ ..‬مـا أخرجـك مـع هـؤلاء؟ فقـال‪ :‬أيهـا الأميـر‪ ..‬فتنـة َع َّمـت‪ ،‬فأمـر بـه‬ ‫الحجــاج‪ ،‬ف ُض ِربــت عنقــه»(‪.)5‬‬ ‫وقـال حمـاد بـن زيـد رحمـه الله‪ :‬ذكـر أيـو ُب السـختياني رحمـه الله القـراء‬ ‫الذيــن خرجــوا مــع ابــن الأشــعث‪ ،‬فقــال‪« :‬لا أعلــم أحــداً منهــم قُتِــل إلا قــد‬ ‫ُر ِغـب عـن مصرعـه‪ ،‬ولا نجـا أحـ ٌد منهـم إلا َح ِمـد الله الـذي سـلَّمه‪ ،‬ونـ ِدم علـى‬ ‫مـا كان منـه»(‪.)6‬‬ ‫(‪ )1‬انظر‪ :‬خبر فتنة ابن الأشعث‪ ،‬ووقعة (دير الجماجم) في البداية والنهاية‪ ،‬لابن كثير‪35/9 :‬ـ‪،43-40 ،37‬‬ ‫و‪ ،355-347/12‬وسير أعلام النبلاء‪ ،‬للذهبي‪.43/2:‬‬ ‫(‪ )2‬انظر‪ :‬سؤالات أبي عبيد الآجري‪ :‬رقم (‪ ،)96‬والمعرفة والتاريخ‪ ،‬للفسوي‪ ،109/3:‬وتاريخ مدينة‬ ‫دمشق‪ ،‬لابن عساكر‪.473/19:‬‬ ‫(‪ )3‬حلية الأولياء‪.163/4:‬‬ ‫(‪ )4‬سير أعلام النبلاء‪.306/4:‬‬ ‫(‪ )5‬وفيات الأعيان‪ ،‬لابن خلكان‪.38/2:‬‬ ‫(‪ )6‬الطبقات الكبرى‪ ،‬لابن سعد‪ ،187/7:‬والمعرفة والتاريخ‪ ،‬للفسوي‪.52/2:‬‬ ‫‪60‬‬

‫وقــال مالــ ُك بــ ُن دينــار رحمــه الله‪ :‬لقيــ ُت معبــداً الجهنــي بمكــة بعــد ابــن‬ ‫الأشـعث وهـو جريـح‪ ،‬وقـد قاتـل الحجـاج فـي المواطـن كلهـا‪ ،‬فقـال‪« :‬لقيـ ُت‬ ‫الفقهـاءَ والنـا َس‪ ،‬لـم أ َر مثـل الحسـن ـ أي البصـري ـ يـا ليتنـا أطعنـاه»‪ ،‬كأنـه نـادم‬ ‫علـى قت ـال الحج ـاج(‪.)1‬‬ ‫وعـن أبـي قِلابـة رحمـه الله قـال‪ :‬لمـا انجلـت فتنـة ابـن الأشـعث‪ ،‬كنـا فـي مجلس‪،‬‬ ‫ومعنـا مسـلم بـن يسـار‪ ،‬فقـال مسـلم‪« :‬الحمـد لله الـذي أنجانـي مـن هـذه الفتنـة‪ ،‬فـو‬ ‫الله مـا رميـ ُت فيهـا بسـهم‪ ،‬ولا طعنـ ُت فيهـا برمـ ٍح‪ ،‬ولا ضربـ ُت فيهـا بسـيف»(‪.)2‬‬ ‫قـال أبـو قلابـة‪ :‬فقلـت لـه‪« :‬فمـا ظنـك يـا مسـلم بجاهـ ٍل نظـر إليـك‪ ،‬فقـال‪:‬‬ ‫والله مـا قـام مسـلم بـن يسـار ـ سـي ُد القـراء ـ هـذا المقـامَ إلا وهـو يـراه عليـه ح ّقـاً‪،‬‬ ‫فقاتـل حتـى قُتِـل؟»‪ ،‬قـال‪« :‬فبكـى والـذي نفسـي بيـده‪ ،‬حتـى تمنيـت أنـي لـم أكـن‬ ‫قلـ ُت شـيئًا»(‪.)3‬‬ ‫وعـن عبـد الله بـن عـون رحمـه الله قـال‪ « :‬كان مسـلم بـن يسـار لا يُ َف َّضـ ُل عليـه‬ ‫أحـ ٌد فـي ذلـك الزمـان حتـى فعـل تلـك ال َف ْعلَـة‪ ،‬فلقيـه أبـو قِلابـة فقـال‪ :‬والله لا‬ ‫فِ ۡتنَ ُتــ َك‬ ‫َّ‬ ‫﴿إِ ۡن‬ ‫إِل‬ ‫ِ َه‬ ‫قلابــة‪:‬‬ ‫أبــو‬ ‫فتــا‬ ‫الله‪،‬‬ ‫شــاء‬ ‫إن‬ ‫قلابــة‪:‬‬ ‫أبــو‬ ‫فقــال‬ ‫أبــداً‪،‬‬ ‫أعــود‬ ‫تُ ِضـ ُّل بِ َهـا َمـن ت َ َشـآ ُء َو َت ۡهـ ِدي َمـن ت َ َشـآ ُءۖ أَنـ َت َو ِ ُّل َنـا فَٱ ۡغفِـ ۡر َلَـا َوٱ ۡر َ ۡح َنـاۖ َوأَنـ َت‬ ‫َخـ ۡ ُر ٱ ۡل َغٰفِ ِريـ َن ‪[ ﴾١٥٥‬الآية‪/‬الأعـراف]‪ ،‬فأرسـ َل مسـل ٌم عينيـه»(‪.)4‬‬ ‫(‪ )1‬تاريخ مدينة دمشق‪ ،‬لابن عساكر‪.325/59:‬‬ ‫(‪ )2‬مع أنه ُو ِج َد بين الص َّفين‪ ،‬قال أيوب السختياني رحمه الله‪ :‬قيل لابن الأشعث‪\" :‬إن أرد َت أن ُيقتلوا‬ ‫حولك كما ُقتِلوا يوم الجمل حول جمل عائشة ‪ ،‬فأخرج معك مسل َم ب َن يسار‪ ،‬فأخرجه ُمكره ًا\"‪.‬‬ ‫انظر‪ :‬المعرفة والتاريخ‪.86/2:‬‬ ‫(‪ )3‬أخرجه البخاري في التاريخ الكبير‪ ،302/2:‬رقم (‪ ،)2544‬ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق‪.146/58:‬‬ ‫(‪ )4‬انظر‪ :‬المعرفة والتاريخ‪ ،‬للفسوي‪.51/2:‬‬ ‫‪61‬‬

‫* إطلاق اللسان في أعراض الناس‪:‬‬ ‫لا ينحصـر شـؤم إطـاق اللسـان فـي الفتـن فـي ولائـم السـوء التـي يسـودها‬ ‫الجــدل والمــراء والغيبــة والنميمــة‪ ،‬لكنــه يتعداهــا إلــى آثــار خطيــرة فــي واقــع‬ ‫الأمــة‪ ،‬فالشــر مبــدؤه شــرارة‪\" ،‬ومعظــم النــار ِمــن ُمســتص َغر الشــرر\"‪.‬‬ ‫فعــن أبــي هريــرة ‪ ‬عــن النبــي ﷺ قــال‪« :‬إن العبــد ليتكلــم بالكلمــة مــن‬ ‫رضـوان الله‪ ،‬لا يلقـي لهـا بـالاً‪ ،‬يرفعـه الله بهـا درجـات‪ ،‬وإ َّن العبـد ليتكلـم بالكلمـة‬ ‫مـن سـخط الله‪ ،‬لا يلقـي لهـا بـالاً‪ ،‬يهـوي بهـا فـي جهنـم»(‪.)1‬‬ ‫وكثيــر مــن الفتــن تُبْــ َذر بذرتهــا فــي مجالــس الغيبــة والوقيعــة‪ ،‬ولا يتوقــع‬ ‫أصحابهــا أن تبلــغ مــا بلغــت‪ ،‬ثــم تُلَ َّقــ ُح بالنجــوى‪ ،‬وتُنْتَــ ُج بالشــكوى‪ ،‬وإذا بهــا‬ ‫تشــتعل وتضطــرم رويــداً رويــداً حتــى يســتعصي إطفاؤهــا حتــى علــى الذيــن‬ ‫أوقـدوا شـرارتها‪ ،‬فهـؤلاء المغتابـون أكلـة لحـوم البشـر‪ ،‬هـم مـن الذيـن وصفهـم‬ ‫رســول الله ﷺ‪ ،‬فقــال‪« :‬إن مــن النــاس مفاتيــ َح للخيــر مغاليــ َق للشــر‪ ،‬وإن مــن‬ ‫النـاس مفاتيـ َح للشـر‪ ،‬مغاليـ َق للخيـر‪ ،‬فطوبـى لمـن جعـل اللهُ مفاتيـ َح الخيـ ِر علـى‬ ‫يديــه‪ ،‬وويــل لمــن جعــل اللهُ مفاتيــ َح الشــر علــى يديــه»(‪.)2‬‬ ‫وامض عنـه بسـلا ِم‬ ‫وصدق الشاعر إذ يقول‪:‬‬ ‫خي ٌر لك من داء الكلا ِم‬ ‫َخ ِّل جنبيك ل را ِم ‬ ‫ِل مغـاليـ ُق ال ِحمـامِ‬ ‫ُم ْت بدا ِء الصم ِت ‬ ‫ُربَّما استُ ْفتِ َح بال قو ‬ ‫آجـا َل فِئـا ٍم وفئـا ِم‬ ‫ُر َّب قو ٍل سا َق ‬ ‫أل َجـ َم فـاهُ بِـ ِلجـا ِم‬ ‫إنما السال ُم َم ْن ‬ ‫(‪ )1‬أخرجه البخاري في كتاب الرقاق‪ ،‬باب حفظ اللسان‪ ،308/11:‬رقم (‪ ،)6478 ،6477‬ومسلم في كتاب‬ ‫الزهد والرقائق‪ ،‬باب التكلم بالكلمة يهوي بها في النار‪ ،2290/4:‬رقم (‪ ،)50 ،49‬واللفظ للبخاري‪.‬‬ ‫(‪ )2‬أخرجه ابن ماجه باب من كان مفتاح ًا للخير‪ ،86/1:‬رقم (‪ ،)237‬وأبو داود الطيالسي في مسنده‪ :‬رقم (‪،)2082‬‬ ‫وابن المبارك في الزهد (‪ ،)967‬وابن أبي عاصم في السنة‪ :‬رقم (‪ ،)297‬والبيهقي في شعب الإيمان‪ :‬رقم (‪.)697‬‬ ‫‪62‬‬

‫وهــذه شــواهد تاريخيــة تــدل علــى أن اللســان أشــد خطــراً مــن الســنان فــي‬ ‫الوقــوع فــي الفتــن‪:‬‬ ‫● قـال عبـد الله بـن َعكيـم الجهنـي ـ تابعـي جليـل ـ في خطبـة لـه‪« :‬لا أُعين على‬ ‫دم خليفـة أبـداً بعـد عثمـان»‪ ،‬فقـال رجـل متعجبـاً‪« :‬يـا أبـا معبـد‪ ،‬أَ َو أَعنـ َت‬ ‫علـى دمـه؟»‪ ،‬فقـال أبـو معبـد‪« :‬إنـي لأرى ذكـر مسـاوئ الرجـل عونـاً علـى‬ ‫دمــه»(‪ .)1‬فهــؤلاء الســاعون بالوشــاية والنميمــة‪ ،‬أ ْح َصــوا اجتهــادات أميــر‬ ‫المؤمنيــن عثمــان بــن عفــان ‪ ‬وص َّوروهــا بحســب مــا تتخيــل عقولهــم‬ ‫الضعيفـة‪ ،‬وقلوبهـم المريضـة‪ ،‬فاتخـذوا ذلـك ُسـلَّماً إلـى الفتنـة(‪.)2‬‬ ‫● قــال عبــد الواحــد بــن زيــد للحســن البصــر ّي ـ وكلاهمــا مــن التابعيــن ـ‪:‬‬ ‫«يـا أبـا سـعيد‪ ،‬أخبرنـي عـن رجـل لـم يشـهد فتنـة ابـن المهلـب بـن أبـي‬ ‫صفــرة(‪ )3‬إ َّل أنــه عــاون بلســانه‪ ،‬ورضــي بقلبــه»‪ ،‬فقــال الحســن‪« :‬يــا ابــن‬ ‫أخـي كـم يـد عقـرت الناقـة؟»‪ ،‬قلـت‪« :‬يـد واحـدة»‪ ،‬قـال‪« :‬أليـس قـد هلـك‬ ‫القـوم جميعـاً برضاهـم وتماليهـم؟»(‪.)4‬‬ ‫● عـن رشـيد الخبَّـاز قـال‪ :‬خرجـت مـع مـولاي إلـى مكـة‪ ،‬فجاورنـا‪ ،‬فلمـا كان‬ ‫ذات يـوم‪ ،‬جـاء إنسـان فقـال لسـفيان‪« :‬يـا أبـا عبـد الله‪ ،‬قَـ ِدم اليـوم حسـ ٌن‬ ‫وعلـ ٌي ابنـا صالـح»‪ ،‬قـال‪« :‬وأيـن همـا؟» قـال‪« :‬فـي الطـواف»‪ ،‬قـال‪« :‬إذا‬ ‫َمـ َّرا‪ ،‬فأرنيهمـا»‪ ،‬فمـ َّر أحدهمـا‪ ،‬فقلـت‪« :‬هـذا علـ ٌّي»‪ ،‬ومـ َّر الآخـر‪ ،‬فقلـت‪:‬‬ ‫«هـذا َح َسـ ٌن»‪ ،‬فقـال‪« :‬أمـا الأول فصا ِحـب آ ِخـرة‪ ،‬وأمـا الآ َخـ ُر فصاحـب‬ ‫(‪ )1‬الطبقات الكبرى لابن سعد‪.80/3:‬‬ ‫(‪ )2‬وقد جمعها ال ِإمام ابن العربي‪ ،‬وفنَّدها في كتابه العواصم من القواصم‪ :‬ص ‪ .76‬حين علم حذيفة ‪‬‬ ‫بمقتل عثمان بن عفان ‪ ‬قال‪« :‬الله َّم العن َق َت َل َت ُه و ُش َّتا َمه‪ ،‬الله َّم إ َّنا كنا نعاتبه ويعاتبنا‪ ،‬فاتخذوا ذلك ُس َّلم ًا‬ ‫إلى الفتنة‪ ،‬الله َّم لا ُت ِْتهم إ َّل بالسيوف»‪ .‬انظر‪ :‬الكامل في التاريخ‪ ،‬لابن الأثير‪.51/3:‬‬ ‫(‪ )3‬وكان قد خرج على الدولة ال ِإسلامية معتمد ًا على وجاهة أبيه‪ ،‬وكان أبوه رحمه الله تعالى مبيد ًا للخوارج‪.‬‬ ‫(‪ )4‬انظر‪ :‬الزهد‪ ،‬للإمام أحمد‪ :‬ص‪.289‬‬ ‫‪63‬‬

‫ســيف‪ ،‬لا يمــأ جوفَــه شــيء»‪ ،‬قــال‪ :‬فيقــوم إليــه رجــل ممــن كان معنــا‪،‬‬ ‫فأخبــر عليّــاً‪ ،‬ثــم مضــى مــولاي إلــى علــي يســلم عليــه‪ ،‬وجــاء ســفيان‬ ‫يُسـلم عليـه‪ ،‬فقـال لـه علـي‪« :‬يـا أبـا عبـد الله‪ ،‬مـا حملـك علـى أن ذكـر َت‬ ‫أخـي أمـ ِس بمـا ذكرتـه؟ مـا يُؤمنـك أن تبلـغ هـذه الكلمـة ابـن أبـي جعفـر‪،‬‬ ‫فيبعـث إليـه‪ ،‬فيقتلـه؟» قـال‪ :‬فنظـرت إلـى سـفيان‪ ،‬وهـو يقـول‪« :‬أسـتغفر‬ ‫الله» وجادتـا عينـاه(‪.)1‬‬ ‫● عــن عبــد الرحمــن بــن يزيــد بــن جابــر‪ ،‬قــال‪ :‬كنــا مــع رجــاء بــن َحيْــ َوة‬ ‫فتذاكرنــا شــكر النعــم‪ ،‬فقــال‪« :‬مــا أحــ ٌد يقــوم بشــكر نِعمــة»؛ و َخلْ َفنــا‬ ‫رجـ ٌل علـى رأسـه ِكسـاء‪ ،‬فقـال‪« :‬ولا أميـ ُر المؤمنيـن؟»‪ ،‬فقلنـا‪« :‬ومـا ِذ ْكـ ُر‬ ‫أميــر المؤمنيــن هنــا؟! وانمــا هــو رجــ ٌل ِمــن النــاس»‪ ،‬قــال‪ :‬فغفلنــا عنــه‪،‬‬ ‫فالتفـ َت َرجـاءٌ فلـم يـره‪ ،‬فقـال‪« :‬أُتيتـم مـن صاحـب الكسـاء‪ ،‬فـإن ُدعيتـم‪،‬‬ ‫فاسـتُ ْح ِلفتم‪ ،‬فاحلفـوا»؛ قـال‪ :‬فمـا علمنـا إ َّل ب َح َر ِسـي قـد أقبـل عليـه‪ ،‬قـال‪:‬‬ ‫« ِهيـه‪ ..‬يـا رجـاء‪ ،‬يُذ َكـر أميـر المؤمنيـن‪ ،‬فـا تحتـج لـه؟!»‪ ،‬قـال‪ :‬فقلـت‪:‬‬ ‫«ومـا ذاك يـا أميـر المؤمنيـن؟»‪ ،‬قـال‪« :‬ذكرتـم شـكر النعـم‪ ،‬فقلتـم‪ :‬مـا أحـد‬ ‫يقـوم بشـكر نعمـة‪ ،‬قيـل لكـم‪ :‬ولا أميـر المؤمنيـن؟‪ ،‬فقلـ َت‪ :‬أميـر المؤمنيـن‬ ‫رجـل مـن النـاس!»‪ ،‬فقلـت‪« :‬لـم يكـن ذلـك»؛ قـال‪« :‬آلله؟»‪ ،‬قلـت‪« :‬آلله»‪،‬‬ ‫قـال‪ :‬فأمـر بذلـك الرجـل السـاعي‪ ،‬ف ُضـرب سـبعين سـوطاً‪ ،‬فخرجـت وهـو‬ ‫متلــ ِّوث بدمــه‪ ،‬فقــال‪« :‬هــذا وأنــت رجــاءُ بــ ُن َحيْــوة؟»‪ ،‬قلــت‪« :‬ســبعين‬ ‫سـوطاً فـي ظهـرك خيـر مـن دم مؤمـن»‪ ،‬قـال ابـن جابـر‪ :‬فـكان رجـاء بـن‬ ‫حيـوة بعـد ذلـك إذا جلـس فـي مجلـس يقـول‪ ،‬ويتل َّفـت‪« :‬احـذروا صاحـب‬ ‫الكس ـاء»(‪.)2‬‬ ‫(‪ )1‬انظر‪ :‬سير أعلام النبلاء‪ ،‬للذهبي‪.366/7:‬‬ ‫(‪ )2‬انظر‪ :‬سير أعلام النبلاء‪ ،‬للذهبي‪.561/4:‬‬ ‫‪64‬‬

‫قال الشاعر‪:‬‬ ‫وليس يموت من عثرة ال ِّرج ِل‬ ‫يموت الفتى من عثر ٍة بلسانه ‬ ‫وعثرته برجله تبرا على مه ِل‬ ‫فعثرته بلسانه تُ ْذه ب رأسه ‬ ‫وقال آخر‪:‬‬ ‫وجر ُح الدهر ما َج َر َح اللسا ُن‬ ‫و ُجرح السيف تُ ْد ِملُه فيبرا ‬ ‫ولا يلتامُ ما َج َرح اللسا ُن(‪)1‬‬ ‫جراحا ُت ال ِّطعان لها التئامٌ ‬ ‫وقال آخر‪:‬‬ ‫وجر ُح القو ِل طو َل الده ِر دامي(‪)2‬‬ ‫الســيـف يأســوه ال ُمـ داوي ‬ ‫وقـد اتُّهـ َم القاضـي عيـاض رحمـه الله بأنـه يهـودي؛ لأنـه كان يلـزم بيتـه للتأليف‬ ‫نهار الســبت‪.‬‬ ‫وكان الشـيخ عـاء الديـن العطـار ـ تلميـذ الإمـام النـووي رحمهمـا الله ـ يمشـي‬ ‫متأبطـاً وثيقـة مـن أحـد القضـاة بصحـة إيمانـه‪ ،‬وبراءتـه مـن كل مـا يكفـره‪ ،‬مخافـ َة‬ ‫أن يصادفـه أفَّـاك فـي مجلـس(‪.)3‬‬ ‫(‪ )1‬المحاسن والمساوئ‪ ،‬للبيهقي‪ :‬ص‪.381‬‬ ‫(‪ )2‬المصدر السابق‪ ،‬الموضع نفسه‪.‬‬ ‫(‪ )3‬انظر‪ :‬ترتيب المدارك وتقريب المسالك‪ ،‬للقاضي عياض اليحصبي‪.154/7:‬‬ ‫‪65‬‬

‫* انتشار الفساد واختلاف القيم آخر الزمان‪:‬‬ ‫ومــن أبــرز أســباب الفتــن انتشــار الفســاد فــي البــر والبحــر‪ ،‬والقضــاء علــى‬ ‫الحـرث والنسـل‪ ،‬وزرع الأحقـاد والضغائـن‪ ،‬وإثـارة الخـاف بيـن أفـراد الأمـة‪،‬‬ ‫والتجـرد مـن الأخـاق والقيـم الدينيـة والإنسـانية‪ ،‬فيعيـش النـاس في هـرج ومرج‪،‬‬ ‫وتسـود الفوضـى‪ ،‬وتقـرع طبـول الحـرب‪ ،‬وتسـل آلات القتـل والدمـار‪ ،‬فتغطـي‬ ‫علـى أصـوات العقـاء والعلمـاء‪ ،‬ويُتَّهـم هـؤلاء مـن قبـل السـفهاء والدهمـاء بمـا‬ ‫هـم منـه بـرآء‪ ،‬وقـد بيَّـن رسـول الله ﷺ ذلـك كلـه فـي كثيـر مـن أحاديثـه‪:‬‬ ‫مـن ذلـك مـا جـاء عـن أنـس بـن مالـك ‪ ‬قـال‪ :‬قـال رسـول الله ﷺ‪« :‬إن‬ ‫أمــام الدجــال ســنين خداعــة‪ ،‬يُكــ َّذب فيهــا الصــادق‪ ،‬ويُصــ َّدق فيهــا الــكاذب‬ ‫ويُخـ َّون فيهـا الأميـن‪ ،‬ويُؤت َمـن فيهـا الخائـن‪ ،‬ويتكلـم فيهـا الرويبضـة»‪ ،‬قيـل‪ :‬ومـا‬ ‫الرويبضـة؟ قـال‪« :‬الفويسـق يتكلـم فـي أمـر العامـة»(‪.)1‬‬ ‫عــن أبــي هريــرة ‪ ‬قــال‪ :‬قــال رســول الله ﷺ‪« :‬إذا كان أمراؤكــم خياركــم‪،‬‬ ‫وأغنياؤكـم سـمحاءكم‪ ،‬وأموركـم شـورى بينكـم‪ ،‬فظهـر الأرض خيـر لكـم مـن‬ ‫بطنهـا‪ ،‬وإذا كان أمراؤكـم شـراركم‪ ،‬وأغنياؤكـم بخلاؤكـم‪ ،‬وأموركـم إلى نسـائكم‪،‬‬ ‫فبطـن الأرض خيـر لكـم مـن ظهرهـا»(‪.)2‬‬ ‫(‪ )1‬أخرجه أحمد في مسند أنس بن مالك ‪ 23/21:‬رقم (‪ .)13297‬قال ابن كثير في النهاية في الفتن‬ ‫والملاحم ص‪\" :51‬إسناده جيد\"‪.‬‬ ‫(‪ )2‬أخرجه الترمذي في كتاب الفتن‪ ،529/4:‬رقم (‪ ، )2266‬وقال الترمذي‪\" :‬هذا حديث غريب لا نعرفه‬ ‫إلا من حديث صالح المزي‪ ،‬وله غرائب لا يتابع عليها‪ ،‬وهو رجل صالح\"‪ .‬وقد ذكر الشيخ عبد العزيز‬ ‫عيون السود رحمه الله في خطبته بعد ذلك‪ :‬وإن مثل من يعين قومه على غير الحق‪ ،‬كمثل بعير تر َّدى في بئر‪،‬‬ ‫فهو ينزع منها بذنبه‪ .‬ومعناه ـ كما قال المنذري ـ إنه وقع في الإثم وهلك‪ ،‬كالبعير إذا تردى في البئر‪ ،‬فهو‬ ‫ينزع بذنبه‪ ،‬ولا يقدر على الخلاص‪.‬‬ ‫‪66‬‬

‫عـن علـي بـن أبـي طالـب ‪ ‬أن رسـول الله ﷺ قـال‪« :‬كيـف بكـم إذ فسـق‬ ‫فتيانكـم‪ ،‬وطغـى نسـاؤكم؟ قالـوا‪ :‬يـا رسـول الله‪ ،‬وإن ذلـك لكائـن؟ قـال‪ :‬نعـم‪،‬‬ ‫وأشـد‪ ،‬كيـف بكـم إذا لـم تأمـروا بالمعـروف ولـم تنهـوا عـن المنكـر؟ قالـوا‪ :‬يـا‬ ‫رسـول الله‪ ،‬وإن ذلـك لكائـن؟ قـال‪ :‬نعـم‪ ،‬وأشـد‪ ،‬كيـف بكـم إذا أمرتـم بالمنكـر‪،‬‬ ‫ونهيتـم عـن المعـروف؟ قالـوا‪ :‬يـا رسـول الله وإن ذلـك لكائـن؟ قـال‪ :‬نعم‪ ،‬وأشـد‪،‬‬ ‫كيـف بكـم إذا رأيتـم المعـروف منكـراً والمنكـر معروفـاً»(‪.)1‬‬ ‫عــن أبــي هريــرة ‪ ‬قــال‪ :‬ســمعت رســول الله ﷺ يقــول‪« :‬ســيصيب أمتــي‬ ‫داء الأمـم»‪ ،‬قالـوا‪ :‬يـا رسـول الله‪ ،‬ومـا داء الأمـم؟ قـال ﷺ‪« :‬الأشـر‪ ،‬والبطـر‪،‬‬ ‫والتدابـر‪ ،‬والتنافـس‪ ،‬والتباغـض‪ ،‬والبخـل‪ ،‬حتـى يكـون البغـي‪ ،‬ثـم الهـرج»(‪.)2‬‬ ‫* ظهور الترف في المسلمين آخر الزمان‪:‬‬ ‫ومـن أبـرز أسـباب ظهـور الفتـن طغيـان التـرف والتبذيـر‪ ،‬واللهـث وراء الدنيـا‬ ‫الفانيـة لجمعهـا والاسـتحواذ عليهـا‪ ،‬ممـا يـؤدي إلـى تعـارض المصالـح والأهواء‬ ‫بيـن أهلهـا‪ ،‬فتنشـب الصراعـات والخلافـات بينهـم‪ ،‬فيقعـون فـي الهـرج والمـرج‬ ‫و ا لفتن ‪.‬‬ ‫(‪ )1‬ذكره الغزالي في إحياء علوم الدين‪ ،267/2:‬قال الحافظ العراقي‪\" :‬أخرجه ابن أبي الدنيا بإسناد‬ ‫ضعيف دون قوله‪« :‬كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف»‪ ،‬وأخرجه أبو يعلى من حديث‬ ‫أبي هريرة ‪ ‬مقتصر ًا على الأسئلة الثلاثة الأول وأجوبتها دون الأخيرين\"‪ ،‬وأخرج بعضه الطبراني في‬ ‫المعجم الأوسط‪ ،129/3:‬رقم (‪.)9325‬‬ ‫(‪ )2‬قال الهيثمي في مجمع الزوائد‪\" :600/7 :‬أخرجه الطبراني في الأوسط‪ ،‬وفيه أبو سعيد الغفاري لم يرو‬ ‫عنه غير حميد بن هانئ‪ ،‬وبقية رجاله وثقوا\"‪.‬‬ ‫‪67‬‬

‫مـن هنـا جـاء فـي الحديـث عـن عبـد الله بـن عمـر ‪ ‬قـال‪ :‬قـال رسـول الله‬ ‫ﷺ‪« :‬إذا مشـت أمتـي المطيطـاء‪ ،‬وخدمهـا أبنـاء الملـوك‪ :‬أبنـاء فـارس والـروم‪،‬‬ ‫سـلط شـرارها علـى خيارهـا»(‪.)1‬‬ ‫قـال سـعيد بـن المسـيب رحمـه الله‪« :‬ثـارت الفتنـة الأولـى‪ ،‬فلـم يبـق ممـن‬ ‫شـهد بـدراً أحـد‪ ،‬ثـم كانـت الثانيـة‪ ،‬فلـم يبـق ممـن شـهد الحديبيـة أحـد‪ ،‬قـال‪:‬‬ ‫وأظـن لـو كانـت الثالثـة لـم ترتفـع وفـي النـاس طبـاخ»‪ ،‬أراد بالفتنـة الأولـى‪ :‬مقتل‬ ‫عثمـان‪ ،‬وبالثانيـة‪ :‬الحـرة(‪.)2‬‬ ‫عـن عبـد الله بـن عمـرو بـن العـاص ‪ ‬قـال‪ :‬قـال رسـول الله ﷺ‪« :‬إذا فتحـت‬ ‫عليكـم فـارس والـروم‪ ،‬أي قـوم أنتـم؟»‪ ،‬قـال عبـد الرحمـن بـن عـوف ‪ :‬نقـول‬ ‫كمـا أمرنـا الله‪ .‬قـال رسـول الله ﷺ‪« :‬أَ ْو غيـر ذلـك‪ :‬تتنافسـون‪ ،‬ثـم تتحاسـدون‪ ،‬ثم‬ ‫تتدابـرون‪ ،‬ثـم تتباغضـون ـ أو‪ :‬نحـو ذلـك ـ ثـم تنطلقـون فـي مسـاكين المهاجريـن‬ ‫فتجعلـون بعضهـم علـى رقاب بعـض»(‪.)3‬‬ ‫* كثرة أهل الضلال في آخر الزمان‪:‬‬ ‫إذا تنكســت عقــول الرجــال‪ ،‬وانقلبــت موازيــن الأخــاق‪ ،‬وانحســر العلــم‬ ‫وأهلــه‪ ،‬وظهــر الجهــل وســاد أهــل الضــال‪ ،‬الذيــن ينشــرون الفســاد حيثمــا‬ ‫حلـوا وأينمـا نزلـوا‪ ،‬عندئـ ٍذ تسـتعر الفتـن ويـزداد ضرامهـا‪ ،‬ويقـع الخـاف بيـن‬ ‫أبنـاء الأمـة‪ ،‬حتـى يتحـول إلـى قتـال وسـفك للدمـاء‪ ،‬وهتـك للأعـراض‪ ،‬ونهـب‬ ‫للأمـوال‪ ،‬ودمـار للبـاد‪ ،‬وتشـريد للعبـاد‪ ،‬وغيـر ذلـك مـن العواقـب الوخيمـة؛‬ ‫(‪ )1‬أخرجه الترمذي في كتاب الفتن‪ ،526/4:‬رقم (‪ ، )2261‬وقال الترمذي‪\" :‬هذا حديث غريب\"‪ ،‬وحسنه‬ ‫مشية المتك ِّبين‬ ‫يدين‪ ،‬وهي‬ ‫إفِيَ ٰٓلهاأَ ۡهتبلِهِخۦت َير َت َمو َّطم ٰٓدى‬ ‫والمطيطاء‪ :‬مشية‬ ‫السيوطي في الجامع الصغير‪.59/1:‬‬ ‫‪ .]33‬انظر‪ :‬تحفة‬ ‫‪[ ﴾٣٣‬القيامة‪:‬‬ ‫الله ‪ُ ﴿ :‬ث َّم َذ َه َب‬ ‫المفتخرين؛ لأنه إذا تمطى مد يديه‪ ،‬قال‬ ‫الأحوذي‪ ،‬للمباركفوي‪ .540/6:‬وشرح السنة‪ ،‬للبغوي‪.395/14:‬‬ ‫(‪ )2‬ذكره البغوي في شرح السنة‪.395/14:‬‬ ‫(‪ )3‬أخرجه مسلم في كتاب الزهد والرقائق‪ ،‬باب‪ ،2787/5:‬رقم (‪.)2962‬‬ ‫‪68‬‬

‫لذلـك حذرنـا رسـول الله ﷺ فـي كل مناسـبة مـن أهـل الضـال الذيـن ينفخـون‬ ‫بكيــر الفتــن ويحرشــون بيــن المســلمين‪.‬‬ ‫فعـن أبـي ذر الغفـاري ‪ ‬قـال‪ :‬كنـت مخاصـر(‪ )1‬النبـي ﷺ يومـاً إلـى منزلـه‪،‬‬ ‫فسـمعته يقـول ﷺ‪« :‬غيـر الدجـال أخـوف علـى أمتـي من الدجـال»‪ ،‬فلما خشـيت‬ ‫أن يدخـل‪ ،‬قلـت‪ :‬يـا رسـول الله‪ ،‬أي شـيء أخـوف علـى أمتـك مـن الدجـال؟ قـال‪:‬‬ ‫«الأئمــة المضلين»(‪.)2‬‬ ‫وعـن معـاذ بـن جبـل ‪ ‬قـال‪ :‬قـال رسـول الله ﷺ‪« :‬لا تقـوم السـاعة‪ ،‬حتـى‬ ‫يبعـث الله أمـراء كذبـة‪ ،‬ووزراء فجـرة‪ ،‬وأمنـاء خونـة‪ ،‬وقـراء فسـقة‪ ،‬سـمتهم سـمة‬ ‫الرهبــان‪ ،‬وليــس لهــم رغبــة ـ أو قــال‪ :‬رعيــة‪ ،‬أو قــال‪ :‬رعــة ـ فيلبســهم الله فتنــة‬ ‫غبـراء مظلمـة‪ ،‬يتهوكـون فيهـا تهـوك اليهـود فـي الظلـم»(‪.)3‬‬ ‫عـن أبـي أمامـة الباهلـي ‪ ‬أن رسـول الله ﷺ قـال‪« :‬يكـون فـي هـذه الأمـة في‬ ‫آخـر الزمـان ـ أو قـال‪ :‬يخـرج رجـال مـن هـذا الأمـة فـي آخر الزمـان ـ رجـال معهم‬ ‫سـياط كأنهـا أذنـاب البقـر‪ ،‬يغـدون فـي سـخط الله‪ ،‬ويروحـون في غضبـه»(‪.)4‬‬ ‫عـن عبـد الرحمـن بـن عبـد رب الكعبـة رحمـه الله قـال‪ :‬دخلـت المسـجد‪ ،‬فـإذا‬ ‫عبـ ُد الله بـ ُن عمـرو بـن العـاص ‪ ،‬جالـس فـي ظـل الكعبـة‪ ،‬والنـاس مجتمعـون‬ ‫عليـه‪ ،‬فأتيتهـم‪ ،‬فجلسـت إليـه‪ ،‬فقـال‪ :‬كنـا مـع رسـول الله ﷺ فـي سـفر‪ ،‬فنزلنـا‬ ‫(‪ )1‬المخاصرة‪ :‬أن يأخذ الرجل بيد رجل آخر يتماشيان ويد كل واحد منهما عند خصر صاحبه‪.‬‬ ‫(‪ )2‬أخرجه الإمام أحمد في مسند أبي ذر الغفاري ‪ ،223/35:‬رقم (‪ ،)21297‬وقال المناوي في فيض‬ ‫القدير‪\" :407/4:‬سنده جيد\"‪.‬‬ ‫(‪ )3‬أخرجه البزار في مسنده‪ ،79/7:‬قال الهيثمي في مجمع الزوائد‪\" :420/5:‬أخرجه البزار وقال‪ :‬وفيه‬ ‫حبيب بن عمران الكلاعي لم أعرفه‪ ،‬وبقية رجاله رجال الصحيح\"‪.‬‬ ‫(‪ )4‬أخرجه الإمام أحمد في مسنده‪ ،467/36:‬والحاكم في المستدرك‪ ،436/4:‬وابن الأعرابي في المعجم‪ :‬رقم‬ ‫(‪ ،)2149‬والطبراني في الكبير‪ :‬رقم (‪ ،)8000‬وفي الأوسط‪ :‬رقم (‪ ،)5247‬وأبو عمرو الداني في الفتن‪:‬‬ ‫رقم (‪.)434‬‬ ‫‪69‬‬

‫منـزلاً‪ ،‬فمنـا مـن يصلـح خبـاءه(‪ ،)1‬ومنـا مـن ينتضـل(‪ ،)2‬ومنـا مـن هـو في جشـره(‪،)3‬‬ ‫إذ نـادى مناديـه‪( :‬الصـاة جامعـةً)‪ ،‬فاجتمعنـا‪ ،‬فقـام رسـول الله ﷺ فخطبنـا‪ ،‬فقـال‪:‬‬ ‫«إنـه لـم يكـن نبـي قبلـي إلا كان ح ّقـاً عليـه أن يـدل أمتـه علـى مـا يعلمـه خيـراً‬ ‫لهـم‪ ،‬وينذرهـم مـا يعلمـه شـ ّراً لهـم‪ ،‬وإن أمتكـم هـذه‪ُ ،‬ج ِعلَـ ْت عافيتُهـا فـي أولهـا‪،‬‬ ‫وإن آ ِخرهـم يصيبهـم بـاء‪ ،‬وأمـو ٌر تنكرونهـا‪ ،‬ثـم تجـيء فتـن يُ َرقِّـ ُق بع ُضهـا بعضـاً‪،‬‬ ‫فيقـول المؤمـن‪ :‬هـذه ُمه ِل َكتـي‪ ،‬ثـم تنكشـف‪ ،‬ثـم تجـيء فتنـة‪ ،‬فيقـول المؤمـن‪:‬‬ ‫هــذه مهلكتــي‪ ،‬ثــم تنكشــف‪ ،‬فمــن َســ َّره أن يُ َز ْحــ َز َح عــن النــار ويُ ْد َخــ َل الجنــة‪،‬‬ ‫فَلْتُ ْد ِركـ ُه موتتُـه وهـو يؤمـن بـالل ِه واليـوم الآخـر‪ ،‬وليـأ ِت إلـى النـاس الـذي يحـب‬ ‫أن يأتــوا إليــه‪ ،‬ومــن بايــع إمامــاً فأعطــاه َص ْف َقــةَ يمينــه‪ ،‬وثمــرةَ قلبــه‪ ،‬فليُط ْعــه مــا‬ ‫اسـتطاع‪ ،‬فـإن جـاء آخـ ُر ينازعـه‪ ،‬فاضربـوا عنـق الآخـر»(‪.)4‬‬ ‫قـال‪ :‬فأدخلـت رأسـي مـن بيـن النـاس‪ ،‬فقلـت‪ :‬أنشـدك الله! أنـت سـمعت هـذا من‬ ‫رسـول الله ﷺ؟ قـال‪ :‬فأشـار بيـده إلـى أذنيـه‪ ،‬فقـال‪ :‬سـم َعتْه أذنـاي‪ ،‬ووعـاه قلبي‪.‬‬ ‫ونقتفـقـلـل أنتفلـسهــ‪:‬ناه‪،‬ـوذاالالبهـ ُن‪‬عيقِّمـــوكلم‪:‬عا﴿وَي ٰٓيـ َأةُُّي َهــ‪‬ا يٱ َّأ ِلميرـنــاَنأ َءنا َمن ُنـأــكواْل َألمتَوأۡالنـُكا ُلبـيـننٓواْـاأَ ۡبماَولٰلَباطُكـــلم‪،‬‬ ‫أَن ُف َسـ ُك ۡۚم‬ ‫َت ۡق ُتلُـ ٓواْ‬ ‫َو َل‬ ‫ِّمن ُكـ ۡۚم‬ ‫تَ‬ ‫َع ـن‬ ‫تِ َجٰـ َر ًة‬ ‫تَ ُكـو َن‬ ‫َ‬ ‫َّ ٓ‬ ‫بِٱ ۡل َبٰ ِط‬ ‫بَ ۡي َن ُكـم‬ ‫ـ َرا ٖض‬ ‫أن‬ ‫إِل‬ ‫ـ ِل‬ ‫إِ َّن ٱلَّ َل َك َن بِ ُكـ ۡم َر ِحي ٗمـا ‪[ ﴾٢٩‬النسـاء]‪ ،‬قـال‪ :‬فسـكت سـاعة‪ ،‬ثـم قـال‪ :‬أطعـه فـي‬ ‫طاعـة الله‪ ،‬واعصـه فـي معصيـة الله‪.‬‬ ‫(‪ )1‬ال ِخباء‪ :‬أحد بيوت العرب من وبر أو صوف‪ ،‬ولا يكون من شعر‪ ،‬ويكون على عمودين أو ثلاثة‪ ،‬والجمع‬ ‫(أخبية)‪ .‬انظر‪ :‬النهاية‪ ،‬لابن الأثير‪.9/2:‬‬ ‫(‪ )2‬ينتضل‪ :‬يرمي بالسهام‪ .‬انظر‪ :‬النهاية‪ ،‬لابن الأثير‪.72/5:‬‬ ‫(‪ )3‬جشره‪ ،‬من الجشر‪ :‬قوم يخرجون بدوابهم إلى المرعى ويبيتون مكانهم‪ .‬انظر‪ :‬النهاية‪ ،‬لابن الأثير‪.273/2 :‬‬ ‫(‪ )4‬أخرجه مسلم في كتاب الإمارة‪ ،‬باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء‪ ،2787/5:‬رقم (‪ ،)1844‬وأبو داود‬ ‫في الفتن‪ ،‬باب ذكر الفتن ودلائلها‪:‬رقم (‪ ،)4248‬والنسائي في البيعة‪ ،‬باب ذكر من بايع الإمام وأعطاه‬ ‫صفقة يده وثمرة قلبه‪ ،153/ 7:‬رقم (‪.)4191‬‬ ‫‪70‬‬

‫وعــن ثوبــان ‪ :‬أن رســول الله ﷺ قــال‪« :‬إنمــا أخــاف علــى أمتــي الأئمــة‬ ‫المضليـن‪ ،‬وإذا وضـع السـيف فـي أمتـي‪ ،‬لـم يرفـع عنهـا إلـى يـوم القيامـة‪ ،‬ولا‬ ‫تقـوم السـاعة حتـى تلحـ َق قبائـ ُل مـن أمتـي بالمشـركين‪ ،‬وحتـى تعبـد قبائـل مـن‬ ‫أمتـي الأوثـان‪ ،‬وإنـه سـيكون فـي أمتـي كذابـون ثلاثـون‪ ،‬كلهـم يزعـم أنـه نبـي‪،‬‬ ‫وأنــا خاتــم النبييــن لا نبــي بعــدي‪ ،‬ولا تــزال طائفــة مــن أمتــي علــى الحــق‪ ،‬لا‬ ‫يضرهـم مـن خالفهـم حتـى يأتـي أمـر الله»(‪.)1‬‬ ‫* التقليد الأعمى للأمم الفاسقة‪:‬‬ ‫تمـارس بعـض قـوى الشـر فـي العالـم غـزواً فكريـاً علـى الأمـم الضعيفة‪ ،‬باسـم‬ ‫الحفـاظ علـى حقـوق الإنسـان‪ ،‬والسـعي إلـى تحريـره وتأميـن رغـد العيـش لـه‪،‬‬ ‫فتتحكـم فـي ثقافـة الأمـم الضعيفـة ومقدراتهـا ومنهجهـا وفكرهـا وحضارتهـا‪ ،‬مما‬ ‫ينبـه الكثيـر مـن أبنـاء هـذه الأمـم إلـى رفـض هـذه الهيمنـة والتبعيـة‪ ،‬فيقفـون فـي‬ ‫وجـه التقليـد الأعمـى للقـوى الكبـرى‪ ،‬ويصـ ُّر آخـرون علـى السـير علـى خطـى‬ ‫تلـك القـوى الفاسـقة وتقليدهـا فـي كل أمورهـا ليصلـوا ـ بزعمهـم ـ إلـى الحضـارة‬ ‫والتطـور‪ ،‬والمدنيـة‪ ،‬فينشـب الخـاف الـذي يـؤدي إلـى النـزاع والاقتتال‪ ،‬فتشـتعل‬ ‫الفتـن ويشـب ضرامهـا بيـن الأخـوة وأبنـاء الأمـة‪ ،‬وهـذا مـا يخطـط لـه الأعـداء‬ ‫بمكرهـم وخداعهـم‪ ،‬لذلـك حذرنـا رسـول الله ﷺ مـن التقليـد الأعمـى للأمـم‬ ‫الفاسـقة؛ ومـن ذلـك‪:‬‬ ‫مـا جـاء عـن عبـد الله بـن عمـرو بـن العـاص ‪ ‬قـال‪ :‬قـال رسـول الله ﷺ‪:‬‬ ‫«ليأتيـن علـى أمتـي مـا أتـى علـى بنـي إسـرائيل‪ ،‬حـذو النعـل بالنعـل(‪ ،)2‬حتـى‬ ‫(‪ )1‬أخرجه أبو داود في كتاب الفتن‪ ،‬باب ذكر الفتن ودلائلها‪ ،157/4:‬رقم (‪ ، )4254‬وابن حبان‬ ‫في كتاب المناقب‪ ،‬باب فضل الأمة‪ 220/16:‬رقم (‪ ،)7238‬والحاكم في المستدرك‪ ،‬كتاب الفتن‬ ‫والملاحم‪ ،496/4:‬رقم (‪ ،)8390‬وقال الحاكم‪\" :‬هذا حديث صحيح على شرط الشيخين‪ ،‬ولم يخرجاه‬ ‫بهذه السياقة\"‪ ،‬ووافقه الذهبي‪.‬‬ ‫(‪ )2‬حذو النعل بالنعل‪ :‬أي تعملون مثل أعمالهم كما تقطع إحدى النعلين على قدر النعل الأخرى‪ ،‬والحذو‪:‬‬ ‫التقدير والقطع‪ .‬انظر‪ :‬النهاية‪ ،‬لابن الأثير‪.357/1:‬‬ ‫‪71‬‬

‫إن كان منهـم مـن أتـى أمَّـه علانيـة‪ ،‬لـكان فـي أمتـي مـن يصنـع ذلـك‪ ،‬وإن بنـي‬ ‫إسـرائيل تفرقـت علـى اثنتيـن وسـبعين ملـة‪ ،‬وتفتـرق أمتـي علـى ثـاث وسـبعين‬ ‫ملـة‪ ،‬كلهـم فـي النـار إلا ملـة واحـدة»‪ ،‬قالـوا‪ :‬ومـن هـي يـا رسـول الله؟ قـال ﷺ‪:‬‬ ‫«مـا أنـا عليـه وأصحابـي»(‪.)1‬‬ ‫عـن أبـي واقـد الليثـي ‪ ‬أن رسـول الله ﷺ لمـا خـرج إلـى حنيـن مـ َّر بشـجرة‬ ‫للمشـركين‪ ،‬يقـال لهـا‪ :‬ذات أنـواط‪ ،‬يعلقـون عليهـا أسـلحتهم‪ ،‬فقالـوا‪ :‬يـا رسـول الله‪،‬‬ ‫اجعـل لنـا ذات أنـواط‪ ،‬كمـا لهـم ذات أنـواط‪ ،‬فقـال النبـي ﷺ‪« :‬سـبحان الله‪ ،‬هـذا‬ ‫كمـا قـال قـوم موسـى ‪﴿ :‬ٱ ۡج َعـل َّلَـآ إِ َلٰ ٗهـا َك َمـا لَ ُهـ ۡم َءالِ َهـة‪[ ﴾ٞ‬الآية‪/‬الأعـراف‪،]138:‬‬ ‫والـذي نفسـي بيـده‪ ،‬لتركبـن سـنة مـن كان قبلكـم»(‪.)2‬‬ ‫وزاد رزيـن‪« :‬حـذو النعـل بالنعـل‪ ،‬والقـذة بالقـذة‪ ،‬حتـى إن كان فيهـم مـن أتـى‬ ‫أمـه يكـون فيكـم‪ ،‬فـا أدري أتعبـدون العجـل أم لا ؟»‪.‬‬ ‫عــن أبــي ســعيد الخــدري ‪ ‬أن رســول الله ﷺ قــال‪« :‬لتتبعــن ســنن الذيــن‬ ‫مــن قبلكــم‪ ،‬شــبراً بشــبر‪ ،‬وذراعــاً بــذراع‪ ،‬حتــى لــو دخلــوا فــي جحــر ضــب‬ ‫لاتبعتموهـم»‪ ،‬قلنـا‪ :‬يـا رسـول الله‪ ،‬اليهـود والنصـارى؟ قـال ﷺ‪« :‬فمـن؟»(‪.)3‬‬ ‫عــن أبــي هريــرة ‪ ‬أن رســول الله ﷺ قــال‪« :‬لا تقــوم الســاعة‪ ،‬حتــى تأخــذ‬ ‫أمتـي بأخـذ القـرون قبلهـا‪ ،‬شـبراً بشـبر‪ ،‬وذراعـاً بـذراع»‪ ،‬فقيـل‪ :‬يـا رسـول الله‪،‬‬ ‫كفــارس والــروم؟ فقــال ﷺ‪« :‬ومــن النــاس إلا أولئــك؟»(‪.)4‬‬ ‫(‪ )1‬أخرجه الترمذي في كتاب الإيمان‪ ،‬باب افتراق الأمة‪ ،26/5:‬رقم (‪ ، )2641‬وقال الترمذي‪\" :‬هذا‬ ‫حديث مفسر غريب\"‪ .‬ورمز السيوطي لضعفه في الجامع الصغير‪.461/2:‬‬ ‫(‪ )2‬أخرجه الترمذي في كتاب الفتن‪ ،‬باب لتركبن سنن من كان قبلكم‪ ،475/4:‬رقم (‪ ،)2180‬وقال‬ ‫الترمذي‪\" :‬هذا حديث حسن صحيح\"‪.‬‬ ‫(‪ )3‬أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء‪ ،‬باب ما ذكر عن بني إسرائيل‪ ،1274/3:‬رقم (‪ ، )3269‬ومسلم في‬ ‫كتاب العلم‪ ،‬باب في الألد الخصم‪ ،2581/5:‬رقم (‪ ،)2669‬واللفظ لمسلم‪.‬‬ ‫(‪ )4‬أخرجه البخاري في الاعتصام بالكتاب والسنة‪ ،‬باب قول النبي ﷺ‪« :‬لتتبعن سنن من كان‬ ‫قبلكم»‪ ،2669/6:‬رقم (‪.)6888‬‬ ‫‪72‬‬

‫عــن عائشــة ‪ ‬قالــت‪ :‬ســمعت رســول الله ﷺ يقــول‪« :‬لا يذهــب الليــل‬ ‫والنهــار‪ ،‬حتــى تعبــد الــات والعــزى»‪ ،‬فقلــت‪ :‬يــا رســول الله‪ ،‬إن كنــت لأظــن‬ ‫ٱ ۡ َلـ ِّق ِ ُل ۡظ ِهـ َر ُهۥ َ َع‬ ‫بِٱلۡ ُهـ َد ٰى‬ ‫أَ ۡر َسـ َل َر ُسـو َ ُلۥ‬ ‫﴿ ُهـ َو ٱ َّ ِل ٓي‬ ‫ٱل ِّديـ ِن‬ ‫قـال ﷺ‪« :‬إنـه س‬ ‫َودِيـ ِن‬ ‫أن ذلـك‬ ‫‪[ ﴾٩‬الصـف]‪،‬‬ ‫ٱلۡ ُم ۡ ِش ُكــو َن‬ ‫أنـزل الله‪:‬‬ ‫حيـن‬ ‫ـيكون‬ ‫تام ـاً‪،‬‬ ‫َولَــ ۡو َكــ ِرهَ‬ ‫ُكِّــهِۦ‬ ‫مـن ذلـك مـا شـاء الله‪ ،‬ثـم يبعـث الله ريحـاً طيبـة‪ ،‬فتوفـى كل مـن فـي قلبـه مثقـال‬ ‫حبـة خـردل مـن إيمـان‪ ،‬فيبقـى مـن لا خيـر فيـه‪ ،‬فيرجعـون إلـى ديـن آبائهـم»(‪.)1‬‬ ‫* قراءة القرآن وترك العمل به آخر الزمان‪:‬‬ ‫إ َّن البعـد عـن المنهـج القرآنـي والتوجيـه النبـوي يجعـل الإنسـان عرضـة للفتـن‬ ‫وآثارهــا الســيئة‪ ،‬فكثيــر مــن المســلمين لا يتدبــرون القــرآن ولا يســعون لفهمــه‪،‬‬ ‫فضـاً عـن العمـل بـه وتطبيـق أحكامـه‪.‬‬ ‫وبعضهـم يقفـون عنـد ظواهـر نصـوص القـرآن الكريـم ومـا تشـابه منـه‪ ،‬وهم لا‬ ‫يعلمـون مـن قواعـد تفسـير النصـوص شـيئاً‪ ،‬فيحملـون الآيـات علـى غيـر وجههـا‪،‬‬ ‫ويفسـرونها علـى غيـر مرادهـا‪ ،‬علـى غيـر هـدى ولا علـم ولا بصيـرة‪ ،‬فيكذبـون‬ ‫علـى الله فـي تأويـل كلامـه‪.‬‬ ‫لذلــك حذرنــا رســول الله ﷺ منهــم‪ ،‬لأنهــم دعــاةُ باطــل‪ ،‬حتــى وإن كانــوا‬ ‫يقـرؤون القـرآن ويحفظونـه‪ ،‬إلا أنـه لا يجـاو ُز تراقيهـم‪ ،‬فقـد تركـوا العمـل بـه‪.‬‬ ‫فعـن يزيـ َد بـ ِن عميـرة رحمـه الله‪ ،‬وكان مـن أصحـاب معـاذ بـن جبـل ‪ ‬أنـه‬ ‫قـال‪ :‬كان لا يجلـس مجلسـاً للذكـر‪ ،‬حيـن يجلـس إلا قـال‪ :‬الله حكـم قسـط‪ ،‬هلـك‬ ‫المرتابــون‪ ،‬فقــال معــاذ بــن جبــل ‪ ‬يومــاً‪« :‬إن مــن ورائكــم فتنــاً يكثــر فيهــا‬ ‫المـال‪ ،‬ويفتـح فيهـا القـرآن‪ ،‬حتـى يأخـذه المؤمـن والمنافـق‪ ،‬والرجـل والمـرأة‪،‬‬ ‫والصغيـر والكبيـر‪ ،‬والعبـد والحـر‪ ،‬فيوشـك قائـل أن يقـول‪ :‬مـا للنـاس لا يتبعوني‪،‬‬ ‫(‪ )1‬أخرجه مسلم في كتاب العلم‪ ،‬باب في الألد الخصم‪ ،2748/5:‬رقم (‪.)2907‬‬ ‫‪73‬‬

‫وقـد قـرأت القـرآن؟ مـا هـم بمتبعـ َّي حتـى أبتـدع لهـم غيـره‪ ،‬فإياكـم ومـا ابتـدع‪،‬‬ ‫فـإن مـا ابتـدع ضلالـة‪ ،‬وأحذركـم زيغـة الحكيـم‪ ،‬فـإن الشـيطان قـد يقـول كلمـة‬ ‫الضلالـة علـى لسـان الحكيـم‪ ،‬وقـد يقـول المنافـق كلمـة الحق‪ ،‬قـال‪ :‬قلـت لمعاذ‪:‬‬ ‫مــا يدرينــي ـ رحمــك الله ـ أن الحكيــم قــد يقــول كلمــة الضلالــة‪ ،‬وأن المنافــق‬ ‫قـد يقـول كلمـة الحـق؟ قـال‪ :‬بلـى اجتنـب مـن كلام الحكيـم المشـتهرات‪ ،‬التـي‬ ‫يقـال لهـا‪ :‬مـا هـذه؟ ولا يثنينـك ذلـك عنـه‪ ،‬فإنـه لعلـه أن يراجـع‪ ،‬وتلـق الحـق إذا‬ ‫سـمعته‪ ،‬فـإن علـى الحـق نـوراً»(‪.)1‬‬ ‫* تن ّكر الناس لشرع الله آخر الزمان‪:‬‬ ‫عندمـا يغيـب نـور العلـم‪ ،‬ويحـل ظـام الجهـل‪ ،‬يبتعـد النـا ُس عـن شـرع الله‬ ‫تعالـى‪ ،‬ويرتعـون فـي مسـتنقع المعاصـي والآثـام‪ ،‬بـل يألفـون فعلهـا‪ ،‬ممـا يدفعهـم‬ ‫إلـى الإنـكار علـى مـن يلتـزم بالشـرع الشـريف‪ ،‬ويحـرص علـى العلـم الصحيـح‪،‬‬ ‫بـل ويمرقـون مـن الديـن كمـا يمـرق السـهم مـن الرميـة‪.‬‬ ‫هـذا منـاخ ملائـم لتوالـد الفتـن‪ ،‬وتفاقـم أمورهـا‪ ،‬وهـو مرتـع مناسـب للتناحـر‬ ‫والتخاصـم بيـن الفرقـاء‪ ،‬وسـبيل سـهل لإراقـة الدمـاء وفسـاد ذات البيـن‪ ،‬وهـذا‬ ‫مـا بيَّنـه رسـول الله ﷺ فـي كثيـر مـن أحاديثـه الشـريفة‪.‬‬ ‫ومنهــا مــا جــاء عــن أبــي إدريــس الخولانــي رحمــه الله‪ :‬إنــه ســمع حذيفــة‬ ‫بــن اليمــان ‪ ‬قــال‪ :‬كان النــاس يســألون رســول الله ﷺ عــن الخيــر‪ ،‬وكنــت‬ ‫أسـأله عـن الشـر‪ ،‬مخافـة أن يدركنـي‪ ،‬فقلـت يـا رسـول الله‪ :‬إنـا كنـا فـي جاهليـة‬ ‫وشـر‪ ،‬فجاءنـا الله بهـذا الخيـر‪ ،‬فهـل بعـد هـذا الخيـر شـر؟ قـال ﷺ‪« :‬نعـم»‪،‬‬ ‫فقلـت‪ :‬هـل بعـد ذلـك الشـر مـن خيـر؟ قـال‪« :‬نعـم‪ ،‬وفيـه دَ َخـ ٌن»‪ ،‬قلـت‪ :‬ومـا‬ ‫دخنـه؟ قـال ﷺ‪« :‬قـوم يسـتنون بغيـر سـنتي‪ ،‬ويهـدون بغيـر هديـي‪ ،‬تعـرف منهـم‬ ‫وتنكـر»‪ ،‬فقلـت‪ :‬هـل بعـد ذلـك الخيـر مـن شـر؟ قـال ﷺ‪« :‬نعـم دعـاة علـى‬ ‫أبـواب جهنـم‪ ،‬مـن أجابهـم إليهـا قذفـوه فيهـا»‪ ،‬فقلـت يـا رسـول الله‪ :‬صفهـم لنـا‪،‬‬ ‫(‪ )1‬أخرجه أبو داود في كتاب السنة‪ ،‬باب في لزوم السنة‪ ،331/4:‬رقم (‪.)4613‬‬ ‫‪74‬‬

‫قـال ﷺ‪« :‬نعـم قـوم مـن جلدتنـا ويتكلمـون بألسـنتنا»‪ ،‬قلـت يـا رسـول الله‪ :‬فمـا‬ ‫تـرى إن أدركنـي ذلـك؟ قـال ﷺ‪« :‬تلـزم جماعـة المسـلمين وإمامهـم»‪ ،‬فقلـت‪:‬‬ ‫فـإن لـم تكـن لهـم جماعـة ولا إمـام؟ قـال ﷺ‪« :‬فاعتـزل تلـك الفـرق كلهـا‪ ،‬ولـو‬ ‫أن تعـ َّض علـى أصـل شـجرة حتـى يـدركك المـوت وأنـت علـى ذلـك»(‪.)1‬‬ ‫وفــي روايــة لمســلم‪ ،‬قــال ﷺ‪« :‬يكــون بعــدي أئمــةٌ‪ ،‬لا يهتــدون بهــدا‪ ،‬ولا‬ ‫يســتنون بســنتي‪ ،‬وســيقوم فيهــم رجــال‪ ،‬قلوبهــم قلــوب الشــياطين فــي جثمــان‬ ‫إنــس»‪ ،‬قــال‪ :‬قلــت‪ :‬كيــف أصنــع يــا رســول الله إن أدركــت ذلــك؟ قــال ﷺ‪:‬‬ ‫«تسـمع وتطيـع للأميـر‪ ،‬وإن ضـرب ظهـرك‪ ،‬وأخـذ مالـك‪ ،‬فاسـمع وأطـع»(‪.)2‬‬ ‫وفـي روايـة أبـي داود‪ ،‬قـال ُسـبيع بـن خالـد‪ :‬أتيـت الكوفـة فـي زمـن فتحـت‬ ‫تســتر(‪ ،)3‬أجلــب منهــا بغــالاً‪ ،‬فدخلــت المســجد‪ ،‬فــإذا صــدع مــن الرجــال‪ ،‬وإذا‬ ‫رجــل جالــس‪ ،‬تعــرف إذا رأيتــه أنــه مــن رجــال أهــل الحجــاز‪ ،‬قــال‪ :‬قلــت مــن‬ ‫هــذا؟ فتجهمنــي القــوم‪ ،‬وقالــوا‪ :‬أمــا تعــرف هــذا؟ هــذا حذيفــة بــن اليمــان ‪‬‬ ‫صاحــب رســول الله ﷺ‪ ،‬فقــال حذيفــة ‪ :‬إن النــاس كانــوا يســألون رســول الله‬ ‫ﷺ عـن الخيـر‪ ،‬وكنـت أسـأله عـن الشـر‪ ،‬فأحدقـه القـوم بأبصارهـم‪ ،‬فقـال‪ :‬إنـي‬ ‫أرى الـذي تنكـرون‪ ،‬إنـي قلـت‪ :‬يـا رسـول الله‪ ،‬أرأيـت هـذا الخيـر الـذي أعطانـا‬ ‫الله‪ ،‬أيكـون بعـده شـر‪ ،‬كمـا كان قبلـه؟ قـال ﷺ‪« :‬نعـم»‪ ،‬قلـت‪ :‬فمـا العصمـة مـن‬ ‫ذلـك؟ قـال ﷺ‪« :‬السـيف»‪ ،‬قلـت‪ :‬يـا رسـول الله‪ ،‬ثـم مـاذا يكـون؟ قـال ﷺ‪« :‬إن‬ ‫كان لله خليفـة فـي الأرض‪ ،‬فضـرب ظهـرك‪ ،‬وأخـذ مالـك فأطعـه‪ ،‬وإلا فمـت وأنـت‬ ‫عـاض بجـذل شـجرة»‪ ،‬قلـت‪ :‬ثـم مـاذا؟ قـال ﷺ‪« :‬ثـم يخـرج الدجـال معـه نهـر‬ ‫ونـار‪ ،‬فمـن وقـع فـي نـاره‪ ،‬وجـب أجـره وحـط وزره‪ ،‬ومـن وقـع فـي نهـره‪ ،‬وجـب‬ ‫(‪ )1‬أخرجه البخاري في المناقب‪ ،‬باب علامات النبوة في الإسلام‪ ،1319/3 :‬رقم (‪ ،)3411‬ومسلم في كتاب‬ ‫الإمارة‪ ،‬باب وجوب ملازمة جماعة‪ ،1947/4:‬رقم (‪.)1887‬‬ ‫(‪ )2‬أخرجه مسلم في كتاب الإمارة‪ ،‬باب الأمر بلزوم الجماعة عن ظهور الفتن‪ ،1476/3:‬رقم (‪.)1847‬‬ ‫(‪ )3‬تستر‪ :‬وتسمى حالي ًا (ششتر) وهي من مدن الأهواز في العراق‪.‬‬ ‫‪75‬‬

‫وزره وحـط أجـره»‪ ،‬قـال‪ :‬قلـت‪ :‬ثـم مـاذا؟ قـال ﷺ‪« :‬ثـم هـي قيـام السـاعة»(‪.)1‬‬ ‫وفــي روايــة أخــرى لــه‪ :‬عــن نصــ ِر بــ ِن عاصــ ٍم الليثــي رحمــه الله قــال‪ :‬أتينــا‬ ‫اليَشـ ُكري رحمـه الله فـي رهـط مـن بنـي ليـث‪ ،‬فقـال‪ :‬مـن القـوم؟ قلنـا‪ :‬بنـو ليـ ‪,‬ث‬ ‫أتينـاك نسـألك عـن حديـث حذيفـة ‪ ،‬فذكـر الحديـث‪ .‬قـال‪ :‬قلـت‪ :‬يـا رسـول‬ ‫الله هـل بعـد هـذا الخيـر شـر؟ قـال ﷺ‪« :‬فتنـة وشـر»‪ ،‬قـال‪ :‬قلـت‪ :‬يـا رسـول‬ ‫الله‪ ،‬هـل بعـد هـذا الشـر خيـر؟ قـال ﷺ‪« :‬يـا حذيفـة تعلَّـم كتـاب الله‪ ،‬واتبـع مـا‬ ‫فيـه» ـ ثـاث مـرار ـ‪ ،‬قـال‪ :‬قلـت‪ :‬يـا رسـول الله‪ ،‬هـل بعـد هـذا الشـر خيـر؟ قـال‬ ‫ﷺ‪« :‬هدنــة علــى دخــن(‪ ،)2‬وجماعــة علــى أقــذاء فيهــا(‪ )3‬ـ أو فيهــم ـ »‪ ،‬قلــت‪:‬‬ ‫يـا رسـول الله الهدنـة علـى الدخـن مـا هـي؟ قـال‪« :‬لا تر ِجـع قلـوب أقـوام علـى‬ ‫الـذي كانـت عليـه»‪ ،‬قـال‪ :‬قلـت‪ :‬يـا رسـول الله‪ ،‬أبعـد هـذا الخيـر شـر؟ قـال ﷺ‪:‬‬ ‫«فتنـة عميـاء صمـاء‪ ،‬عليهـا دعـاة علـى أبـواب النـار‪ ،‬فـإن تمـت يـا حذيفـة‪ ،‬وأنـت‬ ‫عـاض علـى جـذل‪ ،‬خيـر لـك مـن أن تتبـع أحـداً منهـم»(‪.)4‬‬ ‫قـال الإمـام الحافـظ ابـن حجـر العسـقلاني رحمـه الله فـي فتـح البـاري‪« :‬قولـه‬ ‫«فــي جاهليــة وشــر»‪ :‬يشــير إلــى مــا كان مــن قبــل الإســام مــن الكفــر وقتــل‬ ‫بعضهـم بعضـاً ونهـب بعضهـم بعضـاً وإتيـان الفواحـش ‪.‬والذي يظهـر أن المـرا َد بـ‪:‬‬ ‫«الدعـاة علـى أبـواب جهنـم»‪ :‬مـن قـام فـي طلـب الملـك مـن الخـوارج وغيرهـم‪،‬‬ ‫(‪ )1‬أخرجه أبو داود في كتاب الفتن‪ ،‬باب ذكر الفتن ودلائلها‪ ،153/4:‬رقم (‪.)4246‬‬ ‫(‪ )2‬على دخن‪ :‬أي على فساد واختلاف‪ ,‬تشبيها بدخان الحطب الرطب ‪ ,‬لما بينهم من الفساد الباطن تحت الصلاح‬ ‫الظاهر‪ .‬انظر‪ :‬النهاية‪ ،‬لابن الأثير‪.109/2:‬‬ ‫(‪ )3‬الأقذاء‪ :‬جمع قذى والقذى جمع قذاة‪ ،‬وهو ما يقع في العين والماء والشراب من تراب أو تبن أو‪ ...‬أراد‬ ‫اجتماعهم يكون على فساد في قلوبهم‪ .‬انظر‪ :‬النهاية لابن الأثير‪.30/4:‬‬ ‫(‪ )4‬أخرجه أبو داود في كتاب الفتن‪ ،‬باب ذكر الفتن‪ ،155/4:‬رقم (‪.)4248‬‬ ‫‪76‬‬

‫وإلـى ذلـك الإشـارة بقولـه‪« :‬الـزم جماعـة المسـلمين وإمامهـم» يعنـي‪ :‬ولـو جـار‪،‬‬ ‫ويوضـح ذلـك روايـة أبـي الأسـود‪« :‬ولـو ضـرب ظهـرك وأخـذ مالـك»‪ ،‬وكان‬ ‫مثـل ذلـك كثيـراً فِـي إمـارة الحجـاج ونحـوه ‪.‬وقولـه‪« :‬وأنـت علـى ذلـك»؛ أي‪:‬‬ ‫العـض‪ ،‬وهـو كنايـة عـن لـزوم جماعـة المسـلمين وطاعـة سـاطينهم ولـو عصـوا‪.‬‬ ‫قـال البيضـاوي‪ :‬المعنـى إذا لـم يكـن فـي الأرض خليفـة فعليـك بالعزلـة والصبـر‬ ‫علــى تحمــل شــدة الزمــان‪ .‬وقــال ابــن ب ّطــال‪ :‬فيــه حجــة لجماعــة الفقهــاء فــي‬ ‫وجـوب لـزوم جماعـة المسـلمين وتـرك الخـروج علـى أئمـة الجـور؛ لأنـه وصـف‬ ‫الطائفـة الأخيـرة بأنهـم «دعـاة علـى أبـواب جهنـم»‪ ،‬ولـم يقـل فيهـم‪« :‬تعـرف‬ ‫وتنكـر» كمـا قـال فـي الأوليـن‪ ،‬وهـم لا يكونـون كذلـك إلا وهـم علـى غيـر حـق‪،‬‬ ‫وأمـر مـع ذلـك بلـزوم الجماعـة»(‪.)1‬‬ ‫والجماعــة التــي أمــر الشــارع بلزومهــا جماعــ ُة أئمــة العلمــاء؛ لأن الله ‪‬‬ ‫جعلهـم حجـة علـى خلقـه‪ ،‬وإليهـم تفـزع العامـة فـي أمـر دينهـا‪ ،‬وهـم المعنيـون‬ ‫بقولــه ﷺ‪« :‬إن الله لا يجمــع أمتــي علــى ضلالــة»(‪.)2‬‬ ‫وقال آخرون‪ :‬هم جماعة الصحابة ‪ ‬الذين قاموا بالدين‪ ،‬وثبّتوا أوتاده‪.‬‬ ‫وقــال آخــرون‪ :‬هــم جماعــة أهــل الإســام‪ ،‬مــا كانــوا مجتمعيــن علــى‬ ‫أمـ ٍر واجـب علـى أهـل ال ِملَـل اتبا َعـه‪ ،‬فـإذا كان فيهـم مخالـف منهـم فليسـوا‬ ‫مجتمعيــن‪.‬‬ ‫(‪ )1‬فتح الباري شرح صحيح البخاري‪ ،‬لابن حجر‪ 35/13:‬ـ ‪( 38‬بتصرف يسير)‪.‬‬ ‫(‪ )2‬أخرجه الترمذي في الفتن‪ ،‬باب ما جاء في لزوم الجماعة‪ ،466/4:‬رقم (‪ ،)2167‬والحاكم في‬ ‫المستدرك‪ ،201/1:‬رقم (‪.)397‬‬ ‫‪77‬‬

‫سبل الوقاية من الفتن‪:‬‬ ‫لا بـد مـن بيـان سـبل الوقايـة مـن الفتـن‪ ،‬وكيفيـة التعامـل مـع هـذه الفتـن التـي‬ ‫تمـوج موجـاً فـي هـذا العصـر‪ ،‬والتـي ربمـا يبتلـى الشـخص فـي الخـوض فيهـا‪،‬‬ ‫وتتلبسـه إلـى أخمـص قدميـه‪ ،‬وهـو يظـن أنـه نـاج منهـا‪ ،‬وهـو فـي الحقيقـة مـن‬ ‫السـاعين فيهـا‪ ،‬النافخيـن فـي كيرهـا!!‪.‬‬ ‫فالوقايـة خيـر مـن العـاج‪ ،‬والدفـع أسـهل مـن الرفـع‪ ،‬والتخليـة مقدمـة علـى‬ ‫التحليـة‪ ،‬قـال أميـر المؤمنيـن عمـر ‪\" :‬يوشـك أن يَ ْهـ ِد َم ال ِإسـا َم َح َجـراً َح َجـراً‬ ‫مَـ ْن جهـل عـادا ِت الجاهليـة\"‪.‬‬ ‫وإن مــن أهــم ســبل الوقايــة مــن الفتــن التــي حذرنــا منهــا رســول الله ﷺ مــا‬ ‫يأتــي‪:‬‬ ‫* التمسك بالكتاب والسنة‪:‬‬ ‫فالتمسـك بكتـاب الله ‪ ،‬وسـنة رسـوله ﷺ‪ ،‬والالتـزام الكامـل بمنهـج الله ‪‬‬ ‫وهديـه‪ ،‬خيـر عاصـم مـن الضـال‪ ،‬وهمـا المنجيـان مـن شـر الفتـن مـا ظهـر منهـا‬ ‫ومـا بطـن‪ ،‬كمـا تـدل علـى ذلـك النصـوص الشـرعية الصريحـة‪.‬‬ ‫قـا َل رسـول الله ﷺ‪« :‬تركـ ُت فيكـم مـا لـن تضلُّـوا بعـدهُ إِ ِن اعتصمتـم بـ ِه‪ ،‬كتا ُب‬ ‫الل ِه‪ ،‬وأنتـم تُسـأَلو َن َعنِّـي‪ ،‬فمـا أنتم قائلـون؟»(‪.)1‬‬ ‫قـال عبـد الرحمـن بـن أبـزى‪ :‬قلـت لأبـي بـن كعـب ‪ ‬لمـا وقـع النـاس فـي‬ ‫أمـر عثمـان ‪ :‬أبـا المنـذر مـا المخـرج؟ قـال‪« :‬كتـاب الله مـا اسـتبان لـك فاعمـل‬ ‫بـه‪ ،‬ومـا اشـتبه عليـك فكلـه إلـى عالمـه»(‪.)2‬‬ ‫(‪ )1‬أخرجه مسلم في كتاب الحج‪ ،‬باب حجة النبي ﷺ‪ ،886/2:‬رقم (‪.)1218‬‬ ‫(‪ )2‬أخرجه البخاري في التاريخ الأوسط‪ ،64/1:‬والحاكم في المستدرك ‪ ،343/3:‬رقم (‪ ،)5321‬وصححه‬ ‫الذهبي‪.‬‬ ‫‪78‬‬

‫وقـال أبـو مسـعود لحذيفـة ‪« :‬إن الفتنـة وقعـت‪ ،‬فحدثنـي مـا سـمعته\" قـال‪:‬‬ ‫\"أَ َولـم يأتكـم اليقيـن؟ كتـا ُب الله عـ َّز وجـ َّل»(‪.)1‬‬ ‫ويتفـاوت النـاس فـي مـدى اسـتبصارهم بحقيقـة الفتنـة‪ ،‬واسـتجلاء عواقبهـا‪،‬‬ ‫تَبَعـاً لمـا أوتـوه مـن التقـوى‪ ،‬والعلـم بكتـاب الله‪ ،‬فالقلـب كالعيـن فـي إبصارهـا‪،‬‬ ‫فتجـد عينـاً لا تبصـر البعيـد‪ ،‬وأخـرى لا تبصـر بمجـرد وجـود ضبـاب طفيـف‪ ،‬أو‬ ‫غبـار خفيـف‪ ،‬فضـاً عـن أن تكـون فـي ظـام‪ ،‬فإبصـار القلـب تابـع لقـوة الفقـه‪،‬‬ ‫ونـور الإيمـان‪ ،‬ومقدارهمـا(‪.)2‬‬ ‫وقــد َشــبَّه النبــي ﷺ الفتنــة بقطــع الليــل المظلــم‪ ،‬أي‪ :‬الــذي لا قمــر فيــه ولا‬ ‫ضيــاء‪ ،‬فالســاري فيــه علــى شــفا هلكــة إن لــم يكــن معــه نــور يبصــر بــه مواقــع‬ ‫قدميــه‪ ،‬وهــو فــي حــال الفتــن نــور العلــم الــذي يكشــف أهلَهــا‪ ،‬ويبيــن حالهــا‪.‬‬ ‫ببُِ ۡـر﴿ٱفََٱهٰلَّ َّوـلِقِل ‪ٞ‬ـينَوـدَّرِمَنُـسسـَءـناو ََّممَِّرلُِن ّبِىۦـوا َاوْلُٱكللبِهـنُّـ ۡـمهِوۦَ‪‬ورِأَ َنوٱك ََّزَتع ۡاِلـلَب َّزــٓيآُهرأَإِاون َهُل َۡلزعَۡولَزنَيـُـكـاۚـَز َۡومٱُنرـنُلَّوـُهُولورَبوِٗاًرٱ َا؛مَّتـَبفُّام ُعقبِ َتــياۡٗعوناْ َـملٱا ُللـ‪٤‬نُّ‪٧‬وـ‪١‬وَ‪:‬ن َر﴾ ٱَ[خ﴿َّابَلِ ِلنـٰٓيسَأٓـيُّر‪ٞ‬ياأُءَهن]ــ‪،‬ا‪٨‬زِٱ َو﴾للقنَّ[ــاَمالاتَع ُغلـابسُـه ٓۥقَن‪]‬أـُ‪ْۡ،:‬ود َ ٰٓول﴿ئقَِجــآَا َٔ‍فَءَاكل ِم ُُنُكهـــ‪‬وُمما‪ْ:‬‬ ‫ٱلۡ ُم ۡفلِ ُحـو َن ‪[ ﴾١٥٧‬الآية‪/‬الأعـراف]‪.‬‬ ‫َف َمـكۡنم َأـباۡـسَـ َرَّم َفىلِاَنل ۡفله ِسـ‪‬هِۖۦكت َوا َبمــه ۡن(ب َعـصاِئ َـير َف) َع؛لَف ۡيقَهـاـاۚل َو َمـ‪‬آ‪َ :‬أنَ﴿ـ َقا۠ـ َۡدعلَ ۡيَجآ َء ُكـ ُكمـ ِم َببَفِيَصـآ ٖئِظـ ُر‪ِ١٠٤‬مـ﴾ن[ا َّرل ّبأِنعـ ُاكمـ] ۡم‪ۖ،‬‬ ‫وقـال ‪َ ﴿ :‬هٰـ َذا بَ َ ٰٓصئِـ ُر لِل َّنـا ِس َو ُهـ ٗدى َو َر ۡ َحـة‪ّ ٞ‬لِ َقـ ۡو ٖم يُوقِ ُنـو َن ‪[ ﴾٢٠‬الجاثيـة]‪.‬‬ ‫(‪ )1‬أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء‪.274/1:‬‬ ‫(‪ )2‬انظر‪ :‬العوائق‪ :‬ص ‪.29‬‬ ‫‪79‬‬

‫* مجاهدة النفس والهوى‪:‬‬ ‫فـا بـد مـن مجاهـدة الشـح المطـاع والهـوى المتّبـع والإعجـاب بالـرأي‪ ،‬حيـث‬ ‫وصـف رسـول الله ﷺ هـذه الأمـراض الثلاثـة بالمهلـكات‪ ،‬فكثيـراً مـا تـرك النـاس‬ ‫الرجـوع إلـى نصـوص الشـرع الشـريف فـي المواقـف الصعبـة‪ ،‬واتبعـوا مـا تمليـه‬ ‫عليهـم أهواؤهـم المنحرفـة‪ ،‬ويتمسـكون بآرائهـم الضالـة التـي أعجبـوا بهـا‪ ،‬والتـي‬ ‫تحقـق لهـم المصالـح الدنيويـة الفانيـة‪ ،‬ولـو علـى حسـاب دينهـم وآخرتهـم الباقيـة‪،‬‬ ‫ولــو أنهــم عملــوا علــى مجاهــدة النفــس ومخالفــة الهــوى وتمســكوا بالكتــاب‬ ‫والســنة واتبعــوا هــدي العلمــاء العامليــن لنَ َجــوا مــن مخاطــر الفتــن وحصنــوا‬ ‫أنفسـهم مـن ضرامهـا‪ ،‬قـال الله تعالـى‪َ ﴿ :‬وٱ َّ ِليـ َن َجٰ َهـ ُدواْ فِي َنـا َلَ ۡه ِد َي َّن ُهـ ۡم ُسـ ُبلَ َناۚ ِإَو َّن‬ ‫ٱلَّ َل لَ َمــ َع ٱلۡ ُم ۡح ِســنِي َن ‪[ ﴾٦٩‬العنكبـوت]‪.‬‬ ‫* الزهد في الدنيا والسعي إلى الآخرة‪:‬‬ ‫إذا كان مـن أعظـم أسـباب الفتـن التنافـس علـى متـاع الدنيـا الفانيـة‪ ،‬والسـعي‬ ‫للحصـول عليهـا بـكل الوسـائل المتاحـة‪ ،‬فـإن أعظـم سـبيل للوقايـة مـن الفتـن هـو‬ ‫الزهـد فـي الدنيـا‪ ،‬وتـرك حطامهـا‪ ،‬والبعـد عـن التنافـس فيهـا‪ ،‬والسـعي إلـى الآخرة‬ ‫الباقيـة‪ ،‬وهـذا منهـج السـلف الصالـح‪ ،‬الحريصيـن علـى البعـد عـن الفتن وأسـبابها‪،‬‬ ‫فعـن عامـر بـن سـعد أن أبـاه سـعداً ‪ ‬كان فـي غنـ ٍم لـه‪ ،‬فجـاء ابنُـه عمـر‪ ،‬فلمـا رآه‬ ‫قـال‪« :‬أعـوذ بـالله مـن شـ ِّر هـذا الراكـب»‪ ،‬فلمـا انتهـى إليـه‪ ،‬قـال‪ :‬يـا أبـه! أرضيـ َت‬ ‫أن تكـون أعرابيًّـا فـي غنمـك‪ ،‬والنـاس يتنازعـون فـي ال ُملـك بالمدينـة؟ فضـرب‬ ‫صــد َر عمــر‪ ،‬وقــال‪ :‬اســكت‪ ،‬فإنــي ســمعت رســول الله ﷺ يقــول‪« :‬إن الله عــز‬ ‫وجـل يحـب العبـد التقـ َّي الغنـ َّي الخفـ َّي»(‪.)1‬‬ ‫(‪ )1‬أخرجه مسلم في كتاب الزهد والرقائق‪ ،2789/5 :‬رقم (‪ ،)2965‬وال ِإمام أحمد في مسنده ‪،168/1‬‬ ‫رقم (‪.)1441‬‬ ‫‪80‬‬

‫عـن عمـر بـن سـعد بـن أبـي وقـاص عـن أبيـه ‪ ،‬أنـه جـاءه ابنـه عامـر‪ ،‬فقـال‪:‬‬ ‫أي بُنَــ َّي‪ ..‬أفــي الفتنــة تأمرنــي أن أكــون رأســاً؟ لا والله‪ ،‬حتــى أُ ْعطــى ســي ًفا‪ ،‬إ ْن‬ ‫ضربــ ُت بــه مســلماً‪ ،‬نبــا عنــه‪ ،‬وإن ضربــت كافــراً قتلــه‪ ،‬ســمعت رســول الله ﷺ‬ ‫يقــول‪« :‬إن الله يحــب الغنــي الخفــي المتقــي»(‪.)1‬‬ ‫وعــن مح َّمــد بــن ســيرين قــال‪ :‬نُبِّئْــ ُت أن ســعداً ‪ ‬قــال‪« :‬مــا أزعــم أنــي‬ ‫بقميصـي هـذا أحـ ُّق منـي بالخلافـة‪ ،‬جاهـد ُت وأنـا أَ ْعـ َر ُف بالجهـاد‪ ،‬ولا أب َخـ ُع‬ ‫نفسـي إن كان رجـ ًا خيـراً منـي‪ ،‬لا أقاتـل حتـى يأتونـي بسـي ٍف لـه عينـان ولسـا ٌن‪،‬‬ ‫فيقـول‪ :‬هـذا مؤمـن‪ ،‬وهـذا كافـر»(‪.)2‬‬ ‫وعـن الحسـن البصـري قـال‪ :‬لمـا كان مـن أمـر النـاس مـا كان مـن أمـر الفتنـة‪،‬‬ ‫أتـوا عبـد الله بـن عمـر ‪ ،‬فقالـوا‪ :‬أنـت سـيد النـاس‪ ،‬وابـن سـيدهم‪ ،‬والنـاس‬ ‫بـك راضـون‪ :‬اخـرج نبايعـك‪ ،‬فقـال‪« :‬لا والله‪ ،‬لا يُ ْهـ َراق فـ َّي محجمـة مـن دم‪ ،‬ولا‬ ‫فـي سـببي‪ ،‬مـا كان فـ َّي الـروح»‪ ،‬قـال‪ :‬ثـم أُتِـ َي‪ ،‬ف ُخـ ِّو َف‪ ،‬فقيـل لـه‪ :‬لتخرجـ َّن أو‬ ‫لتقتلـ َّن علـى فراشـك‪ ،‬فقـال مثـل قولـه الأول؛ قـال الحسـن‪ :‬فـو الله‪ ،‬مـا اسـتقلوا‬ ‫منـه شـيئاً‪ ،‬حتـى لحـق بـالله تعالـى(‪.)3‬‬ ‫وعـن ابـ ِن سـيرين رحمـه الله‪ ،‬قـال‪ :‬قيـل لسـعد بـن أبـي وقـاص ‪ :‬ألا تقاتـل‪،‬‬ ‫فإنـك مـن أهـل الشـورى‪ ،‬وأنـت أحـق بهـذا الأمـر مـن غيـرك؟ فقـال‪« :‬لا أقاتـل‬ ‫حتـى تأتونـي بسـي ٍف لـه عينـان ولسـان وشـفتان‪ ،‬يعـرف المؤمـن مـن الكافـر‪ ،‬إن‬ ‫ضربــ ُت بــه مســلماً نبــا عنــه(‪ ،)4‬وإن ضربــ ُت بــه كافــراً قتلــه‪ ،‬فقــد جاهــد ُت وأنــا‬ ‫أ ْعــ ِر ُف الجهــاد»‪ ،‬و َضــ َرب لهــم مثَــاً‪ ،‬فقــا َل‪« :‬مثلُنــا و َمثلكــم كمثــ ِل قــوم كانــوا‬ ‫(‪ )1‬أخرجه الإمام أحمد في المسند‪ ،177/1:‬وأبو نعيم في الحلية‪.94/1:‬‬ ‫(‪ )2‬أخرجه ابن سعد‪ ،101/3:‬وأبو نعيم في الحلية‪ ،94/1:‬والطبراني في الكبير‪ ،‬رقم (‪ ،)322‬وقال الهيثمي‬ ‫في مجمع الزوائد‪\" :299/7:‬أخرجه الطبراني‪ ،‬ورجاله رجال الصحيح\"‪ .‬و(بخع نف َسه)‪ :‬قتلها غيظ ًا أو غ ّ ًم‪.‬‬ ‫(‪ )3‬أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء‪.293/1:‬‬ ‫(‪ )4‬نبا عنه‪ :‬أعرض عنه‪ ،‬و َن َفر‪ ،‬ولم ُي ِص ْبه‪.‬‬ ‫‪81‬‬

‫َعلـى َم َح َّجـ ٍة بيضـاء‪ ،‬فبينـا هـم كذلـك يسـيرون هاجـ ْت ريـ ٌح َع َّجاجـة(‪ )1‬فَ َضلُّـوا‬ ‫الطريـ َق‪ ،‬والتبـس عليهـم‪ ،‬فقـال بعضهـم‪( :‬الطريـق ذات اليميـن)‪ ،‬فأخـذوا فيهـا‪،‬‬ ‫فتاهــوا‪ ،‬وضلــوا‪ ،‬وقــال آخــرون‪( :‬الطريــق ذات الشــمال)‪ ،‬فأخــذوا فيهــا فتاهــوا‬ ‫وضلـوا‪ ،‬وقـال آخـرون‪ :‬كنـا فـي الطريـق حيـ ُث هاجـت الريـح فنُنِيـخ فأناخـوا(‪،)2‬‬ ‫فأصبحـوا‪ ،‬فذهـب الريـح‪ ،‬وتبيَّـن الطريـق‪ ،‬فهـؤلاء هـم الجماعـة»‪ ،‬قالـوا‪ :‬نلـزم مـا‬ ‫فارقنـا عليـه رسـول الله ﷺ حتـى نلقـاه‪ ،‬ولا ندخـل فـي شـيء مـن الفتـن(‪.)3‬‬ ‫عـن محمـد بـ ِن مَ ْسـلَمة ‪ ‬قـال‪ :‬قـال رسـول الله ﷺ‪« :‬يـا محمـد‪ ..‬إذا رأيـت‬ ‫النــاس يقتتلــون علــى الدنيــا‪ ،‬فاعمــد بســيفك علــى أعظــم صخــرة فــي الحــرة‪،‬‬ ‫فاضربـه بهـا حتـى ينكسـر‪ ،‬ثـم اجلـس فـي بيتـك‪ ،‬حتـى تأتيـك يـد خاطئـة‪ ،‬أو منيـة‬ ‫قاضيـة»(‪ .)4‬ففعلـت مـا أمرنـي بـه رسـول الله ﷺ‪.‬‬ ‫* الاشتغال بالعلم ومدارسته‪:‬‬ ‫فبالعلـم يظهـر الحـق مـن الباطـل‪ ،‬ويعـرف الخيـر مـن الشـر‪ ،‬وبالجهـل تختلـط‬ ‫الأمـور‪ ،‬ويلتبـس الحـق بالباطـل‪ .‬فـا بـد مـن تنويـر العقـول بالعلـم والمعرفـة‪،‬‬ ‫وبــذل الأوقــات فــي الاشــتغال بــه ومدارســته‪ ،‬وســلوك ســبيل الدعــوة إلــى الله‪،‬‬ ‫اٱألَّم ِلقـيارئـاًـ َبنالل َظم َلع‪ُ ‬مـ‪:‬ـرووا﴿ْ َفبِلَفَع َّم‪،‬ــ َاوذانن َه ُِۢيبســاًَوابٔ‍ِْعيـَمــناالس ُذمبِّكِن َمـكـُرـاوراْ َ‪،‬كبِنُـوـهِذولۦٓاْـأََينۡفكَج ۡيُسدَنفــاُعقـٱواًَّ َلِنليغ‪٥‬ـ‪١َ ٦‬نضـ َ﴾ي ۡن[ َباهلاـأل ۡوعلهـ َنر‪،‬اوَعف]ـج‪ِ .‬لنبـٱلاً ُّلسرـ ٓوضِءـاَوأهَ‪َ ،‬خف ۡذهنَــاو‬ ‫(‪ )1‬ع َّجت الريح‪ :‬اشتد هبوبها‪ ،‬وأثارت ال َعجاج؛ أي‪ :‬ال ُغبار‪.‬‬ ‫(‪ )2‬أناخ بالمكان‪ :‬أقام به‪ ،‬وأناخ الجم َل‪ :‬أبر َكه‪ ،‬والمقصود أنهم ثبتوا في أماكنهم‪ ،‬ولم يبرحوا‪.‬‬ ‫(‪ )3‬أخرجه معمر بن راشد في الجامع‪ ،357/11:‬رقم (‪ ،)20736‬ونعيم بن حماد في الفتن‪ :‬ص‪ ،167‬وابن‬ ‫سعد في الطبقات الكبرى‪ ،143/3:‬والطبراني في المعجم الكبير‪ ،144/1:‬رقم (‪ ،)322‬والخطابي في‬ ‫العزلة‪ :‬ص‪ ،72‬وأبو نعيم في حلية الأولياء‪ ،310 ،309/1:‬وابن الأعرابي في المعجم‪ ،286/1:‬رقم‬ ‫(‪ ،)527‬والحاكم في المستدرك‪ ،491/4:‬وقال الحاكم‪\" :‬حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه\"‪،‬‬ ‫ووافقه الذهبي‪ ،‬وقال الهيثمي في مجمع الزوائد‪\" :299/7:‬أخرجه الطبراني ورجاله رجال الصحيح\"‪.‬‬ ‫(‪ )4‬أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط‪ ،73/2:‬رقم (‪ ،)1289‬وقال الهيثمي في مجمع الزوائد‪:587/7 :‬‬ ‫\"أخرجه الطبراني في الأوسط ورجاله ثقات\"‪.‬‬ ‫‪82‬‬

‫* اعتزال مجالس الناس أيام الفتن‪:‬‬ ‫إذا تفاقـم الخـاف بيـن النـاس‪ ،‬وهاجـوا وماجـوا فـي ميـدان الفتـن‪ ،‬وأريقـت‬ ‫الدمـاء‪ ،‬وتطاولـت الألسـن بالقيـل والقـال‪ ،‬وانتشـرت الشـائعات مـن غيـر تثبـت‬ ‫مــن الأخبــار‪ ،‬وخــاض النــاس فــي الأعــراض والحرمــات‪ ،‬عندئــ ٍذ ترتــع الفتنــة‬ ‫وتنمــو فــي هــذا المســتنقع النتــن‪ ،‬ولا ســبيل للوقايــة منهــا إلا اعتــزال مجالــس‬ ‫العامـة والبعـد عـن السـفهاء والدهمـاء‪ ،‬كيـا تنتقـل عـدوى الفتـن إليهـم‪ ،‬وذلـك‬ ‫يسـهم فـي تجفيـف مصـادر الفتـن ويقلـل مـن أسـبابها‪ ،‬وهـذه مـن أولـى الخطوات‬ ‫الواجبـة للوقايـة مـن تفاقـم الفتـن‪.‬‬ ‫فعـن أبـي هريـرة ‪ :‬أن رسـول الله ﷺ قـال‪« :‬يُهلـك النـا َس هـذا الحـ ُّي مـن‬ ‫قريـش‪ ،‬قالـوا‪ :‬فمـا تأمرنـا‪ ،‬قـال‪ :‬لـو أن النـاس اعتزلوهـم؟»(‪.)1‬‬ ‫عـن سـعيد بـن زيـد الأشـهلي ‪ ‬أنـه أهـدى إلـى النبـي ﷺ سـيفاً مـن نجـران‪،‬‬ ‫أو أُهـ ِد َي إلـى النبـي ﷺ سـيف مـن نجـران‪ ،‬فلمـا قـدم عليـه أعطـاه محمـد بـن‬ ‫مســلمة ‪ ‬فقــال‪« :‬جاهــد بهــذا فــي ســبيل الله‪ ،‬فــإذا اختلفــت أعنــاق النــاس‪،‬‬ ‫فاضــرب بــه الحجــر‪ ،‬ثــم ادخــل بيتــك فكــن حلســاً ملقــى‪ ،‬حتــى تقتلــك يــد‬ ‫خاطئــة‪ ،‬أو تأتيــك منيــة قاضيــة»(‪.)2‬‬ ‫وعـن أبـي بُـردة‪ ،‬قـال‪ :‬دخلـت علـى مح َّمـد بـن مسـلمة ‪ ‬فقـال‪ :‬إِ َّن َر ُسـو َل‬ ‫الله ﷺ قـا َل‪« :‬إنهـا سـتكون فِتْنَـ ٌة وفُ ْرقَـ ٌة واختـا ٌف‪ ،‬فـإذا كا َن كذلـك؛ فأ ِت بسـيفك‬ ‫(‪ )1‬أخرجه البخاري في كتاب المناقب‪ ،‬باب علامات النبوة في الإسلام‪ ،1319/3 :‬رقم (‪، )3409‬‬ ‫ومسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة‪ ،‬باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل‪،2753/5 :‬‬ ‫رقم (‪.)2917‬‬ ‫(‪ )2‬أخرجه الطبراني في المعجم الكبير‪ ،32/6:‬رقم (‪ )5424‬والأوسط‪ ،30/3:‬رقم (‪ ،)2375‬والحاكم في‬ ‫المستدرك‪ ،127/3:‬رقم (‪ ،)4605‬وقال الهيثمي في مجمع الزوائد‪\" :587/7:‬أخرجه الطبراني في الكبير‬ ‫والأوسط‪ ،‬ورجال الكبير ثقات\"‪.‬‬ ‫‪83‬‬

‫أُ ُحـداً فاضربـه َحتَّـى ينقطـ َع‪ ،‬ثُـ َّم اجلـس فـي بيتـك َحتـى تأتيَـ َك يـ ٌد خاطئـ ٌة أو منيَّـة‬ ‫قاضيـةٌ»‪ .‬فقـد َوقَ َعـ ْت وفعلـ ُت مـا قـا َل رسـو ُل الل ِه ﷺ (‪.)1‬‬ ‫عـن ابـن مسـعود ‪ ‬قـال‪« :‬إذا وقـع النـاس فـي الفتنـة فقالـوا‪ :‬اخـرج‪ ،‬لـك‬ ‫بالنـاس أسـوة‪ ،‬فقـل‪ :‬لا أسـوة لـي بالشـر»(‪.)2‬‬ ‫عــن عمــرو بــن وابصــة الأســدي عــن أبيــه قــال‪ :‬إنــي بالكوفــة فــي داري إذ‬ ‫سـمعت علـى بـاب الـدار السـام عليكـم‪ ،‬أألـج؟ قلـت‪ :‬عليكـم السـام‪ ،‬فلـج‪،‬‬ ‫فلمـا دخـل فـإذا هـو عبـد الله بـن مسـعود ‪ ،‬قلـت‪ :‬يـا أبـا عبـد الرحمـن‪ ،‬أيـة‬ ‫سـاعة زيـارة هـذه؟ ـ وذلـك فـي نحـر الظهيـرة ـ قـال‪ :‬طـال علـ َّي النهـار‪ ،‬فذكـرت‬ ‫مـن أتحـدث إليـه‪ ،‬قـال‪ :‬فجعـل يحدثنـي عـن رسـول الله ﷺ وأحدثـه‪ ،‬قـال‪ :‬ثـم‬ ‫أنشــأ يحدثنــي‪ ،‬قــال‪ :‬ســمعت رســول الله ﷺ يقــول‪« :‬تكــون فتنــة‪ ،‬النائــم فيهــا‬ ‫خيـر مـن المضطجـع‪ ،‬والمضطجـع فيهـا خيـر مـن القاعـد‪ ،‬والقاعـد فيهـا خيـر مـن‬ ‫القائـم‪ ،‬والقائـم فيهـا خيـر مـن الماشـي‪ ،‬والماشـي خيـر مـن الراكـب‪ ،‬والراكـب‬ ‫خيـر مـن المجـري‪ ،‬قتلاهـا كلهـا فـي النـار»‪.‬‬ ‫قـال‪ :‬قلـت‪ :‬يـا رسـول الله‪ ،‬ومتـى ذلـك؟ قـال‪« :‬ذلـك أيـام الهـرج»‪ ،‬قلـت‪:‬‬ ‫ومتــى أيــام الهــرج؟ قــال‪« :‬حيــن لا يأمــن الرجــل جليســه»‪ ،‬قــال‪ :‬قلــت‪ :‬فمــا‬ ‫تأمرنــي إن أدركــت ذلــك؟ قــال‪« :‬اكفــف نفســك ويــدك وادخــل دارك»‪ ،‬قــال‪:‬‬ ‫قلـت‪ :‬يـا رسـول الله أرأيـت إن دخـل رجـل علـ َّي داري؟ قـال‪« :‬فادخـل بيتـك»‪،‬‬ ‫قـال‪ :‬قلـت‪ :‬أفرأيـت إن دخـل علـي بيتـي؟ قـال‪« :‬فادخـل مسـجدك واصنـع هكـذا‬ ‫ـ وقبـض بيمينـه علـى الكـوع ـ وقـل ربـي الله‪ ،‬حتـى تمـوت علـى ذلـك»(‪.)3‬‬ ‫(‪ )1‬أخرجه ابن ماجه في كتاب الفتن‪ ،‬باب التثبت في الفتنة‪ ،1310/2:‬رقم (‪ ، )3962‬وابن أبي شيبة في‬ ‫مصنفه‪ ،457/7:‬رقم (‪ ،)37198‬والطبراني في المعجم الكبير‪ ،232/19 :‬رقم (‪.)517‬‬ ‫(‪ )2‬أخرجه الطبراني في المعجم الكبير‪ ،128/9:‬رقم (‪ .)8641‬قال الهيثمي في مجمع الزوائد‪:298/7:‬‬ ‫\"أخرجه الطبراني‪ ،‬وفيه خديج بن معاوية‪ :‬وثقة أحمد وغيره‪ ،‬وض َّعفه جماعة\"‪.‬‬ ‫(‪ )3‬أخرجه أحمد في مسند عبد الله بن مسعود ‪ ،316/7:‬رقم (‪.)4286‬‬ ‫‪84‬‬

‫وفــي روايــة وابصــة بــن معبــد الأســدي‪ :‬أن عبــد الله بــن مســعود ‪ ‬قــال‪:‬‬ ‫سـمعت رسـول الله ﷺ يقـول فـي الفتنـة‪« :‬قتلاهـا كلهـم فـي النـار»‪ ،‬قلـت‪ :‬متـى‬ ‫ذاك يــا ابــن مســعود؟ قــال‪ :‬تلــك أيــام الهــرج‪ ،‬حيــث لا يأمــن الرجــل جليســه‪،‬‬ ‫قلـت‪ :‬فمـا تأمرنـي إن أدركنـي ذلـك الزمـان؟ قـال‪ :‬تكـف لسـانك ويـدك‪ ،‬وتكـون‬ ‫حلسـاً مـن أحـاس بيتـك‪ ،‬قـال‪ :‬فلمـا قتـل عثمـان ‪ ‬طـار قلبـي مطـاره‪ ،‬فركبـت‬ ‫حتـى أتيـت دمشـق‪ ،‬فلقيـت خريـم بـن فاتـك‪ ،‬فحدثتـه‪ ،‬فحلـف بـالله الـذي لا إلـه‬ ‫إلا هـو‪ ،‬لسـمعته مـن رسـول الله ﷺ‪ ،‬كمـا حدثنيـه ابـن مسـعود ‪.)1( ‬‬ ‫قـال أبـو سـليمان الخطابـي رحمـه الله‪ :‬وممـن اعتـزل تلـك الفتنـة فلـم يكـن مع‬ ‫واحـد مـن الفريقيـن حتـى انجلـت محمـد بـن مسـلمة الأنصـاري‪ ،‬وعبـد الله بـن‬ ‫عمـر بـن الخطـاب فـي عـدة كثيـرة مـن الصحابـة ‪.)2(‬‬ ‫وعـن أيـوب السـختياني رحمـه الله‪ ،‬قـال‪ :‬اجتمـع سـعد بـن أبـي وقـاص‪ ،‬وابـن‬ ‫مسـعود‪ ،‬وابـن عمـر‪ ،‬وعمـار بـن ياسـر ‪ ‬فذكـروا الفتنـة‪ ،‬فقـال سـعد‪« :‬أمـا أنـا‪،‬‬ ‫فأجلـس فـي بيتـي‪ ،‬ولا أدخـل فيهـا»(‪.)3‬‬ ‫وقـد اعتـزل الإمـام مالـك بـن أنـس رحمـه الله النـاس أيـام فتنـة محمـد بـن عبـد‬ ‫الله بـن حسـن الـذي خـرج علـى أبـي جعفـر المنصـور؛ وذكـر ذلـك الإمـام ابـن‬ ‫كثيـر رحمـه الله فقـال‪ :‬ومـن وقـت خـروج محمـد بـن عبـد الله بـن حسـن لـزم مالـك‬ ‫رحمـه الله بيتـه‪ ،‬فلـم يكـن يأتـي أحـداً لا لعـزاء ولا لهنـاء‪ ،‬ولا يخـرج لجمعـة ولا‬ ‫لجماعـة‪ ،‬ويقـول‪« :‬مـا كل مـا يعلـم يقـال‪ ،‬وليـس كل أحـد يقـدر علـى الاعتـذار»(‪.)4‬‬ ‫(‪ )1‬أخرجه أبو داود في كتاب الفتن‪ ،‬باب في النهي عن السعي في الفتنة‪ ،99/4:‬رقم (‪ ،)4258‬وفي سنده‬ ‫القاسم بن غزوان‪ ،‬لم يوثقه غير ابن حبان‪ ،‬وباقي رجاله ثقات‪ .‬قال ابن الأثير في جامع الأصول‪:13/10:‬‬ ‫\"(الهرج)‪ :‬الاختلاف والفتن‪ ،‬وقد جاء في بعض الحديث أنه القتل‪ ،‬والقتل فإنما سببه الفتن والاختلاف‪.‬‬ ‫(طار قلبي مطاره)؛ أي‪ :‬مال إلى جهة يهواها وتعلق بها\"‪.‬‬ ‫(‪ )2‬العزلة‪ ،‬للخطابي‪ :‬ص‪.13‬‬ ‫(‪ )3‬أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء‪.94/1:‬‬ ‫(‪ )4‬البداية والنهاية‪ ،‬لابن كثير‪.174/10:‬‬ ‫‪85‬‬

‫● استحباب العزلة أيام الفتن‪ :‬وأكثر ما تتأكد العزلة في الفتن لأحد صنفين‪:‬‬ ‫ ‪ o‬أحدهما‪ :‬من خشي على دينه أن يُفتن فيه‪ ،‬ويحول عنه‪.‬‬ ‫ ‪ o‬الثانـي‪ :‬مـن كان ذا بـأس وشـدة‪ ،‬يُ ْخ َشـى علـى النـاس منـه ومـن بأسـه‪ ،‬ومثلـه‬ ‫صاحـب الـرأي والمشـورة والدهـاء‪ ،‬الـذي يُخشـى علـى النـاس مـن رأيـه‪.‬‬ ‫وعـن ابـن مسـعود ‪ ‬أنـه قـال لمـا ُذ ِكـرت عنـده الفتـن‪ ،‬و ُسـئل‪ :‬أي أهـل ذلـك الزمان‬ ‫شـر؟ قـال‪« :‬كل خطيـب ِم ْسـ َق ٍع(‪ ،)1‬وكل راكـب مُو ِضـع»(‪)2‬؛ وذلـك لأن الأول محـ ِّرض‬ ‫علـى الفتنـة بلسـانه‪ ،‬والآخـر بسـنانه‪ ،‬فاجتمـع الشـران‪ :‬شـر القـول‪ ،‬وشـر العمـل‪.‬‬ ‫● فائدة العزلة زمن الفتن‪:‬‬ ‫للعزلـة زمـن الفتـن فوائـ ُد جمـة تعـود علـى الفـرد والمجتمـع‪ ،‬وتسـاعد فـي‬ ‫إخمــاد نــار الفتــن عمــاً بالقاعــدة التــي تقــول‪( :‬الدفــع أولــى مــن الرفــع)؛ لأن‬ ‫العزلــة وانشــغال كل بنفســه يخفــف مــن ضــرام الفتــن‪ ،‬إلــى أن يمكــن الســيطرة‬ ‫عليهــا وإخمادهــا ومعالجتهــا‪ ،‬ومــن هــذه الفوائــد‪:‬‬ ‫‪ o‬صيان ُة الدي ِن عن المساس‪ ،‬والنف ِس عن التلف‪ ،‬وال ِعر ِض عن الضيم والانتهاك‪،‬‬ ‫والما ِل عن الضياع‪ ،‬وق َّل من شارك في فتنة‪ ،‬وسلمت له هذه كلها‪.‬‬ ‫(‪ )1‬الخطيب المِ ْس َق ِع والمِ ْص َقع‪ :‬البليغ‪ ،‬أو‪ :‬من لا ُي ْر َت ُج عليه في كلامه‪ ،‬ولا يتتعتع‪.‬‬ ‫(‪ )2‬أخرجه البغوي في شرح ال ّسنَّة في كتاب الفتن‪ ،16/15:‬رقم (‪ ،)4223‬والحاكم في المستدرك‪،574/4:‬‬ ‫رقم (‪ )8612‬في حديث طويل أوله ذكر الدجال‪ ،‬إلى أن قال‪\" :‬أنا لغير الدجال أخوف علي وعليكم\"‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫فقلنا‪ :‬ما هو يا أبا سريحة؟ قال‪« :‬فتن كأنها قطع الليل المظلم»‪ ،‬قال‪ :‬فقلنا‪ :‬أي الناس فيها شر؟ قال‪« :‬كل‬ ‫خطيب مصقع‪ ،‬وكل راكب موضع» قال‪ :‬فقلنا‪ :‬أي الناس فيها خير؟ قال‪« :‬كل غني خفي»‪ ،‬قال‪ :‬فقلت‪:‬‬ ‫ما أنا بالغني ولا بالخفي‪ ،‬قال‪« :‬فكن كابن اللبون لا ظهر فيركب‪ ،‬ولا ضرع فيحلب» قال الحاكم‪\" :‬هذا‬ ‫حديث صحيح الإسناد‪ ،‬ولم يخرجاه\"‪ ،‬ووافقه الذهبي‪ ،‬وله شاهد أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه‪،449/7:‬‬ ‫رقم (‪ )37125‬عن حذيفة قال‪« :‬أتتكم الفتن مثل قطع الليل المظلم‪ ،‬يهلك فيها كل شجاع بطل‪ ،‬وكل‬ ‫راكب موضع وكل خطيب مصقع»‪ ،‬والراكب ال ُمو ِضع في الفتنة‪ :‬ال ُم ْس ُع فيها‪.‬‬ ‫‪86‬‬

‫‪ o‬سـامة الصـدر علـى المسـلمين‪ ،‬ولذلـك أمـر سـعد ‪ ‬أهلـه ألا يُخبـروه‬ ‫بشـيء مـن أخبـار النـاس لمـا وقعـت الفتنـة حتـى يجتمعـوا علـى إمـام‪.‬‬ ‫ ‪ o‬إطفـاء الفتنـة وإخمـاد نارهـا؛ لأن النـاس كلمـا اعتزلـوا الفتـن؛ قـ َّل أهلهـا‪،‬‬ ‫فَ َقـ َّل شـرها‪ ،‬وكلمـا تشـ َّرفوا لهـا وقامـوا وقعـدوا فيهـا‪َ ،‬كثُـر أهلهـا‪ ،‬فـزاد‬ ‫شـرها‪ ،‬وعظـم خطبهـا‪.‬‬ ‫والعزلـة لا تشـرع مطلقـاً‪ ،‬ومـا ورد مـن النصـوص فـي مـدح العزلـة مطلقـاً‪،‬‬ ‫يُ ْح َمـل علـى أنـه خـاص بأفـراد معينيـن تضـر المخالطـة بدينهـم ودنياهـم‪ ،‬أو أنـه‬ ‫خـاص بزمـان الفتـن ‪.‬‬ ‫● أنواع العزلة‪:‬‬ ‫والعزلــة فــي الفتــن علــى وجهيــن بحســب الحاجــة والمصلحــة‪ ،‬وبحســب‬ ‫القــدرة والاســتطاعة‪:‬‬ ‫‪ o‬العزلة التامة في مكان بعيد عن الناس‪.‬‬ ‫‪ o‬العزلـة النسـبية أو الجزئيـة؛ بحيـث يعتـزل الفتـن وأهلهـا‪ ،‬ولا يشـارك فيهـا‪،‬‬ ‫وإن كان مقيمـاً بيـن ظهرانـي النـاس‪.‬‬ ‫* اجتنا ُب الفتن وال ِفرا ُر منها‪:‬‬ ‫فقـد حـ َّث الشـرع الشـريف علـى اجتنـا ِب الفتـن‪ ،‬وكـ ِّف اليـد عنهـا‪ ،‬وال ِفـرا ِر‬ ‫منهــا‪ ،‬عندمــا تختلــف أقــوال العلمــاء فــي تشــخيصها والحكــ ِم عليهــا‪ ،‬احتياطــاً‬ ‫لأمـر الديـن‪ ،‬ودرءاً للمفاسـد المترتبـة علـى اختـاف أقـوال العلمـاء فيهـا‪ ،‬والتـي‬ ‫مــن أخفهــا‪ :‬انقســامُ مواقــف النــاس منهــا‪ ،‬وتناز ُعهــم حولهــا‪ ،‬ذلــك لأن هــذا‬ ‫الاختــاف نفســه يُعــد مظهــراً مــن مظاهــر الفتنــة‪ ،‬ولا يصــح أن يعامــل معاملــة‬ ‫الاختـاف العلمـي فـي المسـائل الأخـرى‪ ،‬التـي يُتوسـع فـي الأخـذ بـأي قـول‬ ‫مـن أقوالهـم‪.‬‬ ‫‪87‬‬

‫وعـن أبـي هريـرة ‪ ‬عـن النبـ ِّي ﷺ قـال‪« :‬ويـ ٌل للعـرب مـن شـ ٍّر قـد اقتـر َب‪،‬‬ ‫أفلـ َح مَـ ْن َكـ َّف يَـ َده»(‪.)1‬‬ ‫عـن أبـي سـعيد الخـدري ‪ :‬أن رسـول الله ﷺ قـال‪« :‬يوشـك أن يكـون خيـر‬ ‫مـال الرجـل غنـ ٌم‪ ،‬يتبـع بهـا شـعف الجبـال ومواقـع القطـر‪ ،‬يفـر بدينه مـن الفتـن»(‪.)2‬‬ ‫قـال ابـن بطـال رحمـه الله تعالـى‪« :‬هـذا الحديـث يـدل علـى إباحـة الانفـراد‬ ‫والاعتـزال عنـد ظهـور الفتـن‪ ،‬طلبـاً لإحـراز السـامة فـي الديـن‪ ،‬خشـية أن تحـل‬ ‫عقوبـة فتعـم الـكل‪ ،‬وهـذا كلـه مـن كمـال الديـن ‪...‬‬ ‫وقـال أبـو الزنـاد رحمـه الله تعالـى‪\" :‬خـص الغنـم مـن بيـن سـائر الأشـياء حضـاً‬ ‫علـى التواضـع وتنبيهـاً علـى إيثـار الخمـول وتـرك الاسـتعلاء والظهـور‪.)3( »..‬‬ ‫قـال الإمـا ُم ابـ ُن رجـ َب الحنبلـي رحمـه الله تعالـى‪« :‬وقولـه ﷺ‪« :‬يفـر بدينـه من‬ ‫الفتـن» يعنـي‪ :‬يهـرب خشـيةً علـى دينـه مـن الوقـوع فـي الفتـن؛ فـإ َّن مـن خالـط‬ ‫الفتـن‪ ،‬وأهـل القتـال علـى الملـك لـم يسـلم دينـه مـن الإثـم إمـا بقتـل معصـوم‪،‬‬ ‫أو أخـذ مـال معصـوم‪ ،‬أو المسـاعدة علـى ذلـك بقـول ونحـوه‪ ،‬وكذلـك لـو غلـب‬ ‫علـى النـاس مـن يدعوهـم إلـى الدخـول فـي كفـر أو معصيـة حسـن الفـرار منـه»(‪.)4‬‬ ‫وعـن عثمـان ال َّشـ َّحام قـال‪ :‬انطلقـت أنـا وفرقـد السـبخي‪ ،‬إلـى مسـلم بـن‬ ‫أبـي بكـرة وهـو فـي أرضـه‪ ،‬فدخلنـا عليـه فقلنـا‪ :‬هـل سـمعت أبـاك يحـدث‬ ‫(‪ )1‬أخرجه أبو داود في كتاب الفتن‪ ،‬باب ذكر الفتن ودلائلها‪ ،97/4:‬رقم (‪ ،)4249‬والإمام أحمد في‬ ‫مسنده‪.441/2:‬‬ ‫(‪ )2‬أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق‪ ،‬باب خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال‪ ،1201/3:‬رقم‬ ‫(‪ .)3124‬و(شعف الجبال)‪ :‬رؤوس الجبال‪ .‬انظر‪ :‬فتح الباري لابن حجر‪.614/6:‬‬ ‫(‪ )3‬شرح صحيح البخاري‪ ،‬لابن بطال‪.71/1:‬‬ ‫(‪ )4‬فتح الباري شرح صحيح البخاري‪ ،‬لابن رجب‪.108/1:‬‬ ‫‪88‬‬

‫فــي الفتــن حديثــا؟ قــال‪ :‬نعــم‪ ،‬ســمعت أبــا بكــرة ‪ ‬يحــدث‪ ،‬قــال‪ :‬قــال‬ ‫رسـول الله ﷺ‪« :‬إنهـا سـتكون فتـن‪ ،‬ألا‪ ..‬ثـم تكـون فتنـة‪ ،‬القاعـد فيهـا خيـر‬ ‫مـن الماشـي فيهـا‪ ،‬والماشـي فيهـا خيـر مـن السـاعي إليهـا‪ ،‬ألا‪ ..‬فـإذا نزلـت أو‬ ‫وقعـت‪ ،‬فمـن كان لـه إبـل فليلحـق بإبلـه‪ ،‬ومـن كانـت لـه غنـم فليلحـق بغنمـه‪،‬‬ ‫ومـن كانـت لـه أرض فليلحـق بأرضـه»‪ ،‬قـال فقـال رجـل‪ :‬يـا رسـول الله أرأيـت‬ ‫مـن لـم يكـن لـه إبـل ولا غنـم ولا أرض؟ قـال ﷺ‪« :‬يعمـد إلـى سـيفه فيـدق‬ ‫علــى حــده بحجــر‪ ،‬ثــم لينــج إ ْن اســتطاع النجــاء‪ ،‬اللهــم هــل بلغــت؟ اللهــم‬ ‫هـل بلغـت؟ اللهـم هـل بلغـت؟» قـال‪ :‬فقـال رجـل‪ :‬يـا رسـول الله أرأيـت إن‬ ‫أكرهـت حتـى ينطلـق بـي إلـى أحـد الصفيـن‪ ،‬أو إحـدى الفئتيـن‪ ،‬فضربنـي رجل‬ ‫بسـيفه‪ ،‬أو يجـيء سـهم فيقتلنـي؟ قـال ﷺ‪« :‬يبـوء بإثمـه وإثمـك‪ ،‬ويكـون مـن‬ ‫أصحـاب النـار»(‪.)1‬‬ ‫وعـن أبـي هريـرة ‪ ‬أن رسـو َل الله ﷺ قـال‪« :‬سـتكون فتـ ٌن‪ ،‬القاعـ ُد فيهـا خيـ ٌر‬ ‫مـن القائـم‪ ،‬والقائـم فيهـا خيـ ٌر مـن الماشـي‪ ،‬والماشـي فيهـا خيـر مـن السـاعي‪،‬‬ ‫َمـن تشـ َّر َف لهـا تستشـ ِرفْه‪ ،‬فمـن َو َجـ َد ملجـأً أو مَعـاذاً فلي ُعـ ْذ بـه»(‪.)2‬‬ ‫وعــن أبــي ذر ‪ ،‬قــال‪ :‬قــال رســول الله ﷺ‪« :‬كيــف أنــ َت يــا أبــا ذ ٍّر‪..‬‬ ‫وموتـاً يصيـ ُب النـا َس حتـى يُ َقـ َّوم البيـ ُت بالوصيـف؟»‪ ،‬قلـت‪ :‬مـا َخـا َر الله لـي‬ ‫(‪ )1‬أخرجه مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة‪ ،‬باب نزول الفتن كمواقع القطر‪ ،2753/5:‬رقم (‪.)2887‬‬ ‫(‪ )2‬أخرجه البخاري في كتاب الفتن‪ ،‬باب تكون فتنة القاعد فيها خير من القائم‪ ،2594/6:‬رقم (‪،)6670‬‬ ‫ومسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة‪ ،‬باب نزول الفتن كمواقع القطر‪ ،2732/5:‬رقم (‪ .)2886‬قال‬ ‫ابن حجر في فتح الباري‪\" :31/13:‬قوله‪َ ( :‬من تش َّرف لها) أي‪ :‬تط َّلع لها؛ بأن يتصدى ويتعرض لها ولا‬ ‫يعرض عنها ‪ ...‬قوله (تستشرفه) أي‪ :‬تهلكه بأن يشرف منها على الهلاك‪ ،‬يريد من انتصب لها انتصبت له‪،‬‬ ‫ومن أعرض عنها أعرضت عنه‪ ..‬وفيه‪ :‬التحذي ُر من الفتنة‪ ،‬والحث على اجتناب الدخول فيها‪ ،‬وأ َّن شرها‬ ‫يكون بحسب التعلق بها\"‪.‬‬ ‫‪89‬‬

‫ورسـوله ﷺ ـ أو قـال‪ :‬الله ورسـوله أعلـم ـ قـال ﷺ‪« :‬تصبَّـر»‪ ،‬قـال‪« :‬كيـف‬ ‫أنـت وجوعـاً يصيـب النـاس‪ ،‬حتـى تأتـي مسـجدك فـا تسـتطيع أن ترجـع إلـى‬ ‫فراشـك‪ ،‬ولا تسـتطيع أن تقـوم مـن فراشـك إلـى مسـجدك؟»‪ ،‬قـال‪ ،‬قلـت‪ :‬الله‬ ‫ورسـوله أعلـم ـ أو‪ :‬مـا خـار الله لـي ورسـوله ـ قـال ﷺ‪َ « :‬عليـ َك بال ِع َّفـة»‪ ،‬ثـم‬ ‫قـال‪« :‬كيـف أنـت وقَتْـاً يصيـ ُب النـا َس حتـى تُ ْغـ َرق حجـارةُ ال َّزيـت بالـ َّدم؟»‪،‬‬ ‫قلــت‪ :‬مــا خــار الله لــي ورســوله‪ .‬قــال ﷺ‪« :‬الْ َحــ ْق بمــن أنــت منــه»‪ ،‬قــال‪:‬‬ ‫قلـت‪ :‬يـا رسـول الله‪ ،‬أفـا آخـذ بسـيفي فأضـرب بـه مـن فعـل ذلـك؟ قـال ﷺ‪:‬‬ ‫«شـارك َت القـومَ إذن‪ ،‬ولكـن ادخـل بيتـك»‪ ،‬قلـت‪ :‬يـا رسـول الله‪ ،‬فـإن ُد ِخـل‬ ‫بيتــي؟ قــال ﷺ‪« :‬إن خشــي َت أن يَبْ َهــ َرك شــعا ُع الســي ِف فألــ ِق َطــ َر َف ِردائــك‬ ‫علـى وجهـك‪ ،‬فيبـوء بإث ِمـ ِه وإث ِمـك‪ ،‬فيكـون مـن أصحـاب النـار»(‪.)1‬‬ ‫وعـن أبـي ذر الغفـاري ‪ ‬قـال‪ :‬قـال رسـول الله ﷺ‪« :‬كيـف أنتـم وأئمـة مـن‬ ‫بعـدي يسـتأثرون بهـذا الفـيء؟»‪ ،‬قلـت‪ :‬إذاً‪ ،‬والـذي بعثـك بالحـق‪ ..‬أضـع سـيفي‬ ‫علـى عاتقـي‪ ،‬ثـم أضـرب بـه حتـى ألقـاك أو ألحقـك‪ ،‬قـال‪« :‬أولا أدلـك علـى‬ ‫خيـر مـن ذلـك؟ تصبـر حتـى تلقانـي»(‪.)2‬‬ ‫(‪ )1‬أخرجه أبو داود في كتاب الفتن‪ ،‬باب في النهي عن السعي في الفتنة‪ ،101/4:‬رقم (‪ ،)4261‬وابن ماجه‬ ‫في كتاب الفتن‪ ،‬باب التثبت في الفتنة‪ ،1308/2:‬رقم (‪ ،)3958‬ومعمر بن راشد في الجامع ‪ 352/11‬في‬ ‫الفتن‪ ،‬والبزار في مسنده ‪ ،377/9‬وابن حبان في صحيحه ‪ ،293/13‬والحاكم في المستدرك‪ ،169/2:‬رقم‬ ‫(‪ )2666‬وقال الحاكم‪\" :‬هذا حديث صحيح على شرط الشيخين‪ ،‬ولم يخرجاه\"‪ ،‬ووافقه الذهبي‪ ،‬والبغوي‬ ‫في شرح السنة في كتاب الفتن‪ ،12/15:‬وقال ابن الأثير في جامع الأصول‪(\" :8/10:‬البيت) أراد بالبيت‬ ‫هاهنا‪ :‬القبر‪( .‬الوصيف) العبد‪ :‬والوصيفة‪ :‬الأمة‪ ،‬والمعنى أن الفتن تكثر‪ ،‬فتكثر القتلى‪ ،‬حتى إنه ليشترى‬ ‫موضع قبر ُيدفن فيه الميت بعبد‪ ،‬من ضيق المكان عنهم‪ ،‬مبالغة في كثرة وقوع الفتن‪ ،‬أو أنه لاشتغال بعضهم‬ ‫ببعض وبما حدث من الفتن لا يوجد من يحفر قبر ميت ويدفنه‪ ،‬إلا أن ُيعط َي و ِصيف ًا أو قيمته‪َ ( .‬ي ْب َهرك)‬ ‫ضوء باهر‪ :‬يغلب عينك ويغشى بصرها‪( .‬يبوء) باء بالإثم يبوء‪ :‬إذا رجع به حامل ًا له\"‪ .‬أحجار الزيت‪ :‬هو‬ ‫موضع بالمدينة‪ .‬انظر‪ :‬النهاية‪ ،‬لابن الأثير‪.343/1:‬‬ ‫(‪ )2‬أخرجه أبو داود في كتاب السنة‪ ،‬باب قتل الخوارج‪ ،385/4:‬رقم (‪ ،)4761‬والإمام أحمد في مسند أبي‬ ‫ذر الغفاري ‪ ،443/5:‬رقم (‪.)21559‬‬ ‫‪90‬‬

‫* لزوم البيوت أيام الفتن‪:‬‬ ‫كان شـيخنا الفاضـل الأسـتاذ محمـد وفـا المنصـور رحمـه الله أيـام الثمانينـات‬ ‫يقـول لنـا ناصحـاً‪\" :‬هـذا زمـان السـكوت ولـزوم البيـوت\"؛ لأنـه كان يـدرك مخاطر‬ ‫إطـاق اللسـان أيـام الفتـن‪ ،‬كمـا يعلـم آثـار الاختـاط بالنـاس والخـوض معهـم‬ ‫فــي القيــل والقــال‪ ،‬ويــدرك بيقيــن عاقبــة الظهــور الــذي يقســم الظهــور‪ ،‬وهــذا‬ ‫منهـج السـلف الصالـح مـن الصحابـة والعلمـاء والعقـاء‪.‬‬ ‫فقـد ُروي أن رجـ ًا قـال لحذيفـة ‪ :‬إذا اقتتـل المسـلمون فمـا تأمرنـي؟ قـال‪:‬‬ ‫«انظـر أقصـى بيـ ٍت فـي دا ِر َك ف ِلـ ْج فيـه‪ ،‬فـإن دُ ِخـل عليـك‪ ،‬فقـل‪ :‬هـا بُـوء بذنبـي‬ ‫وذنبـك»(‪.)1‬‬ ‫وقـال بشـي ُر بـن عقبـة‪ :‬قلـت ليزيـ َد بـ ِن عبـد الله بـ ِن الشـخير رحمـه الله‪ :‬مـا كان‬ ‫مُ َطـ ِّرف(‪ )2‬يصنـع إذا هـاج فـي النـاس هيـج؟ قـال‪« :‬يلـزم قعـر بيتـه‪ ،‬ولا يقـرب لهم‬ ‫جمعـة ولا جماعـة حتـى تنجلـي لهـم عمـا انجلـت»(‪.)3‬‬ ‫وعـن محمـد بـن سـيرين رحمـه الله قـال‪ :‬قـال لـي َعبيـدة السـلماني رحمـه الله‬ ‫ـ وأنـا بالكوفـة‪ ،‬وذلـك قبـل فتنـة ابـن الزبيـر ‪ ‬ـ‪« :‬افـرغ مـن ضيعتـك‪ ،‬ثـم انحـدر‬ ‫إلـى مصـرك فإنـه سـيحدث فـي الأرض حـدث»! قـال‪ :‬قلـت‪ :‬فبـم تأمرنـي؟ قـال‪:‬‬ ‫«تلـزم بيتـك»‪ ،‬قـال‪ :‬فلمـا قدمـت البصـرة‪ ،‬وقعـت فتنـة ابـن الزبيـر ‪.)4(‬‬ ‫(‪ )1‬أخرجه الداني في السنن الواردة في الفتن باب ما يفعل من لزم بيته في الفتنة‪ ،345/1:‬رقم (‪.)106‬‬ ‫(‪ )2‬عاصر ُم َط ِّرف بن عبد الله بن ال ِّش ِّخير ‪ ‬فتن ًا عظيمة‪ ،‬عصمه الله تعالى منها‪ ،‬قال العجلي في معرفة‬ ‫الثقات‪ 282/2:‬عنه‪\" :‬تابعي ثقة‪ ،‬من خيار التابعين‪ ،‬رجل صالح‪ ،‬وكان أبوه من أصحاب النبي ﷺ‪ ،‬ولم‬ ‫َينْ ُج من فتنة ابن الأشعث بالبصرة إ َّل رجلان‪ :‬مطرف بن عبد الله‪ ،‬ومحمد بن سيرين‪ ،‬ولم ينج منها بالكوفة‬ ‫إ َّل رجلان‪ :‬خيثمة بن عبد الرحمن الجعفي‪ ،‬وإبراهيم النخعي\"‪.‬‬ ‫(‪ )3‬ذكره ابن سعد في الطبقات الكبرى‪ ،142/7:‬والذهبي في سير أعلام النبلاء‪.191/4:‬‬ ‫(‪ )4‬أخرجه معمر بن راشد في الجامع في باب الفتن‪ ،366/11:‬رقم (‪.)20757‬‬ ‫‪91‬‬

‫* الأخذ على أيدي السفهاء‪:‬‬ ‫الفتنـة إذا ُجففـت مناب ُعهـا‪ ،‬و ُسـدت ذرائعهـا‪ ،‬و ُح ِسـمت مـادةُ أوائلهـا‪ ،‬وأُ ِخـ َذ‬ ‫علـي أيـدي سـفهائها‪َ ،‬سـ ِلمت الأمـةُ مـن غوائلهـا‪ ،‬و ُكفـي النـا ُس شـ َّرها‪.‬‬ ‫فعـن النعمـان بـن بشـير ‪ ‬عـن النبـي ﷺ قـال‪« :‬مثـل القائـم علـى حـدود الله‬ ‫والواقـع فيهـا‪ ،‬كمثـل قـو ٍم اسـتهموا علـى سـفين ٍة [فـي البحـر] فأصـاب بع ُضهـم‬ ‫أعلاهـا‪ ،‬وبع ُضهـم أسـفلَها‪ ،‬فـكان الذيـن فـي أسـفلها يصعـدون فيسـتقون المـاء‪،‬‬ ‫فيصبـون علـى الذيـن فـي أعلاهـا‪ ،‬فقـال الذيـن فـي أعلاهـا‪ :‬لا ندعكـم تصعـدون‬ ‫فتوذوننـا‪ .‬فقالـوا‪ :‬لـو أنـا خرقنـا فـي نصيبنـا خرقًـا [فاسـتقينا منـه] ولـم نمـ َّر علـى‬ ‫أصحابنـا فنؤذيهـم‪[ ،‬فأخـذ فأسـاً‪ ،‬فجعـل يَنْ ُقـ ُر أسـف َل السـفينة‪ ،‬فأتـوه فقالـوا‪ :‬مـا‬ ‫لـك؟ قـال‪ :‬تأذيتـم بـي‪ ،‬ولا بُـ َّد لـي مـن المـاء]‪ ،‬فـإن تركوهـم ومـا أرادوا؛ هلكـوا‬ ‫جميعـاً‪ ،‬وإن أخـذوا علـى أيديهـم؛ نجـوا‪ ،‬وأنجـوا جميعـاً»(‪.)1‬‬ ‫وكان النعمــان بــن بشــير ‪ ‬إذا ســرد هــذا الحديــث يقــول قبلــه‪« :‬يــا أيهــا‬ ‫النـاس‪ ،‬خـذوا علـى أيـدي سـفهائكم»‪ ،‬فـإذا سـرده عـاد فقـال‪« :‬خـذوا علـى أيـدي‬ ‫س ـفهائكم قب ـل أن تهلك ـوا»(‪.)2‬‬ ‫ولقـد صـدق الصـادق المصـدوق ﷺ وصـدق النعمـان ‪ ،‬فكـم مـن جاهـل‬ ‫يســلك ســبيل صاحــب الفــأس هــذا‪ ،‬فــي ســفينة الأمــن والأمــان والســامة‬ ‫والإســام‪.‬‬ ‫(‪ )1‬أخرجه البخاري في كتاب الشركة‪ ،‬باب هل يقرع في القسمة والاستهام‪ ،139/3:‬رقم (‪،)2493‬‬ ‫والترمذي في كتاب الفتن‪ ،‬باب ما جاء في تغيير المنكر‪ ،470/4:..‬رقم (‪ ،)2173‬والأمام أحمد‪،268/4:‬‬ ‫‪ ،269‬رقم (‪.)69‬‬ ‫(‪ )2‬أخرجه ابن المبارك في الزهد والرقائق‪ ،475/1:‬رقم (‪ ،)1349‬والطبراني في المعجم الكبير‪،53/21:‬‬ ‫رقم (‪ )37‬وفي مكارم الأخلاق له‪ :‬ص‪ ،340‬رقم (‪ )81‬والبيهقي في شعب الإيمان‪ ،65/10:‬رقم‬ ‫(‪ ،)7170‬والبغوي في شرح السنة‪ ،343/14:‬رقم (‪. )4152‬‬ ‫‪92‬‬

‫فتــرى مــن يحمــل معــاول التكفيــر والخــروج مــن الديــن‪ ،‬ويضــرب بفــأس‬ ‫الطائفيــة والقوميــة والمذهبيــة؛ ليهــدمَ بنــاء المجتمــع الإســامي المتماســك‪،‬‬ ‫ويشــ ّك َك فــي نوايــا أفــراده‪ ،‬ويثبّــ َط همــم المخلصيــن فــي تطــوره‪ ،‬ويفــ ِّر َق بيــن‬ ‫الإخــوة المؤمنيــن المتعاضديــن المتحابيــن‪ ،‬ويمــزق الصفــوف المرصوصــة؛‬ ‫ليسـهل علـى الأعـداء اختراقهـا‪ ،‬كل ذلـك بدعـاوى الأمـر بالمعـروف والنهـي عـن‬ ‫المنكـر‪ ،‬وإقامـة دولـة الإسـام‪ ،‬وتحكيـم شـرع الله‪ ،‬ونيـل الحريـة المسـلوبة‪ ،‬وغير‬ ‫ذلـك مـن الدعـاوى البراقـة‪ ،‬ولـم يعلـم أنـه لا حريـة فـي عمـ ٍل يُفسـد السـفينة مـا‬ ‫دامـت تسـير فـي بحرهـا‪ ،‬سـائرة إلـى غايتهـا‪ ،‬فأصغـر خـرق فـي سـفينة تمخـر‬ ‫عبـاب البحـر‪ ،‬يعنـي أوسـع قبـر فـي قـاع ذاك البحـر المظلـم(‪.)1‬‬ ‫* الصبر على البلاء زمن الفتن‪:‬‬ ‫مـا وقعـت فتـن إلا مـن قلـة الصبـر‪ ،‬وكـم فـي الدنيـا مـن مصائـب ومحـن‪،‬‬ ‫وظلـم وجـور‪ ،‬وانتهـاك للحرمـات‪ ،‬وأكل للحقـوق‪ ،‬فلـو أراد كل مظلـوم أن ينتصـر‬ ‫سـريعاً علـى ظالمـه‪ ،‬ويأخـذ حقـه ممـن أخـذه منه بـا نظـر فـي النتائـج والمألات‪،‬‬ ‫وبـا تفكـر فـي العواقـب‪ ،‬فـإن المجتمـع يتحـول عندئـ ٍذ إلـى مجتمـع غابـة لا يهدأ‬ ‫فيـه الصـراع‪ ،‬ولا يقتصـر عندئـ ٍذ علـى الظالـم والمظلـوم‪ ،‬بـل يتعـداه إلـى الأبريـاء‬ ‫مـن الأطفـال والنسـاء والشـيوخ‪ ،‬حيـث تـراق الدمـاء البريئـة‪ ،‬وتنتهـك الحرمـات‪،‬‬ ‫وينتشـر الفسـاد فـي البـر والبحـر بمـا كسـبت أيـدي النـاس‪.‬‬ ‫لذلـك كلـه و َّجهنـا ديننـا الحنيـف إلـى الصبـر علـى البـاء‪ ،‬وتحمـل الجـور‬ ‫والظلـم‪ ،‬وأن يحتسـب المظلـوم ظلامتـه عنـد الله تعالـى مسـتنصراً بـه علـى ظالمـه‪،‬‬ ‫كيـا نسـاهم فـي فتـح أبـواب الفتـن وتأجيـج ضرامهـا‪.‬‬ ‫(‪ )1‬انظر‪ :‬العوائق‪ :‬ص‪ ،212 - 210‬ووحى القلم‪ ،‬للرافعي‪ :‬ص‪.713‬‬ ‫‪93‬‬

‫ِٱَّإَوَلٱول َّۡنَّت ََلــصقٰنۡاـٓشُِفــِبإِاـــَي ُۡلعـلِــُرـاسَلهوِنل َهَوَ‪٣‬نٱرٰ‪٥‬ل‪١٤‬ثَِّج‪َ ٥‬م‪َُ١‬عو‪:‬ـَـــَولَرَوٰلَ﴿َتَ ِۡنبَُۗقت ُلٰٓي‪٦‬وََأوَل‪٥‬وُ ُّنَّبي‪١‬ـَــَهـأُوـْاّوُِْـك َالـِٰٓلِرـَٱمئِٱَّمـــلـِلب ِي ََّـنــكصـٰ ُيََِ َۡنعِبق ۡيََلتي َءۡـيــاءٖـ ِهََمُنـِّلمُـنـ‪٥‬ـۡمـِـ‪٥‬ف‪َ١‬وناَْٱصَٱٱَّسلَ ِلۡــۡسـيـَلـَبـِـوــٰيـ َتَۡنو‪ِ ِٞ‬علتإيِِٱ ُنّفَذِمالَّٓوـاـَْوأَلِٱبِنأََٱۡلۡصُٰلمَّرَبــَّّبِـۡتـص ِهَُوهـوٰــــِـُۡعۡمۢتمۚرِ َوَبَوََُّمنوـٱَرۡـلق ِۡۡـصَّلَـحيصـَبأـَٖلَـةــ‪ۡٞ‬صحـۖة‪َٞ‬يَٰوو ّأِـُمةِۚقَـْـاوإآِـلَُ َّءـ‪ٰٓٞ‬لَـننئِٓوَٱواـٱْـ َۡلٰلإَِّلََنََّلكۡمــ ِـكاَمـُهــَِــوـٰـَّ َُِمنلعلِ‬ ‫ٱلۡ ُم ۡه َتــ ُدو َن﴾ [البقــرة]‪.‬‬ ‫َف ِريــ ‪ٞ‬ق ِّمــ ۡن‬ ‫﴿إِنَّــ ُهۥ َك َن‬ ‫فــالله ‪ ‬يجــزي المؤمــن علــى صبــره‪ ،‬كمــا قــال ‪:‬‬ ‫فَٱ َّ َت ۡذ ُت ُمو ُه ۡم‬ ‫ٱل َّرٰ ِحِـ َن ‪١٠٩‬‬ ‫ِع َبـا ِدي َي ُقولُـو َن َر َّب َنـآ َءا َم َّنـا َفٱ ۡغ ِفـ ۡر َلَـا َوٱ ۡر َ ۡح َنـا َوأَنـ َت َخـ ۡ ُر‬ ‫أَن َسـ ۡو ُك ۡم‬ ‫بِ َمـا‬ ‫ٱ ۡ َلـ ۡو َم‬ ‫َج َز ۡي ُت ُهـ ُم‬ ‫ّ‬ ‫‪١١٠‬‬ ‫تَ ۡض َح ُكـو َن‬ ‫ِّم ۡن ُهـ ۡم‬ ‫َو ُكن ُتـم‬ ‫ۡ‬ ‫َحـ َّ ٰٓى‬ ‫ِسـ ۡخ ِر ًّيا‬ ‫إِ ِن‬ ‫ذِكـ ِري‬ ‫َأ َّن ُهـ ۡم‬ ‫َصـ َ ُر ٓواْ‬ ‫ُهـ ُم ٱ ۡل َفآئِـ ُزو َن ‪[ ﴾١١١‬المؤمنـون]‪.‬‬ ‫فأخبــر ‪ ‬أنــه جزاهــم علــى صبرهــم‪ ،‬كمــا قــال ‪َ ﴿ :‬و َج َع ۡل َنــا َب ۡع َض ُكــ ۡم‬ ‫ِ َل ۡعـ ٖض فِ ۡت َنـ ًة َأتَ ۡصـ ِ ُرو َن﴾ [الآية‪/‬الفرقـان‪]20:‬؛ أي‪ :‬أتصبـرون علـى البـاء‪ ،‬فقـد عرفتـم‬ ‫مـا وجـد الصابـرون‪ ،‬فقـرن الله ‪ ‬الفتنـة بالصبـر هـا هنـا‪ ،‬وفـي قولـه ‪ُ ﴿ :‬ثـ َّم إِ َّن‬ ‫َر َّبـ َك لِ َّ ِليـ َن َها َجـ ُرواْ ِمـ ۢن َب ۡعـ ِد َمـا ُفتِ ُنـواْ ُثـ َّم َجٰ َهـ ُدواْ َو َصـ َ ُر ٓواْ إِ َّن َر َّبـ َك ِمـ ۢن َب ۡع ِد َهـا‬ ‫لَ َغ ُفــور‪َّ ٞ‬ر ِحيــ ‪ٞ‬م ‪[ ﴾١١٠‬النحـل]‪.‬‬ ‫عــن أُســيد بــن ُح َضيــر ‪ ‬أن رجــ ًا أتــى النبــ َّي ﷺ فقــال‪ :‬يــا رســول الله‪..‬‬ ‫اسـتعمل َت فلانًـا ولـم تسـتعملني‪ ،‬فقـال النبـي ﷺ‪« :‬إنكـم سـترون بعـدي أُثْـرة‬ ‫ـ وفـي لفـظ‪ :‬سـتلقون بعـدي أُثْـرة ـ فاصبـروا حتـى تلقونـي علـى الحـوض»(‪.)1‬‬ ‫(‪ )1‬أخرجه البخاري في كتاب فضائل الصحابة ‪ ،‬باب قول النبي ﷺ للأنصار‪« :‬اصبروا حتى‬ ‫تلقوني على الحوض»‪ ،33/5:‬رقم (‪ ،)3792‬ومسلم في كتاب الإمارة‪ ،‬باب الأمر بالصبر عند ظلم‬ ‫الولاة‪ ،1474/3:‬رقم (‪ ،)1845‬و(الأُ ْثرة)‪ :‬الانفراد بالشيء المشترك دون من يشركه فيه‪ ،‬وقيل‪ :‬الشدة‪.‬‬ ‫‪94‬‬

‫وعـن أبـي سـعيد الخـدري ‪ :‬أن أناسـاً مـن الأنصـار سـألوا رسـول الله ﷺ‪،‬‬ ‫فلـم يسـأله أحـد منهـم إلا أعطـاه حتـى نفـد مـا عنـده‪ ،‬فقـال لهـم حيـن نفـد كل‬ ‫شـيء أنفـق بيديـه ﷺ‪« :‬مـا يكـن عنـدي مـن خيـر لا أدخـره عنكـم‪ ،‬وإنـه مـن‬ ‫يسـتعف يعفـه الله‪ ،‬ومـن يتصبـر يصبـره الله‪ ،‬ومـن يسـتغن يغنـه الله‪ ،‬ولـن تعطـوا‬ ‫عطـاء خيـراً وأوسـع مـن الصبـر»(‪ ،)1‬وذلـك أن الصبـر لا يعقبـه إلا السـعة واليسـر‪،‬‬ ‫قـال ‪َ ﴿ :‬فـإِ َّن َمـ َع ٱ ۡل ُعـ ۡ ِر ي ُـ ۡ ًرا ‪ ٥‬إِ َّن َمـ َع ٱ ۡل ُعـ ۡ ِر ي ُـ ۡ ٗرا ‪[ ﴾٦‬الشـرح]؛ ولـذا قـال‬ ‫عمـر ‪« :‬وجدنـا خيـ َر عيشـنا بالصبـر»(‪.)2‬‬ ‫ومن ليس في العز المنيع له كفو‬ ‫قال الشاعر‪:‬‬ ‫أَمَا والذي لا ُخلْ َد إلا لوجهه ‬ ‫لقد يُجتَنى من ِغبِّه الثم ُر الحلو‬ ‫لئن كان بدء الصبر ُم ّر اً مذاقُهُ ‬ ‫وعـن أنـس بـن مالـك ‪ ‬قـال‪ :‬قـال رسـول الله ﷺ‪« :‬يأتـي علـى النـاس زمان‪،‬‬ ‫الصابـر فيـه علـى دينـه‪ ،‬كالقابـض على الجمـر»(‪.)3‬‬ ‫قـال الطيبـي‪\" :‬المعنـى‪ :‬كمـا لا يقـدر القابـض علـى الجمـر أن يصبـر لإحـراق‬ ‫يــده‪ ،‬كذلــك المتديــن يومئــ ٍذ لا يقــدر علــى ثباتــه علــى دينــه لغلبــة العصــاة‬ ‫والمعاصــي وانتشــار الفســق وضعــف الإيمــان\"(‪.)4‬‬ ‫وقـال القـاري‪\" :‬الظاهـر أن معنـى الحديـث‪ :‬كمـا لا يمكـن القبض علـى الجمرة‬ ‫إلا بصبـر شـديد وتح ُّمـل غلبـة المشـقة كذلـك فـي ذلـك الزمـان‪ ،‬لا يتصـور حفـ ُظ‬ ‫دينـه ونـور إيمانـه إلاَّ بصبر عظيـم\"(‪.)5‬‬ ‫(‪ )1‬أخرجه البخاري في كتاب الزكاة‪ ،‬باب الاستعفاف في المسألة‪ ،122/3:‬رقم (‪ ،)1469‬ومسلم في كتاب‬ ‫الزكاة‪ ،‬باب فضل التعفف والصبر‪ ،729/2:‬رقم (‪.)1053‬‬ ‫(‪ )2‬أخرجه البخاري معلق ًا في كتاب الرقائق‪ ،‬باب الصبر عن محارم الله‪.99/8:‬‬ ‫(‪ )3‬أخرجه الترمذي في الفتن‪ ،‬باب (‪ ،256/4:)73‬رقم (‪ ،)2260‬وهو حديث صحيح بشواهده‪.‬‬ ‫(‪ )4‬انظر‪ :‬تحفة الأحوذي‪.539/6:‬‬ ‫(‪ )5‬انظر‪ :‬المصدر السابق‪ ،‬الموضع نفسه‪.‬‬ ‫‪95‬‬

‫* الصبر على الجور والظلم‪:‬‬ ‫قـد يـرى الإنسـان مـن بعـض ولاة الأمـور مـا لا يرضـاه فـا يبـرر هـذا لـه‬ ‫أن يحمـل السـاح عليهـم بدعـوى الأمـر بالمعـروف والنهـي عـن المنكـر؛ ممـا‬ ‫يوقـظ الفتـن النائمـة ويدخـل الأمـة فـي أتـون الصـراع الداخلـي بيـن أفرادهـا‪،‬‬ ‫وكذلــك ليــس لــه أن يوغــر صــدور الرعيــة علــى حكامهــا بقــول أو فعــل بــل‬ ‫يجــب عليــه أن يصبــر ويعمــل علــى تهدئــة النــاس إذا ثــارت عواطفهــم‪،‬‬ ‫ويذكرهـم بالأحاديـث النبويـة التـي تأمرنـا بالصبـر علـى مـا نـرى مـن الحـكام‬ ‫فـي آخـر الزمـان مـع بـذل النصيحـة لهـم كلمـا سـنحت الفرصـة‪ ،‬مخلصيـن‬ ‫فـي النصيحـة‪ ،‬محتسـبين الأجـر والمثوبـة عنـد الله تعالـى‪ ،‬قاصديـن بذلـك درء‬ ‫الفتــن عــن الأمــة‪ ،‬وســد منافذهــا‪ ،‬وإطفــاء ضرامهــا‪ ،‬وهــذا ومــا وجهنــا إليــه‬ ‫رسـول الله ﷺ فـي كثيـر مـن أحاديثـه الشـريفة‪.‬‬ ‫فعـن الزبيـر بـن عـدي رحمـه الله قـال‪ :‬أتينـا أنـس بـن مالـك ‪ ‬فشـكونا إليـه‬ ‫مـا نلقـى مـن الحجـاج‪ ،‬فقـال‪« :‬اصبـروا‪ ،‬فإنـه لا يأتـي عليكـم زمـان إلا الـذي‬ ‫بعـده شـر منـه‪ ،‬حتـى تلقـوا ربكـم»‪ .‬سـمعته مـن نبيكـم ﷺ(‪.)1‬‬ ‫قــال ابــن مفلــح رحمــه الله‪\" :‬وإ َّن عامــة الفتــن التــي وقعــت‪ ،‬مــن أعظــم‬ ‫أسـبابها‪ :‬قلـ ُة الصبـر‪ ،‬إذ الفتنـة لهـا سـببان‪ :‬إمـا ضعـف العلـم‪ ،‬وإمـا ضعـف‬ ‫الصبـر‪ ،‬فـإن الجهـل والظلـم أصـل الشـر‪ ،‬وفاعـل الشـر إنمـا يفعلـه لجهلـه‬ ‫بأنــه شــر‪ ،‬ولكــون نفســه تريــده‪ ،‬فبالعلــم يــزول الجهــل‪ ،‬وبالصبــر يُحبــ ُس‬ ‫الهــوى والشــهوة‪ ،‬فتــزول الفتنــة\"(‪.)2‬‬ ‫(‪ )1‬أخرجه البخاري في كتاب الفتن‪ ،‬باب لا يأتي زمان إلا الذي بعده ش ٌّر منه‪ ،2591/6:‬رقم (‪.)6657‬‬ ‫(‪ )2‬انظر‪ :‬الفروع‪ ،‬لابن مفلح‪.181/10:‬‬ ‫‪96‬‬

‫يقـول صاحـب إعـام الموقعيـن‪« :‬فـإذا كان إنـكار المنكـر يسـتلزم مـا هـو‬ ‫أنكــر منــه‪ ،‬وأبغــض إلــى الله ورســوله‪ ،‬فإنــه لا يســوغ إنــكاره‪ ،‬وإن كان الله‬ ‫يبغضـه ويمقـت أهلـه‪.)1(» ... ،‬‬ ‫ومـن تأمـل مـا جـرى علـى الإسـام والمسـلمين مـن الفتـن الكبـار والصغـار‪،‬‬ ‫رآهـا مـن إضاعـة هـذا الأصـل‪ ،‬وذلـك بطلـب إزالـة المنكـر‪ ،‬وعـدم الصبـر عليـه‪،‬‬ ‫فتولـد منـه مـا هـو أكبـر منـه! فقـد كان ﷺ يـرى بمكـة أكبـر المنكـرات ولا يغيرها‪،‬‬ ‫بـل لمـا فتـح الله مكـة‪ ،‬وصـارت دار إسـام‪ ،‬عـزم علـى تغييـر البيـت‪ ،‬ورده علـى‬ ‫قواعـد إبراهيـم‪ ،‬ومنعـه مـن ذلـك مـع قدرتـه عليـه‪ ،‬خشـية وقـوع مـا هـو أعظـم‬ ‫منـه‪ ،‬مـن عـدم احتمـال قريـش ذلـك‪ ،‬لقـرب عهدهـم بالإسـام‪ ،‬وكونهـم حديثـي‬ ‫عهـد بكفـر‪ ،‬ولهـذا لـم يـأذن فـي الإنـكار علـى الأمـراء باليـد‪ ،‬لمـا يترتـب عليـه‬ ‫مـن وقـوع مـا هـو أعظـم منـه فإنـكار المنكـر أربـع درجـات‪:‬‬ ‫الأولى‪ :‬أن يزول‪ ،‬ويخلفه المعروف‪ ،‬وفي هذا خير كبير‪.‬‬ ‫الثانية‪ :‬أن يقل‪ ،‬وإن لم يزل بجملته‪ ،‬وهذا أمر مشروع فيه خير‪.‬‬ ‫الثالثة‪ :‬أن يخلفه ما هو مثله من المنكر‪ ،‬ولا يجوز‪.‬‬ ‫الرابعــة‪ :‬أن يخلفــه مــا هــو شــر منــه‪ ،‬وهــذا محــرم لا يجــوز الإقــدام عليــه‪،‬‬ ‫وهــذا مـا نرتـه فـي الفتـن‪.‬‬ ‫هكــذا بيّــن العلمــاء ضوابــط وآداب الأمــر بالمعــروف والنهــي عــن المنكــر‪،‬‬ ‫فنصحـوا الأمـة‪ ،‬وأدوا الأمانـة‪ ،‬وغفـل عنهـا كثير مـن المسـلمين‪ ،‬فذاقـوا الويلات‪،‬‬ ‫وتوالـت عليهـم النكبـات‪.‬‬ ‫(‪ )1‬انظر‪ :‬إعلام الموقعين‪.4/3:‬‬ ‫‪97‬‬

‫السعادة في اجتناب الفتن‪:‬‬ ‫تكمـن سـعادة المـرء فـي سـامته ممـا يعكـر صفـو حياتـه الماديـة والمعنويـة‪،‬‬ ‫والفتـ ُن تـورث مـن يخـوض مضمارهـا القلـق والهـم والغـم والنـدم والتأنيـب‪،‬‬ ‫لذلـك فـإن أعظـم السـعادة أن ينـأى الإنسـان بنفسـه عـن الفتـن‪ ،‬ويبتعـد عـن‬ ‫أهلهـا‪ ،‬ليسـلم بدينـه ونفسـه وأهلـه ومالـه‪.‬‬ ‫لذلـك جـاء فـي الحديـث عـن المقـداد بـن الأسـود ‪ ‬قـال‪ :‬وايـم الله‪ ،‬لقـد‬ ‫ســمعت رســول الله ﷺ يقــول‪« :‬إ َّن الســعيد لمــن جنــب الفتــن ـ قالهــا ثلاثــاً ـ‬ ‫ولمـن ابتلـى فصبـر‪ ،‬فواهـاً»(‪.)1‬‬ ‫عـن يزيـد بـن أبـي عبيـد ‪ ‬قـال‪« :‬لمـا قُتـ َل عثمـا ُن ‪ ‬خـرج سـلمة بـن‬ ‫الأكـوع إلـى الربـذة (‪ ،)2‬وتـزوج هنـاك امـرأة وولـدت لـه أولاداً فلـم يـزل بهـا‬ ‫حتـى قبـل أن يمـوت بليـال نـزل المدينـة»(‪.)3‬‬ ‫وفـي روايـة‪« :‬أن سـلمة ‪ ‬دخـل علـى الحجـاج‪ ،‬فقـال‪ :‬يـا ابـن الأكـوع‬ ‫ارتــددت علــى عقبيــك‪ ،‬تع ّربــت(‪)4‬؟ قــال‪ :‬لا‪ ،‬ولكــن رســول الله ﷺ أذن لــي‬ ‫فـي البـدو»(‪.)5‬‬ ‫(‪ )1‬أخرجه أبو داود في كتاب الفتن‪ ،‬باب في النهي عن السعي في الفتنة‪ ،164/4:‬رقم (‪، )4265‬‬ ‫و(فواه ًا)‪ :‬من التلهف والتحسر‪ ،‬أي‪ :‬واه ًا لمن باشر الفتن ‪,‬ة وسعى فيها‪ .‬انظر‪ :‬عون المعبود شرح سنن‬ ‫أبي داود‪.345/11:‬‬ ‫(‪ )2‬الربذة‪ :‬موضع بالبادية بين مكة والمدينة المنورة‪.‬‬ ‫(‪ )3‬أخرجه البخاري في كتاب الفتن‪ ،‬باب التعرب في الفتن‪ ،2597/6:‬رقم (‪.)6676‬‬ ‫(‪ )4‬التع ُّرب‪ :‬أي السكنى مع الأعراب‪ ،‬وهو أن ينتقل المهاجر من البلد التي هاجر منها فيسكن البدو‬ ‫فيرجع بعد هجرته أعرابي ًا‪ .‬انظر‪ :‬فتح الباري‪. 41/13 :‬‬ ‫(‪ )5‬أخرجه البخاري في كتاب الفتن‪ ،‬باب التعرب في الفتن‪ ،2597/6:‬رقم (‪ ،)6676‬ومسلم في كتاب‬ ‫الإمارة‪ ،‬باب تحريم رجوع المهاجر إلى استيطان وطنه‪ ،1956/4:‬رقم (‪.)1862‬‬ ‫‪98‬‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook